عظات القديس مكاريوس الكبير
العظة الثامنة والعشرون : حالة الإنسان بدون المسيح
ترجمة القمص تادرس يعقوب ملطى
وصف مصيبة النفس التي ـ بسبب الخطية ـ لا يسكن فيها الرب، والحزن والتأسف على حالة هذه النفس، وتشمل العظة أيضاً حديثاً يختص بيوحنا المعمدان، إنه لم يقم بين من المولودين من النساء من هو أعظم منه.
مصيبة النفس التي لا يسكن فيها المسيح :
1 ـ كما أن الله لما غضب على اليهود مرة، سلّم أورشليم إلى أعدائها ” وتسلط عليهم مبغضوهم” (مز41:106) ولم يعد فيها بعد ذلك لا عيد ولا تقدمة، هكذا أيضاً النفس البشرية التي غضب الله عليها بسبب عصيانها لوصيته، فسلّمها لأعدائها، أي للشياطين والشهوات، لأنه حينما أغواها هؤلاء الأعداء، أفسدوها تماماً وأهلكوها ولم يعد فيها أي عيد وفرح، ولم يرتفع فيها بخور أو تقدمة إلى الله. وعلاماتها وآثارها ضاعت ونسيت في الشوارع بينما الوحوش المرعبة وأرواح الشر الخبيثة وسكنت فيها.
كما أن البيت إذا لم يكن له صاحب يسكن فيه فإنه يكون مملوء ظلاماً وعاراً ويُساء استخدامه ويمتلئ بالأدناس والقذارة، هكذا النفس التي لا يكون الرب ساكناً فيها مع ملائكته، يقيم أعياداً وأفراحاً فيها، فإنها تمتلئ بظلمة الخطية وعار الشهوات وكل أنواع الخزي.
2 ـ وكم هو مرعب ذلك الطريق الذي لا يسير فيه أحد، ولا يُسمع فيه صوت إنسان إذ أنه يصير مسكناً للوحوش ويا ويل النفس التي لا يسير فيها الرب، ولا يطرد بصوته وحوش الشر الروحانية منها! والويل للبيت الذي لا يسكن فيه السيد! والويل للأرض التي ليس لها فلاح يُفلّحها! والويل للسفينة التي ليس لها قائد، لأن الأمواج والزوابع تحملها وتتلفها.
ويا للأسف والويل على النفس التي لا يكون فيها المسيح هو الربان الحقيقي، فإنها توجد في بحر مرارة الظلمة المرعب وتلاطمها أمواج الشهوات وتصدمها وتضربها عواصف أرواح الشر وتنتهي بالهلاك.
الويل للنفس التي ليس لها المسيح ليفلّحها بعنايته لكي تأتى بثمار الروح الصالحة. لأن النفس إذ تبقى مقفرة قاحلة، وإذ تمتلئ بالأشواك والحسك تكون نهايتها حريق النار. ويا للأسف على النفس حينما لا يكون لها المسيح سيداً ساكناً فيها، إذا أنها تكون مهجورة ومملوءة برائحة الشهوات الكريهة وتكون مسكناً للإثم.
3 ـ وكما أن الفلاح حينما يذهب لفلاحة الأرض، ينبغي أن يأخذ معه الأدوات والملابس المناسبة للفلاحة، هكذا المسيح الملك ـ وهو الزارع السماوى الحقيقي ـ حينما جاء إلى البشرية التي كانت مقفرة بسبب الخطية، فإنه لبس الجسد وحمل الصليب أداة له، وهكذا فلّح النفس المقفرة وعمل فيها ونزع منها شوك وحسك أرواح الشر واقتلع زوان الخطية وأحرق بالنار كل أعشاب خطاياها. فإنه فلّحها بخشبة الصليب وزرع فيها فردوس الروح الفائق الجمال الذي يحمل كل ثمر حلو مقبول لدى الله صاحب النفس ومالكها.
4 ـ وكما حدث في مصر في فترة الثلاثة أيام المظلمة، أن الابن لم يكن يرى أبيه، ولا الأخ أخاه ولا الصديق صديقه، بسبب أن الظلمة غطتهم، هكذا أيضاً حينما تعدّى آدم الوصية وسقط من حالة مجده الأول وصار تحت سلطان روح العالم، غطى حجاب الظلمة نفسه. ومنذ ذلك الوقت وإلى أن جاء آدم الأخير (1كو46:15) الذي هو الرب فإن الإنسان لم يكن يرى أباه السماوي الحقيقي ولا أمه الصالحة الرحيمة، التي هي نعمة الروح، ولا أخاه الحلو المحبوب الذي هو الرب يسوع، ولا أصدقاءه وأقرباءه أي الملائكة القديسين الذين كان يفرح معهم سابقاً ويهلّل ويعيّد.
انفتاح العيون الداخلية :
ولكن ليس فقط إلى يوم أن جاء آدم الأخير بل وحتى إلى هذا اليوم فإن أولئك الذين لم تشرق عليهم ” شمس البر” (ملاخى2:4)، أي المسيح، والذين لم تنفتح عيون نفسهم وتستنير بالنور الحقيقي، لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية وتحت نفس تأثير الشهوات وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب.
5 ـ ينبغي على كل واحد أن يعرف هذا الأمر ويتحقق منه، إنه توجد عيون داخلية أعمق من هذه العيون الطبيعية ويوجد سمع أعمق من هذا السمع. وكما أن هذه العيون الجسدية تنظر وجه الصديق أو المحبوب وتتعرّف عليه فإن عيون النفس ـ المستحقة المؤمنة بسبب نوالها الاستنارة الروحية بنور الله ـ تنظر الصديق الحقيقي الذي هو العريس المحبوب جداً والحلو جداً أي الرب، وتتعرف عليه، إذ تكون النفس مملوءة ومشمولة بإشراق الروح الممجّد. وهكذا إذ ترى بالعقل ذلك الجمال المُشتهى والذي لا يمكن التعبير عنه فإن النفس تُجرح بشهوة الحب الإلهى وتتجه إلى كل فضائل الروح وتسير فيها وهكذا تمتلك حباً ـ لا يُحدّ ولا يسقط ـ للرب الذي تشتاق إليه.
صوت يوحنا المعمدان ـ وكرازة الرسل:
وماذا يمكن أن يكون أكثر غبطة من الصوت الخالد ليوحنا عندما يشير إلى الرب أمام عيوننا قائلاً: ” هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو29:1).
6 ـ حقاً ” من بين المولودين من النساء ليس أعظم من يوحنا المعمدان” (مت11:11) فإنه هو تكميل الأنبياء وخاتمتهم جميعاً. كل الأنبياء تنبأوا عن الرب وأشاروا من بعيد إلى مجيئه، أما يوحنا فتنبأ عن المخلّص وأظهره أمام عيون الجميع صارخاً بصوتٍ عالٍ وقائلاً: ” هوذا حمل الله” (يو29:1). فما أحلى وأجمل صوت ذلك الذي يُظهر المخلّص مباشرة ويعلنه مبشراً به! إنه لا يوجد أعظم من يوحنا في مواليد الناس. ” ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه” (مت11:11) أي المولودين من الله من فوق أي الرسل، الذين نالوا باكورة الروح المعزي. ولأنهم حُسبوا أهلاً لأن يكونوا شركاء معه في الدينونة، فهم يجلسون معه في عرشه. وهم قد جُعلوا محررين ومنقذين للناس. فتجدهم يشقون بحر القوات الشريرة ويخرجون نفوس المؤمنين، وتجدهم فلاحين في كرم النفوس. وتجدهم أصدقاء للعريس، يخطبون النفوس للمسيح، كما يقول الرسول: ” إني خطبتكم لزوج واحد” (2كو2:11) وتجدهم يوصلون الحياة للناس. وبالاختصار تجدهم بطرقٍ كثيرة وأنواع مختلفة يخدمون الروح. هذا هو الصغير الذي هو أعظم من يوحنا المعمدان.
7 ـ وكما أن الفلاح يقود زوج البقر مربوطاً بنير لكي يحرث الأرض، هكذا الرب يسوع الفلاح الصالح الحقيقي يقود الرسل معاً اثنين اثنين وقد أرسلهم لكي يُفلّح ويحرث بهم أرض أولئك الذين يسمعون ويؤمنون حقيقةً. ولكن ينبغي أن نقول أيضاً إن ملكوت الله وكرازة الرسل ليست في الكلمة التي تُسمع فقط، مثل إنسان يعرف الكلمات ويستطيع أن يتكلم ويُسمّعها للآخرين، بل إن الملكوت هو قوة وعمل الروح. وهذا ما حدث للأسف لبني إسرائيل الذين كانوا يدرسون الكتب المقدسة وكان الرب هو موضوع دراستهم ولكن لعدم نوالهم الحق نفسه، نُقل الميراث منهم إلى آخرين. هكذا أولئك الذين يشرحون كلمات الروح للغير، بينما هم أنفسهم لا يملكون الكلمة بقوة الروح، فإن الميراث يُنقل منهم إلى آخرين. والمجد للآب والابن والروح القدس إلى الأبد. آمين
العظة التاسعة والعشرون
تدبيرات نعمة الله
إن الله يعمل بتدبيرات نعمته في جنس البشر بطريقتين ، قاصداً أن يحصل في النهاية على ثمرات نعمته.
1 ـ إن حكمة الله، لا نهاية لها وتفوق الفهم ولذلك فإنها تعمل بتدبيرات النعمة نحو جنس البشر بما يفوق الفهم ويفوق الفحص وذلك بطرق متنوعة لأجل امتحان إرادة الإنسان الحرة، حتى بذلك يظهر أولئك الأشخاص الذين يحبون الله بكل قلبهم والذين يحتملون بصبر كل نوع من الأخطار والأتعاب من أجل الله .
البعض ينالون النعمة ويتقدمون حالاً :
فالبعض تأتيهم نِعم ومواهب الروح القدس مقدماً وهم يتقدمون حالاً في الإيمان والصلاة، بدون جهد أو عرق أو تعب وهم موجودون في وسط العالم. ويعطيهم الله النعمة هكذا ليس باطلاً ولا في غير وقتها ولا بمجرد المصادفة، ولكنه يعطيها بحكمة تفوق الوصف وتفوق الفهم وذلك لكي يمتحن الاختيار وحرية الإرادة لأولئك الذين قد نالوا نعمة الله بهذه السرعة، وهل شعروا وقدّروا الفائدة وأحسوا بصلاح الله وحلاوته التي أُظهرت حسب قياس النعمة الموهوبة لهم بدون أي مجهودات من جانبهم والتي حُسبوا أهلاً أن ينالوها؟ وفي مقابل هذه النعمة ينبغي أن يُظهروا غيرةً واجتهاداً ويركضون في الميدان ويجاهدون ويحملون ثمر الإرادة والعزم والحب وأن يردوا للرب مقابل المواهب الروحية التي نالوها بأن يعطوا ذواتهم ويسلّموها تماماً لمحبة الرب، وبأن يتمّموا مشيئته وحدها وبأن يتخلوا تماماً عن كل هوى جسدي.
البعض الآخر تتأخر عليهم النعمة :
2 ـ وهناك آخرون، الذين رغم انهم تركوا هذا العالم وتخلّوا عنه بحسب الإنجيل، ويصرفون وقتهم في صلاة مستمرة وصوم وسهر وبقية الفضائل، فإن الله لا يعطيهم النعمة في الحال ولا الراحة ولا فرح الروح بل يتأنى ويؤخر موهبته لهم. وهذا يفعله الله، ليس عبثاً ولا بدون قصد ولا مصادفة، بل بحكمة تفوق الوصف، لأجل امتحان إرادتهم، لكي يرى إن كانوا قد حسبوا الله أميناً ” وحسبوا الذي وعد صادقاً” (عب11:11)، أن يعطى الذين يسألون ويفتح باب الحياة لأولئك الذين يقرعون، ولكي يرى إن كانوا بعد إيمانهم بكلمته بالحق، هل يصبرون ويستمرون إلى النهاية في ملء ثقة الإيمان والاجتهاد، يسألون ويطلبون ولا تخور قلوبهم أو يتراجعون، وبعدم إيمان وبدون رجاء يحتقرون الهدف ولا يثبتون إلى النهاية لأن الله قد أّخر ميعاد موهبته، وأيضاً لأجل امتحان إرادتهم وقصدهم.
3 ـ فإن الذي لا ينال النعمة سريعاً بسبب تأنى الله فإنه يشتعل شوقاً أكثر ويزداد رغبة في الخيرات السماوية. ويزداد كل يوم اشتياقاً واجتهاداً، ويزداد ركضاً وسعياً ويزداد في كل فضيلة ويظهر جوعاً وعطشاً إلى ما هو صالح ولا يتعوّق بسبب الإيحاءات التي تتحرك في نفسه، ولا يتحوّل إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر، ومن الجهة الأخرى فإنه لا يسلّم نفسه إلى الكسل تحت ستار التظاهر بالصبر قائلاً مثلاً: ” في يوم أو آخر سأحصل على نعمة الله” ومن هنا تغويه الخطية وتقوده إلى التغافل والإهمال.
ولكن مادام الرب في تأخيره للموهبة إنما يتأنى بمحبة ممتحناً إيمانه ومحبته، فينبغي على الإنسان نفسه أن يكون أكثر حرصاً واجتهاداً ولا يكلّ أو يفشل بل يطلب عطية الله إذ أنه قد وثق في ذاته بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطى نعمته لأؤلئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبر إلى النهاية.
أمانة الله وفحص النفس :
4 ـ لأن الله أمين وصادق في تعامله مع النفوس المؤمنة الأمينة، أي مع أولئك ” الذين ختموا أن الله صادق” (يو33:3) حسب الكلمة الصادقة. لذلك فبحسب هذه البصيرة الإيمانية في داخلهم، يفحصون نفوسهم ليروا إن كانوا ناقصين من جهتهم في أي ناحية من النواحى: في الجهد، في السعي، في الغيرة والاجتهاد، أم في الإيمان أم المحبة أو بقية اتجاهات الفضيلة، وبفحصهم لنفوسهم بكل تدقيق فإنهم يغصبون أنفسهم بأقصى طاقة عندهم لكي يرضوا الرب، إذ سبق أن آمنوا ووثقوا تماماً أن الله إذ هو صادق وأمين لن يحرمهم من موهبة الروح إن ظلوا إلى النهاية يخدمون الرب ويعبدونه بكل اجتهاد وينتظرونه، وأنهم سينالون النعمة السماوية الممنوحة لهم، وهم لا يزالون في الجسد وينالون الحياة الأبدية.
كل حبهم نحو الرب :
5 ـ وهكذا فإنهم يوجّهون كل حبهم نحو الرب رافضين كل شيء آخر وناظرين إليه وحده برغبة كبيرة وجوع وعطش كثير. وينتظرون دائماً قوة النعمة المُنعشة والمعزية. وهم لا يطلبون بإرادتهم تعزية وانعاشاً من أي شيء في هذا العالم ولا يرتبطون به، بل يرفضون دائماً الإغراءات المادية وينتظرون المعونة والحماية والتأييد من الله وحده، وفي هذه الحالة يكون الرب نفسه حاضراً بطريقة خفيّة مع هذه النفوس التي تأخذ على عاتقها هذا النوع من الاجتهاد وعزم القلب والاحتمال، ويساعدهم ويحفظهم، ويثبتهم في كل ثمر الفضيلة. كل هذا يحدث رغم أنهم يجدون أنفسهم معرّضين للصراع ورغم أنهم لم يتزينوا بعد بيقين الحق ولم تظهر لنفوسهم حالة الحصول على نعمة الروح وانعاش الموهبة السماوية ولم يختبروها اختباراً كاملاً بكل ملئها، وهذا يحدث حسب حكمة الله التي تفوق التعبير وأحكامه التي تعلو الفحص، التي بها يمتحن النفوس المؤمنة بطرق متنوعة بقصد أن يُحضرهم إلى محبة كاملة بملء حريتهم واختيارهم.
ليس عند الله محاباة:
فإنه توجد حدود ومقاييس ومراحل للاختيار الحرّ ولقصد المحبة ولاتجاه العقل لطاعة كل وصاياه المقدسة بأقصى ما هو مستطاع، وحينما تملأ النفوس مكيال محبتها وطاعتها فإنها تُحسب أهلاً للملكوت والحياة الأبدية.
6 ـ لأن الله عادل وعادلة هي أحكامه، وليس عنده محاباة، ويُحاسب كل واحد بحسب النِعم المختلفة التي قد منحها للبشرـ سواء كانت خاصة بالجسد أو بالروح، أو كانت خاصة بالمعرفة أو الفهم أو التمييز، وهو يطلب ثمار الفضيلة على حسب ما أعطى كل واحد، وهو سيعطى كل واحد حسب ما يستحقه بحسب أعماله في يوم الدينونة. إنه سيأتي كما يخبرنا الكتاب ” وسيجازي كل واحد حسب أعماله” (رو6:2) والأقوياء يُعذبون عذاباً شديداً لأن ” الرحمة تغفر للمتواضعين” (الحكمة6:6). ويقول الرب: ” أما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيراً، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً، فكل من أُعطى كثيراً يُطلب منه كثير ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر” (لو 47:12و48). ولكن المعرفة والفهم هي أنواع مختلفة، سواء كانت بحسب النعمة وموهبة الروح السماوية أو بحسب الذكاء والتمييز الطبيعي، وبحسب التعلّم من الكتب الإلهية. وكل إنسان يكون مسئولاً عن ثمار الفضيلة بحسب نسبة ما مُنح له من الله سواء ما مُنح له طبيعياً أو ما أُعطى له بنعمة الله.
لذلك فكل إنسان هو بلا عذر أمام الله في يوم الدينونة، لأن كل شخص سيُعطى جواباً عن إرادته وقصده ـ بحسب ما قد عرفه ـ لكي يثمر ثمار الإيمان والمحبة وكل فضيلة أخرى في علاقته بالله سواء كانت معرفته عن طريق سماع كلمة الله أو عن طريق آخر.
7 ـ إن النفس ألأمينة المُحبة للحق تتطلع إلى البركات الأبدية المحفوظة للأبرار، وإلى المعونة التي لا يُنطق بها، أي معونة النعمة الإلهية التي تحلّ علينا. ولذلك تعتبر نفسها وكل جهدها وآلامها وتعبها أنها ليست شيئاً بالمقارنة بمواعيد الروح التي تفوق الوصف.
ومثل هذا الإنسان هو المسكين بالروح الذي أعلن الرب أنه مغبوط ومُطوب، هذا هو الذي يجوع ويعطش إلى البرّ (مت6،3:5) هذا هو المنسحق القلب.
وأولئك الذين يأخذون على عاتقهم هذا القصد، والعزم والاجتهاد والتعب والاشتياق إلى الفضيلة ويثبتون في هذا إلى النهاية، فإنه يُوهب لهم أن يحصلوا على الحياة والملكوت الأبدي بالحق. لذلك فلا يتشامخ إذن أحد من الأخوة، على أخيه، أو يرتئي عن نفسه رَأياً منتفخاً، بتأثير خداع الخطية لكي يفكر قائلاً مثلاً: ” إني قد حصلت على موهبة روحية ” لأنه لا يليق بالمسيحيين أن يفكروا هكذا فأنت لا تعرف ماذا سيكون حاله في الغد وأنت تجهل ماذا ستكون نهايته وماذا تكون نهايتك، بل ليحترس كل واحد لنفسه ويمتحن ضميره في كل حين ويختبر حركات قلبه من جهة اجتهاده وسعيه من الداخل بكل قلبه إلى الله ويتطّلع نحو الهدف الكامل هدف الحرية والتحرر من الشهوات والحصول على سلام الروح، وليكمل سعيه بدون توقف وبلا تكاسل بحيث لا يتكل أبداً على أي عطية روحية ولا على أي برّ حصل عليه. والمجد والكرامة والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين
العظة الثلاثون
الولادة من الروح القدس
إن النفس التي تريد الدخول إلى ملكوت الله ، ينبغي أن تُولد من الروح القدس. وكيفية تحقيق ذلك.
فاعلية كلمة الله :
1 ـ أولئك الذين يسمعون الكلمة يجب عليهم أن يعطوا برهاناً على عمل الكلمة وفعلها في نفوسهم. فكلمة الله ليست فارغة بل لها عملها وفعلها الخاص في النفس. لهذا السبب تُسمى الكلمة أحياناً “عمل أو صنع” وذلك نظراً “للعمل” الذي توجده في السامعين. فليت الرب ينعم بعمل الحق في السامعين لكيما توجد الكلمة مثمرة فيهم. فكما أن الظل يسير أمام الجسد، ومع ذلك فالظل يُظهر الجسد، بينما الجسد نفسه هو الحقيقة وليس الظل، هكذا الكلمة هي مثل ظل حق المسيح. ولكن الكلمة تسير قدام الحق (فالكلمة تُظهر حقيقة المسيح).
الولادة الجسدية والولادة من الروح :
إن الآباء الذين على الأرض يلدون أولاداً من طبيعتهم، من جسدهم ونفسهم وبعد ولادتهم يربونهم بعناية واجتهاد لأنهم أولادهم، إلى أن يصيروا رجالاً كاملين، وخلفاءً ووراثين لهم. فإن الهدف من كل عناية الوالدين منذ البداية هو أن يكون لهم أولاداً وورثة، فإذا لم يلدوا أولاداً يكون عندهم حزن وغمّ عظيم، أما إذا صار لهم أولاد فإنه يصير لهم فرح عظيم. وأيضاً فإن أقرباءهم وجيرانهم يفرحون كذلك معهم.
2 ـ وبنفس الطريقة فإن ربنا يسوع المسيح إذ اهتم بخلاص البشر استخدم منذ البداية كل تدبير عنايته بواسطة الآباء، والبطاركة والناموس والأنبياء، وفي النهاية جاء هو بنفسه واستهان بعار الصليب واحتمل الموت. وكان كل جهده وتعبه هذا وعنايته إنما من أجل أن يلد من ذاته، ومن طبيعته أولاداً بالروح، إذ سُرّ بأنهم يجب أن يولدوا من الروح من فوق، أي من لاهوته. وكما أن أولئك الآباء الذين لا يلدون أولاداً يحزنون، كذلك فإن الرب الذي أحب جنس البشر لأنهم على صورته، أراد أن يلدهم من زرع لاهوته الخاص، ولذلك فإن أي واحد منهم يريد أن يأتي إلى هذه الولادة لكي يُولد من بطن روح اللاهوت، فإن حزن المسيح يكون عظيماً بعد كل الآلام التي عاناها لأجلهم واحتملها كثيراً لكي يخلصهم.
3 ـ لأن الرب يريد أن ينال كل الناس امتياز هذه الولادة. فهو مات لأجل الكل ودعا الكل إلى الحياة. ولكن الحياة هي الولادة من فوق من الله وبدون هذه الولادة لا تستطيع النفس أن تحيا. كما يقول الرب ” إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو3:3).
وهكذا، فمن الناحية الأخرى، فإن كل الذين يؤمنون بالرب ويأتون ويقبلون امتياز هذه الولادة، فإنهم يكونون سبب فرح وسرور عظيم في السماء لوالديهم الذين ولدوهم، وكل الملائكة والقوات المقدسة أيضاً تفرح بالنفس التي تُولد من الروح وتصير هي نفسها روحاً.
فإن هذا الجسد هو مثال ومشابه للنفس، والنفس هي صورة الروح، وكما أن الجسد بدون النفس ميت، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً بالمرة، كذلك فإن بدون النفس السماوية ـ أي بدون الروح الإلهي تكون النفس ميتة عن الملكوت ولا قدرة لها على أن تعمل شيئاً من أمور الله بدون الروح.
رسم صورة المسيح في النفس بالتفرّس فيه دائماً :
4 ـ كما أن الرسام يتفرّس في وجه الملك أولاً ثم بعد ذلك يرسمه، وحينما يكون وجه الملك متجهاً نحو الرسام الواقف أمامه لكي يرسمه فحينئذٍ يرسم الصورة بسهوله وتكون حسنة جداً، ولكن إذا حوّل الملك وجهه بعيداً لا يستطيع الرسام أن يرسم، لأن الوجه ليس في مواجهته ، كذلك يفعل المسيح ـ الفنان الصالح ـ في أولئك الذين يؤمنون به ويتطلعون إليه ويُثبّتون نظرهم فيه دائماً . فإنه سرعان ما يرسم إنساناً سماوياً على صورته. فمن روحه ومن جوهر النور نفسه ـ النور غير الموصوف ـ يرسم صورة سماوية، وينعم على النفس بعريسها الصالح الذي يفيض بالنعمة والجمال، فإن كان الإنسان لا ينظر إليه ويتفرس فيه دائماً، ويغفل كل شيء آخر، فإن الرب لا يرسم صورته بواسطة نوره الخاص. لذلك ينبغي أن ننظر إليه ونتفرس فيه، ونؤمن به ونحبه، ونرذل كل شيء غيره، ونأتي أمامه لكيما يرسم صورته السماوية، ويرسلها إلى داخل نفوسنا، وهكذا إذ نلبس المسيح، فإننا ننال الحياة الأبدية ونحصل على يقين تام ـ هنا ومنذ الآن ـ وندخل إلى الراحة.
5 ـ وكما أن العملة الذهبية إن لم تُطبع عليها صورة الملك لا يتم التعامل بها في السوق، ولا تُخزن في الخزانة الملكية، بل تُطرح خارجاً، كذلك النفس إن لم تحصل على صورة الروح السماوي في النور الذي لا يُنطق به، أي لن ينطبع عليها المسيح نفسه، لا تكون لائقة للخزائن السماوية، بل يطرحها جانباً تجار الملكوت المهرة، الذين هم الرسل. فإن ذلك الذي دُعي ولم يكن لابساً لباس العرس طُرد خارجاً كغريب إلى الظلمة الخارجية، لكونه لم يكن لابساً الصورة السماوية. هذه هي علامة الرب وختمه المطبوع على النفوس ـ أي روح النور الذي لا يُنطق به، وكما أن الإنسان الميت هو بلا نفع ولا فائدة لأهل المكان، لذلك فإنهم يحملونه خارج المدينة ويدفنونه، هكذا النفس التي لا تحمل الصورة السماوية، صورة النور الإلهي التي هي حياة النفس، فإن هذه النفس تُطرد خارجاً، لأن النفس الميتة هي بلا فائدة لمدينة القديسين، لأنها لا تحمل الروح الإلهي المنير. فكما أنه في هذا العالم، تكون النفس هي حياة الجسد هكذا ففي العالم الأبدي السماوي فإن الروح الإلهي هو حياة النفس. وبدون روح الحياة فإن النفس تكون ميتة ولا نفع فيها لسكان العالم السماوي.
طلب الروح القدس حياة النفس :
6 ـ لذلك من يريد أن يؤمن بالرب ويأتي إليه ينبغي أن يطلب ويتوسل لأجل نوال الروح الإلهي هنا على الأرض، فإن ذلك الروح هو حياة النفس ولهذا السبب جاء الرب إلى العالم، لكي ما يعطى الحياة للنفس هنا على الأرض أي يعطيها روحه. لذلك يقول ” مادام لكم النور آمنوا بالنور، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل” (يو 36:12، 4:9). لذلك فأي إنسان لا يطلب الحياة بينما هو على الأرض ولا ينال حياة لنفسه التي هي نور الروح الإلهي، فإنه حينما يخرج من الجسد يُنقل بعيداً إلى مناطق الظلمة التي على اليسار ولا يدخل ملكوت السموات، إذ تكون نهايته في الجحيم مع إبليس وملائكته (مت41:25).
وكما أن الذهب والفضة إذا أُلقيا في النار يصيران أكثر نقاوة وصفاء ولا يلحقهما ضرر، (مثلما يحدث للخشب أو القش)، بل هما أي الذهب والفضة المحميان بالنار يلتهمان كل ما يقترب منهما، إذ يصيران هما أيضاً ناراً ـ هكذا النفس فإنها بطول إقامتها في نار الروح وفي النور الإلهي لا يصيبها أذى من أحد الأرواح الشريرة بل إن اقترب أحدها منها يحترق بنار الروح السماوية.
وكما أن الطير إذا طار عالياً لا يقلق ولا يخاف من الصيادين أو الوحوش المفترسة لأنه في العلو يأمن منهم جميعاً، كذلك النفس تنال أجنحة الروح وتطير إلى الأعالي السماوية فإنها تكون فوق كل شيء، وتهزأ بجميع أعدائها الذين هم تحتها.
7ـ وفي اليوم الذي شق فيه موسى البحر، عبر إسرائيل حسب الجسد، من تحته، وأما هؤلاء (المسيحيون أبناء العهد الجديد) فلكونهم أبناء الله فإنهم يسيرون فوق بحر المرارة، بحر القوات الشريرة. إذ إن جسدهم ونفسهم قد صارت هي بيت الله.
آدم والإنسان الجريح والمائت:
وفي ذلك اليوم الذي سقط فيه آدم جاء الله ماشياً في الجنة وبكى حينما رأى آدم وكأنه قال ” بعد هذه الخيرات التي أعطيتك، ما هذه الشرور التي ارتكبت، وبعد كل المجد أي عار أنت تلبسه الآن، كم أنت مظلم الآن وقد صار منظرك قبيحاً، وأي فساد أنت فيه. وبعد هذا النور أي ظلام قد غطاك!” …
وحينما سقط آدم ومات (بانفصاله عن) الله، حزن عليه خالقه، والملائكة وكل القوات والسموات والأرض وكل المخلوقات ناحت على موته وسقوطه، لأنهم رأوا ذلك الذي أُعطى لهم ليكون ملكاً عليهم، قد صار عبداً لقوة معادية شريرة. ولذلك اكتسى آدم بالظلمة في نفسه، ظلمة مرة وشريرة لأنه صار خاضعاً لرئيس الظلمة. هذا هو الذي يشير إليه ذاك الذي جرحه اللصوص، “وتركوه بين حي وميت بينما كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا” (لو30:10).
8 ـ ولعازر أيضاً، الذي أقامه الرب، الذي أنتن حتى لم يقدر أحد أن يقترب من القبر، كان رمزاً إلى آدم، الذي صارت نفسه في عفونة، وامتلأت سواداً وظلاماً.
أما أنت، فحينما تسمع عن آدم، وعن الإنسان الذي جرحه اللصوص وعن لعازر، فلا تدع عقلك يذهب بعيداً إلى الجبال، بل تعال إلى باطنك إلى داخل نفسك، لأنك أنت نفسك تحمل نفس الجروح، وفيك نفس العفونة، ونفس الظلام. فنحن جميعاً أبناء آدم ومن نفس الجنس المُظلم، وجميعاً مشتركون في نفس النتانة. فالداء الذي عانى منه آدم، نعانى منه نحن جميعاً الذين من زرع آدم. لأن الداء الذي حلّ بنا هو الذي يقول عنه إشعياء ” لا يوجد إلاّ جراح وقروح وضربات ملتهبة لا تُشفي، ولا يمكن أن تُعصب، أو تُداوى أو تلين بالزيت” (إش6:1س).
لذلك فالجرح الذي جُرحنا به لم يكن له علاج، والرب وحده هو الذي استطاع أن يشفيه. لهذا السبب جاء الرب بنفسه، لأنه لم يستطع أحد من الأقدمين، ولا الناموس نفسه ولا الأنبياء، أن يقوموا بشفاء هذا الجرح. بل الرب وحده بمجيئه إلينا شفي جرح النفس، ذلك الجرح العديم الشفاء.
قبول المسيح ليدخل ويستريح فينا ونستريح فيه :
9 ـ فلنقبل إذاً إلهنا وربنا ـ الشافي الحقيقي ـ الذي يستطيع وحده أن يأتي ويشفي نفوسنا، بعد أن تعب وتألم كثيراً جداً لأجلنا. فهو يقرع دائماً أبواب قلوبنا، لكي نفتح له، لكي يدخل إلى داخلنا ويستريح في نفوسنا، ولكي نغسل وندهن قدميه، ولكي يجعل هو إقامته فينا. فالرب ـ في تلك الفقرة من الإنجيل (لو44:7) يوبخ الرجل الذي لم يغسل قدميه. وفي موضع آخر يقول ” ها أنا واقف على الباب وأقرع ، إن فتح لي أحد فإني أدخل إليه” (رؤ20:3) فلأجل هذه الغاية احتمل هو آلاماً كثيرة، مقدماً جسده للموت، ليفتدينا من العبودية، لكيما يأتي إلى نفوسنا ويجعل إقامته فيها. فلهذا السبب يقول الرب للذين عن يساره، في يوم الدينونة، والذين يُرسلون إلى جهنم مع الشيطان: ” كنت غريباً فلم تأووني، جوعاناً فلم تطعموني عطشاناً فلم تسقوني” (مت43،42:25). فإن طعامه وشرابه وكساءه ومأواه وراحته، هي في نفوسنا، لذلك فإنه دائماً يقرع طالباً الدخول إلينا. فلنقبله إذن وندخله إلى داخل نفوسنا، لأنه هو طعامنا وشرابنا وحياتنا الأبدية، وكل نفس لا تقبله الآن في داخلها وتعطيه راحة، أو بالحرى لا تجد راحة فيه، فليس لها ميراث في ملكوت السموات مع القديسين، ولا تستطيع الدخول إلى المدينة السماوية.
فلتدخلنا أنت يارب يسوع المسيح إلى ملكوتك، ممجدين أسمك مع الآب والروح القدس إلى الأبد. آمين
العظة الحادية والثلاثون
تغيير الذهن والصلاة الحقيقية
” في أنه ينبغي أن المؤمن يتغير في ذهنه، ويجمع أفكاره كلها في الله. فإنه في هذا تتركز كل خدمة الله”.
تغيير القلب :
1 ـ ينبغي على المؤمن أن يتوسل إلى الله لكي يغيّره في كل اتجاهاته وأغراضه بتغيير قلبه، من المرارة إلى الحلاوة وأن يتذكر كيف شفي الرجل الأعمى، وكيف حصلت المرأة نازفة الدم على الشفاء بلمسها ثوب المسيح وهو الذي سبق أن غيّر طبيعة الأُسود المفترسة، وحوّل طبيعة النار، فإن الله هو الصلاح الذي لا مثيل له والخير الأعلى، وينبغي أن تُجمع فيه ونحوه عقلك وأفكارك ولا تفكر في شيء آخر، سوى أن تنتظره وتنظر إليه برجاء وثقة.
2 ـ لذلك فلتكن النفس مثل ذلك الإنسان الذي يجمع الأطفال الضالين معاً، وهكذا تجمع النفس الأفكار التي شتتتها الخطية وتؤنبها بشدة. وتقود الأفكار للرجوع إلى بيتها، وهى تنتظر الرب دائماً بالصوم والمحبة لكي يأتي إليها ويجمع الأفكار حقاً. وحيث إن المستقبل غير مضمون، لذلك ينبغي على المؤمن أن يضع رجاءه بالأكثر في قائده، ويكون مملوءً بالرجاء الصالح، ويتذكر كيف أن راحاب وهى تعيش بين الغرباء آمنت بإله إسرائيل وحُسبت مستحقة أن تشترك في امتياز شعب الله القديم، بينما الإسرائيليون أنفسهم تحوّلوا بعواطفهم ورجعوا بقلوبهم إلى مصر. لذلك فكما أن راحاب لم يصبها أي أذى وهى تسكن بين الغرباء، بل إن إيمانها أعطاها نصيباً في ميراث الإسرائيليين، هكذا الخطية لن تؤذى أولئك الذين بالرجاء والإيمان ينتظرون الفادي الذي حينما يأتي إليهم فإنه يغيّر أفكار النفس ويجعلها إلهية وسماوية، وصالحة، ويعلم النفس الصلاة التي بلا تشتت أو زيغان. أنظر قول الرب ” لا تخف أنا أسير أمامك والهضاب أمهد، أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف” (إش2:45). ويقول أيضاً ” أحذر أن يكون في قلبك فكر شر خفي، ولا تقل في قلبك هؤلاء الشعوب أكثر مني وأقوى” (تث9:15، 17:7).
3 ـ فإذا لم تنحل نفوسنا بالتكاسل، وبإعطاء مراعى عقولنا لأفكار الخطية المشوشة، بل بالعكس نجذب عقولنا بإرادتنا ونغصب أفكارنا إلى الرب، فإنه بلا شك يأتي إلينا ويجمعنا إليه بالحق.
انتظار الرب في الداخل :
إن كل ما يرضى الله وكل خدمة تُقدم له إنما هي موجودة في القلب. لذلك اجتهد أن ترضى الرب ناظراً إليه كل حين ومنتظراً إياه في داخلك، وفتش عنه في أفكارك واغتصب إرادتك وقصدك لتتجه وتمتد دائماً نحوه وحينئذ ستنظر كيف يأتي إليك ويصنع عندك منزلاً (يو24:14). فبقدر ما تجمع عقلك لتطلبه فإنه يتنازل إليك بحنان أكثر جداً وصلاح فائق ورحمة ويأتى إليك ويعطيك راحة وبهجة، إنه يقف ناظراً إلى عقلك وأفكارك ورغباتك، ويرى كيف تطلبه، هل تطلبه حقيقة بكل نفسك بلا تغافل وبلا إهمال؟
4 ـ وحينما ينظر غيرتك في طلبه، فإنه حينئذِ يُظهر ويكشف نفسه، ويعطيك معونته الخاصة ويجعل لك النصرة وينقذك من أعدائك. وهو إذ ينظر أولاً كيفية طلبك له وانتظارك إياه بكل قلبك برجاء لا ينقطع نحوه، فإنه حينئذ يعلمك ويعطيك الصلاة الحقيقية والمحبة الحقيقية التي هي الرب نفسه الذي يصير لك في داخلك كل شيء: الفردوس، وشجرة الحياة، واللؤلؤة الكثيرة الثمن، والإكليل، والباني، والزارع، والمتألم، والذي لا يتألم، والإنسان، والإله، والكرمة، والماء الحي، والعريس، والمحارب، والسلاح، المسيح الكل في الكل.
وكما أن الطفل لا يعرف أن يعتني بنفسه أو يعمل أموره بنفسه ولكنه يتطّلع فقط إلى أمه ويصرخ ويبكى إلى أن تتحرك إليه بحنان وتحمله، هكذا النفوس المؤمنة فإنها تضع رجاءها في الرب وحده وتنسب كل بر إليه وحده. وكما أن الغصن يجف بدون الكرمة، وهكذا أيضاً من يشتهى أن يتبرر بدون المسيح. وكما أن السارق واللص هو الذي لا يدخل من الباب بل يطلع من موضع آخر، هكذا أيضاً الإنسان الذي يبرر نفسه بدون الذي يُبرّر.
لنقدم كل نياتنا وأفكارنا :
5 ـ لذلك فلنأخذ جسدنا هذا ونجعله مذبحاً، ونضع عليه كل نياتنا وأفكارنا ، ونتوسل إلى الرب أن يرسل من السماء النار العظيمة غير المنظورة فتلتهم المذبح وكل ما عليه. ويسقط جميع كهنة البعل الذين هم القوات المضادة. وحينئذٍ سنرى المطر الروحاني آتياً إلى النفس مثل كف إنسان، وهكذا يتحقق فينا وعد الله كما هو مكتوب بالنبي ” سأقيم وأبني أيضاً خيمة داود الساقطة وسأبنى ردمها وأقيمها ثانية” (أع16:15) حتى أن الرب برحمته ومحبته يُشرق على النفس التي تسكن في الليل والظلمة وفي سكر الجهالة، لكيما تستيقظ وتفيق إلى التعقّل وتسير بلا تعثر، وتعمل أعمال النهار والحياة. فإن النفس تتغذى وتنمو من المصدر الذي تأكل منه، إما من العالم أو من روح الله، والله نفسه يجد غذاء في داخلها، ويحلّ فيها ويحيا ويجد راحة ويسكن فيها.
6 ـ وبالاختصار، فإن كل واحد يمكنه، إذا شاء أن يختبر نفسه ويرى من أين يأخذ غذاءه وتنعمه، وأين يعيش، وفي أي حالة يجد نفسه، وهكذا إذ يدرك ذلك ويفهمه ويحصل على تمييز دقيق وحكم صحيح، يمكنه أن يسلّم نفسه تماماً للتحرك في اتجاه ما هو صالح.
انتبه لنفسك وأطلب قوة فعل المسيح :
وحينما تكون في الصلاة، فانتبه إلى نفسك، ولاحظ أفكارك والحركات التي تتحرك فيك، من أين تأتى؟ هل هي من الله أم من العدو؟ ومن الذي يمد قلبك بالغذاء، هل هو الرب أم ولاة العالم الذين لهذا الدهر؟ وحينما تكملين، أيتها النفس، هذا الامتحان وتعرفيه، فتوسلي إلى الرب برغبة واجتهاد لكي تحصلي على الغذاء السماوي والنمو، وعلى قوة فعل المسيح بحسب القول المكتوب ” إن سيرتنا هي في السموات” (في20:3). وليس ذلك في شكل أو رمز كما يتخيل البعض (بل حقاً في السموات).
وانظر، عقل وفهم أولئك الذين لهم فقط صورة التقوى، فإن فكرهم عن التقوى هو مثل العالم. وأنظر إلى تحرك ميولهم، وتموج وتذبذب قصدهم وفكرهم غير الثابت وخوفهم وفزعهم، بحسب القول المكتوب ” بالأنين والرعب تكون على الأرض” (تك12:4 السبعينية)، وبحسب عدم إيمانهم وارتباك أفكارهم المضطربة فإنهم يتقلبون كل ساعة مثل بقية الناس في العالم. مثل هؤلاء الأشخاص يختلفون عن العالم في الشكل الخارجي فقط، ولكن ليس في القلب والفكر، ويختلفون عن العالم فقط في الممارسات الجسدية التي للإنسان الخارجي، بينما في القلب والفكر هم ينجذبون في كل الاتجاهات التي في العالم. وهم مربطون بالرباطات الأرضية والهموم غير المثمرة ولم يحصلوا على السلام من السماء في قلوبهم كما يقول الرسول: “يملك في قلوبكم سلام الله” (كو15:3). هذا السلام الذي يملك على عقول المؤمنين ويجددها في محبة الله ومحبة كل الأخوة. والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين
العظة الثانية والثلاثون
ثوب المجد الآن وفي القيامة
إن مجد المسيحيين يسكن منذ الآن في نفوسهم، وسيظهر في وقت القيامة ويمجّد أجسادهم بقدر إيمانهم وقداستهم.
استنارة سماوية :
1 ـ توجد لغات مختلفة في هذا العالم. كل أمة لها لغة خاصة بها. وأما المسيحيون فإنهم يتعلّمون لغة واحدة جديدة، وجميعهم يتهذبون بحكمة واحدة هي حكمة الله، وليست حكمة هذا العالم ولا هذا الدهر الزائل. وعندما يسير المسيحيون في هذه الخليقة الجديدة فإنهم ينالون استنارة سماوية جديدة وأمجاداً وأسراراً يحصلون عليها من رؤية الأشياء الظاهرة التي يبصرونها بحواسهم.
هناك أنواع مختلفة من الحيوانات الأليفة، مثل الحصان والثور وكل منها له جسده وصوته الخاص به. هكذا أيضاً بين الحيوانات المتوحشة، فالأسد له جسده الخاص به وصوته المتميز. وهكذا الإيل أيضاً. وبين الحيوانات الزاحفة توجد أنواع كثيرة. وهكذا أيضاً بين الطيور توجد أنواع من الأجسام. فجسد النسر وصوته نوع، وجسم الصقر وصوته نوع آخر. وهكذا أيضاً توجد نفس الاختلافات والأنواع في البحر فتجد أجسام كثيرة غير متشابهة. وكذلك في الأرض توجد أنواع بذور كثيرة وكل بذرة لها ثمرتها الخاصة. وتوجد أشجار كثيرة بعضها كبير وبعضها صغير وتعطى محاصيل مختلفة، وكل نوع من الثمار له طعم ومذاق خاص. وهناك أيضاً الأعشاب وهى أنواع مختلفة كثيرة، فالبعض منها معروف بنفعه للعلاج والشفاء، والبعض الآخر يعطى فقط رائحة طيبة. ولكن كل صنف من الأشجار يخرج من داخله ما يكسوه من الخارج وهو ما تنظره العين أي الأوراق والزهور والثمار. وبالمثل البذور التي تخرج من الداخل ما يكسوها وهو ما نراه بعيوننا. وكذلك السوسن (الزنابق) أيضاً تنتج من داخلها كساءها الذي يزين الأرض.
الثوب السماوي :
2 ـ هكذا أيضاً المسيحيون الذين حُسبوا أهلاً منذ الآن في هذه الحياة أن يحصلوا على الثوب السماوي، فإنهم يحملون ذلك الثوب ساكناً في داخل نفوسهم، وحينما تنحل هذه الخليقة الحاضرة بحسب تعيين الله وعلمه السابق وتزول السماء والأرض فإن ذلك الثوب السماوي الذي كان يكسو نفوسهم منذ الآن ويمجدها والذي يمتلكونه في داخل قلوبهم، هذا الثوب نفسه سوف يكسو ويمجد أيضاً أجسادهم العارية، التي تقوم من القبور، الأجساد التي تقوم في ذلك اليوم مكتسية بالموهبة السماوية غير المنظورة وبذلك الثوب السماوي الذي يناله المسيحيون في هذه الحياة منذ الآن.
وكما أن الإبل، حينما تجد حشيشاً فإنها تجرى إليه بسرعة وشراهة وتأكله وتخزّن منه غذاء في داخلها، وفي وقت الجوع تسترجع المخزون من معدتها وتمضغه وتجتّره وبذلك تتغذى من الطعام الذي سبق أن اختزنته، هكذا أولئك الذين يغتصبون ملكوت السموات وقد ذاقوا الطعام السماوي ويعيشون في الروح فإنهم في وقت القيامة ينالون ذلك الطعام عينه ليغطى ويدفئ كل أعضائهم.
3 ـ فكما تحدثنا عن أنواع من البذور، وأن كثير منها يُزرع في نفس الأرض وينتج أنواعاً مختلفة من الثمار. وهكذا أيضاً نفس الأمر بالنسبة للأشجار. فالبعض منها كبير والبعض صغير ولكن أرضاً واحدة تجمع جذورها جميعاً. هكذا أيضاً الكنيسة السماوية فهي واحدة ولكن توجد فيها أعداداً لا تُحصى، وكل شخص فيها يتزين بمجد الروح بطريقة فريدة خاصة به لأنه كما أن الطيور تُخرِج من أجسادها غطاءً لها وهو ريشها إلا أنه توجد اختلافات كبيرة بين أنواع الطيور. فالبعض منها يطير قريباً من الأرض بينما البعض الآخر يطير عالياً جداً في الهواء. أو كما أن السماء واحدة ولكنها تحوي نجوماً كثيرة البعض منها أشد لمعاناً وإضاءة وبعض منها كبير والبعض الآخر صغير، إلاّ أنها جميعها موجودة ثابتة في نفس السماء الواحدة. هكذا أيضاً القديسون فإنهم متأصلون في سماء واحدة هي سماء اللاهوت ولكن بطرق متنوعة، وهم متأصلون أيضاً في الأرض غير المنظورة. هكذا أيضاً الأفكار التي تأتي إلى البشر، فهى مختلفة، ولكن الروح، إذ يأتي إلى القلب فإنه يصنع فكراً واحداً، فإن الذين هم فوق والذين هم أسفل هم تحت تدبير وقيادة روح واحد.
الظل والحقيقة :
4 ـ ولكن ما هو معنى الحيوانات ” المشقوقة الظلف” (لا3:11) حيث إنها تسير وتجرى بسرعة بواسطة ظلفيها، وهى ترمز لأولئك الذين يسلكون باستقامة في الشريعة. ولكن كما أن ظِلّ الجسد يتكوّن بسبب الجسد ولكنه لا يستطيع أن يتمم أي وظيفة من وظائف الجسد ـ فإن الظلّ لا يستطيع أبداً أن يضمد الجروح أو يعطى الطعام أو يتكلم ـ ومع ذلك فهو يتكوّن بسبب الجسد و يشير مقدماً إلى مجيء الجسد، هكذا أيضاً الناموس القديم هو ظل للعهد الجديد (كو17:2). والظلّ يُظهر الحقيقة مقدماً، ولكنه لا يملك خدمة الروح. فإن موسى، لا يستطيع بالجسد أن يدخل إلى القلب وينتزع ثياب الظلمة الدنسة. ولا يستطيع أن يلاشى ويحل قوة الظلمة الخبيئة إلاّ روح من روح ونار من نار. فالختان في ظل الناموس يشير إلى اقتراب مجيء ختان القلب الحقيقي. والاغتسال والمعمودية حسب الناموس هي ظل للأمور الحقيقية، فإن معمودية الناموس كانت تغسل الجسد، ولكن هنا الآن توجد معمودية النار والروح التي تُطهر وتغسل العقل المدنس.
العهد القديم والعهد الجديد :
5 ـ وهناك (في الناموس) كاهن ” مُحاط بالضعف” (عب2:5) كان يدخل إلى الأقداس مقدماً الذبائح عن نفسه وعن الشعب، وأما هنا الآن فرئيس الكهنة الحقيقي، المسيح، قد دخل مرة واحدة إلى الأقداس غير المصنوعة بأيدي وإلى المذبح الذي فوق، وهو مستعد لتطهير أولئك الذين يسألونه ولتطهير الضمير الذي تدنس. فهو يقول “وسأكون معكم إلى إنقضاء الدهر” (مت20:28).
وكان رئيس الكهنة له حجرين كريمين على صدره، وعليهما أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر، وكان هذا ليكون رمزاً ومثالاً، لأن الرب أيضاً بنفس الطريقة وضع على صدره الرسل وأرسلهم مبشرين وكارزين للعالم أجمع. وها أنت ترى كيف أن الظل يشير إلى اقتراب الحقيقة. ولكن كما أن الظل لا يصنع لنا شيئاً ولا يشفي جروحاً، هكذا الناموس القديم لم يكن يستطيع أن يشفي جروح النفس وأوجاعها لأنه لم تكن له حياة.
6 ـ إن اتحاد مادتين معاً يؤدى إلى شيء واحد كامل، كالعهدين. فالإنسان خُلق على صورة الله ومثاله. وهو له عينان، وحاجبان، ويدان، وقدمان. فلو حدث أن إنساناً له عين واحدة أو يد واحدة أو قدم واحدة فإن هذا يكون عيباً مؤسفاً، والطير الذي يكون له جناح واحد لا يستطيع أن يطير.
هكذا أيضاً الطبيعة البشرية، فإن بقيت عارية. وبنفسها فقط ولم تنل الاتحاد والشركة مع الطبيعة الإلهية فإنها لا تستقيم أبداً ولا تكتمل، بل تظل عارية ومستحقة للّوم في طبيعتها الخاصة بسبب وضاعتها وأدناسها. فإن النفس ذاتها دُعيت هيكلاً لله ومسكناً له، وعروساً للملك. فإنه يقول ” إني سأسكن فيهم وأسير بينهم” (2كو16:6).
وهكذا كانت مسرة الله، أن يأتي من السماء المقدسة ويأخذ طبيعتك العاقلة، فهو أخذ جسداً من الأرض ووحّده بروحه الإلهي، حتى تستطيع أنت (الأرضي)، أن تنال الروح السماوي. وحينما تصير لنفسك شركة مع الروح وتُدخل الروح السماوي في نفسك، فحينئذ تكون إنساناً كاملاً في الله، ووارثاً وابناً.
تواضع الله وعنايته بك :
7 ـ ولكن كما أنه غير مستطاع للأكوان العليا ولا للأكوان السفلى أن تحتوى عظمة الله أو طبيعته التي تفوق الإدراك، هكذا أيضاً لا تستطيع لا الأكوان العليا ولا الذين على الأرض أن يفهموا تواضع الله وكيف يجعل نفسه صغيراً لأجل أولئك الصغار المتواضعين. فكما أن عظمته تفوق الفهم هكذا أيضاً تواضعه يفوق الإدراك. ويمكن أن يحدث أن عنايته ترتب لك أن تجوز في شدائد وآلام ولكن ما تظنه مضاداً لك وضاراً بك، يتأكد بعد ذلك أنه لخير ومنفعة نفسك. فإذا رغبت أن تعيش في العالم وتكون غنياً، فيقابلك سوء الحظ وعدم التوفيق وحينئذٍ تبتدئ أن تفكر في نفسك وتقول: ” لأني لم أصب نجاحاً في العالم، هل أتركه وأتخلى عن كل شيء وأعبد الله”، وبعد أن تصل إلى هذه النقطة فإنك تسمع الوصية قائلة ” بع كل مالك” (مت21:19) ” وأرذل كل تعلقات جسدية واخدم الله”. حينئذٍ تبتدئ تشكر الله لأجل عدم توفيقك ونجاحك في العالم وتقول في نفسك “لأني بسبب هذا صرت مطيعاً لوصية المسيح”.
حسناً إذن، فإنه بسبب الأمور الخارجية قد تغيّر ذهنك ورفضت العالم والارتباطات الجسدية، لذلك يليق بك أيضاً أن تتغير في الذهن من الحكمة الجسدية إلى الحكمة السماوية. وبعد ذلك تبتدئ أن تميّز صوت الحكمة السماوية الذي تسمعه وتتعلمه في داخلك ولا تهدأ وتسكت بل تهتم وتجتهد لتحقيق ما قد سمعته.
الرب يتحدث إليك :
8 ـ وحينما تظن أنك قد أتممت كل شيء برفضك للعالم، فإن الرب يتحدث إليك قائلاً ” لماذا تفتخر؟ ألم أخلق أنا جسدك ونفسك؟ ألم أخلق الذهب والفضة؟ ماذا فعلت أنت” وحينئذٍ تبتدئ النفس تعترف للرب وتتوسل إليه وتقول ” كل الأشياء هي لك والبيت الذي أسكن فيه هو لك. ثيابي لك. ومنك أنال طعامي، ومنك أحصل على كل احتياجاتي”.
حينئذٍ يجيب الرب قائلاً: ” أشكرك. هذه الخيرات كلها هي لك أنت. والإرادة الصالحة هي إرادتك، وبسبب محبتك لي وإلتجائك إلى، تعال، فإني سأعطيك ما لم تحصل عليه قبلاً، ولا يمتلكه الناس على الأرض. خذني لك، أنا ربك، لأكون مع نفسك. لكي تكون دائماً معي في فرح وابتهاج”.
النفس عذراء للرب :
9 ـ وكما أن المرأة التي تقترن بزوج تُحضر كل ما تملك وكل مهرها، ومن شدة محبتها تضع بين يدي زوجها كل شيء قائلة له “ليس لي شيء خاص ملكي. كل ما أملك هو لك. مهري لك وأيضاً نفسي وجسدي لك”. هكذا أيضاً النفس الحكيمة هي عذراء للرب، إذ لها شركة مع الروح القدس.
ولكن كما أن الرب، حينما جاء على الأرض تألم وصُلب، هكذا ينبغي أيضاً أن تتألم معه. لأنك حينما تترك العالم وتبتدئ تطلب الله وتصير ذا تمييز، فحينئذٍ ستجد نفسك في حرب مع طبيعتك في عاداتها وعوائدها القديمة التي قد نمت معك. وفي حربك ضد هذه العادات، فإنك تكتشف أفكاراً مضادة لك وتحارب عقلك، وهذه الأفكار تحاول أن تجرك وتجعلك منشغلاً مرة أخرى بالعالم المادي الذي خرجت منه سابقاً وتركته.
النعمة تقودك في الشدائد :
وحينئذٍ تبتدئ أن تقاتل وتحارب في الحرب واضعاً أفكار في مواجهة أفكار، وعقل في مواجهة عقل، ونفس ضد نفس، وروح ضد روح. وبكلمة مختصرة فإن النفس تكون في آلام وتعب.
10 ـ لأنه تنكشف هناك قوة ظلام خفية خبيثة، مختبئة في القلب. ولكن الرب يكون قريباً جداً من نفسك وجسدك وهو يرى قتالك، ويضع في داخلك أفكاراً سماوية خفية، ويبتدئ أن يعطيك راحة في الداخل ولكنه يسمح بتقويم وتهذيب نفسك والنعمة نفسها توجهك في كل هذه الشدائد. وهى التي تقودك. وحينما تصل إلى الراحة فإن النعمة تعلن نفسها لك وتوضح لك أنه من أجل منفعتك قد سمحت لك بهذه الآلام لتدريبك.
فكما يحدث حينما يكون لرجل غنى ابن صغير ويحضر لهذا الابن مربياً لتهذيبه. فلفترة من الوقت يؤدبه بالضربات والجروح والجلدات، وتبدو الضربات ثقيلة جداً إلى أن يصير الولد إلى النضج والرجولة، فإنه حينئذٍ يبتدئ أن يشكر المربى الذي علمه. هكذا أيضاً فإن النعمة تؤدبك بتدبير الله وتربيك إلى أن ” تصل إلى إنسان كامل” (أف13:4).
11 ـ إن الفلاح يلقى البذار في كل ناحية، والذي يغرس كرماً يشتهى أن كل غصن فيه يحمل ثماراً. لذلك يستعمل منجل التشذيب لتنقية الأغصان، وحينما لا يجد ثمراً بعد ذلك فإنه يحزن. هكذا أيضاً الرب يريد أن تُزرع كلمته في قلوب الناس. ولكن كما أن الفلاح يحزن على الأرض التي لا تُثمر، هكذا يحزن الرب على القلب الذي لا يعطى ثمراً. وكما أن الرياح تهب في جميع الاتجاهات على كل الخليقة، وكما أن الشمس تضئ الكون كله، هكذا فإن الله هو في كل مكان، وتجده في كل مكان. فإن طلبته في السماء فإنه موجود في أفكار الملائكة. وإن طلبته على الأرض فإنه موجود أيضاً في قلوب الناس. ولكن قليل بين الكثيرين من المسيحيين هم الذين يرضونه. والمجد والعظمة للآب والابن والروح القدس. آمين
العظة الثالثة والثلاثون
الصلاة بانتباه
” ينبغي أن نصلى لله بلا انقطاع وبانتباه “.
كيف نصلي :
1 ـ ينبغي أن نصلى، ليس بحسب أي عادة جسدية، ولا بعادة رفع الصوت والصراخ، ولا بعادة الصمت، أو إحناء الركب. بل ينبغي أن يكون لنا عقل منتبه وبهدوء ورزانة ننتظر الله ونتوقعه، إلى أن يأتي إلينا ويفتقد النفس من خلال كل مخارجها ومسالكها وحواسها. وهكذا فإننا حينئذٍ نكون صامتين حينما ينبغي الصمت، ونصلى بصوت مرتفع حينما ينبغي ذلك، ونصلى بصراخ ما دام العقل مشدوداً بقوة نحو الله. وكما أن الجسد حينما يقوم بأي عمل، فإنه يكون منشغلاً تماماً بهذا العمل وكل أعضاؤه يساعد بعضها بعضاً، كذلك فلتكن النفس مُقدمةً ومُعطاةً للرب تماماً بالصلاة والمحبة نحو الرب. ولا تتشتت وتُحمل بواسطة أفكارها، بل تسعى بكل طاقتها وتجمع نفسها مع كل أفكارها مصممة على انتظار المسيح ملازمة إياه.
2 ـ وهكذا فإنه سيشرق عليها، ويعلّمها الصلاة الحقيقية. معطياً إياها الصلاة الروحانية النقية، والتي تليق بالله، ” والسجود الذي هو بالروح والحق” (يو24:4)، ولكن كما أن الإنسان الذي يشتغل بالتجارة لا يكتفي بطريقة واحدة للحصول على المكسب بل يمتد بكل طريقة ليضاعف أرباحه، ويزيدها، ويجرّب وسيلة بعد أخرى، ثم يجرى محاولات أخرى، محترساً فقط مما لا ربح فيه. بل إنه يجرى إلى ما فيه الربح الأكثر، هكذا نحن أيضاً فلنعد أنفسنا بكل مهارة وبكل قدرة على الحركة والنشاط من جميع الجوانب لكي نربح الربح الحقيقي العظيم، أي الله نفسه، الذي يعلّمنا كيف نصلى بالحق. وبهذه الطريقة فإن الرب يحل على النفس ذات القصد الصالح، جاعلاً إياها عرشاً لمجده ويجلس ويستريح عليها. وهذا ما سمعناه من النبى حزقيال عن الخلائق الروحانية التي كانت مربوطة بمركبة الرب. وهو يُظهرها لنا كأنها كلها عيوناً. وبطريقة مشابهة فإن النفس التي تحمل الله أو بالأحرى يحملها الله فإنها تصير كلها عيوناً.
سكنى المسيح في النفس :
3 ـ وكما أن البيت الذي يوجد سيده في داخله يكون مملوءً بالتنسيق والجمال والانسجام، هكذا النفس التي يكون ربها ساكناً معها، ومقيماً فيها، فإنها تمتلئ بكل جمال ونعمة. إذ يكون لها الرب بكل كنوزه الروحية ساكناً فيها وهو الذي يقودها ويوجّه حركتها.
ولكن الويل للبيت الذي لا يكون سيده فيه. إذ يكون مقفراً خرباً ويمتلئ من كل قذارة وفوضى وهناك كما يقول النبي تسكن ” وحوش القفر والشياطين” (إش14،13:34 السبعينية). وفي البيت المهجور توجد القطط والكلاب وكل نجاسة.
الويل إذن للنفس التي لا تقوم من سقوطها الفادح، ولا تقبل في داخلها رب البيت الصالح، الذي هو المسيح ليسكن فيها، بل تبقى في نجاستها ويظلّ في داخلها أولئك الذين يقنعونها ويجبرونها على معاداة عريسها، وراغبين أن يفسدوا أفكارها بعيداً عن المسيح.
4 ـ ولكن حينما يرى الرب أن النفس تجمع ذاتها بأقصى طاقتها، وتطلبه دائماً منتظرة إياه ليلاً ونهاراً، وتصرخ إليه، كما أوصى الرسول أن ” نصلي بلا انقطاع” (1تس7:5) فإنه ” ينصفها” (لو 17:18)، مطهراً إياها من الشر الذي في داخلها. وهو ” سيحضرها لنفسه ” عروساً ” لا دنس فيها ولا غضن ” (أف27:5).
انظر إلى ذاتك :
فإن كنت تؤمن وتصدق بأن هذه الأشياء صحيحة كما هي في الحقيقة، فانظر إلى ذاتك جيداً، إن كانت نفسك قد وجدت النور الذي يرشدها والطعام والشراب الحقيقي، الذي هو الرب. فإذا لم تكن قد وجدت، فأطلب ليلاً ونهاراً لكي تنال. وحينما ترى الشمس (الطبيعية) فأطلب الشمس الحقيقية إذ أنك أعمى. وحينما تنظر النور (الطبيعي)، فانظر إلى داخل نفسك، هل قد وجدت النور الحقيقي الصالح؟ لأن كل الأشياء المنظورة للحواس هي ظل للأمور الحقيقية الخاصة بالنفس.
فإنه يوجد في داخلنا إنسان آخر غير هذا الإنسان المنظور، وتوجد عيون داخلية قد أعماها الشيطان وآذان قد أصمّها. ويسوع قد جاء لكي يجعل هذا الإنسان الداخلي صحيحاً معافي. له المجد والقدرة، مع الآب والروح القدس إلى الأبد. آمين.
العظة الرابعة والثلاثون
تمجيد الأجساد في القيامة
بخصوص المجد الذي سيُوهب لأجساد المسيحيين في القيامة وكيف ستضيء أجسادهم مع نفوسهم.
قيامة النفس أولاً ورؤيتها لمجد اللاهوت :
1 ـ كما أن العيون الجسدية ترى كل شيء بوضوح، هكذا نفوس القديسين ينكشف لها جمال اللاهوت ويصير ظاهراً لها وينجذب المسيحيون في تأمل محاسن اللاهوت والتفكير فيها. ولكن مجد اللاهوت هذا إنما هو مُخفي عن العيون الجسدية، وهو يُكشف بوضوح للنفس المؤمنة ـ النفس التي كانت ميتة ـ والتي يقيمها الرب من الخطية، كما أقام الأجساد المائتة أيضاً، وهو يعد لها “سماء جديدة” و” أرضاً جديدةً” (رؤ1:21) وشمساً للبر، معطياً للنفس كل شيء من لاهوته.
فهناك عالم حقيقي وأرض حية، وكرمة مثمرة، وخبز الحياة، وماء حي، كما هو مكتوب ” إني أؤمن بأن أرى خيرات الرب في أرض الأحياء” (مز13:27)، وأيضاً ” ولكم أيها المتقون أسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها” (ملاخى2:4). وأيضاً الرب نفسه يقول ” أنا هو الكرمة الحقيقية” (يو1:15). وأيضاً ” أنا هو خبز الحياة” (يو35:6) وأيضاً ” كل من يشرب من الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو14:4).
2 ـ لأن مجئ الرب كان كله لأجل الإنسان ـ الإنسان الذي كان مطروحاً ميتاً في قبر الظلمة والخطية والروح النجس والقوات الشريرة ـ لكي يقيم الإنسان ويحييه في هذه الحياة الحاضرة ويطهره من كل سواد وظلمة، وينيره بنوره الخاص، ويُلبسه ثوبه الخاص، أي الثوب السماوي الذي هو ثوب اللاهوت.
تمجيد الأجساد التي أُقيمت نفوسها :
ولكن في قيامة الأجساد، التي سبق أن أُقيمت نفوسها قبلاً وتمجدت، فإن الأجساد أيضاً تتمجد حينئذٍ مع النفوس، وتستنير بالنفس التي قد استنارت وتمجّدت في هذه الحياة الحاضرة لأن الرب هو بيتهم وخيمتهم ومدينتهم. وهم يلبسون مسكناً من السماء “غير مصنوع بأيدي” (2كو1:5)، وهو مجد النور الإلهي إذ قد صاروا أبناء النور.
وهم لن ينظروا إلى بعضهم البعض بعين شريرة، لأن الشر نُزع منهم. وهناك ” لا يوجد ذكر وأنثى ولا عبد وحر” (غل28:3). لأن الجميع يتغيّرون إلى طبيعة القداسة الإلهية ويصيرون ذوى صلاح وخير، وآلهة وأبناء لله. هناك يخاطب الأخ أخته بسلام بلا خجل أو تشويش، لأن الكل واحد في المسيح ويستريحون في النور الواحد.
والواحد ينظر إلى الآخر وفي نظره يضئ بالحق، في التأمل الحقيقي للنور الذي لا يُعبّر عنه.
أمجاد تفوق كل تعبير :
3 ـ وهكذا بأشكال كثيرة، وأمجاد إلهية كثيرة متنوعة ينظرون بعضهم بعضاً وكل منهم ينذهل ويفرح ” بالفرح الذي لا يُنطق به” (1بط8:1) إذ ينظرون مجد بعضهم البعض. انظر كيف أن أمجاد الله تفوق كل تعبير ونُطق وتفوق كل فهم فهي أمجاد النور الذي لا يُعبّر عنه والأسرار الأبدية وخيرات لا تُعد ولا تُحصى.
وكما أنه في عالم الحواس يستحيل على أي إنسان أن يدرك عدد نباتات الأرض، أو البذور أو أنواع زهور الأرض ولا يقدر إنسان واحد أن يقيس أو يفهم غنى الأرض كلها، وكذلك في البحر لا يستطيع إنسان أن يحصى الكائنات الحية التي فيه بكل أنواعها واختلافاتها أو أن يقيس مياه البحر واتساعه وعمقه. وكذلك في الهواء لا يستطيع أحد أن يعرف عدد الطيور، أو أنواعها وأجناسها، وأيضاً لا يستطيع أن يفهم عظمة السماء ويدرك مواقع النجوم ومساراتها، هكذا أيضاً فإنه يستحيل أن ننطق أو نصف غنى المسيحيين الذي لا يُقاس ولا تستطيع أن تدركه العقول. لأنه إن كانت تلك المخلوقات لا عدد لها ولا حصر ولا يستطيع أن يدركها عقل إنسان تماماً، فكم بالحري يكون ذلك الذي خلقها وأعدها!
لذلك ينبغي على كل واحد بالحري أن يفرح جداً ويُسرّ لأن مثل هذا الغنى ومثل هذا الميراث، قد أُعد للمسيحيين، حتى أنه لا يستطيع أحد أن ينطق به أو يشرحه شرحاً كافياً.
بل بكل اجتهاد واتضاع ينبغي أن نسير في الجهاد المسيحي وننال ذلك الغنى. لأن ميراث المسيحيين ونصيبهم هو الله نفسه. كما يقول النبى ” الرب هو نصيب ميراثي وكأسي” (مز5:16). والمجد لذلك الذي يعطي نفسه ويُشرك نفوس المسيحيين في قداسة طبيعته إلى الأبد آمين
العظة الخامسة والثلاثون
السبت القديم والسبت الجديد
1 ـ في ظل الناموس الذي أُعطى بواسطة موسى، أمر الله بأن كل إنسان ينبغي أن يستريح يوم السبت ولا يعمل شيئاً. وكان هذا رمزاً وظلاً للسبت الحقيقي الذي يعطيه الرب للنفس. لأن النفس التي قد مُنح لها أن تصير حرة من الأفكار المنحطة النجسة، فإنها تحفظ السبت الحقيقي وتتمتع بالراحة الحقيقية، إذ تكون عاطلة وفي فراغ فيما يخص أعمال الظلمة. ففي السبت الرمزي، رغم أنهم كانوا يستريحون راحة جسدية، إلاّ أن نفوسهم كانت مستعبدة للشرور والخطايا. وأما هذا السبت الحقيقي، فهو راحة حقيقية، إذ تكون النفس عاطلة عن غوايات الشيطان ومُطهرة منها، وتستريح في الراحة الأبدية وفرح الرب.
2 ـ وكما أمر الله (في القديم) أن الحيوانات غير العاقلة أيضاً ينبغي أن تستريح في البيت، وأن الثور لا ينبغي أن يُوضع عليه النير وألاّ يحمل الحمار أثقالاً ـ فإنه حتى الحيوانات كانت تستريح من الأعمال الثقيلة ـ هكذا حينما أتى الرب وأعطى السبت الحقيقي الأبدي، فقد أعطى راحة للنفس التي كانت مُثقلة ومُحملة بأحمال الإثم الثقيلة والأفكار النجسة، وكانت تعمل تحت نير واضطرار أعمال الإثم لأنها كانت مُستعبدة لسادة قساة، فأراحها من أثقالها التي يعسر حملها، أراحها من الأفكار الباطلة والنجسة، ونزع عنها النير القاسي، نير أعمال الإثم وأراح النفس التي كانت مُتعبة ومُثقلة بأفكار وغوايات النجاسة..
تعالوا إلى… وأنا أريحكم:
3 ـ إن الرب يدعو الإنسان إلى الراحة قائلاً ” تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11). وكل النفوس التي تطيع هذه الدعوة وتقترب إليه، فإنه يريحهم من كل هذه الأفكار الثقيلة المُتعبة والنجسة ويصيرون أحراراً من كل شر ويحفظون السبت الحقيقي المُبهج المقدس، ويعيدون عيد الروح، عيد الفرح والبهجة التي تفوق الوصف، ويقدمون خدمة نقية مرضية لله من قلب نقي. هذا هو السبت الحقيقي المقدس.
لذلك فلنتوسل إلى الله لكي ” ندخل إلى هذه الراحة” (عب11:4)، ولكي نصير أحراراً من الأفكار المنحطة والشريرة والباطلة لكيما نستطيع أن نخدم الله من قلب نقى ونعيّد عيد الروح القدس. وطوبى للإنسان الذي يدخل إلى تلك الراحة. والمجد لمن هذه هي مسرته، أي الآب والابن والروح القدس، إلى الأبد آمين
العظة السادسة والثلاثون
درجات النعمة والمجد
عن قيامة النفوس وقيامة الأجساد وأنواع مجد الذين يقومون.
1 ـ إن قيامة النفوس المائتة تحدث الآن في هذه الحياة، وأما قيامة الأجساد فتحدث في ذلك اليوم (الأخير). وكما أن النجوم جميعها ثابتة في السماء إلاّ أنها ليست جميعها متساوية، بل يختلف الواحد عن الآخر في اللمعان والحجم (1كو14:15)، هكذا الأمور الروحانية فإنه يوجد بها درجات من التقدم ” بحسب مقدار الإيمان بالروح الواحد نفسه” (رو3:12، 1كو9:12)، إذ يكون واحد أكثر غنى من الآخر. والكتاب يقول ” إن من يتكلم بلسان.. يتكلم بروح الله” (1كو2:14). فهو إنسان روحاني يكلم الله. ” وأما الذي يتنبأ فيبنى الكنيسة” (1كو4:14) وهذا الأخير عنده قدر أكبر من النعمة. فالأول يبنى نفسه فقط، أما الثاني فإنه يبنى الكنيسة أيضاً.
وهذا يُشبه حبة الحنطة التي تُزرع في الأرض. فنفس الحبة في نفس الأرض تنتج حبوباً كثيرة ومختلفة. وأيضاً سنابل القمح بعضها كبير والبعض الآخر صغير ولكن كلها تُجمع معاً إلى بيدر (جرن) واحد، وإلى مخزن واحد. ورغم أن الحبوب مختلفة إلاّ أنه يُصنع منها خبز واحد.
2 ـ وكما أنه يوجد في المدينة جموع من الناس، بعض منهم أطفال والبعض رجال والبعض شبان أحداث ولكنهم جميعاً يشربون من ينبوع واحد ويأكلون من خبز واحد ويستنشقون هواء واحد؛ أو في حالة المصابيح فهناك مصباح له فتيلتين وآخر له سبعة، ولكن حيثما تكون فتائل النور أكثر عدداً فهناك تكون الإضاءة أكثر.
هكذا كل الذين هم في النور لا يمكن أن يكونوا في الظلمة، ولكن توجد بينهم درجات مختلفة في النور. وإذا كان لأب ابنان أحدهما طفل والآخر شاب، فإنه يرسل الشاب إلى المدن والبلاد الغريبة، أما الطفل فإنه يحفظه دائماً تحت رعايته لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً. والمجد لله آمين
العظة السابعة والثلاثون
الفردوس والناموس الروحاني
الفردوس :
1 ـ ” محبة العالم عداوة لله كما هو مكتوب” (يع4:4) لهذا السبب فإن الكتاب المقدس يوصى كل واحد ” أن يحفظ قلبه بكل اجتهاد” (أم 23:4)، فعندما يحفظ الإنسان الكلمة في داخله مثل فردوس، فإنه يتمتع بالنعمة ولا ينصت إلى الحية التي تحاول أن تتحرك في الداخل وهى التي توحي بأشياء تقود إلى اللذة والتي بها يتولّد الغضب الذي يذبح الأخ، والنفس التي تخضع لهذه الشرور تموت.
ولكن بالأحرى يجب على النفس أن تُنصت للرب الذي يقول “احرص على الإيمان والرجاء اللذان تتولد منهما محبة الله ومحبة القريب، هذه المحبة التي تعطى حياة أبدية”.
إلى هذا الفردوس دخل نوح، حافظاً الوصية ومُطيعاً للرب، وبالمحبة أُنقذ من الغضب. وإبراهيم بحفظه لهذا الفردوس سمع صوت الله. وموسى بحفظه لهذا الفردوس نال المجد منعكساً على وجهه، وبالمثل فإن داود بحفظه لهذا الفردوس جاهد فهزم أعداءه. أما شاول أيضاً فطالما كان يراقب قلبه فإنه كان ينجح، ولكن حينما تعدى أخيراً، فإنه رُفض. فإن كلمة الله تأتى إلى كل واحد بمقدار. وعلى قدر ما يتمسك الإنسان بالكلمة ويحفظها فإنها تحفظه وتمسك به وتحرسه.
2 ـ لهذا السبب فإن جماعة الأنبياء القديسين والرسل والشهداء، حفظوا الكلمة في قلوبهم غير مهتمين بشيء آخر بل احتقروا الأرضيات وثبتوا في وصية الروح القدس وفضلوا محبة الله بالروح وخيرات الروح على كل شيء آخر، وذلك ليس بالكلام فقط أو مجرد المعرفة، بل بالقول والفعل والممارسة الحقيقية في كل الأشياء، فاختاروا الفقر بدلاً من الغنى، والعار والإهانة بدلاً من المجد والافتخار، والآلام بدلاً من اللّذة والتنعم، ولهذا السبب أيضاً نالوا المحبة بدلاً من الغضب.
المحبة والغفران للمسيئين :
لأنهم كما أبغضوا لذّات هذه الحياة، فإنهم أحبوا أولئك الذين يغتصبون منهم أشياء هذه الحياة، كأنهم يعاونونهم في تحقيق الهدف غير مميزين بين الصالح والشرير. فهم لم يتحولوا عن الصالحين ولا هم يتهمون الأشرار، إذ أنهم يعتبرون الجميع كسفراء لعناية وتدبير ربهم، لذلك فإنهم يراعون الجميع بمحبة وإشفاق. وحينما سمعوا الرب يقول ” اغفروا يُغفر لكم” (لو37:6) فإنهم حينئذٍ اعتبروا أولئك الذين أساءوا إليهم كفاعلي خير لأنهم أعطوا لهم الفرصة لينالوا الغفران لنفوسهم ، وحينما سمعوا الرب يقول أيضاً ” وكما تريدون أن يفعل الناس بكم أفعلوا أنتم هكذا أيضاً بهم” (مت12:7)، حينئذٍ بدأوا أن يحبوا الصالحين بحسب الضمير. وإذ تركوا برّ أنفسهم وطلبوا برّ الله فإنهم وجدوا المحبة متضمنة فيه بطريقة طبيعية.
3 ـ لأن الرب، عندما أعطى وصايا كثيرة عن المحبة فإنه أوصانا أن نطلب ” بر الله” (مت33:6) لأنه يعرف أنه (أى برّ الله) هو والد المحبة، فلا يوجد طريق آخر به نتمّم خلاصنا إلاّ عن طريق قريبنا، كما أوصى قائلاً:” اغفروا يُغفر لكم” هذا هو القانون الروحاني الذي كُتب في القلوب المؤمنة وهو ” تكميل الناموس الأول” (رو 10:13) لأنه يقول ” لم أتِ لأنقض الناموس بل لأكمّل” (مت17:5)، وكيف كمّل الناموس؟. دعني أخبرك : فإذا حدث خطأ من إنسان، فإن الناموس الأول كان يدين بالأكثر الذي وُجه إليه الخطأ: ” لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك” (رو1:2)، والناموس يقول هكذا ” في وسط الدينونة، دينونة، وفي وسط الغفران، غفران” (تث8:17 السبعينية).
4 ـ لذلك فإن المغفرة هي تكميل الناموس ـ وقد سميناها الناموس الأول، ليس لأن الله وضع ناموسين للناس، بل ناموس واحد، وهو روحاني في طبيعته. ولكن من جهة المجازاة فهو يعطى كل واحد الجزاء العادل، فيعطى المغفرة لمن يغفر، ويدين الذي يدين. كما يقول في المزمور “ومع الطاهر تكون طاهراً، ومع الأعوج تكون ملتوياً” (مز26:18)، لذلك فإن أولئك الذين يتممون الناموس روحانياً، وبقدر نوالهم النعمة، يحبون محبة روحانية، ليس أولئك الذين يفعلون بهم خيراً فقط، بل أيضاً أولئك الذين يعيرونهم ويضطهدونهم، وهم يتطلعون لنوال مكافأة الصالحات.
وأقول الصالحات ليس لأنهم غفروا الإساءات التي وُجهت إليهم، بل لأنهم فعلوا أيضاً خيراً لنفوس الذين أساءوا إليهم. لأنهم قدموهم إلى الله باعتبارهم الوسيلة التي بها تمموا وحصلوا على التطويب القائل ” طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين” (مت11:5).
5 ـ وهم قد تعلّموا أن يفكروا هكذا بواسطة ناموس روحاني، وإذ هم يحتملون ويحتفظون بموقف الوداعة الداخلية، فإن الرب إذ ينظر إلى القلب وهم يحاربون، وينظر المحبة التي لم تفتر، فإن الرب ينقض حائط السياج المتوسط (أف14:2). ويطرحون كل بغضة عنهم وتكون النتيجة أن حبهم لم يعد بالاضطرار والتغصب بل يكون براحة وفرح.
إن الرب يقيد السيف المتقلب الذي يحرك الأفكار. وبعد ذلك تدخل الأفكار إلى ما داخل الحجاب حيث دخل يسوع ” كسابق لأجلنا” (عب 19:6). وتتمتع بثمار الروح بفرح .
وإذ ينظرون الأمور الآتية مكشوفة في داخل القلب بثبات ، وليس في “مرآة ولغز” (1كو12:13) كما يقول الرسول، فإنهم يقولون ” ما لم تره عين وما لم تسمع به إُذن وما لم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه” (1كو9:2).
معرفة ما لم يخطر على قلب بشر :
6ـ سؤال: إن كانت هذه الأشياء لم تخطر على قلب إنسان، فكيف أمكنك أن تعرفها خصوصاً وأنك تعرف ما يقوله سفر الأعمال ” نحن بشر تحت الآلام مثلكم” (أع15:14).
جواب: حسناً أنصت إلى الجواب الذي يعطيه بولس لهذا السؤال إذ يقول ” ولكن الله أعلنها لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو10:2). ولكن لئلا يقول أحد إن الروح قد أُعطي لهم لأنهم رسل فقط، وإننا نحن لا نستطيع أن نناله، فإنه يقول في مكان آخر مصلياً ” لكي يعطيكم أبو ربنا يسوع المسيح أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف17،16:3) ويقول أيضاً ” أما الرب فهو الروح، وحيث روح الرب هناك حرية” (2كو17:3). وأيضاً ” إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس للمسيح” (رو9:8).
شركة الروح القدس :
7 ـ لذلك فلنصل ونتوسل لكيما نشترك في الروح القدس بملء الثقة والاختبار، ولكي ما ندخل إلى المكان الذي خرجنا منه ولكي تُطرد عنا من الآن فصاعداً تلك الحية التي هي أب الغضب الذي يوحى بالمجد الباطل وهو روح الحزن والفشل والتذمر. فلنصل لكي نحصل على إيمان ثابت فنستطيع أن نحفظ وصايا الرب وننمو فيه ” إلى إنسان كامل إلى قياس القامة الناضجة” (أف13:4)، لكي لا يعود يتسلط علينا خداع هذا العالم، بل نكون في ملء ثقة الروح، ولا يعود ينقصنا الإيمان بأن نعمة الله تُسرّ بقبول الخطاة حينما يتوبون. فإن ما يُعطى بالنعمة لا يُقاس بالمقارنة مع الضعف السابق ” وإلاّ فليست النعمة بعد نعمة” (رو6:11). بل إذ نؤمن بالله الكلّى القدرة، نأتي بقلب بسيط غير قلق أو موسوس ـ نأتي إليه فهو الذي يعطى بالإيمان نعمة الاشتراك في الروح وليس بواسطة المقارنة بأعمال الطبيعة البشرية لأنه يقول ” لقد أخذتم الروح ليس بأعمال الناموس بل بخبر الإيمان” (غل2:3).
معنى خمس كلمات بذهني :
8 ـ سؤال: ما معنى الآية التي تقول ” ولكن في كنيسة أريد أن أتكلم خمس كلمات بذهنى” (1كو19:14)؟
جواب: إن كلمة كنيسة تُفهم بطريقتين: الجماعة أي جماعة المؤمنين ثم اجتماع النفس معاً. فحينما تُفهم الكلمة على الشخص الإنساني يكون المقصود هو الإنسان ككل متكامل معاً. وهنا تكون خمس كلمات تعنى مجموع الفضائل التي تبنى الإنسان كله بطرق متنوعة. فكما أن الذي يتكلم في الرب يفهم كل حكمة بكلماته الخمس، هكذا الذي يطيع الرب فإنه يبنى كل تقوى بواسطة الفضائل الخمسة. هم خمسة ولكنهم يشملون الجميع: الأولى، الصلاة ثم التعفف، ثم البذل والعطاء، ثم الفقر الاختياري والصبر. وهذه إذ تُتمم باشتياق وقصد ثابت فإنها كلمات النفس التي ينطقها الرب والتي تُسمع في القلب. إن الرب يعمل، ثم الروح يتكلم بدون صوت، والقلب يتمم جهراً وظاهراً ما يشتاق ويرغب.
9ـ ولكن كما أن هذه الفضائل تشتمل على كل الفضائل الأخرى، هكذا أيضا فإنها تتوالد من بعضها البعض. فإذا نقصت الأولى، تسقط الباقية. وبالمثل فإنه بواسطة الثانية يتبعها البقية وهكذا. لأنه كيف يصلى الإنسان بدون أن يكون تحت فاعلية الروح؟ والكتاب يشهد معي هنا حينما يقول ” لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلاّ بالروح القدس” (1كو3:12) وأيضاً كيف يستمر الإنسان في التعفف بمثابرة بدون الصلاة وبدون معونة ونعمة؟ والذي هو غير متعفف، كيف يصنع رحمة ويعطى الجياع والمتضايقين؟ والذي لا يصنع رحمة ويُحسن لن يقبل الفقر باختياره. وأيضاً فإن الغضب هو قريب وصديق لمحبة المال والطمع سواء كان الإنسان يملك المال أو لا يملكه.
ولكن الإنسان الفاضل هو الذي يُبنى ليكون كنيسة ليس بسبب ما فعله بل بسبب ما اشتاق إليه واشتهاه، فالذي يخلص الإنسان ليس هو عمله الخاص، بل يخلصه ذلك الذي يمنحه القوة. لذلك إن كان أحد يحمل “سمات الرب” (غل17:6)، فلا يظن نفسه عظيماً، حتى لو كان قد نجح في كل عمل. بل لينظر فقط إلى المحبة التي في قلبه واهتمامه واجتهاده أن يعمل. لذلك لا تظنوا أنكم قد سبقتم الرب بفضيلتكم وذلك بحسب المكتوب ” إنه هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة” (في13:2).
بماذا يوصينا الكتاب المقدس ؟ :
10 ـ سؤال: إذن فما الذي يوصى به الكتاب الإنسان أن يفعله؟
جواب: سبق أن قلنا إن الإنسان عنده الاستعداد بطبيعته أن يرغب وأن يشتاق. وهذا ما يطلبه الله. لذلك فإن الله يأمر أن الإنسان ينبغي أن يعرف ويعتبر. وحينما يعتبر، ينبغي أن يحب وأن يجتهد بإرادته. ولكن لكي ينشط العقل ويتحرك ويتحمل التعب أو لكي يكمل العمل فهذا يحتاج إلى نعمة الله. وهذا ما تمنحه النعمة للإنسان الذي يرغب ويؤمن. لذلك فإن إرادة الإنسان هي مثل أداة في طبيعة الإنسان. وحينما لا تكون الإرادة حاضرة، فإن الله نفسه لا يفعل شيئاً، رغم أنه يستطيع أن يفعل، وذلك بسبب حرية إرادة الإنسان. إن عمل الروح الفعّال يتوقف على إرادة الإنسان. ومن الجهة الأخرى إذا كنا نعطى ونقدم له كل إرادتنا، فإنه ينسب كل العمل إلينا.
عجيب هو الله في كل الأشياء وهو فائق جداً فوق كل إدراكنا. ولكننا نحن البشر نسعى لشرح بعض عجائبه وأعماله مستندين على الكتاب المقدس، أو متعلمين منه، فإنه يقول ” من عرف فكر الرب” (رو34:11). ولكن هو نفسه يقول ” كم مرة أردت أن أجمع أولادك .. وأنتم لم تريدوا” (مت37:23). ولذلك فنحن نؤمن أنه هو الذي يجمعنا ولا يطلب منا شيئاً سوى أن نريد ونرغب. ولكن ما هو الذي يُثبت ويُظهر الإرادة إلاّ العمل الذي يعمل باختيار وحرية؟
11ـ لأنه كما أن الحديد يُستعمل في نشر الخشب أو كفأس للقطع أو كمحراث للحرث والزراعة، ولكن يوجد إنسان هو الذي يحركه ويقوده، وحينما يتقادم ويبلى بالاستعمال فإنه يوضع في النار ويُشكل من جديد كأدوات كل منها حسب استعمالها. هكذا أيضاً فإن الإنسان حينما يتعب ويُجهد جداً في عمل ما هو صالح ـ مع أن الرب هو الذي يعمل فيه في الخفاء في هذا التعب ـ فإن الرب يعزى قلبه ويجدده كما يقول النبي: ” هل تفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده” (إش15:10). وهكذا بالمثل في حالة الشر حينما يطيعه الإنسان ويجعل نفسه مستعداً له، فحينئذٍ يجذبه الشيطان ويسنه كما يسن اللص سيفه. لقد شبهنا القلب بالحديد بسبب قلة حساسيته للأشياء وشدة قسوته. ولكن لا ينبغي أن نجهل، مثل الحديد الذي لا يحس ـ ذلك الذي يمسك بنا (لأننا لو كنا نحس فإننا لم نكن نتحول هكذا سريعاً من كلمته المغروسة فينا إلى أفكار الشرير)، بل بالأحرى نكون كالثور والحمار أي أن نعرف ذلك الذي يقودنا ويوجهنا في طريقه بحسب مسرته لأنه مكتوب: ” الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرفني” (إش3:1). لذلك فلنصلي طالبين نوال معرفة الله، ولكي نتهذب في الناموس الروحانى لحفظ وصاياه المقدسة، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين
العظة الثامنة والثلاثون
المسيحيون بالحق
الأمر يحتاج إلى دقة عظيمة وفهم كبير لتمييز من هم المسيحيون بالحق.
تمييز المسيحيين بالحق:
1ـ إن كثيرين من الذين يظهرون أنهم أبرار يُحسبون أنهم مسيحيون ويليق لذوى المعرفة والاختبار أن يختبروا ويروا إن كان مثل هؤلاء الأشخاص لهم علامة وصورة الملك بالحقيقة، حتى لا يكونوا أشخاصاً مزيفين أو عمالاً مزيفين يعملون أعمال ذوى الخبرة والمعرفة ويُدهش منهم العمال المهرة وينتقدونهم، ولكن الناس الذين ليسوا ذوى خبرة لا يستطيعون أن يمتحنوا ويكشفوا ” الفعلة الماكرون” (2كو13:11)، حيث إن هؤلاء أيضاً يلبسون شكل النُساك أو المسيحيين لأنه حتى الرسل الكذبة تعرضوا لبعض الآلام لأجل المسيح وبشروا بملكوت السموات. لهذا السبب يقول الرسول: ” في الأتعاب أكثر في الضربات أوفر، في السجون أكثر” (2كو23:11) قاصداً بذلك أن يُظهر أنه قد تألم أكثر منهم.
2 ـ إن الذهب يُكتشف بسهولة أما اللآلئ والأحجار الكريمة التي تليق بتاج الملك فهي نادرة الوجود وأحياناً فإن ما يُوجد منها لا يكون مناسباً، هكذا أيضاً المسيحيون فإنهم يُصاغون ويُشكّلون ويُطعمون في إكليل المسيح لكي يكون لهم شركة مع القديسين. فالمجد لذلك الذي هكذا أحب تلك النفس وتألم لأجلها وأقامها من الموت.
ولكن كما أن البرقع كان موضوعاً على وجه موسى لكي لا ينظر الشعب إلى وجهه، هكذا أيضاً الآن فإن هناك برقع موضوع على قلبك لكي لا تتطلع إلى مجد الله وتراه. ولكن حينما يُنزع هذا البرقع، فإن (المسيح) يضئ ويُظهر نفسه للمسيحيين، أي لأولئك الذين يحبونه ويطلبونه بالحق كما يقول: ” أُظهر له ذاتي” ” وعنده أصنع منزلاً” (يو23،21:14).
لنأتِ إلى المسيح لننال الموعد:
3 ـ لذلك فلنجتهد أن نأتي إلى المسيح الذي لا يكذب، لكيما ننال الموعد والعهد الجديد ـ الذي جعله الرب جديداً بصليبه وموته بعد أن كسر أبواب الجحيم والخطية، وأخرج النفوس المؤمنة، وأعطاهم المعزي في الداخل وردهم إلى ملكوته. إذن فلنملك معه في أورشليم مدينته أي في الكنيسة السماوية، في محفل الملائكة القديسين. والأخوة الذين لهم خبرة طويلة وتمرّن يستطيعون أن يساعدوا قليلي الخبرة ويساعدوهم بإشفاق ومحبة.
درجات في النعمة:
4 ـ إن بعض الأشخاص قد صارت لهم ثقة داخل أنفسهم، وقد عملت فيهم النعمة بقوة، هؤلاء وجدوا أن أعضائهم قد تقدست لدرجة أنهم حسبوا أن الشهوة لا وجود لها في الحياة المسيحية، بل أنهم قد حصلوا على عقل متزن عفيف، وأن الإنسان الباطن قد ارتفع عالياً إلى الأشياء الإلهية والسماوية حتى أنهم اعتقدوا تماماً أن مثل هذا الشخص قد وصل فعلاً إلى درجة الكمال.
وحينما يظن الإنسان أنه قد وصل إلى الميناء الهادئ تثور ضده أمواج متلاطمة، حتى أنه يجد نفسه مرة أخرى في وسط المحيط، وأنه محمول إلى حيث يكون البحر سماء والموت متربص به. وهكذا دخلت الخطية وهكذا أنشأت كل “أنواع الشهوة” الشريرة (رو8:7) وأيضاً هناك بعض الأشخاص قد نالوا درجة من النعمة التي وُهبت لهم، بمعنى أنهم قد حصلوا على قطرة من عمق البحر العظيم، ويجدونها ـ ساعة بساعة ويوماً بيوم ـ إنها عمل عجيب مدهش حتى أن الإنسان الذي يكون تحت تأثيرها ينذهل ويتعجب من فاعلية عمل الله الغريب والعجيب حتى أنه لا يستطيع أن يتصور كيف حصل على هذه الحكمة والاستنارة.
وبعد هذا فإن النعمة تنيره، وترشده وتعطيه سلاماً وتجعله صالحاً من كل الوجوه إذ أن النعمة نفسها إلهية وسماوية، ولذلك فإنه بالمقارنة به يحسب الملوك والرؤساء والنبلاء أقل منه وبلا قيمة. ولكن بعد وقت يتغير الحال، حتى أن مثل هذا الإنسان يحسب نفسه خاطئاً أكثر من الجميع. وأيضاً في وقت آخر يرى نفسه ضعيفاً وفي غاية العوز والفاقة. وحينئذٍ فإن العقل يقع في حيرة وارتباك، لماذا تكون الأحوال متقلبة هكذا؟ لأن الشيطان إذ هو يكره الصلاح والخير فإنه يوحى بأمور شريرة لأولئك الذين يتبعون الفضيلة ويسعى أن يُلقى بهم أرضاً ـ فإن هذا هو عمله.
ثق في الرب الذي يقودك وأطعه :
ولكن لا تخضع للشيطان، بينما أنت تتمّم البرّ الذي يتحقق في الإنسان الباطن، حيث يوجد كرسي دينونة المسيح مع أقداسه الطاهرة حتى أن شهادة ضميرك تفتخر بصليب المسيح، الذي “طهر ضميرك من الأعمال الميتة” (عب14:9)، لكي تخدم الله بالروح. ولكي تعرف من الذي تعبده على حسب قول الرب حينما قال ” نحن نسجد لما نعلم” (يو22:4). ثق في الله الذي يقودك وأطعه وأجعل نفسك في شركة مع المسيح كالعروس مع عريسها. لأن ” هذا السر عظيم، ولكني أقول عن المسيح” (أف32:5) والنفس التي بلا لوم، له المجد إلى الأبد آمين
العظة التاسعة والثلاثون
لماذا أعطانا الله الكتاب المقدس
1 ـ كما أن الملك يكتب رسائل لأولئك الذين يريد أن ينعم عليهم بامتيازات خاصة وهبات فريدة، ويقول لهم : ” بادروا بالمجيء إلىّ سريعاً لتنالوا منى الهبات الملوكية”، فإذا لم يذهبوا ويأخذوها فإن مجرد قراءة الرسائل لا تفيدهم شيئاً بل بالعكس فإنهم يكونون معرضين لخطر الموت لأنهم رفضوا أن يأتوا لينالوا الكرامة من يد الملك. هكذا الله الملك الحقيقي، قد أرسل الكتب المقدسة كرسائل منه للبشر، وهو يعلن عن طريقها للناس أنه ينبغي أن يأتوا إلى الله ويدعونه بإيمان ويسألوا ويأخذوا الموهبة السماوية من الله نفسه، لأنه مكتوب ” لتصيروا شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط4:1) ولكن إذا لم يأتِ الإنسان ويسأل وينال، فإنه لا يستفيد شيئاً من قراءته للكتاب، بل بالأحرى فإنه يكون في خطر الموت لأنه لم يرد أن يأخذ عطية الحياة من الملك السماوي، التي بدونها لا يمكن الحصول على الحياة الأبدية غير المائتة، التي هي المسيح نفسه. الذي له المجد إلى الأبد آمين
العظة الأربعون
ارتباط الفضائل معاً
إن جميع الفضائل مرتبط بعضها ببعض، كذلك أيضاً الرذائل، مثل حلقات السلسلة المرتبط أحدها بالآخر.
ارتباط الفضائل معاً :
1 ـ فيما يخص الممارسة الخارجية وأي عمل منها هو الأفضل أو الأحسن، فأعرفوا هذا أيها الأحباء، أن جميع الفضائل مرتبطة بعضها ببعض. فكل فضيلة مرتبطة بالأخرى مثل سلسلة روحية: فالصلاة مرتبطة بالمحبة، والمحبة بالفرح، والفرح بالوداعة، والوداعة بالتواضع، والتواضع بالخدمة، والخدمة بالرجاء، والرجاء بالإيمان، والإيمان بالطاعة، والطاعة بالبساطة. وكذلك من الجهة الأخرى فإن الرذائل مرتبطة إحداها بالأخرى: فالبغضة مرتبطة بالغضب، والغضب بالكبرياء، والكبرياء بالمجد الباطل، والمجد الباطل بعدم الإيمان، وعدم الإيمان بقساوة القلب، وقساوة القلب بالإهمال، الإهمال بالكسل، والكسل بالضجر، والضجر بعدم الصبر، وعدم الصبر بمحبة اللذة. وباقي أجزاء الرذيلة هي بالمثل متعلقة بعضها ببعض كما أنه من الجهة الصالحة فإن الفضائل متعلقة بعضها ببعض ومرتبطة معاً.
أهمية المواظبة على الصلاة :
2 ـ ولكن رأس كل سعى صالح، والقوة الموجهة والقائدة لكل عمل حسن إنما هو المواظبة على الصلاة. ومنها يمكن أن نحصل يومياً على بقية الفضائل عن طريق طلبها من الله في الصلاة. وبواسطة الصلاة تتولّد الشركة في قداسة الله في أولئك الذين يُحسبون أهلاً لها، وتتولّد فيهم الطاقة الروحانية والتصاق العقل بالرب وميله إليه بمحبة تفوق الوصف لأن الإنسان الذي يغصب نفسه كل يوم للمواظبة على الصلاة، فإنه يشتعل بالحب الإلهي ويتقد برغبة نارية من الحب الروحاني نحو الله ، وينال نعمة كمال تقديس الروح.
درجات في الملكوت :
3 ـ سؤال: حيث إن هناك البعض يبيعون ممتلكاتهم، ويطلقون عبيدهم أحراراً، ويحفظون الوصايا، ومع ذلك فإنهم لا يسعون لنوال الروح في هذا العالم. فهل بعيشهم هكذا لا يدخلون إلى ملكوت السموات؟
جواب: هذا موضوع دقيق وحساس. فإن البعض يتكلمون عن ملكوت واحد وجهنم واحدة. ولكننا نحن نتكلم عن درجات كثيرة ومقاييس متنوعة في كل من الملكوت وجهنم. وكما أنه توجد نفس واحدة في جميع الأعضاء، ولكنها تعمل في المخ من فوق وفي نفس الوقت تحرك القدمين من أسفل، هكذا أيضاً فإن الله يحتوى كل الخلائق، السماوية والتي في عمق الهاوية، وهو يملأ الخليقة في كل مكان رغم أنه متعالي جداً على الخلائق، لأنه غير محدود ويفوق كل فهم وإدراك. وإن الله ينظر إلى الناس ويهتم بهم بنوع خاص. ويقود كل الأشياء بتدبير عنايته بحسب الحكمة. وحينما يصلى البعض غير عارفين ما هو الذي يطلبونه، بينما يصوم آخرون، وآخرون يواظبون على خدمتهم، فإن الله كقاض عادل يعطى كل واحد حسب مقدار إيمانه. لأنهم إنما يفعلون ما يفعلونه بتقوى الله. ولكن ليس جميع هؤلاء بنين أو ملوك أو ورثة.
4 ـ ويوجد في العالم بعض قتلة الناس، ويوجد آخرون زناة، وآخرون سارقون. كما أنه يوجد أولئك الذين يوزعون مقتنياتهم على الفقراء: وعين الرب على كل من هذين النوعين. وأما الذين يفعلون الخير فإنه يعطيهم راحة ومكافأة. فإنه توجد درجات عالية، ودرجات صغيرة. وفي النور وفي المجد توجد درجات. وفي جهنم نفسها وفي العقاب يظهر أنه يوجد سحرة ولصوص كما أنه يوجد آخرون ممن ارتكبوا خطايا أقل. وأما الذين يقولون إن الملكوت درجة واحدة وكذلك جهنم وإنه لا توجد درجات فقولهم خطأ. وكم من الناس العالميين الذين هم الآن دائماً في الملاهي وغيرها من الأمور الباطلة. وكم هم أولئك الذين يُصلّون لله ويتقونه! وأن الله ينظر إلى هؤلاء وأولئك، وكقاض عادل، فإنه يعد الراحة لهؤلاء والعقاب لأولئك الآخرين.
5 ـ وكما أن الناس يروضون الخيول ويقودون بها المركبات في سباق ضد بعضهم البعض، وكل واحد يجتهد أن ينتصر على منافسه ويهزمه، هكذا يوجد أيضاً مثل هذا الصراع في قلب أولئك الذين يجاهدون. فالأرواح الشريرة تحارب النفس، بينما الله والملائكة يراقبون الحرب ويلاحظونها. وفي كل ساعة تخرج من النفس أفكار جديدة وكذلك الشر الذي يحارب في الداخل يُخرج أفكاراً جديدةً. إن النفس لها خطط كثيرة خفيّة. وهى تنتج هذه الخطط وتلدها في وقتها المعين. والشر أيضاً له خطط وحيل كثيرة، وهو يُولّد اختراعات جديدة ضد النفس ساعة بعد ساعة. إن العقل هو قائد العربة وهو يروض عربة النفس مُمسكاً بعناق الأفكار، وهكذا يحارب ضد عربة الشيطان التي يقودها ضد النفس .
بين العكوف على الصلاة ومحبة الأخوة :
6 ـ سؤال: إن كانت الصلاة هي راحة للنفس، فكيف يقول البعض: نحن لا نستطيع أن نصلي ولا أن نلازم الصلاة دواماً ولذلك لا يواظبون على الصلاة بتواتر؟
جواب: حينما تكثر الصلاة فإنها تنشيء رأفة ورحمة، وصور أخرى من الخدمة، مثل افتقاد الاخوة لأجل خدمتهم بالكلمة. والإنسان بطبيعته يرغب في الذهاب لرؤية الأخوة وليكلمهم بالكلمة. وكل شيء يُلقى في النار لا يمكن أن يبقى على طبيعته بل بالضرورة يصير ناراً. فإذا ألقيت حجارة صغيرة في النار فإنها تتحول إلى جير. والإنسان الذي يريد أن يدخل إلى البحر ويذهب إلى وسط المحيط فإنه يغطس تماماً ويختفي عن الأنظار. أما الذي يذهب رويداً رويداً فإنه يرغب أن يرجع ثانية ويطفو على السطح ويأتي إلى الميناء ليرى الناس الذين على الشاطئ. هكذا أيضاً في الحياة الروحانية، فقد يدخل إنسان إلى حياة النعمة، ثم يتذكر أن له رفقاء واخوة، وهو بطبيعته البشرية أيضا يريد أن يذهب إلى الاخوة ليتمّم ناموس المحبة، وذلك كاعة للكلمة.
النعمة والخطية :
7 ـ سؤال: كيف يمكن أن تكون النعمة والخطية كلاهما معاً في قلب الإنسان؟
جواب: كما إنه حينما توجد نار تحت إناء نحاس فإنك حينما تضع حطباً أوخشباً لإضرام هذه النار تحت الإناء فإنه يسخن ويغلى الماء الذي بداخله لأن النار خارج الإناء تشتعل من تحته، أما إذا أهمل الإنسان ولم يضع وقوداً لهذه النار تحت الإناء فإنها تبتدئ في الخمود وتنطفئ إلى حد ما. هكذا النعمة، التي هي النار السماوية فإنها في داخلك ومن خارجك. فإذا كنت تصلى وتسلّم أفكارك لمحبة المسيح تكون قد وضعت وقوداً للنار. كما أن أفكارك تصير ناراً وتُغمر تماماً في محبة الله. وحتى إذا انسحب الروح قليلاً كما لو كان خارجاً عنك، فإنه لا يزال في داخلك، وعلاماته تظهر من الخارج. أما الذي يهمل ويسلّم نفسه للانشغالات العالمية أو للهموم، فإن الخطية تأتى ثانية وتدخل إلى النفس وتؤذي الإنسان كله. ولذلك فإن النفس تذكر راحتها السابقة، وتحزن وتتألم فترة طويلة.
8 ـ ويعود العقل لليقظة والانتباه لله فتعود الراحة السابقة وتقترب منه من جديد. ويسعى في طلب الرب بغيرة واجتهاد شديد قائلاً ” يارب إني أتوسل إليك”. وقليلا قليلاً تشتعل النار وتضطرم وتزداد وتنعش النفس وتقويها، مثل الصنارة التي تجذب السمكة من عمق البحر رويداً رويداً. ولو لم يكن الأمر هكذا، ولو لم يذق الإنسان المرارة والموت، فكيف كان يمكنه أن يميز المر من الحلو، والموت من الحياة، وأن يعطي الشكر والمجد للآب معطى الحياة والابن والروح القدس إلى الأبد أمين
العظة الحادية والأربعون
أعماق النفس
أعماق النفس عميقة جداً، وهى تتأثر بمقدار درجة النعمة أو درجة الشر.
1 ـ إن إناء النفس الثمين هو عميق جداً، كما هو مكتوب ” هو يفحص العمق والقلب” (ابن سيراخ18:42). لأنه حينما حاد الإنسان عن الوصية وصار تحت دينونة الغضب فإن الخطية أخذته تحت سلطانها، وحيث إن الخطية هي نفسها هاوية عميقة من المرارة فقد دخلت إلى داخل أعماق الإنسان واستولت على مراعى النفس حتى إلى أقصى أعماقها.
اختلاط الخطية بالنفس :
وهكذا يمكننا أن نشبه النفس والخطية حينما اختلطت بها كما لو أن هناك شجرة كبيرة جداً ذات فروع كثيرة وتضرب بجذورها في أقصى أعماق الأرض. هكذا الخطية فقد دخلت إلى الداخل وملكت على مراعى النفس العميقة، حتى أنها صارت مألوفة وملازمة للإنسان وتنمو مع كل شخص منذ طفولته وتعاشره وتعلّمه أموراً شريرة.
عمل النعمة الإلهية والاجتهاد :
2 ـ لذلك فحينما يظلل عمل النعمة الإلهية على النفس بحسب مقدار إيمان كل واحد، وينال الإنسان معونة من فوق فإن النعمة تظلّله جزئياً فقط. لذلك فلا يتصور أحد أن نفسه قد استنارت كلها مرة واحدة استنارة كلّية. فلا يزال يوجد قدر من الخطية في الداخل، ويحتاج الإنسان إلى تعب وكد كثيرين على حسب النعمة المعطاة له. ولهذا السبب تبتدئ النعمة أن تفتقد الإنسان جزئياً مع أنها تملك القوة أن تُطهر الإنسان وتكمله في ساعة من الزمان. ولكنها تفتقد الإنسان جزئياً لكي تمتحن قصد الإنسان لترى هل يحفظ حبه نحو الله كاملاً، بحيث لا يتفاوض مع الشرير في أي وقت بل يسلّم نفسه كليةً للنعمة وبهذه الطريقة عندما تنجح النفس مرة بعد مرة، وهى لا تُحزن النعمة في أي أمر، فإن الإنسان ينال معونة متزايدة، والنعمة نفسها تجد مرعى لها في النفس وتضرب بجذورها إلى أعماق أعماقها وفي كل أفكارها، إذ توجد النفس مقبولة وموافقة للنعمة بعد تجارب كثيرة، إلى أن تتشّبع النفس تماماً بالنعمة السماوية التي تبدأ منذ ذلك الوقت فصاعداً أن تملك في الإناء نفسه[1].
التواضع:
3ـ ولكن أي شخص لا يثبت في تواضع كثير، فإنه يُسلّم للشيطان ويتعرى من النعمة الإلهية التي سبق أن أُعطيت له فيُجرّب بشدائد كثيرة. وحينئذ يعرف نفسه على حقيقتها وأنه عريان وشقى. ولذلك فإن الذي يكون غنياً في نعمة الله ينبغي أن يكون متضعاً جداً وله قلب منسحق، وأن يعتبر نفسه فقيراً ولا يملك شيئاً. وأن ما هو له لا يخصه وإنما قد ناله من آخر ويمكن أن يؤخذ منه حينما يشاء الذي أعطاه. فالذي يتواضع هكذا أمام الله والناس يستطيع أن يحفظ النعمة المعطاة له كما يقول الرب ” من يضع نفسه يرتفع” (لو11:14) ورغم أنه مختار من الله، فليعتبر نفسه كأنه مرذول. ورغم أنه أمين حقاً فليعتبر نفسه غير مستحق. إن مثل هذه النفوس تكون مرضّية لله، وتحيا وتنال الحياة بالمسيح، الذي له المجد والقوة إلى الأبد آمين.
________________________________________
(1) إناء النفس أي أعماقها راجع فقرة 1 .
العظة الثانية والأربعون
روح النعمة وروح الشر
ليست الأشياء الخارجية هي التي تنمى الإنسان أو تؤذيه، بل الداخلية أي روح النعمة أو من الجهة الأخرى روح خبث.
الروح القدس حصن النفس :
1ـ إذا افترضنا أن هناك مدينة عظيمة ولكنها هُجرت وهُدمت أسوارها وأخذها الأعداء، فإن عظمتها لا تنفعها شيئاً. بل لابد من عناية وحرص كثيرين يتناسبان مع عظمة المدينة، لذا ينبغي أن يكون لها أبواب قوية حتى لا يستطيع العدو أن ينفذ إليها. وبنفس الطريقة فإن النفوس المُزينة بالمعرفة والفهم وحِدّة الفهم هي مثل المدن العظيمة. ولكن ينبغي أن نسأل هل هذه النفوس مُحصّنة بقوة الروح القدس حتى لا يستطيع الأعداء أن يدخلوا إليها ويخرّبوها. فإن حكماء العالم مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط الذين كانوا ماهرين في المعرفة كانوا مثل مدن عظيمة ولكنهم كانوا في حالة خراب بسبب الأعداء لأن روح الله لم يكن فيهم.
2 ـ ولكن كثيرين من بسطاء الناس الذين صاروا شركاء في النعمة، هم مثل مدن صغيرة ولكنها مُحصنة بقوة الصليب، وهؤلاء لا يسقطون من النعمة إلاّ لسببين: إما لأنهم لا يحتملون الشدائد التي تأتى عليهم، أو لأنهم يتذوقون لذّات الخطية ويستمرون فيها بلا توبة؟ فإن أولئك الذين يسيرون في طريق الملكوت لا يستطيعون أن يمضوا فيه بدون تجارب.
فلاحة النفس بالاحتمال والصبر:
وكما أنه في حالة الحمل وولادة الأطفال فإن المرأة الفقيرة والملكة كلتاهما تتوجعان بأوجاع مخاض واحدة، وأيضاً أرض الإنسان الغنى مثل أرض الفقير إن لم تنل التفليح اللازم لها فإنها لا تأتى بالثمر المناسب.
هكذا أيضاً في فلاحة النفس فلا الإنسان الحكيم ولا الإنسان الغنى يملك في النعمة إلاّ بالصبر والاحتمال والشدائد والأتعاب، فإن حياة المسيحيين ينبغي أن تتحمل كل هذه، وكما أن العسل إذ هو حلو لا يظهر منه سم أو مرارة، هكذا فإن مثل هؤلاء المسيحيين هم مملؤون حلاوة وخيراً لكل الذين يقتربون منهم سواء كانوا صالحين أو أشراراً كما يقول الرب ” كونوا صالحين مثل أبيكم السماوي” (لو36:6، مت48:5).
خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد :
إن الذي يؤذى الإنسان ويلوثه هو من الداخل لأنه ” من القلب تخرج الأفكار الشريرة” (مت19:15) هكذا يقول الرب، فإن الأشياء التي تنجس الإنسان هي من الداخل.
3 ـ فإنه من الداخل يزحف روح الشر في داخل النفس، وهو يحاور العقل، وهو يغرى، هذا هو حجاب الظلمة، أي الإنسان العتيق (2كو 17:5). الذي ينبغي أن يخلعه أولئك الذين يهربون إلى الله، وينبغي أن يلبسوا الإنسان السماوي الجديد، الذي هو المسيح (أف22:4، كو8:3). إذن فلا يضر الإنسان أو يؤذيه شيء من الخارج وإنما يؤذيه فقط روح الظلمة الذي يسكن في القلب، حياً ونشطاً. لذلك ينبغي على كل واحد في هذه المعركة أن يحارب في أفكاره ضد الشر لكي يضئ المسيح في قلبه، الذي له المجد إلى الأبد، آمين
العظة الثالثة والأربعون
القلب
عظة بخصوص نمو المسيحي وتقدمه، وأن كل قوة هذا النمو تعتمد على القلب ، كما هو موصوف هنا بطرق متنوعة.
المصابيح :
1 ـ كما أن الأنوار والمصابيح الكثيرة تشتعل من نار واحدة، وهذه الأنوار والمصابيح المشتعلة هي من طبيعة واحدة، كذلك المسيحيون يشتعلون ويضيئون من طبيعة واحدة، هي النار الإلهية، أي ابن الله، ولهم مصابيحهم مشتعلة في قلوبهم، وتضئ قدامه، بينما هم يعيشون على الأرض كما أضاء هو. فإنه مكتوب: ” من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن البهجة” (مز7:45). ولهذا السبب سُمى مسيحاً، حتى إذا مُسحنا نحن أيضاً بنفس الدهن الذي مُسح به هو، فإننا نصير مُسحاء من نفس الطبيعة الواحدة والجسد الواحد. ومكتوب أيضاً ” فإن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد” (عب11:2).
2 ـ لذلك فالمسيحيون من وجهة معينة هم مثل المصابيح التي تحوى الزيت في داخلها، أي ثمار البرّ. ولكنهم إن لم يشتعلوا بالنور الإلهى في داخل نفوسهم فإنهم ليسوا شيئاً، ولقد كان الرب هو المصباح المشتعل، بسبب روح الله الحالّ في أعماقه والذي يشعل قلبه.
ولنأخذ مثالاً آخر: مثل الكيس البالى المملوء بالجواهر، هكذا أيضاً المسيحيون فإنهم ينبغي أن يكونوا متضعين ومحتقرين من الخارج، ولكنهم من الداخل في الإنسان الباطن، يملكون ” الجوهرة الكثيرة الثمن” (مت46:13). بينما هناك آخرون يشبهون ” قبوراً مبيضة تظهر من الخارج منقوشة ومزينة ولكن من الداخل مملوءة عظام أموات” (مت7:23) وعفونة كثيرة وأرواح نجسة. إنهم أموات أمام الله وهم لابسون كل عار وخزي ونجاسة مع ظلام العدو.
القاصر والابن :
3 ـ يقول الرسول إن الطفل مادام قاصراً فإنه تحت أوصياء ووكلاء (غل2:4)، من أرواح الشر التي لا تريد الطفل أن ينمو لئلا يصير إنساناً بالغاً ويبدأ أن ينظر إلى الأمور المختصة ببيت أبيه ويمتلك السيادة كابن للبيت. فالمسيحي ينبغي أن يذكر الله في قلبه في كل الأوقات كما هو مكتوب ” تحب الرب إلهك من كل قلبك” (تث5:6، مت37:22). فينبغي له أن يحب الرب ليس حين يذهب إلى مكان العبادة فقط، بل في السير والكلام والأكل يحتفظ بذكر الرب ويحبه بكل قلبه. إنه مكتوب ” حيث يكون قلبك هناك يكون كنزك أيضاً” (مت21:6، لو34:12).
لأن ما يرتبط به قلب الإنسان وما تتجه إليه رغبته فهذا هو إلهه. فإن كان القلب يشتهى الله كل حين فيكون الله هو رب هذا القلب. أما إذا تخلى الإنسان عن أملاكه وتجرّد من كل شيء وصار بلا مأوى وكان يمارس الأصوام، ولكنه لا يزال متعلقاً بحب نفسه أو بحب الأشياء العالمية أو بحب بيته أو والديه فحيثما يكون قلبه مقيداً ويكون عقله أسيراً يكون هناك إلهه، ويكون قد خرج من العالم من الباب الأمامي ولكنه دخل ثانية إلى العالم وألقى نفسه فيه من الباب الجانبي .
الشياطين تتلاشى بقوة النار الإلهية :
وكما أن القضبان التي تُلقى في النار لا تستطيع أن تقاوم قوة النار بل تحترق سريعاً، هكذا فإن الشياطين التي تسعى أن تحارب ضد إنسان نال قوة بالروح، فإنها تحترق وتتلاشى بقوة النار الإلهية إن كان الإنسان ملتصقاً بالرب كل حين واضعاً ثقته ورجاءه فيه. وحتى إن كان الشياطين أشداء كالجبال القوية، فإنهم يحترقون بالصلاة، كما يذوب الشمع في النار.
ولكن في نفس الوقت هناك نضال كبير وحرب عظيمة للنفس ضد الشياطين وهناك تنانين وأفواه أسود ونار مشتعلة في النفس.
فإن المنغمس في الشر تماماً الذي يسكر بروح الإثم، لا يشبع من الشر سواء كان قتلاً أو زنى، أما المسيحيون المُعمّدون بالروح القدس فليس لهم شركة مع الشر بالمرة.
ولكن أولئك الذين يختبرون النعمة ولكنهم مع ذلك يتهاونون مع الخطية فإن الخوف يسيطر عليهم فيعيشون حياتهم في اضطراب وقلق.
4 ـ لأنه كما أن التجار أثناء سفرهم في البحر حتى إذا وجدوا الريح موافقة والبحر هادئاً، ولكنهم لأنهم لم يصلوا بعد إلى الميناء فإنهم لا يزالون معرضين للخوف لئلا تهب فجأة ريح معاكسة، فتهيج البحر وترتفع الأمواج وتصبح السفينة في خطر، هكذا المسيحيون أيضاً حتى وإذا كان لهم في نفوسهم ريحاً موافقة من الروح القدس، إلاّ أنه يحترسون لئلا تثور عليهم روح القوة المضادة وتسبب الاضطرابات وتثير العواصف على نفوسهم.
الحاجة إلى السهر واليقظة :
لذلك، فهناك حاجة إلى سهر كثير ويقظة لكي ما نصل إلى ميناء الراحة في العالم الكامل، وإلى الحياة الدائمة والسعادة الأبدية إلى مدينة القديسين، أورشليم السماوية، إلى “كنيسة الأبكار” (عب23:12). فإذا لم يعبر الإنسان في هذه الدرجات فإنه يكون تحت تأثير الخوف من أن تسبب له القوى الشريرة سقوطاً في أي وقت من الأوقات.
حفظ الزرع الإلهي في القلب :
5 ـ وكما أن المرأة التي تحمل يكون الجنين في داخل بطنها في ظلام ومختفياً عن العيون، ولكن حينما يخرج الجنين في الميعاد المناسب من البطن فإنه يرى خليقة جديدة لم يكن قد رأها قبلاً، يرى السماء والأرض والشمس، ويبدأ الأصدقاء والأقرباء يأخذونه بين ذراعيهم بوجوه فرحة، ولكن إذا حدث شيء للجنين قبل ولادته حينئذ يتدخل الجراحون ويضطرون إلى استعمال الآلات الحادة حتى أن الطفل يعبر من موت إلى موت ومن ظلام إلى ظلام.
طبقوا هذا أيضاً على الحياة في الروح، فإن كل الذين نالوا الزرع الإلهي فإنهم ينالونه في الخفاء بطريقة غير منظورة، وبسبب الخطية الساكنة فيهم أيضاً فإنهم يخفون الزرع الإلهي في أماكن خفية في داخلهم. فإذا حفظوا نفوسهم وحفظوا الزرع الإلهي فإنهم في الوقت المناسب يُولدون ثانية بشكل منظور وبعد ذلك عند انحلال الجسد تستقبلهم الملائكة وكل الأرواح السماوية بوجوه فرحة. ولكن إن كان الإنسان بعد أن ينال أسلحة المسيح ليقاتل بشجاعة، يتكاسل ويهمل، فإنه يقع في أيدي الأعداء وعند انحلال الجسد يعبر من الظلمة التي تحيط به الان إلى ظلمة أردأ، وإلى الهلاك .
البستان والقلب :
6 ـ مثال آخر: بستان يحوى أشجاراً كثيرة مثمرة ونباتات أخرى ذات رائحة عطرة وهو مُنسق تنسيقاً حسناً وجميلاً، وله سور صغير ليحفظه، فإذا افترضنا أن نهراً متدفقاً بقربه، فإنه حتى لو كان الماء الذي يصدم السور قليلاً فإنه يُفسد الأساس شيئاً فشيئاً ويحفر له مجرى حتى ينهدم السور من أساسه فتدخل المياه وتفسد النباتات وتقتلعها وتشوه جمال البستان وتجعله بلا ثمر.
هكذا الحال أيضاً مع قلب الإنسان. فالقلب فيه أفكار صالحة، ولكن أنهار الشر تجري دائماً بالقرب من القلب وهى تسعى أن تشده إلى أسفل وتجتذبه إلى ناحيتها، فإذا مال العقل قليلاً إلى الطيش وإلى الأفكار النجسة، فإن أرواح الخطية تجد مكاناً فيه وتدخل وتفسد كل الجمال الذي كان للداخل وتمحو الأفكار الصالحة وتترك النفس خربة.
العين والقلب :
7 ـ وكما أن العين عضو صغير بالمقارنة بكل أعضاء الجسم، وإنسان العين صغير جداً إلاّ أنه عظيم للغاية، فإنه بنظرة واحدة يرى السماء والنجوم والشمس والقمر والمدن والمخلوقات الأخرى. وهذه المخلوقات نفسها التي تُرى بنظرة واحدة، إنما تتشكل وتتصور في إنسان العين الصغير. هكذا أيضاً العقل بالنسبة إلى القلب، فالقلب صغير ومع ذلك يوجد فيه تنانين وأسود ووحوش سامة وكل ينابيع الشر إلى جانب المهالك والطرقات الوعرة الخشنة، وفي نفس الوقت يوجد فيه الله نفسه، والملائكة والرسل، ويوجد فيه الحياة والملكوت والنور، كذلك المدن السماوية وكنوز النعمة كل هذه توجد فيه.
وكما أن السحابة إذا امتدت على العالم كله تجعل الإنسان لا يرى صاحبه، كذلك ظلمة هذا الدهر الممتدة على كل الخليقة وعلى كل الطبيعة البشرية منذ وقت العصيان، فإن البشر منذ ذلك الحين إذ ظلّلتهم الظلمة، صاروا في الليل، وهم يصرفون حياتهم حيث الخوف والرعب. وكما يخيّم الدخان الكثيف على غرفة البيت، هكذا هي الخطية مع أفكارها النجسة، فإنها تملك على أفكار القلب وتزحف فيها، ومعها شياطين بلا عدد.
سماع الكلمة ونوال نعمة الروح:
8 ـ وكما يحدث في الأمور المنظورة حولنا أنه في وقت الحرب، لا يذهب الحكماء والعظماء إلى الحرب، بل يذهب الرعاع والمساكين والأميون[1]، فإذا حدث أنهم انتصروا على الأعداء وطردوهم بعيداً عن الحدود فإنهم ينالوا مكافأت وترقيات وأكاليل من الملك. وأما أولئك العظماء فإنهم يتخلفون وراءهم.
هكذا هو الحال أيضأ في المجال الروحانى فإن البسطاء يسمعون الكلمة ويعملون بها عن حب للحق وشوق في قلوبهم، فينالون من الله نعمة الروح. وأما الحكماء الذين يسعون وراء بلاغة الكلام بلا حب للحق فإنهم يهربون من الحرب ولا يتقدمون، وبذلك يصيرون وراء أولئك الذين حاربوا وانتصروا.
9 ـ وكما أن الرياح عندما تهب بشدة، فإنها تهز كل المخلوقات التي تحت السماء وتصنع صوتاً عظيماً جداً، كذلك قوة العدو فإنها تهاجم الأفكار وتشوشها، وتهز أعماق القلب وتلقى في الفكر شكوكاً شريرة.
السعي في طلب النعمة :
وكما أنه يوجد مكاّسون[2] يجولون في الطرق الضيقة ويمسكون بالعابرين ويغتصبون منهم أموالهم، هكذا فإن الشياطين يتجسسون على النفوس ويحاولون أن يمسكوا بها. وعند خروج النفوس من الأجساد، فإنها إن لم تكن مُطهرة تماماً فإنهم لا يدعونها تصعد إلى منازل السماء لتلاقي الرب بل تسقطها شياطين الهواء إلى أسفل.
وأما إن كانت وهى في الجسد تسعى وتطلب من الرب نوال النعمة التي من الأعالي فإن هذه النفوس بلا شك تشترك مع أولئك الذين سبق أن دخلوا بسيرتهم الفاضلة، وتمضى معهم إلى الرب كما وعد هو قائلاً: ” حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي” (يو26:12). ويملكون إلى أبد الدهور مع الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى دهر الدهور آمين.
_______________________________________
[1] هكذا كان يحدث قديماً.
[2] محصلوا المكوس : أي الضرائب .
العظة الرابعة والأربعون
تغيير وتجديد الإنسان بالمسيح
التغيير والتجديد الذي يعمله المسيح في الإنسان المسيحي، وأن المسيح هو الذي يشفي أوجاع النفس وأمراضها.
ضرورة التغيير :
1 ـ إن من يأتي إلى الله، ويرغب أن يكون بالحق شريكاً للمسيح ينبغي أن يأتي واضعاً في نفسه هذا الغرض: ألا وهو أن يتغير ويتحوّل من حالته القديمة وسلوكه السابق، ويصير إنساناً صالحاً جديداً ولا يتمسك بشيء من الإنسان العتيق. لأن الرسول يقول ” إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو17:5) وهذا هو نفس الغرض الذي من أجله جاء ربنا يسوع، أن يغيّر الطبيعة البشرية ويحوّلها ويجدّدها ويخلق النفس خلقة جديدة، النفس التي كانت قد انتكست بالشهوات بواسطة التعدي. وقد جاء المسيح لكي يوّحد الطبيعة البشرية بروحه الخاص، أي روح الله، وهو قد أتى لكي يصنع عقلاً جديداً، ونفساً جديدة، وعيوناً جديدة، وآذاناً جديدة، ولساناً جديداً روحياً، وبالاختصار أناساً جدداً كلية ـ هذا هو ما جاء لكي يعمله في أولئك الذين يؤمنون به. إنه يصيرهم أواني جديدة، إذ يمسحهم بنور معرفته الإلهي، لكي يصب فيهم الخمر الجديد، الذي هي روحه، لأنه يقول إن ” الخمر الجديدة ينبغي أن تُوضع في زقاق جديدة” (مت17:9).
قوة المسيح على تغيير الإنسان وشفائه :
2ـ وكما أن العدو لما أخضع الإنسان لسيادته غيّره لحسابه الخاص إذ ألبسه الشهوات الشريرة وغطاه بها، ومسحه بروح الخطية، وصب فيه خمر الإثم والتعليم الشرير، هكذا فإن الرب أيضاً إذ قد افتدى الإنسان وأنقذه من العدو، فقد جعله جديداً، ومسحه بروحه، وسكب فيه خمر الحياة، والتعليم الجديد: تعليم الروح، لأن الذي غيّر طبيعة الخمس خبزات وصيرها إلى خبزات تكفي لجمع كثير ، والذي أعطى نطقاً لطبيعة الحمار غير العاقل، والذي غيّر الزانية إلى العفة والطهارة، وجعل طبيعة النار المحرقة برداً على أولئك الذين كانوا في الأتون، والذي غيّر طبيعة الأسد الكاسرة لأجل دانيال، فإنه يستطيع أيضاً أن يغيّر النفس التي كانت مقفرة وشرسة، من الخطية إلى صلاحه الخاص ومحبته الشفوقة وسلامه، وذلك ” بالروح القدس الصالح (روح الموعد)” (أف13:1).
3 ـ وكما أن راعى الخراف يستطيع أن يشفي الخروف الأجرب ويحميه من الذئاب، كذلك المسيح الراعي الحقيقي فإنه لما أتى أستطاع هو وحده أن يغيّر ويشفي الخروف الضال الأجرب، أي الإنسان من جرب الخطية وبرصها، لأن الكهنة واللاويين ومعلمي الناموس السابقين كانوا غير قادرين أن يشفوا النفس بواسطة تقديم القرابين والذبائح ورش دماء الحيوانات، بل لم يستطيعوا بواسطتها أن يشفوا حتى نفوسهم. فإنهم كانوا محاطين بالضعف. وكما هو مكتوب ” لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا” (عب4:10).
الطبيب الحقيقي والراعي الصالح :
ولكن الرب يقول مُظهراً ضعف وعقم أطباء ذلك العهد فقال لهم ” على كل حال تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب أشفِ نفسك” (لو23:4) ، فكأنه يقول لهم ـ أنا لست مثل هؤلاء الأطباء الذين لا يستطيعون أن يُشفوا نفوسهم. بل ” أنا هو الطبيب الحقيقي والراعي الصالح، الذي يبذل نفسه عن الخراف” (يو11:10)، وأنا أقدر أن أشفي ” كل مرض وكل ضعف في النفس” (مت23:4). أنا هو الحمل الذي بلا عيب، الذي قُدم مرة، وأنا أستطيع أن أشفي أولئك الذين يأتون إلى، إن شفاء النفس الحقيقي إنما هو من الرب وحده كما قال يوحنا المعمدان ” هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو29:1)، أي خطية الشخص الذي يؤمن به ويضع رجاءه فيه ويحبه من كل قلبه.
4 ـ فالراعي الصالح إذن، يشفي الخروف الأجرب. وأما الخروف فلا يستطيع أن يشفي خروفاً مثله. والإنسان ـ أي الخروف العاقل ـ إن لم يحصل على الشفاء، فلا يكون له دخول إلى كنيسة الرب السماوية. وهذا ما قد قيل حتى في الناموس كظل ومثال (لعهد النعمة) بخصوص الأبرص، والرجل الذي فيه عيب. وبهذا المعنى يتكلم الروح رمزياً أن كل أبرص وكل رجل فيه عيب لا يدخل في جماعة الرب (لا17:21ـ23 عد2:5). ولكنه أمر الأبرص أن يذهب إلى الكاهن، ويطلب إليه بإلحاح كثير أن يأخذه إلى الخيمة، وأن يضع يديه على البرص، موضحاً البقعة المُصابة بالمرض، وأن يشفيه.
الشفاء من الخطية ودخول الكنيسة السماوية :
وهكذا بنفس الطريقة فإن المسيح ” رئيس الكهنة الحقيقي للخيرات العتيدة” (عب11:9) تواضع وانحنى على النفوس المصابة ببرص الخطية وهو يدخل إلى خيمة جسدها ويشفيها ويبرءها من أمراضها. وهكذا بهذه الطريقة يتمكن الشخص من الدخول إلى كنيسة القديسين السماوية أي إسرائيل الحقيقي.
فإن كل نفس مصابة ببرص خطية الشهوات، ولم تأتِ إلى رئيس الكهنة الحقيقي، ولم تشفِ الآن في خيمة القديسين ومجمعهم، فإنها لا تستطيع أن تدخل إلى الكنيسة السماوية. لأن تلك الكنيسة إذ هي طاهرة وبلا عيب فإنها تطلب النفوس الطاهرة والتي بلا عيب. كما يقول الكتاب ” طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت9:5).
5 ـ فينبغي على الشخص الذي يؤمن بالمسيح حقيقة، أن يتغيّر من حالته الفاسدة الحاضرة إلى حالة جديدة، حالة الصلاح، ويتحوّل من طبيعته الوضيعة الحاضرة إلى طبيعة أخرى، أي طبيعة القداسة الإلهية، ويتجدد بقوة الروح القدس. وهكذا يكون لائقاً للملكوت السماوي.
ويمكننا الحصول على هذه الأشياء إن كنا نؤمن به ونحبه بالحق ونحيا سالكين بحسب جميع وصاياه.
فإن كان الخشب ـ وهو من طبيعة خفيفة عندما أُلقى في الماء في زمن إليشع قد أخرج الحديد الثقيل، فكم بالحري جداً عندما يرسل الرب نوره اللطيف الصالح، وروحه السماوي، فإنه بهذا يُخرج النفس التي غرقت في مياه الشر ويجعلها خفيفة ويعطيها جناحين لتطير إلى أعالي السماء، ويحوّلها ويغيّرها عن طبيعتها الخاصة.
6 ـ وفي العالم المنظور لا يستطيع أحد أن يعبر البحر بنفسه دون أن تكون له سفينة خفيفة مصنوعة من الخشب، وهى التي تستطيع أن تسير على المياه ـ فإن أي إنسان يحاول أن يمشى على البحر بقدميه فإنه يغرق ويهلك.
وبنفس الطريقة لا تستطيع أي نفس أن تعبر بذاتها بحر الخطية المُر والهاوية الخطرة، هاوية قوات الظلمة وأهواء الشر، إن لم تحصل على روح المسيح الخفيف السماوي الذي يعلو ويسير فوق كل شر ويعبر عليه، فبواسطة هذا الروح يستطيع الإنسان أن يصل بطريق مباشر ومستقيم إلى ميناء الراحة السماوية، إلى مدينة الملكوت.
وكما أن أولئك الذين يكونون في السفينة لا يأخذون مياهاً للشرب من البحر، ولا يحصلون منه على ملابس، وطعام لهم، بل يُحضرون كل هذه الأشياء معهم إلى السفينة، هكذا فإن نفوس المسيحيين لا تستمد طعامها من هذا العالم بل من فوق، من السماء. إذ تنال قوتاً سماوياً ولباساً روحياً وهكذا إذ ينالون الحياة من فوق وهم في سفينة الروح الصالح، معطى الحياة، فإنهم يرتفعون فوق قوات الشر المعادية أي الرياسات والسلاطين. وكما أن جميع السفن تُبنى من مادة واحدة، هي مادة الخشب التي بواسطتها يستطيع الناس أن يعبروا البحر، هكذا فمن النور الإلهى السماوي الواحد يحصل المسيحيون على القوة التي بها يرتفعون فوق كل الشرور.
المسيح قائد النفس ومعينها :
7 ـ ولكن كما أن السفينة تحتاج إلى ربان، وإلى ريح حسنة معتدلة أيضاً لكي تمخر البحر بنجاح، هكذا فإن الرب نفسه يسد كل هذه الاحتياجات للنفس الأمينة. ويحملها فوق العواصف العميقة وأمواج الشر المفترسة وقوات رياح الخطية العاتية.
وهو يفعل هذا باقتدار ومهارة وحكمة إذ يعرف كيف يُهدئ العواصف. لأنه بدون المسيح القائد السماوي لا يستطيع احد أن يعبر البحر الشرير، بحر قوات الظلمة وأمواج التجارب المرة. كما هو مكتوب ” يصعدون إلى السموات ويهبطون إلى الأعماق” (مز26:107). ولكن المسيح له معرفة كاملة كقائد سواء من جهة الحروب أو التجارب. وهو يعبر بالنفس فوق الأمواج الشديدة، كما هو مكتوب ” لأنه فيما قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين” (عب18:2).
صلاح الرب وقدرته على التغيير :
8 ـ لذلك ينبغي أن تتغير نفوسنا وتتحوّل من حالتها الحاضرة إلى حالة أخرى ـ إلى حالة قداسة إلهية وتصير خليقة جديدة بدلاً من العتيقة أي تصير صالحة شفوقة وأمينة بدلاً من كونها في المرارة وعدم الإيمان. وهكذا إذ تصير مناسبة ولائقة فإنها تعود وتسكن في الملكوت السماوي. لأن بولس المغبوط يكتب هكذا عن تغييره الذي به أدركه المسيح قائلاً: ” ولكني أسعى لكي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع” (في12:3).
فكيف أدركه الله إذن؟ إن ذلك يحدث مثلاً حينما يمسك طاغية بمجموعة من الأسرى ويسوقهم قدامه ثم بعد ذلك يدركهم الملك الحقيقي ويخلّصهم منه، وهكذا حينما كان بولس تحت سيادة وتأثير روح الخطية الظالم، فإنه كان يضطهد الكنيسة ويتلفها. ولكن لأنه كان يفعل هذا عن غيرة لله ولكن بجهل، فإنه كان يظن أنه يجاهد لأجل الحق، ولهذا فإن الله لم يهمله بل أدركه، إذ أضاء حوله الملك السماوي الحقيقي بصورة تفوق الوصف وأنعم عليه بأن يسمع صوته، ولطمه كعبد[1] وأطلقه حراً. فأنظر إلى صلاح السيد وقدرته على التغيير، وكيف يستطيع أن يغير النفوس التي كانت مُغلّفة ومقيدة بالخطية والتي تحولت إلى حالة متوحشة وفي لحظة من الزمان يحوّلها إلى صلاحه وسلامه.
تغيير وتجديد نفوسنا هو الغرض من مجيء المسيح في الجسد :
9 ـ إن كل شيء مستطاع لدى الله! كما حدث في حالة اللص على الصليب. ففي لحظة تغيّر بالإيمان وتحوّل وأُعطىّ أن يدخل إلى الفردوس. وأن الغرض والهدف من مجيء الرب إلينا في الجسد، هو أن يغيّر نفوسنا ويخلقها خلقة جديدة، ويجعلنا ” شركاء الطبيعة الإلهية” كما هو مكتوب (2بط4:1) وأن يعطي لأرواحنا روحاً سماوية، أي الروح الإلهي، قائداً إيانا إلى كل فضيلة لنستطيع أن نحيا الحياة الأبدية.
نوال تقديس الروح :
لذلك فلنؤمن بكل قلوبنا بمواعيده الفائقة الوصف لأن ” الذي وعد هو أمين” (عب23:10). لذلك، ينبغي أن نحب الرب ونجتهد أن نحيا في كل فضلية ونطلب بلا انقطاع ونصلى باستمرار لكي ننال موعد روحه تماماً وبصورة كاملة، لكيما تدخل نفوسنا إلى الحياة وتوجد فيها ونحن لا نزال في الجسد.
لأنه إن لم ينل الإنسان وهو في هذا العالم، تقديس الروح بكثرة الإيمان والصلاة، ويصير “مشتركاً” في الطبيعة الإلهية، ويتشرّب النعمة، التي بها يستطيع أن يتمم كل وصية بنقاوة وبلا لوم فإنه لا يكون مُعداً ولائقاً لملكوت السموات. لأن كل صلاح يحصل عليه الإنسان هنا في هذا العالم هو نفسه سيكون له حياة يحيا بها، في ذلك اليوم بنعمة الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.
________________________________________
[1]لعل في هذا إشارة إلى العادة التي كانت عند اليهود إذ كانوا يضربون العبد على وجهه كعلامة على إعطائه الحرية
العظة الخامسة والأربعون
حضور المسيح وحده يخلص الإنسان ويشفيه
لا يستطيع العلم ولا يستطيع غنى هذا العالم أن يشفي نفس الإنسان بل حضور المسيح فقط هو الذي يشفيه، وفي هذه العظة شرح لقرابة الإنسان العظيمة لله.
1ـ إن الذي اختار حياة العزلة، ينبغي أن يعتبر أن جميع الأشياء الخاصة بهذا العالم، أجنبية وغريبة عنه، فالذي يتبع صليب المسيح حقاً فإنه بعد أن ينكر كل الأشياء حتى نفسه أيضاً (لو26:14) ينبغي أن يسمّر عقله في حب المسيح، فيفضّل الرب على الوالدين والأخوة والزوجة والأولاد والأقرباء والأصدقاء والممتلكات لأن هذا ما علّم به الرب حينما قال: ” كل من لا يترك أباه أو أمه أو أخوته أو زوجته أو أولاده أو حقوله ويتبعني فلا يستحقني” (انظر مت37:10، لو26:14، مت29:19). فليس بأحد غيره أو بشيء غيره الخلاص والسلام للناس كما سمعنا.
التغيير الذي أصاب النفس بالسقوط :
فكم من ملوك ظهروا من نسل آدم وملكوا على الأرض كلها وظنوا في أنفسهم شيئاً عظيماً بسبب سلطانهم الملوكي، ومع ذلك لم يستطيع أي واحد منهم رغم كل ما له من سلطان أن يكشف الشر الذي تغلغل في النفس بسبب معصية الإنسان حتى جعلها مظلمة تماماً.
إنهم لم يعرفوا خطورة التغيير الذي أصاب النفس، وكيف أن العقل كان في الأصل نقياً، وكان في كرامة عظيمة إذ كان يتأمل إلهه دائماً، وأما الآن فبسبب السقوط فقد اكتست النفس بالعار وعميت عينا القلب حتى لم تعودا تنظرا ذلك المجد الذي كان ينظره أبونا آدم قبل معصيته.
العلم والحكمة لا تخلّص الإنسان :
2 ـ وكان في العالم أيضاً حكماء كثيرون بعضهم برزوا في الفلسفة وآخرون في السفسطة والمغالطة وآخرون في الفصاحة والبلاغة, وآخرون أحرزوا ثقافة عالية، والبعض الآخر نبغوا في الشعر وغيرهم كتبوا في التاريخ والقصص، كما أن هناك أيضاً كثيرون من أصحاب الحِرف الذين مارسوا فنون صنائعهم المختلفة فالبعض يحفرون على الأخشاب كل أنواع الطيور والأسماك وأشكال البشر. وفي هذا المجال اجتهدوا أن يُظهروا مهارتهم. والبعض الآخر رسموا صوراً أو نحتوا تماثيلاً من النحاس وغيره، وآخرون أقاموا أبنية عظيمة وجميلة. وآخرون حفروا الأرض واستخرجوا منها الفضة والذهب وغيرها من الأحجار الكريمة الفانية. وآخرون كان لهم جمال جسدي ويفتخرون بجمال وجوههم وقد خدعهم الشيطان بالأكثر وأسقطهم في الخطية. وكل هؤلاء الذين تكلّمنا عنهم إذ قد أَسَرتهم الحيّة الساكنة في داخلهم، وإذ لم يعرفوا الخطية الساكنة فيهم، صاروا عبيداً لقوة الشر ولم ينفعهم عملهم أو فنهم أو مهارتهم شيئاً.
3ـ لذلك، فالعالم المملوء بكل الأنواع، إنما يشبه رجلاً غنياً يملك بيوتاً عظيمة فاخرة، ويملك ذهباً وفضة وممتلكات كثيرة وعنده خدام كثيرون، ولكنه مضروب بآلام وأمراض صعبة. هذا رغم غناه ورغم التفاف جميع أفراد أسرته حوله، فإنهم لا يستطيعون أن يريحوه من آلامه وأوجاعه.
حضور المسيح وحده يطهّر النفس والجسد :
إذن، فلا يوجد شيء في هذه الحياة، لا الاخوة، ولا الغنى، ولا القوة، ولا أي شيء مما ذكرناه سابقاً يستطيع أن يشفي الإنسان من الخطية التي غرق فيها، حتى صار غير قادر أن يرى الأشياء بوضوح بل إن حضور المسيح وحده هو الذي يستطيع أن يطهر النفس والجسد. لذلك فلنطرح جانباً كل هموم هذه الحياة ونصرخ إلى الرب ليلاً ونهاراً مكرّسين نفوسنا له. إن هذا العالم المنظور وما فيه من ملذات إنما تُرضى الجسد فقط، ولكنها تزيد أتعاب النفس وأمراضها وتكثر آلامها.
4 ـ كان هناك إنسان حكيم أراد أن يسعى بكل جهده ليختبر كل أمور هذا العالم لعله يجد فيها منفعة أو فائدة. فذهب إلى الملوك وأصحاب السلطان والحكام ولم يجد خلاصاً ولا شفاءً لنفسه بعد أن أمضى معهم زمناً طويلاً، في النهاية لم ينتفع شيئاً ـ فمضى إلى حكماء العالم وفلاسفته، وذهب إلى الخطباء ولكنه تركهم أيضاً إذ لم يجد لديهم ما ينتفع به. ثم واصل سعيه فوصل إلى الرسامين والذين يستخرجون الذهب والفضة من بطن الأرض وإلى أصحاب الحرف الفنية لكنه لم يجد أيضاً عند كل هؤلاء ما يشفي نفسه الجريحة .
وأخيراً ترك هؤلاء جميعاً وبدأ يطلب الله نفسه، الله الذي يشفي آلام النفس وأمراضها. وبينما هو يفكر في نفسه ويتأمل في تلك الأمور عبرت في مخيلته أشياء كثيرة.
5 ـ ولنأخذ مثلاً آخر: إذا كانت هناك امرأة غنية تملك أموالاً كثيرة وبيتاً فاخراً ولكنها مع ذلك لا تجد من يحميها، فهناك كثيرون يهاجمونها راغبين أن يلحقوا بها الأذى والخراب، فلأنها لا تستطيع أن تقبل هذا الأذى والهجوم فهي لذلك تبحث عن زوج قوى يكون كفواً لهذا الغرض ومتدرباً من جميع الوجوه. وحينما تجد مثل هذا الرجل بعد سعى كثير، فإنها تفرح به فرحاً عظيماً وتجد فيه حصناً يحميها.
قرابة النفس لله :
هكذا النفس البشرية فإنها بعد السقوط قد جُرحت كثيراً ولفترة طويلة من القوة المعادية وصارت في خراب عظيم وأصبحت ” أرملة ووحيدة” (1تى5:5)، متروكة من العريس السماوي بسبب تعديها الوصية وصارت ألعوبة في يد كل القوات الشريرة (إذ أنهم جردوها وأخرجوها عن عقلها وضلّلوها عن المعرفة الروحية الحقيقية، حتى لا ترى أو تدرك ما فعلوه بها بل جعلوها تظن أنها قد خُلقت على هذا الحال منذ البداية). وبعد ذلك حينما سمعت كلمة الله وأدركت غربتها عن الله وكيف أنها صارت مرذولة بسبب سقوطها بدأت تئن وتتوسل أمام الله محب البشر فوجدت الحياة والخلاص. لماذا؟ لأنها رجعت ثانية إلى مصدرها الأصلي. فلا توجد قرابة أو رابطة مثل قرابة النفس لله أو قرابة الله للنفس.
لقد صنع الله أنواعاً مختلفة من الطيور ـ بعضها يبنى عشه ويحصل على قوته من الأرض. وطيور أخرى تأخذ قوتها من تحت الماء. وقد صنع أيضاً عالمين، واحد علوى لأرواح الملائكة الخادمة (عب14:1)، وحدّد لهم فيه نظام حياتهم، وآخر سفلى للبشر على هذه الأرض تحت هذا الهواء الذي نتنفسه.
الله سُرّ بالإنسان وحده :
لقد خلق الله أيضاً السماء والأرض، والشمس والقمر، والمياه والأشجار المثمرة وكل أنواع الكائنات الحية وأجناسها. ولكنه لا يجد راحته في أي من هذه المخلوقات. إنه يحكم كل الخليقة، ولكنه لم يثبّت عرشه فيها ولا دخل في شركة معها. بل إن الله قد سُرّ بالإنسان وحده ودخل في شركة معه وفيه وحده استراح.
النفس لا تجد راحتها إلاّ في الرب :
انظر إذن كم هي قرابة الله للإنسان وقرابة الإنسان لله!. لذلك فإن النفس الحكيمة بعد مرورها على جميع المخلوقات لا تجد راحة لنفسها، إلاّ في الرب وحده والرب أيضاً لا يُسرّ بأحد سوى الإنسان وحده.
6ـ فإذا رفعت عينيك نحو الشمس، فإنك تجد دائرتها في السماء ولكنها ترسل نورها واشعتها إلى الأرض، وتوجه كل قوة النور وبهائه إليها. هكذا الرب أيضاً فإنه يجلس عن يمين الآب ” فوق كل رياسة وسلطان” (أف21:1) ولكنه يمد بصره وينظر إلى قلوب الناس على الأرض، لكي يرفع إليه الذين يترجون نعمته وعونه. ولهذا فهو يقول: ” حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي” (يو20:12)، وأيضاً بولس يقول: ” أقامنا معه وأجلسنا معه عن يمينه في السمويات” (أف6:2).
إن الحيوانات غير العاقلة هي أحكم منا إذ أن كل منها ملازم لطبيعته الخاصة، فالحيوانات المتوحشة تلازم الطبع الوحشي، والخراف تلازم طبيعتها، وأما أنت فإنك لا ترتفع إلى أصلك السماوي الذي هو الرب نفسه، بل تسلم نفسك لأفكار الشر وترضى بها في داخلك، وبذلك تجعل نفسك حليفاً للخطية وتحارب إلى جانبها ضد نفسك. وهكذا تصير فريسة للعدو مثل الطير الصغير الذي يمسكه النسر ويأكله، أو مثل الخروف حينما يمسكه الذئب أو مثل الطفل الجاهل الذي يمد يده للحيّة فتلدغه وتقتله. كل هذه الأمثلة إنما توضح ما يحدث في الحياة الروحانية.
الشركة الكاملة مع العريس السماوي هي الهدف :
7 ـ إن العذراء المخطوبة لرجل تقبل منه هدايا كثيرة قبل الزواج: جواهر وملابس وأواني ثمينة، ولكنها لا تقتنع ولا ترضى بكل هذه الهدايا إلى أن يأتى يوم العرس الذي فيه تصير واحداً معه، كذلك أيضاً، النفس المخطوبة كعروس للعريس السماوي فإنها تنال منه كعربون من الروح مواهب شفاء أو معرفة أو إعلانات. ولكنها لا تقنع بهذه العطايا بل تترّجى الوصول إلى الشركة الكاملة معه والاتحاد به، أي إلى المحبة التي لا تتغير ولا تسقط أبداً بل تحرر طالبيها من الشهوات والقلق والتشويش.
والطفل الصغير الذي يزينونه بجواهر وملابس ثمينة فإنه حينما يجوع لا يفكر في شيء مما يلبسه، بل يتجاهل كل هذه الزينة ويهتم فقط بالوصول إلى ثدي مرضعته ليحصل منها على اللبن. وعلى هذا المثال يمكنك أن تقيس مواهب الله الروحانية، الذي له المجد إلى الأبد آمين
العظة السادسة والأربعون
أولاد الله وأولاد العالم
الفرق بين كلمة الله وكلمة العالم ، وبين أولاد الله وأولاد هذا العالم.
كل مولود يشبه من ولده :
1 ـ كلمة الله هي الله، وكلمة العالم هي العالم. ويوجد فرق عظيم وبون شاسع بين كلمة الله وكلمة العالم، وبين أولاد الله وأولاد العالم. فإن كل مولود يشبه والديه. لذلك فإن كان المولود من الروح يختار أن يعطى نفسه لكلمة العالم وللأمور الأرضية ولمجد هذا العالم الحاضر، فإنه يموت ويهلك، إذ أنه لا يجد ما يشبعه شبعاً حقيقياً في الحياة. لأن ما يشبعه إنما هو من الروح الذي منه وُلد. كما يقول الرب إن من تحاصره هموم هذه الحياة وتربطه الرباطات الأرضية، ” يختنق ويصير بلا ثمر لكلمة الله” (مر19:4).
وبنفس الطريقة فإن الإنسان العالمي الذي تمتلكه الرغبات الجسدية، إذا حدث أنه سمع كلمة الله فإنه يختنق ويصير كمن لا عقل له. وذلك لأنه اعتاد على خداعات الخطية. فحينما يحدث أن يسمع مثل هذا الإنسان عن الله فإنه يحس بثقل شديد وينفر من كلام الله كأنه حديث سخيف متعب. وكأنه قد أُصيب بمرض نتيجة هذا الكلام الإلهي.
2 ـ ويقول الرسول بولس ” الإنسان الطبيعي لا يقبل الأشياء التي للروح لأنها عنده جهالة” (1كو14:2) ويقول النبي ” وكان قول الرب لهم كالقئ”[1] ، وهكذا ترى أنه من المستحيل أن يحيا أي إنسان إلاّ بحسب الكلمة التي وُلد منها.
ويمكن أن نشرح هذا بطريقة أخرى. فإذا قرر الإنسان الجسداني أن يتغير فإنه أولاً يموت عن الأمور الجسدية ويصير بلا ثمر في الأشياء التي كان يعيش فيها قبلاً في الشر. ولكن كما يحدث في حالة الإنسان الذي يُصاب بمرض أو بحمى، رغم أن جسده يكون مطروحاً على الفراش، عاجزاً عن ممارسة أي عمل من أعمال الأرض، إلاّ أن عقله لا يكون في راحة بل يذهب هنا وهناك مهتماً ومفكراً في إشغاله، أو في التفكير في استدعاء الطبيب أو في إرسال أصدقائه لإحضاره. وهكذا بنفس الطريقة، فإن النفس التي مرضت بالأهواء بسبب تعديها للوصية، وأصبحت في حالة عجز، فإنها تستطيع أن تأتى إلى الرب وتؤمن به فتنال نعمته وتحصل على معونته. وإذ تجحد سيرتها الأولى الشريرة، حتى وإن كانت لا تزال ضعفاتها القديمة باقية فيها، ولازالت غير قادرة على أن تتمّم أعمال الحياة الروحية، إلاّ أنها تكون منشغلة باهتمام بالحياة في الرب، وتصلي إلى الرب وتطلب الطبيب الحقيقي.
محبة الله وحنانه نحو الإنسان :
3 ـ إن الأمر ليس كما يقول بعض الذين ضلوا بتأثير تعاليم فاسدة مدعين أن الإنسان قد مات موتاً كاملاً ومطلقاً، وأنه لا يستطيع أن يتمّم أي شيء من الصلاح، ولكننا نقول لهم، إن الطفل الرضيع رغم أنه عاجز عن أن يتمّم أي شيء، ولا يستطيع أن يمشى على قدميه ليذهب إلى أمه، إلاّ أنه يصنع أصواتاً ويبكى ويحبو طالباً أمه. والأم تحنّ إليه وتفرح أن الطفل يبحث عنها بأنين وبكاء، ورغم أن الطفل لا يستطيع أن يأتي إليها، ولكن بسبب بحث الطفل المتلهف عنها، فإنها تأتى هي نفسها إليه مغلوبة بالحنان والحب لطفلها. وتأخذه بين ذراعيها وتحتضنه وتغذيه بحب عظيم وحنان كبير. وبنفس الطريقة فإن الله محب البشر في حنانه نحو الإنسان، يفعل هكذا مع النفس التي تأتى إليه وتطلبه باشتياق. ولأنه يكون مدفوعاً بالمحبة، من ذاته، وبالصلاح الطبيعي الخاص به، إذ هو الكلى الصلاح، فإنه يلتصق بتلك النفس ويصير معها “روحاً واحداً” كما يقول الرسول (1كو17:6).
النفس والرب يصيران روحاً واحداً :
وحينما تلتصق النفس بالرب، ويعطف عليها الرب ويحبها ويأتى إليها ويلتصق بها، وتكون نية الإنسان وقصده أن يستمر بلا انقطاع أميناً لنعمة الرب، فإن الرب والنفس يصيران “روحاً واحداً” و‘حساساً واحداً وعقلاً واحداً، وبينما يكون جسدها مطروحاً على الأرض فإن العقل يكون بكليته في أورشليم السماوية مرتفعاً إلى السماء الثالثة، ويلتصق بالرب ويخدمه هناك.
4ـ وبينما يكون الله جالساً في عرش العظمة في الأعالى في المدينة السماوية، فهو يكون بكليته في شركة مع النفس وهى في الجسد الخاص بها. لقد وضع صورة النفس فوق في أورشليم، المدينة السماوية ـ مدينة القديسين، وفي نفس الوقت وضع صورته الخاصة أي صورة نوره الإلهى الفائق الوصف ـ في جسدها. وهو يخدمها في مدينة جسدها، بينما هي تخدمه في المدينة السماوية. لقد صارت وارثة له في السماء وصار هو وارثها على الأرض. فالرب يصير ميراثاً للنفس وتصير النفس ميراثاً للرب.
فإن كان قلب الخطاة الذين في الظلمة أو عقلهم يستطيع أن يمضى بعيداً عن الجسد ويستطيع أن يتجول في أمكنة بعيدة، وفي لحظة يسافر إلى أقطار بعيدة، وأحياناً بينما يكون الجسد مُلقى على الأرض، يكون العقل (سارحاً) في بلاد أخرى مع صديق يحبه، ويرى نفسه كأنه يعيش هناك معه، فأقول إن كانت نفس الخاطئ هكذا خفيفة ونشيطة حتى أن عقلها لا يحجزه بُعد المسافات، فكم بالأولى جداً تكون النفس التي نزع الرب عنها حجاب الظلمة بقوة الروح القدس وقد استنارت عيونها العقلية بالنور السماوي، وقد أُعتقت تماماً من شهوات الخزي، وصارت طاهرة بالنعمة، فإنها تخدم الرب كلّية في السماء بالروح، وتخدمه كلية في الجسد، وتتسع في أفكارها حسبما يريد لها الرب وحيثما يريد لها أن تخدمه.
5 ـ فهذا ما يقوله الرسول ” لكي تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف19،18:3). فتأمل في الأسرار الفائقة الوصف، التي لتلك النفس التي ينزع الرب عنها الظلمة المحيطة بها، ويكشف عن عينيها ويظهر لها ذاته أيضاً، وكيف يمد ويوسّع أفكار عقلها إلى الأعراض والأطوال والأعماق والارتفاعات التي في الخليقة المنظورة وغير المنظورة.
الرب صنع النفس لكي يصيّرها عروساً له :
فالنفس هي حقاً صنيع إلهى عظيم مملوء عجباً. وحين صنعها الرب، صنعها من طبيعة ليس فيها شر، بل صنعها على صورة فضائل الروح (القدس). ووضع فيها قوانين الفضائل والبصيرة، والمعرفة والفطنة، والإيمان، والمحبة والفضائل الأخرى بحسب صورة الروح.
6 ـ وإلى الآن فإن الرب يمكن أن يأتي إليها ويكشف لها ذاته بالمعرفة والفطنة والمحبة والإيمان. وقد وضع فيها فهماً وملكات فكرية، ومشيئة وعقلاً مدبراً. وقد جعلها أيضاً لطيفة جداً وصيّرها خفيفة متحركة وغير خاضعة للتعب. ووهبها القدرة على المجيء والذهاب في لحظة، وأن تخدمه في أفكارها حيثما يشاء الروح. وبالإجمال فإنه خلقها لكي يصيّرها عروساً له وتدخل في شركة معه، لكيما يلتصق بها ويصير ” روحاً واحداً” معها كما يقول الرسول ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو17:6) الذي له المجد إلى الأبد أمين.
________________________________________
[1] الإشارة إلى إش13:28 بحسب إحدى المخطوطات القديمة العروفة بنسخة ثيوديتون .
العظة السابعة والأربعون
الرمز والحقيقة
تفسير رمزي للأشياء التي كانت تُصنع تحت الناموس.
المجد على وجه موسى :
1ـ إن المجد الذي ظهر على وجه موسى كان رمزاً للمجد الحقيقي وكما أن اليهود لم يستطيعوا ” أن ينظروا إلى وجه موسى” (انظر 2كو7:3)، هكذا فإن المسيحيين يحصلون على مجد النور في داخل نفوسهم، أما الظلمة ـ إذ لا تحتمل لمعان النور ـ تضمحل وتهرب.
الختان وتطهّيرات الجسد :
وأولئك القدماء كانوا يُعرفون أنهم شعب الله بواسطة علامة الختان الظاهر. وأما هنا الآن فإن شعب الله ينالون علامة الختان في قلوبهم من الداخل. لأن السكين السماوية تقطع الجزء الزائد من العقل، أي غلفة الخطية النجسة. وفي القديم كانت لهم معمودية لتطهير الجسد. أما عندنا نحن فتوجد معمودية الروح القدس والنار. فهذا هو ما كرز به يوحنا ” هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (مت11:3).
مسكن خارجي وآخر داخلي :
2 ـ وفي القديم كان هناك مسكن خارجي وآخر داخلي. “وكان الكهنة يدخلون إلى المسكن الأول كل حين صانعين الخدمة. وأما إلى الثاني فرئيس الكهنة فقط مرة واحدة في السنة، بالدم، معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يكن قد أُظهر بعد” (عب6:9ـ8). وأما هنا من الجهة الأخرى، فإن الذين يُحسبون أهلاً لذلك هم الذين يدخلون إلى ” المسكن غير المصنوع بيد، حيث دخل المسيح كسابق لأجلنا” (عب20:6).
العصفوران :
إنه مكتوب في الناموس أن الكاهن يأخذ عصفورين ويذبح أحدهما ويرش العصفور الحى بدم المذبوح، ويطلق الحى ليطير حراً (انظر4:14ـ7). ولكن هذا الذي كان يُصنع قديماً إنما هو رمز “وظل” للحق، لأن المسيح قد ذُبح، وبدمه المرشوش علينا جعل لنا أجنحة، فإنه أعطانا أجنحة روحه القدوس، لكيما نطير في الجو الإلهى بلا عائق.
الناموس المكتوب على ألواح حجر :
3 ـ وفي العهد القديم أُعطى لهم الناموس مكتوباً على ألواح من حجر، وأما لنا نحن فالقوانين الروحانية ” مكتوبة على ألواح قلب لحمية” (2كو3:3)، لأنه مكتوب: ” أجعل نواميسى في قلوبهم، وأكتبها في أذهانهم” (عب16:10). وتلك الأشياء كلها كانت إلى وقت معين وقد تلاشت، وأما الآن (في العهد الجديد) فكل شيءيتم بالحق في الإنسان الباطن. فالعهد موجود في الداخل والمعركة أيضاً في الداخل، وبالإجمال ” فإن كل الأشياء التي حدثت لهم، إنما كانت مثالاً، وكُتبت لإنذارنا” (1كو11:10).
عبودية مصر :
لقد أنبأ الله إبراهيم بما سيحدث قائلاً: ” أعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم ويُستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة” (تك13:15)، وقد تحققت هذه النبوءة تماماً. لأن الشعب تغرّب واستُعبد للمصريين الذين “مرروا حياتهم في الطين واللبن” (خر 14:1). وقد جعل فرعون عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم ويسوقوهم قسراً. وحينما تنهد بنو إسرائيل إلى الله من العبودية (خر23:2) فإن الله نظر إليهم وافتقدهم بواسطة موسى (خر25:2). وبعد أن ضرب المصريين ضربات كثيرة، أخرج بنى إسرائيل من مصر في شهر الزهور عند بزوغ فصل البهجة أي فصل الربيع وبعد انتهاء ظلمة الشتاء.
دم الحمل على الأبواب :
4 ـ وقد أمر الرب موسى ان يأخذ حملاً بلا عيب، ويذبحه ويرش دمه على القائمتين والعتبة العُليا ” لئلا يمسهم الذي أهلك أبكار المصريين” (عب28:11)، وعندما رأى الملاك الذي أُرسل، علامة الدم من بعيد عَبَرَ (عن تلك البيوت)، ولكنه دخل إلى البيوت التي ليست عليها علامة الدم وأهلك الأبكار.
نزع الخمير وأكل خروف الفصح :
وأمرهم لله أيضاً أن ينزعوا الخمير من كل بيت، ويأكلوا خروف الفصح المذبوح، مع فطير، على أعشاب مُرّة، ويأكلوه وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم. وهكذا أمرهم أن يأكلوا فصح الرب بكل عجلة في المساء، وأن لا يكسروا عظماً منه.
5 ـ ” وأخرجهم بفضة وذهب” (مز37:105)، إذ أمرهم أن يستعير كل منهم من جاره المصرى أوانى ذهب وفضة، وخرجوا من مصر بينما كان المصريون يدفنون أبكارهم، وخرجوا فرحين بتحررهم من العبودية القاسية، أما الحزن والبكاء فكان من نصيب المصريين بسبب هلاك أبكارهم. ولذلك قال موسى: ” هذه الليلة هي للرب” (خر42:12) التي وعد أن يفتدينا فيها.
فكل هذه الأشياء إنما هي سر النفس التي افتُديت بمجئ المسيح، لأن كلمة “إسرائيل” تُفسر بمعنى: العقل الذي يعاين الله ـ لذلك فالعقل يتحرر من عبودية الظلمة، أي من المصريين روحياً.
6 ـ فإنه منذ أن مات الإنسان بالمعصية ذلك الموت الخطير، ونال لعنة فوق لعنة: ” شوكاً وحسكاً تنبت لك الأرض” (تك18:3) وأيضاً : “متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها” (تك12:4) ـ فمنذ ذلك الوقت نبتّ الشوك والحسك وظهر في أرض القلب. وجرده أعداؤه من مجده بالخديعة وألبسوه العار والخزي.. نزعوا عنه نوره وألبسوه لباس الظلمة، وقتلوا نفسه وشتتوا أفكاره وقسموها، وأحدروا عقله من الأعالي حتى صار الإنسان ـ إسرائيل ـ عبداً لفرعون الحقيقي، فجعل عليه مسخرّين ليعمل أعماله الشريرة وليكمل بناء الطين واللبن. وهذه الأرواح الشريرة أبعدته عن حالة حكمته السماوية، وهبطت به إلى الأعمال المادية الأرضية في الطين أي أعمال الشر وإلى الكلمات والرغبات والتصورات الباطلة الشريرة. لأن الإنسان لما سقط من علوه، وجد نفسه في مملكة معادية تكره الإنسان، وفي هذه المملكة يغصبه حكامها على أن يبنى لهم مدناً شريرة للخطية.
الصراخ إلى الله ودم الخروف :
7 ـ ولكن إذا صرخ الإنسان وتنهد إلى الله، فإنه يرسل إليه موسى الروحاني الذي يخلّصه من عبودية المصريين. ولكن ينبغي على النفس أن تصرخ أولاً وبعد ذلك تبتدئ أن تحصل على الفداء والتحرر، وهى أيضاً تتحرر في شهر الزهور الجديدة، في الربيع حينما تستطيع أرض النفس أن تنبت أغصان البر الجميلة المزهرة، وحين تكون عواصف شتاء جهالة الظلمة قد انتهت وقد تلاشى العمى الخطير الناشئ عن الخطايا والأعمال الشرير. وحينئذ يأمر الرب أيضاً بنزع كل خميرة “عتيقة” (1كو7:5)، من كل بيت أي بطرد كل أعمال وأفكار ” الإنسان العتيق الفاسد” (أف22:4) وكل أفكاره الشريرة ورغباته الدنيئة.
8 ـ ثم أن الخروف كان ينبغي ذبحه وتضحيته وأن تُرش الأبواب بدمه: لأن المسيح الحمل الصالح الذي بلا عيب قد ذُبح من أجلنا، وبدمه رُشت أبواب القلب، حتى أن دم المسيح المسفوك على الصليب يصير حياة وفداء للنفس وأما للشياطين فإنه يصير حزناً وموتاً. لأن دم الحمل الذي بلا عيب هو حقيقة حزن لهم، أما للنفس فهو فرح وبهجة.
الأعشاب المُرّة والأحقاء المشدودة :
وبعد رش الدم يأمر الرب بأكل الحمل مساءً مع فطير وأعشاب مُرّة وبأحقاء مشدودة والأحذية في الأرجل والعصا في الأيدى ـ لأنه إن لم تستعد النفس من كل ناحية أن تمارس الأعمال الصالحة بأقصى ما تستطيع من قوة، فإنه لا يُعطى لها أن تأكل من الحمل. ورغم أن الحمل لذيذ وحلو والفطير حسن المذاق إلاّ أن الأعشاب مُرّة وخشنة فإنه بتعبٍ كثير ومرارة تأكل النفس من الفطير الصالح، لأن الخطية التي تسكن فيها تسبب لها ضيقاً ومرارة.
أكل الفصح مساءً :
9 ـ ويقول الكتاب أيضاً إن الرب أمرهم أن يأكلوا خروف الفصح في المساء وهى الفترة المتوسطة بين النور والظلمة. هكذا النفس أيضاً حينما تقترب من الفداء والتحرر فإنها توجد بين النور والظلمة، وفي هذه الأثناء تقف قوة الله بجوارها وتسندها، ولا تسمح للظلمة أن تدخل إلى النفس وتبتلعها.
وكما أن موسى قال: هذه هي ليلة موعد الله، هكذا المسيح أيضاً حين دُفع إليه الكتاب في المجمع ـ كما هو مكتوب في الإنجيل ـ دعا تلك السنة “سنة الرب المقبولة” ويوم الفداء، فهناك في (العهد القديم) كانت الليلة، ليلة عقاب، وأما هنا فاليوم هو نهار فداء. وهكذا هو الأمر بالحقيقة لأن كل تلك الأشياء كانت رمزاً وظلاً للحق، وكانت ترسم ـ بطريقة سرية ـ صورة الخلاص الحقيقي للنفس التي كانت مغلقاً عليها في الظلام. مقيدة في ” الجب الأسفل” (مز6:88) ومحبوسة وراء ” مصاريع نحاس” (مز16:107). ولم يكن لها القدرة على أن تنطلق حرّة بدون فداء المسيح.
المسيح يُخرِج النفس من العبودية :
10 ـ فإنه يُخرج النفس من مصر ـ من العبودية التي فيها ـ ويقتل أبكار مصر عند الخروج. فإن جزءً من قوة فرعون الحقيقي قد سقط واستولى الحزن على المصريين ـ لأنهم كانوا يئنون حزناً على انفلات الأسرى من بين أيديهم. وقد أمر الرب الشعب أن يستعيروا أواني ذهب وفضة من المصريين، وأن يأخذوها معهم عند خروجهم. لأن النفس عند خروجها من الظلمة فإنها تسترد أوانى الفضة والذهب، وأعنى بها أفكارها الصالحة “مُطهرة سبع مرات في النار” (مز6:12). وهذه هي الأفكار التي تُقدم بها العبادة لله وفيها يجد مسرته. لأن الشياطين الذين كانوا قبلاً جيراناً للنفس، قد شتّتوا أفكارها واستولوا عليها وخربوها. فطوبى للنفس التي تُفتدى من الظلمة، وويل للنفس التي لا تصرخ وتئن إلى الله الذي يستطيع وحده أن يخلصها من أولئك الولاة القساة الظالمين.
بدء التحرك بعد أكل الفصح :
11 ـ لقد بدأ بنو إسرائيل يتحركون بعد أن صنعوا الفصح. وهكذا فإن النفس تتحرك إلى الأمام حينما تنال حياة الروح القدس، فتأكل من الحمل، وتكون قد مُسحت بدمه، وأكلت الفصح الحقيقي، الكلمة الحي.
عمود النار وعمود السحاب :
وكما أن عمود النار وعمود السحاب كانا يسيران أمام بني إسرائيل ليحفظانهم، هكذا فإن الروح القدس يشدّد المؤمنين الآن ويقوّيهم، ويشعلهم، ويرشد النفس بطريقة ملموسة.
وحينما علم فرعون والمصريون أن شعب الله قد هرب فإنهم تجاسروا أن يقتفوا أثرهم حتى بعد قتل أبكار المصريين. فإن فرعون جهز مركباته بسرعة وسعى مع كل شعبه وراء شعب الله لكي يهلكه. ولما كاد أن يلحقهم، انتقل عمود السحاب من أمام بني إسرائيل ووقف خلفهم، بينهم وبين فرعون. فأعاق فرعون، وكان عمود السحاب ظلاماً بالنسبة للمصريين ولكنه كان نوراً ومرشداً وحامياً لبني إسرائيل. ولكي لا أطيل الحديث عليكم بسرد القصة كلها دعونا نطبق كل التفاصيل على الأمور الروحية.
12 ـ فإنه حينما تبدأ النفس أولاً بالهروب من الشيطان، فإن قوة الله تقترب منها لتعينها وتقودها إلى الحق. ولكن حينما يعرف فرعون الروحاني ـ أي ملك ظلمة الخطية ـ أن النفس قد تمردت عليه وبدأت تهرب من مملكته فإنه يلاحق الأفكار التي كانت ملكه قبلاً ـ فإن الأفكار كانت هي ممتلكاته، ويحاول بخبثه ويأمل أن ترجع إليه النفس مرة أخرى. ولكن حينما يدرك أن النفس قد هربت من طغيانه هروباً بلا رجعة ـ وهذا بالنسبة إليه ضربة أقوى من قتل الأبكار وسرقة المقتنيات ـ فإنه يجرى وراءها لأنه يخاف لئلا بعد هروب النفس منه تماماً، لا يبقى له من يتمم إرادته ويعمل أعماله. لذلك فهو يسعى وراءها بالشدائد والتجارب والحروب غير المنظورة. وبهذه الشدائد والحروب تُمتحن النفس وتُجرّب، وبواسطتها تُظهر محبتها نحو من أخرجها من مصر (العبودية). لأنها تُسلّم (للتجارب) لكي تُوضع موضع الاختبار وتُمتحن بطرق متنوعة.
تدخل الله للإنقاذ :
13 ـ وترى النفس قوة العدو وهو يسعى أن يقتلها ولكنه لا يستطيع، لأن الرب يقف بينها وبين أرواح الشر. وترى أمامها بحراً من المرارة والشدائد واليأس. وهى من ناحية لا تستطيع أن تعود إلى الوراء لأنها ترى العدو مستعداً لقتلها، ومن ناحية أخرى لا تستطيع أن تتقدم إلى الأمام لأن خوف الموت، والشدائد المؤلمة المحيطة بها، يجعلها ترى الموت أمام عينيها. لذلك فإن النفس تيأس من ذاتها، ” إذ يكون لها حكم الموت في نفسها” (2كو9:1) بسبب كثرة أرواح الشر المحيطة بها. وحينما يرى الله النفس وهى محصورة بخوف الموت، والعدو مستعد أن يبتلعها، فإنه حينئذٍ يأتي لمعونتها ويترفق بها، وهو يتأنى عليها لكي يختبرها، ويرى هل تثبت في الإيمان، وهل عندها حب صادق له. لأن الله هكذا قد رسم ” الطريق المؤدى إلى الحياة” (مت14:7) أن يكون كرباً ضيقاً وفيه امتحانات وتجارب مُرة لكي تصل النفس بواسطة هذا الطريق فيما بعد إلى الأرض الحقيقية ـ أرض أولاد الله. لذلك فحينما يكف الإنسان عن الاعتداد بنفسه ويجحد ذاته بسبب الشدة العظيمة والموت الذي يراه أمام عينيه، ففي تلك اللحظة يمزق الله ـ بيد شديدة وذراع رفيعة ـ قوة الظلمة بواسطة إنارة الروح القدس، وتعبر النفس خلال الأماكن المخيفة، تعبر بحر الظلمة، وتخلُّص من النار المحرقة.
عبور البحر والفرح والتسبيح :
14 ـ هذه هي أسرار النفس التي تحدث حقاً في الإنسان الذي يسعى باجتهاد أن يأتي إلى موعد الحياة ويُفتدى من مملكة الموت، وينال العربون من الله، وتكون له شركة في الروح القدس. وهكذا فإن النفس إذ تتخلّص من أعدائها، بعبورها البحر المُر، بقوة الله، وإذ ترى أعداءها الذين كانت مستعبدة لهم، وقد هلكوا أمام عينيها، فإنها تفرح فرحاً لا يُنطق به ومملوء مجداً (1بط8:1) وتتعزى بالله وتستريح في الرب. وحينئذ فإن الروح الذي نالته يسبح فيها تسبيحاً جديداً لله بالدُف الذي هو الجسد، وبأوتار القيثارة الروحية التي هي النفس، وبأفكار النفس السامية وبمفتاح النعمة الإلهية الذي يضرب على الأوتار، فترتفع التسابيح للمسيح الحي ومعطى الحياة. لأنه كما أن نفخة الفم هي التي تنطق وتتكلم حينما تسرى فيها آلات النفخ، هكذا فإن الروح القدس هو الذي يسرى في القديسين الذين يحملون الروح، وهو يسبح فيهم تسابيح ومزامير فيصلون لله بقلب نقى. فالمجد لذلك الذي أنقذ النفس من عبودية فرعون وجعلها عرشاً له، جعلها بيتاً وهيكلاً وعروساً نقية له، وأحضرها إلى ملكوت الحياة الأبدية، وهى لا تزال في هذا العالم.
15 ـ وبحسب الناموس كانت الحيوانات غير العاقلة تُقدم كذبائح. ولكن التقدمات لا يمكن أن تكون مقبولة ما لم تُذبح. وهكذا الآن إن لم تُذبح الخطية فإن تقدمتنا لا هي مقبولة أمام الله، ولا هي تقدمة حقيقية.
المياه المُرّة تصير حلوة :
وعندما جاء الشعب في القديم إلى مارة (خر22:15) كانت هناك عين ماء تنبع ماءً مراً، لا يصلح للشرب. فلما تحير موسى وصرخ إلى الرب، أمره الرب بأن يلقى شجرة أراه إياها، في الماء المر، فحينما أُلقيت الشجرة هكذا في الماء، صار الماء عذباً، إذ تحول عن مرارته وصار مناسباً وصالحاً ليشرب منه شعب الله. وبنفس الطريقة، فإن النفس صارت مُرّة من شرب سم الحية، وصارت مشابهة لطبيعة الحية المُرّة وأصبحت خاطئة. لذلك فإن الله يلقى شجرة الحياة في داخل ينبوع القلب المُرّ فيتحول القلب من مرارته، ويصير حلواً باتحاده بروح المسيح. وهكذا يصير نافعاً جداً ويذهب في خدمة سيده لأنه يصير لابساً للروح. فالمجد لذلك الذي يحوّل مرارتنا إلى حلاوة الروح وصلاحه. والويل لمن لا تلقى فيه شجرة الحياة، فإنه لا يستطيع أن يتغيّر إلى الصلاح أبداً.
عصا موسى والصليب :
16 ـ إن عصا موسى كان لها وجهان :فإنها كانت بالنسبة للأعداء حيّة تلدغ وتُهلك، وأما بالنسبة لبني إسرائيل فقد كانت عكازاً يستندون عليها. هكذا أيضاً، فالخشبة الحقيقية، خشبة صليب المسيح، فإن صليب المسيح إنما هو موت لأرواح الشر، وأما لنفوسنا فهو سند وملجأ أمين فيه نطمئن ونستريح.
إن الرموز والظلال في العهد القديم كانت تشير إلى الحقائق الحاضرة لأن خدمة العبادة القديمة كانت ظلاً وصورة للعبادة الحاضرة. فالختان، والخيمة، والتابوت، والمن، وقسط المن، والكهنوت والبخور، والغَسْلات، وباختصار كل ما كان يُصنع في إسرائيل وفي ناموس موسى وفي الأنبياء، إنما كان إشارة إلى هذه النفس المخلوقة على صورة الله، والتي سقطت تحت نير العبودية وسلطان ظلمة المرارة.
عروس كاملة لعريس كامل :
17 ـ فإن الله أراد أن يقيم شركة مع النفس البشرية. ويخطبها لنفسه كعروس للملك، ويغسلها ويطهّرها من كل دنس. ويجعلها بهية مضيئة بدلاً من سوادها وعارها، ويحيّيها من الموت، ويشفيها من انكسارها ويعطيها السلام ويصالحها لنفسه من بعد العداوة.
ورغم أن النفس مخلوقة، إلاّ أن الله يخطبها عروساً لابن الملك ويضمها إليه بقدرته الخاصة، ويغيّرها شيئاً فشيئاً وينميها ويزيدها بفيض نعمته. فهو يوسع النفس ويقودها إلى نمو وازدياد بلا حدود ولا قياس، إلى أن تصير عروساً بلا عيب وبلا لوم تليق به.
فإنه يلد النفس فيه أوًلا، ثم بنفسه ينميها بفعل نعمته، إلى أن تصل إلى قامة محبته الكاملة، فلأنه هو عريس كامل، لذلك فهو يأخذها كعروس كاملة له إلى شركة العرس المقدسة، الشركة السرّية الطاهرة، وحينئذٍ فإنها تملك معه إلى أبد الدهور أمين.
العظة الثامنة والأربعون
الإيمان الكامل بالله
1 ـ لما أراد الرب، في الإنجيل، أن يقود تلاميذه إلى الإيمان الكامل قال لهم: ” الأمين في القليل أمين في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير” (لو10:16) فما هو القليل وما هو الكثير؟
القليل هو خيرات هذا العالم، التي وعد أن يعطيها لأولئك الذين يؤمنون به: مثل الطعام واللباس وكل الأشياء الأخرى اللازمة للجسد والصحة وما أشبه ذلك. وهو يدعونا أن لا نهتم أو نقلق بخصوص هذه الأشياء، بل نثق فيه بيقين تام أنه كفء لحاجات أولئك الذين يلتجئون إليه في كل شيء.
أما الكثير فهو هبات العالم الأبدي الذي لا يفنى ولا يضمحل، التي وعد أن يعطيها لأؤلئك الذين يؤمنون به ويهتمون بطلبها بلا انقطاع ويسألونه لأجلها لأنه هو الذي أوصى بذلك قائلاً: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم” (مت33:6)، لكي بواسطة هذه الأشياء القليلة الزمنية يمكن أن يُختبر كل إنسان إن كان يؤمن بالله، لأنه وعد أن يعطى هذه الأشياء بدون أن نهتم ونقلق من جهتها، بل نهتم فقط من جهة الأمور الأبدية الآتية.
2 ـ لذلك فإن كان له إيماناً قوياً من جهة الأشياء الزمنية فإن هذا يكشف عن إيمانه بخصوص الأمور التي لا تفنى، وكيف أنه يسعى حقاً طالباً الخيرات الأبدية، لذلك ينبغي على كل واحد من أولئك الذين يطيعون كلمة الحق، أن يختبر نفسه ويمتحنها ، أو يدع الرجال الروحانيين يعينونه على ذلك لكي يعرف إلى أي درجة قد آمن بالله وأعطى نفسه له، وهل إيمانه هذا حقيقي بحسب كلمة الله، أم أنه يعتمد على رأيه الخاص في تبرير وإيمان كاذبين، متخيلاً أن له إيمان داخل نفسه. فإن هذا هو السؤال الذي يمتحن به الإنسان نفسه:
هل هو أمين في القليل، أي في الأمور الزمنية ؟
وكيف يتم هذا الامتحان؟ هذا ما سأوضحه لكم الآن: هل تقول إنك تؤمن أنه قد أُعطى لك ملكوت السموات، وأنك قد وُلدت من فوق وصرت ابناً لله، ووارثاً مع المسيح، لتملك معه إلى الأبد وتتنعم في النور الذي لا يُوصف طوال الدهور الأبدية مع الله؟
لا شك أنك ستقول ” نعم فإنه لهذا السبب قد تركت العالم وسلّمت نفسي إلى الرب”.
3 ـ لذلك، افحص نفسك الآن، هل لا تزال الاهتمامات الأرضية لها تأثير عليك، وتفكر كثيراً بخصوص الطعام واللباس وغيرها من الاهتمامات المشابهة، كأنك تحصل على هذه الأشياء بقوتك الخاصة وكأنه يلزمك أن تقوم بتزويد نفسك بكل احتياجاتك بدلاً من الوصية التي أعطاها لك الرب ألاّ تهتم ولا تقلق أبداً من جهة هذه الأشياء الأرضية الفانية، التي يعطيها الله حتى للأشرار، وللوحوش والطيور، لقد أعطاك الله وصية ألاّ تهتم بهذه الأمور ولا تقلق، إذ قال: ” لا تهتموا بما تأكلون أو بما تشربون أو بما تلبسون، فإن هذه كلها تطلبها الأمم” (مت25:6ـ32). أما إن كان لا يزال عندك همّ وانشغال بهذه الأمور، ولم تثق كلّيةً بكلمته، فاعلم أنك لم تؤمن بعد بأنك ستنال الخيرات الأبدية التي هي ملكوت السموات بالرغم من أنك تظن أنك تؤمن، بينما أنت توجد غير أمين في الأشياء القليلة التي تفنى.
وأيضاً كما أن الجسد هو أفضل من اللباس، كذلك فإن النفس هي أفضل من الجسد (مت25:6). فهل تؤمن، إذن أن نفسك تحصل من المسيح على الشفاء من الجروح الأبدية التي لا يستطيع البشر شفاءها، أي جروح شهوات الخطية، التي لأجل شفائها جاء الرب إلينا ههنا، لكي يشفي نفوس المؤمنين ويطهرهم من دنس الخطية ونتانتها وبرصها ـ لأنه هو الشافي والطبيب الحقيقي الوحيد؟
4ـ إنك ستقول “إنني أؤمن بكل تأكيد ـ وهذه هي ثقتي، وهذا هو رجائي ” فالآن افحص وانظر إن كانت الأمراض الجسدية تجعلك تجرى إلى الأطباء الأرضيين أم لا، كما لو أن المسيح الذي تؤمن به لم يستطيع أن يشفيك ـ فأنظر كيف تخدع نفسك، لأنك تظن أنك تؤمن وأنت في الحقيقة لا تؤمن كما ينبغي. فلو إنك آمنت أن جروح النفس التي لا تُشفي وأهواء الخطية، يشفيها المسيح، لآمنت أيضاً أنه يستطيع أن يشفي أمراض الجسد المؤقتة ولكنت لجأت إليه وحده وتركت جانباً وسائل الأطباء وأدويتهم[1].
فإن الذي خلق النفس خلق الجسد أيضاً. والذي يشفي النفس غير المائتة، يستطيع أيضاً أن يشفي الجسد من أمراضة وعلله العابرة المؤقتة.
5 ـ ولكنك بلا شك ستقول “إن الله قد أعطانا نباتات الأرض والعقاقير لأجل شفاء الجسد وقد أعد وسائل الأطباء ومعالجتهم لأجل أمراض الجسد وآلامه ورتب أن الجسد الذي من التراب يكون شفاؤه بوسائل متنوعة من نفس الأرض، وإني أوافقك على صحة هذا الكلام. ولكن انظر وانتبه، وأنت ستعرف لمن أعطى الله هذه الأشياء ولآجل من رتبها حسب رحمته العظيمة ومحبته غير المحدودة للبشر. فحينما سقط الإنسان بتعدي الوصية التي أُعطيت له، صار تحت العبودية والعار وكأنه ذهب ليعمل ويكد في أحد المناجم، مطروداً من أفراح الفردوس إلى هذا العالم، وصار تحت قوة سلطان الظلمة وانحدر إلى حالة عدم الإيمان بواسطة الخطايا والشهوات، وحينئذٍ سقط تحت وطأة أمراض الجسد واضطراباته بدلاً من حالته الأولى الخالية من الاضطراب والمرض. وبالتأكيد فإن كل الذين وُلدوا من الإنسان الأول سقطوا تحت الأمراض والاضطرابات.
6 ـ لذلك فإن الله قد رتب هذه الأدوية والعلاجات للضعفاء وللذين لا يؤمنون، لأنه لا يريد في كثرة تحننه ومحبته أن يلاشى جنس البشر الخاطئ كلّية، بل أعطى الطب والأدوية لأهل العالم، ولكل الذين هم من خارج لأجل شفائهم وصحتهم وعلاج أجسادهم، وسمح أن تُستعمل هذه الوسائل بواسطة أولئك الذين لم يستطيعوا بعد أن يؤمنوا بالله ويثقوا به كلية مستودعين حياتهم تماماً له بالإيمان.
وأما أنت أيها الراهب، يا من أتيت إلى المسيح، وتريد أن تكون ابناً لله ومولوداً من الروح من فوق، وتنتظر المواعيد التي هي أعلا وأعظم مما أُعطى للإنسان الأول، لأن كل ما كان للإنسان الأول من حالة الحرية من الاضطرابات والشهوات، قد سُرّ الله أن يعطيك أكثر منه بحضوره معك، أنت يا من صرت غريباً عن العالم. لهذا ينبعى أن يكون لك إيمان وفهم وأسلوب جديد تماماً للحياة، يتميز كلية عن أهل العالم ويتفوق عليهم.
والمجد للآب والابن والروح القدس إلى الأبد.أمين
________________________________________
[1] يُلاحظ أن القديس هنا يخاطب الرهبان ويعتبر اللجوء للأطباء مستوى روحى ضعيف لا يليق بهم انظر فقرة 6 .
العظة التاسعة والأربعون
الشبع الإلهي
لا يكفي أن تتجنب لذات هذا العالم بل يلزم الحصول على غبطة الدهر الآتي.
فرح الروح بدل فرح العالم :
1 ـ حينما يترك إنسان أهله، ويترك هذا العالم، ويتغرّب عن لذّاته ويترك الممتلكات، والأب والأم، لأجل الرب، ويصلب نفسه ويصير غريباً وفقيراً ومحتاجاً، ولكنه لا يجد العزاء الإلهي في داخل نفسه بدلاً من راحة العالم وعزائه، ولا يشعر بلذة الروح في داخله بدلاً من اللّذة الزمنية العابرة، ولا يكون لابساً لثياب نور الله في الإنسان الباطن، بدلاً من تلك الثياب التي تفنى، ولا يعرف شركة العريس السماوي في نفسه، بدلاً من فرح هذا العالم الظاهر ولا يحصل على عزاء النعمة السماوي، والشبع الإلهي في النفس ـ بظهور مجد الرب ـ كما هو مكتوب[1]، وبالاختصار بدلاً من التمتع الزمني العابر، لا يحصل من الآن في داخل نفسه على التمتع غير الفاسد الذي لا يضمحل والذي تشتهيه النفس شهوة عظيمة، فإن هذا الإنسان قد صار ملحاً بلا ملوحة، بل هو أكثر بؤساً من جميع الناس لأنه حُرم من الأشياء التي هنا، ولم يحصل على التمتع بالعطايا الإلهية التي تتم بعمل الروح القدس في الإنسان الباطن.
العبور بالروح إلى عالم آخر منذ الآن :
2 ـ فإن الغاية التي من أجلها يصير الإنسان غريباً عن هذا العالم إنما هي أن تعبر نفسه إلى عالم آخر ودهر آخر كما يقول الرسول ” إن سيرتنا هي في السموات” (في20:3) وأيضاً يقول ” وإذ نسير على الأرض لكننا لسنا حسب الجسد نحارب” (2كو2:10). لذلك فإن من يرفض هذا العالم يجب أن يؤمن بكل يقين، أنه ينبغي أن يعبر بفكره منذ الآن بالروح إلى عالم آخر، وهناك تكون سيرتنا ولذتنا وتمتعنا بالخيرات الروحية، وأنه ينبغي أن يُولد من الروح في الإنسان الباطن كما قال الرب ” من يؤمن بي فقد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو24:5). لأنه يوجد موت آخر غير الموت الطبيعي المنظور، وحياة أخرى غير هذه الحياة، فإن الكتاب يقول: ” وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1تى6:5)، وأيضاً يقول الكتاب: “دع الموتى يدفنون موتاهم” (لو60:9). لأن ” ليس الأموات يسبحونك يارب، بل نحن الأحياء نباركك” (مز18،17:115).
دخول النفس إلى المسكن السماوي :
3ـ لأنه كما أن الشمس عند إشراقها على الأرض تضئ عليها بكلّيتها، ولكن عندما تصير إلى الغروب تنحسر أشعتها عنها، كذلك فإن النفس التي لا تُولد من فوق من الروح، تكون على الأرض بكليتها وأفكارها مشتّتة في الأرض كلها. ولكن حينما تُحسب أهلاً للحصول على الولادة السماوية وشركة الروح، فإنها تجمع كل أفكارها معاً فتأخذهم معها وتدخل إلى الرب، إلى المسكن السماوي غير المصنوع بأيدي وتصير كل أفكارها سماوية طاهرة ومقدسة وتصعد إلى الجو السماوي الإلهي. وإذ تتحرر من سجن ظلمة رئيس هذا العالم الشرير، الذي هو روح العالم، فإن النفس تجد أفكاراً طاهرة إلهية، لأن الله قد سُرّ بأن يجعل الإنسان شريكاً في الطبيعة الإلهية (2بط4:1).
ستجد فرحاً عظيماً :
4 ـ لذلك فإذا كنت تعتزل كل الأمور المختصة بهذا العالم وتواظب على الصلاة، فإنك ستجد راحة كبيرة في هذا العمل. بل ستجد فرحاً عظيماً في الشدة القليلة والألم وستنتعش انتعاشاً عظيماً. فإنه إن كنت تنفق نفسك وجسدك ساعة بساعة طوال حياتك لأجل هذه الخيرات العظيمة فماذا تكون النتيجة؟.. آه، يا لِعظم تحنّن الله الذي يفوق الوصف، فإنه يعطى نفسه مجاناً لأولئك الذين يؤمنون به حتى أنهم في وقت قليل يرثون الله، ويسكن الله في الإنسان ويتخذ من الإنسان منزلاً حسناً له! وكما أن الله خلق السماء والأرض ليسكن الإنسان فيهما، كذلك فإنه خلق جسد الإنسان ونفسه ليكونا منزلاً له، لكي يسكن ويستريح في جسد الإنسان كما في منزله الخاص، ويتخذ من النفس الحبيبة عروساً جميلة له مخلوقة على صورته. لأن الرسول يقول: “خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو2:11). وأيضاً ” وبيته نحن” (عب6:3).
الله يخزن كنوز الروح في نفسك وجسدك :
فكما أن رب البيت يخزّن باجتهاد كل أنواع الخيرات في بيته، هكذا الرب أيضاً في بيته الذي هو نفسك وجسدك، فإنه يضع كنوز الروح السماوية ويخزنها في هذا البيت.
إن الحكماء بحكمتهم، والفطناء بفطنتهم لم يستطيعوا أن يدركوا لطافة النفس ” أو أن يتكلموا عنها كما هي، وإنما يدرك لطافتها فقط أولئك الذين يُعطى لهم هذا الإدراك بالروح القدس. ولهم تُعطى المعرفة الصحيحة عن النفس إذ أن الروح يعلنها لهم.
الرب والنفس :
فانظر هنا نظرة جادة لكي تفهم وتتعلّم. أنصت الآن :
فإنه هو إله، أما النفس فليست إلهاً.
إنه هو رب، وهى عبدة.
هو خالق، وهي مخلوقة .
هو صانع، وهي صنعة يديه.
وليس هناك شيء مشترك بين طبيعة الله وطبيعة النفس. ولكن بواسطة محبته ورأفته التي لا تحد والتي تفوق الوصف والإدراك، سُرّ الله أن يسكن في هذا المخلوق العاقل، في صنعة يديه، الثمينة والعجيبة، كما يقول الكتاب ” لكي نكون باكورة من خلائقه” (يع18:1). لنكون نحن حكمته وشركته، ومسكنه الخاص، وعروسه الطاهرة.
لنعط أنفسنا لإرضاء الرب :
5 ـ فحينما تُوضع أمامنا هذه الأشياء الصالحة، وهذه المواعيد التي وعدنا بها الرب، وتتضح مسرة صلاحه من نحونا، فلا نهمل يا أبنائي ولا نتأخر أو نتباطأ في السعي للحياة الأبدية، بل نعطى أنفسنا تماماً لإرضاء الرب، مخصصين ذواتنا له كلّية.
فلنتوسل، إذن للرب أن ينقذنا بقوة لاهوته من سجن ظلمة شهوات الخزي، وأن يجعل صورته وصنعة يديه تضئ ببهاء، وأن يجعل النفس صحيحة ونقيّة، وهكذا نُحسب أهلاً لشركة الروح، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الأبد.أمين
________________________________________
[1] هنا يشير القديس مقاريوس إلى مز15:17 في الترجمة السبعينية حيث نص الآية هكذا “سأمتلئ حتى الشبع بظهور مجدك “
العظة الخمسون
صانع العجائب
الله هو صانع العجائب بواسطة قديسيه.
قوة الله في إيليا :
1 ـ من هو ذاك الذي أغلق أبواب السماء؟ هل هو إيليا أم أن الله الذي فيه، هو الذي أمر المطر ألاّ ينزل؟ إني أؤمن أن ذاك الذي له السلطان على السموات، كان هو نفسه جالساً في عقل إيليا، وأن كلمة الله أمر المطر أن ينزل على الأرض بواسطة لسان إيليا، فنزل المطر.
عمل الله في موسى :
وكذلك موسى أيضاً فإنه ألقى بالعصا على الأرض فصارت حية، ثم تكلم مرة أخرى فعادت وصارت عصا. وأخذ موسى رماداً من الأتون ونثره نحو السماء فصار دمامل أصابت الناس وفي البهائم. وأيضاً مد عصاه فصار البعوض والضفادع على أرض مصر (خر5:8و17). فهل تستطيع الطبيعة البشرية أن تصنع هذه الأمور؟ .. لقد مد موسى أيضاً يده على البحر فشقّه، وكذلك رفع عصاه على النهر فتحولت مياهه إلى دم. فالواضح أن قوة سماوية كانت ساكنة في قلب موسى وعقله وكانت هذه القوة تعمل هذه الآيات بواسطة موسى.
قوة الله في ضعف داود :
2 ـ وكيف استطاع داود أن يقاتل الجبّار دون أن يكون متسلحاً؟ فإن يد الله هي التي قادت الحجر بواسطة يد داود حينما رماه على الفلسطيني.. وأن قوة الله هي التي قتلت الجبار وانتصرت عليه، فما كان داود ليستطيع أن يفعل ذلك من ذاته إذ كان ضعيفاً جداً في الجسد (1صم49:17ـ51).
سقوط أسوار أريحا :
وحينما جاء يشوع بن نون إلى أريحا وحاصرها سبعة أيام، لم يستطع أن يفعل شيئاً بطبيعته، ولكن حينما صدر أمر الله فإن الأسوار سقطت من نفسها.. ومن هو الذي أمر الشمس أن تقف لمدة ساعتين بينما كانت المعركة حامية الوطيس؟ هل هي طبيعة يشوع أم القوة الإلهية التي كانت معه؟
القتال مع عماليق :
ولما دخل يشوع في قتال مع عماليق، كان إذا رفع موسى يديه نحو السماء إلى الله، أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يديه أن عماليق يغلب.
حينما ترفع أفكارك إلى السماء :
3 ـ ولكن حينما تسمع عن هذه الأمور فلا تدع عقلك يذهب بعيداً، بل حيث إنها كانت رمزاً وظلاً للحقيقة فطبقها إذن على نفسك. فإنك حينما ترفع يدى عقلك وأفكارك نحو السماء وتضع في قصدك أن تلتصق بالرب وتتحد به فإن الشيطان يسقط تحت أفكارك .
وكما سقطت أسوار أريحا بقوة الله، كذلك الآن بقوة الله تتحطم مدن الشيطان وأسوار الشر التي تحارب عقلك ويسقط أعداؤك أيضاً.
عمل الروح في الأبرار والأنبياء :
لقد كانت قوة الله في القديم حاضرة مع الأبرار بلا انقطاع، وكانت تعمل عجائب منظورة. وكانت النعمة الإلهية تعمل أيضاً في الأنبياء، وكان الروح يعمل في نفوسهم للتنبؤ والتكلّم حينما كانت تدعو الحاجة أن يخبروا العالم بأحداث عظيمة. لأن الأنبياء لم يكونوا يتكلمون في كل وقت، بل حينما يشاء الروح الذي فيهم فقط. إلاّ أن القوة الإلهية كانت معهم دائماً.
انسكاب الروح في العهد الجديد :
4 ـ فإن كان الروح القدس قد انسكب بهذا المقدار في ذلك العهد الذي هو ظلّ لعهد النعمة، كم بالحري ينسكب في العهد الجديد، عهد الصليب ومجيء المسيح، الذي فيه حدث انسكاب الروح والامتلاء به. كما هو مكتوب ” إني أسكب من روحى على كل بشر” (أع17:2). وهذا هو المعنى الذي قصده الرب نفسه حينما قال ” وها أنا معكم إلى انقضاء الدهر” (مت20:28). ” لأن كل من يطلب يجد” (مت8:7). وأيضاً ” إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب السماوي يعطى الروح القدس للذين يسألونه” (لو13:11). ” بقوة وبيقين شديد “ كما يقول الرسول (1تس5:1).
الحصول على قوة الروح :
إن هذه الأشياء نحصل عليها بالتدريج، وتحتاج منا إلى وقت، وتعب وصبر ومحبة كثيرة وشوق كبير نحو الرب. وهكذا فإن “حواس النفس”، ” تتدرب” كما يقول الكتاب (عب14:5). بواسطة الخير والشر، أي من خلال حيل العدو ومؤامراته وخداعاته من ناحية، ومن الناحية الأخرى بواسطة المواهب والمعونات المتنوعة التي تعطى بعمل الروح القدس وقوته. وإن الذي يواجه خداع الخطية، الذي يلوث الإنسان الباطن بواسطة الشهوات، ولا يتعرف في داخل نفسه على معونة الروح القدس “روح الحق”، الذي يقوّيه ويعين ضعفه، ويجدّد نفسه بفرح القلب، مثل هذا الإنسان يسير في طريقه بدون تمييز، إذ لم يكتشف بعد تدبيرات النعمة المتنوعة، وسلام الله العميق.
هل وجدت الكنز ؟
ومن الناحية الأخرى فإن الذي ينال معونة الرب، ويحصل على الفرح الروحاني ومواهب النعمة السماوية، مثل هذا الإنسان إن كان يتصور أنه لم يعد معرضاً بالمرة لأذى الخطية، فإنه ينخدع دون أن يدرى، إذ أنه لا يميز خبث الخطية ولا يدركه، ولا يعرف أن النمو إنما يتم بالتدريج من الطفولة حتى النضوج والكمال في المسيح. لأن الإيمان يزداد وينمو بواسطة عمل الروح القدس الإلهى، وتبعاً لذلك تتحطم تدريجياً حصون الأفكار الشريرة إلى أن تنهدم كلّية (2كو4:10).
لذلك ينبغي على كل واحد منا أن يفتش ويعرف، هل هو قد وجد ” الكنز في هذا الإناء الخزفي” (2كو7:4)، وهل قد اكتسى بأرجوان الروح، وهل قد رأى الملك ووجد راحته في الداخل بالقرب منه، أم أنه لا يزال يعيش في الدار الخارجية؟
إن النفس لها أجزاء كثيرة، ولها عمق عظيم، فعندما دخلت الخطية إلى الداخل امتكلت كل أجزاء النفس وكل مراعى القلب.
النعمة تملك جزئياً وبالتدريج :
ولذلك حينما يسعى الإنسان ويطلب، فإن النعمة تأتى إليه، وتبدأ في أن تملك عليه، ولكنها قد تملك ربما على جزء أو اثنين من أجزاء النفس. وبعد أن تبدأ النعمة عملها فإن الإنسان غير المختبر حينما يحصل على تعزية بالنعمة، يتخيل أن النعمة قد امتلكت كل أجزاء نفسه وأن الخطية قد استؤصلت منه تماماً. مع أن القسم الأكبر من النفس لا يزال تحت سلطان الخطية وليس سوى جزء واحد فقط تحت سلطان النعمة، وهكذا فإنه ينخدع دون أن يدرى.
ويمكننا أن نتحدث كثيراً إليكم بخصوص هذه الأمور بحسب استعدادكم وإخلاصكم، ولكننا أعطيناكم نقطة بداية، تستطيعون كأناس ذوى حكمة وفهم أن تتأملوا في هذه الكلمات وتفحصوا قوتها وتصيروا أكثر فهماً وحكمة في الرب. وتزدادوا في بساطة القلب، في النعمة وفي قوة الحق، وهكذا إذ تتمسكون بخلاصكم بكل يقين، وتتحررون من كل محاربات الشرير وخداعات العدو، فإنكم تُحسبون أهلاً لأن توجدوا بلا عثرة، ولا دينونة في يوم ربنا يسوع، الذي له المجد إلى الأبد , آمين.
بشفاعة أبينا القديس الانبا مكاريوس أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا آمين
لإلهنا كل “مجد † كرامة †عزة † سجود” إلى الأبد آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post