رسالة إلى الأسر
من البابا
يوحنّا بولس الثّاني
في مناسبة سنة الأسرة
1994
أيتّها الأسّر العزيزة!
1- إنّ الاحتفال بسنة الأسرة يُتيح لي الفرصة السعيدة لأقرع باب داركم أنا الرّاغب في إقرائكم التحيّة بعطف شديد، وفي التحدّث إليكم. إنّي أقوم بذلك في هذه الرّسالة، منطلقاً من العبارة الواردة في البراءة “فادي الإنسان” التي نشرتُها منذ افتتاح عهدي بخلافة بطرس. لقد كتبت إذ ذاك: “الإنسان طريق الكنيسة” (1).
بهذه العبارة أردت التّذكير، قبل كل شيء، بالطرّق المتعدّدة جداً، التي يسلكها الإنسان في مسيرته، وأردت في الوقت نفسه أن ألُفت إلى رغبة الكنيسة العميقة في أن تُرافقه في هذه المسيرة على طرق وجوده الأرضيّ. الكنيسة تشترك في الأفراح والآمال، والأحزان والضّيقات (2) التي ترافق مسيرة البشر اليوميّة، وفي صميم ذاتها اقتناعٌ بأن المسيح نفسه هو الذي أرسلها في هذه الدروب كلّها: هو الذي وكلّ الإنسان إلى الكنيسة، وهو الذي وكله بمثابة “طريقٍ” لرسالتها ومهمّتها.
الأسرة، طريق الكنيسة
2- الأسرة، في هذه الطرق المتعدّدة، هي الأولى والأهمّ: إنها طريق عامّة، مع كونها خاصّة، ووحيدة على الإطلاق، كما أن كل إنسان وحيد؛ طريقٌ لا يستطيع الكائن البشريّ أن يحيد عنها. وهكذا فهو يأتي إلى العالم أصلاً ضمن أسرةٍ؛ ومن ثمّ يمكن القول بأنه مدينٌ لهذه الأسرة بوجوده الإنسانيّ نفسه. عندما تُفتقد الأسرة ينشأ في الشخص الآتي إلى العالم نقصٌّ مقلق وأليم، يكون ثقيلاً على حياته كلها في ما بعد. والكنيسة تحدب باهتمامٍ عطوف على الذين يعيشون في مثل هذه الحالة، لأنها تدرك إدراكاً صحيحاً الدّور الأساسيّ الذي من شأن الأسرة أن تقوم به. وهي تدرك إلى ذلك أنه من الطبيعيّ أن يترك الإنسان أسرته لكي يحقق بدوره دعوته الخاصّة في نواةٍ عيليّة جديدة. وإنّه، وإن اختار الإقامة منفرداً، تظلّ الأسرة، إذا حصّ القول، أفقه الوجوديّ، والمجموعة الأساسيّة التي تترسّخ فيها سلسلة علاقاته الاجتماعية كلّها، من أشدّها قرباًَ والتصاقاً إلى أشدّها بعداً. ألا نتحدّث عن “الأسرة البشريّة” عندما نشير إلى مجموعة البشر الذين يعيشون في العالم؟
تمتدّ جذور الأسرة إلى المحبة نفسها التي يشمل بها الخالق العالم الذي خلقه على حدّ ما ورد “في البدء” في سفر التكوين (1:1). وفي الإنجيل يؤيّد يسوع ذلك تأييداً كاملاً: “فقد أحبّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد” (يو 3 : 16). الابن الوحيد، الواحد الجوهر مع الآب، “الإله المولود من الله، النّور الصّادر من النّور”، بالأسرة دخل في تاريخ البشر. “إن ابن الله نفسه بالتجسّد اتّحد نوعاً ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيدين بشريّتين، (…) وأحبّ بقلبٍ بشريّ. إنّه ولد من العذراء مريم، وصار في الحقيقة واحداً منّا، شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة” (3). ولئن “جلا المسيح الإنسان على ذاته جلاءً كاملا” (4)، فقد بدأ ذلك بالأسرة التي اختار أن يولد ويترعرع فيها. ومن المعلوم أن الفادي قد لزم الخفاء في الناصرة فترةً غير يسيرة من حياته، “خاضعاً (لو 2 : 51)، في كونه “ابن الإنسان”، لمريم أمّه وليوسف النجّار. أليس “الخضوع” البنويّ هذا هو التعبير الأول عن خضوعه لأبيه “حتى الموت” (فيل 2 : 8) الذي افتدى به العالم؟
وهكذا فلسرّ تجسّد الكلمة الإلهي علاقة وثيقة بالأسرة البشريّة. ولم تكن تلك العلاقة بأسرة واحدة فقط، أسرة الناصرة، بل بكل أسرةٍ على وجهٍ ما، وذلك تمشّياً وما قال المجمع الفاتيكاني الثاني في شأن ابن الله الذي “بالتجسّد اتحّد نوعاً ما بكل إنسان” (5). وعلى مثال المسيح الذي “أتى” إلى العالم “ليخدُم” (متى 20 : 28) ترى الكنيسة أن خدمة العيلة هي من مهمّاتها الجوهرّية. وبهذا المعنى تقوم “طريق الكنيسة” على الإنسان والأسرة معاً.
سنة الأسرة
3- لهذه الأسباب ترحب الكنيسة ترحيب فرح بمبادرة مؤسسة الأمم المتّحدة بجعل السنة 1994 سنة الأسرة العالمية. هذه المبادرة تظهر أن قضية الأسرة قضيّة أساسيّة بالنسبة إلى الدول الأعضاء في تلك المؤسّسة. ولئن رغبت الكنيسة في أن تشترك في تلك المبادرة فذلك لأن المسيح أرسلها، إلى “جميع الأمم” (متى 28 : 19). وليست المرّة الأولى التي تتبنّى الكنيسة فيها مبادرة عالميّة لمؤسّسة الأمم المتّحدة. يكفي التّذكير مثلاً بسنة الشباب العالميّة في عام 1985. وهكذا تثبت حضورها في العالم محقّقة الهدف الذي كان غالياً لدى البابا يوحنا الثالث والعشرين، والذي أوحى بالدستور المجمعي “الفرح والرّجاء”.
في عيد “العائلة المقدّسة” من السنة 1993 افتتحت، في مجموعة الكنيسة كلّها، “سنة الأسرة”، المرحلة التّعبيريّه، في خطّة التَّهييء ليوبيل السّنة 2000 الكبير الذي يسجّل نهاية الألف الثاني وبداية الألف الثالث لميلاد يسوع المسيح. فهذه السّنة يجب أن تحملنا على التوجّه، روحاً وقلباً، نحو الناصرة، حيث قام المفوّض الرسولي، في 26 كانون الأول الأخير، بترؤس تدشينها تدشيناً رسمياً بالاحتفال بسرّ الإفخارستيّا.
من المهمّ على مدّ هذه السنة تجديد اكتشاف آيات محبّة الكنيسة للأسرة واهتمامها لها، محبّة واهتمام جرى التّعبير عنهما منذ فجر المسيحيّة، عندما كانت الأسرة تعّد، على وجهٍ تعبيريّ، “كنيسة بيتية”. وكثيراً ما نعيد، في أيامنا هذه، تعبير “الكنيسة البيتيّة” الذي تبنّاه المجمع (6)، والذي نرجو أن يظلّ أبداًَ مضمونه حيّاً وراهناً. هذه الرغبة لم يمحها قطّ وعيّ الإنسان للحالات الجديدة في وجود الأسر في عالم اليوم. وهذا ما يُضيف معنى إلى العنوان الذي اختاره المجمع، في الدستور الراعويّ “الفرح والرجاء” للدّلالة على مهامّ الكنيسة في الحالة الحاضرة: “تعزيز كرامة الزّواج والأسرة” (7). وبعد المجمع نجد في الإرشاد الرسولي لسنة 1981: “وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم” (Familiaris consortio) مرجعاً مهمّاً. في هذا النصّ معالجة لتجربة واسعة ومعقّدة في شأن الأسرة: إنها في ما بين الشعوب والبلدان المختلفة تبقى أبداً وفي كل مكان “طريق الكنيسة”. وهي، على وجهٍ ما، تكونها أكثر فأكثر حيث تعتور الأسرة أزمات داخلية، أو تتعرض لمؤثّرات ثقافية واجتماعية واقتصادية ضارّة تعمل على تفكيك عُراها، وقد تكون موانع لذات تكوينها.
الصلاة
4- أودّ في هذه الرسالة أن أتوجّه لا إلى الأسرة بوجه عامٍ وتجريديّ، بل إلى كل أسرةٍ خاصّة ذاتية من جميع بقاع الأرض، في أي مكان وجدت، ومهما تنوّعت وتعقّدت ثقافتها وتاريخها. إن المحبّة التي “أحبّ بها الله العالم” (يو 3 : 16)، “والمحبة إلى النهاية” التي أحبّ المسيح الجميع وكلّ واحدٍ بمفرده (يو 13 : 1) تمكّنان من توجيه هذه الرسالة إلى كل أسرة، “خليّة” الحياة “للأسرة” البشريّة الكبيرة والشاملة. إن الآب، خالق الكون، والابن المتجسّد، فادي البشريّة، هما مصدر هذا الانفتاح الشامل على البشر وكأنّهم إخوةٌ وأخوات، وهما يدعوان إلى تناولهم جميعاً في الصلاة التي تبدأ بالكلام المؤثّر “أبانا”. الصلاة تعمل على أن يبقى ابن الله في ما بيننا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك في ما بينهم” (متى 18 : 20). هذه الرسالة الموجّهة إلى الأسر تريد أن تكون قبل كل شيء صلاةً موجّهة إلى المسيح لكي يبقى في كل واحدة من الأسر البشرية نداءً موجّهاً إليه، من خلال الأسرة الصغيرة القائمة على الأبوين والأبناء، ليقيم في أسرة الأمم الكبيرة، حتى نستطيع معه جميعاً أن نقول في الحقيقة: “أبانا!”. يجب أن تصبح الصلاة العنصر الأهمّ للكنيسة في سنة الأسرة: صلاة الأسرة، صلاة لأجل الأسرة، صلاة مع الأسرة.
من الثابت واللافت أن الإنسان، في الصّلاة وبالصّلاة، يكتشف شخصيّته الحقيقية بطريقةٍ غايةٍ في السهولة والعمق: في الصلاة يلمس “الأنا” البشرّ، بطريقة أسهل، عمق كونه شخصاً. وهذا يجري أيضاً على الأسرة التي ليست “خلية” المجتمع الأساسيّة وحسب، بل إنها ذات طابع خاصّ. وهذا الطابع يجد دعماً أوّل وأساسيّاً، ويتثبت عندما يجتمع أعضاء الأسرة الروحيّة وتقوّيها، وتعمل على إشراك الأسرة في “قدرة” الله. في “بركة الزّواج” الاحتفالية، عند الاحتفال بالقران، يستدعي المحتفل بالسرّ الربّ في سبيل المقترنين قائلاً: “أنزل عليهما نعمة الروح القدس حتى يظلاّ أبداً، بفعل محبّتك المبثوثة في قلبيهما، وفيّين للعهد الزوجيّ” (8). فمن هذا “الفيض للروح القدس” تنشأ قوّة الأسر الداخلية، كما تنشأ أيضاً القدرة التي تمكّنها من الاتحاد في المحبّة والحقّ.
حبّ جميع الأسر والاهتمام بها
5- فلتصبح سنة الأسرة صلاةً عامّةً ومتواصلة في شتى “الكنائس البيتيّة” ولدى شعب الله كلّه! ولتشمل النيّة في هذه الصّلاة أيضاً الأسر الواقعة في ضيقة أو في خطر، وتلك التي نالها اليأس أو التفكك، والواقعة في الحالات التي وصفها الإرشاد الرسولي “في وظائف العائلة المسيحية…” باللانظاميّة! (9). عساها جميعاً تشعر شعوراً عميقاً بمحبة إخوانها وأخواتها واهتمامهم.
فلتكن الصلاة قبل كل شيء، في سنة الأسرة، شهادة مشجعة من قبل الأسر التي تحقّق، في الشركة العيلّية، دعوة حياتها الإنسانية والمسيحية! إنهن كثيرات جدّاً في جميع البلدان، وفي جميع الأبرشيّات وجميع الرعايا. وإنه لمن الصواب التفكير في أنهنّ “القاعدة”، حتى وإن لم نتجاهل العدد الكبير “للحالات اللانظامية”. والخبرة تظهر أهميّة دور أسرةٍ تعيش على سنن النّظم الأخلاقية، في حياة إنسان يولد فيها، ويترعرع على مسلكها، لكي يسير غير متردد في طريق الخير المنقوشة أصلاً وأبداً في قلبه. هنالك مؤسّسات مختلفة ومتسلّحة بوسائل فعّالة يبدو في همها تفكيك الأسر. ويبدو أكثر من ذلك أحياناً أن هنالك من يسعى بشتى الوسائل لإظهار حالاتٍ “لا نظامية” “نظامية” وجذّابة بتغليفها بظواهر ساحرة. وهكذا فهي تناقض “الحقيقة والمحبّة” اللتين من شأنهما أن تُلهما وتقودا العلاقات بين الرجال والنساء، وهي من ثم أسباب مشادات وانقسامات في الأسر، ذات نتائج وخيمة، ولا سيّما بالنّسبة إلى الأبناء. الضمير الخلقي في ظلام، والالتباس قائم في موضوع الخير والجمال، والحرّية مستعاضٌ عنها بعبوديّة حقيقيّة. تجاه هذا كلّه نرى لأقوال القديس بولس، في شأن الحريّة التي حرّرنا بها المسيح والعبوديّة الناشئة عن الخطيئة (غلا 5 : 1)، نرى لها مدّاً حالياً فريداً، كما نجد فيها ما يشدّنا إلى الأمام.
إنّنا ندرك إذن كم لسنة الأسرة في الكنيسة من ملاءمة بل من ضرورة؛ وكم تبدو ضروريّة شهادة جميع الأسر التي تعيش دعوتها كل يوم؛ وكم تبدو ملحّةً صلاة كبيرةٌ للأسر تتكثف وتتّسع لتشمل العالم كلّه، وتنطق بالتّعبير عن شكر المحبة في الحقيقة، “وفيض نعمة الروح القدس” (10)، وحضور المسيح بين الآباء والأبناء، المسيح الفادي والعروس الذي “أحبّنا إلى الغاية”، (طالع يو 13 : 1). إنّنا موقنون في أعماق ذواتنا أن هذه المحبّة أعظم من كل شيء، (طالع 1 كور 13:13). وإننا نعتقد بأنه في إمكان هذه المحبّة أن تتفوق وتتغلّب على كل ما ليس محبّة.
فلترتفع ارتفاعاً متواصلاً، في هذه السنة، صلاة الأسر، “الكنائس البيتيّة”! ولتسمع لدى الله أولاً، ثمّ لدى البشر، حتى لا يقع هؤلاء في الشكّ، ولا يتهاوى من يهوي بهم الضغف البشري أمام الإغراء الكاذب الذي تقدّمه الخيرات التي ليس لها من الخير إلاّ الظاهر، كتلك التي تقدّمه التّجارب!
في قانا الجليل حيث دُعي يسوع إلى وليمة عرس توجّهت والدته – وكانت حاضرةً أيضاً – إلى الخدم وقالت لهم: “إفعلوا كل ما يقوله لكم” (يو 2 : 5). وإلينا أيضاً، نحن الذين دخلنا في سنة الأسرة، تتوجّه مريم بهذا الكلام. والذي يقوله لنا المسيح في هذه المرحلة الخاصّة من التاريخ، هو دعوةٌ صارخةٌ إلى صلاة عظيمة مع الأسر ومن أجل الأسر. والعذراء مريم تدعونا إلى الاتّحاد، بهذه الصلاة، بعواطف ابنها الذي يحُبّ كلّ أسرة. إنه عبّر عن محبّته هذه في مطلع رسالته الفدائية، أي بحضوره التقديسيّ في قانا الجليل، ذلك الحضور الذي لا ينقطع أبداً.
فلنصلّ لأجل أسر العالم كلّه. لنصلّ به، ومعه، وفيه، الآب “الذي منه تسمى كل أبوّة في السماوات وعلى الأرض” (أ ف 3 : 15).
القسم الأوّل
حضارة المحبّة
“ذكراً وأنثى خَلقهم”
6- الكون الواسع والشديد التنوّع، عالم جميع الكائنات الحيّة، منقوشٌ في أبوة الله على أنّه ينبوعه (طالع أ ف 3 : 14 – 16). من الطبيعي أنه منقوش على خطة التّشابه التي تمكننا، منذ فاتحة سفر التكوين، من تمييز حقيقة الأبّوة والأمومة، ومن ثم حقيقة الأسرة البشرية أيضاً. مفتاح التّّفسير كامنٌ في مبدأ “صورة الله” و”مثاله”، الذي يبرزهُ النص الكتابي إبرازاً شديد الوضوح (تك 1 : 2). لقد خلق الله بقوة كلمته “ليكن”! (مثلاً تك 1 : 3). ومن مقتضى البيان أن تكمّل كلمة الربّ هذه، في موضوع خلق الإنسان، بهذه الكلمات الأخرى: “لنصنع الإنسان على صورتنا، كمثالنا” (تك 1 : 26). فكأنيّ بالخالق، قبل خلقه الإنسان، قد أنكفأ على ذاته يطلب له المثال والفكرة في سرّ كينونته الإلهيّة، ومُذ ذاك ظهر ذلك السرّ ولد الكائن البشريّ عن طريق الخلق: “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1 : 27).
قال الله لخليقته الجديدة مباركاً: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها” (تك 1 : 28). فيستعمل سفر التكوين تعبيراً استعمل قبلاً في نصّ خلق الكائنات الحية الأخرى، أي “اكثري”، إلا أن المفهوم التشبيهيّ فيه واضح. أليس هنالك، إذا ما تقرّينا كامل النص في ضوء قرائنه، تشبيه بالولادة والأبوة والأمومة؟ لا أحد من الكائنات الحيّة خلق “على صورة الله، كمثاله” ما عدا الإنسان. وإن لم يكن هنالك فرقٌ بيولوجي في الأبوة والأمومة عند الإنسان وسائر كائنات الطبيعة، فإن لهم عند الإنسان إلى ذلك، وعلى نحوٍ جوهريٍ وانفراديٍّ، “شبهاً” مع الله، تقوم عليه الأسرة في كونها شركة حياة بشريّة، شركة أشخاصٍ يوجدهم الحبّ (Communio personarum) .
من الممكن، في ضوء العهد الجديد، استشفاف كون مثال الأسرة الأصيل يجب طلبه في الله ذاته، في سرّ حياته الثالوثيّ. الـ “نحن” الإلهيّ هو المثال الأزلي للـ “نحن” البشريّ، وقبل كل شيء للـ “نحن” المؤلّف من الرّجل والمرأة، المخلوقين على صورة الله، كمثاله. إن أقوال سفر التكوين تتضمن، في شأن الإنسان، الحقيقة التي تنطبق عليها تجربة البشر نفسها. الإنسان مولودٌ منذ “البدء” ذكراً وأنثى: حياة المجموعة البشرية – في جماعاتها الصغيرة وفي مجتمعها كله – موسومة بسمة الثنائيّة الأصليّة هذه. فمنها “ذكورة” الأشخاص أو “أنوثتهم”؛ ومنها أيضاً تكتسب كلّ جماعةٍ ميزتها وغناها في تكامل أشخاصها. قد يكون إلى هذا مدلول عبارة سفر التكوين: “ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1 : 27) وفي هذا أيضاً أوّل إعلان لمساواة الرجل والمرأة في الكرامة: إنّهما كليهما شخصان متماثلان. فتكوينهما، مع الكرامة النوعيّة التي تتبعه، يثبت منذ “البدء” ميزات خير البشريّة العام في كل حجم وفي كل ميدان حياة. ففي سبيل هذا الخير العام يعملان كلاهما، رجلاً وامرأة، وعلى هذا التكاتف تقوم، في أصول التعايش البشريّ نفسها، ميزة التشارك والتّكامل.
عهد الزّواج
7- منذ البدء تعدّ الأسرة التعبير الأوّل والأساسيّ عن طبيعة الإنسان الاجتماعية. وهذا المفهوم لم يتغيّر جوهرياً حتى في يومنا الحاضر. ولكنّهم يفضّلون اليوم أن يبرزوا في الأسرة، التي تتألف منها أصغر مجموعة بشريّة في الأساس، ما هو من الإسهام الشخصيّ للرّجل والمرأة. فالأسرة مجموعة أشخاص تقوم حقيقة وجودهم وحياتهم معاً على الشركة (Communio personarum) . وهنا أيضاً، ومع استثناء سموّ الخالق المطلق بالنسبة إلى الخليقة، تبرز الإشارة المُثلى إلى الـ “نحن” الإلهيّ. الأشخاص وحدهم قادرون على الوجود “في شركة”. الأسرة تنشأ من الشركة الزوجيّة التي ينعتها المجمع الفاتيكانيّ الثاني بالـ “عهد” الذي يتبادل به الأزواج العطاء والتقبّل” (11).
إن سفر التكوين يوقفنا على هذه الحقيقة عندما يثبت، بالنسبة إلى تأسيس الأسرة بالزواج، “أن الرجل يترك أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً” (تك 2 : 24). وفي الإنجيل، يكرّر المسيح، في نقاشه مع الفرّيسيين، هذا الكلام نفسه ويضيف: “فليسا هما اثنين بعد ولكنّهما جسدٌ واحد. وما جمعه الله فلا يفرقّه إنسان” (متى 19 : 6). إنه يكشف مرّةً أخرى عن المضمون القياسيّ لأمر كان موجوداً “منذ البدء” (متى 19 : 8) وهو يحتفظ أبداً بهذا المضمون في ذاته. فإن أقرّه الربّ “الآن” فهو يقرّه لكي يوضح ويبعد عن اللّبس، على عتبة العهد الجديد، ميزة الزواج الغير قابلة الحلّ، على أنها أساس خير الأسرة العامّ.
عندما نجثو مع الرسول على الرّكب في حضرة الآب الذي منه تسمى كلّ أبوة وأمومة (طالع أ ف 3 : 14 – 15) نعي، في كون الوالدين والدين، أنه الحدث الذي تتحقق به الأسرة، وقد تألفت بعقد القران، تحققاً “بالمعنة الكامل والدقيق للفظة” (12). الأمومة تفترض الأبوّة بالضرورة، وعلى ذلك فالأبوة تفترض الأمومة بالضّرورة: إن ذلك ثمرة الثنائية التي جعلها الخالق، “منذ البدء” في الكائن البشريّ.
فقد أوردت مفهومين متقاربين لا مترادفين: مفهوم “الشركة” ومفهوم “المجموعة”. و”الشركة” تعني العلاقة الشخصيّة بين الـ “أنا” والـ “أنت”؛ أما “المجموعة” فبخلاف ذلك، تتجاوز هذا الخطّ في اتّجاه “مجتمع”، أي “نحن”. فالأسرة، في كونها مجموعة أشخاص، هي إذن “المجتمع” الإنسانيّ الأوّل. إنها تولد حالما يتحقق عهد الزواج، الذي ينقل الزّوجين إلى شركة محبّةٍ وحياة ثابتة تكتمل اكتمالاً كليّاً وعلى وجهٍ نوعيّ، بإنجاب أولاد: بـ “شركة” الأزواج توجد “المجموعة” العيليّة. “المجموعة” العيلية مشربةٌ إشراباً حميماً بما يؤلف جوهر “الشركة” الخاصّ. هل من “شركة”، على المستوى البشريّ، تشبه تلك القائمة بين أمّ وابنها، الذي حملته أولاً في أحشائها، ثم وضعته بعد ذلك؟
في الأسرة المؤلفة هكذا تتجلّى وحدةٌ جديدة تقوم فيها قياماً كليّاً علاقة “شركة” الأهل. والخبرة تظهر أنّ فيها قياماً كليّاً علاقة “الشركة” الأهل. والخبرة تظهر أنّ هذا القيام واجبٌ وتحدّ. الواجب يلزم الأزواج ويُفعّل عهدهما الأصيل. ومن شأن الأبناء الذين أنجبوهم – وهنا التحدّي – أن يثبّتوا هذا العهد بتنمية وتعميق شركة الأب والأمّ الزوجيّة. وإذا لم يتمّ الأمر كذلك وجب التساؤل هل الأثرة قد تغلّبت على الحبّ، تلك الأثرة التي تكمن حتى في حبّ الرّجل والمرأة بفعل الميل البشريّ إلى الشرّ. يجب على الأزواج أن يتنبّهوا لذلك. يجب عليهم، منذ البداية، أن يتوجّهوا بقلوبهم وأفكارهم إلى الله الذي “منه تسمّى كلّ أبوّةٍ”، لكي تستمد أبوّتهم وأمومتهم من هذا المورد القدرة على التجدّد المتواصل في المحبّة.
الأبوّة والأمومة هما في ذاتهما إثبات خاصّ للمحبة، وهما يتيحان اكتشاف سعتها وعمقها الأصيلين. ولكنّ ذلك لا يجري بطريقة آلية. إنها بالحري مهمّة موكولة إليهما معاً، إلى الزوج والمرأة. إنّ الأبوة والأمومة تنشئان في حياتهما “جدّةٌ” وغنى عجيبين إلى حدّ أنّه لا يمكن التقرّب إليهما إلاّ “ركوعاً”.
تظهر الخبرة أن الحبّ البشريّ، الموجّه من طبيعته إلى الأبوة والأمومة، يصطدم أحياناً بأزمةٍ عميقة، وهو من ثمّ مهدّد تهديداً جدّياً. فلا بد، والحال هذه، من الالتفات إلى خدمة مستشاري الزواج أو الأسرة، الذين يمكن عن طريقهم التوسّل بوسائل مختلفة منها عناية علماء النفس وخبراء المعالجة النّفسية. وإلى ذلك فلا يمكن التّغاضي عن قيمة أقوال الرسول الدّائمة: “إني أجثوا على الرّكب في حضرة الآب الذي منه تسمّى كل أبوةّ في السّماء وعلى الأرض”. الزّواج، الزّواج السّريّ هو معاهدة أشخاصٍ في المحبّة. والحبّ لا يمكن تعميقه والحفاظ عليه إلاّ بالحبّ، ذلك الحبّ الذي “أُفيض في قلوبنا بالرّوح القدس الذي أعطي لنا” (رو 5:5). ألا يحسن بصلاة سنة الأسرة أن تتمحور على النقطة الرّئيسية والنهائيّة التي يقوم بها الرّباط الفعّال، أي الانتقال من الحبّ الزوجيّ إلى الإنجاب، ومن ثمّ إلى الأبوّة والأمومة؟ أليس ههنا يصبح من الضروريّ “فيض نعمة الروح القدس” الذي يُستمدّ في الاحتفال الليترجيّ بسرّ الزّواج؟
إن الرسول يجثو على الركب أمام الآب ويتوسّل إليه “ليعطيكم أن تتأيّدوا في القوّة بروحه في الإنسان الباطن” (أف 3 : 16)؟ “فقوة الإنسان الباطن” هذه ضرورية في الحياة العيليّة، ولا سيّما في آونة محنتها، أي عندما يُدعى الحبّ إلى التغلب على المحنة الصعبة، ذلك الحبّ الذي عُبّر عنه، في الطقس الليترجيّ، عند تبادل الرضى، بالكلمات التالية: “إني أعد بأن أبقى على الأمانة… كل أيّام حياتي”.
وحدة الاثنين
8- “الأشخاص” وحدهم يستطيعون أن يفوهوا بهذه الأقوال؛ وهم وحدهم بإمكانهم أن يعيشوا “في شركة” بالاستناد إلى الاختيار المتبادل الذي هو، أو الذي من شأنه أن يكون واعياً وحراً ملء الوعي والحريّة. إن سفر التكوين، عندما يتكلّم على الرّجل الذي يترك أباه وأمّه لكي يلزم امرأته (طالع تك 2 : 24)، يبرز الاختيار الواعي والحرّ الذي ينشأ عنه القران، جاعلاً أحد الأبناء زوجاً، وإحدى البنات زوجةً. كيف يُفهم فهماً سويّاً هذا الاختيار المتبادل إذا لم يكن هنالك ملء حقيقة الشخص، أي الكائن العاقل الحرّ؟ المجمع الفاتيكاني الثاني يتكلم على المشابهة مع الله بألفاظ جدّ معبّرة. إنه لا يستند بذلك في ذاته، بل يستند أيضاً وخصوصاً إلى “نوع من الشّبه يقوم بين اتّحاد الأقانيم الإلهيّة واتّحاد أبناء الله في الحقّ وفي المحبّة” (13).
هذه الصّيغة، الفريدة في غنى معناها، تثبت قبل كلّ شيء ما يحدد الهوية العميقة لكل رجل وكل امرأة. وهذه الهويّة تقوم بالقدرة على الحياة في الحقيقة وفي المحبة؛ وهي تقوم، أكثر من ذلك، بالحاجة إلى الحقيقة والمحبّة، البُعد الذي تقوم به حياة الشخص. وهذه الحاجة إلى الحقيقة والمحبّة تفتح الإنسان على الله كما تفتحه على الخلائق: تفتحه على الأشخاص الآخرين، على الحياة ” في شركة”، وبنوع خاص على الزّواج وعلى الأسرة. في أقوال المجمع تنجم “شركة” الأشخاص، على وجه ما، عن سرّ الـ “نحن” الثالوثي، وتتصل من ثمّ “الشركة الزّوجية” هي أيضاً بهذا السرّ. إن الأسرة التي تنشأ من الحبّ بين الرجل والمرأة هي ناجمة أساساً عن سرّ الله. وهذا يتّفق وجوهر الرجل والمرأة الحميم، وكرامتهما الأولى والأصلية كشخصين.
في الزّواج يتّحد الرّجل والمرأة اتحاداً وثيقاً إلى حد أنهما يصيران، على حدّ كلام سفر التكوين، “جسداً واحداً” (تك 2 : 24). الرّجل والمرأة، الشّخصان البشريّان، وإن اختلفا جسدّياً، يتقاسمان، من جرّاء تكوينهما الطبيعيّ، تقاسماً سوياً، القدرة على الحياة “في الحقيقة وفي المحبّة”. هذه القدرة التي تميّز الكائن البشريّ شخصاً، ذات بعدٍ روحي وجسديّ معاً. وإنه لمن خلال الجسد يجد الرجل والمرأة أنّهما مهيّآن لإنشاء “شركة شخصين” في الزّواج. وإنّهما، بحكم عقد القران، عندما يتحّدان إلى حدّ أنهما يصبحان “جسداً واحداً” (تك 2 : 24)، يجب أن يجري اتّحادهما “في الحقيقة وفي المحبّة”، مظهرين هكذا النّضوج الخاصّ للأشخاص المخلوقين على صورة الله، كمثاله.
إن الأسرة التي تنشأ عن ذلك تجد رسوخها الدّاخلي في العهد المعقود بين الزّوجين، والذي جعله المسيح سراً. إنها تجد طبيعتها الجماعية، أو بالحريّ ميزتها “كشركة” في شركة الزوجين الأساسية التي تمتدّ إلى الأبناء. “هل أنتما مستعدّان لأن تتقبّلا بمحبّةٍ الأبناء الذين يريد الله أن يمنحكماهم وأن تقوما بتربيتهم؟…” : سؤال يوّجهه المحتفل إبان الاحتفال بالزّواج” (14). إن جواب الزّوجين يعبّر عن الحقيقة الحميمة للحبّ الذي يوحّدهما. وهذه الوحدة تعمل، لا على الانغلاق على ذاتيهما، بل بالحريّ على الانفتاح على حياةٍ جديدة، على شخصية جدديدة. وبكونهما أبوين، يصبح بإمكانهما أن يعطيا الحياة لكائن شبيه بهما، لا “لحم من لحمهما وعظم من عظامهما” (طالع تك 2 : 23) فحسب، بل صورةٌ ومثالٌ لله، أي شخص.
بالسّؤال “هل أنتما مستعدّان؟” تذكر الكنيسة الزوجين الجديدين بأنهما أمام قدرة الله الخالقة. إنّهما مدعوّان إلى أن يصيرا والدين، أي مسهمين مع الخالق في إعطاء الحياة. والإسهام مع الله في دعوة كائنات بشريّة جديدة إلى الحياة، يعني الاشتراك في نقل صورة الله ومثاله اللذين يعكسهما كلّ “مولود من امرأة”.
سلالة الشّخص
9- بشركة الأشخاص التي تتحقق في الزواج، ينشئ الرجل والمرأة أسرةً. وبالأسرة ترتبط سلالة كلّ إنسان: سلالة الشخص. الأبوة والأمومة البشريتان متأصّلتان في علم الحياة، وهما في الوقت نفسه تتفوّقا عليه، الرسول الذي يجثو “على الركب في حضرة الآب الذي منه تسّمى كل أبوّة (كلّ أمومةٍ) في السّماء وعلى الأرض، يبسط على نحوٍ ما، أمام أعيننا، كلّ عالم الكائنات الحيّة، من كائنات السماء الرّوحانيّة حتى كائنات الأرض الجسمانية. كلّ سلالةٍ تجد مثالها الأصيل في الأبوّة الإلهية.
إلا أنّه، في ما هو من شأن الإنسان، لا يكفي هذا البعد “الكونيّ” من الشّبه مع الله، لتحديد علاقة الأبوة والأمومة تحديداً كامل المطابقة. عندما يولد، من اتّحاد الاثنين بالزّواج، إنسان جديد، فإنه يحمل معه إلى العالم صورةً ومثالاً خاصّين لله ذاته: إن سلالة الشخص مسجّلة في حياتيات الولادة.
عندما نثبت أنّ الزوجين، بكونهما والدين، يسهمان مع الله الخالق في الحمل وفي ولادة كائن بشريّ جديد (15)، لا نرجع في ذلك إلى نظم علم الحياة فحسب، بل نريد بالحريّ التشديد على أن الله نفسه حاضرٌ في الأبوة والأمومة البشريّتين، على نحوٍ يختلف عمّا يجري في أيّ ولادة أخرى “على الأرض”. وهكذا فمن الله وحده يمكن أن تصدر هذه “الصورة”، هذا “المثال” الخاصّ بالكائن البشريّ، كما جرى ذلك في عمل الخلق. الولادة مواصلة الخلق (16).
وهكذا ففي الحمل كما في ولادة إنسان جديدٍ، يجد الوالدون أنفسهم أمام “سرٍّ عظيم” (أف 5 : 32). فالكائن البشريّ الجديد، على غرار والديه، مدعو هو أيضاً إلى الوجود على أنه شخص؛ إنه مدعوّ إلى الحياة “في الحقيقة وفي المحبّة”. ليست هذه الدعوة لما هو في الزّمن فحسب، ولكنها، في الله، دعوة أيضاً من شأنها الإطلالة على الخلود. ذلك هو بعد سلالة الشخص الذي كشفه المسيح نهائياً، بإلقاء ضوء إنجيله على الحياة وعلى الموت البشريّين، ومن ثمّ على مفهوم الأسرة البشريّة.
لقد أثبت المجمع أن الإنسان هو “الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها على الأرض” (17). إن تكوين الإنسان لا يستجيب فقط لنظم علم الحياة، ولكنه استجابة مباشرة لإرادة الله الخلاّقة، أي للإرادة التي تتعلق بسلالة أبناء وبنات الأسر البشريّة. إن الله “أراد” الإنسان منذ البدء، والله “يريده” في كل حمل وفي كلّ ولادة بشريّين. الله “يريد” الإنسان كائناً مشابهاً له، شخصاً. هذا الإنسان، كلّ إنسان، خلقه الله “لذاته”. هذا شأن جميع الكائنات البشريّة في غير استثناء لمن يولدون مرضى أو مشوّهين. إن إرادة الله محفورة في تكوين كل واحد الشخصيّ، إرادة الله الذي يريد أن تكون غاية الإنسان هي، على وجه ما، الإنسان نفسه. الله يلقي الإنسان إلى ذاته، عندما يكله، في الوقت نفسه، إلى مسؤولية الأسرة والمجتمع. أمام كائنٍ بشريّ جديد يجب على الوالدين، أو قد يكون من الواجب عليهم، أن يعوا وعياً كاملاً أن الله “يريد” هذا الكائن “لذاته”.
هذا التعبير المجمل غاية في الغنى وفي العمق. إن الكائن البشريّ الجديد، منذ اللحظة الأولى للحبل به ثم لولادته، معدّ لأن يعبر ملء التعبير عن إنسانيته، لأن “يجد نفسه” (18) شخصاً. إن هذا يعني الجميع على وجه الإطلاق، حتى المرضى بمرضٍ مزمنٍ والمعاقين. إن دعوته الأساسية هي أن “يكون إنساناً”: أن يكون إنساناً على مقدار الموهبة الممنوحة؛ على مقدار هذه “الوزنة” أي البشرية نفسها، ثمّ وبعد ذلك على مقدار الوزنات الأخرى.
بهذا المعنى يريد الله كل إنسان “لذاته”. إلا أنه، في مقاصد الله، تمتد دعوة الشخص إلى ما وراء حدود الزمان. إنها تلتحق بإرادة الآب الموحى بها في الكلمة المتجسد: إن الله يريد أن يمد الإنسان إلى الاشتراك في حياته الإلهية نفسها. يقول المسيح: “أتيت لكيما تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر” (يو 10:10).
أليس هنالك مفارقة بين غاية الإنسان القصوى والقول بأن الله يريد الإنسان “لذاته”؟ إذا كان الإنسان مخلوقاً للحياة الإلهية، فهل هو في الحقيقة موجودٌ “لذاته”؟ تلك مسألة مفتاح، ذات أهمية كبيرة في بدء وجوده الأرضي وفي آخر ذلك الوجود: إنها مهمة على مدى الحياة. كأني بالله، عندما جعل غاية الإنسان في الحياة الإلهية، أخرجه نهائياً من وجوده ” لذاته” (19). ما العلاقة بين حياة الشخص والاشتراك في الحياة الثالوثية؟ يجيب القديس أوغسطينس بقوله الشهير: “إن قلبنا لا يجد راحةً إلى أن يستريح فيك” (20). هذا “القلب الفاقد الراحة” يُظهر أن لا مفارقة بين الغايتين، بل أن هنالك رابطاً، توافقاً، وحدةً عميقة. إن الشخص المخلوق على صورة الله ومثاله، بحكم سلالته ذاتها، عندما يشترك في حياة الله، يوجد “لذاته” ويحقق ذاته. إن مضمون هذا التحقيق هو ملء الحياة في الله، الحياة التي تكلم عليها المسيح (طالع يو 6 : 37 ـ 40) الذي افتدانا لكي يدخلنا في تلك الحياة (طالع مر 10 : 45).
يرغب الأزواج في الأبناء لذواتهم؛ وهم يرون فيهم إكليل حبهم المتبادل. يرغبون فيهم للأسرة، وكأنهم هبةٌ جد ثمينة (21). إنها رغبةٌ غير مستغربةٍ على وجهٍ ما. إلا أنه، في الحب الزوجي كما في الحب الأبوي والأمومي، يجب أن تُسجل حقيقة الإنسان، التي عبر عنها المجمع، بطريقة مُجملة ودقيقة، عندما أثبت أن الله “يريد الإنسان لذاته”. ولهذا يجب أن تواسق إرادة الوالدين إرادة الله: بهذا المعنى يجب أن يريدوا الخليقة البشرية الجديدة كما يريدها الخالق: “لذاتها”. الإرادة البشرية خاضعةٌ أبداً ولزوماً لناموس الزمن والبُطلان؛ أما إرادة الله فهي بخلاف ذلك أزلية. إننا نقرأ في نبوءة إرميا: “قيل أن أصورك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك” (1 : 5). وهكذا فسُلالة الشخص مرتبطةٌ قبل كل شيء بأزلية الله، ثم وبعد ذلك بالأبوة والأمومة البشريتين اللتين تتحققان في الزمن. فالإنسان موجه إلى أزلية الله منذ لحظة الحبل به.
خبر الزواج و الأسرة العام
10ـ إن الرضى الزواجي يُقر ويُثبت الخير الذي هو عامٌ للزواج وللأسرة. “إني أتخذك… زوجةً ـ زوجاً ـ وأعد بأن أُقيم على الأمانة لك في السعادة والشدة، في المرض وفي الصحة، لكي أُحبك واحترمك جميع أيام حياتي” (22). فالزواج شركة أشخاصٍ وحيدة. والأسرة بقيامها على هذه الشركة، مدعوةٌ إلى أن تصير مجموعة أشخاص. إنه تعهُدٌ يعقده الزوجان الجديدان “أمام الله وأمام الكنيسة”، على حد ما يذكرهم به المحتفل عند تبادل الرضى (23). والذين يشتركون في الاحتفال هم شهودٌ على هذا التعهد؛ وفيهم تتمثل الكنيسة والمجتمع هما بيئة حياة الأسرة الجديدة.
كلمات الرضى الزواجي تحدد الخير العام للزوجين وللأسرة: أولاً خير الزوجين العام: المحبة، الأمانة، الاحترام، ثبات اتحادهما حتى الموت، “جميع أيام حياتهما”. فخيرهما كليهما الذي هو في الوقت نفسه خير كل واحد منهما، يجب أن يصبح في ما بعد خير الأبناء. والخير العام، وإن جمع الشخصين في الوحدة، فهو من طبيعته يؤمن الخير الحقيقي لكلٍ منهما. إذا كانت الكنيسة، وعلى غرار الدولة، تقبل رضى الزوجين الناطق في الألفاظ المذكورة آنفاً، فإنما تفعل ذلك لأنه “مكتوب في قلوبهم”، (روم 2 : 15). الزوجان هما اللذان يتبادلان فعل الرضى الزواجي، بالقسم الذي يؤديانه، أي يُعلنان به أمام الله حقيقة رضاهما. ولكونهما معمدين، فهما في الكنيسة خادما سر الزواج. والقديس بولس يعلم أن تعهدهما المتبادل “سرٌ عظيم” (أف 5 : 32).
إن ألفاظ الرضى تعبر إذاً عن قوام خير الزوجين العام، وهي تدل على ما يجب أن يكون خير الأسرة الآتية العام. ولكي تُبرز الكنيسة ذلك تسألهما هل هما على استعداد لتقبل الأبناء الذين يشاء الله أن يمنحهُماهم، وتربيتهم تربيةً مسيحيةً. هذا السؤال يرمي إلى خير النواة العيلية الآتية، هذا مع الاحتساب بسُلالة الأشخاص المسجلة في تشكليل الزواج والأسرة نفسه. إن السؤال في شأن الأبناء وتربيتهم مُرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرضى الزواجي، بقسم المحبة والاحترام الزوجي، والأمانة حتى الموت. تقبُل الأبناء وتربيتهم، وهما اثنان من أهداف الأسرة الرئيسية، يتوقفان على طريقة التقيد بهذا التعهد. الأبوة والأمومة تمثلان مهمة ذات ميزة روحية بالإضافة إلى ميزتها الطبيعية؛ ففيهما تمر سلالة الشخص التي بدؤها الأبدي في الله، والتي يجب أن تقود إليه تعالى.
من شأن سنة الأسرة، التي ستكون سنة صلاةٍ خاصة نُقيمها الأسر، أن توقظ الوعي عند كل أسرة لكل هذا، على وجهٍ جديد وعميق. كم من موضوعاتٍ كتابية تستطيع أن تُغذي هذه الصلاة! ولكن يجب أن يُجمع دائماً إلى أقوال الكتاب المقدس ذكر الأزواج ـ الوالدين الشخصي، وذكر الأبناء والأحفاد. فبسُلالة الأشخاص تصبح الشركة الزوجية شركة الأجيال. إن اتحاد الاثنين السري، الذي خُتم في التعهد المعقود أمام الله، يثبت ويترسخ في تعاقُب الأجيال. يجب أن يُصبح وحدة صلاة. ولكي يتمكن هذا الاتحاد السري من الإشعاع في سنة الأسرة، على وجهٍ معبر، لا بُد من أن تُصبح الصلاة عادةً مترسخة عند كل أسرةٍ في حياتها اليومية. والصلاة هي شكر، وحمدٌ لله، وطلب غفران، وتوسل ودعاء. ولصلاة الأسرة في كل مادة من هذه المواد مجالٌ واسع لمخاطبة الله. ولها أيضاً أمورٌ كثيرةٌ تقولها للبشر، ابتداءً بالشركة المتبادلة بين الأشخاص الذين تجمعهم روابط عيلية.
“ما الإنسان حتى تذكره!” (مز 8 : 5) سؤال يتساءله صاحب المزامير: فالصلاة هي المجال الذي يذكر فيه الله الخالق والأب، على أبسط وجهٍ. وليس الإنسان فقط هو الذي يذكر الله ويذكره إلى حدٍِ بعيد، ولكن الله هو الذي يذكر الإنسان. ولهذا فصلاة المجموعة العيلية يمكن أن تُصبح مجال الذكر العام والمتبادل، لأن الأسرة مجموعةُ أجيال. فالجميع يجب أن يكونوا حاضرين في الصلاة: الأحياء، والأموات، وكذلك الذين سيقدمون العالم. يجب أن يُصلي في الأسرة من أجل كل شخص، على أن في الأسرة خيراً لكل شخص، وأن في كل شخص خيراً للأسرة. والصلاة تزيد هذا الخير ثباتاً، على أنه في الحقيقة خيرٌ عيليٌ عام. وهي، إلى ذلك، في أصل ولادة هذا الخير، على وجهٍ دائم الجدة. في الصلاة تجد الأسرة نفسها الـ “نحن” الأول الذي يكون فيه كل واحد الـ “أنا” والـ “أنت”؛ كل واحدٍ بالنسبة إلى الآخر زوجٌ أو امرأة، أبٌ أو أم، ابنٌ أو ابنة، أخٌ أو أخت، جدٌ أو حفيد.
هل الأسر التي أوجه إليها هذه الحال؛ إلا أنه في الزمن الذي نعيش فيه، يظهر الميل إلى قصر النواة العيلية على جيلين. وكثيراً ما يرجع ذلك إلى ضيق المساكن المتوفرة، ولا سيما في المدن الكبيرة. وقد يرجع ذلك أيضاً إلى الاعتقاد بأن تساكن عدة أجيال (في دار واحدة) يحول دون الألفة الحميمة ويجعل الحياة شديدة الصعوبة جداً. ولكن أليس في ذلك ضعف شديد؟ فإننا نجد قلةً من الحياة البشرية في أسر اليوم. لم يبق هنالك إلا أشخاص قليلون لإجراء الخلق معهم وتقاسم الخير؛ مع أن من طبيعة الخير أن يُخلق وأن يشترك فيه الغير، “فالخير ذو مدٍ انتشاري” “Bonum est diffusivum sui” (24). وبقدر ما يكون الخير عاماً يكون كذلك خاصاً: لي، لك، لنا. ذلك هو المنطق الجوهري للوجود في الخير، وفي الحقيقة، وفي المحبة. فإذا عرف الإنسان أن يتقبل هذا المنطق ويتبعه، يصبح وجوده في الحقيقة “عطاءً مجرداً”.
عطاء الذات المجرد
11ـ عندما يُثبت المجمع أن الإنسان هو الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها على الأرض، يضيف حالاً أنه (أي الإنسان) “لا يستطيع أن يوجد وجوداً تاماً إلا بتقديم ذاته تقدمةً مجردة خالصة” (25). قد يبدو في ذلك تناقض، وليس الأمر كذلك البتة. إنه بالحري المفارقة العظيمة والعجيبة في الوجود البشري: وجود مدعو إلى خدمة الحقيقة في المحبة. والمحبة تحمل الإنسان على تحقيق ذاته ببذلها عطاءً مجرداً. المحبة تعني منح وتقبُل ما لا يمكن كسبُه ولا بيعًه، ولكن ما يمكن فقط منحه بطريقة حرة ومتبادلة.
في طبيعة عطاء الشخص أن يكون ذا ديمومة ولا تراجع فيه. ولا انحلالية الزواج تصدر في الدرجة الأولى عن جوهر هذا العطاء: عطاء الشخص للشخص. وفي هذا العطاء المتبادل تظهر ميزة زوجيّة الحبّ. في الرضى الزواجيّ يتنادى الخطّيبان باسمَيهما: “أنا… أتّخذك… زوجوً (زوجاً) وأعد بأن أكون لك أميناً (أمينةً)… جميع أيّام حياتي”. إن عطاءً كهذا يربط ربطاً أشدّ وأعمق من أيّ شيءٍ يمكن “اكتسابه” بأي طريقة وبأيّ ثمن. بالجثوّ على الرُّكب أمام الآب، مصدر كل أبوّة وكلّ أمومة، يُصبح والدا المستقبل على وعي بأنّهما “أفتُديا”. أجل، إنّهما اكتُسبا بثمن باهظ، بثمن عطاءٍ لم يشبهه عطاءٌ في التجرّد، دم المسيح، الذي يشتركان فيه عن طريق السرّ؛ فالإفخارستيّا – ذبيحة “الجسد المبذول” “والدم المراق” – التي تجد، على وجهٍ ما، التعبير عنها في رضى الزّوجين، هي الإكليل الليترجيّ لطقس الزواج.
عندما يتبادل الرّجل والمرأة، في الزواج، العطاء والتقبّل في وحدة “جسدٍ واحد” يدخل في حياتهما منطق العطاء المجرّد والخالص. وبدون هذا المنطق يصبح الزّواج فارغاً، في حين أن شركة الشّخصين القائمة على هذا المنطق، تصبح شركة الوالدين. فعندما ينقل الزّوجان الحياة إلى ابنهما، يظهر “أنت” جديدٌ مكتوباً في مدار “نحن – هما”، شخص يُطلقون عليه اسماً جديداً: “ابننا…؛ ابنتنا…”. “رُزقت إنساناً من عند الرّب” (تك 4 : 1)، هذا ما قالته حوّاء المرأة الأولى في التاريخ: كائن بشريّ، انتُظر تسعة أشهر، ثم “أُظهر” للوالدين، وللإخوة والأخوات. إن مسيرة الحبل، والنموّ في حشا الأمّ، والوضع، والولادة، كلّ ذلك يخلق نوعاً من بُعدٍ ملائم تستطيع الخليقة الجديدة أن تظهر بمثابة “هبة”، إذ إنّها هكذا منذ البدء. وهل يمكن أن يُعدّ غير ذلك، هذا الكائن الضّعيف المجرّد من كلّ وسيلة دفاع، والذي يعود أمره إلى والديه في كلّ شيء، والمتروك لعنايتهما في كل حال؟ المولود الجديد يُسلّم أمره لوالديه بمجرّد ما يرى النور. ووجوده منذ اللحظة الأولى عطاء، أول عطاء من الخالق للمخلوق.
في المولود الجديد يتحقّق خير الأسرة العامّ. وكما أنّ خير الأزواج العام يكتمل في الحبّ الزّواجي، مستعدّاً لمنح الحياة الجديدة وتقبّلها، كذلك خير الأسرة العام فإنه يتحقّق بالحبّ الزواجيّ نفسه متجسّداً في المولود الجديد. إن سُلالة الأسرة مُسجَّلة في سلالة الشخص، وماثلة في سجلاّت العمادات، لذكرى دائمة، وإن لم يكن ذلك التَّسجيل سوى نتيجةٍ اجتماعية لكون “إنسان أتى إلى العالم” (طالع يو 16 : 21).
ولكن هل من الثابت أن الكائن البشريّ الجديد هو هبةٌ للأهل؟ أنّه هبةٌ للمجتمع؟ ليس في الظّاهر شيء يدلّ على ذلك. وقد يبدو أحياناً أنّ ولادة إنسانٍ هي مجرّد مادة إحصاء، مسجّلة كسواها في لوائح الإحصاءات السُّكانية. ولا شكّ أنّ ولادة ولدٍ تعني للوالدين أتعاباً مستقبليّة، وهموماً اقتصادية جديدة، وأعباءً عملية أخرى: أسباب مُتعددة من شأنها أن تميل بهما عن الرّغبة في ولادة أخرى (26). وأشدّ ما يكون هذا الميل في بعض الأوساط الاجتماعية والثقافية. وهكذا أفلا يكون الولد هبةً؟ وهل يأتي فقط ليأخذ لا ليعطي؟ تلك بعض القضايا المُقلقة التي يصعب على ابن اليوم أن يتخلّص منها. فالولد يأتي ليحتلّ محلاً، والمجال في العالم يبدو تقلّص مستمر. ولكن هل من الصّحيح أن الولد لا يحمل شيئاً للأسرة وللمجتمع؟ ألا تُراه يكون “عنصراً” من الخير العام تتفكّك بدونه المجموعات البشريّة وتكون عرضةً للهلاك؟ كيف يمكن إنكار ذلك؟ الولد يقدّم ذاته لإخوته، وأخواته، ووالديه، وكل أسرته. إن حياته تصبح عطاءً لمانحي الحياة أنفسهم الذين لا يمكنهم ألاّ يشعروا بحضور ابنهم، وباشتراكه في وجودهم، وبإسهامه في خيرهم العامّ في خير المجموعة العيليّة. تلك حقيقةٌ تلبث جليّةً في بساطتها وعمقها، على ما عند بعض الأشخاص من تعقّدٍ، وربّما من حالةٍ مرضيّة في تكوينهم النفسيّ. خير المجتمع العامّ كلّه كامنٌ في الإنسان الذي هو – كما قيل عنه – “طريق الكنيسة” (27). إنه قبل كل شيء “مجد الله”: “إن مجد الله هو الإنسان الحيّ” (Gloria Die vivens, homo) ، على حدّ القول المشهور للقديس إيريناوس (28)، الذي يمكن أن يُترجم أيضاً كما يلي: “إن مجد الله هو في أن يحيا الإنسان”. نحن هنا، إذا أمكن القول، أمام أسمى تحديد للإنسان: إن مجد الله هو الخير العام لجميع الموجودات، إنه خير الجنس البشريّ العام.
أجل، إن الإنسان هو خيرٌ عامٌ: خير عامً للأسرة وللبشريّة، للفئات المختلفة وللهيكليّات الاجتماعيّة المتعدّدة. ومع ذلك يجب التمييز المعبّر في الدّرجة والكيفيّة: مثلاً، الإنسان هو الخير العام للأمة التي ينتمي إليها، أو الدّولة التي هو أحد ابنائها؛ ولكنّه لأسرته بطريقةٍ أشدّ واقعية، وعلى وجهٍ فريد مُطلق؛ إنه كذلك لا لكونه فرداً وحسب، فرداً يدخُل جزءاً في جماهير البشر الغفيرة، بل لكونه “هذا الإنسان”. الله الخالق يدعوه إلى الوجود “لذاته”. وعندما يأتي الإنسان إلى العالم، يبدأ، في الأسرة، “مغامرته الكبرى”، مغامرة الحياة. “لهذا الإنسان” في كل حال، الحقّ في أن يُثبت ذاته بحكم كرامته الإنسانية. وهذه الكرامة هي التي من شأنها أن تحدّد مكانة الشخص في ما بين البشر، وقبل كل شيء، في الأسرة. ذلك أن الأسرة، أكثر من أيّ حقيقةٍ بشريّة أخرى، هي البيئة التي يمكن أن يوجد فيها الإنسان “لذاته” بتقديم نفسه تقدمةً مجرّدة. ولهذا تبقى الأسرة المؤسّسة الاجتماعية التي لا يمكن ولا يجوز استبدال شيء آخر بها: إنها “قدس أقداس الحياة” (29).
إنّ ولادة إنسانٍ، “مجيء كائنٍ بشريّ إلى العالم”، (طالع يو 16 : 21)، علامةً فصحية. ويسوع نفسه يتحدّث إلى رسله في هذا الموضوع، على حدّ ما أورد يوحنا الإنجيلي، عندما قابل، قبل آلامه وموته، الحزن الذي يتركه ذهابه بألم المرأة حين تلد: “المرأة حين تلد تحزن (أي أنها تتألمّ) لأن ساعتها قد أتت، لكنّها متى ولدت الطّفل لا تعود تتذكر شدّتها من أجل الفرح لأنه قد ولد إنسان في العالم” (يو 16 : 21). “ساعة” موت المسيح (طالع يو 13 : 1) مشبّهة هنا “بساعة” المرأة في ألم ولادتها؛ وولادة إنسان جديد هي بمثابة انتصار الحياة على الموت في قيامة الربّ. وفي هذه المقارنة مجال اعتبارات شتىّ. فكما أن قيامة المسيح هي إظهار للحياة بعد عتبة الموت، كذلك ولادة طفل فإنها أيضا إظهار للحياة التي يوجّهها المسيح أبداً إلى “ملء الحياة” الذي في الله ذاته: “إنّما أتيت لكيما تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر” (يو 10:10) هكذا يظهر المعنى الحقيقيّ لكلام القديس إيريناوس “إن مجد الله هو الإنسان الحيّ”، يظهر عن طريق الوحي بقيمته العميقة.
تلك هي الحقيقة الإنجيلية في موضوع بذل الذّات الذي لا يمكن للإنسان أن “يوجد وجوداً كاملاً” بدونه، وهي تسمح بإدراك إلى أي عمق يذهب هذا “العطاء المجرّد” في عطاء الله الخالق والفادي، وفي “نعمة الروح القدس” التي يطلب المحتفل فيضها على الزّوجين في أثناء الاحتفال بالزّواج. وإنه ليصعُب جدّاً بدون هذا “الفيض” أن يُفهم هذا كله، وأن يُحققّ على أنّه دعوةٌ للإنسان. ولكن أشخاصاً كثيرين يدركون ذلك! فرجال ونساءٌ كثيرون يتقبّلون هذه الحقيقة ويتوصّلون إلى استشفاف أنهم لا يجدون إلاّ فيها “الحقّ والحياة” (يو 14 : 6). بدون هذه الحقيقة لا تستطيع حياة الزوجين والأسرة أن تبلغ معناها الإنسانيّ الكامل.
ولهذا لا تبرح الكنيسة تعلّم هذه الحقيقة وتشهد لها. وفيما تُبدي الكنيسة تفهّماً أموميّاً لحالات الشدّة الكثيرة والمعقدّة التي تتخبط فيها الأسر، وللضعف المعنويّ الذي يعتور كلّ كائن بشريّ، ترى من الضروريّ أن تظلّ أمينةً للحقيقة في موضوع الحبّ البشريّ؛ وإلاّ كانت خائنة لنفسها بنفسها. فالابتعاد عن هذه الحقيقة الخلاصيّة يكون كإغماضٍ “لعيني القلب” (أف 1 : 18) اللتين يجب أن تكونا على عكس ذلك أبداً مفتوحتين للنّور الذي ينشره الإنجيل على تقلبات البشرية (طالع 2 تيم 1 : 10). إن الوعي لهذا البذل المجرّد للذات الذي يجد به الإنسان “وجوده الذاتي”، يجب أن يُجدّد تجديداً جدّياً، وأن يُضمن ضماناً متواصلاً، في وجه ما يعترض الكنيسة من مقاومات كثيرةٍ يقوم بها أتباع حضارة التقدّم الضّالة (30). والأسرة تعبّر أبداً عن بُعدٍ جديد لخير البشر، ولهذا تُنشئ مسؤولية جديدة. إنها المسؤولية من أجل الخير العامّ الخاص الذي يكمن فيه خير الإنسان، خير كلّ فرد من أفراد المجموعة العيلية. لا شك في أنه “خير صعب” (Bonum arduum) ، ولكنه خير عجيب.
الأبّوة والأمومةُ المسؤولتان
12- في توسيع الرسالة الحاضرة الموجّهة إلى الأسر، أن لنا أن نطرح مسألتين مترابطتين. إحداهما، وهي الأمٌ، تتعلق بحضارة الحبّ؛ والأخرى، وهي أخصٌ، تتناول الأبوة والأمومة المسؤولتين.
لقد قلنا، آنفاً، إن الزواج يجرّ مسؤوليّة فريدة بالنسبة إلى الخير العامّ، خير الزوجين أولاً، ثم خير الأسرة. وهذا الخير العام يقوم بالإنسان، بقيمة الشخص وبكلّ ما يوّفر قياس كرامته. فالإنسان يحمل في ذاته هذه الكرامة، في جميع المذاهب الاجتماعية، والاقتصادية أو السياسية. ومع ذلك، ففي إطار الزواج والأسرة، تصبح المسؤولية أشدّ “إلزاماً” لأسباب كثيرة. والدّستور الراعويّ “الفرح والرجاء” (Gaudium et Spes) لم يقُل عبثاً “بتعزيز كرامة الزواج والأسرة”. فالمجمع يعدّ هذا “التعزيز” مهمّةً تقع على الكنيسة كما تقع على الدولة؛ ولكنّها، في جميع المذاهب الفكريّة، تقع أولاً على الأشخاص الذين، وقد اتحدوا بوثاق الزواج، يؤلفون أسرةً معيّنة. “الأبوة والأمومة المسؤولتان” تدلان على العمل الفعليّ لتفعيل هذا الواجب الذي يتميّز، في عالمنا المعاصر، بميزاتٍ جديدة.
“الأبوة والأمومة المسؤولتان” تتعلّقان مباشرةً، وبنوع خاص، بالفترة الزمنية التي يتّحد فيها الرجل والمرأة “جسداً واحداً” ويستطيعان أن يصيرا والدين. إنها فترة غنيّة وذات تعبير خاصّ بالنسبة إلى علائقهما المتبادلة كما هي بالنسبة إلى الخدمة التي يؤدّيانها للحياة: يستطيعان أن يصيرا والدين – أباً وأماً – بإعطاء الحياة لكائن بشريّ جديد. إن بعدي الاتّحاد الزوجيّ، الاتّحاد والإنجاب، لا يمكن فصلهما بطريقة مُصطنعة بدون إفساد حقيقة العمل الزوجيّ نفسه الحميمة (31).
هذا هو تعليم الكنيسة المتسمّر؛ و”علامات الأزمنة” التي نشهدها اليوم تقدّم لنا أسباباً جديدة لتكراره بإلحاح خاص. والقديس بولس، الشّديد التّنبه لحاجات عصره الراعوية، كان يطلب بوضوح وثبات أن يُعتمد الإلحاح “في وقته وفي غير وقته” (طالع 2 تيم 4 : 2)، غير هيّابٍ أن “لا يحتمل التعليم الصحيح” (طالع 2 تيم 4 : 3). لقد أصبحت أقواله مألوفة لدى أولئك الذين يدركون في العمق ما يجري في عصرنا وينتظرون من الكنيسة لا أن تتمسّك “بالتعليم الصحيح: فحسب، بل أن تنشره بنشاطٍ متجدّد، طالبةً في “علامات الأزمنة” الحاضرة ما تقدّمه العناية الإلهية من أسبابٍ تحمل على الزيادة في تعميقه.
عددٌ كبيرٌ من هذه الأسباب متوفّر في حقول العلوم نفسها التي، بعد انطلاقها من الجذع العامّ لعلم الإنسان (الانثروبولوجيا)، نمت وتفرّعت إلى اختصاصات مختلفة كعلم الأحياء، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وفروعها اللاحقة. كلّها تدور، على وجهٍ ما، حول الطبّ، علماً وفناً (ars medica) ، في خدمة الحياة وصحّة الإنسان. إلاّ أن الأسباب التي ذُكرت هنا تنجم،على وجهٍ خاصٌ، عن الخبرة البشرية الشديدة الاتّساع، والتي نوعاً ما، تسبق وتتبع العلم نفسه.
يدرك الزوجان، عن طريق خبرتهما الذاتية، ما معنى الأبوة والأمومة المسؤولتين؛ ويدركانه أيضاً عن طريق خبرة الآخرين الذين يعيشون في حالة تُشبه حالتهما، وهكذا فهما أشدّ انفتاحاً على معطيات العلوم. وإنه لممكن القول بأن “العلماء” يحصلون، نوعاً ما، على درسٍ من “الأزواج” يُساعدهم على توجيه أولئك الأزواج توجيهاً أدقٌ وأكمل في موضوع الإنجاب المسؤول وطرائق القيام به.
لقد عُولج هذا الموضوع معالجةً وافيةً في الوثائق المجمعيّة، وفي البراءة “الحياة الإنسانيّة” (vitae Humanae) ، وفي “مقترحات” مجلس الأساقفة سنة 1980. وفي الإرشاد الرسولي “في وظائف العائلة المسيحية…” (Familiaris consortio) ، وفي مطارحاتٍ من النوع نفسه، إلى إرشاد مجمع عقيدة الإيمان “هبة الحياة” (Donum Vitae). فالكنيسة تعلّم الحقيقة الأدبية في موضوع الأبوة والأمومة المسؤولتين، مدافعةً عنها في غمرة الآراء والتيارات الخاطئة الشائعة في هذه الأيام. لماذا تقوم الكنيسة بذلك؟ ألعلّها تجهل موقف أولئك الذين، في هذا الموضوع، ينصحون باعتماد التسويات، ويسعون في إقناعها بضغوطاتٍ مُلتوية قد تصل إلى التّهديد؟ وكثيراً ما يُؤخذ على سلطة الكنيسة التعليمية تخلّفها الحالي، وانغلاقها أمام متطلّبات روح الزمن الحاضر، وقيامها بعملٍ فيه ضررٌ للبشريّة، بل للكنيسة نفسها. يُقال: إذا أصرّت الكنيسة على التّشبّث بموقفها خسرت شعبيّتها، وابتعد عنها مؤمنوها.
ولكن كيف نثبت أنّ الكنيسة، ولا سيّما المصفّ الأسقفي الذي في الشركة مع البابا، متعامية عن قضايا بهذه الخطورة وبهذا الإلحاح؟ لقد رأى فيها بولس السادس قضايا هكذا حيوية إلى حدّ أنها دفعته إلى نشر البراءة “الحياة الإنسانية”. إن الأساس الذي يقوم عليه تعليم الكنيسة في شأن الأبّوة والأمومة المسؤولتين، هو غاية في الاتّساع والمتانة. والمجمع يظهر ذلك قبل كل شيء في تعليمه عن الإنسان، عندما يُثبت أنه “الخليقة الوحيدة على الأرض التي أرادها الله لذاتها” وأنّه “لا يستطيع أن يوجد وجوداً تامّاً إلا ببذل الذات بذلاً مجرّداً” (32)؛ وذلك لأنه خُلق على صورة الله، وكمثال الله، وافتداه ابن الله الوحيد الذي صار إنساناً لأجلنا ولأجل خلاصنا.
المجمع الفاتيكاني الثاني، المُتنبّه تنبّهاً خاصاً لقضية الإنسان ودعوته، يُعلن أن الاتّحاد الزواجي “جسداً واحداً” – على حدّ التّعبير الكتابّي – لا يمكن فهمه فهماً كاملاً وتفسيره تفسيراً وافياً إلا بالرجوع إلى قيمتي “الشخص” و”العطاء”. كلّ رجلٍ وكلّ امرأةٍ يحققان ذاتيهما تحقيقاً كاملاً ببذل نفسيهما بذلاً مجرّداً، وفي ما يتعلق بالزوجين فإن في لحظة اتّحادهما الزواجي خبرةً نوعية لهذا البذل. ففي تلك اللحظة يُصبح الرّجل والمرأة، في “حقيقة” ذكورتهما وأنوثتهما، عطاءً متبادلاً. الحياة كلها، في الزواج، عطاءٌ، وهذا يتّضح بوجهٍ خاصّ عندما يتبادل الزوجان في المحبّة عطاءهما الذاتيّ، ويحقّقان هذا اللقاء الذي يجعل من كليهما “جسداً واحداً” (تك 2 : 24).
إنّهما يعيشان عند ذلك مرحلة مسؤولية خاصّة، ولا سيّما من حيث قدرة العمل الزوجي على الإنجاب. فالزوجان يستطيعان إذ ذاك أن يُصبحا أباً وأماً، على خطة إيجاد وجودٍ بشريّ جديد، سوف ينمو بعد ذلك في حشا المرأة. وإن كانت المرأة هي السابقة إلى معرفة أنها صارت أماً، فالرجل الذي اتّحدت به “جسداً واحداً” يعي بدوره، وبالاعتماد على قولها، أنه صار أباً. وهكذا تقع عليهما كليهما مسؤولية الأبوة والأمومة بالقوة ثمّ بالفعل. فلا يستطيع الرّجل أن يُنكر أو يرفض نتيجة قرار كان أيضاً قراره. إنه لا يستطيع أن يتخفّى وراء أقوالٍ كهذه: “أنا لا أعرف”، “ما كنت أريد”، “أنت أردت ذلك”. وعلى كلّ حال، فضمن الاتّحاد الزواجيّ مسؤولية الرجل والمرأة، مسؤوليّتهما بالقوة، وهي تصبح بالفعل عندما تقضي بذلك الأحوال. وهذا ينال الرّجل على وجهٍ خاصّ لأنه، وإن كان أحد عاملي خطّة الإنجاب، يبقى بيولوجياً على حدة، إذ أن تلك الخطة تنمو في المرأة. فأنّى للرّجل أن لا يحفل بذلك؟ إنه من واجب الرّجل والمرأة أن يتحملا معاً مسؤولية الحياة الجديدة التي كانا سببها، وذلك بالنسبة إليهما وبالنسبة إلى الغير.
تلك نتيجة تتبنّاها العلوم الإنسانية نفسها. ومع ذلك فمن الملائم أن نمضي إلى أبعد وأعمق ممّا وصلنا إليه، فنحلّل معنى العمل الزواجي على ضوء القيم التي ذكرناها لـ “الشخص” ولـ “العطاء”. والكنيسة تقوم بذلك في تعليمها المتواصل، ولا سيّما تعليم المجمع الفاتيكانيّ الثاني.
في فترة العمل الزّواجي يُدعى الرجل والمرأة إلى إثبات العطاء المتبادل بطريقة مسؤولة، ذلك التبادل الذي أجرياه في التعهّد الزواجي. والحال أن منطق العطاء الكامل من الواحد للآخر يتضمّن الانفتاح بالقوّة على الإنجاب: وهكذا فالزواج مدعوّ إلى أن يتحقّق بطريقة أكمل في الأسرة. نعم، ليس لعطاء الرجل والمرأة المتبادل غايةٌ واحدةٌ تنحصر في إنجاب البنين، إذ إنّه في ذاته شركة حبّ وحياة. فيجب أن تُصان أبداً حقيقة هذا العطاء. فـ “حميم” هنا ليس مرادفاً لـ “ذاتيّ”. إنه يعني بالحريّ التناسق الأساسيّ مع الحقيقة الواقعيّة للمُعطي وللمُعطية. فلا يمكن أبداً أن يُعدّ الشخص وسيلةً لبلوغ الغاية، وخصوصاً أن يُعدّ موطن “متعة”. فالشخص هو الذي يكون ويجب أن يكون غاية كلّ عمل. وهكذا فقط يتّفق العمل وكرامة الشخص الحقيقية.
وفي ختام هذه النظرة التأمّلية في موضوع بهذه الأهمية بهذه الدّقة، أودّ أن أوجّه إليكم تشجيعاً خاصّاً، إليكم أولاً أيها الأزواج الأعزاء، وإلى جميع الذين يساعدونكم على تفهّم وتطبيق تعليم الكنيسة في موضوع الزواج، وموضوع الأمومة والأبوة المسؤولتين. إني أفكر بنوع خاصٌ في القادة الروحيّين، والعلماء الكثيرين، واللاهوتيّين، والفلاسفة، والكتاب والناشرين الذين لا يخضعون لمذهب التّوافقية الثقافية الشّائعة، والذين يسيرون بجرأة “بعكس التيار”. وفضلاً عن ذلك يتوجه هذا التشجيع إلى فئة يزداد عددها بلا انقطاع، من الخبراء، والأطباء، والمربّين، الرّسل العلمانييّن الحقيقييّن، الذين جعلوا من تعزيز كرامة الزواج والأسرة عملاً مهماّ في حياتهم. فباسم الكنيسة أوجّه الشكر إلى الجميع! إذ ماذا يستطيع بدونهم أن يفعل الكهنة، والأساقفة أو حتى خليفة بطرس؟ لقد اقتنعت بذلك أكثر فأكثر منذ سنوات كهنوتي الأولى، من حين ابتدأت الجلوس في كرسي الاعتراف لكي أشارك الأزواج الكثيرين في همومهم، ومخاوفهم، وآمالهم: صادفت حالاتٍ صعبة من التّمرّد والرفض، كما صادفت في الوقت نفسه أشخاصاً كثيرين ذوي مسؤولية وتفانٍ مدهشين. وفيما أسطر هذه الرسالة يحضرني جميع أولئك الأزواج، فأبثّهم حناني وأخصّهم بصلاتي.
الحضارتان
13- أيّها الأسر العزيزة، إن قضية الأبوة والأمومة المسؤولتين تدخل في مجموع قضية “حضارة الحبّ” التي أرغب في أن أحدثكم بها الآن. فممّا قيل آنفاً يتّضح بجلاء أن الأسرة في أساس ما دعاه بولس السادس “حضارة الحبّ” (33)؛ وهذا التعبير دخل منذ ذلك الحين في تعليم الكنيسة، وأصبح بعد ذلك مألوفاً، وإنه لمن الصعب اليوم أن يُذكر تدخل للكنيسة أو في موضوع الكنيسة، وأن لا يتضمّن ذكراً لحضارة الحبّ. هذا التعبير يرجع إلى تقليد “الكنيسة البيتية” في المسيحية الأولى، وهو غير غريب أيضاً عن العهد الحاليّ.
إن اللفظة “حضارة” مأخوذة من “الحضَر”، وهي في الاجنبيّة مأخوذة من اللفظة “مواطن” (Civis) ، وتدل على البعد السياسي لوجود كلّ فرد من الأفراد. إن أعمق مدلول للفظة “حضارة” (Civilisation) لا ينحصر في المادة الساسيّة. إنه بالأحرى “إنساني” بحت. الحضارة من تاريخ الإنسان، لأنها تتّفق وحاجاته الروحية والأدبيّة: فإذ خُلق على صورة الله ومثاله، ألقى إليه الخالق العالم ووكل إليه أمر تشكيله على صورته ومثاله. ومن القيام بهذه المهمّة تولد الحضارة التي ليست في النهاية سوى “تأنيس العالم”.
للحضارة إذن، على وجهٍ ما، نفس معنى “الثقافة”. ومن ثمّ بإمكاننا أيضاً أن نقول “ثقافة الحبّ”، على أنه من الأفضل أن نكتفي بالتعبير الذي أصبح مألوفاً. وحضارة الحبّ، في معناها الحاليّ، تُستوحى من أحد مقاطع الدستور المجمعيّ “الفرح والرّجاء”: “المسيح… يُظهر الإنسان لنفسه إظهاراً كاملاً ويكشف له عن سموّ دعوته” (34). ويمكن من ثمّ القول بأن حضارة الحبّ تنطلق من وحي الله الذي هو “محبة” على حدّ قول يوحنا (1 يو 4 : 8، 16)، وأن القديس بولس قد وصفها وصفاً دقيقاً في نشيد المحبّة الوارد في الرسالة الأولى إلى الكورنثيين (13 : 1 – 13). هذه الحضارة شديدة الارتباط بالمحبّة التي “أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا” (روم 5:5)، وهي تنمو بفعل الثقافة المتواصلة التي ذكرت، بطريقة إيحائية، في مثل الكرمة والأغصان الإنجيلي: “أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرّام. كلّ غصن فيّ لا يأتي بثمرٍ ينزعه، وكلّ ما يأتي بثمرٍ ينقيه ليأتي بثمر أكثر” (يو 15 : 1 – 2).
على ضوء نصوص العهد الجديد هذه، وعلى ضوء نصوصٍ أخرى، يصبح ما يُراد بـ “حضارة الحبّ” ممكناً، ويصبح فهم سبب اندراج الأسرة العضويّ في هذه الحضارة أمراً ممكناً أيضاًَ. فإذا كانت الأسرة “طريق الكنيسة” الأولى، وجب أن نُضيف أن “حضارة الحبّ” هي أيضاً “طريق الكنيسة” التي تمضي في العالم وتدعو الأسر والمؤسّسات الاجتماعية الأخرى، الوطنية والدوليّة، إلى سلوك هذه الطريق، من أجل الأسر وبالأسر. فالأسرة تتعلّق، لأسباب شتّى، بحضارة الحبّ التي تجد فيها علّة وجودها كأسرة. والأسرة، في الوقت نفسه، مركز حضارة الحبّ وقلبها.
ما من حبٍّ حقيقيّ إذا لم يكن هنالك وعيّ لأنّ “الله محبّة”، ولأنّ الإنسان هو الخليقة الوحيدة على الأرض، التي دعاها الله إلى أن توجد “لذاتها”. والإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله لا يمكنه أن يوجد وجوداً كاملاً إلاّ ببذل ذاته بذلاً مجرّداً. وحضارة الحب لا يمكنها أن توجد إلاّ إذا كانت لنا هذه الصورة للإنسان، للشّخص، و”لشركة الأشخاص” في الأسرة. وكذلك يستحيل فهم الشخص وفهم شركة الأشخاص بدون حضارة الحبّ. والأسرة “خلية” المجتمع الأساسية. إلاّ أنّه لا بُدّ من المسيح – “الكرامة” التي تستمدّ منها “الأغصان” النّسغ – لكي لا تصبح تلك الخلية عرضةً لاستئصال ثقافي، قد يأتي من الداخل كما قد يأتي من الخارج. وهكذا فإن وجدت من هذه الجهة “فلسفة الحبّ”، فمن الجهة الأخرى لا يزال من الممكن قيام ردّة مناوئة للحضارة وهدّامة، كما يُثبت ذلك ما نراه اليوم من نزعاتٍ وحالات كثيرة.
من يستطيع إنكار أنّ عهدنا عهد أزمةٍ خطيرة تظهر أولاً في شكل “أزمةٍ حقيقيةٍ” عميقة؟ أزمة حقيقية، أي أزمة مفاهيم. هل تعني الألفاظ “حبّ” “حرية”، “عطاء مجرّد” وحتى “شخص”، “حقوق الشخص”، هل تعني في الحقيقة ما تعنيه في ذات طبيعتها؟ ولهذا ظهرت البراءة “تألق الحقيقة” (Veritatis Splendor) ، إلى هذا الحدّ من التعبير والأهمية، بالنظر إلى الكنيسة وإلى العالم، ولا سيما العالم الغربيّ. فإذا استعادت الحقيقة ألقها في موضوع الحرّية وشركة الأشخاص، في الزواج والأسرة، عند ذلك فقط ينهض نباء حضارة الحبّ، ويُصبح ممكناً الكلام البنّاء – على نحو ما فعل المجمع – في ما هو من “تعزيز كرامة الزواج والأسرة” (35).
ما الذي يجعل “تألق الحقيقة” على هذا القدر من الأهمية؟ إنها كذلك أولاً للفرق: إن تطوّر الحضارة المعاصرة مرتبط بُرقي علميّ وتقنيّ هو في أكثر الأحيان واحديُّ الجانب، وهو من ثمّ ذو ميزات محض وضعيّة. والمذهب الوضعيّ، كما هو معلوم، يُثمر اللاأدريّة في الحقل النّظريّ، والنفعيّة في الحقلين الأدبي والعلميّ. ففي عهدنا يُعيد التاريخ نفسه، على نحوٍ ما. فالنفعيّة حضارة الإنتاج والإمتاع، حضارة “الأشياء” لا حضارة “الأشخاص”، حضارة يُستخدم فيها الأشخاص كما تُستخدم الأشياء. ففي إطار حضارة الإمتاع قد تصبح المرأة أداةً، والأبناء مجلبة إزعاج للوالدين، والأسرة مؤسسة عرقلة لحرية أفرادها. ولتيقّن هذا الأمر يكفي تتبّع بعض مناهج التربية الجنسية، التي أدخلت في المدارس، وعن غير رضى الأهل أحياناً، بل مع اعتراض الكثيرين منهم؛ أو الميل إلى تشجيع الإجهاض الذي يتستّر عبثاً بستار “حق الاختيار” (Pro Choice) ، من قبل الزوجين، ولا سيّما المرأة. هذان مثلان من الكثير الذي يمكن إيراده.
في مثل هذه الحال الثقافية، يتّضح أن الأسرة تُدرك أنها مستهدفة، إذ إنّها مطعونة في أسُسها. فكلّ ما يخالف حضارة الحبّ يُخالف الحقيقة الكاملة في موضوع الإنسان ويصبح تهديداً له: وهذا لا يتيح له أن يجد نفسه، وأن يشعر بالأمان في كونه زوجاً، والداً، ولداً. وإن ما يُدّعى أنه “جنس في أمان”، الذي تُشيعه “الحضارة التّقنية” ليس هو في الحقيقة، وفي ما هو جوهريّ للشّخص، على شيءٍ من الأمان، بل هو شديد الخطر. فالشّخص يجد نفسه في خطر، كما أن الأسرة هي من جهتها في خطر.وما هو الخطر؟ إنه خطر ضياع الحقيقة في موضوع الأسرة نفسها، يضاف إليه خطر إضاعة الحرية، ومن ثمّ إضاعة الحبّ نفسه. قال يسوع “تعرفون الحقّ والحقّ يحررّكم” (يو 8 : 32): الحقيقة، والحقيقة وحدها تعدّكم لحبٍ يمكن القول بأنه “جميل”.
الأسرة الحاضرة، كأسرة أيّ زمن، في طريق البحث عن “الحبّ الجميل”. وحبّ غير “جميل”، أي حبٌّ مقصورٌ على قضاء شهوة جسد (طالع 1 يو 2 : 16)، أو على “استعمالٍ” متبادل للرجل والمرأة، يجعل الأشخاص عبيداً لضعفهم. أليس في بعض “مناهج عصرنا الثقافية” ما يقود إلى مثل هذه العبوديّة؟ إنها مناهج “تعبث” بضعف الإنسان، وتجعله أبداً أشدّ ضعفاً، وعاجزاً عن أيّ دفاع.
حضارة الحب تدعو إلى الفرح: ومن جملة أفراحها الفرح بمجيء إنسان إلى العالم (طالع يو 16 : 21)، ومن ثمّ فرح الزوجين بكونهما صارا والدين. حضارة الحب تعني أن “يجعل الإنسان حبّه في الحقيقة” (طالع 1 كور 13 : 6). ولكنّ حضارةً توحي بها ذهنيّة الاستهلاك ومعادية للإنجاب ليست ولا يمكنها أن تكون حضارة الحبّ. فإذا كانت الأسرة بهذه الأهمية لحضارة الحبّ فما ذلك إلاّ لأن الرّبط الوثيقة والشديدة بين الأشخاص والسّلالات قائمة عليها. وهي مع ذلك معرّضة للتّجريح، ومن السّهل أن ينال منها كلّ ما يُضعف أو يهدم وحدتها وتماسكها. وبسبب هذه العقبات تتوقف الأسر عن أداء الشهادة لحضارة الحبّ، بل بإمكانها أن تصبح إنكاراً لها، نوعاً من شهادة معاكسة. والأسرة الممزّقة من شأنها أن تنشّط صيغة “لا حضارة” خاصة، بقضائها على الحبّ في شتى حقول تنفّسه، مع آثارٍ محتّمة تنال مُجمل الحياة الاجتماعية.
الحبُّ متطلّب
14- الحبّ الذي خصّه القديس بولس بنشيد في رسالته الأولى إلى الكورنثييّن – المحبة التي “تتأني”، والتي “ترفق”، والتي “تتحمّل كل شيء” (1 كور 13 : 4 – 7)، هو حبّ متطلّب حقاً. وفي هذا يكمن جماله، في كونه متطلباً، وهو هكذا يبني خير الإنسان الحقيقي، ويجعله مشعاً على الآخرين. والخير من طبيعته، على حدّ قول القديس توما، “يسعى إلى الانتشار” (36) والحبّ يكون حقيقياً عندما يصدر عنه خير الأشخاص والمجموعات، عندما يصدر عنه الخير ويعمل على إشراك الغير فيه. والذي يعرف أن يكون متطّلباً لنفسه باسم الحبّ، هو وحده يستطيع أن يطلب من الآخرين الحبّ أيضاًَ. ذلك أن الحبّ متطلب. إنه كذلك في شتى حالات البشر؛ وهو أكثر من ذلك عند مَن ينفتح على الإنجيل. أليس هذا ما يعلنُه المسيح “بوصيّته”؟ فعلى بشر اليوم أن يكتشفوا هذا الحبّ المتطلب، لأنّ فيه أساس الأسرة المتين، ذلك الأساس الذي يجعلها قاردةً على “تحمل كلّ شيء”. وفي رأي الرسول أن المحبّة لا تكون قابلة لـ “تحمّل كل شيء” إذا خضعت “للحسد” والحقد، و”تباهت”، و”انتفخت” كبراً، و”أتت قباحةً” (طالع 1 كور 13 : 4 – 5). المحبّة الحقيقية – على حدّ تعليم القديس بولس – غير ذلك: “تصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصير على كلّ شيء” (1 يو 4 : 8 – 16). وقدرة المسيح، فادي البشر ومخلص العالم، تعمل فيها أيضاً.
إذا تأمّلنا في الفصل الثالث عشر من رسالة القديس بولس إلى الكورنثيين نكون قد اتّخذنا الطريق التي تقودنا إلى تفهّم معنى حضارة الحبّ الحقيقيّ تفهّماً ما بعده تفهّم في فوريتّه ونفاده. ولا نصّ في الكتاب المقدس مثل نشيد الحبّ يعبّر عن هذه الحقيقة بمثل هذه البساطة وهذا العمق.
إن الاخطار التي تهدّد الحبّ تشكل أيضاً تهديداً لحضارة الحبّ، إذ تنمي ما يمكن أن يعارضه بفعاليّة. ونفكر هنا قبل كل شيء بالأنانية، وليس فقط بأنانيّة الفرد، ولكن بأنانيّة الزوجين، أو في نطاق أوسع أيضاً، بالأنانية الاجتماعية، من مثل أنانيّة طبقة أو أنانيّة أمّة (القوميّة). إن الأنانيّة، تحت كل أشكالها، تضادّ مباشرةً وجذريّاً حضارة الحبّ. وهل يعني ذلك أن الحبّ هو فقط “نقيض الأنانيّة”؟ إن في ذلك لمعنى “ضعيفاً” للغاية وسلبية ما بعدها سلبية، حتى إذا كان تحقيق الحب وحضارة الحب يستلزمان التغلّب على كل أنواع الأنانية. من الأفضل التحدّث عن “الغيريّة” كنقيض للأنانية. أما مفهوم الحبّ كما فصله القديس بولس لهو أغنى وأكمل. ولسوف يبقى نشيد الحب الوارد في الرسالة الأولى إلى الكورنثييّن، الوصية العظمى لحضارة الحبّ. إنها تتحدّث أقل عن المظاهر المعزولة (كالأنانيّة والغيريّة) منها عن الرضى الصريح لمفهوم الإنسان كشخصٍ “وجد” كعطيّة متجرّدة من الذات. العطيّة هي حتما “للآخرين”: إنها البُعد الأهم لحضارة الحبّ.
إنّا بذلك نبلغ إلى صميم الحقيقة الإنجيليّة عن الحرية. إن اكتمال الإنسان لفي ممارسة حرّيته في الحقيقة. فلا يمكن أن نفهم الحريّة كأنها القدرة بأن نفعل أيّ شيء: إنها تعني عطيّة الذات. وتعني أيضاً: النظام الداخليّ للعطاء. وفي معنى العطيّة، لا نلحظ فقط مبادرة الشخص الحرّة، ولكن أيضاً أهمية الواجب. وهذا كلّه يتحقّق في “شركة الأشخاص”. وها بنا نلج بذلك قلب كل أسرة.
وفي الوقت نفسه نواجه الفردانية والشخصانيّة. إن الحب وحضارة الحب هما في علاقة مع الشخصانية. لماذا الشخصانية بالتحديد؟ ألأن الفردانية تهدّد حضارة الحب؟ إن مفتاح الجواب يكمن في التعبير المجمعيّ: “عطاء مجرّد”. إن الفردانية تفترض “حريةً” يمارس فيها المرء ما يشاء، و”يحدّد” هو نفسه “حقيقة” ما يرضيه أو يعود عليه بالنفع. ولا يرضى أن “يريد” الآخرون منه شيئاً، أو يفرضوا عليه أيّ شيء باسم حقيقة موضوعية. وهو لا يريد أن “يعطي” الآخر وفقاً للحقيقة، أو أن يصبح “عطاءً مجرداً”. الفردانية إذن تلازم مركزية الذات والأنانية. وهي لا تضادّ الشخصانية على صعيد “العُرف” أو المفهوم. فمفهوم الشخصانيّة هو في إيثار الغير: إنه يحمل الإنسان على عطاء الذات للآخرين وعلى وجود الفرح في هذا العطاء. إنه الفرح الذي يتكلّم عنه السيد المسيح (طالع يو 15 : 11؛ 16 : 20، 22).
على المجتمعات البشرية – ومن ضمنها الأسر – التي كثيراً ما تعيش في إطار من الصراع بين حضارة الحبّ ونقائضها، أن تبحث عن قاعدة ثابتة تجدها في رؤية صحيحة للإنسان وفي ما يؤكد “تحقيقاً” كاملاً لإنسانيّته. وما “الحب الحرّ” المزعوم سوى نقيض أكيد لحضارة الحبّ. وتكمن خطورته في أنه كثيراً ما يُعرض تعبيراً عن عاطفة “حقيقية”، فيما هو، في الواقع، يهدم الحبّ – ولكم من الأسر قوّضها ذلك “الحبّ الحرّ”! – وباتباع النزوة العاطفية “الحقّة”، في كل الأحوال، باسم حبٍّ “طليق” من كل قيد، فهذا يعني، في الحقيقة، استعباد الإنسان لغرائزه البشرية التي يدعوها القديس توما “شهوات النفس” (37).
“الحب الحر” يستغل الضعف البشري تحت ظاهر من الإجلال والاحترام بمساعدة الإغراء وبمساندة الرأي العام. وبذلك يُسعى إلى “تهدئة” الضمير بخلق “عذرٍ أدبي”. ولكن لا يُكترث بالنتائج الناجمة عن مثل هذا التصرف، وبالأخص عندما يدفع الثمن، علاوةً على الشريك في الحب، الأولاد الذين يُحرمون من عطف والدهم أو والدتهم، ويُقضى عليهم بأن يكونوا، في الواقع، يتامى والدين ما زالوا على قيد الحياة.
من المعلوم أن أساس المنفعية الأخلاقية تكمن في السعي الدائم وراء “مزيد” من السعادة، ولكن “السعادة” المنفعية، في مفهومها فقط كلذة، كإرضاء فوري لصالح مقصورٍ على الفرد، خارجاً عن – أو حتى على نقيض – المتطلبات الموضوعية للخير الحقّّ. إن هدف المنفعيّة، المرتكز على حريّةٍ ذات اتجاه فردانيّ – أعني حريّة لا مسؤولة – يشكل نقيضاً للحبّ، حتى إذا نُظر إليه كتعبيرٍ للحضارة البشريّة في مجملها. وعندما المجتمع يرتضيّ مثل هذا المفهوم للحرية، متماشياً ومختلف أشكال الضعف البشريّ ومشاركاً فيها، يستبين سريعاً أن مثل هذه الممالأة تشكل تهديداً منظماً ودائماً للأسرة. وإنه لمن الممكن أن نشير، في هذا الصدد، إلى كثير من النتائج المشؤومة الواردة في الاحصاءات، وإن بقي الكثير منها مغموراً في قلوب رجالٍ ونساءٍ، كجراح مؤلمة ودامية.
إن حبّ الزوجين والوالدين لقادرٌ أن يُبرئ هذه الجراح، إذا لم تحرمه العقبات التي ذكرنا من قدرة التجدّد التي تعود بالخير والخلاص على المجتمعات البشريّة. وهذه القدرة مرتبطة كلّ الارتباط بالنعمة الإلهيّة الداعية إلى الغفران والمصالحة، والتي تزوّد الإنسان بالقدرة الروحيّة الضرورية لتكرار المبادرة. ولذلك فإن أعضاء الأسرة يحتاجون إلى ملاقاة السيد المسيح في الكنيسة، بواسطة سر التوبة والمصالحة العجيب.
وهكذا تستبين لنا أهمية الصلاة مع الأسر ومن أجل الأسر، وبالأخصّ تلك التي يتهدّدها الشقاق. علينا الصلاة كي يحبّ الأزواج دعوتهم، حتى عندما تصعب الطريق أو تتخلّلها عقباتٌ ضيّقة وشاقة لا يمكن ظاهرياً التغلّب عليها. في مثل تلك الظروف، يجب أيضاً أن نصلّي لكي يبقوا أمناء لتحالفهم مع الله.
“الأسرة طريق الكنيسة”. في هذه الرسالة، نودّ أن نُعرب عن اقتناعنا ونعلن في الوقت نفسه هذه الطريق التي، من خلال الحياة الزوجيّة والعيليّة ، تقود إلى ملكوت السماوات (طالع متى 7 : 14). من المهمّ أن تصبح “شركة الأشخاص” في الأسرة استعداداً لـ “شركة القديسين”. لذلك فإن الكنيسة تعلّم وتعلن الحبّ الذي “يصبر على كل شيء” (1 كو 13 : 7)، معتبرةً إيّاه مع القديس بولس الفضيلة “العظمى” (1 كو 13: 13). والرسول لا يضع حدّاً لأحد: فالجميع مدعوّون إلى الحبّ، الأزواج والأسر. وفي الكنيسة، في الواقع، الجميع على السواء مدعوّون إلى كمال القداسة (طالع متى 5 : 48) (38).
الوصيّة الرابعة: “أكرِم أباكَ وأمّك”
15- تتحدّث الوصيّة الرابعة من الوصايا العشر عن الأسرة وتماسكها الداخليّ وعن تضامنها، إذا صحّ القول. لا ذكر في الوصيّة ولا تعبير صريحاً عن الأسرة. ولكن، في الواقع، إنما يدور الحديث عن الأسرة. وللإفصاح عن هذه الشركة بين الأجيال، لم يجد المشترع الإلهيّ تعبيراً أكثر ملاءمة من هذا: “أكرم…” (خروج 20 : 12). فنحن هنا أمام أسلوبٍ آخر لنعبر عما هي الأسرة. وهذا التعبير لا يُعلي من شأن الأسرة “بطريقة مصطنعة”، ولكنه يلقي ضوءاً على سيمائها والحقوق الناجمة عنها. فالأسرة هي مجموعةٌ من العلاقات المتبادلة الوثيقة العرى بين الأزواج، وبين الأهل والأولاد، وبين الأجيال المختلفة. إنها جماعةٌ، من الواجب المحافظة عليها. والله لم يجد لذلك ضماناً أفضل إلاّ قوله تعالى: “أكرِم”.
أكرِم أباك وأمك، لكي تطول أيّامك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهُك إيّاها” (خر 20 : 12). هذه الوصية تكمّل المبادئ الأساسية الثلاثة التي تنظم علاقة الإنسان وشعب إسرائيل بالله: “إسمع، يا إسرائيل: إن الرّب إلهنا هو ربّ واحد” (تث 6 : 4). “لا يكن لك آلهةٌ أخرى تجاهي” (خر 20 : 3). تلك هي الوصية الأولى والعظمى، وصية محبة الله “فوق كل شيء”: يجب أن تحبه “بكل قلبك، وكل نفسك وكل قوتك” (تث 6 : 5؛ طالع متى 22 : 37). وإن لفي إدراج الوصية الرابعة في هذا الإطار مغزىً كبيراً: “أكرم أباك وأمك” لأنهما يمثلان لك، نوعاً ما، السيد الرب، لأنهما أعطياك الحياة، وأدخلاك في الوجود البشري، في سلالة، في أمة، في ثقافة. وإنهما، بعد الله، المحسنان الأولان لك. وإذا كان الله الصالح وحده، وإذا كان الخير بالذات، فالوالدون يشاركونه، بطريقة فريدة، هذا الصلاح الأسمى. لذلك: أكرم أبويك! ففي هذا نوع من التشابه مع العبادة الواجب أداؤها تعالى. إن الوصية الرابعة مرتبطة كل الارتباط بوصية المحبة. إن العرى لوثيقة بين “أكرم” و”أحبب”. إن الإكرام، في جوهره، مرتبطٌ بفضيلة العدالة؛ ولكن هذه، بدورها، لا تجد ملءَ كمالها إلا بنُشدانها المحبة، محبة الله ومحبة القريب. ومن هم أقربُ الأقربين أكثر من أعضاء الأسرة، الوالدين والأولاد؟
نوعية العلاقات المتبادلة بين الأشخاص التي تشير إليها الوصية الرابعة، هل هي ملزمةٌ لطرفٍ واحد؟ هل هي تأمر بإكرام الوالدين فقط؟ نعم، إذا ما أخذناها بالمعنى الحرفي. ولكن، وبطريقة غير مباشرة، يمكننا الكلام أيضاً عن “الإكرام” الواجب للأولاد من قبل والديهم. “أكرم” تعني تعرف!، أي دَعك تنقاد للتعرف الصادق على الشخص، شخص والدك وأمك، قبل الكل، ثم على شخص سائر أعضاء الأسرة. الإكرام موقف متجرد إطلاقاً. ويمكن القول أنه “عطاء متجرد من شخص إلى شخص”، وبهذا المعنى، فإن الإكرام يتلاقى والحب. إذا كانت الوصية الرابعة تفرض إكرام الأب والأم، فإنما تفرض ذلك لخير الأسرة. وللسبب عينه، فإنها تلقي واجبات على عاتق الوالدين أنفسهم. فكأني بالوصية الإلهية تذكرهم قائلةً: أيها الوالدون، تصرفوا تصرفاً يستحق لكم الإكرام (والحب) الواجب أن يقدمه الأولاد لكم! لا تدعوا واجب الإكرام يهبط في “فراغ أدبي”! وفي النهاية فإن الإكرام متبادل. والوصية “أكرم أباك وأمك” تتوجه بطريقة غير مباشرة إلى الوالدين، قائلةً: أكرموا بنيكم وبناتكم. إنهم أهلٌ لذلك لأنهم وُجدوا، لأنهم ما هم عليه: وهذا واجبٌ منذ اللحظة الأولى لتكونهم. وبتعبيرها عن الرُبط الحميمة التي تشد الأسرة، فإن هذه الوصية تبرز بذلك قاعدة تضامنها الداخلي.
وتتابع الوصية بقولها: “… لكي تطول أيامك في الأرض التي يعطيك الرب إلهُك إياها”. هذه الأداة “لكي” يمكنها أن توحي بفكرة حساب “نفعي”: تكرمُ فيطولُ عمرك! فنسارع إلى القول أنه لا نقصان البتة في بُعد هذا الأمر: “أكرم”، القريب بطبيعته من موقف متجرد. والإكرام لم يعنِ يوماً: “توقع الفوائد”. إنه لمن الصعب أن ننكر بأن موقف الإكرام المتبادل القائم بين أعضاء المجموعة العيلية، يعود بفوائد كثيرة. الإكرام مفيدٌ حقاً، كما أن كل عمل خيرٍ “مفيدٌ”.
تحقق الأسرة قبل كل شيء خير “الكينونة معاً”، ذاك الخير الأعظم المرتبط بالزواج (ومنه يأخذ عدم انحلاله) وبالمجموعة العيلية. ويمكن أن يعني أيضاً خير الذات. فالشخص هو، في الواقع، ذاتٌ، وكذلك حال الأسرة، لأنها تتألف من أشخاص يجمعهم رباط الشركة الوثيق، ويشكلون ذاتاً جماعية واحدة. والأسرة هي ذاتٌ أكثر من أي تنظيم اجتماعي آخر: أكثر من الأمة، وأكثر من الدولة، وأكثر من المجتمع، وأكثر من المنظمات الدولية. هذه المجتمعات، وبالأخص منها الدول، تملك صفة الذات، بحصر المعنى، بقدر ما تأتيها من الأشخاص ومن الأسر. ملاحظاتنا هذه، هل هي فقط “نظرية”، أو نطلقها رغبةً منا في “إعلاء شأن” الأسرة أمام الرأي العام؟ كلا! بل إنها طريقة أخرى للتعبير عما هي الأسرة، وعما نستنتج أيضاً من الوصية الرابعة.
تلك حقيقةٌ يجدر بنا أن نتنبه إليها ونتعمق فيها. فهي تشير إلى أهمية هذه الوصية أيضاً إذا شئنا أن ندرك إدراكاً عصرياً حقوق الإنسان. فالتدابير التنظيمية تلجأ إلى التعبير القانوني. أما الله تعالى فيقول: “أكرم”. وفي النهاية، تبقى “حقوق الإنسان” هزيلةً وغير مجدية إذا لم تأخذ انطلاقها من فعل الأمر هذا: “أكرم”؛ وبتعبير آخر، إذا انعدم الاعتراف بالإنسان لمجرد أنه إنسان، “هذا” الإنسان. الحقوق وحدها، لا تفي بالمرام.
فليس من المبالغة بشيء أن نردد بأن حياة الأمم “والدول” والمنظمات الدولية “تمر عبر” الأسرة، وأنها “ترتكز” على الوصية الرابعة من الوصايا العشر. والعصر الذي نعيش فيه ـ بالرغم مما جهز وأطلق من تصريحات عديدة ذات طابع قانوني ـ يبقى عرضة، على نطاق واسع، لخطر “التغرب”، الناجم عن البوادر “العقلانية” التي تنادي بأن الإنسان يكون “أكثر” إنسانية إذا اكتفى “فقط” بأن يكون إنساناً. وإنه لمن السهل التثبت من أن التنكر لكل ما يثري، بطرق مختلفة، كمال الإنسان يهدد عصرنا. هنا تلعب الأسرة دورها: فإثبات الشخص، في الواقع، يرتبط على نطاق واسع بالأسرة، ومن ثم، بالوصية الرابعة. في قصد الله، تكون الأسرة المدرسة الأولى لكينونة الإنسان في مختلف مظاهرها. كن رجلاً! تلك هي الوصية التي تتناقلها الأسرة: رجلاً كابنٍ للوطن، وكمواطن للدولة، وكمواطنٍ للعالم، على حد ما نقول اليوم. وذاك الذي أعطى البشرية الوصية الرابعة هو إله عطوفٌ على الإنسان “محب للبشر، [philanthropos] ، كما يقول اليونانيون). إن خالق الكون هو إله الحب والحياة. إنه يريد أن تكون الحياة للإنسان وأن تكون له بوفرة، كما أعلن السيد المسيح (طالع يو 10:10)؛ أن تكون له الحياة، وقبل كل شيء بواسطة الأسرة.
في كل ذلك، تكمن الحقيقة. ولكن يبقى أن السيد المسيح قد ترك لنا وصية المحبة، على مثل ما أمر الله تعالى على جبل سيناء: “أكرم أباك وأمك”. فالحب إذن ليس وهماً: إنه أعطي للإنسان كعملٍ يؤديه بمساندة النعمة الإلهية. ويُعهد به إلى الرجل والمرأة، في سر الزواج، كمبدإٍ أول لـ “واجبهم”، ويصبح لهم قاعدةً لالتزامهما المتبادل، الزوجي أولاً، ومن ثم كأبٍ وكأمٍ. في الاحتفال بالسر يتبادل الزوجان تقديم وتقبل واحدهما الآخر، معلنين استعدادهما لتقبل الأولاد وتربيتهم. ذلك هو محور الحضارة الإنسانية التي لا تحديد لها بغير “حضارة الحب”؟
الأسرة هي التعبير عن هذا الحب ومنبعه. بها يمر خط القوة الرئيسي لحضارة الحب التي تجد في الأسرة “قواعدها الاجتماعية”.
آباء الكنيسة، على مدى التقليد المسيحي، تحدثوا عن الأسرة أنها “كنيسةٌ بيتيةٌ”، “كنيسة مصغرة”. وفي رأيهم أن حضارة الحب قادرةٌ على تنظيم الحياة والعيش المشترك للبشرية. “الكينونة معاً” كأسرة، ووجود البعض للبعض الآخر، وخلق مجالٍ جماعي يستطيع كل إنسان فيه أن يُثبت أنه إنسان، ولكي يتثبت “هذا” الإنسان المحسوس. لدينا، في بعض الأحيان، أشخاصٌ مصابون بعاهاتٍ جسدية أو نفسية يفضل المجتمع المزعوم “متحضراً وتقدمياً” أن يتخلص منهم. والأسرة نفسها بإمكانها أن تشابه هذا النوع من المجتمع. وهي لتصبح كذلك عندما تتخلى، بطرق متسرعة، عن المسنين المشوهين أو المرضى. وإنما يتصرفون كذلك لانعدام إيمانهم بذاك الإله الذي له “الجميع يحيون” (لو 20 : 38)، والذي به الجميع مدعوون إلى ملء الحياة.
أجل، إن حضارة الحب ممكنة، وهي ليست وهماً. ولكنها غير ممكنة إلا إذا توجهنا على الدوام وبحرارة نحو الله، أبي ربنا يسوع المسيح، الذي منه تنبثق كل أبوةٍ (وكل أمومة) في العالم”(طالع أف 3 : 14 ـ 15)، والذي منه تنبثق كل أسرة بشرية.
التربية
16ـ ما هي مقومات التربية؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب التذكير بحقيقتين أساسيتين: الأولى هي أن الإنسان مدعو ليحيا في الحق والحب؛ والثانية هي أن كل إنسان يتحقق بعطاء ذاته المتجرد. وهذا يصلح لمن يربي كما لمن يُربي. تشكل التربية إذن أسلوباً فريداً يسمو فيها معنى الشركة المتبادلة بين الأشخاص. فالمربي هو شخصٌ “يلد” حسب المعنى الروحي للتعبير. ومن هذا القبيل، يُمكن أن يُنظر إلى التربية كرسالة. إنها تواصل حياة لا يُنشئُ علاقةً وثيقةً فحسب بين المربي والإنسان الذي يربى، بل تُشرك الإثنين معاً في الحق والحب، الغاية القصوى التي يدعو إليها كل إنسان الله الآب والابن والروح القدس.
تشترط الأبوة والأمومة الكينونة معاً والتفاعل بين أفراد مستقلين. ويتضح ذلك خصوصاً عندما تحبل الأم بكائن بشري جديد. فالأشهر الأولى لهذا الوجود في الحشا الأمومي تخلق رباطاً خاصاً يتشح منذ ئذٍ بقيمة تربوية. وفي فترة ما قبل الولادة، لا تكون الأم بنية الولد فحسب، ولكن، بطريقة غير مباشرة، كل بشريته أيضاً. وحتى إذا كان التطور يتوجه من الأم نحو الولد، إلا أنه يجب ألا يغرب عن الذهن التأثير النوعي الذي يمارسه على الأم الطفل الذي سيولد. لا يشارك الوالد في هذا التأثير المتبادل الذي سيظهر علناً بعد ولادة الطفل. ومع ذلك، فعليه أن يلتزم التزاماً مسؤولاً بما يقدمه من انتباه ومساندة في فترة الحمل، وإذا أمكن أيضاً في ساعة الولادة.
وخدمةً “لحضارة الحب” من الواجب أن يشعر الرجل أن أمومة المرأة، زوجته، هي عطية، لأن في ذلك تأثيراً قوياً على كل تطور التربية. أشياء كثيرة رهنٌ باستعداده لأخذ قسطه من المسؤولية في هذه المرحلة الأولى من عطاء الإنسانية، وبانقياده للالتزام كزوج وكأبٍ في أمومة زوجته. التربية إذن هي قبل كل شيء عطاءٌ إنسانيٌ حرٌ يقوم به الوالدان: إنهما ينقلان معاً إنسانيتهما البالغة إلى المولود الجديد الذي، بدوره هو، يعطيها الجِدة وطراوة الإنسانية اللتين يجلبهما معه إلى العالم. وهذا يتم أيضاً في حال ولادة أطفالٍ مصابين بعاهاتٍ نفسية وجسدية؛ وحتى حينئذٍ، فإن حالة هؤلاء يمكنها أن تعطي التربية زخماً خاصاً.
إبان الاحتفال بالزواج، تسأل الكنيسة إذن بحقٍ: “هل أنتما مستعدان لأن تتقبلا بمحبة الأبناء الذين يريد الله أن يَمنَحكماهم وأن تقوما بتربيتهم حسب شريعة السيد المسيح والكنيسة” (39). في التربية يعبر الحب الزوجي عن ذاته كحبٍ حقيقي بين والدين. فإن “شركة الأشخاص” التي تعبر عن ذاتها، عند نقطة انطلاق الأسرة، تحت شكل الحب الزوجي، تكتمل وتثرى بامتدادها إلى الأولاد بالتربية. وكل غنىً كامنٍ ومرتقبٍ يشكله الإنسان الذي يولد ويترعرع في الأسرة يجب أن يُحضن ويُضطلع به لئلا يتدنى وينتقص، بل على العكس من ذلك يتفتح في إنسانية دائمة النضوج. وإن في هذا أيضاً لتبادلاً دينامياً يلقى، في أثنائه، الأهل المربون، بدورهم، تربيةً إلى حدٍ ما. وهم، إذ يضطلعون بمهمة تعليم الإنسانية لأولادهم الأخصاء، فبسبب هؤلاء يتدربون هم أنفسهم على تلك الإنسانية. وهنا تظهر للعيان بُنية الأسرة العضوية، ويتوضح المعنى الأساسي للوصية الرابعة.
إن “نحنُ” الخاص بالأبوين، الزوج وامرأته، يمتد بالتربية إلى “نحنُ” الخاص بالأسرة الذي ينضمُ إلى الأجيال السالفة وينفتح على توسع تدريجي. وفي هذا الصدد، يلعب والدا الوالدين دوراً هاماً من جهة، وكذلك أولاد الأولاد، من جهة أخرى. وإذا كان الأبوان بمنحهم الحياة، يشاركان في عمل الله الخالق، فإنهما بالتربية يشاركان في أسلوبه التربوي والأبوي والأمومي معاً. إن الأبوة الإلهية، على حد قول القديس بولس، تشكل أساس ومثال كل أبوة وكل أمومة في الكون (طالع أف 3 : 14 ـ 15)، وبالأخص الأمومة والأبوة البشريتين. وبشأن أسلوب التربية الإلهية، هو كلمة الآب الأزلي الذي علمنا أكمل تعليم، إذ إنه، بتجسده، كشف للإنسان البعد الحقيقي والكامل لإنسانيته، أي البنوة الإلهية. وبذلك كشف لنا أيضاً ما هو المعنى الحقيقي لتربية الإنسان. فبالسيد المسيح، كل تربية ـ في الأسرة وخارجها ـ تدخل في البعد الخلاصي لأسلوب الله التربوي، في تعامله مع البشر ومع الأسر، وتبلغ ذروتها في السر الفصحي، سر موت السيد الرب وقيامته. وكل سعىٍ إلى التربية المسيحية ـ التي هي دوماً وفي الوقت نفسه تربيةٌ لكمال الإنسانية ـ ينطلق من “قلب” فدائنا.
إن الأهل هم المربون الأولون والرئيسيون لأولادهم، وينعمون أيضاً في هذا الحقل بكفاءة أساسية: إنهم مربون لأنهم هم. وهم يتقاسمون رسالتهم التربوية مع أشخاص ومنظمات أخرى، مثل الكنيسة والدولة. إلا أن ذلك يجب أن يتم دوماً بتطبيق عادلٍ لمبدأ التعاون. وعلى أساس هذا المبدأ، إنه حقٌ لا بل واجبٌ أن يُرفد الأهل، مع احترام الحد الجوهري وغير الممكن تعديه الذي تفرضه أولوية حقهم وإمكاناتهم الحسية.
إن مبدأ التعاون يرفد إذن حبَ الوالدين بإسهامه في خير النواة العيلية. في الواقع، لا يمكن الأهل أن يلبوا وحدهم كل متطلبات الأسلوب التربوي في مجمله، بالأخص في ما يعود إلى التثقيف، وإلى ميدان الاستشراك الواسع. فيكمل التعاون هكذا الحب الأبوي والأمومي، ويثبت طابعه الجوهري، من حيث إن كل الأشخاص الذين يشاركون في التطور التربوي، لا يمكنهم أن يعملوا إلا باسم الأهل، وبموافقتهم، وحتى ـ على قدرٍ ما ـ لأنهم أوكلوا إليهم ذلك.
تقود المسيرة التربوية إلى مرحلة التثقيف ـ الذاتي. وببلوغها، بفضل مستوى لائق من النضج النفساني والجسدي، يبدأ الإنسان “تثقيف ذاته”. وعلى مر الزمن، يتعدى “التثقيف الذاتي” الأهداف التي بلغها سابقاً التطور التربوي، والتي لا ينى مع ذلك يترسخ فيه. فيلتقي المراهق أشخاصاً جدداً، وأوساطاً جديدة، وبالأخص المعلمين ورفاق الصف الذين يُؤثرون على حياته تأثيراً يمكن أن يكون صالحاً للتربية أو مناهضاً لها. وفي هذه المرحلة، يخرج إلى حدٍ ما عن التربية التي تلقاها في الأسرة ويقف من أهله موقف الناقد. ولكن، على الرغم من ذلك، لا يمكن التطور التربوي إلا وأن يتأثر بتربية الأسرة والمدرسة، ويؤثر بدوره على الولد، صبياً كان أم بنتاً. وحتى إذا تبدل أو أخذ اتجاهه الخاص يبقى الشاب وثيق الارتباط بجذوره الوجودية.
في هذا الإطار، يتخذ بُعد الوصية الرابعة “أكرم أباك وأمك” (خر 20 : 12) منحىً جديداً ويبقى مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بمجمل التطور التربوي. والأبوة والأمومة، هذان العنصران الأولان والأساسيان من عطاء الإنسانية، يفتحان أمام الوالدين والأولاد أبعاداً وآفاقاً جديدة وأكثر عمقاً. فالولادة بحسب الجسد تعني البدء “بتوالد” جديد، متدرج ومتشابك، بواسطة التطور التربوي بأكمله. إن الوصية الرابعة من الوصايا العشر تفرض على الولد إكرام أبيه وأمه. ولكن، كما سبق القول، تفرض الوصية نفسها على الوالدين واجباً “ممائلاً” نوعاً ما. فعليهما، هما أيضاً، أن “يكرما” أولادهما الصغار والكبار؛ وهذا الموقف محتم طيلة المسيرة التربوية كلها، بما فيها المرحلة المدرسية. “فمبدأ الإكرام”، أي الاعتراف بالإنسان كإنسان واحترامه، هو الشرط الأساسي لكل أسلوب تربوي حق.
في مجال التربية، تتمتع الكنيسة بدور رائد عليها أن تضطلع به. فيمكن القول أنه، على ضوء التقليد والتعليم المجمعي، لا يمكن أن تُسند فقط إلى الكنيسة تربيةُ الشخص الدينية والأدبية، بل أن يعزز “مع” الكنيسة كلُ أسلوب تربية الشخص. إن الأسرة مدعوة إلى النهوض بواجبها التربوي في الكنيسة، مساهمةً بذلك في حياة الكنيسة ورسالتها. والكنيسة ترغب بالأخص في أن تربي بواسطة الأسرة، المؤهلة لذلك من جراء سر الزواج، وبمعونة “النعمة الفعلية” الناجمة عن هذا السر، والهبة النوعية الخاصة بكل جماعة عيلية.
إن أحد الميادين الذي لا يمكن أن يُناب فيه عن الأسرة هو بالحقيقة ميدان التربية الدينية الذي يسمح لها بأن تنمو كـ “كنيسة بيتية”. إن التربية الدينية وتعليم الأولاد الديانة يحددان موقع الأسرة في الكنيسة كعنصر فاعل للتبشير والرسالة. إنه لحقُ وثيقُ الارتباط بمبدأ الحرية الدينية. إن للأسَر، وبنوع أدق للوالدين، الحرية بأن يختاروا لأولادهم نموذجاً معيناً للتربية الدينية والخلقية يتوافق واقتناعاتهم. ولكن، ومع إيلائهم تلك المهمة إلى مؤسسات كنسية أو إلى مدارس بإدارةٍ رهبانية، فإنه من الضروري أن يكون حضورهم التربوي ثابتاً وفاعلاً.
وفي التربية يجب إلا تُهمل أيضاً مسألة تمييز الدعوة وبخاصة، في إطار التحضير للحياة الزوجية. فالكنيسة بذلت جهوداً ومبادراتٍ قيمةً للتحضير للزواج، بتنظيم ندوات للخطاب مثلاً: هذا صالح وضروري. ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن التحضير لحياة المستقبل كزوجين يقع بالأخص على عاتق الأسرة. وحدها الأسر الناضجة روحياً تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، وبالطريقة المناسبة. ومن اللائق أن نلفت النظر إلى ضرورة قيام تعاون وثيق بين الأسر يتجلى في أنواع مختلفة من التنظيمات، مثل الجماعات العيلية للأسر. إن المؤسسة العيلية يدعمها ويقويها التضامن الذي لا يقرب الأشخاص فحسب، بل الجماعات أيضاً، إذ يحثها على الصلاة معاً، وعلى البحث، بتضافر جميع القوى، عن أجوبةٍ للمسائل الهامة التي تتمخض عنها الحياة. أليس في ذلك مظهرٌ رفيع من مظاهر رسالة الأسر بواسطة الأسر؟ إنه لمن المهم أن تسعى الأسر إلى عقد روابط تضامنٍ في ما بينها. فضلاً عن ذلك، فإن هذا يسمح بتبادل خدمات تربوية: فالوالدون يثقفهم والدون آخرون، والأولاد أولادٌ آخرون. فيتأتى عن ذلك تقليدٌ تربويٌ فريدٌ، يعززه طابع “الكنيسة البيتية” الخاص بالعيلة.
إن إنجيل المحبة هو الينبوع الذي لا ينضب لكل ما ترتوي به الأسرة البشرية من حيث إنها “شركة أشخاص”. والأسلوب التربوي بأكمله يجد في الحب العون والمعنى السامي، لأنه في النهاية ثمرة العطاء المتبادل بين الزوجين. وبسببٍ من الجهود والآلام والإخفاقات التي تلازم تربية الشخص، لا يني الحب يتعرض للمحنة. وللتغلب على ذلك، لا بد من ينبوع قدرةٍ روحية لن نجده إلا في الذي “أحبَ إلى الغاية” (يوحنا 13 : 1). وبهذا تنتصب التربية كلياً في منظور “حضارة الحب”؛ إنها منوطة بها، وعلى مدى واسع، تسهم في بنائها.
إن صلاة الكنيسة الواثقة والدائمة، خلال سنة العيلة، تضرع من أجل تربية الإنسان، حتى تثابر الأسر في مهمتها التربوية بشجاعة وثقة وأمل، بالرغم من صعاب خطرة، وكأنها لا يمكن تذليلها. إن الكنيسة تصلي كي تسود قدراتُ “حضارة الحب” المنبثقة من ينبوع محبة الله، قدراتٍ توزعها الكنيسة، بدون انقطاع، لخير الأسرة البشرية جمعاء.
الأسرة والمجتمع
17ـ إن الأسرة جماعةٌ من الأشخاص، إنها الخلية الصغرى في المجتمع، وهي، لذلك، مؤسسة جوهرية لحياة كل مجتمع. فماذا تنتظر الأسرة كمؤسسةٍ من المجتمع؟ أولاً، وقبل كل شيء، أن يُعترف بها في هُويتها، وأن تُقبل بصفتها فرداً اجتماعياً. إن طبيعة الفرد هذه مرتبطة بالهوية الخاصة بالزواج وبالأسرة. فالزواج، الذي يشكل أساس المؤسسة العيلية، يتكون من تحالف “يؤلف به رجل وامرأة، في ما بينهما، جماعةً مدى الحياة، تعمل بطابعها الأصيل لخير الزوجين ولإيلاد الأولاد وتربيتهم” (40). وحده مثل هذا الاتحاد يمكن أن يُعترف به ويُصبت “كزواج” في حضن المجتمع. وبالعكس، فإن ارتباط الأشخاص الأخرى، التي لا تتوافق والشروط الواردة أعلاه، لا يمكن أن يُعترف بها وتثبت، حتى وإن شاعت اليوم، أخصه حول هذه النقطة، ميولٌ تهدد مستقبل الأسرة والمجتمع نفسه.
لا يمكن أي مجتمع بشري أن يجازف بتساهله في أمور أساسية تتعلق بجوهر الزواج والأسرة! إن مثل هذا التساهل والتسامح الخلقي لا يمكن إلا أن يلحق الأضرار بالمتطلبات الحقة للسلام والشركة ما بين الناس. إنا لنفهم من ذلك لماذا تدافع الكنيسة بقوة عن هوية الأسرة، ولماذا تدعو المنظمات المختصة، وبالأخص المسؤولين عن الحياة السياسية، وكذلك المنظمات الدولية، إلى الإعراض عن عصرنةٍ ظاهرية وخاطئة.
إن الأسرة، كشركة حياةٍ وحب، هي واقعٌ اجتماعيٌ عميق الجذور، وبطريقةٍ فريدة من نوعها، جماعةٌ سيدةٌ مطلقةٌ، وإن كانت من نواحٍ كثيرة مقيدة بشروط. إن تأكيد سيادة المؤسسة ـ الأسرة وواقع ارتباطاتها الكثيرة يقودان إلى التحدث عن حقوق الأسرة. وبهذا الشأن، أصدر الكرسي الرسولي، في العام 1983، شرعة حقوق الأسرة، التي لاتزال تحافظ بعد على كل واقعيتها.
إن حقوق الأسرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقوق الإنسان. في الواقع، إذا كانت الأسرة شركة أشخاص، فإن إشراقها منوطٌ، بطريقةٍ معبرة، بالتطبيق العادل لحقوق الأشخاص الذين يؤلفونها. فالبعض من هذه الحقوق يعني مباشرةً الأسرة، من مثل حق الوالدين بالإيلاد المسؤول وبتربية الأولاد؛ كما أن هناك، بالعكس، حقوقاً أخرى تعني النواة العيلية، ولكن بطريقة غير مباشرة: منها ما يتحلى بأهمية خاصة، كالحق في التملك ـ وبالأخص ما يسمى الملكية العيلية ـ والحق في العمل.
إلا أن حقوق الأسرة ليست فقط مجموعاً حسابياً لحقوق الشخص، لأن الأسرة هي شيٌ أكثر من مجموع أعضائها، كل على حدة. إنها شركة الوالدين والأولاد، وأحياناً جماعةٌ مؤلفةٌ من عدة أجيال. ومن هذا الواقع، فإن صفتها كفردٍ يتحقق وفقاً للتدبير الإلهي، تنشئ وتتطلب حقوقاً خاصة ومميزة. وانطلاقاً من المبادئ الخلقية التي أوردنا، فإن شرعة حقوق الإنسان تدعم وجود المؤسسات العيلية، على الصعيدين الاجتماعي والقانوني الخاصين بالمجتمع “الأكبر”: الأمة والدولة والجماعات الدولية. وإن كلاً من هذه المجتمعات “الكبرى” رهنٌ، أقله بطريقة غير مباشرة، بوجود الأسرة. لذلك فإن تحديد واجبات المجتمع “الأكبر” وحقوقه بالنسبة إلى الأسرة مسألة بالغة الأهمية والجوهر.
بادئ ذي بدءٍ، يطالعنا الرباط الشبه عضوي القائم بين الأسرة والأمة. بالطبع، لا نستطيع أن نتحدث عن أمة بالمعنى الحصري في كل الأحوال: لكن توجد جماعات إتنية، لا يمكن اعتبارها أمماً حقيقية، تبلغ، إلى حدٍ ما، درجة المجتمع “الأكبر”. وفي كلا الافتراضين، فإن ارتباط الأسرة بالجماعة الإتنية أو بالأمة يرتكز قبل كل شيء على المشاركة في الثقافة. وبهذا المعنى، فمن أجل الأمة أيضاً يلد الوالدون الأولاد، ليكونوا من أفرادها ويشاركوا في تراثها التاريخي والثقافي. ومنذ البدء، تترعرع هوية الأسرة، إلى حدٍ ما، على صورة هوية الأمة التي تنتمي إليها.
وفي اشتراكها في تراث الأمة الثقافي، تُسهم الأسرة في السيادة المطلقة المميزة الناجمة عن ثقافتها ولغتها. ولقد تطرقت إلى هذه القضية، في الجمعية العامة للأونيسكو بباريس، العام 1980، وعدت تكراراً إلى هذا الموضوع، لأهميته الراهنة. وبفضل الثقافة واللغة، لا تبلغ الأمة فحسب، السيادة المطلقة الروحية، بل كل أسرة. وإلا، فإنه لمن الصعب أن نشرح أحداثاً عديدة من تاريخ الشعوب، وبالأخص الأوربية منها: أحداثاً قديمة وحديثة، سعيدة ومؤلمة، انتصارات وهزائم، تبين كم أن الأسرة متحدةٌ عضوياً بالأمة، والأمة بالأسرة.
إن ارتباط الأسرة بالدولة لمشابه في جزءٍ منه بالارتباط بالأمة، ومغاير في جزءٍ آخر. فالدولة، في الواقع، تتميز عن الأمة ببنيتها الأقل “عيلية”، لأنها منتظمة تبعاً لنظام سياسي وبطريقة أكثر “بيروقراطية”. ومع ذلك، حتى نظام الدولة يملك، نوعاً مأ، “روحاً” بقدر ما يتجاوب وطبيعته “كجماعة سياسية” منتظمة قانونياً للخير العام (41). والأسرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه “الروح”، إنها مرتبطة بالدولة طبعاً من جراء مبدأ التعاون. إن الأسرة، في الواقع، حقيقةٌ اجتماعيةٌ لا تتوفر لها كل الوسائل الضرورية للبلوغ إلى أهدافها الخاصة، وبخاصة في حقلي التعليم والتربية. فعلى الدولة حينئذٍ أن تتدخل طبقاً للمبدأ الوارد أعلاه: حيث تستطيع الأسرة أن تكتفي ذاتياً، يليق أن ندعها تعمل باستقلالية، إذ إن تدخلاً مفرطاً من قبل الدولة لن يبدو فقط عديم الاحترام بل مضراً، ويشكل خرقاً فاضحاً لحقوق الأسرة. وحيث فقط لا تستطيع الأسرة أن تقوم بالأعباء بذاتها، تستطيع الدولة ـ بل يجب ـ أن تتدخل.
باستثناء حقل التربية والتعليم على كل المستويات، يعبر عن مساعدة الدولة ـ التي يجب على كل حال ألا تقصي مبادرات الأشخاص الفردية ـ مثلاً في المؤسسات الهادفة إلى الحفاظ على حياة المواطنين وصحتهم، وبالأخص في طرق الوقاية المتعلقة بقطاع العمل. تشكل البطالة في أيامنا أحد أهم ما يهدد الحياة العيلية ويقلق بحقٍ بال المجتمعات كلها. إنها تحدٍ لسياسة الدول، وهي موضوع تفكيرٍ دقيقٍ لتعليم الكنيسة الاجتماعي. فمن الضروري إذن، أكثر من أي وقتٍ مضى، ومن الملح أن تعالج القضية بأساليب جريئة، وأن نتطلع، إلى ما أبعد من الحدود الوطنية، إلى العديد من الأسر التي يتمثل فيها انعدام العمل بحالةٍ من الشقاء مأساوية (42).
وفي حديثنا عن العمل وعلاقته بالأسرة، من اللائق أن نشير إلى أهمية وقيمة عمل النساء في منزلهن (43): إنه من الواجب أن يقدر حق قدره ويُرفع من شأنه إلى أقصى ما يمكن. إن “وظيفة” المرأة، بعد أن تكون قد أعطت النور لطفل، وغذته، واعتنت به وقامت على تربيته ـ بالأخص في خلال السنوات الأولى ـ هي من العظمة بمكان إلى حد أنه لا يمكن أن يضاهيها أي عمل مهنيٍ آخر. يجب الإقرار بذلك بوضوح، كما أنه يجب الدفاع عن كل حقٍ مرتبطٍ بالعمل. إن الأمومة، مع كل ما يرافقها من متاعب، يجب أن يُعترف لها ـ حتى على الصعيد الاقتصادي ـ بما يساوي حقوق سائر الأشغال التي يُقام بها لإعالة الأسرة في مثل هذه المرحلة الدقيقة من حياتها.
إنه لمن اللائق حقاً أن تبذل الجهود لكي يُعترف بالأسرة كجماعة أساسية، وبهذا المعنى، “سيدة مستقلة”. إن “سيادتها” إلزامية لخير المجتمع. إن أمةً سيدةً بالحقيقة وقويةً روحياً، تتكون دوماً من أسرٍ قوية، ومدركة لدعوتها ورسالتها في التاريخ. إن الأسرة تحتل نقطة الارتكاز في وسط هذه القضايا والمهمات كلها: وإذا ما أحيلت الأسرة إلى دور ثانوي وضيع، بإزاحتها من المقام الذي يعود إليها في المجتمع، فإنما ذلك يلحق ضرراً فادحاً في النمو الحقيقي للجسم المجتمعي بأسره.
القسم الثاني
“ما دام العريس معكم!”
في قانا الجليل
18ـ في ذلك الزمان تحدث يسوع، أمام تلاميذ يوحنا، عن دعوة إلى عُرسٍ وعن حضور العريس في ما بين المدعوين: “ما دام العريس معهم” (متى 9 : 15). إنه كان يشير بذلك إلى كمال الصورة في شخصه، صورة الله ـ العريس، الواردة قبلاً في العهد القديم، والتي تكشف بوضوحٍ عن سر الله، كسر محبة.
وعندما اتخذ يسوع صفة “العريس” كشف إذن جوهر الله وأكد حبه العظيم للإنسان. ولكن اختيار هذه الصورة يلقي الضوء، بطريقة غير مباشرة، على الطبيعة الحقيقية للحب الزوجي. في الواقع، إن لجوء يسوع إلى هذه الصورة يبين إلى أي حد تتجلى أبوة الله ومحبته في حب رجلٍ وامرأة يتحدان في الزواج. لذلك نجد يسوع، في بدء رسالته، في قانا الجليل، يشارك في وليمة عرس مع مريم وتلاميذه الأولين (أنظر يوحنا 2 : 1 ـ 11). إنه يظهر بذلك أن الحقيقة عن الأسرة كامنة في الوحي الإلهي وفي تاريخ الخلاص.
في العهد القديم، وبالأخص عند الأنبياء، نجد عباراتٍ جميلة جداً عن حب الله: حبٍ كله اهتمامٌ مثل حب الأم لأولادها؛ حبٍ كله حنانٌ مثل حب الزوج لزوجته، ولكنه أيضاً ملؤه الغيرة؛ وهو ليس أولاً حباً يجازي، بل حبُ يصفح؛ حبُ يعطف على الإنسان كما يعطف الوالد على ابنه الضال فينشله من وهدة الهلاك ويُشركه في الحياة الإلهية. حبٌ يدهش: إنه جدةٌ لم يكن مجمل العالم الوثني يعرفها حتى ذلك الحين.
في قانا الجليل، ظهر يسوع وكأنه رسول الحقيقة الإلهية عن الزواج، الحقيقة التي يمكن أن ترتكز عليها الأسرة البشرية، وقد وجدت فيها القدرة الكافية لمواجهة مصائب الحياة. ويسوع يعلن هذه الحقيقة بحضوره في عرس قانا، وباجتراحه أولى “عجائبه”: الماء المحول خمراً.
ويعلن أيضاً الحقيقة عن الزواج في حديثه مع الفريسيين، وفي شرحه أن الحب الذي هو من الله، الحب الحنون والزوجي، هو ينبوع متطلبات عميقة وجذرية. كان موسى أكثر تساهلاُ؛ فلقد أذن بأن يعطى كتاب طلاقٍ. ومن مناظرةٍ حادة، عندما تذرع الفريسيون بشريعة موسى، أجابهم يسوع بصراحة: “في البدء، لم يكن الأمر كذلك!” (متى 19 : 8). وذكرهم بأن الذي خلق الإنسان، خلقه ذكراً وأنثى، وأمر قائلاً: “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويصيران كلاهما جسداً واحداً” (تكوين 2 : 24 ـ متى 19 : 5). وبكلٍ تناسقٍ منطقى يختتم المسيح كلامه قائلاً: “ومن ثم، فليسا هما اثنين بعدُ، بل جسدٌ واحد. وإذن، فما جمعه الله فلا يفرقه إنسانٌ!” (متى 19 : 6). وإذا اعترض الفريسيون متذرعين بالشريعة الموسوية، أجابهم: “إنه لقساوة قلوبكم، أذن لكم موسى أن تطلقوا نساءكم؛ ولكن، في البدء، لم يكن الأمر كذلك” (متى 19 : 8).
يشير يسوع إلى “البدء”، إذ يجد في جذور الخليقة نفسها قصد الله الذي عليه ترتكز الأسرة، وبواسطتها كل تاريخ البشرية. إن حقيقة الزواج الطبيعية تصبح، بمشيئة المسيح، سراً حقيقياً من أسرار العهد الجديد، موسوماً بخاتم دم المسيح الفادي. أيها الأزواج ويا أيتها الأسر تذكروا بأي ثمنٍ “اشتريتم”! (أنظر 1 كو 6 : 20).
إنه لمن الصعب بشرياً أن نتقبل ونحيا هذه الحقيقة الرائعة. وكيف نعجب من أن موسى انقاد لالتماسات مواطنيه، عندما نرى الرسل أنفسهم، لدى سماعهم أقوال المعلم، يجيبون: “إن كانت هذه حال الرجل مع امرأته، فالأولى له أن يتزوج!” (متى 19 : 10). ولكن لخير الرجل والمرأة، ولخير الأسرة والمجتمع بأسره، يؤكد يسوع ما شدد عليه الله منذ البدء. وفي الوقت عينه، ينتهز الفرصة ليُشيد بقيمة اختيار البتولية، من أجل ملكوت السماوات: هذا الاختيار يسمح أيضاً “بالاتلاد”، وإن يكن بطريقة أخرى. إن هذا الاختيار يشكل نقطة انطلاق الحياة المكرسة، والرهبنات والجمعيات الرهبانية في الشرق والغرب، وأيضاً نظام العزوبة في الكهنوت، وفقاً لتقليد الكنيسة اللاتينية. فليس من الصحيح إذن أنه “من الأولى أن لا يتزوج (الإنسان)!، ولكن محبة ملكوت السماوات يمكنها هي أيضا أن تحثنا على عدم الزواج (أنظر متى 19 : 12).
يبقى الزواج، مع ذلك، الدعوة العادية للإنسان، وقد اختاره القسم الأكبر من شعب الله. وفي الأسر تتكون الحجارة الحية للبناء الروحي الذي يتحدث عنه الرسول بطرس (أنظر 1 بط 2 : 5). وأجساد الأزواج هي هيكل الروح القدس (أنظر 1 كو 6 : 19). وبما أن تناقل الحياة الإلهية يفترض تناقل الحياة البشرية، فمن الزواج إذن يولد ليس أبناء البشر فحسب، ولكن أيضاً، بفعل المعمودية، أبناء الله بالتبني الذين يحيون الحياة الجديدة التي نالوها من المسيح بواسطة روحه.
وبهذه الطريقة، أيها الأخوات والإخوة المحبوبون، ويا أيها الأزواج والوالدون، إن العريس ما دام معكم. إنكم تعلمون أنه الراعي الصالح وتعرفون صوته. وتعلمون إلى أين يقودكم، وأنه يجاهد ليقتادكم إلى المراعي حيث تجدون الحياة وتجدونها بوفرة، وأنه يجابها الذئاب الضارية، وأنه على استعدادٍ دائم لانتشال نعاجه من أفواهها: كلِ رجلٍ وامرأة، كلِ ابنٍ وبنتٍ، كلِ عضوٍ من أعضاء أسَركم. وتعلمون أنه هو، الراعي الصالح، مستعدٌ أن يبذل حياته عن قطيعه (أنظر يوحنا 10 : 11).
إنه يقودكم في طرقٍ ليست الطرق الوعرة والملأى بالفخاخ، طرق العديد من الإيديولوجيات الحديثة. إنه يردد الحقيقة الكاملة لعالم اليوم، كما عندما كان يتوجه إلى الفريسيين أو عندما كان يعلنها لرسله الذين هم بدورهم أعلنوها في العالم، للناس في أيامهم، يهوداً ويونانيين. كان التلاميذ يعون كل الوعي أن المسيح جدد كل شيء؛ أن الإنسان أصبح “خليقةً جديدةً”: فليس بعدُ يهوديٌ ولا يونانيٌ، ليس عبدٌ ولا حرٌ، ليس ذكرٌ وأنثى، بل “واحدٌ” فيه (أنظر غل 3 : 28)، وقد توشح كرامة ابن الله بالتبني. يوم العنصرة، نال هذا الإنسان الروح المعزي، روح الحق، وهكذا بدأ شعب الله، الكنيسة، مقدمة سماءٍ جديدةٍ وأرضٍ جديدة (أنظر رؤ 21 : 1).
في البدء تخوف الرسلُ من الزواج والأسرة، ولكن في ما بعد أصبحوا أشداء: فلقد فقهوا أن الزواج والأسرة يشكلان دعوةً تصدر عن الله نفسه، ورسالةً: رسالة العلمانيين. إنهما يُسهمان في تبديل وجه الأرض وتجديد العالم والخليقة والبشرية بأسرها.
أيتها الأسر الحبيبة، عليكم أنتم أيضاً أن تتحلوا بالشجاعة وتكونوا على استعدادٍ دائمٍ لتشهدوا للرجاء الذي فيكم (أنظر 1 بطرس 3 : 15)، لأن الراعي الصالح غرسها في قلوبكم، بواسطة الإنجيل. يجب أن تكونوا على استعداد لاتباع المسيح نحو المراعي الواهبة الحياة، والتي هيأها هو بنفسه بواسطة السر الفصحي، سر موته وقيامته.
لا تجزعوا من المخاطر! إن القدرات الإلهية لأقوى بكثير من مصاعبكم! وإن فعالية سر المصالحة، الذي دعاه بحقٍ آباء الكنيسة “المعمودية الثانية”، لهي أعظم بكثيرٍ من الشر العامل في العالم. والطاقة الإلهية الكامنة في سر التثبيت، الذي يعمل على إشرافة نعمة المعمودية، لها وقعٌ أعظم من الفساد المنتشر في العالم. وقدرةُ الإفخارستيا بخاصةٍ لا مثيل لعظمتها.
الإفخارستيا سرٌ عجيبٌ بالحقيقة. في هذا السر، وهب لنا المسيح ذاته مأكلاً ومشرباًً وينبوع قوة مخلصة. وهب لنا ذاته كي تكون لنا الحياة، وتكون بوفرة (أنظر يوحنا 10:10): تلك الحياة التي فيه والتي منحناها بعطية روحه، بقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث. في الواقع، إنها لنا الحياة التي منه. إنها لكم، أيها الأزواج والوالدون والأسر! ألم يرسم الإفخارستيا في إطار عيلي، في أثناء العشاء الأخير؟ عندما تلتقون للأكل، وأنتم متحدون في ما بينكم، فإن المسيح قريبٌ منكم. وأكثر من ذلك، إنه العمانوئيل، الله معنا، عندما تتقدمون من المائدة الإفخارستية. ومن الممكن ألا نعرفه، كما حدث في عماوس، إلا عند “كسر الخبز” (أنظر لوقا 24 : 35). ويصدف أيضاً أن يقف عند الباب ويقرع، بانتظار أن يُفتح له الباب فيدخل ويتعشّى معنا (أنظر رؤ 3 : 20).
إن عشاءَه الأخير والكلمات التي تفوه بها حينئذٍ تحفظ كلّ قدرة ذبيحة الصليب وحكمتها. وليس هناك من قدرةٍ أخرى ومن حكمةٍ أخرى نستطيع بهما أن نخلص، أو أن نُسهم في خلاص الآخرين. وليس هناك من قدرةٍ أخرى ومن حكمةٍ أخرى تستطيعون بهما، أنتم أيها الوالدون، أن تربّوا أولادكم، وتربّوا أنفسكم أيضاً. لقد تثبّتت قدرة الإفخارستيا التربويّة، عبر الأجيال والقرون.
إن الراعي الصالح حاضرٌ معنا في كل مكان. ومثلما كان في قانا الجليل العريس ما بين هذين العروسين اللذين تبادلا العطاء مدى الحياة، كذلك الراعي الصالح هو اليوم معكم سبب رجاءٍ، وقوةً للقلوب، ومنبع حماسٍ دائم التجدّد وعلامة انتصارٍ “لحضارة الحبّ”. إن يسوع، الراعي الصالح، يردّد لنا: لا تخافوا، أنا معكم! “ها أناذا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر (متى 28 : 10). أين مصدر هذه القوة؟ من أين لنا اليقين أنك معنا، حتى إذا قتلوك، يا ابن الله، ومتّ كأيّ إنسان؟ أين مصدر هذا اليقين؟ يقول الإنجيليّ: “أحبّهم إلى الغاية” (يوحنا 13 : 1). أنت إذن تحبنا، أنت الأول والآخر، والحيّ؛ لقد كنت ميتاً والآن أنت حيٌّ إلى دهر الدهور (أنظر رؤ 1 : 17 – 18).
السرّ العظيم
19- يختصر القديس بولس قضيّة الحياة العيليّة بعبارة “إن هذا السرّ لعظيم!” (أنظر أفسس 5 : 32). عندما يكتب في رسالته إلى الأفسسيّين عن هذا “السرّ العظيم”، وإن كانت تعود جذوره إلى سفر التكوين وإلى كلّ تقليد العهد القديم، فإنه يقدّم تنظيماً جديداً سوف تتوسّع فيه سلطة الكنيسة التعليميّة في ما بعد.
تعلّم الكنيسة أن الزواج، كسرّ توافقٍ بين زوجين، هو “سرٌّ عظيم”، لأن فيه يعبّر عن حبّ المسيح الزوجيّ لكنيسته. كتب القديس بولس: “أيها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة: لقد بذل نفسه لأجلها ليقدّسها ويطهرها بغسل الماء وبالكلمة” (أفسس 5 : 25 – 26). يتحدّث الرسول هنا عن المعموديّة التي تفصّلها الرسالة إلى الرومانييّن بإسهاب، واصفةً إياها كمشاركة في موت المسيح لنيل حياته (أنظر روم 6 : 3 – 4). بهذا السرّ يولد المؤمن إنساناً جديداً، لأن للمعمودية السلطان بأن تمنح حياةً جديدة، حياة الله نفسها. إن سرّ الإله – الإنسان يختصر، نوعاً ما، في الحدث العماديّ. يقول القديس إيريناوس لاحقاً، ومعه عددٌ من آباء الكنيسة في الشرق والغرب: “إن يسوع المسيح ربنّا، ابن الله العليّ، صار ابن الإنسان لكي يصبح الإنسان بدوره ابن الله” (44).
إن العريس إذن هو الله نفسه صار إنساناً. في العهد القديم، يعتلن الرب عريساً لإسرائيل الشعب المختار: إنه عريس حنون ومتطلب، غيورٌ وأمين. إن كل خيانات إسرائيل وهروبه وعباداته الأصنام التي وصفها الأنبياء بكل مأساوية وتعبيرية لم تستطع أن تطفئ الحب الذي به الله ـ العريس “أحب إلى الغاية” (أنظر يوحنا 13 : 1).
إن تثبيت وتمام الشركة الزوجية بين الله وشعبه قد تحققنا في المسيح، في العهد الجديد. فالمسيح يؤكد لنا أن العريس ما دام معنا (أنظر متى 9 : 15). إنه معنا جميعاً، إنه مع الكنيسة. والكنيسة تصبح عروساً: عروس المسيح. وهذه العروس التي تتكلم عنها الرسالة إلى الأفسسيين حاضرةٌ في كل معمد، وهي مثال شخص حاضرٍ تحت نظري عريسه. إنه “أحب الكنيسة: لقد بذل نفسه لأجلها… (إذ كان يريد) أن يزفها إلى نفسه كنيسةً مجيدةً، لا كلف فيها ولا غضنٌ ولا شيءٌ مثل ذلك، بل مقدسةٌ، ولا عيب فيها” (أفسس 5 : 25، 27). إن الحب الذي أحب به العريس الكنيسة إلى الغاية، هو من العظمة بقدرٍ حتى أنها تتجدد دوماً في القداسة بقديسيها، وإن كانت لا تزال بعد كنيسة خطأة. إن الخطأة “والعشارين والزواني” مدعوون هم أيضاً إلى القداسة، على حد ما يصرحه المسيح نفسه في الإنجيل (أنظر متى 21 : 31). إنهم جميعاً مدعوون إلى أن يصبحوا الكنيسة الممجدة والمقدسة والطاهرة. “كونوا قديسين، لأني أنا قدوس” (لا 11 : 44 ـ 1 بط : 16).
تلك هي أسمى أبعاد “السر العظيم”، والمعنى العميق للموهبة السرية في الكنيسة، وأبلغ معنى للمعمودية والإفخارستيا. إنها ثمار محبة العريس الذي أحب إلى الغاية، حباً يتوسع على الدوام ويمنح البشر مشاركة دائمة النمو في الحياة الإلهية.
بعد أن قال: “أيها الرجال، أحبوا نساءكم” (أفسس 5 : 25)، يضيف القديس بولس حالاً، وبقوةٍ أعظم: “فكذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم الخاصة؛ من أحب امرأته، أحب نفسه. فإنه ما من أحد أبغض قطُ جسده الخاص؛ بل إنما يغذيه، ويعتني به، كما يفعل المسيح بالكنيسة: أولسنا أعضاء جسده؟” (أفسس 5 : 28 ـ 30). ويحرض الرسول الزوجين قائلاً: “كونوا خاضعين بعضكم لبعضٍ في مخافة المسيح” (أفسس 5 : 21).
ذلك هو، بالتأكيد، تعبيرٌ جديدٌ عن الحقيقة الأبدية الخاصة بالزواج والأسرة، على ضوء العهد الجديد. والمسيح أوحى بها في الإنجيل، بحضوره في قانا الجليل، وبذبيحته على الصليب، وبأسرار كنيسته. وهكذا يجد الزوجان في المسيح مرجعاً لحبهما الزوجي. وفي حديثه عن المسيح عريس الكنيسة، يستند القديس بولس بطريقة مماثلة إلى الحب الزوجي، ويعود إلى سفر التكوين: “لذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسداً واحداً” (2 : 24 ـ أفس 5 : 31). هذا هو “السر العظيم” المتمثل في الحب الأزلي الكائن منذ بدء الخليقة، والمعلن في المسيح، والذي عُهد به إلى الكنيسة. ويردد الرسول: “إن هذا السر لعظيم: أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة” (أفس 5 : 32).
لا يمكننا إذن أن نفهم الكنيسة كجسدٍ سري للمسيح، وكعلامةِ عهدٍ بين الإنسان والله في المسيح، وكسرٍ شامل للخلاص، دون أن تستند إلى “السر العظيم”، في علاقته مع خلق الإنسان، ذكراً وأنثى، ومع دعوة الاثنين إلى الحب الزوجي، إلى الأبوة والأمومة. إن “السر العظيم”، الذي هو الكنيسة والبشرية في المسيح، لا وجود له من دون “السر العظيم” الذي يعبر عنه بكون الاثنين يصيران “جسداً واحداً” (أنظر تك 2 : 24 ـ أفس 5 : 31 ـ 32)، أي في حقيقة واقع الزواج والأسرة.
إن الأسرة نفسها هي سر الله العظيم. إنها، “ككنيسة بيتية”، عروس المسيح. إن الكنيسة الجامعة، و فيها كلَ كنيسة خاصة، تظهر، أكثر مباشرةً، عروسةً للمسيح في “الكنيسة البيتية” وفي الحب المعاش فيها: الحب الزوجي والحب الأبوي والأمومي، والحب الأخوي، وحب جماعة من الأشخاص والأجيال. وهل من الممكن أن نتصور الحب البشري بدون العريس، وبدون الحب الذي هو، أولاً، أحب به إلى الغاية؟ والزوجان، هما أيضاً، يستطيعان أن يحبا “إلى الغاية”، إذا ما شاركا في هذا الحب و هذا “السر العظيم”: فإما يشاركان في هذا الحب، وإما فهما لا يفقهان في العمق ما هو الحب وكم متطلباته هي جذرية. وفي هذا، بلا شك، خطرٌ داهم وفادح.
إن تعليم الرسالة إلى الأفسسيين يدهش بعمقه وسلطته الخُلقية. بإشارته إلى الزواج ـ ومن ثم إلى الأسرة ـ كأنه “السر العظيم”، بالنسبة إلى المسيح والكنيسة، يعود الرسول بولس فيردد مرة أخرى ما سبق وقاله للأزواج: “… فليُحبَ كل واحد منكم امرأته كنفسه”، ويضيف قائلاً: “ولتهب المرأة رجلها” (أفس 5 : 33) الهيبة والاحترام لأنها تحب وتعرف أنها محبوبة. وبفضل هذا الحب، يصبح الزوجان عطية متبادلة. في الحب يكمن الاعتراف بكرامة الآخر الشخصية وبفرادته التي لا مثيل لها: في الواقع، إن الله اختار كلاً منهما، بصفته كائناً بشرياً، من أجل ذاته (45)، ما بين خلائق الأرض. ومع ذلك، فإن كل واحد بفعل إرادةٍ واع ومسؤول يهب ذاته هبةً حرةً للآخر وللأولاد الذين يمنحهما إياهم الرب. لذلك يتابع القديس بولس تحريضه، رابطاً إياه بطريقة معبرة بالوصية الرابعة: “وأنتم، أيها الأولاد، أطيعوا والديكم، في الرب: فإن ذلك عدلٌ. “أكرم أباك وأمك” ـ تلك هي الوصية الأولى التي أنيط بها وعدٌ ـ : “لكي تصيب خيراً، وتطول أيامك على الأرض”. وأنتم، أيها الآباء لا تُحنقوا أولادكم، بل ربوهم بالتأديب والموعظة، في الرب” (أفس 6 : 1 ـ 4). فالرسول، إذن، يرى في الوصية الرابعة التعهد الضمني بالاحترام المتبادل بين الرجل والمرأة، وما بين الوالدين والأولاد، ويجد فيها هكذا مبدأ التماسك العيلي.
إن مجمل تعليم القديس بولس الرائع، بالنسبة إلى “السر العظيم”، يبدو، نوعاً ما، وكأنه خلاصة، أو “قمة” التعليم عن الله والإنسان الذي وجد كماله في المسيح. إنه لمن المؤسف أن يكون الفكر الغربي، مع انتشار العقلانية الحديثة، قد ابتعد شيئاً فشيئاً عن هذا التعليم. إن الفيلسوف الذي أطلق مبدأ “أنا أفكر، إذن أنا موجود” “Je pense, donc je suis”=”cogito, ergo sum” : انقاد إلى المفهوم الحيدث للإنسان الذي يتميّز بالطابع الثنائي. إنه لمن خواصّ العقلانية إبراز التناقض عند الإنسان، بطريقة جذريّة، ما بين الروح والجسد، وما بين الجسد والروح؛ فيما، على العكس من ذلك، الإنسان شخصٌ في وحدانيّة جسده وروحه (46). لا يمكن البتّة أن يُقتصر الجسد على مادّة صرف: إنه جسدٌ “مروحنٌ”، كما أن الروح باتحاده الكامل بالجسد يمكن أن يُعتبر روحاً “متجسداً”. إن أغنى مرجع أصيل لمعرفة الجسد هو الكلمة صار جسداً: فالمسيح كشف الإنسان للإنسان (47). إن تأكيد المجمع الفاتيكاني الثاني هذا هو، نوعاً ما، الجواب الذي طالما انتظره العالم والذي أعلنته الكنيسة في وجه العقلانيّة الحديثة.
يكتسي هذا الجواب أهميّة قصوى لفهم الأسرة، بالأخصّ في إطار الحضارة الحديثة التي يظهر – كما سبق وقلنا – أنها رفضت، في مناسبات عدّة، أن تكون “خضارة الحبّ”. في العصر الحديث، قطع تقدّم معرفة عالم المادّة وعلم النفس البشريّة أيضاً أشواطاً شاسعة. ولكن في ما يخصّ البُعد الأكثر عمقاً، البُعد الماورائي “الميتافيزيقيّ)، يبقى إنسان اليوم، في القسم الأكبر من ذاته، كائناً يجهل ذاته؛ وبالتالي، تبقى الأسرة، هي أيضاً، واقعاً مجهولاً. وسبب ذلك، هو التباعد عن ذاك “السرّ العظيم” الذي يتحدّث عنه الرسول.
لقد نتج عن مبدأ الفصل بين الروح والجسد في الإنسان، تأكيد الميل إلى اعتبار الجسد البشري والتعامل معه، ليس حسب النظُم القائمة عل شَبَهه مع سائر الأجسام الموجودة في الطبيعة، تلك الأجسام التي يستخدمها الإنسان مادّةً في نشاطه لإنتاج الخيرات الاستهلاكية. ولا يغرب للحال عن بال أحد أن تطبيق مثل هذه المعايير على الإنسان يخبئ بالحقيقة في طيّاته مخاطر جمّة. فإنه عندما يُعتبر الجسد الإنسانيّ مجرداً من الروح والفكر، ويُستخدم كسلعةٍ، على مستوى أجسام الحيوانات – وهذا ما يحصل فعلاً في المعالجات والاختبارات على الأجنّة والحمائل – ننقاد حتماً إلى انحراف خُلقيّ فظيع.
وأمام مثل هذه النظرة والبُعد الإنسانيّ، يحتّم على الأسرة أن تعيش خبرة مانويّة جديدة، يوضع فيها الجسد والروح في تناقضٍ حذريّ: فالجسد لا يحيا بالروح، والروح لا يحييه الجسد. وبذلك يتوقف الإنسان عن الحياة كشخصٍ وكفردٍ. وبالرغم من النوايا والتصريحات المضادّة، يصبح الإنسان فقط شيئاً. وعلى هذا النحو، مثلاً، تعمل هذه الحضارة المانويّة – الجديدة على اعتبار المفهوم الجنسيّ البشريّ حقل اختباراتٍ واستثمار أكثر منه واقع التعجّب الأوليّ الأصيل الذي حدا آدم، في بدء الخليقة، على الصراخ عند رؤيته حوّاء: “هذه عظمٌ من عظامي، ولحمٌ من لحمي” (تك 2 : 23). إنه التعجب نفسه الذي نستشعر صداه في كلمات “نشيد الأناشيد”: “قد خلبتِ قلبي يا أختي العروس، قد خلبتِ قلبي بإحدى عينيك…” (4 : 9). ما أبعد بعض المفاهيم الحديثة من مفهوم الوحي الإلهيّ العميق للرجولة والأنوثة! وهذا الوحي نفسه يكشف لنا في المفهوم الجنسيّ البشريّ غنىً للشخص يجد كماله الحقيقي في الأسرة، ويعبّر عن رسالته الفريدة ودعوته في البتوليّة والتبتّل من أجل ملكوت الله. إن العقلانية الحديثة لا تطيق السرّ. إنها ترفض سرّ الإنسان، رجلاً وامرأة، ولا تقرّ أن كمال الحقيقة عن الإنسان قد أوحى به يسوع المسيح. وبالأخصّ، إن العقلانية لا تحتمل “السرّ العظيم” الذي أعلنته الرسالة إلى الأفسسيّين، وهي تناهضه بشكل جذريّ. وإذا ما هي اعترفت، في إطارٍ من الألوهية الغامضة، بإمكانية وحتى بضرورة كائنٍ سامٍ أو إلهيّ، فهي ترفض بشدّة مبدأ إله صار إنساناً ليفتدي الإنسان. لا يمكن العقلانيّة أن تتخيّل بأن الله هو الفادي، وأقلّ من ذلك بأن يكون “العريس”، مصدر الحبّ الزوجي البشريّ، الأول والوحيد. والعقلانيّة تفسّر الخليقة ومعنى الوجود البشريّ بطريقة مغايرة جذريّاً. وإذا ما حرمنا الإنسان من التطلّع إلى إله يحبّه ويدعوه، بالمسيح، إلى أن يحيا فيه ومعه؛ وإذا ما مُنعت الأسرة من إمكانية المشاركة في “السرّ العظيم”، فماذا يبقى إذن، يا تُرى، سوى البعد الزمنيّ للحياة؟ وتبقى الحياة الزمنية مسرحاً للصراع على البقاء، وللسعي الضئيل للربح، الربح الاقتصاديّ قبل كل شيء.
إن “السر العظيم”، سرّ المحبة والحياة، الذي مبادئُه في الخليقة والفداء، والذي المسيح – العريس كافله، قد فقد جذوره العميقة، في الذهنية المعاصرة. إن الأخطار تتهدّده فينا وما حولنا. علَّ “سنة الأسرة” التي تحتفل بها الكنيسة، تصبح للأزواج فرصةً سانحةً لإعادة اكتشاف هذا السرّ وتوطيد دعائمه بقوة وشجاعة وحماس!
أمّ الحبّ النبيل
20- يبدأ تاريخ “الحبّ النبيل” عند البشارة، بالعبارات الرائعة التي وجّهها الملاك إلى مريم، المدعوّة لأن تصبح أمّ ابن الله. وبجواب مريم: “فليكن لي بحسب قولك!” (لوقا 1 : 38)، ذاك الذي هو “إلهٌ من إله، نورٌ من نور” صار ابن الإنسان؛ ومريم هي أمّه، فيما تلبث عذراء “لا تعرف رجلاً” (أنظر لوقا 1 : 34). وبما أنها الأم – العذراء، أصبحت مريم أمّ الحبّ النبيل. وهذه الحقيقة أعلنتها عبارات رئيس الملائكة جبرائيل، ولكن معناها الكامل سوف يتأكد ويتعمّق تباعاً كلّما تبعث مريم ابنها في مسيرة الإيمان (48).
وتَقَبُّل “أمّ الحبّ النبيل” ذاك الذي، حسب التقليد اليهوديّ، كان زوجها على الأرض، يوسف “الذي كان من بيت داود ومن عشيرته” (لوقا 2 : 4). كان من حقّه أن يرى في خطيبته زوجةً له وأمّاً لأولاده. لكن الله تدخّل من تلقاء نفسه في هذا العقد الزوجيّ: “يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم؛ فإن الذي حُبل به فيها إنما هو من الروح القدس” (متى 1 : 20). كان يوسف في ملء وعيه، وقد رأى بعينيه أن مريم حُبلى بحياة جديدة ليست منه؛ وإذ كان رجلاً صديقاً وأميناً للشريعة القديمة التي كانت، في مثل حاله، تفرض الطلاق، “عزم هو على تخليتها سرّاً” وبحبّ (أنظر متى 1 : 19). فتراءى له ملاك الربّ وأعلمه أن مثل هذا التصرف يناقض دعوته، ويضادّ الحبّ الزوجيّ الذي يربطه بمريم. وهذا الحبّ الزوجيّ المتبادل، يفترض – إذا ما أراد أن يكون “حباً نبيلاً” كاملاً – أن يتقبّل يوسف مريم وابنها تحت سقف بيته في الناصرة. أطاع يوسف الوحي الإلهيّ وفعل كما أمره ملاك الربّ (أنظر متى 1 : 24). وهكذا، بفضل يوسف، نجد أن سرّ التجسد، ومعه سرّ العيلة المقدّسة، مرسومٌ بعمق في الحبّ الزوجيّ ما بين الرجل والمرأة، وبطريقة غير مباشرة في سلالة كلّ أسرة بشريّة. وما سيدعوه بولس “السرّ العظيم” تعبّر عنه العيلة المقدّسة بأسمى معانيه. وبهذا تتصدّر الأسرة بالحقيقة محور العهد الجديد.
ويمكن القول أيضاً أن تاريخ “الحبّ النبيل” ابتدأ، نوعاً ما، مع الزوجين الأولين في البشرية، آدم وحواء. إن التجربة التي انقاد إليها، والخطيئة الأصليّة التي نجمت عنها، لم تحرمهما من القدرة على “الحبّ النبيل”. ولنا البرهان على ذلك لدى قراءتنا، مثلاً، في سفر طوبيّا أن الزوجين طوبيّا وساره يعودان إلى أجدادهما آدم وحوّاء، ليعبّرا عن معنى اتحادهما (أنظر طو 8 : 6). وفي العهد الجديد، يشهد بولس أيضاً على ذلك عندما يتحدّث عن المسيح، آدم الجديد (أنظر ا كو 15 : 45): فالمسيح لا يأتي ليدين آدم الأول وحوّاء الأولى، بل ليفتديهما؛ إنه يأتي ليجدّد ما هو في الإنسان عطيّةٌ من الله، كلّ ما فيه صالحٌ وبهيٌّ منذ الأزل، ويشكل قوام الحبّ النبيل. إن تاريخ “الحبّ النبيل” هو، نوعاً ما، تاريخ خلاص الإنسان.
“والحبّ النبيل” يعود في جذوره إلى إعلان الإنسان عن ذاته. في الخليقة تعتلن حوّاء لآدم، كما أن آدم يعتلن لحواء. وفي مسيرة التاريخ، تعتلن الزوجات الشابات لأزواجهنّ، ويتبادل الأزواج الجدُدُ هذا الوعد: “سوف نسير معاً على طريق الحياة”. هكذا تبدأ الأسرة كاتحادٍ بين شخصين، وبفضل السرّ، كجماعةٍ جديدةٍ في المسيح. إن الحبّ، ليكون بالحقيقة بهياً، عليه أن يكون عطيةً من الله، عطيةً طعّمها الروح القدس في قلب البشر، وسهر على الدوام على نمائها (أنظر روم 5:5). وفي وعيها الكامل لهذه الحقيقة، تضرع الكنيسة إلى الروح القدس كي يحلّّ في قلوب البشر في أثناء الاحتفال بسرّ الزواج. ولكي نتثبّت من وجود ذاك “الحبّ النبيل” الذي هو عطيةٌ من إنسان لأنسان، عليه أن يصدر من ذاك الذي هو نفسه عطيّة ومصدر كل عطيّة.
تلك هي، في الإنجيل المقدّس، حال مريم ويوسف اللذين، عند عتبة العهد الجديد، عاشا اختبار “الحبّ النبيل” الذي يصفه سفر نشيد الأناشيد. يفكر يوسف بمريم ويقول لها: “يا أختيّي، يا عروسي!” (4 : 9). ومريم، أمّ الله، تحبل من الروح القدس، الذي منه يصدر “الحبّ النبيل”، والذي يضعه الإنجيل، بكلّ رهافة، في إطار “السرّ العظيم”.
عندما نتكلّم عن “الحبّ النبيل”، إنما نتكلّم في الوقت عينه عن الجمال: جمال الحبّ، جمال الكائن البشريّ القادر، بمؤازرة الروح القدس، على مثل هذا الحبّ. نتكلّم عن جمال الرجل والمرأة، عن جمالهما كإخوة وأخوات، وخطيبين وزوجين. والإنجيل لا يُنير سر “الحبّ النبيل” فحسب، ولكن أيضاً سرّ الجمال الذي يضاهيه عمقاً، الجمال الصادر من الله مثل الحبّ. فمن الله يأتي الرجل والمرأة، شخصان مدعوّان إلى أن يصيرا عطيّةً متبادلة. ومن عطية الروح الأصلية، – الروح “المعطي الحياة” – تنبع العطيّة المتبادلة في وضع الرجل والمرأة، كما العطيّة بأن يكون الإنسان أخاً أو أختاً.
هذا كلّه، يجد له تثبيتاً في سرّ التجسّد الذي أصبح في تاريخ البشريّة، ينبوع جمال جديد أوحى العديد من آيات الفنّ. فبعد أن حُظّر تحظيراً شديداً بأن يمثّل الله الذي لا يُرى “على شكل صورة” (أنظر تثنية 4 : 15 – 20)، بعثت المسيحية، على العكس، التمثيل الفنيّ وأطلقت رسوم الله الذي صار إنساناً، ومريم أمّه ويوسف، ورسوم قدّيسي العهدين القديم والجديد، وإجمالاً رسوم الخليقة كلّها التي افتداها المسيح؛ فاستهلت بذلك علاقة جديدة مع عالم الثقافة والفنّ. ويمكن القول إن الدستور الجديد للفنّ، إذ أخذ بعين الاعتبار البعد العميق للإنسان ومستقبله، بدأ انطلاقته مع سرّ تجسد المسيح، فاستوحى أسرار حياته: ميلاده في بيت لحم، حياته الخفيّة في الناصرة، رسالته العلنيّة، الجلجلة، القيامة ودخوله المجد. إن الكنيسة تعي تمام الوعي واقع حضورها في العالم المعاصر، وبالأخص مساهمتها في إعلاء شأن كرامة الزواج والأسرة، وتعي أن هذين الحضور والمساهمة مرتبطان كل الارتباط بتطوّر الثقافة: وهي تسهر على ذلك بحقّ. ولذلك فإن الكنيسة تتابع بكلّ اهتمام توجّهات وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي تهدف إلى تثقيف عامة الشعب وليس فقط إلى إبلاغه الأنباء (49). والكنيسة، وقد تنبهت إلى التأثير العظيم والعميق الكامن في هذه الوسائل، لا تني تحذّر الأخصائيّين في التواصل الإعلاميّ، من مخاطر التلاعب بالحقيقة. فأيّ حقيقة تُرانا نجد، في الواقع، في أفلامٍ ومشاهد وبرامج إذاعية وتلفزيونية يسيطر عليها الفحش والدعارة والعنف؟ أبمثل هذا تؤدى الخدمة الصالحة للحقيقة عن الإنسان؟ تلك بعض التساؤلات التي لا يمكن أن يتملّّص منها الأخصائيون في هذه الوسائل، ولا مختلف المسؤولين عن تصنيع مثل هذه المنتجات وتسويقها.
وبمثل هذا التفكير النقديّ، على حضارتنا أن تعي أنها، تحت أشكال متنوعة، حضارةٌ سقيمة، تسبب للإنسان بتبدّلات خطيرة، مع أنها، على صعيد آخر، تتمتّع بمظاهر إيجابية في الإطار الماديّ كما في الإطار الثقافيّ. ولم يحدث ذلك؟ يكمن السبب في أن مجتمعنا قد انفصل عن كنه الحقيقة الكاملة عن الإنسان، عن حقيقة ما هما الرجل والمرأة كشخصين. وبالتالي، فمجتمعنا لا يقدر أن يفهم، بالضبط، ما هي بالحقيقة عطيّة الأشخاص في الزواج، والحبّ المسؤول في خدمة الأبوّة والأمومة، والعظمة الحقيقية الكامنة في التوالد والتربية. فهل هناك ثمّت من مبالغة إذا أكّدنا أن وسائل الإعلام لا تخدم الحقيقة في بعدها الأصيل، إذا هي لم تخضع للمبادئ الخلقيّة السليمة؟ تكلم هي المأساة: أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة ترضخ لتجربة التلاعب بالرسالة المنوطة بها، بتزويرها الحقيقة عن الإنسان. إن الكائن البشريّ ليس ما تروّج له الدعاية، ولا ما تقدّمه وسائل الإعلام الحديثة. إنه لأعظم من ذلك بكثير! كوحدة نفسيّة – طبيعيّة، كمركّب واحد من نفسٍ وجسد، كشخص. إنه لأعظم من ذلك بكثير! بدعوته إلى الحبّ، الذي يفضي به كرجلٍ وامرأة إلى بُعد “السرّ العظيم”,
كانت مريم هي الأولى التي ولجت هذا البعد، ومعها أدخلت أيضاً يوسف خطيبها. فأصبحا بذلك المثالين الأولين لذلك الحبّ النبيل الذي لا تني الكنيسة تطلب نعمته للشبيبة، وللأزواج وللأسر. وعلى الشبان والأزواج والأسر ألاّ يملّوا، هم أيضاً من الصلاة عن هذه النيّة! وكيف يسعنا ألاّ نفكر بهذه الجموع من الحجّاج، شبّاناً وشيباً، الذين يؤمّون المعابد المكرّسة لمريم العذراء، ويحدقون النظر في وجه والدة الإله، وفي وجه أفراد العيلة المقدّسة، الذين يشعّون كل جمال الحبّ الذي وهبه الله للإنسان؟
في خطبته على الجبل، يذكّر السيد المسيح بالوصيّة السادسة ويعلن: “سمعتم أنه قيل: لا تزن أما أنا فأقول لكم: إن كلّ من نظر إلى امرأة حتى ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه” (متى 5 : 27 – 28). بالنسبة إلى الوصايا العشر التي تهدف إلى الدفاع عن متانة الزواج والأسرة التقليدية، تشكل هذه العبارات خطوة كبيرة إلى الأمام. يعود يسوع إلى جذور خطيئة الزنى: إنها في قلب الإنسان وتعتلن بطريقة في النظر أو التفكير تسيطر عليها الشهوة. بالشهوة، يسعى الإنسان إلى تملّك كائنٍ بشريٍّ آخر، لا يخصّه هو بل يخصّ الله. وفيما كان السيّد المسيح يتوجّه إلى معاصريه، كان في الوقت عينه يتوجّه إلى رجال كلّ الأزمان وكلّ الأجيال؛ وهو يتوجّه بالأخصّ إلى جيلنا الحاضر الذي يعيش في فلك حضارة تميل إلى الاستهلاك والتمتّع باللذّة.
لماذا تفوّه السيّد المسيح، في خطبته على الجبل، بمثل هذه الطريقة الشديدة والصارمة؟ لا يمكن أن يكون الجواب أكثر وضوحاً: أراد السيّد المسيح أن يضمن قداسة الزواج والأسرة، أراد أن يدافع عن كمال الحقيقة عن الشخص البشريّ وكرامته. على ضوء هذه الحقيقة فقط، يمكن أن تكون الأسرة بالتمام “الوحي” العظيم، الاكتشاف الأول للآخر: إكتشاف الزوجين المتبادل، ثم اكتشاف كل ابنٍ أو بنتٍ يولدان من اتحادهما. إن كلّ ما يتواعده الزوجان واحدهما للآخر – أن يكونا “أمينين في السّراء والضرّاء، أن يحبّ ويحترم أحدهما الآخر كلّ أيام حياتهما” – لا يمكن أن يكون إلاّ في نطاق “الحبّ النبيل”. إن إنسان اليوم لا يمكنه أن يتعلّم ذلك ممّا تتداوله ثقافة العامّة الحديثة. إن “الحب النبيل” نتعلّمه بالأخصّ في الصلاة. إن الصلاة، تعني دائماً في الواقع، على حدّ قول القديس بولس، نوعاً من الانكفاء الداخليّ مع المسيح في الله: “… وحياتكم مستترةٌ مع المسيح في الله” (كول 3:3). ففي مثل هذا الاستتار فقط يعمل الروح القدس، ينبوع الحبّ النبيل. إنه يفيض هذا الحبّ ليس فقط في قلبي مريم ويوسف، ولكن أيضاً في قلوب الأزواج المستعدّين لأن يصغوا إلى كلام الله ويحفظوه (أنظر لوقا 8 : 15). إن مستقبل كل نواة عيليّة رهنٌ بهذا “الحبّ النبيل”: حبّ الزوجين المتبادل، حبّ الوالدين والأولاد، حبّ الأجيال كلّها. إن الحبّ هو المصدر الحقيقيّ لوحدة الأسرة وقوّتها.
الولادة والخطر
21- إن قصة طفولة يسوع القصيرة، تروي لنا بطريقة معبّرة جدّاً، وفي آنٍ معاً تقريباً، ولادته والخطر الذي اضطرّ إلى أن يواجهه في الحال. يورد لوقا الإنجيلي الكلمات النبويّة التي تفوّه بها سمعان الشيخ عندما قدّم يسوع إلى الربّ في الهيكل، أربعين يوماً بعد ولادته. إنه يتحدّث عن “نور” وعن “هدفٍ للمخالفة”؛ ثم يعلن لمريم هذا النبأ: “وأنت أيضاً سيجوز سيفٌ في نفسك” (أنظر لوقا 2 : 32 – 35). أما متى، فعلى العكس من ذلك، يتوقف عند الفخّ الذي نصبه هيرودس ليسوع: فإنه إذ اطّلع من المجوس القادمين من المشرق ليروا الملك الجديد المولود (أنظر متى 2:2)، شعر أنه مهدّدٌ في سلطانه. “وعلى أثر انصرافهم…، أنفذ فقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم، وفي ضواحيها كلّها، من ابن سنتين فما دون” (متى 2 : 13 – 16). نجا يسوع من يدي هيرودس بفضل تدخّل إلهيّ خاصّ، وبفضل عطف يوسف الأبويّ، الذي “أخذ الصبيّ وأمّه وانصرف إلى مصر، فأقاموا هناك حتى وفاة هيرودس” (أنظر متى 2 : 14 – 15). “ولما مات هيرودس”، جاؤوا وسكنوا في الناصرة، مسقط رأسهم، حيث بدأت العيلة المقدّسة فترةً طويلةً من الحياة الخفيّة، ينظّمها تتميمٌ أمينٌ وسخيٌ للواجبات اليومية (أنظر متى 2 : 1 -23؛ لوقا 2 : 39 – 52).
إنّ مجرّد اضطرار يسوع، منذ ولادته، إلى مواجهة تهديداتٍ ومخاطر، لهو أشبه ببيانٍ نبويّ. كان بعد طفلاً، وإذا به “هدفٌ للمخالفة”. وإنّا لنجد علامة بيان نبويّ في مأساة أطفال بيت لحم الأبرياء الذين قُتلوا بأمر من هيرودس فأصبحوا، وفقاً لليترجيّا الكنيسة القديمة، مشاركين للسيد المسيح في ولادته وآلامه الخلاصية (50).
لقد أتّموا، “بآلامهم”، “ما ينقص من مضايق المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كول 1 : 24). في إنجيل الطفولة، نرى أن بشرى الحياة التي تتحقّق، بطريقةٍ عجيبة، في حدث ميلاد الفادي، تواجه بشدّة التهديد ضدّ الحياة، الحياة التي تشمل بالكمال سرّ التجسّد وحقيقة واقع المسيح الإلهيّ والإنسانيّ. إن الكلمة صار جسداً (أنظر يوحنا 1 : 14)، إن الله صار إنساناً. وغالباً ما ذكر آباء الكنيسة بهذا السرّ السامي: “صار الله إنساناً، كي نصير نحن آلهة” (51). حقيقة الإيمان هذه هي، في الوقت عينه، حقيقة الكائن البشريّ. إنها تسلّط الضوء على خطورة أيّ تعدٍّ على حياة الطفل في حشا أمه. هنا، بالضبط، نجدنا، على النقيض من “الحبّ النبيل”. في السعي وراء اللذة فقط، يمكن التوصّل إلى قتل الحبّ، إلى قتل ثمرة الحبّ. وفي استغلال اللذّة، تصبح، نوعاً ما، “ثمرة بطنك المباركة” (لوقا 1 : 42)، “ثمرةً ملعونة”.
وكيف يمكننا ألاّ نذكّر، في هذا الشأن، الانحرافات التي يتعرّض لها، في العديد من البلدان، ما يسمّى واقع الحقّ. إن شريعة الله المتعلّقة بالحياة البشريّة لا لبس فيها وصريحة. يأمر الله أن: “لا تقتل” (خر 20 : 13). فلا يحقّ إذن لأي مشترع بشريّ أن يؤكد: يسمح لك بالقتل، يحقّ لك أن تقتل، عليك أن تقتل! في تاريخ عصرنا الحاضر، حصل ذلك – ويا للأسف! – عندما اعتلت السلطة، وحتى بأسلوب ديمقراطيّ، قوي سياسية وضعت شرائع مضادةً لحقّ كلّ إنسانٍ في الحياة، باسم دوافع مزعومة، بقدر ما هي شاذّة، تدّعي تحسين النسل أو الحفاظ على العرق أو غيرهما. وهناك ظاهرة لا تقلّ خطورة، بخاصّة وأنها ظاهرة التشريعات التي لا تحترم الحق بالحياة منذ الحمل. فكيف يمكن القبول، خُلقياً، بشرائع تسمح بقتل الكائن البشريّ، ولمّا يولد بعد، ولكنّه يحيا في حشا أمه؟ فالحقّ بالحياة يصبح هكذا وقفاً حصريّاً على البالغين الذين يستخدمون مجالس النّواب أنفسها لإيصال مشاريعهم وملاحقة مآربهم الشخصيّة.
إنّا نواجه تهديداً خطيراً للحياة، وليس فقط حياة أفرادٍ، إنما حياة الحضارة جمعاء. وإنه ليتثبّت بطريقةٍ تشغل البال، التأكيد القائل إن هذه الحضارة أصبحت، في بعض النواحي، “حضارة موت”. أليس من ثمّ حدثاً نبوياً أن تكون ولادة السيد المسيح رافقها تهديدٌ ضدّ وجوده؟ بلى! حتى حياة الذي هو، في الوقت عينه، ابن الإنسان وابن الله، قد تعرّضت للتهديد؛ قد تعرّضت للخطر منذ اللحظات الأولى، ولم تنجُ من الموت إلاّ بأعجوبة. يلاحظ، مع ذلك، في العقود الأخيرة، ظهور بعض البوادر المشّجعة، بوادر يقظة الضمائر: نلاحظ ذلك في عالم الفكر وفي الرأي العام. فلقد انتشر، بالأخصّ في ما بين الشّبان، وعيٌ جديدٌ لاحترام الحياة منذ الحمل؛ وانتشرت الحركات الداعية إلى الحياة. إنها خميرةٌ رجاءٍ لمستقبل الأسرة والبشرية جمعاء.
“… لقد قبلتموني!”
22- يا أزواج ويا أسر العالم أجمع، إن العريس ما دام معكم! هذا أول ما يريد أن يقوله لكم البابا، في السنة التي كرّستها منظمة الأمم المتحدة والكنيسة للأسرة. “فلقد أحبّ الله العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة. فإنّ الله لم يرسل ابنه إلى العالم، ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم” (يوحنا 3 : 16 – 17)؛ “المولود من الجسد إنما هو جسدٌ، والمولود من الروح إنما هو روحٌ… إنه لا بدّ لكم أن تولدوا من فوق” (يوحنا 3 : 6 – 7). يجب أن “تولدوا من الماء والروح” (يوحنا 3 : 5).
وها إنكم أنتم، أيها الآباء والأمهات، الشهود الأولون والخادمون لهذه الولادة الجديدة من الروح القدس. أنتم الذين تلدون أولادكم للوطن الأرضيّ، لا تنسوا أنكم تلدونهم في الوقت عينه لله. إنه تعالى يريد أن يولدوا من الروح القدس؛ أن يكونوا أبناءه بالتبني في الابن الوحيد الذي يؤتينا “سلطاناً أن نصير أبناء الله” (يوحنا 1 : 12). ويستمرّ عمل الخلاص في العالم ويتحقّق بواسطة الكنيسة. إن هذا كلّه عمل ابن الله، العريس الإلهي، الذي بشّرنا بملكوت الآب، وهو لا يزال يذكّرنا، نحن تلاميذه: “إن ملكوت الله في داخلكم” (لوقا 17 : 21).
يؤكد لنا إيماننا أن يسوع المسيح “الجالس إلى يمين الآب”، سوف يأتي ليدين الأحياء والأموات. ومن جهة ثانية، يؤكد لنا الإنجيليّ يوحنا أنه أرسل إلى العالم “لا ليدين العالم، بل ليُخلص به العالم” (يوحنا 3 : 17). وعلام، يا تُرى، تقوم الدينونة؟ السيد المسيح نفسه أعطى الجواب: “على هذا تقوم الدينونة: أنّ النور قد جاء إلى العالم، والناس آثروا الظلمة على النور… وأمّا من يعمل الحقّ، فإنه يُقبل إلى النور لكي يتبين أن أعماله مصنوعة في الله” (يوحنا 3 : 19 – 21). وهذا ما ذكّرت به حديثاً الرسالة العامة “تألق الحقيقة” (52). هل المسيح ديانٌ إذن؟ أعمالك هي التي تدينك على ضوء الحقيقة التي تعرف. هي الأعمال التي ستدين الآباء والأمّهات، البنين والبنات. كلّ واحدٍ منّا سيُدان انطلاقاً من الوصايا، ومن ضمنها تلك التي ذكرّنا بها في رسالتنا هذه: الوصايا الرابعة والخامسة والسادسة والتاسعة. ولكن سيُدان كلّ واحد بالأخصّ عن الحبّ، الحبّ الذي يُعطي الوصايا معناها والذي يلخصها جميعاً. “عند مساء الحياة سنُدان عن الحبّ”، كتب القديس يوحنا الصليب (53).
إن السيد المسيح، فادي البشرية وعريسها، “ولد وجاء إلى العالم ليشهد للحقّ. وكلّ من هو للحقّ يسمع صوته: (أنظر يوحنا 18 : 37). إنه هو الدّيان، ولكن سيدين بالطريقة التي أشار إليها هو نفسه، في حديثه عن الدينونة العامة (أنظر متى 25 : 31 – 46). ودينونته ستكون دينونةً عن الحبّ، دينونةً تؤكدّ نهائياً الحقيقة القائلة إن العريس ما دام معنا، لرّبما دون أن نعرف ذلك. الدّيان هو عريس الكنيسة والبشرية. لذلك، إنه يدين قائلاً: “تعالوا، يا مباركي أبي…، لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتُموني؛ كنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني” (متى 25 : 34 – 36). وهذه اللائحة يمكن أن تطول، ويظهر فيها عددٌ لا يحصى من القضايا التي تهمّ أيضاً الحياة الزوجية والعيلية. ويمكن أن نجد منها أيضاً عبارات مثل هذه: “كنت طفلاً سيولد، فقبلتُموني إلى أسرتكم؛ كنت ولداً يتيماً فتبنّيتموني ووفّرتم لي تربيةً كولدكم”. وأيضاً: “لقد ساعدتم الأمّهات الحائرات واللواتي يتعرّضن لضغوطٍ جائرة على قبول الطفل الذي سيولد وإيلاده؛ لقد ساعدتم أسراً كبيرة، أسراً في صعوبة، على الحفاظ على الأولاد الذين رزقهم إياهم الله وعلى تربيتهم”.
يمكننا أن نتابع فتطول اللائحة وتتنوع وتشتمل على كل أنواع أعمال الخير الحقيقيّ، الخلقيّ والإنسانيّ، التي تعبرّ عن الحبّ. ذاك هو الحصاد الكبير الذي سيأتي لحصاده فادي العالم الذي أوكل إليه الله الآب الدينونة: إنه حصاد النعمة والأعمال الصالحة، الذي أينعه نسيم العريس في الروح القدس، الذي لا يني يعمل في العالم وفي الكنيسة. فلنحمد الذي هو صانع كلّ خير!
إنّا نعلم مع ذلك، أن القضاء الأخير الذي أورده الإنجيلي متى، يحوي لائحة أخرى، خطيرةً ومروعة: “إذهبوا عني… فقد جعتُ فلم تطعموني، وعطشتُ فلم تسقوني؛ وكنت غريباً فلم تؤووني، وعرياناً فلم تكسوني” (متى 25 : 41 – 43). وفي هذه اللائحة أيضاً، لرّبما نجد تصرّفاتٍ أخرى يظهر فيها يسوع، هنا أيضاً، كالرجل المرذول. وهكذا، فإنه يتماثل مع المرأة أو الزوج المهمل، مع الطفل الذي حُبل به ورُفض: “لم تقبلوني!”. هذه الدينونة هي أيضاً تشقّ لها طريقاً عبر تاريخ أسرنا؛ تشقّ لها طريقاً عبر تاريخ الأمم والبشرية. إن كلمات يسوع: “لم تقبلوني” تعني أيضاً مؤسّسات اجتماعية، وحكوماتٍ ومنظماتٍ دولية.
لقد كتب بسكال أن “يسوع سوف يبقى في النزاع حتى نهاية العالم” (54). إن نزاع جتسماني ونزاع الجلجلة هما قمّة التعبير عن الحبّ. في كلتا الحالتين يظهر العريس الباقي معنا، والذي يحبّ دوماً بطريقة جديدة، والذي “يحبّ إلى الغاية” (يوحنا 13 : 1). إنّ الحبّ الذي فيه، والذي منه يطال حدود الأحداث الشخصيّة والعيلية، يتعدّى حدود تاريخ البشريّة.
في ختام هذه التأملات، أيها الإخوة والأخوات المحبوبون، فيما نفكر بكلّ ما سيُعلن مدّة سنة الأسرة، انطلاقاً من مختلف المنابر، أريد أن أردّد معكم اعتراف بطرس للسيد المسيح: “إنّ عندك كلام الحياة الأبدية” (يوحنا 6 : 68). وفي الوقت عينه نقول: إن كلامك، يا ربّ، لن يزول! (أنظر مرقس 13:13). أيّ تمنٍّ يمكن أن يصوغه البابا من أجلكم في ختام هذا التأمل الطويل في سنة الأسرة؟ إنه يأمل أن يجدكم جميعاً في هذه الكلمات التي هي “روحٌ وحياة” (أنظر يوحنا 6 : 63).
“ليتأيّد فيكم الإنسان الباطن”
23- إني أحني ركبتيّ أمام الآب الذي منه تنبثق كلّ أبوّة وكل أمومة: “ليهب لكم… أن تتأيّدوا بقوةٍ بروحه، في الإنسان الباطن” (أفس 3 : 16). إني أعود، بملء خاطري، إلى كلمات الرسول هذه التي أوردتها في القسم الأول من هذه الرسالة. إنّها، نوعاً ما، كلماتٌ أساسية. إن الأسرة والأبوّة والأمومة تسير معاًً على قدم المساواة. وفي الوقت عينه، تشكّل الأسرة المقام البشريّ الأول الذي فيه يتكوّن “الإنسان الباطن” الذي يتحدّث عنه الرسول. إن تأييد قدرته هو عطيّة من الآب والابن في الروح القدس. إن سنة الأسرة تضع أمامنا وعل كاهل الكنيسة عبئاً هائلاً، شبيهاً بالذي يعني الأسرة، كلّ سنة وكلّ يوم؛ ولكن، في إطار هذه السنة، يرتدي معنىً وأهمية خاصّين. لقد افتتحنا سنة الأسرة في الناصرة، في احتفال عيد العيلة المقدسة. إنّا نتمنىّ، على مدى هذه السنة، أن نحجّ إلى مقام النعمة هذا، الذي أصبح معبد العيلة المقدسة في تاريخ البشرية. نودّ أن نقوم بهذا الحجّ بالعثور مجدّداً على وعي إرث حقيقة الأسرة الذي يشكل، منذ البدء، أحد كنوز الكنيسة. إنه الكنز الذي يتكدّس انطلاقاً من غنى تقليد العهد القديم، ويكتمل في الجديد؛ وهو يجد ملء معناه ومغزاه في سرّ العيلة المقدّسة التي بها يتمّ العريس الإلهيّ فداء الأسر كلّها.
وانطلاقاً من هنا، يُعلن يسوع “إنجيل الأسرة”. ومن كنز الحقيقة هذا، تغترف كلّ أجيال تلاميذ السيد المسيح، بدءاً من الرسل، الذين استخدمنا تعليمهم بوفرةٍ، في هذه الرسالة.
في عصرنا الحاضر، استُثمر هذا الكنز إلى أقصى حدّ في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني (55). وفي عدّة خطب للبابا بيوس الثاني عشر وجّهها إلى الأزواج (56)، وتتوسّع في تحاليل شيّقة ومهمّة؛ وفي رسالة البابا بولس السادس العامة “الحياة البشرية” (Humanae Vitae) ؛ وفي مداخلات لسينودس الأساقفة المكرّس للأسرة (1980)؛ وأخيراً في الإرشاد الرسوليّ “في وظائف العائلة المسيحية…” (Familiaris Consortio) . لقد أتيت قبلاً على ذكر مواقف السلطة هذه. وإذا ما كنت أعود إليها الآن فلكي أنوّه بعظمة وغنى هذا الكنز، كنز الحقيقة المسيحية عن الأسرة.
إلاّ أن الشهادات المكتوبة وحدها لا تكفي. فالأهمّ بكثير هي الشهادات الحية. ولقد ألمح البابا بولس السادس إلى أن “الإنسان المعاصر؛ يصغي بطيبة خاطر إلى الشهود أكثر منه إلى المعلّمين؛ أو إذا أصغى إلى المعلمين فلأنهم شهود” (57). ولقد اؤتمن الشهود خصوصاً، في الكينسة، على كنز الأسرة، اؤتمن الآباء والأمهات، البنون والبنات، الذين وجدوا، بأسرتهم، سبيل دعوتهم البشرية والمسيحية، وبعد “الإنسان الباطنيّ” (أفس 3 : 16)، الذي يتحدّث عنه الرسول، وبذلك بلغوا القداسة. إن العيلة المقدسة هي الأولى ما بين العديد من العيل الأخرى القديسة. ولقد ذكّر المجمع أن القداسة هي الدعوة التي تشمل جميع المعمّدين (58). وفي عصرنا الحاضر، كما في الماضي، لم نعدم الشهود “لأنجيل الأسرة”، حتى ولو كانوا مغمورين أو لم تعلن الكنيسة قداستهم. إن سنة الأسرة تشكل فرصةً مناسبةً لنعي أكثر وجودهم وعددهم الكبير.
بالأسرة ينتشر تاريخ الإنسان وتاريخ خلاص البشرية. لقد حاولت، في هذه الصفحات، أن أُظهر أن الأسرة تقوم في وسط الصراع الكبير ما بين الخير والشرّ، ما بين الحياة والموت، ما بين الحبّ وكل ما يناقض الحبّ. وإلى الأسرة أُسندت مهمّة الصراع أولاً لتحرير قوى الخير، النابعة من المسيح فادي الإنسان. يجب العمل بحيث إن كلّ عيلة تتملّك هذه القوى، فتصبح “قوية بالله” (59)، على حدّ التعبير الذي استخدم في أثناء الاحتفال بالذكرى الألف للمسيحية في بولونيا.
لهذا السبب أرادت هذه الرسالة أن تستوحي الإرشادات الرسولية الواردة في رسائل بولس (أنظر 1 كو 7 : 1 – 40؛ أفس 5 : 21 – 6 : 9؛ كول 3 : 25)، وفي رسائل بطرس ويوحنا (أنظر 1 بط 3 : 1 – 7؛ 1 يو: 12 – 17). فالبرغم من التفاوت في الإطار التاريخيّ والثقافي، كم نجد من الشبه ما بين واقع المسيحيين والأسر في ذلك الزمان، وأيّامنا الحاضرة!
إني أوجّه إليكم، إذن، نداءً: نداءً أوجّهه بالأخصّ إليكم، أيها الأزواج والزوجات، أيّها الآباء والأمهات، أيها الأبناء والبنات المحبوبون. إنه نداءٌ إلى كلّ الكنائس الخاصة، كي تبقى متحدةً في تعليم الحقيقة الرسولية؛ إلى إخوتي في الأسقفية، إلى الكهنة، إلى الجماعات الرهبانية، إلى الأشخاص المكرّسين، إلى الحركات وإلى منظمات المؤمنين العلمانيين؛ إلى الإخوة والأخوات الذين يربطنا بهم الإيمان المشترك في يسوع المسيح، حتى ولو لم نختبر بعد كمال الشركة التي يريدها المخلّص (60)؛ إلى كل الذين يشتركون في إيمان إبراهيم وينتمون مثلنا إلى الجماعة الكبرى التي تؤمن بإلهٍ واحد (61)؛ إلى من هم ورثة تقاليد روحيةٍ ودينيةٍ أخرى؛ إلى كلّ رجلٍ وكلّ امرأة يتمتعان بإرادة صالحة.
ليكن معنا المسيح الذي “هوهو أمس واليوم وإلى الدهور” (عبر 13 : 8)، فيما نحني الركب أمام الآب الذي منه تنبثق كلّ أبوةٍ وكلّ أمومةٍ وكلّ أسرةٍ بشرية (أنظر أفس 3 : 14 – 15)؛ وبواسطة كلمات الصلاة نفسها التي رفعا إلى الآب والتي علّمناها، فليُعطنا أيضاً مرّة أخرى شهادة الحبّ الذي به “أحبنّا إلى الغاية” (يوحنا 13 : 1)!
وبقدرة حقيقته، أتوجّه إلى إنسان اليوم كي يفهم عظمة مواهب الزواج والأسرة والحياة، والخطر الرهيب المتمثّل في رفض احترام هذه الحقائق وعدم تقدير القيم السامية التي ترتكز عليها الأسرة وكرامة الكائن البشريّ. لنصغ إلى الربّ يسوع يعلّمنا هذا كلّه بقدرة الصليب وحكمته، حتى لا تنقاد البشرية إلى تجربة “أبي الكذب” (يوحنا 8 : 44) الذي يدفعها على الدوام إلى سلوك السّبل العريضة والفسيحة، التي ظاهرها سهلٌ وممتعٌ، فيما هي بالحقيقة مملؤةٌ فخاخاً ومخاطر! لنسأله تعالى أن نتبع دوماً من هو “الطريق والحقّ والحياة” (يوحنا 14 : 6)!
أيها الإخوة والأخوات المحبوبون،
تلك هي مهمّة الأسر المسيحية، واهتمام الكنيسة الرسوليّ، على مدى هذه السنة الملأى بالنعم الإلهية الخاصة . علّ العيلة المقدّسة، صورة مثال كلّ أسرةٍ بشرية، تساعد كلاً منا على المسير في روح الناصرة؛ وتساعد كلّ أسرة على التعمّق في رسالتها، في المجتمع وفي الكنيسة، بإصغائها إلى كلام الله بالصلاة والمشاركة الأخوية في الحياة! وليرافقنا جميعاً مريم، أمّ الحبّ النبيل، ويوسف، حارس الفادي، بحمايتهما الدائمة!
وبمثل هذه العواطف أبارك كلّ أسرة، باسم الثالوث الأقدس، الآب والأبن والروح القدس.
أعطي في رومة، بالقرب من القديس بطرس، في الثاني من شباط 1994 – في عيد دخول السيد إلى الهيكل – وهي السنة السادسة عشرة لحبريتنا.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) أنظر الرسالة العامة “فادي الإنسان” (4 آذار 1979)، الرقم 14: في مجلة “أعمال الكرسي الرسولي” AAS 71 (1979), pp. 284- 285).
2) أنظر وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعويّ: الكنيسة في عالم اليوم (الفرح والرجاء)، الرقم 1.
3) المرجع نفسه، الرقم 22.
4) المرجع نفسه.
5) المرجع نفسه.
6) أنظر دستور العقائدي: الكنيسة (نور الأمم)، الرقم 11.
7) أنظر الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم (الفرح والرجاء)، القسم الثاني، الفصل الأول.
8) كتاب الطقوس الرومانيّ، Ordo celebrandi Rituale Romanum matrimonium, n. 74, 2e édition typique, 1991, p. 26.
9) أنظر الإرشاد الرسولي “في وظائف العائلة المسيحية…” (Familiaris Consortio) 22 / 11 / 1981، الأرقام 79 – 84: AAS 74 (1982), pp. 180 – 186
10) كتاب الطقوس الرومانيّ…، الرقم 74، الطبعة المذكورة ص 26.
11) الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 48.
12) الإرشاد الرسولي “في وظائف العائلة المسيحية…”، الرقم 69: AAS 74 (1982), p. 165
13) الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
14) كتاب الطقوس الرومانيّ…، الرقم 60، الطبعة المذكورة ص 17.
15) الإرشاد الرسولي في وظائف العائلة المسيحية، الرقم 28 : AAS 74 (1982), p. 114.
16) أنظر بيوس الثاني عشر، الرسالة العامة Humani generic (12 aout 1950): AAS 42 (1950), p. 574.
17) الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
18) المرجع نفسه.
19) المرجع نفسه.
20) الاعترافات 1، 1: مجموعة آباء الكنيسة اللاتينية: CCL, I, 1: 27, 1.
21) أنظر وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 50.
22) كتاب الطقوس الرومانيّ…، الرقم 62، الطبعة المذكورة، ص 17.
23) المرجع نفسه، الرقم 61، الطبعة المذكورة، ص 17.
24) القديس توما الأكوينيّ، الخلاصة اللاهوتية، Somme Théologique I, q, 5, a, 4, ad 2.
25) الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
26) أنظر الرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” (30 / 12/ 1987)، الرقم 25: AAS 80 (1988), pp. 543 – 544.
27) الرسالة العامة “فادي الإنسان” (24 آذار 1979)، الرقم 14: AAS 71 (1979), pp. 884 – 885 ؛ أنظر الرسالة العامة “السنة المئة” (1 أيار 1991)، الرقم 53: AAS 83 (1991), p. 859
28) ضد الهراطقة: مجموعة آباء الكنيسة اليونانية Adversus haereses, IV, 20, 7, 1057; SCh 100 /2, pp. 648 – 649.
29) الرسالة العامة “السنة المئة”…، الرقم 39: AAS 83 (1991), p. 842.
30) أنظر الرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعيّ”، الرقم 25: AAS 80 (1988), pp. 543 – 544
31) أنظر بولس السادس، الرسالة العامة “الجنس البشري” (25 تموز 1968)، الرقم 12: AAS 60 (1968), pp. 488 – 489 التعليم المسيحي للكنائس الكاثوليكية، الرقم 2366.
32) الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
33) أنظر العظة في مناسبة الاحتفال بختام السنة المقدسة (25 / 12/ 1975): AAS 68(1976), p, 145
34) الدستور الراعويّ (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
35) أنظر المرجع نفسه، الرقم 47.
36) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، Somme Théologique I, q, 5, a, ad 2.
37) المرجع نفسه 1 – 2، 22.
38) أنظر وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، الأرقام 11، 40 – 41.
39) كتاب الطقوس الرومانيّ…، الرقم 60، الطبعة المذكورة، ص 17.
40) مجموعة الحق القانونيّ للكنيسة اللاتينية Code de Droit canonique, can. 1055,& 1; Catéchisme de l’Eglise catholique, n. 1601.
41) أنظر الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 74.
42) أنظر الرسالة العامة “السنة المئة” المرجع المذكور، الرقم 57: AAS 83 (1991), pp. 862 – 863
43) أنظر الرسالة العامة “العمل البشري” Laborem exercens (14 septembre 1981), n. 19: AAS 73 (1981), pp. 625 – 629.
44) S. Irénée, Adversus haereses III, 10, 2; PG 7, 873; SCh 211, pp. 116- 119; S. Athanase, De Incarnatione Verbi, n. 54; PG 25, 191 – 192; S. Augustin, Sermon 185,3: PL 38, 999; Sermon 194, 3,3: PL 38, 1016.
45) أنظر الدستور الراعوي (الفرح والرجاء)، الرقم 24.
46) “الإنسان واحدٌ بجسده وروحه”، على حدّ تعبير المجمع الرائع: المرجع نفسه، الرقم 14.
47) المرجع نفسه، الرقم 22.
48) أنظر الدستور العقائدي في الكنيسة، الأرقام 56 – 59.
49) أنظر المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام، الإرشاد الراعويّ “عهد جديد” (Aetatis Novae) ، (22 شباط 1992)، الرقم 7.
50) في ليتورجيا عيد أطفال بيت لحم الأبرار، الذي يرقى إلى القرن الخامس، تخاطبهم الكنيسة بعبارات الشاعر برودنس (Prudence) المتوفى حوالي 405، الذي امتدحهم بقوله: “كأزهار الشهادة قطّعها مضطهد المسيح، وهي بعد في فجر الحياة، كما تقصف العاصفة الورود وتبدّدها، وهي بعد براعم”.
51) S. Athanase, De Incarnatione Verbi, n. 54: PG 25, 191 – 192.
52) أنظر الرسالة العامة “تألق الحقيقة” للبابا يوحنا بولس الثاني (6 آب 1993)، الرقم 84.
53) La vive flame d’amour, 59.
54) B. Pascal, Pensées, n. 553 (éd. Br.)
55) أنظر بالأخص الدستور الراعوي “الفرح والرجاء”، الأرقام 47 – 52.
56) يجب الاهتمام خاصةً بالخطاب إلى المشاركين في مؤتمر الرابطة الكاثوليكية الإيطالية للتوليد (29/ 10/ 1951): Discorsi e Radiomessaggi, XIII, pp. 333 – 353.
57) أنظر الخطاب أمام أعضاء “مجلس العلمانيين” (2/ 10/ 1974): AAS 66 (1974), p. 568
58) أنظر الدستور العقائدي في الكنيسة، الرقم 40.
59) Cf. Card. Stefan Wyszynski, Rodzina Bogiem silna, Homélie pronocée à Jasna Gòra, 26 aout 1961.
60) أنظر الدستور العقائديّ في الكنيسة، الرقم 15.
61) أنظر المرجع نفسه، الرقم 16.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post