مناظرات القديس يوحنا كاسيان مع آباء البرية – ج3
المناظرة الثامنة عشر- أنواع الرهبان الثلاثة
للأب بيامون
1- مقدمة
بعد زيارة هؤلاء الآباء الشيوخ الثلاثة والتحدث معهم ومحاولة وصف مناظراتهم للأخ يوخريوس Eucherius، إذ لنا رغبة قوية في الاستطلاع على أجزاء أخرى من مصر يقطن فيها جماعات من القديسين أكثر كمالاً… أتينا إلى قرية [1]Diolcos، تقع على أحد مصبات النيل السبعة. لأنه عندما سمعنا عن أديرة عديدة أسسها الآباء الأولون، أقلعنا على الفور كتجار شغوفين مدفوعين بالأمل في نوال ربحٍ أعظم. وإذ تجولنا هناك لوقت طويل، مثبتين أنظارنا المتلهفة على جبال الفضيلة الشاهقة، وقعت أنظارنا على الأب بيامون، الذي هو أول المتوحدين القاطنين هناك وكاهنهم، وكأنه فنار عالٍ.
إنه يسكن فوق جبلٍ عالٍ، وذلك مثل المدينة المذكورة في الإنجيل (مت14:5)، سرعان ما سلط نوره على وجوهنا، هذا الذي تشهد له حياته ومعجزاته التي رأيناها بعيوننا. كذلك تشهد النعمة الإلهية لسموه، وإذ لا نريد أن نطيل الحديث في هذا المجلد فإننا نشعر أنه يلزمنا أن نعبر صامتين في سكون. لأننا قد وعدنا أن نجمع في ذاكرتنا ما أمكن، ليس من جهة المعجزات الإلهية، بل من جهة تعاليم القديسين وآثارهم، حتى نمد القُراء بالتعاليم الضرورية اللازمة للحياة الكاملة وليس أن نتكلم عن مقدار دهشتنا بطريقة خاملة غير مربحة.
هكذا استقبلنا الأب بيامون بترحابه وغمرنا بعطفه عندما عرف أننا غرباء، وسألنا عن سبب مجيئنا إلى مصر. وإذ عرف أننا قادمون من دير في سوريا نسعى وراء الكمال ابتدأ الحديث.
2- ضرورة استرشاد المبتدئين في الرهبنة بالآباء الشيوخ
يا أولادي، لا يوجد إنسان يرغب في إتقان مهارة ما في أي فن من الفنون إلا ويبذل كل جهده متوخيًا الدقة، فاحصًا الأنماط التي يدرسها، ملاحظًا بإحكام أنظمة أفضل المتخصصين في هذا العمل أو هذا العلم. ومن لا يفعل هذا يكون قد دفع نفسه في حفرة من الأمل الزائف ليبلغ بأشواق غير هادفة أن يكون مشابهًا لمن يتجنب اقتفاء آلامهم وسهرهم.
إننا نعلم أن البعض جاء من بلادكم إلى هذه البقاع لمجرد التجول في الأديرة والتعرف على الإخوة ، دون أن يعزموا على تبني القواعد والأنظمة التي من أجلها يسافرون، ولا يودون الاعتزال في قلالي لينفذوا ما قد رأوه عمليًا. هؤلاء بقوا على حالهم كما هو، وكما قال البعض عنهم أنهم لم يغيروا موطنهم بقصد النفع… وبعنادهم وتشبث أفكارهم لم يتعلموا شيئًا بل ولا استطاعوا الإقامة. وإن كانوا لم يغيروا طريقة صومهم أو ترتيب مزاميرهم ولا حتى لبسهم ، فماذا نظن من جهة غاية مجيئهم إلى هنا؟
3- من أجل هذا إن كانت نعمة الله، كما نعتقد، قد جذبتكما إلى هنا، لتنقلا معرفتنا، فعليكما أن تتجاهلا كل الأنظمة التي تمرستما عليها منذ حداثتكما، وتتبعا بكل تواضع كل ما ترون آباءنا يفعلون أو يعلمون به. ولا يساوركما ضيق، ولا تحيدان بعيدًا عن التمثّل بما ترونه، حتى وإن بدى لكما غامضًا إلى حين أو لأي سبب. لأن من كان له الفكر الصالح وفي تواضع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلاً من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق… لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلاً إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس.
4- الأنظمة الثلاثة للرهبنة
يجدر بكما أن تسمعا متى بدأ نظامنا؟ وكيف بدأ؟ لأنه من يعرف عظمة مؤسس هذا النظام، يتدرب على هذا الفن ممارسًا إياه بكل اجتهاد.
هناك ثلاثة أنواع من الرهبان في مصر، نوعان يجدر الإعجاب بهما، أما النوع الثالث فيلزم تجنبه.
النوع الأول هو نظام الشركة، وهم الذين يعيشون في مجمعٍ يقودهم أب أكبر، ونجد كثيرين يعيشون بهذا النظام في ربوع مصر.
النوع الثاني هو نظام التوحد (أو النساك anchorites) الذين تدربوا في البداية على نظام الشركة، وتكملوا متدربين في الحياة العملية، ثم اختاروا أعماق الصحراء، وإننا نأمل أن نجد لنا مكانًا في هذا النظام.
أما النوع الثالث وهو نظام ملام يدعى بالسرابيين Serabtian.
وسنتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة بصورة مفصلة حسب الترتيب. ولكن، كما قلنا، يجدر بنا أولاً أن نتعرف على واضعي هذا النظام، لأنه بهذا إما أن تبرز كراهية ونفور من النظام الذي يلزم تجنبه أو شوق للنظام الذي يجدر بنا السلوك فيه… فإنه من المؤكد أن أي طريق يؤدي بالسائرين فيه إلى النهاية التي وصل إليها مؤسس الطريق.
5- بخصوص مؤسسي نظام الشركة
لقد ظهر نظام الشركة في أيام كرازة التلاميذ، إذ هكذا كانت جموع المؤمنين بأورشليم التي وُصفت في سفر أعمال الرسل: “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أموالهِ لهُ بل كان عندهم كل شيءٍ مشتركًا… لأن كل الذين كانوا أصحاب حقولٍ أو بيوتٍ كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يُوَزَّع على كل واحدٍ كما يكون له احتياج” (أع32:4،34،35). “والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحدٍ احتياج” (أع45:2).
أقول الآن أن كل الكنيسة آنذاك كانت مثل الحفنة القليلة التي تسلك الآن في نظام الشركة، ولكن بعد موت الرسل، وقد بدأت جموع المؤمنين تفتر وتبرد، خاصة الجموع التي جاءت إلى الإيمان من أمم مختلفة، والذين بسبب حداثة إيمانهم وعبادتهم الوثنية المتأصلة فيهم لم يُطالبوا سوى بضرورة أن “تمتنعوا عمَّا ذُبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى” (أع 29:15). هذه الحرية التي وُهبت للأمم لحداثة إيمانهم، قللت من الصورة الكاملة التي كانت لكنيسة أورشليم… بل وحتى بعض القادة تهاونوا بعض الشيء ظانين أنه ما قد سُمح به للأمم من أجل ضعفهم مسموح به لهم أيضًا، معتقدين أنهم لن يُضاروا شيئًا إن اتبعوا إيمان المسيح واعترفوا به محتفظين بمقتنياتهم وما يمتلكونه.
أما أولئك الذين بقوا على حمية إيمانهم الرسولي، مراعين الكمال الأول، فإنهم تركوا مدنهم وتركوا الذين ظنوا أن إهمالهم وحياتهم الرغدة مسموح بها لهم ولكنيسة الله، وهكذا ذهبوا إلى بقاع أكثر عزلة، وبدأوا يتدربون على ما أمر به الرسل لكل جسد الكنيسة الجامعة. هكذا فإن هذا النظام الذي نتحدث عنه نابع عن التلاميذ الذين انعزلوا عن الشر. هؤلاء بالتدريج امتنعوا أيضًا عن الزواج[2] وانعزلوا عن الارتباط بأقاربهم… أطلق العالم عليهم “رهبانُا” أو “متوحدين” بسبب حياتهم الصارمة المنعزلة. وقد سموا بالكانوبيين (أي تبع نظام الشركة) من أجل حياة الشركة التي بينهم… وهذا هو أول نوع من الرهبان، لكن ليس من حيث الزمن… وقد استمر هذا النظام لا عوج فيه…
6- النساك أو المتوحدون وأصلهم
من هذا العدد من الكاملين، أو إن أمكن أن أطلق عليهم شجرة القديسين، التي أينعت، فأخرجت زهورًا وثمارًا هم “النساك”.
إن مؤسسي هذا النظام هما الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس، رجلين جابا أعماق الصحراء، لا عن وهن الروح أو قلق، إنما رغبة في بلوغ درجات أسمى من الكمال، وبقصد التأمل الإلهي، مع أنه قيل عن الأنبا بولا أنه عرف طريقه إلى الصحراء عن ضرورة متجنبًا مؤامرة أقربائه (خاله) في زمن الاضطهاد.
خرج من نظام الشركة نوع آخر من الساعين وراء الكمال، يُدعون بـ “المتوحدين” أي المنعزلين. وإذ لم يكتفوا بنصرتهم، إذ داسوا حيل إبليس الخفية تحت أقدامهم وهم يعيشون وسط الناس، اشتاقوا أن يدخلوا في حرب علانية ومعركة مكشوفة مع العدو.
هكذا لم يخشوا التوغل في أعماق البرية، مقتفين آثار يوحنا المعمدان الذي قضى كل حياته في الصحراء، كذلك إيليا واليشع، إذ يتحدث الرسول عنهم قائلاً: “طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًّا لهم، تائهين في براريَّ وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب 37:11، 38).
تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلاً: “من سرَّح الفراءَ حُرًّا ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيتهُ والسباخ مسكنهُ. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاهُ وعلى خضرةٍ يفتّش” (أي 5:39-8). أيضا يقول سفر المزامير: “ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ” ثم يكمل قائلاً: “تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فأنقذهم من شدائدهم” (مز 2:107، 4-6). يصفهم إرميا أيضا قائلاً: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحدهُ ويسكت لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3، 28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: “صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز 6:102، 7).
7- أصل السرابيين وطريقة حياتهم
بينما كانت المسيحية تتهلل بهذين النظامين للرهبنة… ظهر نوع ممقوت وغير مخلص. يرجع هذا النظام إلى ظهوره في شخص حنانيا وسفيرة في الكنيسة الأولى، لكن الرسول بطرس قطعه للحال بقسوة. وبهذا أصبح هذا النظام مكروهًا ولم يتبناه أحد لفترة طويلة، إذ كانت كلمات الرسول العنيفة لاصقة في ذاكرة المؤمنين. هذه الكلمات التي فيها لم يرفض الرسول فقط أن يسمح لها بالشفاء، وإنما قضى على هذه الآفة بالموت العاجل.
وإذ خفَّت آثار هذه الحادث الذي عُوقب بعنف رسولي في حالة حنانيا وسفيرة، فإنه بمرور الزمن مع الإهمال قامـت جماعة السرابيين الذين انشقوا علي مجمع الشركة، وصار كل واحد منهم يهتم بشأن نفسه، ولقبوا بالحق باللغة المصرية “Sarabaites”، هؤلاء خرجوا عن الذين أرادوا الاقتداء بالكمال الإنجيلي، هادفين إليه، مفضلين الفقر التام عن كل أشكال الغنى.
هؤلاء بنفوس ضعيفة يتظاهرون بالخير الأعظم وقد اضطروا بالقوة أن ينضموا إلى نظام الرهبنة مشتاقين إلى لقب “رهبان” وليس إلى مسعاهم. وهم لم يخضعوا للنظام الرهباني في أي صورة من صوره، ولا خضعوا لإرادة الآباء، ولا تعلموا من تقاليدهم، بل اعتمدوا على إرادتهم الخاصة. جاعلين من رفضهم العالم مهنة أمام كل الناس، ذلك إما باستمرار بقائهم في منازلهم مكرسين أنفسهم لمشاغلهم الأولى كسابق عهدهم مع أنهم تكرموا بحمل لقب “رهبان”، أو بناء قلالي لأنفسهم أطلقوا عليها اسم أديرة يعيشون فيها في حرية وهم سادة لأنفسهم، غير خاضعين لأحكام الإنجيل الذي يمنعهم من الانشغال بالقلق على الطعام اليومي أو الشئون المادية، هذه الوصايا التي لا ينفذها بإيمان سوى أولئك الذين جردوا أنفسهم من كل مشتهيات هذا العالم، وخضعوا لآباء الشركة ولم يقولوا أنهم معلمون لأنفسهم.
لكن كما قلنا أولئك الذين خشوا قسوة الأديرة… ورأوا التخلص من نير الآباء، واقتناء حرية تنفيذهم لإرادتهم، يتجولون كيفما شاءوا. هؤلاء شغلوا أنفسهم بالعمل اليومي بطريقة تزيد عما هو في نظام الشركة وبإيمان مغاير وبهدف مختلف، لأن هؤلاء السرابيون يفعلون هذا لا ليقدموا ثمار أعمالهم لإرادة الرب، إنما ليربحوا أموالاً يعتمدون عليها.
الأولون لا ينشغلون بالغد، مقدمين لله ثمار أتعابهم أما هؤلاء فيمتد قلقهم الخالي من الإيمان لا إلى الغد فحسب بل وعبر السنين أيضًا. وهكذا يظنون أن الله كاذب أو عاجز، أو أنه لا يريد أن يهبهم طعامهم اليومي وملابسهم كوعده.
النوع الأول يجاهد في صلاته ليبلغ الحرمان من كل شيء حتى الفقر الدائم. والثاني يجاهد لكي يقتني وفرة في كل شيء. نوع يجاهد بشوق ليتعدى الأحكام الموضوعة للعمل اليومي، مقدمًا ما يفيض عن حاجة الدير المقدسة لكي يوزع، بناء على رغبة أمين الدير (الروبيته)، على المسجونين والغرباء والفقراء… والآخر يستخدم الفائض كل حسب رغبته النهمة…وحتى إن وزعوا على الفقراء يأتون منتفخين بعملهم هذا مما يجعلهم يسقطون كل يوم في الإثم…
النوع الأول بصبره ومثابرته يتمسك بالنظام الذي قبله فلا ينفذون شيئًا حسب إرادتهم الخاصة، بل صلبوا للعالم كل يوم وصاروا شهداء أحياء، أما الآخرون فقد ألقوا بأنفسهم إلى الجحيم لسوء هدفهم…
عدد هذا النوع الثالث (السرابيون) يتكاثر في بقاع أخرى حتى صار هو النوع الوحيد في بعض المناطق، حيث أنه في أيام لوكيوس قام أسقف أريوسي في زمن حكم الإمبراطور فالنس بينما كنا نحمل عطايا لاخوتنا الذين أُخذوا من مصر وطيبة إلى مناجم بنطس وأرمينيا[3] بسبب ثباتهم على إيمان الكنيسة الجامعة، وجدنا في الطريق بعض المدن ليس فيها نظام الشركة إلا القليل ومتباعد، بل ولم نقدر أن نستدل على وجود مجرد اسم “متوحدين” أو نساك هناك.
8- النوع الرابع من الرهبان
نوع رابع من الرهبان رأيناه أخيرًا بين أولئك الذين يخدعون أنفسهم بأخذ مظهر النساك المتوحدين، هؤلاء الذين كانوا قبلاً يسعون وراء كمال الشركة، لكنهم فتروا وبردوا وإذ لا يريدون أن يضعوا حدًا لعاداتهم وأخطائهم السابقة، ولأنهم لا يرغبون في حمل نير التواضع والاحتمال والزهد في الخضوع لأحكام الآباء، بحثوا عن قلالي منعزلة، وفضلوا البقاء منفصلين. وإذ لا يثيرهم أحد يظهرون أمام الناس صابرين ودعاء ومتواضعين.
هذا النظام بل هذا الإهمال واللامبالاة لا يمكن أن يقترب بالممسكين به إلى الكمال. إنهم لا يقلعون عن أخطائهم بل تتفاقم في الوقت الذي فيه لا يؤنبهم عليها أحد. وهكذا تصير مثل سم مميت كلما أخفيناه تعمق وأدى إلى مرض عضال.
بسبب احترام الناس لهم لا يجرؤ أحد على تأنيب هذا الإنسان المنعزل، وهو بدوره يهمل خطاياه ولا يعالجها. هذا مع أن الفضائل لا تنشأ بإخفاء الرذائل بل بطردها إلى الخارج.
9- جرمانيوس
هل هناك أي فارق بين “الشركة” و”الدير”، أم هما اسمان يُطلقان على شيء واحد؟
10- الأب بيامون
ولو أن كثيرين يتحدثون عنهما كشيء واحد، إلا أنه هناك اختلاف بينهما، فالدير هو اسم يطلق على المكان، ولا يعني غير ذلك، أي هو مسكن الرهبان، أما “الشركة” فتصف نوع الحياة ونظامها.
قد يعني الدير مسكن راهب واحد، أما الشركة فلا يمكن أن تكون إلا بين جماعة يعيشون معًا. ونحن نسمي بعض الأماكن “أديرة” حيث يعيش فيها بعض جماعات السرابيين (حيث يسير كل راهب منهم على حسب هواه وإرادته الخاصة دون الخضوع لنظام معين).
11- عن التواضع الحقيقي والتواضع المزيف
إنني إذ أرى أنكما قد تعلمتما المبادئ الأولى لهذه الحياة من رهبان أفاضل، أعني مبتدئين بمدرسة الشركة الممتازة هادفين إلى نظام السمو الشاهق الذي للنساك، لذلك يجدر بكما أن تبحثا بإخلاص عن فضيلتي التواضع والصبر. وإنني لا أشك في أنكما قد لُقنتما هاتين الفضيلتين كما ينبغي وليس في صورة زائفة كلامية كما يفعل البعض، ولا بطريقة صناعية…
هذا التواضع المزيف كشفه الأب سرابيون في عمقه، عندما أتاه أحد الرهبان مظهرًا مسكنة عظيمة في ملبسه وطريقة حديثه، فطلب منه الأب الشيخ أن يوزع المزامير كالعادة، لكن الراهب اعتذر محتقرًا نفسه معلنًا أنه خاطئ ولا يستحق حتى أن يستنشق الهواء، ورفض حتى أن يستخدم الحصيرة التي قُدمت له، مفضلاً أن يجلس على الأرض العراء، مظهرًا ميلاً لغسل الأرجل… وبعد العشاء إذ اجتمعوا بدأ الأب سرابيون ينصح الراهب بوداعة ورقة أن يكف عن الأسفار بغير هدف، خاصة وأنه شاب قوى، وأن يبقى في قلايته حسب نظام الآباء، ويعتمد على جهاده وليس على جهاد غيره، الأمر الذي لم يسمح به الرسول لنفسه، فبينما يعمل من أجل الإنجيل لم يقبل أن يأخذ احتياجاته المادية التي هي من حقه، لكنه استحسن أن يعمل من أجل احتياجاته الضرورية واحتياجات الذين يخدمون معه وهم غير قادرين على العمل بأيديهم. احتدم الراهب بالغيظ، حتى انه لم يستطع أن يخفي الضيق الذي ملأ قلبه، فقال له الأب سرابيون “يا ابني إنك حتى هذه الساعة كنت تتهم نفسك بتعديات كثيرة معترفًا بآثام مخيفة تشوه سمعتك. وها أنا أرى كيف إن نصيحتي الممتلئة حبًا لك والتي لم تحوي توبيخًا أثارت كآبة في داخلك وغضبًا لم تستطع ضبطه… فلعلك كنت تطلب منَّا وراء تظاهرك بمظهر المسكنة أن تسمع منَّا مديحًا… لكن ينبغي أن تقتني تواضع القلب الذي لا يأتي من مظهر الكلام بل بمسكنة الروح الداخلية. هذه المسكنة وحدها تشرق بضياء الشهادة الحقيقية، وذلك عندما لا يفتخر الإنسان بالإثم بالتباهي به، بل في هدوء ووداعة روح يغفر لمن يتهمونه متغاضيًا عنهم.
12- كيف نقتني الصبر؟
جرمانيوس: كيف يمكننا أن نقتني الوداعة ونحفظها؟ إننا عندما نمارس الصمت نغلق شفاهنا ونمتنع عن الحديث، حتى نتمكن من حفظ وداعة القلب التي نفقدها أحيانًا حتى ولوصمت اللسان، لهذا فنحن نعتقد أن وداعة الروح لا يمكن أن يحافظ عليها إلا ناسك متوحد في قلاية منعزلة.
13- بيامون
إننا لا نحصل على الصبر الحقيقي والهدوء، ولا نحفظهما بدون تواضع عميق من القلب. فإذا ما نبع الصبر من هذا المصدر لا تكون هناك حاجة إلى الوجود في قلاية (كمعين ضد الغضب) أو إلى حماية البرية، فإنه لا حاجة إلى عون خارجي من أي شيء طالما توجد فضيلة التواضع الداخلية، التي هي أم الصبر وحارسته.
أما إذا اضطربنا من أي إنسان يهاجمنا، يكون من الواضح أن أسس التواضع غير موجودة فينا بإحكام، لذلك فإن هبت أقل عاصفة يهتز البناء كله ويهلك. لأن الصبر لا يستحق الإعجاب والتقدير إن احتفظ بالهدوء عندما لا يهاجمنا عدو، بل يكون عظيمًا ومجيدًا إن بقى بلا تأثير عندما تهاجمه عواصف التجارب. لأنه يزداد قوة حين يضايقه عدو أو يؤذيه، وحيث يظنون أنه سيتضايق إذ هو بالأكثر يتزكى.
لأن كل إنسان يعرف أن “الصبر” يأخذ اسمه من الآلام والاحتمال، بهذا يتضح أنه لا يُمكن أن يدعى إنسان صبورًا إلا ذاك الذي يحتمل كل ما يحل به من متاعب دون أن يتضايق. هكذا لم يمدح سليمان مثل هذا الإنسان بغير بسبب، إذ يقول: “البطيءُ الغضب خير من الجبار ومالك روحهِ خير ممَّن يأخذ مدينة” (أم 32:16). وأيضًا “بطيءُ الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّى الحمق” (أم 29:14).
إذا انهزم إنسان أمام خطأ واشتعلت فيه نيران الغضب، وجب عليه ألا يعتبر أن مرارة الإهانة الموجهة إليه هيسبب خطيته بل بالأحرى ظهور ضعفه الخفي، وذلك طبقًا لمثل ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي تحدث فيه عن المنزلين (مت 24:7، 26). أحدهما مؤسس على الصخر والآخر على الرمل. فقد قال عن الاثنين أن عواصف المطر والسيول والرياح هبت عليهما بالتساوي لكن المؤسس على الصخر والصلب لم يتأثر على الإطلاق من قسوة الصدمة، أما الذي تأسس على الرمل الناعم المتحرك فللحال انهار وسقط، والسبب في سقوطه بالتأكيد لم يكن اصطدامه بالعواصف والسيول بل لأنه بُني في غير حكمة على الرمل.
فالقديس لا يختلف عن الخاطئ في أنه ليس مجربًا مثله، بل يختلف عنه في أنه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف أما الآخر فينهزم من أقل تجربة. لأنه كما سبق وقلت أن ثبات أي إنسان صالح لا يستحق المديح بنواله النصرة بدون أن يجرب، لأنه ليست نصرة بدون حرب روحية…
“طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنهُ إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعد بهِ الربُّ للذين يحبُّونهُ” (يع12:1). وكما جاء في رسالة الرسول بولس أن “القوة تكمل” ليس في الطريق السهل المملوء مباهج، بل “في الضعف” (2كو9:12). ويقول الله “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديدٍ وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤَسائها ولكهنتها ولشعب الأرض، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك”[4] (إر18:1،19).
14- مثال الصبر، تقدمه امرأة تقية
أودّ أن أقدم لكم مثالين للصبر: واحد عن امرأة تقية كانت تصبو نحو فضيلة الصبر بشوق شديد حتى أنها لم تتجنب هجوم التجارب فقط بل في الواقع دبرت لنفسها أوقات تجربة وتعب حتى لا يتوقف امتحانها. هذه المرأة كانت تعيش في الإسكندرية وكان أبواها مقتدرين وكانت تعبد الرب بتقوى في البيت الذي تركه لها والدها. هذه أتت إلى الأسقف أثناسيوس ذو السيرة العطرة ورجته أن يعطيها أرملة تسكن معها تنفق عليها وترعاها. وعندما تحقق الأسقف من قصد المرأة ورأي أن لها استعدادًا لعمل الرحمة أمر بأن يسمح لها بأرملة معروفة بحسن سلوكها وخاف أن يعطيها امرأة لها سلوك سيئ خوفًا من أن تعثرها في إيمانها.
وعندما أتت المرأة إلى بيتها خدمتها بكل أنواع الخدمات وأظهرت لها كل وداعة وعطف، وهكذا رأت أنها بدأت تتقبل شكرًا ومديحًا في كل دقيقة لأجل خدمتها الرحيمة. فذهبت بعد عدة أيام إلى الأسقف وقالت له: “لقد سألتك امرأة أخدمها في طاعة” وإذ لم يفهم الأسقف هدفها ظن أن طلبها الأول قد أُهمل، فسأل عن سبب التأخير ووجد أنهم قد أعطوها أطيب امرأة، فأمر سرًا أن يعطوها أسوأ امرأة، تكون غضوبة وكثيرة المتاعب والكلام، محبة للخمر، تخضع تحت نير هذه الأخطاء،. عندما أخذتها وبدأت تخدمها وتُقدم لها نفس العناية التي قدمتها للأرملة الأولى، عوض الشكر الذي كان يليق تقديمه نظير خدمتها كانت تشتكي على الداوم من أخطاء لا تستحقها، وكانت تسبها بألفاظ سيئة لأنها أحضرتها إلى منزلها لمضايقتها وتعذيبها، وأخذتها من الراحة إلى الجهد والتعب. ولما فاقت شتائمها الحد وتطاولت فمدت يدها عليها، ضاعفت المرأة من خدمتها بوداعة وتواضعٍ أكثر، وتعلمت أن تتغلب على الشر لا بمقاومته بل بضبط النفس والتواضع.
وعندما اقتنت فضيلة الصبر الكاملة التي كانت تتوق إليها أتت إلى الأب الأسقف لتشكره على اختياره الحكيم وبركة التدرب على احتمال مضايقاتها اليومية التي كانت بمثابة زيتًا يلطف من الجرح… وقد قالت له: “لقد أعطيتني حقًا امرأة تعينني وتشددني… أما الأولى فكانت تكرمني بالأكثر وتدللني بخدمتها”.
هذا مثال كافٍ قيل عن جنس المرأة، حتى أننا بهذه القصة لا نتثقف فحسب وإنما بالأكثر نخزى، لأننا لا نستطيع أن نحفظ الصبر إلا إذا لجأنا إلى الكهوف والقلالي كالوحوش.
15- مثال الأب بفنوتيوس
الآن نتكلم عن المثل الثاني الخاص بالأب بفنوتيوس الذي كان مملوءً على الدوام غيرة في وسط برية الإسقيط الشهيرة، والذي الآن هو قس (البرية)، ولقد لقبه بقية النساك [5]”Bubalis” لأنه كان في سكناه في الصحراء مبتهجًا على الدوام كما لو كان يحب هذا بالفطرة.
كان حتى في صبوته صالحًا ومملوءً نعمة، حتى أُعجب مشاهير الرجال وعظمائهم بهيبته واستقامته الدائمة، ورغم صغر سنه كان يُوضع في مصاف الشيوخ بسبب فضائله… لكن الحسد الذي سبق أن أثاره اخوة الأب (البطريرك) يوسف ضد أخيهم، أثار أحد الاخوة بغيرة متقدة آكلة. وإذ أراد الأخ تشويه جمال بفنوتيوس بوصمة… انتهز فرصة تركه قلايته يوم الأحد لذهابه إلى الكنيسة، وتسلل إليها وخبأ كتابه بين السعف…
لما انتهت الخدمة المعتادة، جاء ليشتكي أمام جميع الاخوة للقديس إيسيذورس الذي كان قسًا للبرية قبل رسامة بفنوتيوس هذا قسًا عليها، وأعلن بأن كتابه قد سرق من قلايته، فأثارت شكواه بلبلة في عقول الإخوة وبخاصة القس، حتى توقف تفكيرهم، إذ غلبتهم الدهشة أن يسمعوا عن جريمة لم تُرتكب قبلاً ولا سمعوا عنها، لأنها لم تحدُث من قبل في هذه البرية… حث المدعى أن ينتظر الكل في الكنيسة ويرسل بعض الاخوة المنتخبين للبحث في قلالي الرهبان، راهبًا راهبًا. عهد القس الأمر إلى ثلاثة من الشيوخ الموثوق فيهم، فدخلوا قلايات الجميع، وأخيرًا وجدوا الكتاب في قلاية بفنوتيوس وسط السعف… فلما عادوا إلى الكنيسة أحضروا الكتاب أمام الجميع. أما بفنوتيوس فرغم نقاوته من جهة ضميره، لكنه كان كما لو كان إنسانًا كشفت جريمة سرقته، فطلب منهم تهذيب نفسه وبتواضع طلب التوبة…
ولما خرج من الكنيسة في الحال لم يضطرب فكره، لكنه وثق في حكمة الله، فصار يزرف الدموع في الصلوات ويصوم ثلاثة أضعاف ما كان عليه، ويصنع مطانيات للاخوة في تواضع. وهكذا إذ أذل نفسه بكل أنواع الندامة من جهة الجسد والروح لمدة 14 يومًا، حتى جاء مبكرًا في صباح السبت وصباح الأحد لا ليشترك في الأسرار المقدسة، بل ليطرح نفسه على أرضية الكنيسة طالبًا العفو من إخوته.
لكن الله، الذي يعلم أسرار الأمور ويشهد لها، لم يتركه كثيرًا مُعتديًا عليه… لأن مرتكب الجريمة، اللص الشرير الذي سرق ماله (سرق كتابه هو ونسب السرقة للأب بفنوتيوس) صنع هذا بعيدًا عن الأعين البشرية، فكشفه الله بواسطة نفس الشيطان الذي بث فيه الخطية… فقد صرعه روح شرير عنيف، فاعترف بكل تفاصيل المكيدة السرية المدبرة… وقد بقي زمانًا طويلا متألمًا من الروح النجس، حتى لم تستطع صلوات القديسين الساكنين هناك أن تشفه… بل ولا حتى الموهبة الخاصة التي للقس إيسيذوروس… لأن المسيح كان يحفظ للشاب بفنوتيوس هذا المجد إذ لا يشفي الرجل إلا بصلوات من دُبرت ضده المكيدة.
إنه (بفنوتيوس) بهذا في صبوته المبكرة أظهر ما ستكون عليه شخصيته فيما بعد، فإنه حتى في سن الصبا رسم خطوط ذلك الكمال الذي نما فيه.
إذن إن أردنا أن نحصل على أعلى فضيلة يلزمنا أن نلقي نفس الأساس لنبدأ به.
16- على أي الأحوال يوجد سبب مزدوج يقودني أن أسرد هذه الحقيقة:
أولا : أن نتأمل في هذا الثبات والاحتمال كأمر سهل، فيمكننا أن نحيا في هدوء وصبر مستهينين بحيل العدو (الشيطان).
ثانيًا: لكي ما نؤكد أننا لا نقدر أن نهرب من عواصف التجارب وهجمات الشيطان، إذا ما اعتمدنا في مساندة صبرنا، لا على قوة إنساننا الداخلي إنما على مجرد غلق باب قلايتنا أو التوغل في الصحراء ومصاحبة القديسين أو أي ضمان خارجي من أي نوع.
فما لم يتقَّوَ ذهننا بقوة حماية الله الذي يقول في الإنجيل: “ملكوت الله داخلكم” (لو21:17)، باطلاً نظن أننا قادرون على تفادي هجمات عدونا الخبيث “الشيطان” بمعاونة الساكنين معنا، أو نتخلص منها ببعد المكان، “أي الانعزال عن الناس”، أو نهرب منها بحماية الجدران لنا. فإنه إذ كان القديس بفنوتيوس لا يعوزه شيء من هذا، لكن المجرب لم يغلب في أن يجد له منفذًا لمهاجمته.
النفس الممتلئة حماقة لا تنتفع شيئًا من الاختباء وراء الجدران أو الانعزال عن الناس أو استحقاقات القديسين الذين تعيش معهم.
لكن إذ ثبَّت القديس، خادم الله، رجاء قلبه لا على أمور خارجية بل على الله الذي هو ديان السرائر، لا تحركه مكائد عدو كهذا.
من الجانب الآخر لم يتمتع الإنسان، الذي دفعه حسده إلى خطية عظيمة كهذه بحياة العزلة، ولم يحمه مسكنه المنعزل، ولا استفاد من التحادث مع القديس الطوباوي الكاهن إيسيذورس وغيره من القديسين، وهكذا إذا ما أثار الشيطان عاصفة يهتز البيت ويندثر للحال.
إذن لسنا نحتاج إلى البحث عن سلامنا في الخارج، ولا نظن أن صبر الآخرين يفيد عدم صبرنا. لأنه كما أن “ملكوت الله داخلكم” كذلك أعداء الإنسان هم “أهل بيتهِ” (مت36:10)، فإنه ليس لي عدو أكثر من قلبي، الذي هو بالحق ألصق “أهل بيتي” إليّ.
فإن كنا حريصين، فإنه لا يمكن أن نتأذى بسهولة من الأعداء الباطنيين، فإذا لم يقاومني أهل بيتي، عندئذ أضمن وجود ملكوت الله في سلام القلب.
إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي… فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريض أصلاً. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات “لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى فتلدغكم يقول الرب” (إر17:8).
بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت… فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه “بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه” (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ على الدوام يزيفون الحقيقة، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلاً، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه “بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين”.
الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه “أَنه يقف قدام الحاسد” (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته.
أخيرًا لم يكن يوسف قادرًا أن يخفف من حدة حسد إخوته الإحدى عشر، الراغبين في موته مع أنه لم يؤذهم في شيء.
من الواضح أن الحسد من أسوأ الخطايا وأصعبها شفاءً، لأنه يلتهب بنفس الأدوية التي بها تهلك بقية الخطايا، فمثلاً الإنسان الذي يحزن لخسارة قد لحقت به، يشفي بتعويضها، والمتضايق بسبب خطأ أصابه فإن اعتذار متواضع كافٍ لرضائه، لكن ماذا تفعل لإنسان تزداد معصيته كلما ازددت تواضعًا ورحمة، هذا الذي لا يغضب طمعًا في رشوة ينالها… أو ليحصل على خدمات، إنما يغضب بسبب نجاح الآخرين وسعادتهم؟
من ذا الذي يستطيع أن يُرضي الحاسد، الذي يتمنى ضياع ثروة الآخرين، ويعمل على فشلهم، أو يسبب لهم مصائب؟
إننا محتاجون إلى عون إلهي، الذي ليس لديه شيء غير مستطاع، حتى لا تُهلك الحية بعضتها الوحيدة ما هو مزدهر فينا، بل نحيا بحياة الروح القدس الفعَّالة وقوته!
أما فيما يختص بسموم الحية الأخرى، أعني الأخطاء والضعفات الجسدية التي يقع فيها الضعف البشري بسهولة ويشفي منها أيضًا بسهولة، فإنها تترك بعضًا من آثارها على الجسد. وبالرغم من قروح الجسد إلا أن الطبيب الروحي المتمرس يمكنه أن يهب العلاج بكلمات الخلاص الشافية فلا تموت النفس موتًا أبديًا من سم هذا الشر.
عندما تنفث الأفاعي سم الحسد تحطم حياة التقوى والإيمان حتى قبل ظهور أثر الجرح على الجسد، فالحاسد لا يلوم الآخرين بل الله. وهو لا يسعى لتوبيخ إثم الإنسان إنما يستهين بدينونة الله، لأن الحسد هو أصل المرارة، الصاعد إلى السماء، مزدريًا بالله الذي يهب كل صلاح للناس…
الله ليس جابل للحسد، إلا أنه بعدل الحكم الإلهي تُعطى المواهب الصالحة للمتواضعين وتُمنع عن المتكبرين المرفوضين الذين يقول عنهم الرسول أنهم يستحقون أن يُسلَّموا إلى “ذهن مرفوض” (رو28:1)، ويجعل الحسد يسحقهم ويفنيهم كما لو كان من عند الله، كما يقول “هم أغاروني بما ليس إلهًا. أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أغيِّرهم بما ليس شعبًا” (تث21:32).
بهذا الحديث زوَّد الأب بيامون شوقنا الذي بدأ ينمو فينا من حياة الشركة إلى مستوى حياة النساك، وبإرشاد تعاليمه بدأنا الخطوة الأولى في الحياة المنعزلة، وتبعنا خطى تعاليمه بعد ذلك في الإسقيط بكل دقة.
ملخص المبادئ
– رهبنة الشركة الحقيقية ليست شيئًا غريبًا، بل هي المسيحية كما ينبغي أن تكون… والدافع إليها هي الحياة مع ربنا يسوع في حياة شركة وحب مع الإخوة مع موتٍ عن أمور هذا العالم وحب الاقتناء.
– رهبنة التوحد السليمة هي زهور أينعت في شجرة القديسين الحيَّة، فيها يبغي النساك حياة التأمل الدائم والانطلاق بالنفس نحو الرب بلا عوائق.
– رهبنة السرابيين هي انحراف للرهبنة وانتكاس لها، يحيا فيها كل راهب حسب هواه وإرادته بغير خضوع لأبيه الروحي، فيصير الدير ليس شركة مجمع، بل مجموعة من الرهبان المستقلين في فكرهم وهدفهم وطريقة حياتهم.
– المتوحدون الذين هربوا إلى العزلة لا لعشقهم في الرب، وبعد نجاحهم في الطاعة والخضوع في نظام الشركة… بل هروبًا من حمل هذا النير (حب الإخوة وطاعة القوانين وأب الاعتراف)، هؤلاء ليسوا متوحدين حقيقيين بل مهملين يحملون سم خطاياهم في داخلهم، يخدعون أنفسهم وغيرهم.
– التواضع الحقيقي للراهب هو الذي ينبع عن مسكنة الروح الداخلية ولا يتوقف على مجرد مسكنة المظهر والكلام الزائف.
– الحرب ضد الخطية ميدانها في داخل النفس فلا نلوم الآخرين أو الظروف بل ضعف نفوسنا.
– خطية الحسد تضر الحاسد لا المحسود، وهي أشر الخطايا يصعب علاجها إذ تَطلب الضرر للآخرين.
_______________________________________
[1] المؤسسات 36:5.
[2] ليس كشرٍ لكن لأجل السمو.
[3] كان المعترفون بإيمان الكنيسة الجامعة المستقيم يرسلون للعمل في المناجم كنوع من الاضطهاد. راجع صلوات القديس مرقس في قداسه للذين في السجون…
[4] يستخدم الآباء مثل هذه النصوص بمعنى رمزي لنفعنا الروحي.
[5] أو Bufflo راجع مناظرة 3.
المناظرة التاسعة عشر
هدف راهب الشركة والمتوحد [1] للأب يوحنا
1- الأب بولس وصبر أحد الأخوة
بعد أيام قليلة اتخذنا طريقنا مرة أخرى بنشاط عظيم، يحفزه الرغبة في التمتع بتعاليم أكثر. فبلغنا إلى مجمع شركة الأب بولس حيث كان هناك أكثر من مائتي أخ. كانوا يحتفلون بعيد تذكار انتقال أب سابق كان رئيسًا على نفس الدير، وقد اجتمع كل الرهبان وتجمعات أخرى من رهبان مجمع آخر.
ذكرنا هذا الاجتماع حتى نتمكن أن نتحدث باختصار بخصوص صبر أحد الاخوة الذي كان يتميز بالثبات العظيم… فأنه عندما جلس جميع الرهبان في مناطق مختلفة بلغ عددها اثنا عشر غير القاعة الكبيرة المفتوحة، كان هذا الأخ قد أبطأ في إحضار طبق طُلب منه، فأسرع الأب بولس واخترق مجموعات الاخوة الذين كانوا يخدمون، وبملء كفه ضربه ضربة قوية، حتى أن صوت اللطمة بلغ آذان من كانوا معطين ظهورهم، والذين كانوا يجلسون بعيدًا.
أما الشاب ذو الصبر الملحوظ فتلقى الضربة بكل هدوء قلب، ولم يتفوه ببنت شفة (بكلمة) ولا أظهر أية علامة من علامات التذمر البسيطة على شفتيه، ولا تغير لون وجهه. إنما كان الاتضاع والسلام يرتسمان على شفتيه. قوبل هذا الموقف بإعجاب ليس منا نحن الذين أتينا من دير في سوريا حيث لم نتعلم الصبر بهذه الصورة الصارخة، بل وكان موضع دهشة الجميع… هكذا تعلم من هذه اللطمة حتى المتقدمون روحيًا درسًا نافعًا. لأن هذا التأديب الأبوي لم يزعج سلامه، ولا دفعه وجود الكثيرين إلى تغيير ملامح وجهه.
2- اتضاع الأب يوحنا
وجدنا في مجمع الرهبان هذا شيخًا متقدم الأيام جدًا يدعى الأب يوحنا، لا يمكننا أن نعبر على كلماته واتضاعه صامتين، لأن بهما فاق جميع القديسين… وقد علمنا عنه أنه كان جادًا في هذا الكمال (الاتضاع)، الذي يراه أُم كل الفضائل، وأساس البناء الروحي الراسخ. ومع هذا فقد كان كماله هذا غريبًا عن نظامنا. فلا عجب فإننا لم نقدر نحن أن نصل إلى علو هؤلاء الرجال، كما لم نقدر أن نحتمل تدريب المجمع لمدة طويلة، إنما بالكاد أمكننا أن نحتمل نير الخضوع لمدة سنتين… في هذه الفترة كنا خاضعين لمن هم أكبر منا ليس اضطرارًا بل بمحض اختيارنا.
حينما رأينا هذا الرجل المسن في مجمع الأب بولس، انتابتنا دهشة، أولا بالنسبة لشيخوخته وتقدمه في الأيام جدًا، وبسبب النعمة التي كانت تحيطه. وبنظرات مثبته تجاه الأرض بدأنا نستعطفه أن يوضح لنا لماذا ترك انطلاق الصحراء، ذلك العمل الممجد (أي حياة التوحد) حيث نال هناك صيتًا ذائعًا وشهرة فوق كل الذين كانوا يعيشون مثله في حياة التوحد.
سألناه لماذا اختار أن يدخل تحت نير المجمع، فقال لأنه لم يكن مستحقًا لحياة المتوحدين ولا مستوجبًا لعلو كمالهم، لذلك عاد إلى مدرسة الأطفال، حتى يتعلم فيها الدروس اللازمة…
ولما لم نقتنع بهذه الإجابة، رفضنا أن نقبل هذه الإجابة المتواضعة، وأخيرًا بدأ يتكلم هكذا:
3- سبب تركه الصحراء
نظام المتوحدين الذي تستغربون لتركي إياه، أنا لا أرفضه بل أحبذه وأنظر إليه بكل إجلال… فإنني بعدما قضيت 30 سنة في مجمع، سُررت بأن أقضي 20 عامًا أخرى في التوحد حتى لا أكون متراخيًا… ولكن نقاوة هذه الحياة – التي اختبرت منها القليل – كان يفسدها وجود بعض الأمور المادية، فكان من الأفضل لي الرجوع إلى المجمع… لبلوغ هدف اسهل مع خطورة اقل بدلا من اقتحام الحياة الأعلى للوحدة، لأنه من الأفضل تحقيق وعود صغيرة باهتمام عن وعود عظيمة مع الإهمال.
إن كنت أتحدث معكم الآن في شيء من الكبرياء، لكن بالحقيقة أتحدث في شيء من الحرية. أتوسل إليكم ألا تفكروا أن ما أقوله هو من قبيل المباهاة، لكن بالأحرى من أجل تثقيفكم، لأنكم سألتموني بشغفٍ شديدٍ، فلا يليق بي أن أخفي عنكم شيئًا من الحقيقة. وإنني إذ أكشف الحقيقة كما هي… أظن أنكم تتقبلون هذا التعليم بروح المحبة لا المباهاة…
4- بخصوص عظمة نظام التوحد
إذا كان أي إنسان يُسر بانطلاقه في البرية لينسى كل تعامل مع الناس، ويقول مع إرميا: “ولا اشتهيت يوم البلية، أنت عرفت” (إر16:17)، فإنني اعترف إنني بفضل بركات نعمة الرب عليّ قد تمتعت بهذه الانطلاقة. هكذا بعطية ربنا الرحيم، أتذكر إنني غالبًا ما تمتعت بهذا الانجذاب الروحي، حتى إنني كنت أنسى إنني متسربل هذا الجسد الضعيف. بغتة كنت أنسى كل الأفكار الخارجية، وكانت نفسي تنعزل عن كل الأمور المادية، حتى توقفت عيناي وأذناي عن عملهم الطبيعي. كانت روحي تتمتع بالتأمل المقدس والأفكار الروحية، حتى إنه غالبًا ما يأتي المساء وأنا لا أعلم إن كنت قد تناولت أي طعام اليوم أم لا. ويأتي اليوم التالي وأنا غير متأكد إن كنت قد أكلت البارحة بعد الصيام أم لا. كنت أضع مئونة سبعة أيام من الخبزات جانبًا ابتداء من يوم السبت لكي ما إذا انتهت المئونة أعلم أن الأسبوع قد انتهي وقد حان موعد الخدمة في يوم العيد (الأحد)…لكن كنت أحيانًا ألاحظ عدم تذكري للأكل عن طريق الخبزات الباقية…
الآن لنتغاضى عن مميزات البرية (لأن هذا ليس موضوعنا أن نعددها ونصنفها) بل بالأحرى أشرح الأسباب التي دفعتني لتركها حسب طلبكم. لكن في حديث سريع أشير إشارة عابرة بخصوص ثمار الوحدة التي ذكرتها ومميزاتها…
5- مميزات الصحراء (الوحدة )
عندما كان عدد القاطنين في البرية قليلين، كنا نتمتع بحرية واسعة في انطلاق النفس… وطالما كنا في الخلوة في عزلة أكبر، كنا مأخوذين بالسماويات المذهلة، ولم يكن عدد كبير من الأخوة يقوم بزيارتنا مما دعانا إلى ضرورة إظهار كرم الضيافة وهذا بالتالي ثقل أفكارنا في هموم كثيرة…
هذه الحياة التي يميل إليها قلبي، والتي تقارن بنعيم الملائكة جاء إليها كثيرون… مما حّد من حرية انطلاقة النفس في البادية الواسعة، وأطفأ من لهيب التأمل الإلهي المقدس، وتكبل الذهن بطرق مختلفة في قيود الأمور المادية، فقررت أن أوجه هدفي تجاه هذا النظام خير لي من أن أفتر في هذه الحياة السامية خلال اهتمامي بالأمور المادية (اللازمة للغرباء)…
يمكنني هنا (في الدير) أن أواسى نفسي بتنفيذ وصايا الإنجيل متجنبًا كل اهتمام بالغد، وعوض ما فقدته من سمو التأمل (في حياة الوحدة) يمكن تعويضه بالخضوع والطاعة. لأنه أمر شرير أن يدعي إنسان معرفة أي فن أو حرفة ولا يبلغ أبدًا إلى اقتنائها.
6- مميزات حياة الشركة
لذلك سأوضح باختصار ما أتمتع به هنا في هذا النظام من مميزات. ويجب عليكم أن تتأملوا كلماتي وتحكموا ما إذا كانت مميزات الصحراء تعادل هذه الراحة، ويمكنكم أن تتحققوا ما إذا كنت قد اخترت معيشة المجمع الضيقة اضطرارًا أم رغبة في نقاوة حياة الوحدة.
هنا لا يوجد انشغال بالعمل، ولا تفكير في شراء أو بيع ولا اهتمام بخصوص طعام السنة، ولا قلق حول الأشياء الجسدية، ليس من أجل احتياجات الراهب نفسه لكن من أجل أي عدد من الزائرين. وهنا أيضًا نحن غير معرضين للاستكبار بمديح الناس، الذي هو أشر شيء، وبسببه نخسر حتى الصلاح الذي نلناه بمجهود في البرية. وإن تجاهلنا الكبرياء الروحي أو المجد الباطل الفاسد التي قد تثور في حياة التوحد، نرجع إلى ذلك الثقل الذي لا يقدر أن يتخلى عنه أي شخص، أي الاهتمام بإعداد الطعام… إذ لم يعد الطعام كالمقياس القديم الدقيق حيث كان يعد الطعام بغير زيت… مكتفين طوال العام ببنت pint[2] زيت وقليل من العدس لأجل الزائرين، أما الآن فإن المتوحد يحتاج على الأقل إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف تلك الكمية. هكذا تزايد التراخي في حياتهم حتى صاروا يخلطون الخل بالشوربة… ويكسرون الجبن بالزيت أكثر مما ينبغي من أجل مذاق لذيذ…
بمثل هذا الانحدار الذي هو التزايد في طلب الأمور المادية تحت مظهر كرم الضيافة والاهتمام بالغرباء، بدأ المتوحدون يحتفظون في قلاليهم بأغطية… منشغلين بالالتقاء مع الاخوة والاهتمام باستقبال الغرباء… وتكون النتيجة أن تُعاق حرية حياة المتوحدين بهذه الرباطات، فلا تكون لهم تلك الحذاقة القلبية القوية، وهكذا تفسد حياة الرهبنة…
7- سؤال بخصوص ثمار حياة الشركة وثمار البرية
الآن وقد صار واضحًا أنك لست مثل الكثيرين تلمس مجرد المظهر الخارجي لهذين النوعين من الحياة، بل اختبرت أعماقهما، لهذا نود أن تخبرنا ما هي غاية حياة الشركة؟ وما هي غاية حياة التوحد؟ لأنه ما من شكٍ في أنه لا يستطيع أي إنسان أن يناقش هذا الموضوع بصورة كاملة وقوية إلا من تدرّب على هذه الحياة لفترة طويلة.
8- الأب يوحنا
بالحقيقة إن الهدف من حياة المجمع أن يصلب الراهب جميع رغباته ويتمثل بالكمال… ولا يهتم بالغد. وواضح تمامًا أن هذا الكمال لا يبلغه الجميع بل راهب الشركة… ولكن كمال المتوحدين هو أن يُخلي ذهنه عن كل الأشياء الأرضية، وأن يربطه بالمسيح قدر ما يسمح ضعف الإنسان. ويصف النبي إرميا مثل هذا الرجل قائلاً: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ، يجلس وحدهُ ويسكت لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3، 28). ويقول داود أيضًا: “سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز7:102).
9- عن الكمال الحقيقي
لكن هذا ليس بتمام الكمال، بل هو جزء منه. فالكمال بصورته التامة نادر، يمنحه الله لقليلين جدًا…لأن الكامل هو من يحتمل في صبر متاعب البرية (التوحد)، وفي نفس الوقت وبنفس الدرجة يقدر أن يحتمل ضعف الاخوة في نظام الشركة. لهذا من الصعب أن تجد إنسانًا كاملاً في كلا النظامين، ولو أننا نعلم أن الأب موسى والأب بفنوتيوس ومن على مثليهما قد بلغوا قمم الكمال في كلا النظامين. فمع كونهم قد توغلوا أكثر من الآخرين في الصحراء، ولا توقفوا عن التمتع بالانفراد في القفر، ومع أنهم لم يتحدثوا مع الآخرين إلا أنهم يحتملون حضور الآتين إليهم وضعفاتهم، حتى أن عددًا كبيرًا من الاخوة كانوا يبحثون عن هؤلاء الآباء ويستفيدون منهم، ويحتمل الآباء مشقة استقبالهم بصبر لا ينفذ…
لهذا ظن الناس أن جميع أيام حياتهم التي يقضونها لا يتدربون ولا يتعلمون شيئًا إلا كيف يستضيفون الذين يأتون إليهم…
10- عن الذين لم يبلغوا الكمال ويتوغلوا في الصحراء
لكن البعض يغريهم سكون الصحراء، ويبقون طوال اليوم كله يخشون التحدث مع الناس، وعندما يقطعون صمتهم بسبب زيارة أحد الاخوة لهم يرتفع قلبهم بالغضب وتظهر علامات المضايقة عليهم بوضوح.
هذا يحدث مع الاخوة الذين ألزموا أنفسهم بحياة الوحدة بهدف غير ناضج وقبل أن يتدربوا في المجمع تدربًا حسنًا. هؤلاء يكونون دائمًا غير كاملين، ويتقلبون سريعًا، تارة يميلون إلى ناحية وتارة إلى ناحية أخرى، ويمكن لعواصف التعب أن تهلكهم، وذلك بثورتهم وعدم صبرهم في محادثتهم مع الاخوة، كذلك بعجزهم في حياة الوحدة، فلا يحتملون السكون الذي يتدربون عليه (لأنه مبني على أساس غير سليم)…
11- سؤال عن معالجة الذين تركوا شركة المجمع
جرمانيوس: ما هو العلاج الذي يمكن أن يُقدم لمثل هؤلاء الضعفاء؟… هؤلاء الذين تعلموا القليل في نظام المجمع، لأننا نحن اشتقنا إلى حياة الوحدة قبل أن نتخلص من أخطائنا؟
أو كيف يمكن أن نحتفظ بفكر راسخ وصبر ثابت نحن الذين تركنا حياة الشركة في المجمع وأهملنا المدارس والأرض المهيأة للتدريب عليها تدريبا متقنًا؟
كيف يمكننا الآن ونحن نعيش منفردين أن نبلغ إلى قوة الاحتمال والصبر؟ أو كيف نكتشف إن كنا قد اقتنينا هذه الفضائل أم لازالت تنقصنا، لأننا لا نتحدث مع أناس ولا ننزعج من إثارتهم؟…
12- يوحنا
أولئك الذين يبحثون عن علاج شاف من طبيب الأرواح الحقيقي بالتأكيد سينالون طلبهم ولا يعوزهم شيء، خاصة الذين لا يتجاهلون حالتهم المرضية، ولا يخفون ما يلاحقهم من جرحهم، ولا يرفضون بقلوب عابثة تأديبًا للعلاج، إنما بقلب متضع وباهتمام يهربون إلى الطبيب السماوي من أجل شفاء أمراضهم التي لحقتهم عن جهل أو خطأ أو ضرورة.
هكذا يجب أن نعرف اننا إذا جنحنا إلى الوحدة أو الأماكن الخفية بدون أن نكون قد تخلصنا من أخطائنا، فإنها تُكبت في داخلنا ونشعر بها. لأن جذورها تكون مختبئة فينا أو بالأحرى تزحف فينا، بهذه العلامات نعلم أنها لا تزال تعيش فينا. مثال ذلك إن كنا نعيش منفردين في وحدة وتقبلنا زيارة بعض الأخوة بقلق، عندئذ نعرف انه لا يزال يحيا فينا دافع عدم الصبر. وإذا كنا ننتظر زيارة أخ، ولسبب ما تأخر قليلاً، فنلومه في داخلنا متضايقين، قلقين في انتظاره، فهذا يكشف لنا أن خطية الغضب ما زالت راسخة في داخلنا. أيضًا إذا سألنا أحد الاخوة كتابا يقرأه، أو أي شيء يستعمله، فضايقنا هذا الطلب، أو لم نستجب لطلبه فبلا شك نحن لا نزال نتعثر في شباك الطمع. وإذا خطر علينا فكر مفاجئ أو نصًا من الكتاب المقدس يذكرنا بامرأة، و نشعر أننا منجذبون نحوها، بجدر بنا أن نعلم أن نار الرذيلة (الشهوة) ما زالـت تعيش فينا. وإذا كنا نقارن دقتنا بتراخي إنسان آخر فثار كبرياء في فكرنا، فمن الواضح أننا مصابون بطاعون الكبرياء المُخيف.
عندما نكتشف علامات الأخطاء هذه في قلبنا، يلزمنا أن نأخذها كفرصة للإصلاح لا للحزن (اليأس) على الخطية التي تجردنا منها (لكن جذورها قائمة). وبالتأكيد هذه الانفعالات الداخلية متى وجدت الفرصة في سلوك الإنسان العادي تظهر في عقلنا الباطن، لا كأمرٍ جديدٍ خُلق في الحال، إنما هو كشف لما كان مختبئًا فينا لمدة طويلة.
هكذا فإنه حتى في الوحدة يمكن للإنسان أن يكتشف بعلامات واضحة جذور الخطأ المزروعة فيه، هذه التي يمكنه أن يخفيها عن الناس، لكنها لا تختبئ عن الله فاحص أسرار القلب.
13- سؤال: كيف يمكن للإنسان الذي توحد، بدون أن يتخلص من أخطائه، أن يُشفى؟
جرمانيوس … لقد عرفنا كيف نكتشف الأخطاء المختبئة في داخلنا، لأن خبرتنا اليومية وعواطفنا المستمرة تكشف لنا عن جميع ما قد قيل، وإذ عرفنا أسباب أمراضنا وعلاماتها بطريقة واضحة وصريحة بقي لنا أن نعرف العلاج. لأنه لا يشك أحد في أنه يلزم على من يكتشف المرض من البدء بعلامات واضحة أن يعالجها. هكذا كشف لنا تعليم قداستكم عن غوامض جراحاتنا، ونحن نأمل في العلاج، لأنه من الواضح أن تشخيص المرض يعطي أملاً في الشفاء. لأنك كما تقول أن أسس الخلاص الأولى تُكتسب في حياة الشركة، وأن الإنسان لا يستريح في الوحدة ما لم يكن قد شُفي أولا بدواء الشركة.
14- يوحنا… يجب أن يكون العلاج بنفس الطريقة التي بها نكتشف الخطأ… فعندما يكتشف أي إنسان بهذه العلامات التي شرحناها سابقا أنه ينقصه الصبر أو عدم الغضب، يلزمه أن يتدرب على الأمور المضادة واضعًا أمام عينه كل العيوب والأخطاء، كما لو كان هناك شخص آخر يكشفها له. ويعّود تفكيره أن يزيل كل ما يجلبه عليه الشر في اتضاع تام. ويقدم لنفسه كل أنواع القسوة والأمور غير المحتملة… ناظرًا إلى عذابات جميع القديسين وآلام الرب نفسه. وبهذا يقتنع بأن كل أنواع التأنيب المختلفة والتأديبات أقل مما يستحق، وفي نفس الوقت لا يهيئ نفسه للكآبة (الغم).
وإذا ما استدعاه أحد لحضور اجتماع الاخوة، وهذا نادرا ما يحدث في البرية، ووجد أنه منزعج داخليًا… يلزمه أن يراقب عواطفه الداخلية ويدين نفسه عن أخطائه… موبخُا نفسه قائلاً: “يا رجل، يا صالح، هل أنت الإنسان الذي تدربت على الوحدة، وظننت أنك قد تخلصت من الصفات الرديئة، وعذبت نفسك بآلام وتأديبات لا تحتمل؟”
هل تصورت أنك قادر على الصمود أمام كل العواصف؟!
كيف انهزم صبرك الذي لا يُقهر في أول تجربة من مجرد كلمة بسيطة؟!
كيف اهتز بيتك من نسمة خفيفة، يا من تصورت أنه مؤسس على الصخر الصلد؟
أين هذا الذي كنت تقوله في وقت سلامتك بثقة غبية؟… “أنا مستعد ولست مضطربا”[3]. وما كنت تقوله مع النبي: “جرّبني يا ربُّ وامتحنّي. صفِّ (امتحن) كليتيَّ وقلبي” و“اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري. وانظر إن كان فيَّ طريق باطل، واهدِني طريقًا أبديًا” (مز2:26؛ 23:139، 24).
بمثل هذا التعنيف والتبكيت يمكن للإنسان أن يضبط نفسه، ولا يسمح لتجربة مفاجئة تقلب كيانه أن تعبر هكذا بدون تأديب. إنما يلزمه أن يتأدب بشدة بالصوم والسهر، معاقبًا نفسه من أجل جنوح الفكر…
________________________________________
[1] ترجمة: نادية أمين.
[2] وحدة تساوى 125 درهم تقريبا.
[3] مز2:26.
المناظرة العشرون
ثمار التوبة وعلامات الصفح للأب بينوفيوس
1- مقدمة
الآن إذ أروى لكم تعاليم الأب بينوفيوس، الرجل العظيم الممتاز، بخصوص غاية التوبة، أظن أنه يمكنني أن أتغاضى عن الكثير من مادة هذا الموضوع… حتى لا يمل القارئ. إني أصمت هنا عن مديحي تواضع الأب بينوفيوس، إذ سبق لي الحديث عنه باختصار في كتاب المؤسسات[1] تحت عنوان “قوانين خاصة بالنساك”…
كان هذا الرجل رئيسًا كأب وقس على مجمع رهبان عظيم قريب من مدينة أينفو[2]Panéphysis التي قلنا أنها بمصر، وكانت المقاطعة كلها تمجده جدًا من أجل تقواه والمعجزات التي تتم على يديه، وكان يرى في نفسه أنه بهذا ينال أجرة أعماله في مديح الناس. وإذ خشي المديح العام الفارغ، الذي كان ينبذه، لئلا يفقد ثمار الجزاء الأبدي، هرب من ديره سرًا وذهب إلى مكان منعزل بعيد في دير طبانسين[3]. لم يخترْ المضي إلى الصحراء الموحشة حيث الوحدة والبعد عن اهتمام الآخرين الخاصة بالمتوحدين، هذه الحياة التي قد يلجأ إليها بعض الأحيان غير الكاملين وغير القادرين على احتمال الطاعة لجميع الرهبان مدفوعين بكبرياء التوحد، بل اختار لنفسه أن يخضع في دير مشهور.
على أي الأحوال ارتدى زي علماني متخفيًا، وهناك ارتمى أمام باب الدير وهو يبكي بدموع لمدة أيام كثيرة، كما كانت العادة هناك، طالبًا أن يقبلوه. وكان ينحني أمام الجميع ليقبلوه، لكنهم كانوا يرفضونه ناظرين إليه أنه رجل مسن جدًا لا يطلب الحياة المقدسة بإخلاص إنما من أجل العوز.
أخيرًا قبلوه، وجعلوه يساعد أخًا حديثًا في الرهبنة يعتني بشئون الحديقة. فكان ينفذ أوامر رئيسه باتضاع عجيب مقدس، عاملاً بأمانة في كل ما يُعهد إليه به. وكان يقوم بالليل ليعمل خفية بعض الأعمال الأخرى التي كان الاخوة يشمئزون منها أو يستثقلونها. وكانوا إذا قاموا في الفجر يبتهج الجميع من أجل الأعمال التي قد تمت دون أن يعلموا من الذي كان يصنعها.
قضى ثلاث سنوات على هذا الحال وهو مبتهج بهذه الخدمات والأعمال… حتى حدث أن جاء أخ من نفس المنطقة التي كان يعيش فيها الأب بينوفيوس. رآه الأخ وتردد إلى حين في التأكد من شخصه، وذلك بسبب حقارة ملابسه ومنظره، لكن إذ تفرس فيه قليلاً سقط عند قدميه وصار يقبِّله.
اندهش الاخوة جميعهم من هذا الأمر، وإذ أخبرهم الأخ عن اسمه الذي ما أن سمعوه حتى عرفوه لأن قداسته كانت ذائعة، للحال أُصيبوا بأسف وندامة من أجل ما أسندوا إلى هذا الكاهن الفاضل من خدمات حقيرة كهذه، فالتفوا به وصاروا يبجلونه. أما هو فكانت دموعه تذرف بغزارة، ناسبًا أن هذا الإفشاء إنما بسبب حسد الشيطان له. (اضطر أن يعود إلى ديره).
بقي على هذا الحال إلى وقت قصير، وبسبب عظمة الاحترام الذي قدموه له اضطر أن يختفي مبحرًا إلى مقاطعة فلسطينية في سوريا، وذهب كمبتدئ في الرهبنة في الدير الذي كنا نعيش فيه، وقد عهد إليه مدبر الدير أن يمكث في قلايتنا. ولم تمض فترة قصيرة حتى انكشفت فضائله، إذ ظهرت شخصيته بنفس الطريقة السابقة، وعاد إلى ديره بتبجيل واحترام.
2- مجيئنا إليه
بعد وقت قصير وليس بطويل إذ دفعنا شوقنا لزيارة مصر للتمتع بالتعليم المقدس بحثنا عنه بشغف…، فاستقبلنا بترحاب ولطف، إذ كنا قبلاً شركاء معه في نفس القلاية، وقد استضافنا في قلايته التي بناها في أقصى الحديقة. هناك في حضرة الاخوة أثناء الخدمة سلم لأحدهم، الذي كان خاضعًا لقانون الدير، قوانين غاية في السمو وشديدة الصعوبة، هذه التي لخصتها بإيجاز قدر المستطاع في الكتاب الرابع من “المؤسسات”. هذه القوانين غاية في العلو، حتى ظهر لنا أنه يصعب على من هم قطيع ضعيف مثلنا أن يرتقي إليها… لهذا صرنا في يأس ولم تستطع ملامح وجوهنا أن تخفي مرارة أفكارنا الداخلية.
رجعنا إلى الشيخ الطوباوي بقلب قلق، وإذ سألنا عن سبب حزننا الشديد، تنهد الأب جرمانيوس بعمق وأجاب قائلاً:
3- سؤال بخصوص غاية التوبة وعلامات الصفح
بما أنك تعرض لنا مبدأ جديدًا يفتح أمامنا طريقًا أكثر مشقة نحو التجرد الكامل… ويظهر لنا ذروته مرتفعًا في السموات، فنحن نرى أنفسنا مطروحين بثقل كبير من اليأس. لأنه حينما نقارن جهلنا بارتفاع الفضيلة التي لا حد لها، نشعر بأننا ضعفاء بهذا المقدار بحيث أننا ليس فقط لا نستطيع الوصول إليها بل يزداد إيماننا بتقصيرنا، وهذا يدفعنا إلى السقوط إلى أعماق اليأس. لكن يوجد لنا سند واحد وحيد يقدر أن يشفي جراحاتنا، وهو أن تعلمنا شيئًا عن غاية التوبة وخاصة علامات الصفح عنا، حتى نشعر بتأكيد غفران خطايانا الماضية، بهذا يمكننا أن نحرص على تسلق مرتفعات الكمال السابق وصفها.
4- بينوفيوس
إنني في الحقيقة مسرور لثمار اتضاعكم الوفيرة التي حصلتم عليها، الأمر الذي لمسته سابقًا لما كنت ساكنًا في قلايتكم في بيت لحم، وإنني مسرور جدًا للقائكم، واذكرلكم بأن كلماتي ليست مهمة بالدرجة التي تستحق مزيد اهتمامكم بها، لكنكم أنتم بهذا تخفون مزايا فضائلكم كما لو كنتم على غير علم بشيء عن الأمور التي تحدثت لكم عنها والتي تمارسونها يوميًا. هذا أمر يستوجب جزيل الثناء أن تقرروا أن تعاليم القديسين لا تزال غير معلومة لكم كما لو كنتم مبتدئين. ويلزمنا إطاعة أوامر أصدقاء مرتبطين بنا بصداقة قديمة مثلكم، ولو كانت الأوامر تفوق طاقتنا وقدرتنا.
لقد عالج الكثيرون موضوع قيمة الندامة وقوتها اللطيفة، لا عن طريق الوعظ فحسب، بل وبالكتابة، مظهرين كيف أنها نافعة وقوية ومملوءة نعمة، حتى أن اللَّه عندما يغضب علينا من أجل خطايانا ويوشك أن يجلب علينا عقابًا عادلاً من أجل ما ارتكبناه من شرور كهذه، فإن التوبة بطريقة ما، إن صح لي هذا القول من غير أن أخطئ التعبير، تمنعه وتصد يد العقاب…
أعرف أن هذا الأمر معلوم لكم سواء بقدرتكم على الاستنباط، أو من دراستكم التي لا تكل للكتب المقدسة…
أخيرًا، إنكم شغوفون لا أن تتعرفوا على صفات التوبة، إنما عن غايتها وعلامات الرضى، وهكذا بسؤالكم المملوء حكمة تطلبون ما غفل عنه الكثيرون.
5- لكي ما اشبع رغبتكم وطلبكم باختصار وإيجاز قدر المستطاع، فإن الوصف الكامل التام للتوبة هي عدم الخضوع مرة ثانية للخطايا التي نقدم عنها ندامة، أو التي قد تبكّت ضميرنا من جهتها. لكن دليل الرضى وصفح الرب عن ذنوبنا هو أن نكون قد وصلنا إلى مرحلة نلفظ فيها محبة الخطايا من قلوبنا. لأنه يلزم أن يتأكد كل إنسان أنه للآن لم يتحرر من خطاياه السابقة طالما يمكن لأية صورة من صور تلك الخطايا التي ارتكبها أو ما يشبهها تتراقص أمام عينيه. وإنني لا أقول التلذذ بالخطايا، لكن حتى مجرد تذكارها[4] يزعج أعماق النفس بينما يكرس نفسه للدموع والتخلص منها.
من أجل هذا فإن الإنسان لا يشعر أنه أصبح حرًا من خطاياه وأنه قد نال الصفح عن أخطائه السابقة عندما يحس أن قلبه يهتز ويضطرب لإغراء هذه الخطايا وتصورها. لذلك فإن أصح اختبار لمعرفة ما إذا كنا تائبين، ومعرفة شهادة العفو عنا، نجدها في ضمائرنا الآن قبل يوم الدينونة، ونحن في هذا الجسد يظهر لنا تحررنا من الخطأ ويتبين لنا نعمة الصفح. وإن ما قلناه يمكن التعبير عنه باختصار بأن ماضي خطايانا الملوث يكون قد ابيضت صفحاته، عندما تكون مسرات هذا الزمان وشهواته قد فارقت قلوبنا.
6- سؤال: كيف تطالبنا بعدم تذكر خطايانا؟
جرمانيوس: كيف تكون فينا هذه التوبة المقدسة السليمة النابعة عن الاتضاع، والتي وصفت في شخص التائب هكذا: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للربّ بذنبي”، وبهذا يمكننا أن نقول ما جاء بعد ذلك: “وأنت رفعت اَثام خطيتي” (مز5:32،6)؟ أو كيف تأتينا دموع الاعتراف عندما نركع في الصلاة، لنستعطف الرب وننال الصفح عن خطايانا كالقول التالي: “أعوّم في كل ليلة سريري وبدموعي أبلّ فراشي” (مز6:6)، إذ طردنا عنا كل تذكر للخطايا مع أننا على العكس نحن مطالبون بتذكرها كقول الرب “وخطاياك لا أذكرها ذَكّرِني (أذكرها أنت)” (إش25:43،26)، بينما نستطيع ليس فقط في وقت عملنا، بل وإذا نهضنا للصلاة أن نسترجع إلى أذهاننا خطايانا متذكرينها لكي ما يصير لنا اتضاع حقيقي وانسحاق قلب ونجرؤ على القول مع النبي: “أنظر إلى ذلّي وتعبي واغفر جميع خطاياي” (مز18:25)؟!
7-إلى أي مدى نحتفظ بتذكر الخطايا؟[5]
بينوفيوس: إن سؤالك الذي عرضته قبلاً، لم يكن بخصوص صفات التوبة بل غايتها وعلامات الرضى، والذي، كما أظن، أنه قُدمت لك عنه إجابة سديدة. أما ما قلته عن تذكر الخطايا، فإنه فعلاً مفيد جدًا ولازم لمن بدأوا في التوبة حتى أنهم بقرعهم المستمر على صدورهم يقولون: “لأني عارف بإثمي وخطيتي أمامي في كل حين” (مز 3:51)، وأيضًا: “لأنني أخبر بإثمي” (مز 18:38). ففي أثناء توبتنا، إذ لانزال حزانى بتذكرنا لخطايانا الماضية، فإن انسكاب دموعنا الذي يحدث باعترافنا بالخطية تخمد نار ضمائرنا.
لكن بينما يكون الإنسان في انكسار قلب وانسحاق روح، مع استمرار الجهاد والبكاء، إذ بالنعمة الإلهية تلاشي تذكر الخطايا السابقة وتنزع وخزات الضمير عنها. هنا يكون واضحًا أنه قد نال غاية الرضى ومكافأة العفو، واُنتزعت منه وصمات الخطايا التي ارتكبها. عندئذ يمكننا أن نصل إلى نسيان الخطية وذلك بإزالة آثار الخطايا والرغبات القديمة مع نقاوة القلب وكماله.
هذه الحالة لا يصل إليها الكسالى والمتهاونون الذين فشلوا في نوال المغفرة عن خطاياهم، إنما يصل إليها من استمروا في التنهد والتأوه بحزن لأجل إبادة كل آثار الخطايا، فبصلاح قلوبهم مع جهادهم يعلن كل منهم للرب: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي” (مز5:32). ويقول: “صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز 3:42). فيُوهب له في النهاية أن يسمع هذه الكلمات: “امنعي صوتكِ عن البكاءِ وعينكِ عن الدموع، لأنهُ يُوجَد جزاء لعملكِ يقول الرب” (إر 16:31). ويقول له الرب: “قد محوت كغيمٍ ذنوبك وكسحابةٍ خطاياك” (إش22:44). وأيضًا: “أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها” (إش25:43). وهكذا إذ يتحرر من رباطات خطاياه التي ربط الكل بها يشكر الرب مسبحًا: “حللتَ قيودي، فلك أذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 16:116، 17).
8- ثمار التوبة
بعد نعمة المعمودية المعروفة للجميع وتلك العطية العظمى التي للاستشهاد التي هي الحميم بالدم، توجد ثمار كثيرة للتوبة التي بها يمكننا أن نقلع عن خطايانا. إن الخلاص الأبدي ليس موعودًا به بالتوبة عن الخطايا حسبما يقوله الطوباوي بطرس الرسول: “فتوبوا وارجعوا لتُمحَى خطاياكم” (أع 19:3)، وحسبما قاله يوحنا المعمدان والسيد المسيح نفسه: “توبوا لأنهُ قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 2:3)، لكن أيضًا ينبغي أن تكون مقرونة بأعمال المحبة، لأن “المحبَّة تستر كثرةً من الخطايا” (1بط8:4). هكذا نجد الشفاء لكل جراحاتنا نتيجة لثمار التوبة كالصدقات وأفعال الرحمة. لأنه كما يقول الكتاب المقدس: “كما أن الماء يطفئ الحريق كذلك الدموع تغسل خطايانا” (ابن سيراخ 33:3)، وأيضًا “أعوّم في كل ليلة سريري وبدموعي أبلّ فراشي” (مز6:6).
أخيرًا لكي تعلم أن هذه الدموع لا تُذرف عبثًا يقول: “ابعدوا عنّي يا جميع فاعلي الإثم، لأن الربَّ قد سمع صوت بكائي” (مز8:6). أيضًا بالاعتراف تُمحى خطايانا كقول المرنم: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للربّ بذنبي وأنت رفعت آَثام خطيتي” (مز5:32). ومع انسحاق النفس والجسد فإننا نفوز بمغفرة خطايانا أيضًا لأنه يقول: “أنظر إلى ذلّي وتعبي وأمح كل آثامي” (مز18:25). بالأخص عندما نغير طرقنا القديمة لأنه يقول: “اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ، كفُّوا عن فعل الشر، تعلَّموا فعل الخير، اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلمَّ نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج، إن كانت حمراءَ كالدودي تصير كالصوف” (إش16:1-18).
كذلك صلوات القديسين تنفع في أن يغفر الرب لنا خطايانا كقول الرسول: “إن رأَى أحد أخاهُ يخطئُ خطيةً ليست للموت يطلب فيعطيهِ حيوةً للذين يخطئُون ليس للموت، تُوجَد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يطلب” (1يو16:5). ويقول أيضًا: “أَمريض أحد بينكم فليدعُ قسوس الكنيسة فيصلَّوا عليهِ ويدهنوهُ بزيتٍ باسم الرب، وصلوة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمهُ، وإن كان قد فعل خطيَّةً تُغفَر لهُ” (يع 14:5،15).
أيضًا مع الرحمة والإيمان تمحى الذنوب، إذ “بالرحمة والحق يُستَر الإثم” (أم 6:16). وكثيرًا ما يكون ذلك بواسطة شوقنا وسعينا وتعبنا نحو خلاص الذين خلصوا بإنذاراتنا ووعظنا، كقول الكتاب: “فليعلم أن مَنْ ردَّ خاطئًا عن ضلال طريقهِ يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرةً من الخطايا” (يع 20:5).
وفضلاً عن ذلك بصفحنا عن ذنوب الآخرين ومسامحتهم ننال الصفح عن خطايانا كالقول: “فإنهُ إن غفرتم للناس زلاَّتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي” (مت 14:6).
نعرف مما تقدم أنه عديدة هي الوسائل التي ننال بها مغفرة خطايانا، حتى أنه ما من أحد يشتاق نحو خلاص نفسه يتطرق إليه اليأس، لأنه يرى أنه مدعو للحياة بأدوية كثيرة هذا عددها!
إذا كنت تحتج أنه بالنسبة لضعف الجسد لا تستطيع أن تتخلص من خطاياك بممارسة الصوم، ولا تستطيع أن تقول مع المرتل داود: “ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمي هزل عن سِمَنٍ” (مز 24:109)، ولا أن تقول أيضًا معه: “إني قد أكلتُ الرماد مثل الخبز ومزجتُ شرابي بدموعٍ” (مز 9:102)، إذن عِوض هذا استبدله بجزيل الصدقات.
إذا لم يكن لديك شيء لتقدمه للمحتاجين (ولو أن العوز والفقر لا يعفي المرء من التصدق) إذ أن السيد المسيح مدح فلسي الأرملة الفقيرة أكثر من العطايا الكبيرة التي قدمها الأغنياء، والسيد المسيح ذاته وعد أنه لن يضيع أجرة من سقى كأس ماء بارد، فإنك تستطيع على الأقل أن تطهر ذاتك عن طريق تغيير حياتك وإصلاحها وتقويمها. وإذا لم تستطع أن تحوز الكمال في الصلاح باستئصال جميع أخطائك، تستطيع أن تظهر الشوق المقدس والاهتمام بالعمل لخير وخلاص الآخرين.
إذا كنت تحتج بأنك لست كفئا للقيام بهذا الأمر تستطيع أن تستر خطاياك بإشعال المحبة في قلبك نحو الآخرين. وإذا كنت بالنسبة لهذا أيضًا نتيجة كسل واسترخاء العقل تكون ضعيفًا، على الأقل ينبغي أن تتضع وتنسحق أمام اللَّه وتسعى لعلاج جراحاتك بالصلوات وبشفاعات القديسين.
أخيرًا من هو الإنسان الذي لا يستطيع أن يعترف قائلاً: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي”[6]، ثم يردف قائلاً: “وأنت رفعت أَثام خطيتي” (مز5:32). ليته لا يتوقف اعترافك في اتضاع كامل: “أنا عارف بإثمي وخطيئتي في كل حين”. وأيضًا: “إليك وحدك أخطأْتُ والشرَّ قدام عينيك صنعتُ” (مز4:51).
فضلاً عن ذلك فإنه في مقدرتنا بإرادتنا أن نصفح عن خطايا الآخرين، عندئذ يصفح الرب عن زلاتنا كما نطلب إليه في الصلاة الربانية: “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا”، من أجل ذلك فإن كل من يرغب في مغفرة خطاياه عليه أن يعد نفسه بهذه الوسائط.
ليتنا لا ندع قلوبنا تتقسى وتبتعد عن العلاج الخلاصي وعن مصدر الخيرات. لأنه إن فعلنا كل هذه الأمور فإنها ليست كافية لرسوخ أقدامنا على صخرة التوبة ما لم تُمح خطايانا بواسطة مراحم الرب الذي عندما يرى مجهوداتنا المقدسة التي نقدمها بقلب متضع يسند ضعفاتنا وأتعابنا بجزيل فضله وإنعامه، ويقول: “أنا أنا هو الماحي ذنوبك… وخطاياك لا أذكرها” (إش25:43). إذن كل من يهدف إلى هذه الحالة التي ذكرناها، فإنه سيبحث عن نعمة الصفح مستخدمًا الصوم يوميًا، وقمع شهوة القلب والجسد، لأنه مكتوب “بدون سفك دمٍ لا تحصل مغفرة” (عب22:9). هذا لم يقله بغير سبب لأن “لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله” (1كو50:15). فإن الإنسان الذي يصد “سيف الروح الذي هو كلمة اللَّه” (أف17:6) عن سفك الدم بالتأكيد يسقط تحت اللعنة التي أعلنها ارميا قائلاً: “ملعون من يمنع سيفهُ (الكتاب المقدس) عن الدم” (إر10:48) إذًا لنفعنا يُسفك الدم الفاسد الذي لمادة خطايانا. هذا هو السلاح الذي يقطع وينقي كل أمر شهواني وأرضي ينمو في نفوسنا. إنه يجعل الناس يموتون عن الخطية ويعيشون لله ويزدهرون بالفضائل الروحية.
من أجل هذا لا يعود أحد يبكي لأجل تذكار الشرور السابقة لكن لأجل الرجاء الذي سيأتي، وإذ لا يفكر في خطاياه الماضية بأقل من ترجي الصالحات التي سوف تأتي فإنه يسكب الدموع ليس من أجل الحزن عن الخطايا، لكن من أجل الفرح في السعادة الأبدية المرتقبة، وينسى ما هو وراء، أي الخطايا الشهوانية، كما يقول بولس الرسول: “أنسى ما هو وراءُ وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام” (في13:3)، أي إلى المواهب والفضائل الروحية.
9- فائدة نسيان الخطية للكاملين (نسبيًا)
أما بالنسبة لما قلته منذ قليل، أنه بسبب هدف موضوع أمامك لا تريد أن تذكر خطاياك السابقة مرة أخرى، فبالتأكيد يلزم ألا تذكرها، إلا إذا باغتتك بغير إرادتك، فللحال أطردها فإنها تحرم الروح بقوة عن التأمل النقي، خاصة بالنسبة للمتوحد، فهي تعرقله في وصمات هذا العالم وتغرقه في الخطايا النجسة. فبينما تتذكر الأمور التي كنت تصفها في جهل وطيش… فإنه حتى وإن كنت في تذكرك لها لا تشعر بلذة، فلا أقل من أن عفونة النجاسات تفسد روحك برائحتها الكريهة وتبطل أريج رائحة الحياة الصالحة، أي رائحة الطيب الذكية.
عندما تخطر بذاكرتك الخطايا السابقة، اهرب منها كما يهرب الإنسان البار الشريف متى وجد امرأة عاهرة شريرة تطلبه في الطريق العام بواسطة حديثها معه أو تقبيلها إيَّاه. فإنه إن لم يهرب منها للحال، متباطئًا في الحديث معها بأحاديث مشوبة، فإنه وإن رفض التمتع باللذة المعيبة إلا أنه لا يقدر أن يتجنب احتقار العامة له ونظرات السخرية المتسلطة عليه. هكذا نحن أيضًا، بتذكرنا المهلك هذا نسقط في أفكار كهذه. لهذا يلزمنا أولاً أن نمتنع عن التمسك بها، منفذين وصية سليمان القائل لا نذهب إلى هناك ولا نبطئ في مكانها، ولا نثبت نظرنا عليها، لئلا عندما ترانا الملائكة المارة بنا، أننا مشغولين بأفكار نجسة، فلا تقدر أن تقول لنا: “بركة الرب عليكم” (مز 8:129). فإنه يستحيل أن يستمر الفكر مشغولاً في الأمور الصالحة، إن كان النصيب الأكبر من القلب غارقًا في تأملاته الأرضية الشريرة. لقد حق قول سليمان: “عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية. يقول “ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 33:23-35).
يلزمنا أن نهجر لا الأفكار الشريرة فحسب، بل والتفكير في الأمور الزمنية، رافعين اشتياقات نفوسنا نحو الأمور السمائية كقول مخلصنا: “حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي” (يو26:12). لأنه يحدث أيضًا حتى من باب العطف أن نفكر في سقطات الغير أو أخطائهم، فنتأثر باللذة ونسقط بالتالي في هموم الآخرين. فتكون النتيجة أن ما بدأنا به حسنًا ينتهي نهاية مهلكة، لأنه “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم 12:14).
10- كيف نتجنب تذكر الخطايا؟
على أي الأحوال يجدر بنا أن نسعى إلى انسحاق القلب الصادق، الذي يهدف نحو الفضيلة والاشتياق إلى ملكوت السماوات، ولا يكون هدفه مجرد تذكر الشر المميت. فالإنسان بالتأكيد يختنق من روائح البالوعات الخانقة طالما قبل الجلوس بجوارها أو يستنشق نتانتها.
11- طرق التوبة الحقيقية ومغفرة الخطية
لكننا نعرف كما قلنا مرارًا أنه بعد أن نندب خطايانا السابقة ونتوب عنها فإن المشاعر والأحاسيس الخاطئة القديمة التي ساقتنا إلى الخطية، والتي حزنا من أجلها، يجب استئصالها من قلوبنا، ولا يتصور إنسان أنه يجوز ذلك إلا إذا قطع كل الأسباب التي تسوقه إلى الخطية. على سبيل المثال إذا كان قد سقط في خطية مع امرأة فإنه يجب الاحتراس، فلا يتطلع إلى امرأة. وإذا كان قد سقط بسبب الخمر وكثرة الأكل، فإنه يجب عليه أن يتعفف ويتقشف ويبطل نهمه ويكتفي بالطعام الخفيف المعتدل. وإذا كان سقوطه بسبب حب المال وقد أوقعه في الإضرار بالناس والسرقات وما أشبهه، يجب عليه أن يمنع نفسه من كل فرص الطمع والجشع. وإذا كان يندفع كثيرًا في كبرياء إلى خطية الغضب، فإنه بمداومة نفسه بالاتضاع يستطيع أن يطفئ حدة غضبه الخ. وهكذا.
مجمل القول أنه لكي يقضى الإنسان على أية خطية يجب عليه أن يتخلص أولاً من كل الأسباب المؤدية إليها. وبهذه الطريقة نستطيع أن نتخلص من خطايانا ونستطيع أن نتبرأ من تذكر الخطايا التي ارتكبناها.
12- هل صرت معصومًا من الخطأ؟
هذا الحديث عن نسيان الخطايا السابقة، أقصد به الخطايا الرئيسية التي دانها أيضًا الناموس الموسوي، التي قد انتهى الميل إليها، ونُزعت عنا بالحياة الصالحة، والتي قد انتهت الندامة من أجلها. أما المعاصي الأخرى (الصغرى) التي قيل عنها: “لأن الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم” (أم 16:24)، فإن التوبة عنها لا تنتهي، لأنه سواء عن جهل أو نسيان أو بالتفكير أو الكلام أو بمجرد الاشتياق أو عن ضرورة أو عن ضعف الجسد أو نجاسة في حلم… هذه الأمور غالبًا ما نسقط فيها كل يوم بغير إرادتنا أو بإرادتنا. مثل هذه الخطايا يُصلي من أجلها داود النبي للرب، ويطلب التنقية منها والغفران عنها: “السهوات من يشعر بها؟! من الخطايا المستترة أبرئْني؟!” (مز12:19). وأيضًا يقول الرسول: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل” (رو19:7). لذلك تنهد قائلاً: “وَيحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟!” (رو24:7).
إننا نسقط في هذه الخطايا بسهولة كما لو كانت بحكم الطبيعة نفسها فرغم يقظتنا وسهرنا نحوها فإننا لا يمكننا تجنبها كلية. هذا الأمر الذي جعل أحد التلاميذ الذي كان يسوع يحبه يصرخ ويقول: “إن قلنا أنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا” (1 يو 8:1).
أكثر من ذلك إن الإنسان الذي يسعى نحو الكمال المسيحي لا يكتفي بأنه ندم على الخطية بالغ الندم ليمنع نفسه عما لا يليق، بل لابد أن يحث نفسه على التقدم للأمام نحو الفضائل النورانية التي بها تستطيع النفس أن تسير في طريق الكمال. ولا يكتفي الإنسان بأنه يحفظ نفسه من الخطايا والأدناس التي يكرهها السيد المسيح، بل عليه أن يعمل على حفظ طهارة القلب وممارسة أفعال المحبة الأخوية التي بها يُسر الله.
هكذا انتهى الأب بينوفيوس من حديثه عن علامات الصفح وغاية التوبة، وبالرغم من أنه قد ألح علينا كثيرًا لكي نبقى معه في قلايته، لكنه إذ لم يقدر أن يبقينا إذ قد جذبتنا شهوة برية الإسقيط سمح لنا أن نسير في طريقنا.
ملخص المبادئ
– علامة التوبة الصحيحة، أننا في وسط الحزن والندامة على الخطية نحمل في النفس سلامًا داخليًا.
– التوبة التي بلا سلام داخلي تحمل يأسًا وقنوطًا ينزع عن النفس رجاءها.
– الإنسان التائب لا يعود يذكر خطاياه التي تاب عنها، وخاصة تفاصيلها، حتى لا تدفعه للسقوط مرة أخرى.
– تذكر الخطايا السابقة مهم بالنسبة للإنسان المتهاون والكسلان، ولكن بحذر أيضًا.
– لا تذكر تفاصيل خطاياك القديمة، لكن أذكر ضعفك: “خطيتي أمامي كل حين”.
– لا تنسى الجانب الإيجابي… اذكر محبة الرب وحنانه وفاعلية دمه في حياتك، ولا تجعل كل فكرك في الخطية التي ارتكبتها.
– أيضًا حياة الشكر هامة في التوبة، نشكر الله من أجل رحمته كغافر للخطية.
– أخيرًا لتكن توبتنا عملية، أي مقترنة بالثمار الحيَّة:
(ا) تنفيذ وصايا الرب كالصدقات وأفعال الرحمة…
(ب) محبتنا لإخواننا وعطفنا تجاه الخطاة الساقطين.
(ج) استئصال المشاعر والأحاسيس الخاطئة، والابتعاد عن مكان الشر… الخ.
– أخيرًا يلزمنا في توبتنا أن نعرف:
(ا) إن جهادنا مهما بلغ قدره لا ينفع شيئًا بغير نعمة اللَّه المترفقة بنا.
(ب) مهما وُهبنا من نعمة وجاهدنا… لكننا نبقى في حالة توبة دائمة مادمنا بعد في هذا الجسد. “إن قلنا أننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” وذلك لأننا نبغي في حياتنا أن نصل إلى ملء قامة المسيح… فنبقى كل حياتنا مجاهدين بفرح ورجاء، لكن في انسحاق وانكسار قلب على الدوام.
_______________________________________
[1]المؤسسات، ك 4 ف 30 –31.
[2]أنيفو أو بانيفو أو بانيفيسيس Anepho or Panepho or panephysis
[3]أو طبنسى… Tabennse or Tabens
[4]هذا هو تذكار الشر الملبس الموت الذي تحدث عنه القداس الإلهي (صلاة الصلح – القداس الباسيلي).
[5] راجع في هذا الموضوع الحب الرعوي ص 406-417.
[6] بالاعتراف أمام اللَّه وأمام الكاهن
المناظرة الحادية العشرون
الراحة أثناء الخماسين [1] للأب ثيوناس
1- مقدمة
قبل أن أبدأ في عرض هذه المناظرة مع هذا الرجل العظيم “الأب ثيوناس”، أعتقد أنه من الأفضل أن أصف في حديث قصير أصل هدايته، بهذا يقدر القارئ أن يستشف عظمته. عندما كان هذا الرجل في حداثة سنه أُلزم بالزواج بناء على رغبة والديه وأمرهما، وكان الباعث على ذلك حرصهما على فضيلته، إذ كانا خائفين لئلا يسقط ابنهما في الشهوات، حاسبين أن الشهوات الشبابية يمكن ضبطها بالزواج. عاش مع زوجته خمس سنوات، ثم جاء إلى الأب يوحنا الذي لفرط قداسته اختير للإشراف على إدارة الصدقات، إذ كان هذا العمل لا يُعطى للإنسان حسب رغبته إنما لمن يراه مجمع الآباء الشيوخ أنه متقدم في السن ومشهود لسموه وفضيلته وأنه أفضل الجميع. جاء الشاب سابق الذكر إلى يوحنا المبارك هذا في اشتياق لنسكه المملوء ورعًا، محضرًا معه عطايا تحمل في طياتها تقوى، وكان معه آخرون جاءوا متحمسين لتقديم العشور وبكور ثمارهم للرجل المسن. وعندما رآهم الأب المسن يكيلون العطايا الكثيرة، اشتاق أن يرد لهم بعض الجميل مقابل عطاياهم، فبدأ يزرع فيهم الروحيات نظير الجسديات التي حصدها، وذلك كقول الرسول (1كو11:9)، وهكذا بدأ يقدم لهم كلمة نصح.
2- نصيحة الأب يوحنا لثيوناس وغيره
حقًا إنني مبتهج يا أولادي بسخاء عطاياكم وتقدماتكم الجليلة التي تقدمتم بها. وإنني أتقبلها شاكرًا إذ تقدمون البكور والعشور لسد احتياجات المعوزين كتقدمة للرب، رائحة ذكية للمُخَلص، مؤمنين أن الرب يبارك أثماركم وكل ما قدمتم منه تقدمة حسب وصيته… “أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك، فتمتلئ خزائنك شبعًا، وتفيض معاصرك (أوانيك) مسطارًا (خمرًا) (أم 9:3، 10).
إنكم ستكافأون في هذا العالم بغنى عظيم من الأمور الصالحة… وإذ صنعتم هذا بإيمان اعلموا أنكم قد أوفيتم بر الناموس القديم الذي تعداه الذين كانوا عائشين تحته فصاروا تحت المعصية، بينما لو نفذوه لبلغوا إلى الكمال…
3- بخصوص العشور والبكور
حقًا حسب وصايا الله كانت العشور تكرس لخدمة اللاويين، وأما التقدمات والبكور فللكهنة (عد26:18، 9:5،10)، لكن وصية البكور كانت هكذا أن يؤخذ عُشر الثمار أو الحيوانات ويقدم لخدمة الهيكل والكهنة. فكان البعض بغير مبالاة يُنقص هذه النسبة، بينما الورعون كانوا يضيفون عليها. أعطى البعض 60/1 فقط من العشور والآخر أعطى 14/1 من ثماره. أما بالنسبة للأبرار الذين لا يُعتبر الناموس بالنسبة لهم تشريعًا، إذ هم ليسوا تحت الناموس، فإنهم لا ينفذون الناموس ويفون به فحسب، بل ويفوقون كماله، ويكون ولاؤهم لما هو أكثر من المطالب القانونية لأنهم يتجاوزون حدود الناموس مضيفين إلى ما يطلبه بإرادتهم الحرة.
4- بعض رجال العهد القديم أوفوا أكثر مما يطلب الناموس
نقرأ أن إبراهيم فاق مطالب الناموس التي أعطيت فيما بعد، لأنه بعد انتصاره على الأربع ملوك، لم يلمس شيئًا من غنائم سدوم التي كانت له حقًا كمنتصر، والتي عرضها عليه ملك سدوم بنفسه الذي أنقذه إبراهيم… لكنه صرخ مقسمًا باسم الله قائلاً: “رفعتُ يدي إلى الرب الإله العلي مالك السماءِ والأرض لا آخُذَنَّ لا خيطًا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك” (تك22:14،23).
كذلك نعلم عن داود أنه زاد عن مطالب الناموس. لأن موسى أمر أن يؤخذ بالثأر من الأعداء (خر24:21)، لكن داود لم يفعل ذلك بل شمل مضطهديه بالحب، وتوسل إلى الله من أجلهم، وبكى من أجلهم بمرارة حينما قُتلوا.
بالتأكيد نحن نعلم أن إيليا ونحميا لم يكونا تحت الناموس مع أنه لا ملامة عليهما لو كانا قد تزوجا. ومع هذا فضلاً أن يكونا بتوليّين. كذلك نقرأ أن إليشع وآخرين نهجوا على منوالهما إذ فاقوا وصايا موسى، هؤلاء الذين يقول عنهم الرسول: “طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى، معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًّا لهم، تائهين في براريَّ وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب37:11،38).
وماذا أقول عن أبناء يوناداب بن ركاب، الذين نسمع عنهم أنهم عندما قدم لهم إرميا خمرًا قالوا له: “لا نشرب خمرًا، لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا قائلاً لا تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد، ولا تبنوا بيتًا، ولا تزرعوا زرعًا، ولا تغرسوا كرمًا، ولا تكن لكم بل أسكنوا في الخيام كل أيامكم” (إر6:35،7). لهذا السبب أيضًا سمح لهم أن يسمعوا من نفس النبي: “لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل[2]. لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام” (إر19:35).
هؤلاء جميعًا لم يكتفوا بتقديمهم العشور بل رفضوا الممتلكات وقدموا لله أنفسهم وأرواحهم التي لا يمكن للإنسان أن يعوض عنها كما يشهد الرب في الإنجيل قائلاً: “ماذا يُعطي الإنسان فداءَ عن نفسهِ؟!” (مت26:16)
5- كيف يُلزم على من يعيشون في عهد النعمة أن يفوقوا مطالب الناموس؟
يجدر بنا أن نعلم أننا لسنا مطالبون بأوامر الناموس لكن ترنّ في آذاننا كلمات الإنجيل يوميًا: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ وتعال اتبعني” (مت21:19).
عندما نقدم لله العشور نكون لا نزال منحدرين إلى أسفل نحو الأرض تحت عبء الناموس، عاجزين عن الارتفاع إلى علو الإنجيل الذي من يعمل بموجبه يُكافأ ليس فقط ببركات الحياة الحاضرة بل بالخيرات العتيدة… إذ يقول الرب لتلاميذه: “طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السموات” (مت3:5). “وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو أخوةً أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعفٍ ويرث الحياة الأبدية ” (مت29:19).
جدير بالثناء لا أن نقلع عن الأمور المحرمة، بل ونزهد الأمور المحللة، عالمين بأنه قد سُمح لنا أن نستخدمها بقدر ضئيل من أجل ضعف بشريتنا. لهذا إن كان الذين يقدمون عشور ثمارهم في طاعة لوصايا الله بإخلاص لا يقدرون أن يرتفعوا إلى علو الإنجيل، فكيف يكونوا مشتركين في نعمة الإنجيل أولئك الذين يتغافلون عن تنفيذ وصايا الناموس الهينة؟ والتي يشهد عنها واهب الناموس إن اللعنة تحل بالذين يغفلونها… “ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها” (تث26:27). لكن في عهد النعمة فإنه بسبب سمو الوصايا وعلوها يقال “من استطاع أن يقبل فليقبل” (مت12:19). في عهد الناموس نجد قوة الإلزام القوي من أجل سهولة الشرائع فيقول: “اُشِهدُ عليكم اليومَ السماءَ والأرض أنكم تبيدون سريعًا عن الأرض” (تث26:4). لكن تظهر سمو الوصايا وعلوها في الحقيقة من أن الله (في العهد الجديد) لا يأمر بل ينصح قائلاً: “إن أردت أن تكون كاملاً اذهب” اعمل هذا أو ذاك.
في العهد القديم يضع موسى ثقلاً لا يحق أن يرفضه غير الراغبين ، وهنا بولس ينصح الراغبين في الكمال والمشتاقين إليه. لأن هذا لا يتمتع به الكل ولا يطلبه الكل كناموس إلزامي لأنه لا يقدر الكل أن يتممه بسبب طبيعته العجيبة السامية، إنما بالنصح يحث الكل بالنعمة، فالذين يرتفعون يستحقوا أن يكللوا بسبب كمال فضائلهم. أما الضعفاء فلا يستطيعوا أن يصلوا إلى “قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف13:4)، فإنهم وإن لم يدركوا التمتع ببهاء لمعان الكواكب…، لكنهم يقدرون أن يتحرروا من لعنات الناموس ولا يقاسوا من بلايا حاضرة، ولا يُعاقبوا بعقاب أبدي (ويكون لهم نصيب أبدي لكن ليس مثل من صاروا كواكب لامعة)[3].
إذن لا يُكره المسيح أحدًا أن يرتفع بالإلزام على مرتفعات الصلاح السامية هكذا، إنما يحثه بنصائح حكيمة، ويشوّقه للكمال ليقبله بإرادته الحرة. لأنه إذا من وُجد أمر فيكون لزامًا على من يخالفه أن يسقط تحت العقاب. وبالتالي من ينفذه يهدف إلى تجنب العقاب الذي هدد به الناموس القاسي وليس لنوال مكافأة أو صواب.
6- نعمة الإنجيل تعضد الضعفاء
كما أن كلمة الإنجيل ترفع الأقوياء إلى مرتفعات سامية وعالية، كذلك لا تسمح للضعفاء أن ينحدروا إلى الأعماق، لأنها تضمن للكاملين تمام البركة، وتهب غفرانًا للذين ينهزمون بسبب الضعف. فالناموس وضع الذين ينفذونه في حالة وسطى، فلا يسقطوا في دينونة العاصين وفي نفس الوقت لا ينالوا مجد الكاملين. لكن هذا أمر مملوء بؤسًا، لأننا إن قارناه بما يحدث في الحياة الحاضرة، فإنه يكون أمرًا رديئًا أن يتعب الإنسان ويبذل العرق لا ليصير غنيًا ومكرمًا ومشهورًا إنما خشية أن يعتبره الصالحون مجرمًا.
7- سلطاننا أن نختار البقاء تحت نعمة الإنجيل أو تحت خوف الناموس[4]
لهذا السبب فإننا اليوم لنا سلطان أن نختار الحياة تحت نعمة الإنجيل أو تحت خوف الناموس. فلكل إنسان أن يميل إلى جانب أو آخر حسب صفة أعماله. أما نعمة المسيح فترحب بالذين يفوقون مطالب الناموس. أما الناموس فيخضع تحته الضعفاء الذين هم مدينون له وفي قبضته.
فالشخص الخاضع لشرائع الناموس، ولم يُوفِ مطالبها بعد لا يقدر أن يصل إلى كمال الإنجيل، حتى ولو كان يفخر – في تهاونه – أنه مسيحي ومتحرر بنعمة الرب. لأنه يلزمنا ليس فقط أن نعتبر الإنسان الرافض تنفيذ ما يطلبه الناموس أنه لازال تحت الناموس، بل والذي يكتفي بالتوقف عند حدود مطلب الناموس، دون أن تكون له ثمار تليق بدعوة المسيح ونعمته حيث لا يطلب الرب العشور والبكور بل يقول “اذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ… وتعال اتبعني” (مت21:19). وبسبب عظمة الكمال لم يسمح للتلميذ حتى بوقت قصير لكي يذهب ويدفن أباه (مت21:8)، لأن فضيلة الحب الإلهي تفوق مرتبة الواجب الإنساني.
8- تحريضه زوجته لنبذ العالم[5]
إذ سمع ثيوناس المبارك هذا الكلام التهب قلبه بشوق لا يحد إلي كمال الإنجيل، واستودع – على حد التعبير – بذرة الكلمة التي قبلها في ثنايا قلبه المثمرة العميقة المنكسرة. إذ انسحقت نفسه بسبب فشله في بلوغ كمال الإنجيل متممًا بالجهد أوامر الناموس إذ اعتاد أن يقدم كل عام عشور ثماره لله. وكان يبكي لأنه لم يكن قد سبق له أن سمع عن البكور، وإن كان يدفعها فإنه إلى هذا الحد لا يزال – في نظر الشيخ – بعيدًا جدًا عن كمال الإنجيل.
عاد إلى بيته حزينًا… وعزم أن يحول كل اهتمام زوجته وشوق عقلها نحو الخلاص. وبدأ يحثها بنفس مشتاقة متلهفة على ما انشغل به. كان ينصحها حاثًا إيّاها بدموع نهارًا وليلاً لكي ما يخدما الله سويًا في قداسة وعفة، قائلاً لها إنه يجدر بهما ألا يؤجلا تحولهما إلى الحياة الأفضل، لأن حداثة سنهما لا يعفيهما من احتمال موت مفاجئ محتوم…
9- ولما كانت زوجته قاسية لم توافق، فثابر بتوسلات من أجل هذا الأمر… وبعدما حاججها بخصوص ضعف الطبيعة البشرية لمدة طويلة كان يقول لها إنه لا يليق بأي إنسان أن يحرم نفسه من تلك الفضيلة التي يلزمنا الالتصاق بها، وأن ازدرائنا بالصلاح بعدما نتعرف عليه هو أشد خطرًا من عدم حبنا له قبل أن نتعرف عليه…
هذا وسمو الكمال مبسوط لكل سن ولكل جنس، وقد نُصح جميع أعضاء الكنيسة أن يتسلقوا مرتفعات الصلاح السماوية، إذ يقول الرسول: “هكذا اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9). لهذا لو كان ممكنا أن نصغي بتعقل، ونتحول سويًا إلى هذا الاختيار المشتهي للغاية، أقصد أن نخدم الرب سويًا… فإنني لا أرفض رباط الزواج، لا بل أسلم به في حب أعظم. لأنني بهذا أشهد معترفًا لزوجتي التي عينها لي الرب وأكرمها، ولا أرفض الارتباط بها برباط الحب في المسيح، الذي لا ينفك أبدًا.
10- لا يتصور أحد أننا قلنا هذا لأننا ندين الزواج في أي صورة من صوره، إنما نتبع كلمات الرسول القائل أن الزواج مكرم في كل شيء والفراش غير مدنس…
11- سؤال: لماذا لا نصوم أو نصنع مطانيات في الخماسين؟
لقد حان الوقت الذي فيه نتابع المناظرة التي وعدنا بها. فإذ جاءنا الأب ثيوناس ليفتقدنا في قلايتنا أثناء الخماسين بعدما انتهت تسبحة المساء، جلسنا معًا على الأرض، وبدأنا نتأمل بدقة لماذا كان (الرهبان المصريون) حريصين إلى هذا الحد ألا يحني أحد منهم ركبته أثناء الصلاة في أيام الخماسين، ولا يجرؤ أن يصوم حتى الساعة التاسعة، وقد استفسرنا عن ذلك لأننا لم نرَ في أديرة سوريا مراعاة هذا الأمر بعناية كهذه.
12- ثيوناس
بدأ الأب ثيوناس يجيب على هذا قائلاً:
حقًا يليق بنا، حتى إن كنا لا نعرف السبب، أن نخضع لسلطان آبائنا وتقليد أسلافنا الذي داوموا عليه سنين عديدة إلى وقتنا هذا، فنراعيه كأمر مُسلم إلينا من القدم، باحترام لائق واهتمام دائم. لكن إذ تريدون أن تعرفوا أساس هذا الأمر وأسبابه فإنني أسلمكم في كلمات قليلة ما قد تسلمناه من آبائنا بخصوص هذا الموضوع…
لقد عينت الحكمة الإلهية في سفر الجامعة أن لكل شيءٍ وقت مناسب له، سواء كان هذا الأمر مفرحًا أو مؤلمًا… إذ تقول: “لكل شيءٍ زمان ولكل أمرٍ تحت السموات وقت. للولادة وقت وللموت وقت. للغرس وقت ولقلع المغروس وقت. للقتل وقت وللشفاءِ وقت. للهدم وقت وللبناءِ وقت. للبكاءِ وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت. لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت. للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت. للكسبْ وقت وللخسارة وقت. للصيانة وقت وللطرح وقت. للتمزيق وقت وللتخييط وقت. للسكوت وقت وللتكُّلم وقت. للحب وقت وللبغضة وقت. للحرب وقت وللصلح وقت” (جا1:3-8). وأيضًا يقول: “لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقت” (جا17:3). وعلى هذا ليس شيء من هذا يكون صالحًا إلا إذا صنع في الوقت المناسب المضبوط.
هذه الأمور التي تُصنع في وقت معين تظهر صالحة إذا صنعت في اللحظة المضبوطة، أما إذا أقدم الإنسان عليها في غير وقتها تصير بلا نفع أو ضارة. هذا يخالف الأمور التي بطبيعتها الخاصة صالحة أو شريرة، والتي لا يمكننا أن نحول طبيعتها إلى الجانب الآخر. وذلك مثل الحكمة والاحتمال والعفة وغير ذلك من الفضائل، أو مثل الخطايا التي لا يُمكن بأية حال أن نغير من وصفها أو نجعلها تحت عنوان آخر. أما الأمور التي يمكن أن تظهر صالحة أو شريرة حسب شخصية من يستخدمها، هذه لا نعتبر طبيعتها في ذاتها مفيدة أو ضارة، إنما حسب عقل صانعها ووقت صنعه لها.
13- نوع صلاح الصوم
لو اعتقدنا أن الصوم ضمن قائمة الفضائل السابقة الذكر حتى أن مجرد الامتناع عن الطعام يكون صالحًا في ذاته، فإنه بهذا حتمًا يكون الاشتراك في الطعام أمرًا شريرًا بطبعه، لكن الكتاب المقدس لا يسمح بهذا. لأننا إن صُمنا بهذا الفكر وذلك المقصد ظانين أن من يتناول الطعام يسقط في الخطية، فإننا ليس فقط لا ننال نفعًا عن امتناعنا عن الطعام والشراب، إنما نسقط في بدعة فظيعة وضلال. وكما يقول الرسول: “آمرين أن يُمتنَع عن أطعمةٍ قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق، لأن كل خليقة الله جيدة ولا يُرفَض شيء إذا أُخِذ مع الشكر” (1تي3:4،4). لأنه “ليس شيء نجسًا بذاتهِ إلاَّ مَنْ يحسب شيئًا نجسًا فلهُ هو نجس” (رو14:14).
لذلك لا نقرأ قط عن أحد أنه سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنما يدان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له.
14- ليس الصوم صالحًا في ذاته
من هذا يظهر بوضوح أن الصوم ليس هو بالأمر الشرير ولا الصالح. بمعنى أنه يجلب التبرير عندما نراعيه كما ينبغي، لكن لا نسقط في الدينونة عندما نمتنع عنه (لِلضرورة)…
فالأمور التي نستخدمها في ظروف معينة وأوقات مناسبة تقدسنا عندما نراعيها من غير أن تفسدنا عندما نتركها، هي أمور ليست صالحة ولا شريرة، وذلك مثل الزواج والزراعة والثروة والاعتزال في الصحراء والسهر وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه والصوم الذي هو موضوع نقاشنا… لذلك فإن هذه الأمور أو بعضها أمَرَنا أسلافنا أن ننفذها بتبصر، وأن نهتم بالدافع لها ومكان التنفيذ والوسيلة والزمن، لأننا متى نفذناها بطريقة مناسبة تصير صالحة وملائمة وإن صنعناها بانحراف تصير شريرة ومؤذية.
مثلا إذا قدم علينا أخ أما يلزمنا أن نخدم السيد المسيح في شخص الأخ فنستقبله بترحاب ولطف للغاية، ويكون من الوقاحة أن نلتزم بالصوم الحازم أمامه فننال منه مديحًا ومكافأة من أجل تعبدنا؟!
وإذا ألزمنا عجز الجسد أو ضعفه أن نأكل لكي نسترجع قوتنا، أفلا يُعتبر الامتناع عن الطعام والشراب باستهتارٍ كقتل للجسد أكثر منه حرصًا على خلاص النفس؟
كذلك إذ يتناسب مع العيد أن يأكل الإنسان طعامًا دسمًا إلى حد ما، فإن صمم الإنسان على الصوم أفلا يعتبر كإنسانٍ فظ ومخالفٍ؟!
كذلك يعتبر الصوم شرًا بالنسبة للذين يترقبون به مديح الناس. هؤلاء تقول عنهم كلمة الإنجيل إنهم قد نالوا أجرهم في هذه الحياة. بل ويرفض الله صومهم إذ يقول على لسان النبي: “يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟! ذلَّلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟! ها إنكم في يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تسخرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاءِ. أمثل هذا يكون صوم أختارهُ؟! يومًا يذلّل الإنسان فيهِ نفسهُ يحني كالأسلة رأسهُ ويفرش تحتهُ مسحًا ورمادًا. هل تسمي هذا صومًا ويومًا مقبولاً للرب؟! أَليس هذا صومًا أختارهُ حَلَّ قيود الشر. فَكَّ عُقَد النير وإطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نيرٍ؟! أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوهُ وأن لا تتغاضى عن لحمك؟! حينئذٍ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعًا ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذٍ تدعو فيجيب الرب. تستغيث فيقول هأنذا” (إش 3:58-9).
ها أنتم ترون كيف لا يعتبر الله الصوم صالحًا في ذاته، إنما يصير صالحًا وسارًا لله متى اقترن بأعمال أخرى. في ظروف معينة لا يحسب الصوم باطلاً بل ومكروهًا فعلاً، إذ يقول الرب: “حين يصومون لا أسمع صراخهم” (إر12:14).
15- الصوم وسيلة لا غاية
يجدر بنا ألا نمارس الرحمة والصبر والحب… الأمور الصالحة بطبعها من أجل الصوم، بل بالأحرى نمارس الصوم من أجلها. فإن همتنا هي أن نبلغ تلك الفضائل الصالحة خلال الصوم، وليس أن نبلغ الصوم خلال هذه الفضائل كنتيجة لها. فإذ ألم الجسد مفيد، لهذا استخدم الآباء هذا العلاج، أي الزهد في الطعام والشراب، لكي ننجح في الوصول إلى الحب، أي لنبلغ الأمر الصالح الذي لا يتغير خلال الزمن.
لأن الفنون لا تُستخدم من أجل الأدوات الخاصة للعمل بها، إنما بالأحرى تُستخدم الآلات لأجل ممارسة الفن… وكما أن هذه الأدوات مفيدة للذين يفهمونها، كذلك فهي غير نافعة للذين يجهلون استخدامها. وكما أنها تعين الذين يستخدمونها، تكون بلا نفع للذين لا يعرفون غرضها بل يتوقفون عند مجرد امتلاكها وليس للعمل بها… إذن الشيء غير الصالح أو طالح في ذاته هو وسيلة لتحقيق ما هو صالح بطبعه، أما الثاني فلا يستخدم من أجل الأول بل لأجل ذاته.
16- علامات الأمر الصالح بطبعه
ويمكن تمييز الشيء الصالح بطبعه عما هو ليس بصالح ولا شرير بالعلامات الآتية:
( أ ) إذا كان صالحًا بذاته وليس بسبب شيء آخر.
( ب) إذا كان نافعًا بذاته وليس بشيء آخر.
(ج ) إذا كان يبقى صالحًا دون تغيير خلال الزمن، فلا ينقلب إلى الضد.
( د ) إذا كان في الامتناع عنه لا يسبب ضررًا.
( ه ) إذا كان ما هو عكسه يكون مضرًا بطبعه ولا يمكن أن يتحول ليصير صالحًا.
بتطبيق هذه الأوصاف على “الصوم”، نجده ليس صالحًا في ذاته، ولا هو نافع في ذاته ما لم يُستخدم بحكمة بقصد اقتناء نقاوة القلب والجسد، لأنه عندما تضعف وخزات الجسد تهدأ النفس وتصطلح مع خالقها. ولا هو صالح صلاحًا بلا تغيير في كل الأوقات، لأنه كثيرًا ما لا يصيبنا ضرر بسبب الانقطاع عنه، بل أحيانًا يصيبنا ضرر متى استخدمناه استخدمًا خاطئًا. ولا يبدو ما هو عكسه كأمر شرير، اللهم إلا إذا كان فيه إفراط في الأكل أو تنعم وترف… لأنه “ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان. بل ما يخرج من الفم هذا ينجّس الإنسان” (مت11:15).
18- كيف لا يكون الصوم مناسبًا في كل الأوقات؟
إذ تكلمنا عن شروط الصوم، يبدو أنه من المناسب أن نأتي بشهادة الكتاب المقدس من جهة أن الصوم لا يجوز أن يكون على الدوام. جاء في الإنجيل أنه إذ كان الفريسيون صائمون هم وتلاميذ يوحنا، لم يحفظ التلاميذ طقس الصوم بكونهم أصدقاء العريس السماوي. اشتكى تلاميذ يوحنا للرب، هؤلاء الذين ظنوا أنهم اقتنوا البر الكامل بأصوامهم لكونهم أتباع الكارز بالتوبة العظيم الذي قدم مثالاً صالحًا لجميع الناس بقدوته، رافضًا ليس فقط تنوع الأطعمة بل والخبز الذي هو الطعام العام بين الكل، قائلين له: “لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرًا وأما تلاميذك فلا يصومون؟!” (مت14:9) أوضح لهم الرب أن الصوم ليس مناسبًا أو ضروريًا في كل الأوقات كما في يوم العيد، أو بدافع محبة لإكرام ضيف، قائلاً لهم: “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم. ولكن ستأتي أيام حين يُرفَع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون” (مت15:9). هذه الكلمات نطق بها قبل قيامته مشيرًا إلى فترة عيد الفصح إذ أكل بعد قيامته مع تلاميذه خلال الأربعين يومًا، وبسبب فرحهم الدائم بحضوره وسطهم لم يسمح لهم أن يصوموا.
19- لماذا لا نصوم خلال الخماسين؟
جرمانيوس: لماذا نكف عن صرامة الصوم خلال الخمسين يومًا، مع أن المسيح ظل مع تلاميذه أربعين يومًا فقط بعد قيامته؟
20- الأب ثيوناس
يلزمنا أن نقدم جوابًا حقيقيًا مضبوطًا لسؤالك السديد هذا. بعد صعود مخلصنا الذي تم في اليوم الأربعين بعد قيامته، رجع التلاميذ من جبل الزيتون… ودخلوا إلى أورشليم وانتظروا عشرة أيام من أجل حلول الروح القدس. وإذ تحقق ذلك في اليوم الخمسين قبلوه بفرح. هكذا تحقق العيد بوضوح بعدما جاء بصورة رمزية في العهد القديم حيث كان يُطلب عمل عيد بعد سبعة أسابيع (49 يومًا ابتداء من وضع المنجل في الزرع)، فيه يقدمون للكهنة بكور الثمار، وقد قدم الشعب في يوم الخمسين طعامًا حقيقيًا نتيجة وعظ الرسل في ذلك اليوم كبكور للتعليم الجديد وبداية للشعب المسيحي للرب… لهذا يلزم أن تبقى هذه الأيام العشرة بنفس الوقار والفرح اللذين للأربعين السابقة. وقد أخبرنا التقليد الذي استلمناه من رجال رسوليين أن نحفظ هذا النظام. فلا نحني ركبنا في هذه الأيام أثناء الصلاة، لأن احناء الركب علامة الندامة والنوح، إنما نراعي هذه الأيام كاحتفالات مثل يوم الأحد، فلا نحني ركبنا ولا نصوم تكريمًا لقيامة الرب.
21- أما يضر الامتناع عن الصوم طهارة الجسد؟
جرمانيوس: أما ينجذب الجسد إلى الإهمال مما يزيد من مثيرات الخطية التي بتُرت، وذلك بتنعمنا بالمأكولات غير العادية في عيد طويل هكذا؟ أو هل تستطيع النفس المثقلة بسبب الإسراف في الولائم غير العادية ألا تخفف من سيطرتها على الجسد – العبودية لها – خاصة بالنسبة لمن هم في سننا حيث يمكن لأعضائنا أن تثور ثورة سريعة متى تجرأنا على تناول طعامنا العادي بكميات أكبر، أو طعامًا غير عادي بحرية فوق ما اعتدنا؟!
22- ثيوناس
إن كنا نصنع كل عمل باتزان، غير فاحصين آراء الناس الآخرين من جهة نقاوة قلبنا، بل نفحص ضمائرنا ذاتها، فإن هذه الفترة التي للراحة لنتقلل من حزمنا وضبطنا لأنفسنا. ذلك فقط كما قلت لو فكر عقلنا في الحدود المعقولة الخاصة بالسماح لنا بالأكل أو عدم السماح به، ممتنعين عن كل إفراط في أي الجانبين، مميزين بإفراز حقيقي إن كان اندفاعنا في التنعم ثقل على أرواحنا أو مغالاتنا الزائدة في الصوم ما يثقلها أيضًا… فإن ربنا لا يرضى أن نفعل شيئًا من أجل مجده دون أن نمزجه بالإفراز (التمييز) لأن عز الملك أن يحب التمييز (الحق) (مز4:99). لهذا نجد سليمان – أحكم الناس – يحثنا على عدم الانحراف في أي الجانبين قائلاً لنا أن نكرم الرب بالأتعاب المملوءة برًا ونقدم له ثمار البرّ.
فإذ يسكن في ضميرنا قاضٍ عادلٍ غير مرتشٍ، فإنه حتى إن أخطأ الكل لكن نقاوتنا الداخلية لن تنخدع قط. وهكذا يلزمنا أن نحتفظ بهدوء دائم في قلبنا المتيقظ بكل اجتهاد واهتمام، حتى لا يضل حُكم إفرازنا، فننشغل بمجرد صوم مملوء حماقة (أي مفرط) أو بتلذذ باسترخاء زائد. وهكذا نثقل قوتنا في ميزان غير سليم. إنما يجب علينا أن نضع نقاوة نفوسنا في كفة وقوتنا الجسمية في كفة أخرى، ونزنهما بحكم ضميرنا العادل، حتى لا نميل منحرفين إلى كفة على حساب الأخرى، أي إلى حزم غير لائق أو استرخاء بتفريط…
لأن تقدمات الصوم التي نندفع فيها بلا تفكير تمزق أمعاءنا بعنف ونحن حاسبون أنها تُقدم بطريقة سليمة للرب. لكن ذاك الذي “يحبُّ البرَّ والعدل (الإفراز)” (مز5:33) يكره السلب في تقدمة المحرقة… الذين يسلبون النصيب الأكبر من تقدمتهم (إذ يصومون للكرامة البشرية)… تاركين النصيب الأصغر جدًا للرب، هؤلاء تدينهم الكلمة الإلهية كفعلة خادعين قائلة لهم: “ملعون من يعمل عمل الرب بغش (برخاوة)..” (إر 10:48).
إذن ليس بغير سبب يوبخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: “إنما باطل بنو آدْم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق” (مز 9:62). لهذا يوصينا الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو 3:12). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلاً: “لا ترتكبوا جورًا في القضاءِ لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل” (لا 35:19). إذن يجدر بنا ألا تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنه يجب علينا ألا نحطم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مغالى فيها أثقل مما نحتملها نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحرية ونخفف منها… لأنه إن كنا نزن لاخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه (راجع أم 10:20).
23- وقت الراحة وقدرها
بهذا يجدر بنا مراعاة الأيام المذكورة بطريقة كهذه حتى يمكن أن تكون الراحة مفيدة وغير مضرة للجسد والنفس. لأن فرحة أي عيد لا تُضعف أشواك الجسد، ولا يمكن لعدونا المتوحش (الشيطان) أن يهدأ بسبب أيام الراحة هذه. فلكي ما نحفظ تقاليد موسم العيد، ولكي لا نخضع لقانون الصوم… يكفي لنا في هذا الوقت أن نتناول الطعام الساعة السادسة[6] (12 ظهرًا) بدلاً من الساعة التاسعة، من غير أن نغيّر من كمية الطعام ونوعه حتى لا نفقد نقاوة الجسد وصلاح النفس الذين نلناهما أثناء الصوم الكبير…
يجب أن نحترس بيقظة إلى المنتهى لئلا تخور نفوسنا بسبب الغوايات فنفقد نقاوة طهارتنا التي نلناها وذلك بالراحة والإهمال في وقت عيد الفصح بعد جهاد مستمر طوال الصوم الكبير. لهذا يلزمنا ألا نضيف شيئًا إلى نوع الطعام أو كميته، بل حتى في اسمي الأعياد يجب أن نمتنع عن هذه الأطعمة حتى لا يثير فينا فرحنا بالعيد صراعًا مميتًا للغاية بسبب الشهوات الجسدانية، وهكذا نتحول إلى الحزن. فنعود نبكي نقاوة قلبنا المفقودة بحزن الندم اللانهائي.
في نفس الوقت يجدر بنا أن نسعى لئلا نُوبخ بهذا التحذير “عَيِّدي يا يهوذا أعيادكِ أوفي نذوركِ” (نا 15:1). لأنه إن كانت أيام العيد لا تتعارض مع استمرار زهدنا، فإننا نتمتع بأعياد روحية دائمة…
24- بخصوص عدد أيام الصوم الكبير
لم يعلمنا أسلافنا شيئًا غير معقول. ففي الناموس كانت الوصية لجميع الناس “تقدمون للرب إلهكم عشوركم وبكوركم”. وإذ نحن نؤمر بتقديم عشور ثروتنا المادية وكل ثمارنا، نحتاج بالأكثر أن نقدم عشور حياتنا وأعمالنا وأفعالنا العادية، والتي بلا شك نقدمها خلال الصوم الكبير. لأن عشور السنة 36 يومًا ونصف تقريبًا. لكن في السبعة أسابيع إذا طُرحت منها الآحاد والسبوت يتبقى 35 يومًا للصوم (الانقطاعي). وبإضافة عشية عيد الفصح أي طول يوم السبت حتى صياح الديك في فجر العيد لا يصير العدد 36 يومًا فحسب بل وعليه عشور الخمسة أيام الأخرى وذلك إذ حسبنا الجزء من الليل الذي أضيف على يوم السبت.
26- بخصوص البكور
ماذا أقول عن البكور التي يقدمها كل خدام المسيح بإخلاص كل يوم؟ عندما يستيقظون من النوم وينهضون بنشاط متجدد بعد فترة راحة، قبل أن يدخل إليهم أي فكر، أو يقبلوا تذكر أي عمل يكرسوا بداية أفكارهم كتقدمة مقدسة للرب. ماذا يفعلون سوى تقديم بكور محصولهم عن طريق الكاهن الأعظم – يسوع المسيح – لأجل التمتع بهذه الحياة؟…
أيضًا عندما يستيقظون من النوم، يقدمون أيضًا لله قربان الفرح متضرعين إليه بأول حركة من حركات ألسنتهم لمدح اسمه ومجده، فاتحين باب شفاهم أول كل شيء في ترتيل الألحان له لتخدم الله.
بنفس الطريقة أيضًا يقدمون بكور ذبائح أيديهم وخطواتهم، عندما يقومون من الفراش ويقفون للصلاة قبل أن يستخدموا أطرافهم في أعمالهم الخاصة… يقدمون بكور كل حركاتهم ببسط أيديهم واحناء ركبهم وإخضاع الجسد كله… لأننا لا نستطيع بطريق آخر أن نحقق ما ترنم به المرتل: “سبقت فبلغت في غير وقت وصرخت.. سبقت عيناي وقت السحر لألهج في جميع أقوالك” (مز 147:119، 148) إلا إذا كنا بعد فترة راحة النوم نعود إلى هذا النور كما من الظلام والموت، لا نتجاسر بالبدء في أية خدمة من كل الخدمات الخاصة بالعقل والجسد لنفعنا الخاص…
لنحرص قدر المستطاع أن نتيقظ لكي نقدم أول أفكارنا الصباحية وبكرها قبل أن تتدنس بواسطة عدونا الحسود الذي يحاول أن يمتلكها بسرعة، فتكون بكور ثمارنا مرفوضة من الرب كشيء لا قيمة له. فإذا لم ننتبه متيقظين فإنه لا يكف عن أن يشغلنا العدو كعادته ويسبق فيمتلك أفكارنا بحيله كل يوم. لهذا إن كنا نريد أن نقدم بكور ثمارنا لتكون مقبولة لدى الله وموضوع رضائه، يلزمنا ألا نضيع أقل اهتمام لكي نحفظ حواس جسدنا للرب، خاصة في أثناء ساعات الصباح لتكون محرقة نقية بلا دنس في شيء…
هذا النوع من العبادة يراعيه كثير من سكان العالم باهتمام بالغ، إذ يستيقظون قبل السحر باكر جدًا ولا يختلطون بأي عمل عادي أو ضروري، وقبل أن يسرعوا إلى الكنيسة مكرسين بكور عملهم وفعلهم لله[7]…
29- عدم توقف الكاملين من الرهبان عند حدود الصوم المفروض
الإنسان البار والكامل لا يتقيد بهذا القانون الخاص بالصوم الكبير ولا يقف عند هذا الحد البسيط الذي أسسه رؤساء الكنيسة للمنشغلين في أعمالهم وغير صائمين طول العام، وذلك لكي ما يتقيدوا بهذا الالتزام القانوني، مجبرين أن يخصصوا هذه الأيام (صائمين) للرب، مكرسين عشور حياتهم له، إذ بغير هذا القانون يمكن أن يتراخوا طوال حياتهم مستغلين كل وقتهم لنفعهم الخاص الزمني. أما الكاملون فلا يُفرض عليهم قانون، ولا يخضعون لواجب بسيط، أي العشور، إنما يصومون كل وقتهم، لأنهم أحرار من ثقل العشور التي حسب الناموس. لكن إذا كانت هناك مناسبة هامة وظرف خاص يمكنهم بغير تردد أن يحلوا صيامهم، لأنهم لم يقدموا العشر التافه بل قدموا كل مالهم للرب…
30- أصل الصوم الكبير وبدايته
يجب أن تعرفوا أنه طالما احتفظت الكنيسة الأصلية بكمالها صحيحًا لا يوجد طقس الصوم الكبير لأنهم لم يكونوا مقيدين عند حدود هذا الصوم الضيقة جدًا إنما شمل صومهم العام كله بلا استثناء. لكن رأت الكنيسة خشية أن ينحل البعض من جهة الزهد والانسحاق أن تفرض قانونًا كنسيًا يُدفع كمثل عشور قانونية. ذلك من أجل نفع الاخوة الضعفاء، وفي نفس الوقت يصير الكاملون الذين يعيشون تحت نعمة الإنجيل متعبدين تعبدًا اختياريًا فوق مطالب الناموس (أي صائمين العام كله باختيارهم).
31- شرائع الإنجيل أخف من شرائع الناموس
كل من يتسلق مرتفعات الكمال الإنجيلي يرتفع إلى أعالي الفضيلة متخطيًا كل قانون، ناظرًا إلى ما قد أمر به موسى على أنه أمر بسيط سهل، مدركًا أنه بخضوعه لنعمة المخلص يصل إلى تلك الحالة التي هي في غاية السمو. على هذا لا يكون للخطية سلطان عليه “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5:5). بهذا يُنزع عنه كل اهتمام بأي أمر آخر، ولا يرغب في صنع ما هو ممنوع عنه، أو يهمل فيما قد أمر به، لكن إذ يكمن كل هدفه وكل اشتياقه في الحب الإلهي على الدوام لا يقع في التلذذ بالأمور التافهة، بل ولا يطلب حتى الأمور المسموح له بها.
تحت الناموس يسمح بالزوجات الشرعيات، وهذا فيه قمع للذة والخلاعة، مكتفيًا الإنسان بامرأة واحدة… لكنه لا يبطل بهذا وخزات الشهوة الجسدانية، ويصعب إطفاء النار المتقدة والتي تُموَن بوقود دائم، حتى لا تخرج إلى الخارج… فلا يسمح لنار الشهوة أن تخرج خارج هذه الحدود (أي خارج حدود زوجته). لكن رغم وجود هذه الحدود إلا أنها تبقى في الداخل مكبوتة والإرادة ذاتها مخطئة (إذ يشتهي في قلبه ولو أنه لا يزني جسديًا). أما الذين تضرمهم نعمة المخلص بحب الطهارة المقدس، فإنهم يُهلكون كل أشواك الشهوات الجسدية في نار حب الرب…
إذن الخاضعون للناموس مع استعمالهم لما هو مشروع ينحطون بالتدريج نحو الأمور المحرمة، أما المشتركون في النعمة فإنهم إذ يتجاوزون (بإرادتهم) عما هو محلل لا يعرفون شيئًا عن الأمور المحرمة…
كذلك من يقنع عند حد دفع العشور والبكور… بالتأكيد يخطئ في طريقة التوزيع أو كميته… أما الذين لم يزدروا بنصيحة الرب، بل تركوا كل ممتلكاتهم للفقراء وحملوا صليبهم وتبعوا مانح النعمة، لا يكون للخطية سلطان عليهم، إذ لا يساورهم القلق من جهة طعامهم اليومي… ولا يفسد بهجة تقديمهم العطايا بتردد مملوء تبرمًا. لأنه يقوم بتوزيع كل شيء مرة واحدة كتقدمة للرب… ولا يعود له بعد ملكية خاصة، متأكدًا أن الذي يطعم طيور السماء يهتم به عندما ينجح في تجريد نفسه من كل شيء… ، فالشخص الذي يدفع العشور والبكور… يستحيل عليه أن يتخلص من سلطان الخطية، أما الذي يتبع نعمة المخلص، فإنه يتخلص من حب الامتلاك.
كذلك لا يستطيع أن يتخلص من سلطان الخطية من كان بحسب أمر الناموس يقلع عينًا بعين وسنًا بسن ويكره عدوه، لأنه فيما هو يريد أن يرد الشر بالشر منتقمًا عن الضرر الذي أصابه وكارهًا عدوه يشتعل بالغضب والسخط. أما الذي يعيش تحت نور الإنجيل فإنه يغلب الشر بعدم مقاومته، بل باحتماله، بإرادة حرة أن يحتمل اللطم على خده الآخر، أو يهب الرداء أيضًا لمن يطلب منه ثوبه، وأن يحب أعداءه، ويصلي للذين يسيئون إليه، بهذا يكسر نير الخطية ويهشم قيودها. لأن من يهلك بذور الخطية، لا تحت الناموس، بل تحت النعمة التي لا تبتر أغصان الشر إنما تقتلع جذوره التي للإرادة الشريرة.
32- كيف يظهر الإنسان أنه تحت النعمة؟
أي إنسان يسعى إلى الوصول إلى كمال التعليم الإنجيلي، هذا الذي يعيش تحت النعمة، لا يسقط تحت سلطان الخطية، لأن البقاء تحت النعمة معناه العمل بالأمور التي تأمر بها النعمة.
أما الإنسان الذي لا يُخضع نفسه للمطالب الكاملة الخاصة بكمال الإنجيل، فيلزمه ألا يجهل أنه وإن كان قد اعتمد وصار راهبًا، لكنه بالرغم من هذا فهو ليس تحت النعمة، إنما مقيد بقيود الناموس ومثقل بأثقال الخطية. لأن ذاك الذي وهب نعمة التبني ويقبل الذين يقبلونه، يرغب في أن يضيف إلى البناء لا أن يهدمه، إذ أراد أن يكمل الناموس لا أن يهدمه.
إذ لا يفهم البعض هذا الأمر، مهملين نصائح المسيح الرائعة ومواعظه، يتخذون من الحرية فرصة للإهمال والتهور الزائد، حتى أنهم يعجزون عن تنفيذ أوامر المسيح كأنها صعبة جدًا، محتقرين أيضًا وصايا الناموس الموسوي[8] كأمر عتيق، مع أن الناموس قدمها للمبتدئين والأطفال. بهذا ينادون بالحرية الخطيرة التي يلعنها الرسول قائلين “أَنخطئُ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟” (رو 15:6). هؤلاء ليسوا تحت النعمة، لأنهم لم يتسلقوا قط مرتفعات تعاليم الرب. ولا هم تحت الناموس لأنهم لم يقبلوا حتى تلك الوصايا البسيطة التي للناموس. هؤلاء إذ هم ساقطون تحت سلطان الخطية المزدوج يظنون أنهم قد قبلوا نعمة المسيح… ويسقطوا فيما يحذرنا منه الرسول بطرس قائلاً : “كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر.” (1 بط 16:2). ويقول الرسول بولس الطوباوي: “فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيُّها الاخوة. غير أنهُ لا تُصيّروا الحرَّية فرصةً للجسد” (غل 13:5)، أي دعيتم للتحرر من سلطان الخطية، وليس معنى إبعاد أوامر الناموس بمثابة تصريح بعمل الخطية. ويعلمنا الرسول بولس أن هذه الحرية لا توجد إلا حيث يوجد الرب، إذ يقول: “وأما الربُّ فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرّيَّة” (2 كو 17:3).
لهذا لست أعرف إن كنت قد استطعت أن أُعبر وأشرح قصد الرسول المبارك، لأن الذين لديهم خبرة هم الذين يعرفون ذلك. إنما شيء واحد أنا متأكد إنني أعرفه، وهو أنه من الواضح جدًا – دون حاجة إلى شرح – أن أي إنسان ممن اقتنى التدريب العملي يفهم ما جاء بالمناظرة من قبل تدربه دون حاجة إلى مجرد الفهم[9]…
ملخص المبادئ
– من يعيش تحت النعمة يلزمه في تحرره أن يتجاوز مطالب وصايا الناموس.
– من يستخدم الحرية كوسيلة للهروب من وصايا الناموس، وبالتالي يتهاون في وصايا كمال الإنجيل… مثل هذا يخضع لسلطان الخطية وتكون حريته في حقيقتها تهاون بنعمة الله.
– وصايا الناموس أسهل وهي إلزامية، أما الإنجيل فوصاياه اختيارية وهي أصعب، ولكن بنعمة الله المجانية أسهل.
– الصوم وسيلة لنقاوة القلب وليس غاية في ذاته.
– ليكن لنا ميزان عادل، لأن التهاون في الصوم والمغالاة فيه كلاهما مضران لحياة الإنسان الروحية.
– لا تؤخذ فترة الخماسين كمجال لإشباع رغبات الجسد، ولا ليأكل الإنسان ويستريح بلا تدقيق.
________________________________________
[1] ترجمة: نادية أمين وبيت القديسة دميانة بالجيزة.
[2] كلمة “إسرائيل” لا تعني شعب اليهود الحالي الذي فقد إيمانه برفضه للرب محاولاً أن يدّعي أنه شعب اللًّه المختار.
[3] واضح أن هذا الحديث يخص الوصايا الخاصة بالكاملين مثل الرهبنة والبتولية الاختيارية والفقر الاختياري الخ. الأمور التي لم تكن في الناموس.
[4] واضح جدًا أنه لا يقصد العودة إلي الناموس الموسوي وطقوسه وإنما يصير الإنسان في عبادته بروح الناموس القديم من جهة الخوف، أي عبادة العبيد الذين يخشون سيدهم بغير أن تكون لهم دالة…
[5] جاء في تاريخ الكنيسة أمثلة كثيرة لعائلات التهبت قلوبهم بحياة التأمل الإلهي فخرجوا إلى الأديرة في محبة واتفاق ورضى.
[6] يظهر بوضوح أن هذا يخص الرهبان.
[7] تحدث بعد ذلك عن صوم الأربعين وقد رأينا كيف أنه 1/36.2 يومًا انقطاعي كعشور للسنة، لكنه دعي كذلك:
( أ ) تمثلاً بالرب نفسه موسى وإيليا…
( ب) أو لأن الـ40 يومًا تماثل الجزية التي اعتاد الناس أن يقدموها للملك.
( ج) تذكارًا لمدة البرية (40 عامًا)، أي أننا في برية هذا العالم.
[8] يقصد الوصايا وليس الذبائح اليهودية الرمزية، لأن هذه لا يجوز العودة إليها بعدما جاء الرمز (السيد المسيح).
[9] سأل الأب جرمانيوس بعد ذلك عن السبب الذي لأجله يتبع الصوم الزائد عن الحد كثرة الشهوات الجسدية مما يسبب احتلامًا فيقوم الإنسان من نومه فاترًا في الصلوات. وقد رأي الأب ثيوناس أن يجيب على هذا السؤال في مناظرة أخرى.
المناظرة الثالثة و العشرون
الكمال الذي نبغيه [1] للأب ثيوناس Abbot Theonas
1- “لست أفعل الصالح الذي أريده”
إذ بدأ النهار اضطر الرجل المسن تحت إلحاحنا الشديد أن يبحث أعماق الموضوع الذي تحدث عنه الرسول فقال:
أما بخصوص العبارات التي تحاولون أن تظهروا بها أن الرسول لا ينطق بها عن نفسه بل على لسان الخطاة قائلاً: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل الشر الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل”، أو قوله “فإن كنت ما لست أريدهُ إياهُ أفعل فلست بعدُ أفعلهُ أنا بل الخطية الساكنة فيَّ”، أو قوله “فإني أسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية” (رو19:7-23)، فإنه بالعكس يظهر أن العبارات لا تلائم الخطاة (غير التائبين) بل تنطبق على الكاملين، الذين يقتدون بالرسل الصالحين.
لأنه كيف يمكن أن ينطبق على الخطاة هذا القول: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل”؟ أو “فإن كنت ما لست أريدهُ فإياهُ أفعل فلست بعد أفعلهُ أنا بل الخطية الساكنة فيَّ”؟!
لأنه أي خاطئ يدنس نفسه كرهًا بالفجور والزنا؟!
من منهم بغير إرادته يصنع مكائد ضد قريبه؟!
من منهم تلزمه الضرورة أن يظلم إنسانا شاهدًا عليه بالزور، أو يغشه بسرقة، أو يطمع في ممتلكات آخر، أو يسفك دمه؟!
كلاّ! بل يقول الكتاب المقدس: “تصوُّر قلب الإنسان شرير منذ حداثتهِ” (تك21:8). لأنه إلى هذه الدرجة يلتهب قلبهم بحب الخطية والشهوة راغبين في تنفيذ ما يحبونه، مترقبين باهتمام شديد أن يتمتعوا بشهواتهم “ومجدهم في خزيهم” (في19:3). وكما يؤكد إرميا النبي أنهم يرتكبون آثامهم الخبيثة لا بإرادتهم أو بانشراح قلب فحسب بل ويبذلون جهودًا شاقة محتملين أتعابًا في تنفيذها… إذ يقول: “تعبوا في الافتراءِ” (إر5:9).
أيضًا من يقول أن هذه العبارة: “بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية” تنطبق على حالة الخطاة الذين لا يخدمون الله لا بالذهن ولا بالجسد؟ إذ كيف يستطيع الذين يخطئون بالجسد أن يخدموا الله بالذهن إن كان الجسد يقبل إغراء الخطية من القلب، إذ يعلن خالق الاثنين (الذهن والجسد) ان القلب هو أصل الخطية ومنبعها قائلاً: “لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنًى فسق سرقة شهادة زور تجديف” (مت19:15)؟!
على أي الأحوال يظهر بوضوح أن هذه العبارات لا يمكن أن تنطبق على الخطاة الذين ليس فقط لا يكرهون الشر بل يحبونه فعلاً، وهم بعيدون جدًا عن خدمة الله بالذهن أو الجسد، حتى أنهم يخطئون بالذهن قبل أن يخطئوا بالجسد، وقبل أن يتمموا ملذات الجسد تقهرهم الخطية في ذهنهم وأفكارهم.
2- تمم الرسول أعمالاً صالحة كثيرة
بقى لنا أن نقيس معنى العبارات وغرضها حسب مشاعر المتكلم العميقة، ونناقش ما يدعوه الرسول “صالحًا” مقارنًا إياه بالشر، ليس بالمعنى العام للفظ، بل حسب القصد الذي يظهره هو بسبب ورعه. فيمكننا أن نفهم الكلمات التي جاء بها الوحي الإلهي حسب هدفه ورغبته، متأملين في مكانة الناطقين بها وسماتهم. عندما تصير لنا نفس مشاعر الرسول (لا بالكلام بل عمليًا) يمكننا بكل تأكيد أن نفهم أفكاره وآراءه، فنعرف ما هو الصلاح الذي لم يستطع الرسول أن يفعله عندما أراده…
إننا نعلم أنه توجد أعمال صالحة للرسول الطوباوي ومن هم على مثاله، فنجد بلا شك في الرسول الطوباوي ورفقائه النقاوة الصالحة والتعفف المملوء حنانًا والعدل المقدس… حتى أنهم كرزوا بقدوتهم وفضائلهم أكثر مما بكلماتهم. ما أعظم ما كانوا عليه من جهة اهتمامهم المستمر وإشفاقهم المتيقظ من جهة جميع الكنائس! يا له من حب عظيم نافع، حتى أنهم يلتهبون عندما يتعثر أحد، ويضعفون مع الضعفاء (2كو29:11).
إن كان الرسول يفيض بأمور صالحة كهذه، فإننا نعجز عن إدراك عظمة صلاح الكمال الذي يفتقر إليه الرسول، اللهم إلا إذا تقدمنا إلى تلك الحالة الذهنية (الروحية) التي كان عليها الرسول. فجميع الفضائل التي امتلكها والتي تشبه أعظم الجواهر الثمينة، متى قورنت باللؤلؤة الفريدة الجميلة التي يطلبها التاجر المذكورة في الإنجيل وأراد أن يحصل عليها ببيعه كل ما يملكه، عندئذ تبدو الفضائل الأولى تافهة وقليلة بالنسبة لها…
3- الصلاح الكثير الثمن الذي ينبغي الرسول أن يكمله
يا لعظم ذلك الصلاح الذي لا نظير له بين تلك الأمور الصالحة العظيمة غير المحصاة حتى يلزمنا أن نقتنيه فوق كل هذه الأمور!! إنه بلا شك النصيب الصالح الذي من أجله احتقرت مريم واجبات الضيافة واختارته… وقد وصفه الرب قائلاً: “مرثا مرثا أنتِ تهتّمِين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحدٍ، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها” (لو41:10،42).
إذن (التأمل) أو (التفكير في الله) هو الشيء الوحيد الذي بجواره تفتقر جميع استحقاقات أعمالنا الصالحة وأهدافنا في الفضيلة بل وكل الأمور الصالحة والنافعة التي للرسول بولس والتي هي عظيمة وفاخرة. فمثلاً السبيكة التي تُعتبر مفيدة وثمينة متى قورنت بالفضة تصبح لاشيء، وتتلاشى قيمة الفضة أمام الذهب، ويُحتقر الذهب إذا ما قورن بالأحجار النفيسة. ومع هذا فإن كمية كبيرة من الأحجار الثمينة مهما بلغت قيمتها تحتقر أمام ضياء لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن. هكذا جميع فضائل القداسة التي هي صالحة ومفيدة في الوقت الحاضر، بل وتضمن عطية الحياة الأبدية، متى قورنت بفضيلة التأمل المقدس تبدو تافهة، ويمكننا أن نقول أنه يمكن بيعها.
4- صلاح الله وصلاح الإنسان
إن أردنا أن نسند هذا الرأي ببراهين أوضح نذكر ما ورد في الإنجيل عن أمور كثيرة دعيت صالحة… فيقول “لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديَّة” (مت18:7)، وأيضا: “الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات” (مت 35:12)، وأيضا: “نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين” (مت21:25). ومع هذا فإنه بالتأكيد لا يوجد أدنى شك في أنه ليس شيء من هذا كله صالحًا في ذاته إذا ما قورن بصلاح الله، إذ قيل: “ليس أحد صالحًا إلاَّ واحد وهو الله” (لو19:18).
ففي نظر الله حتى الرسل الذين في أمور كثيرة فاقوا في الصلاح سائر البشر دُعوا أشرارًا (بمقارنتهم بصلاح الله) “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تُعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يَهَبُ خيراتٍ للذين يسأْلونُه؟!” (مت11:7)
أخيرًا يُحسب خيرنا شرًا في نظر الله الأعظم (بمقارنته بخيره هو)، وهكذا يدعى برنا، إن قورن بالبر الإلهي، أنه ثوب عدة (ثوب الحيض) كقول النبي إشعياء: “كثوب عِدَّة كل أعمال برنا” (إش6:64).
هكذا فإن استحقاقات جميع الفضائل السابق ذكرها رغم صلاحها ونفعها تظلم بالنسبة لنور التأمل…
5- عجز الكل عن التمتع الدائم بالصلاح الأسمى
من يستطيع أن يتأمل في هدوء مدركًا مجد العظمة الإلهية أثناء هذا العمل؟! وهو “المنقذ المسكين مِمَّن هو أقوى منهُ، والفقير البائس من سالبهِ” (مز 10:35)، “هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانهِ خطفت الفريسة” (أي 17:29). من يقدر أثناء اهتمامه بالفقراء… أن يتأمل في عظمة السعادة، وبينما هو منشغل باحتياجات الحياة الحاضرة بالنسبة لهم يكون قلبه مرتفعًا على الدوام فوق أقذار الأرض؟!…
مَن مِنَ الناس حتى وإن كان رئيسًا للأبرار القديسين نظن أنه في وقت ما يقدر وهو مقيد بقيود هذه الحياة أن يصل إلى هذا الصلاح الرئيسي دون أن يتوقف عن التأمل المقدس؟ أما ينجذب ولو إلى وقت قصير عن ذاك الذي وحده صالح بواسطة أفكار أرضية؟ أما لا يهتم ولو إلى حين من أجل طعام أو لباس أو أمور جسدية أخرى أو يهتم باستقبال الاخوة أو تغيير مكانه أو بناء قلايته…؟
علاوة على هذا فإننا نؤكد بثقة أنه حتى الرسول بولس الذي فاق جميع القديسين من جهة عدد مكابداته وأتعابه لم يستطع أن يتخلى عن هذه الأمور، إذ كما يشهد بنفسه للتلاميذ في سفر أعمال الرسل قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتْها هاتان اليدَان” (أع34:20). وعندما كتب إلى أهل تسالونيكي شهد بأنه كان يشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارًا (2تس8:3). وإن كان بمثل هذه الأعمال صارت له مكافآت عظيمة من أجل فضائله، إلا أن عقله مهما يكن مقدسًا وساميًا لكنه أحيانًا ينجذب عن التأمل الإلهي بانشغاله بالأعمال الأرضية.
علاوة على هذا، إذ رأي نفسه غنيًا بثمار فعلية كهذه وقد أدرك صلاح التأمل، مقارنًا فائدة هذه الأعمال كلها بمباهج التأمل الإلهي المقدس جذبه هذا إلى ترك هذه الحياة. وأخيرًا في حيرته كان يصرخ قائلا: “فماذا أختار لست أدرى فإني محصور من الاثنين، لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًّا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (في22:1-24). إنه لا يمكن للعقل الذي تعوقه اهتمامات متعددة كهذه وتعرقله اضطرابات متعبة كهذه أن يتمتع على الدوام بالرؤية المقدسة…
لأنه من منا قد أكثر الخلوات في الصحراء وتجنب اللقاء مع الناس بطريقة لم يعد فيها فكره يجول قط في أمور غير هامة ولا ينظر أبدًا إلى أعمال أرضية منحدرًا بعيدًا عن التأمل في الله الذي بالحقيقة وحده الصالح؟ من استطاع أن يحفظ روحه متقدة في كل وقت حتى لا يعبر به أي فكر يشغله عن هدفه للصلاة ويحدره من التأمل في الأمور السماوية إلى الأمور الأرضية فجأة؟ من منا حتى في اللحظة التي يرفع فيها نفسه للصلاة لله بسمو لا يسقط قط في التشتيت؟…
إنني أتساءل: من هو متيقظ وساهر هكذا حتى لا يسمح بعقله أبدًا أن يتحول عن معنى الكتاب المقدس أثناء ترنمه بالمزمور لله؟ من هو هكذا محب لله ومتحد به تمامًا حتى يطوب نفسه عندما ينفذ ليوم واحد وصية الرسول الذي أمرنا أن نصلي بلا انقطاع (1تس17:5)؟
مع أن هذه الأمور جميعًا قد تبدو للمنغمسين في خطايا جسيمة على أنها أمور تافهة وبعيدة تمامًا عن الخطية، لكن الذين يدركون قيمة الكمال، يرون حتى الأمور البسيطة جدًا عظيمة الخطورة.
6- الذين يحسبون أنفسهم بلا خطية
لنفرض أن رجلين أحدهما قوى النظر والآخر متوعك العينين ضعيف البصر، دخلا معًا في بيت عظيم مملوء بالباقات والآلات الموسيقية وأوان فاخرة، فإن الشخص الذي حرمه ظلام الإبصار عن الرؤية يؤكد أنه لم يجد شيئًا سوى خزانة وسرير ومائدة… وهذا كل ما قد أدركه بإصبعه أثناء تلمسه تلك الأمور، أما الشخص الثاني الذي تطلع بعينين براقتين سليمتين فيعلن عن وجود أمور كثيرة ودقيقة للغاية بالجهد يمكن إحصاءها… هكذا القديسون أيضًا، إذ يمكننا أن نقول إنهم يبصرون هدفهم إلى غاية الكمال، يكتشفون بمهارة تلك الأمور التي لا نستطيع نحن أن نراها بتفرس عقولنا التي كما لو كانت مظلمة.
هؤلاء الذين بالنسبة لإهمالنا نحن يُحسبون أنهم لم يشوبوا نقاء أجسادهم التي كالثلج تمامًا، لكن بسبب أدنى بقعة من الخطية يرون أنهم ملوثون بشوائب كثيرة. لا أقول لأنهم يرتكبون شرًا أو يتذكرون أفكارًا باطلة غير مفيدة، لكن لمجرد تشتت ذهنهم قليلاً في أثناء تلاوتهم مزمور. يقولون إننا إذ نسأل شخصًا ما عظيمًا…
فإننا نركز عقلنا بجملته وجسدنا تجاهه، ونقف في مهابة مع انحناء رأس علامة التسليم… وأيضًا عندما نقف في محكمة أو في مجالس قضاة أرضيين مع خصمنا المستمر في مضاداتنا، إذا ما غَلبنا في وسط المحكمة سعال أو بصاق أو ضحك أو تثاؤب أو نوم، فإننا إن صنعنا هذا يستخدمه خصمنا لإثارة قسوة القاضي ضدنا. كم بالأولي يكون حالنا ونحن نتوسل إلى ديان العالم بجميع أسرارنا لكي ينزع عنا هلاكنا الوشيك بموت أبدي، متضرعين إليه بصلاة حارة مملوءة شوقًا من أجل استدرار حنان القاضي، خاصة وأنه يقف من الجانب الآخر مضللنا المخادع يتهمنا ليس بغير دلائل بل يجد فينا ذنبًا خبيثًا خطيرًا…
أما الذين يغطون أعين قلوبهم بحجاب خطاياهم السميك، فيقول عنهم المخلص: “لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون” (مت13:13)، هؤلاء يصعب عليهم إدراك ما تكنه أعماق صدورهم من خطايا عظيمة مهلكة، ولا يقدرون أن يتطلعوا بعيون صافية إلى الأفكار المخادعة التي فيهم، ولا إلى الرغبات الغامضة التي تصيب عقولهم باقتراحات واهنة خبيثة، ولا يرون قيود أرواحهم، لكنهم على الدوام يتجولون وسط أفكار فاسدة، لهذا لا يعرفون كيف يحزنون بسبب انصرافهم عن التأمل الإلهي. وبالتالي لا يندمون كأنهم فقدوا شيئًا، إنما يفتحون عقولهم لأي فكر يتلذذون به من غير أن يكون لهم هدف يثبتون عليه كأمر رئيسي…
7- … إذ نُضرب بالعمى لا نقدر أن نرى في ذواتنا شيئًا سوى الذنوب الكبيرة، ظانين أنه يلزمنا فقط أن نكون أنقياء من تلك الذنوب وحدها التي تستنكرها القوانين الدنيوية، فإذا ما رأينا أنفسنا قد تحررنا منها إلى حين نظن أننا قد صرنا بلا خطية تمامًا… فلا نبصر البقع الكثيرة التي تتجمع معًا في داخلنا، وبالتالي لا ننزعها بالانسحاق المنقذ، ولا نحزن عندما تصيبنا أفكار الغرور، ولا نبكي من أجل صلواتنا التي نرفعها في تراخٍ شديد وفتور. ولا نحسب شرود فكرنا أثناء الترنم بالمزامير والصلوات أنه خطأ.
ولا نستحي من تصوراتنا لأمور كثيرة نخجل أن ننطق بها أو نمارسها أمام الناس والتي هي مكشوفة أمام البصر الإلهي. ولا نطهر فساد الأحلام الدنسة بالدموع الغزيرة… ولا نعتقد أن هناك أية خسارة تصيبنا عندما ننسى الله مفكرين في أمور أرضية فاسدة، بهذا تنطبق علينا كلمات سليمان: “ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 35:23).
8- اشتياق الروحانيين إلى البقاء في التأمل في الإلهيات
من الناحية الأخرى الذين يجعلون فرحهم وبهجتهم وسعادتهم تكمن في التأمل في الأمور المقدسة الروحانية فقط، هؤلاء متى استولت عليهم أفكار أخرى بغير إرادتهم إلى حين يندمون جدًا كمن تدنسوا طالبين عليه تأديبًا. وفي حزنهم لأنهم قد حولوا نظرهم إلى المخلوق التافه (الذي تحول إليه بصرهم الذهني) أكثر من خالقهم يحسبون ذلك كأنه إلحاد، مع أنهم سرعان ما يحولون عيون قلوبهم بأقصى سرعة ممكنة لمشاهدة بهاء مجد الله. إنهم لا يقدرون أن يحتملوا ظلام الأفكار المادية ولو إلى وقت قصير، ممقتين كل ما يعوق نظر أرواحهم عن النور الحقيقي.
أخيرًا عندما لقن الطوباوي يوحنا الرسول هذا الشعور لكل أحد قال: “لا تحبُّوا العالم ولا الأشياءَ التي في العالم. إن أحبَّ أحد العالم فليست فيه محبَّة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوتهُ وأما الذي يصنع مشيئَة الله فيثبت إلى الأبد” (1 يو15:2 –17).
لذلك يحتقر القديسون كل هذه الأمور الخاصة بالعالم، لكن ليس من الممكن لهم ألا ينتقل فكرهم إليها ولو إلى حين وحتى الآن لا يوجد إنسان ما إلا إلهنا ومخلصنا الذي وحده يستطيع أن يحفظ ذهنه ثابتًا على الدوام في التأمل في الآب دون أن تمسه قط أية محبة لشيء في هذا العالم، ويقول عنه الكتاب أنه حتى الكواكب غير نقية في عينيه، “هوذا عبيدهُ لا يأْتمنهم وإلى ملائكتهِ ينسب حماقةً” (أي 18:4؛ 15: 15؛ 25: 5).
9- إنني أقول بأن القديسين الذين يحرصون على تذكر الله على الدوام… يكونون كمن هم محمولين على حبل ممدود مرتفع يسيرون عليه، وذلك مثل الراقصين الذين يدعون بالبهلوانيين الذين يخاطرون بسلامتهم وحياتهم، سائرين على الحبل الرفيع بسرعة، فإذا مازلَّت قدمهم أو انحرفت ولو قليلاً جدًا يتعرضون لموت مرعب. فتكون الأرض (التي يسقطون عليها) التي هي بالنسبة للجميع أساس سلام بالنسبة لهم تمثل خطرًا شديدًا، لا لأن طبيعة الأرض قد تغيرت، وإنما لأنهم يسقطون عليها بثقل أجسادهم. هكذا أيضًا صلاح الله الذي لا يتغير لا يؤذي أحد، لكن بسقوطنا من أعلى الارتفاعات… يصير سبب موتنا. إنه يقول: “ويل لهم لأنهم هربوا عني. تَبًّا لهم لأنهم أذنبوا إليَّ” (هو13:7 ). “ويل لهم أيضًا متى انصرفتُ عنهم” (هو 12:9).
لأنه “يوبّخكِ شركِ وعصيانكِ يؤَدبكِ. فاعلمي وانظري إن ترككِ الرب إلهكِ شرّ ومرّ” (إر 19:2). لأن كل إنسان “بحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم22:5 ). ويوجه الله هذا التوبيخ بلباقة: “يا هؤلاءِ جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموهُ” (إش 11:50،) وأيضًا “الذي يوقد شرًا يهلك به”.
10- شعورهم الدائم بالحاجة إلى مراحم الله
عندما يشعر القديسون بأن ثقل الأفكار الأرضية يضايقهم، وأنهم يرتدون بعيدًا عن سمو أذهانهم، منقادين بغير إرادتهم أو بالأحرى لا شعوريًا إلى ناموس الخطية والموت، وتعوقهم الأعمال الأرضية التي هي نافعة وصالحة عن معاينة الله، فإنهم يئنون إلى الله باستمرار، معترفين بانسحاق قلب لا بالكلام بل بقلوبهم إنهم خطاة، وبينما هم بغير انقطاع يلتمسون من رحمة الله الصفح عما يقترفونه يومًا فيومًا بسبب ضعف الجسد، يزرفون دموعًا حقيقية للتوبة بغير انقطاع…
كذلك يدركون بالخبرة أنه بسبب ثقل الجسد يعجزون بقوتهم البشرية أن يبلغوا النهاية المطلوبة، وأن يكونوا متحدين، حسب اشتياق قلوبهم، بذلك الصلاح الرئيسي الأسمى، وإذ ينقادون بعيدًا عن رؤيته مأسورين بالأمور العالمية يتوجهون إلى مراحم الله “الذي يبرّر الفاجر” (رو5:4). ويصرخون مع الرسول: “وَيحي أنا الإنسان الشقي. مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا” (رو24:7،25). لأنهم يشعرون بأنهم على الدوام لا يستطيعون أن يكملوا الصلاح الذي يريدونه، إنما يسقطون في الشر الذي لا يريدونه والذي يكرهونه أي الأفكار الزائفة والاهتمام بالأمور الجسدية.
11- تفسير: “فإني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن”
إنهم بالحقيقة يُسرون بناموس الله بحسب الإنسان الباطن الذي يسمو فوق كل المنظورات، ويسعون على الدوام ليكونوا متحدين بالله وحده، لكنهم يرون ناموسًا آخر في أعضائهم، أي منغرس في طبيعتهم البشرية يحارب ناموس ذهنهم (رو22:7،23)، أي يأسر أفكارهم إلى ناموس الخطية العنيف، ويُلزمهم أن يتخلوا عن ذلك الصلاح الأعظم، ويرضخوا للأفكار الأرضية التي وإن ظهرت هامة ومفيدة ونحتاج إليها في العبادة..
إلا إنها تقف عائقًا عن التأمل في ذلك الصلاح الذي يسحر أنظار القديسين فيرونها شريرة ويحاولون تجنبها، لأنه خلالها إلى حد ما وإلى حين يحرمون من بهجة تلك السعادة الكاملة. لأن ناموس الخطية هو بحق ما جلبه سقوط الأب الأول على البشرية، إذ صار النطق بفم القاضي العادل: “ملعونة الأرض بسببك (في أعمالك).. شوكًا وحسكًا تُنبت لك… بعَرَق وجهك تأكل خبزًا” (تك17:3-19).
إنني أقول إن هذا هو الناموس المنغرس في أعضاء البشر جميعًا الذي يحارب ناموس أذهاننا ويعوقها عن رؤية الله. إذ بعدما لُعنت الأرض بأعمالنا بعد معرفتنا للخير والشر، صارت تنبت حسك الأفكار وأشواكها التي تخنق بذور الفضائل الطبيعية، حتى أنه بغير عرق جبيننا لا نستطيع أن نأكل خبزنا “النازل من السماء” (يو33:6)، والذي “يسند قلب الإنسان” (مز 15:104). لذلك فإن البشر عامة، بغير استثناء، خاضعون لهذا الناموس…
12- تفسير: “فإننا نعلم أن الناموس روحي” (رو14:7)
هذا الناموس يسميه الرسول: “روحي”، قائلاً: “فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية”، لأن هذا الناموس روحي، إذ يأمرنا أن نأكل بعرق جبيننا “الخبز الحقيقي من السماء” (يو32:6). لكن إذ نحن مُباعين تحت الخطية فنحن جسدانيون. إنني أتساءل: ما هي تلك الخطية؟ ولمن؟
بلا شك هي خطية آدم الذي بسقوطه أو بتدبيره التالف وتعاقده المملوء خداعًا صرنا مُباعين. فعندما قاده إغراء الحية إلى الضلال جاء بجميع ذريته تحت نير العبودية المستمر… فبالأكل من الشجرة الممنوعة استلم من الحية ثمن حريته مستهينًا بها، واختار لنفسه العبودية المستمرة للحية التي استلم منها الثمن المميت… وليس بغير سبب صار كل نسله عبيدًا في خدمة ذاك الذي صار له عبدًا… لأنه هل يمكن لزوجين عبدين إلا أن ينتجا من هم عبيد؟
لكن هل هذا المشترى المخادع قد سلب حق الملكية من المالك الشرعي الحقيقي؟ كلا، لأنه لم ينل حق ملكية الله… لكن الخالق إذ منح جميع الخليقة العاقلة إرادة حرة، لا يعيد إليهم حريتهم الطبيعية قهرًا، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم بخطية الشهوة الشرهة.
لأن مصدر العقل والتقوى يمقت كل ما هو مخالف للصلاح والعدل، فلا يقبل أن يسلب الإنسان حريته حتى لا يخطئ في حقه. لكن الله حافظ على خلاص الإنسان ناظرًا إلى المستقبل إلى ملء الزمان المعين، وبعدل ترك ذرية آدم تبقى وقتًا طويلاً تذوق مرارة العبودية إلى أن يشتريهم بدمه وتعتقهم مراحم الله من القيود الأصلية ويطلق سراحهم إلى الحرية الأولي…
هل تريد أن تعرف لماذا أنت مبيع للخطية؟ اسمع ما يقوله فاديك جهرًا على لسان إشعياء النبي “أين كتاب طلاق أمكم التي طلَّقتها؟ أو مَنْ هو من غرمائي الذي بعتهُ إياكم؟ هوذا من أجل آثامكم قد بُعتم ومن أجل ذنوبكم طُلقت أمكم” (إش1:50).
هل تعرف لماذا لم يرد الله أن يعتقك من نير العبودية قسرًا؟ اسمعه يقول “هل قصرت يدي عن الفداء؟ وهل ليس فيّ قدره للإنقاذ؟” (إش2:50). ويكشف النبي ما يقف حائلاً أمام طريق حنان الله الأعظم قائلاً: “ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنهُ عن أن تسمع. بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجههُ عنكم حتى لا يسمع” (إش1:59،2).
13- “فإني اعلم انه ليس ساكن فيّ أي في جسدي شيء صالح”
إذن لعنة الله الأصلية جعلتنا جسدانيين، وحكم علينا بالأشواك والحسك، وقد باعنا أبونا بذلك التعاقد التعيس حتى صرنا عاجزين عن فعل الصلاح الذي نريده، إذ صرنا ننقطع أحيانًا عن تذكر الله العظيم السمو مضطرين إلى الانشغال بما يخص الضعف البشرى. وبينما نشتهي الطهارة ننزعج غالبًا بغير إرادتنا بالشهوات الطبيعية التي لا نريد حتى أن نعرفها. لهذا نحن نعلم أنه ليس ساكن في أجسادنا شيء صالح (رو18:7)، أي ليس ساكن فيها السلام الأبدي الدائم الذي لهذا التأمل المذكور.
لقد حدث في قضيتنا ذلك الطلاق البائس التعيس، حتى أننا عندما نريد بالذهن أن نخدم ناموس الله إذ لا نريد أن نحول نظرنا قط عن البهاء الإلهي، نجد أنفسنا محاصرين بالثقل الجسدي، فيجبرنا ناموس الخطية إلى الحرمان من الصلاح الذي ندركه ونسقط عن ذلك السمو الذهني المرتفع، منحدرين إلى الاهتمامات والأفكار الأرضية، الذي حكم به علينا في شخص المذنب الأول ليس بغير سبب… ومع أن الرسول المبارك يعلن جهرًا بأنه وجميع القديسين مقيدون بقيود هذه الخطية، لكنه يؤكد بجراءة أنه لا يُدان أحد بسبب هذا قائلاً: “إذًا لا شيءَ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع… لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو1:8،2)، بمعنى أن نعمة السيد المسيح تحرر جميع القديسين يومًا فيومًا من ناموس الخطية والموت، هذا الذي يخضعون له قسرًا بالرغم من توسلهم الدائم إلى أن يصفح عن تعدياتهم.
إنك ترى إذن أنه لا يتكلم على لسان الخطاة (غير التائبين)، بل على لسان الذين هم في الحقيقة قديسين وكاملين، حتى نجده يقول هكذا: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل.. ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو19:7،23).
14- اعتراض
جرمانيوس: إننا نقول بأن هذا القول لا ينطبق على الذين انغمسوا في آثام جسيمة، وفي نفس الوقت لا ينطبق على الرسول ومن هم بلغوا قامته، إنما نعتقد أنه يتناسب مع الذين بعدما قبلوا نعمة الله ومعرفة الحق يهتمون أن يحفظوا ذواتهم من الخطايا الجسدية، لكنهم بسبب عاداتهم القديمة التي هي كناموس طبيعي يسيطر بعنف في أعضائهم، يسقطون في شهوة انفعالاتهم القديمة المتأصلة. فالعادة أو تكرار الخطية هي بمثابة ناموس طبيعي مغروس في أعضاء الإنسان الضعيفة تقود مشاعر النفس التي لم تتهذب بعد بمطالب الفضيلة. وبهذا فإنهم، إن أمكنني أن أقول، أنهم في نقاوة غير مهذبة بل عليلة هم أسرى للخطية، خاضعين للموت بناموس قديم، يسقطهم تحت نير الخطية المسيطرة عليهم، فلا ينالون صلاح الطهارة التي يحبونها بل بالأحرى يجبرون على فعل الشر الذي يكرهونه.
15- ثيوناس
رأيكم هذا يعني عدم إدراك الأمر تمامًا، لكنكم قد بدأتم الآن تؤيدوا بأن هذه العبارات لا تحتمل أنها تخص الخطاة البعيدين، إنما تتناسب مع الذين يحاولون حفظ نفوسهم أنقياء من الخطايا الجسدية. وإذا أبعدتم هذه الأقوال عن الخطاة (غير التائبين) فيلزمكم أن تقبلوا أنها تخص من هم في درجات المؤمنين والمقدسين، لأنه ما هي أنواع الخطايا التي تقولون بأن أولئك يرتكبونها بعدما نالوا نعمة العماد ويمكنهم أن ينالوا المغفرة عنها يوميًا بمراحم المسيح؟ أو ماذا يعني الرسول بـ “جسد الموت” في قوله “مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا” (رو24:7،25)؟ أليس من الواضح أن الحق يجبركم أن تقبلوا أن تلك العبارات لم تكن تتكلم عمن يرتكب الجرائم العظمى التي تدفع للموت الأبدي، أي القتل والزنا والفسق والسكر والنهب والسرقة،
إنما تتكلم عن الجسد السابق ذكره (جسد الموت) الذي تعينه نعمة المسيح اليومية؟ لأن من يسقط في ذلك الموت بعد العماد ومعرفته لله يلزمه ألا يظن أنه ينال التطهير برحمة الله اليومية بالتوسل إليه (في الصلاة الربانية)، إنما يلزمه الندامة في توبة صادقة ويخضع للتأديب… إذ يعلن الرسول هكذا: “لا تضلُّوا لا زناة ولا عَبَدة أوثان ولا فاسقون ولا مأْبونون ولا مضاجعو ذكورٍ ولا سارقون ولا طمَّاعون ولا سكّيرون ولا شتَّامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله” (1كو9:6،10). إذن ما هو ذلك الناموس الكائن في أعضائنا الذي يحارب ناموس ذهننا ويأسرنا لناموس الخطية والموت إذ نخدمه بالجسد، ومع ذلك يسمح لنا أن نخدم بذهننا ناموس الله؟ بلا شك أنه لا يقصد تلك الجرائم السابق ذكرها، لأنها تحرم الذهن من خدمة ناموس الله.
إنني أسأل أي ناموس هذا المنغرس في أعضائنا والذي يسحبنا عن ناموس الله ويأسرنا تحت ناموس الخطية… دون أن نُدفع إلى العقاب الأبدي لكننا نبقى في تنهد من أجل أفراح السعادة المتواصلة ونبحث عن المعين صارخين مع الرسول: “ويحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟” إننا نعلم بالحقيقة أن أشياء كثيرة في هذا العالم صالحة وهامة كالاتضاع والعفة والرزانة والوداعة والعدالة والرحمة والاعتدال والشفقة…
لكن هذه كلها لا تقارن بالنسبة للصلاح الرئيسي (التأمل في الله)، ويمكن أن ينفذه ليس فقط الرسل بل والعلمانيون العاديون، ومن لا يتممها يسقط تحت عقاب أبدي ما لم يتوبوا مثابرين… فما يقوله الرسول ينطبق على حال القديسين الذين يومًا فيومًا يسقطون تحت هذا الناموس، ليس ناموس الجرائم ولا التورط في أعمال شريرة لكن كما سبق أن كررت كثيرًا هو الانجذاب بعيدًا عن التأمل في الله إلى الانشغال بالأمور الجسدية (الهامة)، وبهذا يحرمون من بركة السعادة الحقيقية…
مهما يكن من قلق الرسول من جهة ناموس الخطية الذي يولد أشواك الأفكار والاهتمامات الجسدية وحسكها الناشئة في أعماق صدر الرسول، إلا أنه في الحال يختطفه ناموس النعمة فيقول: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو2:8).
16- مفهوم “جسد الخطية”
إذن هذا هو “جسد الموت” الذي لا نستطيع أن نهرب منه، الذي أسر فيه الكاملون الذين ذاقوا: “ما أطيب الرب” (مز8:34)، يشعرون يوميًا مع النبي “كيف هو شر ومر للإنسان الذي ينفصل عن الرب إلهه”[2]. هذا هو جسد الموت الذي يحجزنا عن الرؤية السماوية، يجذبنا إلى الخلف للأشياء الأرضية، الذي يسبب للناس أثناء ترتيلهم بالمزامير وركوعهم للصلاة أن تمتلئ أفكارهم بالمناظر البشرية، أو يتذكرون محادثات أو أعمال ضرورية تافهة.
هذا هو جسد الموت الذي ينظر إليه أولئك الذين يبارون قداسة الملائكة ويشتاقون إلى الاتصال بالله على الدوام، ومع ذلك يعجزون عن الوصول إلى كمال هذا الصلاح، لأن “جسد الموت” يقف في طريقهم، فيفعلون الشر الذي لا يريدونه، أي ينجذبون إلى أسفل بأذهانهم حتى إلى الأشياء التي ليست لها صلة بتقدمهم وكمالهم في الفضيلة.
أخيرًا فإن الرسول الطوباوي يعبر بوضوح انه قال هذا عن الناس المقدسين والكاملين ومن على شاكلته، فيشير بإصبعه إلى نفسه ويتدرج في الحال: “إذًا أنا نفسي”، أي أنا الذي أقول هذا أقدم أسراري الخاصة مكشوفة وليست سريرة شخص آخر. هذا الأسلوب اعتاد الرسول أن يستعمله بغير كلفة كلما أراد أن يشير بالأخص إلى نفسه[3].
إذًا “أنا نفسي” تحمل بالتأكيد، أي أنا الذي تعرفونه بأنه رسول المسيح الذي تبجلونه بأعظم احترام، والذي تعتقدون بأنه من أسمى الشخصيات وأبرعها كشخص يتكلم فيه المسيح، مع أني أخدم ناموس الله بالذهن ومع ذلك أعترف بأنني بالجسد أخدم ناموس الخطية، بمعنى أن طبيعتي البشرية تجذبني أحيانًا من الأشياء السماوية إلى الأشياء الأرضية، وينحدر سمو ذهني إلى الاهتمام بأمور تافهة. وبناموس الخطية هذا أجد أنني في كل لحظة أؤخذ هكذا مأسورًا رغم مثابرتي باشتياق راسخ نحو ناموس الله، لكنني لا أتستطيع بأية وسيلة أن أنجو من سلطان هذا الأسر ما لم أتطلع دائمًا إلى رحمة المخلص.
17- اعتراف القديسين جميعهم أنهم خطاة
لذلك يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبَّرر قدامك حيّ” (مز 2:143)، “من يقول إني زكَّيتُ قلبي، تطهرتُ من خطيتي” (أم 9:20). وأيضًا: “لأنهُ لا إنسان صدّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئُ” (جا 20:7). وهذا أيضًا: “السهوات من يشعر بها؟” (مز 12:19).
وهكذا أدركوا أن برّ الإنسان عليل وغير كامل ويحتاج دائمًا إلى رحمة الله، حتى أن أحدهم بعد رؤيته السيرافيم في الأعالي وكشفه المكنونات السمائية قال: “ويل لي.. لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعبٍ نجس الشفتين” (إش 5:6). أظن أنه ما كان يشعر بنجس شفتيه ما لم يكن قد مُنح له أن يُدرك نقاوة الكمال الحقيقي التام برؤية الله، الذي فجأة صار عالمًا بنجاسته التي كان جاهلاً بها من قبل ونجاسة من حوله… شاملاً في توسله العام ليس فقط جماعة الأشرار بل وجماعة الصالحين أيضًا قائلاً: “ها أنت سخطت إذ أخطأْنا. هي إلى الأبد فنخلص، وقد صرنا كلنا كنجسٍ وكثوب عِدّة” (إش 5:64، 6).
إنني أسأل أي شيء يمكن أن يكون أوضح من هذا القول الذي لا يتكلم فيه النبي عن عمل واحد بل عن كل تقوانا، متأملاً جميع الأشياء أنها دنسة وكريهة. ولأنه لم يستطع أن يجد شيئًا في حياة الناس أكثر تلوثًا ونجاسة اختار بأن يقارنها بثوب عِدّة، ومع أنه يقول هنا بأن القديسين قد أخطأوا بل ومكثوا دائمًا في خطاياهم، إلا أنه لم ييأس من الخلاص بل يضيف “هي إلى الأبد فنخلص”. هذا القول: “ها أنت سخطت إذ أخطأنا” يقابل قول الرسول: “ويحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟” وما يلحقه النبي: “هي إلى الأبد فنخلص” تقابل كلمات الرسول: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا”.
بنفس الطريقة أيضًا هذه العبارة: “ويل لي لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين” تظهر بأنها تتفق مع الكلمات: “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” وما ذكره النبي بعد ذلك: “فطار إلىَّ واحد من السيرافيم وبيدهِ جمرة قد أخذها بملقطٍ من على المذبح ومسَّ بها فمي، وقال: “إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك” (إش6:6،7) يشبه تمامًا ما قد نطق به بولس: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا”.
ها أنت تري إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدق أن جميع الناس كما هم خطاة مع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهير كامل بنعمة الله ورحمته…
18- ليس أحد بلا خطية
لا يوجد أحد بلا خطية مهما كان مقدسًا في الحياة. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة… إذ نقول: “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” (مت12:6). إذ قدم هذه كصلاة حقيقية يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، فمن يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء حمق الشيطان فيظن أنه بلا خطية، متهمًا المخلص نفسه بالجهل والحماقة، كأن الرب لم يدرك أن بعض الناس أمكنهم التحرر من الخطية، أو كمن كان يعلم بتهاون أولئك الذين عرف أنهم سيستمرون في هذا العلاج طالبين الغفران وهم ليسوا في حاجة إليه؟
19- عجزنا عن تجنب الخطية حتى في أثناء الصلاة
يجدر بمن ينسب البراءة للطبيعة البشرية ألا يناضل بكلمات تافهة لكن لتكن شهادته وبرهان ضميره أنه هو بلا خطية عندما يجد أنه لم ينحرف قط بعيدًا عن هذا الصلاح الأسمى. كلاّ بل بالأحرى كل من يتأمل في ضميره هو، ولا أقول غيره، ويجد أنه قد قام بخدمة واحدة فقط بدون أن يشرد ذهنه ولو بكلمة واحدة أو فعل أو فكرة، عندئذ يمكنه أن يقول أنه بلا خطية. علاوة على ذلك إذ نسلم بأن طيش الذهن لا يستطيع أن يتخلص من هذه الأشياء التافهة غير المفيدة، نعترف بصدق بأننا لسنا بلا خطية. لأنه مهما بلغ حرص الإنسان في حفظ قلبه لا يستطيع أبدًا، نظرًا إلى مقاومة طبيعة الجسد، أن يحفظه بحسب رغبة روحه. لأنه كلما تقدم الذهن البشري وارتقي نحو نقاوة أسمى في التأمل يرى ذاته بدرجة أعظم أنه غير طاهر، كما لو كان ينظر في مرآة نقاوته. لأن بينما ترتفع الروح إلى رؤيا أسمى وبينما تنظر إلى الأمام، تتشوق إلى أشياء أعظم مما قد بلغته، فتحتقر الأشياء التي تختلط بها وتراها أنها دنيئة ولا قيمة لها، حيث أن النظر الأقوى يلاحظ أكثر والحياة الطاهرة توجد حزنًا أعظم عندما تجد فيها خطأ، وإصلاح الحياة والنضال المنصب وراء الصلاح يُكثر الأنين والتنهدات، لأنه لا يستطيع أحد أن يستريح مقتنعًا بالـدرجة التي ارتقى إليها.
على أي الأحوال كلما تنقى ذهن الإنسان بدرجة أعظم يرى بالأكثر جدًا نفسه دنسًا، ويجد بواعث الاتضاع أكثر من الكبرياء. ومهما يكن صعوده إلى درجات أسمى فهكذا بالأكثر جدًا يرى فوقه إلى أي موضع يتوجه. أخيرًا نطق الرسول المختار الذي “كان يسوع يحبُّهُ” والذي كان متكئًا في حضنه بهذا القول كأنه من قلب الله: “إن قلنا إنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا” (1يو8:1).
20- أخيرًا إذا كنت تريد أن تبحث بأكثر إتقان عمّا إذا كان ممكنًا للطبيعة البشرية أن تصل إلى البراءة فممن يمكننا أن نتعلم هذا بوضوح أكثر من أولئك الذين “قد صلبوا الجسد مع الأهواءِ والشهوات” (غل24:5)، والذين قد صُلِبوا العالَ” فعلاً (غل14:6)؟ الذين بالرغم من أنهم استأصلوا جميع الأخطاء من قلوبهم بل ويحاولون نزع كل فكر وتذكار الخطية، ومع ذلك مازالوا يومًا فيومًا يتمسكون بأنهم لا يستطيعون حتى لساعة واحدة أن يتحرروا من قذر الخطية.
21- هل نمتنع عن التناول لأننا لسنا بلا خطية؟
بالرغم من هذا يجب ألا نبطل العشاء الرباني لأننا نعترف بأننا خطاة، لكن يجب أن نسرع إليه بأكثر حماس لشفاء روحنا وتنقية أنفسنا، ونبحث بالأولى عن علاج لجروحنا باتضاع الذهن وإيمان، معتبرين أنفسنا غير مستحقين أن ننال نعمة عظيمة كهذه، وإلا فإنه لا يمكننا أن ننال العشاء الرباني باستحقاق حتى مرة كل سنة كما يفعل بعض الذين يعيشون في الأديرة، وهكذا يتأملون في هيبة وقداسة وعظمة القرابين المقدسة السمائية، كما يعتقدون ليس أحد سوى القديسين والأنقياء يجب أن يتجرأوا بتناولها، وليست هي التي بالأحرى تجعلنا أنقياء. هؤلاء يسقطون في غرور أعظم وغطرسة أكثر مما يظهر لأنفسهم بأنهم يتجنبونه، لأنهم في الوقت الذي يتناولونه يعتبرون ذواتهم أنهم مستحقون لتناوله. لكن من الأفضل بكثير أن نتناوله كل يوم أحد لشفاء أسقامنا، فنتناوله باتضاع قلبي، إذ نعتقد ونعترف بأننا لا نستطيع أبدًا أن نلمس الأسرار المقدسة باستحقاق. وهذا خير من أن ننتفخ بإغراء القلب الأحمق، ونعتقد بأننا في نهاية السنة نكون مستحقين أن نتناوله.
إذ يمكننا إدراك هذا ونتمسك به دعنا باجتهاد أعظم نتضرع إلى رحمة الله لكي يعضدنا لنكمل هذا الذي نتعلمه، ليس كالفنون البشرية الأخرى بواسطة تفسير شفهي سابق، لكن بالأحرى بالخبرة والعمل نعرف الطريق. وأيضًا إذا لم ننظر فيه على الدوام ونجدد المسعى في مجمع روحانيين ونفحصه باهتمام بخبرة يومية يصير غير معمول به عن طريق الإهمال، أو يتلاشى بالنسيان الباطل.
_____________________________________
[1] ترجمة: بيت القديسة دميانة.
[2] نص الكتاب المقدس “إن تركك الرب إلهكِ شرّ ومرّ” إر19:2.
[3] راجع 2كو1:10، 13:12،16، غل2:5، رو2:9
المناظرة الرابعة العشرون
الإماتة للأب إبراهيم
1- مقدمة (الاشتياق نحو العودة إلى مدينتنا)
هذه المناظرة الرابعة والعشرون التي للأب إبراهيم، حصلنا عليها بنعمة المسيح، وقد شملت تقاليد وآراء الآباء الشيوخ. وبانتهاء هذه المناظرة بصلواتكم نكون قد انتهينا من الرقم الرمزي (24) الوارد في سفر الرؤيا عن الأربعة وعشرين قسيسًا الذين يقدمون أكاليلهم للحمل (رؤ 4:4). وإنني بهذا أكون، كما أظن، قد أوفيت بوعودي لكم. وعندما يتوهج هؤلاء الآباء (الذين لهم المناظرات) بالمجد بسبب تعاليمهم، فإنهم يحنون رؤوسهم للحمل المذبوح من أجل خلاص العالم. فهو وحده الذي من أجل اسمه قد وُهبت لهم تلك المشاعر السامية، وأعطوا تلك الكلمات التي نحتاج نحن إليها لنتعرف على الأفكار العالية العميقة…
يجدر بنا أن ننسب استحقاقات العطية لواهب كل صلاح، وإذ نحن مدينون له بها يلزمنا أن نردها إليه (بتنفيذ ما جاء في عطيته، أي كلماته التي وهبنا إياها على ألسنتهم، ومن جانب آخر نحدث الآخرين بها من أجل اسمه).
أخبرنا الأب إبراهيم بما في داخل فكرنا، معترفين له أننا في كل يوم نجد فينا باعثًا يحثنا على العودة إلى مدينتنا والرجوع إلى أقربائنا… وأننا على الدوام نفكر في أن نربح صلاحًا أكثر خلال غيرتهم، إذ يخدموننا بسرور في كل ما نحتاج إليه مما يجعلنا لا ننشغل بإعداد الطعام أو أية اهتمامات جسدية. بجانب هذا كنا نطعم أرواحنا على رجاء الفرح، إذ حسبنا أننا سنربح صلاحًا أعظم بحديثنا مع كثيرين (عند العودة إليهم)، فيعودون إلى طريق الخلاص خلال اقتدائهم بنا وإنصاتهم لتعاليمنا.
هذا بجانب أننا هناك نكون في نفس المنطقة التي كان يقطنها أجدادنا السابقون، فيرتسم أمام أعيننا الفرح المبهج الذي لأقربائنا حينما انسحبوا إلى البرية بسرور ولياقة وتوغلوا في أعماق الغابات…
إذ شرحنا ذلك للشيخ السابق ذكره بطريقة مستقيمة حسب إيمان ضمائرنا، وأظهرنا بدموع غزيرة عدم قدرتنا على مقاومة هذا الدافع ما لم تتدخل نعمة الله لإنقاذنا، عندئذ صمت الأب وقتًا طويلاً، وأخيرًا تنهد تنهدًا عميقًا وقال…
2- زهد الراهب في المشاعر الجسدية
إن ضعف أفكاركما يُظهر أنكما إلى الآن لم تزهدا الرغبات العالمية، ولا مارستما إماتة شهواتكما السابقة. لأن رغباتكما الهائمة تكشف عن كسل قلبيكما، مع احتمالكما من جهة الجسد فقط. فيلزم دفن كل هذه الأمور ونزعها من قلبيكما تمامًا، إن كنتما قد أمسكتما بالزهد الحقيقي وبالسبب الرئيسي للوحدة التي نحياها.
هكذا أراكما ساقطين تحت هذا الضعف من الكسل الذي يصفه سفر الأمثال: “نفس الكسلان تشتهي ولا شيءَ لها”، وأيضًا “شهوة الكسلان تقتلهُ” (أم 4:13؛ 25:21). لأنه لا يليق بنا أن نستريح من جهة احتياجاتنا الزمنية مادامت هذه الاحتياجات ضرورية ومتناسبة مع دعوتنا. فإذا ظننا أننا نستطيع أن نقتنى لنا ربحًا عظيمًا من تلك المباهج التي تنبع عن المشاعر الجسدية فلا ننزع عنا سلوان أقاربنا، أما يصدنا قول مخلصنا الذي يستبعدنا عن كل ما ينسب إلى حاجات الجسد قائلاً: “إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض (يترك) أباهُ وأمهُ وامرأتهُ وأولادهُ واخوتهُ وأخواتهِ.. فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو 26:14)؟
إن كنا قد تخلصنا من حماية والدينا، فإنه يلزمنا أيضًا ألا نحتاج إلى خدمات الرؤساء[1] الذين بكل شكر يبتهجون بتقديمهم احتياجاتنا مجانًا. فإننا إذ نقتات بغناهم نتحرر من الاهتمام بإعداد الطعام، لكن ترعبنا لعنة النبي القائل: “ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان” (إر 5:17) و”لا تتكلوا على الرؤَساءِ” (مز 3:146).
على أي الأحوال لو أننا أقمنا قلالينا على ضفاف النيل لكي ما نحمل المياه إلى أبوابها (بغير تعب)، فلا نحملها على أكتافنا بأنفسنا مسافة أربعة أميال، أمَا يوبخنا قول الرسول الذي يطلب منا الاحتمال بغير كلل بل بفرح، قائلاً: “ولكن كلُّ واحدٍ سيأخذ أجرتهُ بحسب تعبهِ”1كو8:3؟
لعلنا نجهل أنه حتى في مدينتنا توجد مخازن مملوءة بما لذّ وطاب، وثمار وفيرة وحدائق غناء وأرض خصبة تمدنا بما نحتاج إليه من طعام بأقل مجهود جسدي، لكننا نخشى لئلا نوبخ بما وُجه إلى الغني المذكور في الإنجيل: “اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك” (لو25:16). لكننا إذ نحتقر كل هذه الأمور ونزدرى بها تمامًا مع كل مباهج الحياة، نبتهج بالصحراء القاحلة البعيدة أكثر من كل الملذات إذ لا نطلب نفعًا زمنيًا للجسد، إنما مكافأة أبدية للروح…
لأنه قليل على الراهب أن يقوم بالزهد مرة واحدة فقط، محتقرًا العالم الحاضر في أيامه الأولى وحدها (عند خروجه للدير)، إنما يلزم أن يستمر في زهده كل يوم… لهذا يقول الرب في الإنجيل: “إن أراد أحد أن يأتي ورائِي فلينكر نفسهُ ويحمل صليبهُ كلَّ يومٍ ويتبعني” (لو23:9).
3- نوع الأماكن التي تناسب النساك
من اختبر الاهتمام المقلق لنقاوة إنسانه الداخلي، لا يطلب الأماكن الخصبة الكثيرة الثمر، حتى لا تستميل ذهنه بفلاحتها، ولا تجذبه عن البقاء في قلايته صامدًا ثابتًا، إنما يلزمه أن يقوم ببعض الأعمال في الهواء الطلق، وهكذا فإن أفكاره تنسكب كما بغير ضابط لتنتشر في الهواء وتفقده تركيز ذهنه وصفاء رؤيته لهدفه.
هذا الأمر لا يمكن أن يتطلع إليه إنسان أو يراعيه إلا من يحفظ جسده ونفسه محبوسين على الدوام بين حوائط القلاية، فيكون كصياد سمك ماهر يطلب طعامه بالفن الرسولي، فإنه بشغف يبقى بغير حركة لكي يصطاد حشود الأفكار السابحة في الأعماق كما من على صخر عال. بهذا يستطيع أن يقرر بحذاقة وفطنة ما يلزمه أن يصطاده لنفسه بواسطة صنّارته المنقذة، وما يليق به أن يهمله من أفكار ويتركه بكونه سمكًا رديئًا.
4- الأعمال التي تناسب المتوحدين
كل من يثابر على الدوام ساهرًا ينفذ ما أوضحه حبقوق النبي قائلاً: “على مرصدي أقف وعلى الحصن أنتصب، وأراقب لأرى ماذا يقول لي؟ وماذا أجيب عن شكواي؟” (حب1:2). ويظهر بوضوح كيف أن هذا صعب ومضني وذلك من خبرة الذين يقطنون صحراء[2] Clamus أوPorphyrion. فمع كونهم منفصلين عن كل المدن ومساكن البشر بمسافة بعيدة في الصحراء أكثر مما لوحشية منطقة الإسقيط حيث يحتاج الوصول إليهم إلى السير سبعة أو ثمانية أيام في وسط برية قاحلة… لكنهم لما انشغلوا بالزراعة في حدود غير ضيقة… صارت الأفكار المقلقة تشوش أذهانهم، حتى صاروا كأناس مبتدئين في الرهبنة، أو كمن ليس لهم خبرة في الوحدة، ولم يعودوا يحتملون السكون والبقاء في القلالي والسلام الذي فيها، إنما أجبروا على تركها كمن هم تحت التمرين بلا خبرة، لأنهم لم يتعلموا كيف يوقفوا حركات الإنسان الداخلي، ويخمدوا عواصف أفكارهم بالعناية اللازمة والجهاد بمثابرة. إنما كانوا يقضون يومهم في الهواء الطلق في تعب منطلقين في العراء، ليس من جهة جسدهم بل وقلبهم أيضًا، إذ كانوا يتحدثون بأفكارهم علانية أينما ذهبوا. بهذا لم يراعوا غباوة ذهنهم من جهة اشتياقاتهم لأمور كثيرة، ولم يتمكنوا من ضبط تفكيرهم الهائم. وإذ لم يكونوا قادرين على احتمال حزن الروح كانوا يحسبون أن السكون الدائم أمر لا يُطاق، وأن من لا ينشغل بأعمال مجهدة… يكون مضروبًا بالصمت ومنهك القوى بسبب طول فترة راحته.
5- عدم الخروج من القلاية كعلاج للقلق
ليس بالأمر العجيب أن من يعيش في قلاية يجمع أفكاره كما في محبس ضيق، فإذا خرج من قلايته تضايقه حشود كثيرة من الأمور المقلقة، فتجعله يجول هنا وهناك كحصان جامحٍ… لكن إذ يعود بسرعة إلى قلايته فإن الأفكار تعود إلى مكانها المناسب لها. أما من يسمحوا لها بالجولان بطريقة دائمة، فإنهم يصيرون إلى حالة أشر. فإن العاجزين عن معرفة كيفية الصراع ضد استفزازات خيالاتهم، إذ يتراخون في القانون الصارم، ويسمحوا لأنفسهم بالخروج من قلاليهم، يصيرون بما يحسبونه علاجًا في حالة أكثر مرضًا… هؤلاء يشبهون أناسًا يتخيلون أنهم قادرون على قمع الحُمَّى الداخلية بشربهم ماءً مثلجًا، وهم لا يدرون أنهم بهذا يُلهبون نيرانها بدلاً من إخمادها…
6- كيف يضبط الراهب أفكاره؟
يجدر بالراهب أن يوجه كل اهتمامه إلى جانب واحد، وأن يضبط كل أفكاره التي تثور فيه وتدور في ذهنه، موجهًا إياها إلى هذا الاتجاه، أي إلى تذكر الله. وذلك كما الإنجيلي لوقا كان إنسانًا يرغب في بناء قبوْ عالٍ على شكل قوس دائري يلزمه أن يرسم بدقة خطا دائريًا حول المركز… لأنه الإنجيلي لوقا حاول أن يُنفذ هذا العمل من غير أن يحدد مركز الدائرة فإنه مهما بلغت دقته ومهارته في فنه يستحيل عليه أن يحفظ محيط الدائرة بغير أن يخطئ أدنى خطأ…هكذا أيضا أذهاننا إن لم يَدُر العمل فيها حول حب الرب وحده كمركز ثابت لها غير متحرك، فإن أعمالنا وتقاليدنا – بسبب الظروف – تنحرف عن بالاستنارة السامية… هذا الحب، الذي بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء الروحي الذي مهندسه بولس مهما كانت المهارة ممتازة، ولا تستطيع أن تمتلك المنزل الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يقيمه للرب قائلاً: “يا ربُّ أحببتُ محلَّ بيتك وموضع مسكن مجدك” (مز8:26).
بدون الحب يقيم الإنسان في قلبه، بغير بصيرة، منزلاً غير جميل لا يليق بالروح القدس، ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب) إنما يسقط في الحال، وينهدم البناء في بؤس.
7- سؤال بخصوص ابتعاد الرهبان عن أقربائهم
جرمانيوس: حقًا إنه قانون نافع وضروري تقدمه بخصوص نوع الأعمال الواجب القيام بها في القلالي… لكن الأمر الغامض بالنسبة لنا هو: لماذا يلزمنا تجنب أقربائنا تجنبًا تامًا، إذ ترفض ذهابنا إليهم رفضًا باتًا، مع أننا نراكم هنا وأنتم بلا عيب تسلكون في كل طرق الكمال، ليس فقط ساكنون في بلدكم بل منكم من لم يخرج خارج قريته، فلماذا هذا الأمر لم يضركم؟
8 – إبراهيم
أحيانًا نرى أمورًا رديئة تُؤخذ من أمور صالحة، لأنه متى تمثل إنسان بآخر فقام بنفس فعله ولكن ليس بنفس الفكر ولا ذات الغاية أو بنفس الصلاح يسقط للحال في شباك الخداع والموت، خلال نفس الأمور التي بها ربح الآخرون ثمار الحياة الأبدية. ذلك مثل الصبي الذي حارب مع رجل الحرب الجبار (جليات)، فإذ لبس حلة شاول الحربية الثقيلة وجدها تتناسب مع الرجال وحدهم بينما تضر الشاب الغض. أليس بتمييز مملوء حكمة اختار الشاب السلاح المناسب مع صبوته، مسلحًا نفسه ضد عدوه الغبي لا بترس ولا درع كالآخرين، بل بالسلاح الذي يمكنه هو أن يستخدمه؟ لذلك يجدر بكل إنسان منا أن يأخذ في اعتباره قياس طاقاته حسب حدوده، حتى يختار النظام الذي يسره. لأنه وإن كانت كل الطرق صالحة، لكنها ليست كلها تناسب الجميع.
فإن كانت حياة النساك حسنة، فهذا لا يعنى أنها تناسب الكل. فإن كثيرين شعروا أنها غير نافعة لهم، بل ومضرة. ليس لأننا محقون في اختيارنا نظام الشركة… أن نعتبر أنه يلزم على كل أحد أن يسلك نفس الطريق. هكذا أيضًا الاهتمام بإضافة الغرباء أمر نافع جدًا، لكنه ليس لائقًا بالجميع… لهذا يجدر بنا أن نزن نظم هذه المنطقة ونقارن كل نظام بالآخر، ونقدّر قوة الناس من صنعهم للفضيلة أو الرذيلة بصورة دائمة… لأن ما هو صعب بالنسبة لإنسان من أُمَّة معينة قد يكون بالنسبة لأُمة أخرى عادة ألزمتهم بها الطبيعة.
مثال ذلك نجد بين الأمم اختلاف في الطقس، مما يجعل البعض يقدر على احتمال البرد القارس والحر اللافح دون أي غطاء يأوون تحته أجسادهم، بينما لا يحتمل غيرهم هذا الجو قط مهما كانت قوتهم… هكذا فإننا لو كنا نراكما متساويين في الفضيلة والمثابرة (مع الرهبان الساكنين في قراهم هنا) فإنه لا حاجة لنا أن نطلب منكم الانعزال عن اخوتكما وأقاربكما.
9- ولكي ما تستطيعا أن تقيسا قوتكما باختبار دقيق سأشير عليكما بما حدث مع ذلك الشيخ، أي الأب أبولوس، حتى إذا ما فحصتما قلبيكما سريًا وتقرران أنكما لستما أقل منه في هدفه وصلاحه، عندئذ يمكنكما أن تتجاسران وتبقيان في مدينتكما، وتعيشان بجوار أقربائكما من غير أن ينحرف هدفكما أو يصيبكما ضرر من هذا السلوك…
لقد جاءه أخوه يومًا مترجيًا إيَّاه أن يأتي معه بالقرب من ديره جدُا لكي يساعده في إنقاذ ثوره إذ سقط في بركة عميقة ولا يقدر أن ينتشله بمفرده. عندئذ أجابه الآب أبولوس بحزم قائلاً: “لماذا لم تسأل أخاك الأصغر الذي هو أقرب إليك مني؟ وإذ ظن الأخ أن الأب نسى موت أخيه الذي انتقل منذ زمن بعيد، ظانًا أنه بسبب كثرة زهده ونسكه الدائم ضعفت ذاكرته أجابه: “كيف أطلب ذلك من إنسان مات منذ خمسة عشر عامًا؟” سأله الآب أبولوس: “أما تعلم إنني أنا أيضا قد مُت عن العالم منذ عشرين عامًا، ولا أقدر أن أخرج من مقبرتي التي في قلايتي لكي أساعدك في أمور تخص شئون الحياة الحاضرة؟! إن المسيح لا يسمح لي، ولو إلى قليل، أن أتراخى في هدفي في الإماتة التي دخلت فيها، بأن أذهب لأخرج ثورك، هذا الذي لم يسمح لدفن والد ذاك الذي دُعي، ودفن الأب أليق من إخراج الثور!”
هكذا هل تبحثان أسرار صدريكما وتتأملان باهتمام إن كنتما تثابران على الدوام بهذه الدقة من جهة ارتباطكما بأقربائكما؟ فإن رأيتما أنكما تشبهانه في الإماتة، عندئذ يكون جواركما لأقربائكما وأخوتكما غير مضرّ لكما. أقصد أنه عندما تتمسكان بهذا فإنكما وإن اقتربتما منهم جدًا، تموتان عنهم بطريقة لا تسمحان فيها أن تساعدوهم (في الشئون الزمنية) ولا أن تعطلا عملكما بسببهم.
10- هل يقبل الراهب معونة أقربائه؟
جرمانيوس: …كيف يصيب نظامنا ضرر إن تحررنا من كل اهتمام خاص بهذه الحياة تاركين لأقربائنا أن يهيئوا لنا الطعام ونتفرغ نحن للقراءة والصلاة، حتى إذ نزيل عنا العمل الذي يشغلنا الآن نُكرس بأكثر غيرة للاهتمامات الروحية وحدها؟
11- إبراهيم:
إنني لا أقدم لك رأيي الخاص، إنما أذكر رأي الطوباوي أنطونيوس الذي أخزى به كسل راهب معين غلبه اللامبالاة… لأنه إذ جاءه إنسان وقال إن نظام النسك هذا غير كامل، معلنًا أنه يطلب للإنسان فضيلة أعظم، ممارسًا ما يخص الحياة الكاملة وحدها بطريقة أكثر مما يليق بالنسبة لسكان البرية، عندئذ سأله أنطونيوس المبارك عن مكان سكناه، وعندما قال له أنه ساكن مع أقربائه، مفتخرًا بمساعدتهم له متحررًا من كل اهتمام وعمل يومي، مكرسًا حياته للقراءة والصلاة بغير انقطاع من غير تشتيت روح، للحال قال له الطوباوي أنطونيوس: أخبرني يا صديقي العزيز، هل تحزن لأحزانهم ومصائبهم، وتفرح لأفراحهم؟ اعترف الرجل بأنه يساهم معهم في ذلك، عندئذ قال له الشيخ: “يلزمك أن تعرف أنك ستُدان في العالم الآتي عن الجماعة التي تعيش معها هكذا مشتركًا معهم في ربحهم وخسارتهم، فرحهم وحزنهم”.. وإذ لم يقتنع بهذا أردف الطوباوي أنطونيوس قائلاً: هذا النوع من الحياة وهذه اللامبالاة ليس فقط تدفع بك إلى الخسارة السابق ذكرها (ولو أنك لا تشعر بها الآن، كما جاء في سفر الأمثال: “ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 35:23)، وجاء في النبي: “أكل الغرباءُ ثروتهُ وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليهِ الشيب وهو لا يعرف” (هو 9:7)، وإنما أيضا يسحبون ذهنك بغير انقطاع نحو الأمور الزمنية، ويغيرونه حسب الظروف. كذلك إذ يقدمون ثمار أيديهم لك ويمدونك بالمئونة، بهذا يحرمونك من تنفيذ وصية الرسول المبارك لأنه عندما قدم آخر وصية لرؤساء كنيسة أفسس أكد لهم أنه بالرغم من مشغوليته بواجباته المقدسة الخاصة بالكرازة بالإنجيل إلا أنه كان يعمل من أجل احتياجاته واحتياجات الذين يعملون معه في الخدمة قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتهْا هاتان اليدَان” (أع 34:20). ولكي ترى كيف أنه فعل هذا كمثال لنا يقول في موضع آخر: “إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتَمثل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم… ليس أن لا سلطان لنا بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوةً حتى تتمثَّلوا بنا” (2 تس7:3،9).
12- أهمية العمل في حياة الراهب
بفضل الزهد في كل غنى نختار الحصول على قوتنا اليومي بعمل أيدينا دون أن نعتمد على غنى أقربائنا، لئلا نميل إلى التأمل في الكتاب المقدس مع كسل، فتصير قراءتنا عقيمة. لكن الأفضل أن يكون لنا الفقر العامل. حقا لو أن الرسل علمونا هذا بمثالهم أو رأينا هذا في قوانين آبائنا لكان هذا مبهجًا لنا.
هذا ويجدر بك أن تعلم أن هناك خطر آخر لا يقل عن السابق، وهو أنك تقتات بمعونة الغير وأنت سليم الجسد قوى البنية، وهذا لا يليق إلا بالضعفاء… لذا يلزم بالكل أن يعيشوا بالعمل اليومي الذي من أيديهم، ويجدر بنا أن نعود إلى وصية المحبة التي أوصانا بها الرسول الذي يمنع مساعدة الأغنياء للكسالى قائلاً: “فإننا أيضًا حينَ كُنَّا عندكم أوصيناكم بهذا أنهُ إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا” (2 تس 10:3).
هذه هي كلمات الطوباوي أنطونيوس التي نطق بها مع هذا الإنسان، وقد علمنا الطوباوي هذا بمثاله…
13- سبب آخر لعدم عودة الراهب إلى أهله
لكنك إذ تترجى أن تخلص آخرين أيضًا، وأنت شغوف بالعودة إلى مدينتك لنوال ربح أعظم، اسمع القصة التي رواها الأب مقاريوس…
كان في مدينة ما حلاق ماهر جدًا، اعتاد أن يحلق للفرد مقابل 3 فلسات، وفي آخر النهار يشتري حاجياته الضرورية، ويدخر الباقي. لكنه سمع أن أجرة الحلاق في بلد آخر أغلى بكثير فذهب هناك وكسب كثيرًا جدًا. لكن في آخر اليوم ذهب إلى الجزار دفع هناك كل ما كسبه لشراء اللحم من غير أن يتبقى له شيء… فقال في نفسه إنني أعود إلى مدينتي واكتفي بالمكسب المعتدل الذي يكفي حاجاتي، وأدخر الباقي لشيخوختي، لأنه وإن بدى قليلاً وزهيدًا لكنه بتجمعه معًا لا يصير مبلغًا هينًا… هكذا من الأفضل لنا أن نثابر على الدوام نحو هدفنا، مقتنين ربحًا معتدلاً في البرية حيث لا يوجد فيها اهتمامات عالية وارتباطات تشتت الفكر ولا كبرياء ولا مجد باطل وتكون الاهتمامات بالضرورات اليومية أقل… هذا خير من أن نطلب ربحًا عظيمًا خلال التحدث مع الآخرين حديثًا قيمًا للغاية، لكننا ننهمك في مطالب الحياة العلمانية المملوءة بالارتباطات اليومية. لأنه يقول سليمان: “حفنة راحة خير من حفنتَي تعب وقبض الريح” (جا6:4).
في هذه الحبائل يسقط الضعفاء… إذ بينما هم غير مبالين بخلاصهم، وفيما هم محتاجون تعليم الآخرين وإرشادهم، ينخدعون بحيل الشيطان تحت ستار إرشاد وحث الآخرين على التوبة. هكذا إذا ما حصلوا على ربح من حديثهم مع الآخرين يفقدون صبرهم في الأمور اللازم اقتنائها. وهكذا يصير لهم ما قاله حجي النبي: “زرعتم كثيرًا ودخَّلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأُون. والآخذ أجرةً يأخذ أجرةً لكيسٍ مثقوب” (حج 6:1). لأنه بالحقيقة الإنسان الذي يضع أجرته في كيس مثقوب يخسر كل ما بدا أنه قد ربحه من حديثه مع الآخرين، بسبب فقدانه لضبطه نفسه، ولارتباكه الذهني كل يوم. وتكون النتيجة أنه بينما يظن أنه يقدر أن يقتني ربحًا عظيمًا بتعليمه للغير، إذ به في الحقيقة يحرم نفسه من النمو، لأنه “يُوجَد مَن يتغانَى ولا شيءَ عندهُ ومَن يتفاقر وعندهُ غنًى جزيل”، “الحقير وله عبد خير من المتمجّد ويعوزهُ الخبز” (أم 7:13، 9:12).
14-17 أمراض النفس
سأل جرمانيوس عن حيل الشيطان في حربه معنا، فأجابه الأب إبراهيم أن المرض ولو أنه يصيب أجزاء مختلفة من جسمنا ويسمى بأسماء متغايرة إلا إنه هو مرض في كل الأحوال، هكذا يصوِّب الشيطان سهامه بطرق مختلفة إلى أجزاء متباينة من النفس (3 أجزاء)، وذلك حسبما يجد مكان ضعفنا… وقد هاجم العدو الرب يسوع في الجوانب الثلاثة كسائر البشر لكنه فشل. بهذه الروح توقع الشيطان أن يغلب الرب يسوع، مجربًا إياه في الثلاث نواحي الوجدانية التي للنفس، حيث يعلم أنه في هذا قد أُسرت البشرية كلها، لكن العدو لم يفلح بشباك مكره في شيء. فقد اقترب إلى الذهن من الجانب الذي يخضع للرغبات عندما قال له: “قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا” (مت3:4). واقترب إلى الجانب الخاص بالغضب عندما حاول أن يثيره ليطلب عظمة الحياة الزمنية وممالك هذا العالم (لأن محبتنا للعالم هي التي تثير الغضب). وأيضًا اقترب إلى الجانب الخاص بالإدراك عندما قال له: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنهُ يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك” (مت6:4).
في هذا لم تأت خداعاته بشيء، لأنه لم يجدفيه شيئًا فاسدًا كما كان يظن… لذلك لم يخضع أي جانب من الجوانب التي في نفسه للعدو عندما جربه، إذ قال: “لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس لهُ فيَّ شيء” (يو30:14).
22- استفسار عن القول: “حملي خفيف ونيري هيِّن”
جرمانيوس: إنك إذ تهبنا بنعمة الله علاجًا لكل الأوهام (الأضاليل) وحيل الشيطان التي تربكنا، شارحًا لنا ذلك بتعليمك، فإننا نسألك أن تشرح لنا هذه العبارة الواردة في الإنجيل: “لأن نيري هيِّن وحملي خفيف” (مت30:11)، لأنه يبدو حمله ثقيلاً ومضادًا لقول الرسول: “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهدون” (2تى12:3). فكيف يكون خفيفًا وهو مفعم بالاضطهادات التي لا يمكن أن تكون سهلة وخفيفة؟!…
23- إبراهيم:
يمكننا من خبراتنا أن نؤكد بسهولة أن قول مخلصنا حقيقي تمامًا، وذلك إذا ما اقتربنا من طريق الكمال كما يليق حسب إرادة المسيح، وبإماتة كل رغباتنا، ونزع كل الشهوات المضرَّة، دون أن نسمح لشيء ما من أمور هذا العالم أن يبقى فينا… وأن نعرف أننا لسنا سادة لأنفسنا بل بالحقيقة ننطق بكلمات الرسول القائل: “فأَحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” غلا 20:2).
لأنه أي شيء يكون ثقيلاً وصعبًا على من احتضن بكل قلبه نير المسيح، متأسسا على الاتضاع الحقيقي، مثبتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام، فرحًا بكل ما يصيبه قائلاً: “لذلك أسرُّ بالضعفات والشتائِم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قوىّ” (2كو10:12).
إنني أسأل: أية خسارة يمكن أن تصيب ذاك الذي يُسر بالزهد الكامل محتقرًا بإرادته، من أجل المسيح، كل مباهج هذا العالم، ناظرًا إلى كل ملذات هذا العالم كنفاية من أجل ربحه المسيح، متأملاً على الدوام في وصايا المسيح… “لأنهُ ماذا ينتفع الإنسان لو رَبِح العالم كلَّه وخسر نفسهُ؟! أو ماذا يُعطي الإنسان فداءً عن نفسهِ؟!” مت26:16؟! أية خسارة يمكن أن تضايق ذاك الذي يعرف أن كل ما يأخذه من الغير لا يمكن أن يبقى في ملكيته، معلنًا بجسارة لا تنهزم :“لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ” (1تي7:6)؟! أية احتياجات يمكن أن تهزم شجاعة ذاك الذي يعرف أنه يعمل من غير أن يقتنى “ذهبًا ولا فضَّةً ولا نحاسًا في مناطقكم. ولا مِزوَدًا للطريق ولا ثوبَين ولا أحذية ولا عصًا” (مت9:10،10)؟
كيف يمكن لأي جهاد أو أية وصية صعبة للآباء أن تقلق سلام ذاك الذي ليست له إرادة ذاتية، إنما بصبر، بل بفرح يقبل ما يأمرونه به، ويتمثل بمخلصه الذي يطلب إرادة الآب لا إرادته قائلاً: “ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت39:26)؟
أية مضايقات أو اضطهادات يمكن أن ترعب أو تنزع فرح ذاك الذي على الدوام يفرح مع الرسل عندما جلدوهم، مشتاقًا أن يُحسب أهلاً لأن يحتمل العار من أجل المسيح؟
24- ولكن الحقيقة أنه بالنسبة لنا يبدو كأن نير المسيح ليس هينًا ولا خفيفًا كقول غير المؤمنين، محاربين إيانا باعتراض غبي ضد وصية أو نصيحة القائل: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ كل (تخلى عن) أملاكك… وتعال اتبعني” (مت 21:19)، وهذا لأننا نحتفظ بمقتنيات هذا العالم.
إذن كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟ كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: “الشرير تأخذهُ آثامهُ وبحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم 22:5، حك 11: 16)؟
أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا اغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام… وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك، لأنه: “شوك وفخاخ في طريق الملتوي” (أم 5:22).
يقول الرب في موضع آخر بالنبي: “لأن شعبي قد نسيني… وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل” (إر 15:18). ويقول سليمان: “طريق الكسلان كسياج من شوك” (أم 19:15). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها نظرتنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها أنها أورشليم… (جا 15:10). بمعنى أنها “أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة” (غل 26:4).
أما الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب “وديع ومتواضع القلب” (مت 29:11)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له “كل الأشياءِ تعمل معًا للخير” (رو 28:8). فكما يقول النبي (ميخا) أن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7).
25- فائدة التجارب
في وسط التجربة ننال بواسطة الصراع نعمة المخلص المترفقة التي تهبنا مكافآت عظيمة… لأن علامة الفضيلة السهلة العظيمة هي أن تبقى غير مزعزعة عندما تحدق بها المضايقات والمحن، فتبقى في إيمان وشجاعة محتمية في حصون الله. وفي الهجوم تتسلح كما لو كانت مع جيوش الفضيلة التي لا تُقهر، فتنتصر على عدم الصبر، وتنال قوة أعظم لأن: “القوة في الضعف تكمل”. ويقول الرب: “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديدٍ وأسوار نحاس على كل الأرض… فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك” (إر18:1،19).
بحسب تعليم الروح الواضح نجد أن الطريق السماوي الملوكي سهل وبسيط حتى لو شعروا به صعبًا وعنيفًا، وذلك لأن الذي يخدمونه بتقوى وإيمان يحملون نير الرب ويتعلمون منه، ذاك الذي هو وديع ومتواضع القلب، وللحال يلقون عنهم طرق الشهوات الأرضية الصعبة، ولا يجدون تعبًا بل راحة لنفوسهم بواسطة عطية الرب. ويشهد الرب بنفسه على لسان ارميا النبي قائلاً: “قفوا على الطرق وانظروا واسأَلوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيهِ فتجدوا راحة لنفوسكم” (إر16:6). لأنه بالنسبة لهم “كل وطاءٍ يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً” (إش4:40) وبالتالي “ليس عوز لخائفيه (لمتَّقيهِ)” (مز9:34).
عندما يسمعون المسيح يعلن في الإنجيل: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”، للحال يلقون عنهم ثقل خطاياهم، ويتحققون ما قد جاء بعد ذلك: “لأن نيري هيّن وحملي خفيف” (مت 28:11،30).
إذن طريق الرب مريح لمن يحفظ وصيته. لكننا إذا كنا ببعض السهو المتعب نجلب لأنفسنا أحزانًا وأتعابًا فإننا نبذل جهدًا عظيمًا تابعين طريقًا معوجًا لحفظ وصايا العالم، وفي هذا الطريق نجعل نير المسيح ثقيلاً وحمله صعبًا، وذلك كقول العبارة: “حماقة الرجل تعوّج طريقهُ وعلى الرب يحنق قلبهُ” (أم 3:19). وإذ يقال “ليست طريق الرب مستوية” يجيب “أَطريقي هي غير مستوية أَليست طرقكم غير مستوية؟!” (حز 25:18).
في الحقيقة تستطيع أن تتبين كيف أن نير المسيح أسهل وحمله أخف جدًا إذا ما قارنت زهرة البتولية الحلوة العطرة الرائحة ونقاوة الطهارة بالنسبة لحمأة الشهوة الدنسة الكريهة الرائحة، وقارنت هدوء الرهبان وسكونهم وابتعادهم عن المخاطر والخسائر التي تشغل أذهان الناس في العالم باهتمامات الغنى واضطراباته القارضة المملوءة قلقًا…
26- هل يتحقق وعد الرب بالمائة ضعف في هذا العالم؟
بالأحرى إن جزاء المكافأة التي وعد بها الرب هو مائة ضعف في العالم بالنسبة للذين زهدهم كامل، إذ يقول: “وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو اخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعفٍ ويرث الحياة الأبدية” (مت 29:19). يتحقق هذا بحق وصدق، ولا يضطرب إيماننا لأن كثيرين استغلوا هذا النص كفرصة لبلبلة مفاهيم البعض قائلين بأن هذه الأمور (المائة ضعف) تتحقق جسديًا في الألف سنة[3]… لكن الأمر المعقول جدًا والواضح وضوحًا تامًا أن من يتبع المسيح تخف عنه الآلام العالمية والملذات الأرضية، متقبلاً اخوة وشركاء له في الحياة ارتبط بهم ارتباطًا روحيًا. فيقتني حتى في هذه الحياة حب أفضل مائة مرة عن (الحب الناتج عن الرباط الدموي). فبين الآباء والأبناء والاخوة والزوجات والأقارب يقوم الرباط على مجرد علاقات القربى، لذا فهو قصير الأمد وينحل بسهولة. أما الرهبان فيحتفظون بوحدة باقية في ألفة، ويملكون كل شيء في شركة عامة بينهم، فيرى كل إنسان أن ما لاخوته هو له، وما له هو لاخوته. فإذا ما قارنا نعمة الحب التي لنا هكذا بالنسبة للحب الذي يقوم على مجرد الرباطات الجسدية، بالتأكيد نجده أعذب وألذ مائة ضعف.
هكذا أيضا نقتني من العفة الزيجية (حيث ترتبط النفس بالرب يسوع كعريس لها) سعادة تسمو مئات المرات عن السعادة التي تتم خلال وحدة الجنس.
وعوض الفرح الذي يختبره الإنسان بملكيته حقل أو منزل، يتمتع ببهجة الغنى مئات المرات بكونه ابن لله يملك كل ما يخص الآب الأبدي واضعًا في قلبه وروحه مثال الابن الحقيقي القائل: “كلُّ ما للآب هو لي” (يو 15:16). إنه يربح لنفسه كل شيء، منصتًا كل يوم لإعلان الرسول: “كل مالي هوٍ لكم” (1 كو 22:3).
هكذا يتحقق لنا المائة ضعف عن طريق تقبلنا لأمور من نوع أعظم في القيمة… فلو أعطينا عوض وزن معين من النحاس أو الحديد أو أي معدن شائع وزنه ذهبًا، بهذا يكون قد رد لنا ما هو أكثر من مائة ضعف. وهكذا عوض المباهج المزدرية والعواطف الأرضية يُوهب لك فرح روحي وسعادة الحب الثمين للغاية، ولو بنفس الكمية، لكنه أفضل منها مائة ضعف وأكثر.
لكي ما أوضح هذا بمثال أقول: قد كان لي زوجة من أجل إشباع عاطفة شهوانية، والآن صارت لي في تقديس مبارك وحب المسيح الحقيقي. فالمرأة كما هي واحدة، لكن محبتي لها قد تضاعفت مائة مرة من حيث النوع.
وإذا ما استبدلت الغضب المثير والحنق بالوداعة الدائمة والصبر، وعوض الإجهاد المقلق والتعب أخذت السلام والتحرر من الاهتمام، وعوض الاضطراب الأرضي العقيم نلت ثمار الحزن المبارك، وعوض بطلان الفرح الزمني أخذت غنى المباهج الروحية، أما ترى أنك بذلك تكون قد كوفئت عن المشاعر التي تتركها بمائة ضعف؟!… وإذا ما استبدلنا لذة الخطية الوقتية الزائلة ببركات الفضائل المضادة، فإننا نكون قد نلنا مباهج أفضل مائة ضعف…
الآن لنترك التأمل في طبيعة الأمور التي يعوضنا بها المسيح في هذا العالم مقابل احتقارنا الربح الزمني، خصوصًا ما ورد في إنجيل مرقس القائل: “الحقَّ أقول لكم ليس أحد ترك بيتًا أو اخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مائة ضعفٍ الآن في هذا الزمان بيوتًا واخوةً وأخواتٍ وأمهاتٍ وأولادًا وحقولاً مع اضطهاداتٍ وفي الدهر الآتي الحياة الأبديَّة” (مر29:10،30). لأن ذاك الذي من أجل اسم المسيح يزدري بمحبة أب أو أم أو طفل ويسلم نفسه للحب النقي لكل الذين يخدمون المسيح، فإنه ينال مائة ضعف من الاخوة الأقرباء، ويصير له آباء كثيرون، ويرتبط برباط أخوة أشد حرارة في حب عجيب. ويغتني بأملاك كثيرة فتصير كأن كل الأديرة له، أينما ذهب في العالم يجد له مكانًا… في نفس الوقت لا يختطف ملكوت السموات من كان كسلانًا أو مهملاً أو مترفًا أو مدللاً إنما يختطفه الغاصبون. ومن هم الغاصبون؟ هم بالتأكيد الذين لا يقسون على الآخرين بل على أنفسهم، نازعين عنهم مباهج الحياة الحاضرة بقوة ممدوحة، معلنين بنعمة الرب أنهم غاصبون ممتازون، وبهذا يسرقون ملكوت السماوات بقوة، إذ يقول الرب: “ملكوت السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونهُ” (مت 12:11).
هؤلاء بالتأكيد يستحقون المديح كغاصبين يغتصبون العنف لهلاك ذواتهم… أو بالتأكيد “هلاك تنفيذ شهواتهم ورغباتهم”. وذلك لما كان الإنسان يسحب هذه الشهوات والرغبات ويميتها، فإنه يبث عنفه لأجل هلاكه، أي هلاك لذاته ورغباته التي تنتهرها الكلمة الإلهية بالنبي قائلة: “ها إنكم في يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تسخرون… إن رددت عن السبت رجلك عن عمل مسرتك” (إش 3:58،13). وقد أضاف النبي التطويب الموعود به لمن يترك مسرته ويمسك بمسرة الرب قائلاً: “فإنك حينئذٍ تتلذَّذ بالرب وأُركبك على مرتفعات الأرض وأُطعمك ميراث يعقوب أبيك لأن فم الرب تكلم” (إش 14:58).
يعطينا ربنا ومخلصنا نفسه مثالاً لنزع إرادتنا قائلاً: “لأني قد نزلت… ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني” (يو38:6). يظهر هذا النوع الجيد من ترك الإرادة في حياة السالكين في نظام الشركة تحت قيادة الآباء، حيث لا يصنعون شيئًا بغير مشورة الأب…
بمثل هذه العبارات ناقش الأب إبراهيم أصل الخداعات المملوءة مكرًا التي يقترحها الشيطان علينا، ملهبًا فينا الشوق نحو الإماتة الحقيقية، حيث نرجو أن نرى كثيرين أيضا يلتهبون بهذا، ولو أننا كتبنا هذه الأمور في صورة مختصرة…
ملخص المبادئ
– ينبغي على الراهب أن يموت عن علاقات القرابة البشرية ليحب البشرية كلها في الرب يسوع.
– يجدر بالراهب ألا ينشغل بالأعمال الكثيرة، وفي نفس الوقت لا يعتمد على أقربائه أو غيرهم في المئونة الضرورية له، لأن من لا يعمل لا يأكل.
– لا يجوز علاج القلق وغيره من الأمراض الروحية بطرق خارجية كالهروب من القلاية والانشغال بالعمل المادي.
– حمل المسيح الخفيف ونيره هين بالنسبة لمن تأسس على حياة الاتضاع الحقيقي، مثبتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام.
– خطايانا هي التي جعلت حمل المسيح بالنسبة لنا ثقيلاً لا يُحتمل.
– الله يرد لنا كل ما نتركه مائة ضعف في العالم وحياة أبدية في الدهر الآتي.
________________________________________
[1] أي الذين هم في مناصب كبيرة ويودوا أن يقدموا للرهبان خدمات لأجل راحتهم… فانه لا يليق بالرهبان أن يتكلوا عليهم في كسل.
[2] المؤسسات 24:10.
[3] للأسف يفسر البعض الألف سنة، على أن السيد المسيح سيملك ألف سنة مع المؤمنين على الأرض، وهذا يخالف روح المسيح، لكن المسيح حاليًا يملك على قلوبنا ملكًا روحيًا.
No Result
View All Result
Discussion about this post