العُبور إلى الرَّجاء
Varcare la Soglia della Speranza
البابا يوحنا بولس الثاني
مَنشورات اللجنة الأسقفيَّة لوسَائل الإعلام
مقدمة
نشأة هذا الكتاب
أكنّ احتراماً خاصّاً لزملائي كتّاباً ومخرجين في الصحافة المتلفزة، لذلك كنت دائماً أرفض التطاول على ميدانهم، على الرغم من المحاولات المغرية. ويبدو لي، في الواقع، أنّ الكلمة، وهي المّادة الأولى في عملنا، ليس لها، على موج الأثير، الحضور والأثر اللذان تتمتّع بهما في الصحافة المكتوبة. وعلى الصعيد الشخصيّ، لم أسلك سوى سبيل التحرير في الصحف ودور النشر. إذ إنّ استديوهات التلفزيون بقيت غريبة عليّ.
إذاً، كما كانت دهشتي كبيرة عندما تسلّمت مكالمة من المدير العام للمحطة الأولى في التلفزيون الإيطالي (1)، في يوم من أيّام أيار 1993. فقد كنت في مكتبي أعيد النظر في بحث فرغت منه، وأتهيّأ للشروع في بحث جديد. كنت أشعر بالامتنان لمن سهّل أمامي سبيل مواجهة هذه المشاغل كلّها، في سكون وحدتي، داخل ملاذي المطلّ على بحيرة “لاغارد”. بعيداً عن كلّ مراكز السلطات السياسيّة والفكريّة وحتّى الدينيّة. وقد حضرتني جملة لشيشرون يقول فيها: “هل يمكن أن تحظى بأمنية أفضل من أن تكون لديك مكتبة مطلّة على حديقة صغيرة؟”. فالذي أعتقده أنّ جاك مارتان، صاحب المنزلة المرموقة عند البابا بولس السادس، كان يجد لذّةً في نصح أولئك الذين يرغبون في الاستمرار بمحبّة الكثلكة والدفاع عنها، بألاّ يتردّدوا إلى أوساط كاثوليكيّة معيّنة بسوى مقدار معيّن وضمن نطاق محدود.
وها هو المدير العام للمحطّة الأولى يقتحم عزلتي، في ذلك اليوم من أيّام الربيع الجميلة، ويعلمني أنّني، بعد قليل، سأتسّلم عرضاً لا يمكن أن أرفضه هذه المرّة. وفي الأيام التالية وصلتني، بالفعل، مكالمات أخرى من روما، فكان القلق يكبر مع نموّ المشروع الذي بدأت تتّضح ملامحه.
في تشرين الأوّل من العام 1993 كان البابا يوحّنا بولس الثاني يحيي ذكرى مرور خمس عشرة سنة على اعتلائه السدّة. وفي هذه المناسبة سمح بإجراء مقابلة تلفيزيونية مع المحطّة الأولى. إنّ هذا العمل يُعتَبر خطوة رائدة في تاريخ البابويّة، لأنّ أحداً من خلفاء القديس بطرس لم يظهر أمام آلات التصوير والتسجيل ليجيب عن أسئلة تُرِك اختيارها لمبادرة حرّة من قِبل صحافيّ. وبعدما حُصِر البثّ بالمحطّة الأوّلى، ليلة الذكرى، عُرِضتْ تلك المقابلة في كبريات المحطّات العالميّة. وما أراه هو أنّ كتاباتي قدّمت من الفوائد ما جعل القيّمين يعهدون إليَّ مهمّة إجراء مقابلة مع قداسته. فالواقع أن مقالاتي وكتبي تضطلع بمواضيع دينيّة أعتمد فيها صراحة العلمانيّ وحرّيّته، مع المحافظة، في الوقت نفسه، على حرص المؤمن الذي يقتنع بأنّ الكنيسة لم يُؤتمن عليها رجال الدين وحدهم، وإنّما كل معمّد أيضاً.
صدر، في العام 1985، بياني حول الإيمان، فلفت الانتباه، وأثار حرباً كلاميّة. ولكنّ النجاح الرعويّ جاء مؤكّداً، وكان الأثر الإيجابيّ حاسماً داخل الكنيسة. فطبع البيان عدّة مرّات، ونُقلَ إلى لغات مختلفة. وقد جمع هذا الكتاب مقابلات متعدّدة أجريت مع أقرب مساعدي البابا، هو الكاردينال جوزف راتزينغر مدير “مجمع العقيدة والإيمان”. وكان العمل خطة أولى. فأسرار هذا المجمع، ومحكمة التفتيش القديمة التي كانت أسطورة مناوأة الإكليروس توجّه إليها اللوم على اعتماد السكوت والتكتّم، كُشِفَ عنها النقاب أخيراً.
وبالعودة إلى ربيع 1993 نقول: إنّ تحضيرات مقابلة الحبر الأعظم كانت تتلاحق بكتمان. فقد قابلته في فصل الصيف، في “كاستل غوندولفو”، مع الاحترام المقرون بصراحة فاجأت البعض (ولم تفاجئ مضيفي الذي أعجب ببساطتي البنويّة). وهناك توافر لي إمكان عرض العناصر التي وجّهتني في تحضير أولى لوائح الأسئلة. فقد كانت التعليمات: إعمل بما تراه مرضياً.
ما كان غير متوقع:
من دواعي الأسف أنّ البابا لم يُقم حساباً لكثافة التزاماته، في شهر أيلول الذي كان، كذلك، موعداً أخيراً لإنهاء التسجيل و”مونتاج” النشرة، قبل الانتقال إلى البثّ. فجدول أعمال قداسته، لذلك الشهر، ملأ ستّاً وثلاثين صفحة مطبوعة، منها زيارة أبرشيّتين إيطاليّتين (أريزو وأستي)، ولقاء رسميّ مع أمبراطور اليابان. ومنها زيارة ليتوانيا وأستونيا، من الاتّحاد السوفياتيّ سابقاً، وهي الأولى التي يقوم بها حبر أعظم، مع ضرورة التحضير للاطّلاع على أوليّات لغات صعبة. ونشير، هنا، إلى أنّ غيرته الرعويّة، ورغبته كانتا تفرضان أن يُسمِعَ شعوب العالم قراءته الإنجيل بلغاتها.
كان من المستحيل، إذا، أن نضيف إلى اللقاءين الأوّلين: الياباني والبلطيقي، لقاءً متلفزاً. بخاصّة أنّ يوحنّا بولس الثاني كان قد قَبِلَ بأربع ساعات تصوير، يختار منها المخرج أفضل المقاطع من أجل بثّ يدوم ساعة. فضلاً عن ذلك، ينبغي أن تُصوَّر هذه اللقاءَات في كتاب يبيّن الخطّة الرعويّة والتعليميّة التي كرّس البابا نفسه من أجلها. ولكن المؤسف أنّ ضرورات البرنامج اقتضت غير ذلك.
رجعت، إذاً، إلى سكينة مكتبي حيث تسنّى لي التفكير بالمواضيع التي تمنّيت معالجتها مع قداسة البابا، لو ساعدتني الإمكانات في ذلك. وكان رسم “بليز باسكال” يتصدّر مكتبي، فتذكّرت قوله: “أمر واحد يكمن وراء شقاء البشر كلّه ألا وهو عدم معرفة البقاء بهدوء وسكينة داخل غرفة” (2).
بعدما ألفيتني متورّطا في هذا المشروع، على ما يثيره من حماسة، رأيتني أمام تساؤلات جدّية. وسألت نفسي أوّلاً، كوني مؤمناً، عمّا إذا كانت اللقاءات المتلفزة التي يمنحها البابا أمراً مستحباً؟ فهو على الرغم من نبل نواياه، سيجد نفسه منجذباً بالآليّة الضاغطة للنظام التوافقيّ. أليس من المجازفة أن يختلط صوته بالضجيج الخاوي لعالم أصبح فيه كلّ شيء مُبتذلاً، وعرضاً مسرحيّاً، وآراء متناقضة، وما تبقّى يتضّمن كلاماً لا حدّ له؟ ألا يمكن أن يهمل الحبر الأعظم هذا “النحن” الاحتفاليّ الذي من خلاله يتردّد صوت السرّ الألفيّ للكنيسة، لكي ينعطف إلى نوع أصغر من المقابلات، وإلى بساطة عبارة “في رأيي؟”. الحقيقة تقال إنّه كانت لديّ رغبة في إيصال هذه الهواجس إلى يوحنا بولس الثاني نفسه.
فضلاً عن هذه الأسئلة الأساسيّة، تساءلت عمّا إذا كانت كفاءاتي المُكتَسَبة في حقل الإعلام الكنسيّ تبدو كافية للتعويض عن عدم خبرتي في الحقل التلفزيونيّ، ولا سيّما في بثّ مثل هذا الحجم.
كلّ ما يمكن قوله هو أنّ خطّة “خمس عشرة سنة من الحبريّة في التلفزيون” قد لا تنجح. وما يمكن أن يُفترض هو أنّه، بعد انتهاء الذكرى، لن يتحدّث عنها أحد، ولن يبقى أمامي سوى أن ألاحق كما في الماضي، تصريحات أسقف روما عبر صحيفة الفاتيكان الرسميّة (3).
مفاجأة:
مضت أشهر قليلة قبل أن أتلقّى مكالمة من الفاتيكان إذ اتّصل بي يواكيم نافارو – فولز، مدير المكتب الصحافيّ للكرسي الرسوليّ، وكان أكثر أنصار اللقاء المتلفز حماسةً. وقد بلّغني رسالة فيها بعض المفاجأة لنفارو نفسه، فقد قال لي قداسته: “على الرغم من أنّ الفرصة لم تُتَح للإجابة مباشرةً عن أسئلتك، فقد احتفظت بها على مكتبي، ولقيَتْ عندي الاهتمام. ولا أعتقد أنّها من النوع الذي يُرمي في سلّة المهملات. فكّرت فيها، وبدأت بالردّ عليها كتابةً رغم ضيق الوقت الذي بتصرّفي. لقد وضعتَ أسئلةً التُمِسَتْ منك، وهذا يضعك أمام حقّ انتظار الأجوبة… أنا أعمل عليها، وسأرسلها إليك، وستتصرف من ثمّ بالطريقة التي تراها مناسبة.
مرّة جديدة، أثبت يوحنّا بولس الثاني ما عُرِفَ عنه من أنّه صاحب المفاجآت، وهذا ما اشتهر به، ورافقه منذ انتخابه.
وفي نهاية شهر نيسان 1994 قدّم يواكيم نافارو – فولز مخطوطة قداسة البابا. ومن أجل التعبير عن العاطفة التي هزّته، لدى كتابة هذه الصفحات، وضع قداسته إشارات واضحة أمام بعض المقاطع.
أمّا عنوان الكتاب فقد وضعه قداسة البابا بنفسه على الملفّ الحاوي أجوبته، وأوضح أنّ ذلك مجردّ اقتراح. وهو يترك للناشر حرّيّة التعديل. فقرّرنا أن نترك العنوان كما هو، ذلك أنّه، في رأينا، يختصر، تماماً، حرص البابا على ما يودّ قوله لإنسان اليوم.
إنّ احترام النصّ الذي تبرز قيمته في كلّ كلمة جعلني أحمله إلى الطباعة. وقد اقتصر عملي على ترجمة التعابير اللاتينيّة بين قوسين، وتصحيح علامات الوقف التي وضعت بتسرّع أحياناً، وإكمال أسماء الأشخاص، واقتراح مرادفات لكلمات تكرّرت في جملة واحدة. كما عمدت إلى توضيح غموض بعض الترجمات اللاتينيّة عن المخطوطة البولونيّة. فاقتصر عملي، إذاً، على تفاصيل لم تُجرِ على المضمون أيّ تغيير.
كان في أساس عملي إدراج أسئلة جديدة في أماكن معيّنة. فلائحة الأسئلة التي أوصلتها إلى يوحنّا بولس الثاني، والتي أجاب عنها بعناية مدهشة، حَوت عشرين سؤالاً، طرحتها كلّها بمفردي، من دون أن يدخلها أيّ تعديل أو تبديل من قِبَل قداسته.
وكان عدد كبير من الأسئلة قد جهّز لمقابلة تلفزيونيّة، وجاء بعضها طويلاً شاملاً. فاستطاع البابا تناولها متصدّياً لمسائل أخرى متنوعّة. ففي لائحتي الأساسيّة لم أشِر إلى الشباب، ولكنّه مع ذلك، وبدافع من التفكير الدائم بهم، حرص على أن يوجّه إليهم صفحات هي، على ما أرى، من أجمل ما وُضِعَ، وقد استحضر فيها خبرته الشخصيّة عندما كان بعدُ، كاهناً شاباً يعمل في خدمة شباب وطنه.
من أجل مساعدة القرّاء على التوجّه مباشرة نحو المسألة التي تفيدهم، أعطيت عنواناً لكلّ سؤال من الأسئلة التي انتهيت إليها، لكنّني أقترح أن يُقرأ هذا النصّ “الكاثوليكي” كاملاً، وبالمعنى الحصريّ للّفظة. ففيه يندمج كلّ شيء بشكل محكم، ومن منظور أساسيّ. هذا العنوان ليس سوى استدلال تقريبيّ، لأنّ البابا أدخل، هنا وهناك، استطرادات غير متوقّعة حول مواضيع متنوّعة. ويمكن أن نميّز تعابير انفعاليّة توحي بخطاب محصور ضمن الإطار الضيّق لاستقامة المعتقد الكاثوليكيّ، على الرغم من الانفتاح البارز في الخطّ الذي كان قد رُسِمَ في المجمع الأخير.
لقد أعاد المؤلّف قراءة الكتاب، وأعطى الموافقة. وانطلاقاً من الأصل الذي كان قد أضحى جاهزاً تحقّقت الترجمات التي ظهرت تباعاً في لغات العالم الكبرى. لقد حرصنا على أن نوضح للقارئ أنّ الصوت الذي يتردّد هنا، بما فيه من حنان، وما فيه من سلطان أيضاً، هو الصوت الأصيل، لخليفة القدّيس بطرس.
انطلاقاً من هذا الاتّجاه يبدو لي أنّ من المفضّل التحدّث عن كتاب وضعه البابا لا عن مقابلة معه، على الرغم من أنّ مجموعة من الأسئلة كانت في أساس هذا العمل، ويتعيّن على اللاهوتييّن ومفسّري التعاليم الحبريّة أن يصنّفوا هذه الوثيقة التي لم يسبق لها مثيل، والتي تقترح على الكنيسة وجهات نظر جديدة.
لقد اقترح عليّ بعضهم، خلال عملّية طبع الكتاب المنوطة بي، أن أضاعف مداخلاتي فأعطي تعليقات وشروحات، وملحوظات وشواهد من رسائل البابا وخطبه. إلاّ أنّني آثرت الحذر والاكتفاء بهذه المقدّمة التي تروي كيفيّة ولادة هذا الكتاب، فلم أشأ، بمداخلات غير مناسبة، أن أُثقّل الحدث المهم، والعمل المدهش، والغنى اللاّهوتيّ الذي تمتاز به رسالة يوحنّا بولس الثاني.
لا شكّ في أنّ هذه الصفحات تكتفي بذاتها، وهي لا تهدف إلاّ إلى غاية دينية، ولا تقصد، عبر النوع الأدبيّ لهذه المقابلة، إلاّ أن تبيّن كيف أنّ خليفة بطرس يكمل رسالته كمرشد للإيمان، وكرسول للإنجيل، وكوالد وأخ عالميّ في الوقت نفسه. فالكاثوليك وحدهم يرون فيه ممثّلاً للمسيح، ولكنّه، كشاهد أوّل للحقيقة ورسول للمحبّة، يصل صوته إلى كلّ إنسان. وهذا ما يثبته الاحترام الذي لا جدل فيه، والذي يتمتّع به الكرسيّ البابويّ على المسرح العالميّ. فما من شعب نال حرّيته أو استقلاله، إلاّ وقرّر إرسال ممثّل عنه لدى كرسي بطرس. وهذا العمل، قبل أيّ اعتبار سياسيّ، يلبّي الحاجة إلى شرعيّة “روحيّة” وضرورة “أخلاقيّة”.
مسألة إيمان:
في مجال إعداد الأسئلة، عمدت إلى إبعاد المواضيع السياسيّة والاجتماعيّة، وحتّى الكهنوتيّة، وتلك التي تتعلّق بالبيروقراطيّة الكنسيّة، والتي تشكّل، غالباً، مجموع ما يتعلّق بالإعلام الدينيّ.
ليُسمح لي، هنا، بعرض بعض المقاطع من مطالعة حافزة وضعها الرجل الذي قادني إلى هذا المشروع: “يجب ألاّ تكون هذه المقابلة التلفزيونية الاستثنائية محصورة ضمن الأسئلة العاديّة التي تقع عليها في الحوار الفاتيكانيّ. فمسألة الإيمان تأتي قبل الفاتيكان كدولة، وقبل الخطب العاديّة التي تتناول خيارات الكنيسة، وحتّى قبل المسائل الأخلاقيّة.
“فالإيمان، بما له من يقين ومن مناطق ظلّ، يعيش أزمات تهدّده، وذلك في مجتمعات تحذر منه ولا ترى فيه إلاّ مجالاً للتحريض والتعصّب وعدم التسامح. هذا الإيمان يؤكّد أنّ هناك أموراً أخرى لا علاقة لها بالمواقف والآراء البسيطة، هناك الحقيقة بحروفها البارزة. فلنُفد، إذاً، من استعداد الأب الأقدس للبحث في “أسس الإيمان”، فهو موضوع غالباً ما تهمله الكنيسة نفسها.
“قلّ ما تعنينا معرفة ما إذا كانت السياسة التي ينتهجها الفاتيكان محافظة أو تقدّميّة. وقلّ ما يعنينا شخص البابا الذي يرغب كثيرون في رؤيته وقد تحوّل دوره إلى رئيس لوكالة عالميّة في علم الأخلاق، أو علم البيئة، أو إلى داعية للسلام. وقلّ ما يهمّنا بابا يكون ضمانة للعقيدة الجديدة للسياسة السليمة (وهي خانقة أكثر ممّا يُظَنّ بالكاثوليك)، بابا لا عمل له سوى المحافظة على الأعراف والامتثال لها، لا، إنّ ما يهمّ هو أن نزن متانة الإيمان في الكنيسة، في كنيسة لا تجد شرعيّتها إلاّ في حتميّة قيامة المسيح.
“ينبغي، إذاً، في بداية اللقاء، أن نوضح التحدّي “الصريح” الذي يمثلّه البابا، بالصفة التي يحملها، لا لكونه واحداً من كبار الأرض، وإنّما، قبل ذلك، لكونه الرجل الوحيد الذي يعترف به الآخرون كصاحب الصلة المباشرة مع الله، ولكونه الذراع اليمنى ليسوع المسيح، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.
“من أجل تفصيل هذه الفكرة، أرى ضرورة مناقشة موضوع كهنوت المرأة، والقضيّة الوعويّة بشأن اللواطيّين، والمطلّقين، واستراتجيّة الفاتيكان الجغرافيّة – السياسيّة، واختيار المؤمنين السياسيّ الاجتماعيّ، ومشاكل البيئة، وتزايد السكّان، ومسائل أخرى كثيرة. إنّما ينبغي، قبل ذلك، وضع تراتبيّة صحيحة لكلّ من هذه الخصائص (وهي اليوم معكوسة، حتّى في الأوساط الكاثوليكيّة). يجب الشروع بهذا السؤال البسيط والمخيف حقاً: إنّ ما يؤمن به الكاثوليك هو ما يكون البابا ضمانته الكبرى. أصحيح هذا أم غير صحيح؟ ما رأيكم بقانون الإيمان؟ هل نملك، فعلاً، خلاصة وحيدة للإيمان أم أنّ لدينا تقليداً ثقافياً بين سائر التقاليد التي تجاوزها الزمن؟
“لا أرى أيّ جدوى في طرح أسئلة أخلاقيّة (بدءاً باستعمال الواقي الذكريّ، وانتهاءً بالموت دون ألم) قبل مواجهةٍ مباشرةٍ لمسألة راهنة هي صدق الإيمان. فإذا لم يكن يسوع هو المسيح المنتظر والذي بشّر به الأنبياء، فأيّ فائدة يمكن أن نجد في المسيحيّة ومتطلّباتها الاخلاقيّة؟ أيبقى لفكرة “نائب المسيح” أهميّة ما، عندنا، إذا لم نعد نؤمن بأنّ المسيح قد قام، وأنّه، بمؤازرة البابا، يقود كنيسته إلى أن تدخل في المجد؟
بهدف أن يعلن، بطريقة جديدة، الكرازة (Le Kérygme) ، الرسالة المكثّفة، بل شبه الجافّة، التي يرتكز عليها الإيمان المسيحيّ: “يسوع هو الربّ، وهو وحده مخلّص البشريّة، اليوم كما الأمس، وغداً وعلى الدوام”.
لا شكّ في أنّ البابا يعي عدم كفاية الوسائل التي يمتلكها عادة. وهو يحاول، بأساليب مختلفة، أن يعلن للناس البشرى السّارة، وأن يؤكّد للجميع أنّ الرجاء قائم ومتوافر لكلّ الذين يرغبون في الحصول عليه. لذلك يردّد البابا كلام القديس بولس، في رسالته الأولى إلى إلى أهل قورنثية: “صرت للضعفاء ضعيفاً لأربح الضعفاء، صرت للناس كلّهم كلّ شيء لأخلص بعضهم مهما يكن الأمر، وأفعل هذا كله في سبيل البشارة لأشكرك فيها” (4).
من هذا المنظور يتلاشى كلّ وهم، وتتحوّل العقيدة لحماً ودماً وحياة، ويصبح اللاهوتيّ شاهداً وراعياً. إنّ الصفحات التي تلي قد تولّدت من هذا “الاندفاع الكرازي”، من هذا البلاغ الأصليّ، ومن هذه الإرادة “لتبشير جديد”، وسيفهم القارئ أن لا جدوى من إضافة تعليقات إلى نصّ يفيض معاني، حتّى ليبدو، أحياناً، أنّه محمول بالانفعال والحماسة. أجل، إنّه انفعال الإقناع الذي ينبغي أن يكون علامة مميّزة لكلّ مسيحيّ، كما يقول “باسكال”، وهو الذي يحرّك، بالعمق، “خادم خدّام الله”.
ليس إله يسوع المسيح موجوداً فحسب، في نظر الآب الأقدس، بل هو محبّة قبل كلّ شيء. وهو ليس المهندس العظيم الهادئ، ولا هو العقل الصافي الذي كشفه الوحي المنير، أو التفكير الفلسفيّ. ففي هذا الكتاب لا يكلّ الحبر الأعظم عن تكرار عبارته لكلّ إنسان: “إعلم جيّداً، أيّاً كنت، أنّك محبوب، وتذكّر أنّ الإنجيل هو دعوة إلى الفرح. ولا تنسَ أنّ لك أباً، وأنّ كلّ حياة، حتّى تلك التي تبدو تافهة، لها قيمة باقية خالدة”.
أسرَّ إليّ أحد اللاهوتيّين الكبار، وهو من القلائل الذين قرأوا الكتاب، قبل نشره، فقال: “نكتشف رحابة العالم الدينيّ والفكريّ لدى يوحنّا بولس الثاني في هذا الكتاب، فهو مفتاح شرح كلّ عقيدته المعروضة في هذه الصفحات”.
ويتابع هذا اللاهوتيّ فيقول: “لن يتوقّف الأمر على المعلّقين والشرّاح، في أيّامنا، وإنّما ينبغي أن يكبّ مؤرخو الغد على هذا البحث ليفهموا ما أنجزه البابا البولونيّ. فقد كتبه دفعة واحدة، بنشاط وعفويّة جعلا بعض المتوّرعين ينعتونهما، من غير تردّد، بالتهوّر المفرط. فالكتاب يدخلنا إلى صميم قلب هذا الرجل الذي ندين له بمقدار كبير من الرسائل البابويّة والرعويّة والخطب الرسميّة. فهو إذاً، وثيقة لزمننا الحاضر وللتاريخ”.
ولقد باح لي أحد مساعدي قداسة البابا أنّ قداسته يعطي نفسه الوقت الكافي ليدوّن مواعظه، فيختار تعابيرها لفظة لفظة مهما بلغ تقدير عدد المؤنين. ذلك أنّ شرح كلمة الله هو، من وجهة نظر البابا، جوهريّ في رسالة الكاهن، تماماًَ كمهمّة سرّ القربان المقدّس، وكالرجوع إلى أحضان الكنيسة.
وإننا لنقع، في هذا الكتاب على همٍّ للتبشير دائم. فهو، نوعاً ما، “الأب كارول” نفسه (اسم البابا) كاهن العالم. كما يجد القارئ في هذا المؤلَّف بَوحاً بخصوصيات يتذكر فيها البابا، بحياء صادق، مراحل مهمّة من طفولته وشبابه في بولونيا. ويقع على ملاحظات وإرشادات روحيّة، وتأمّلات صوفيّة، ونظريّات لاهوتيّة وفلسفيّة.
وإذا ما حظيت هذه الأجوبة كلّها بقراءة واعية (يكتشف المتأمّل بها وراء المظهر التربويّ الأليف عمقاً مدهشاً) فإنّ بعض المقاطع، التي تمتاز بكثافة خاصّة، تحتاج تالياً إلى أن تُقرَأ عدّة مرّات باهتمام أكبر. وانطلاقاً من خبرتي الأكيدة، كقارئ أوّل، أحرص على أن أؤكّد أنّ هذه الصفحات تستحقّ هذا الاهتمام دون جدال، فإنّ إحاطة الموضوع، بهذا الشكل، لا يمكن إلاّ أن تؤدّي إلى نتائج مرضية.
نلاحظ، من ناحية أخرى، أنّ الانفتاح الأكبر (كتعليقاته الجريئة حول وحدة الكنيسة والعقائد الأخرويّة) يترافق دائماً مع أمانة كبرى للتقليد. وهاجس الانفتاح الرعوّي لا يفسح في مجال التساؤل حول الهويّة الكاثوليكيّة التي يُعتَبر يوحنّا بولس الثاني ضمانتها أمام المسيح “لأنه ما من اسم آخر تحت السماء أطلق على أحد الناس ننال به الخلاص” (5).
في العام 1982 نشر “أندريه فروسّار” تقريراً عن محادثاته مع البابا بعنوان “لا تخافوا” (6) مردّداً، هكذا، الكلمات التي افتتح بها يوحنّا بولس الثاني حبريّته. ويُعتبر كتابه مرجعاً لا غنى من أجل فهم سنوات “كارول فوجتيلا” الأولى على كرسيّ بطرس. وتشهد الصفحات المتتالية على خبرته الغنيّة، بعد خمس عشرة سنة من الحبريّة. ففيها نجد آثار أحداث كبرى حاسمة في حياته (يكفي التفكير بسقوط الماركسيّة)، في حياة الكنيسة وفي العالم. إلاّ أنّ ما بقي ثابتاً عنده هو العزم الذي يبديه في تحضير إطلالة الألف الثالث للمسيحيّة. فهو يواجه المستقبل بحماسة وثقة رجل بلغ منتصف العمر.
خدمة بطرس:
إن كلّ الذين ارتابوا، داخل الكنيسة وخارجها، بهذا البابا “الآتي من بعيد” ذي “النوايا الإصلاحيّة”، لا يمكنهم، بعد قراءة هذا البحث، إلاّ أن يعيدوا النظر بحكمهم، على ما أعتقد. فالواقع أنّ هذا الكتاب، يؤكّد مجدّداً، وبشكل ساطع، أهميّة العناية الإلهيّة للمجمع الفاتيكانيّ الثاني. والدور الذي أدّاه فيه “كارول فوجتيلا” بدا واضحاً وبارزاً، وقد كان بعدُ أسقفاً شابّاً يشارك بحماسة متزايدة في المناقشات. ولم يشعر يوحنّا بولس الثاني بأيّ ندم على تلك المغامرة البارزة وما قدّمته للكنيسة. وهو نفسه يصرّح برأيه من دون مواربة، ولا يحاول تمويه الصعوبات التي ترتّبت (وهو متأكّد منها) ليس على المجمع الفاتيكاني الثاني بحدّ ذاته، وإنّما على التفسيرات والتأويلات المتسرّعة التي انتشرت على أثر ذلك.
أمام مضمون الكتاب الدينيّ البحث تبدو التعابير المتناولة كمثل “يمين – يسار” أو “محافظ – تقدّمي” غير ملائمة. “فالسلام المسيحيّ” كما يكشف البابا مداه مجدّداً، يتجاوز، إلى حدّ بعيد، هذا الضيق السياسيّ الذي يشكّل، مع الأسف، خياراً وحيداً عند عدد كبير من المعلّقين. فهم يحكمون هكذا أنفسهم بجهل الديناميكيّة العميقة للكنيسة من دون أن يفطنوا، أحياناً، لذلك. والإيديولوجيات المتنوّعة التي تبدو في تحوّل دائم، وإنّما محدود، ليس لها أيّ علاقة بالنظرة “الرؤيوية” (بالمعنى الحصريّ للوحي، وانكشاف الخطّة السماويّة) والتي توحي عمل هذا البابا كلَّه.
قال لي أحد المقرّبين من قداسته: “من أجل أن نعرف يوحنّا بولس الثاني على حقيقته، علينا أن نراه يصلّي، ولا سيّما عندما يكون في وحدته الحميمة داخل كنيسته الخاصة”. إنّه بُعْدٌ لا يستطيع المراقب الأمين والرصين أن يهمله في تحاليله. لقد حملتني مهمّتي الصحافيّة على أن أطرح على الأب الأقدس أسئلة مثيرة، وأحياناً عدوانيّة. وأجوبته التي اتّسمت بالحيويّة والوضوح والرصانة تشهد على أنّه يفضّل هذه “الإثارة” على التملّق والتزلّف. ولقد سُمِحَ لي أحياناً بردود تقترب من العتاب المحبّب، أو حتّى من الاعتراض البنويّ. وكنت مرتاحاً لها، إذ تأكّد لي أنّ أسئلتي استُقبِلت بإصغاء وأريحيّة. ورأيت فيها، بنوع خاصّ، برهاناً على أنّ الأب الأقدس، وإن لم يكن يُظهر إعجابه دائماً بهذه الأسئلة، يُقرّ بأنّها تعكس ما يتساءل حوله، اليوم، عدد كبير من الناس.
عندما أعدت قراءة بعض المقاطع أدركت الفرق بيننا، نحن المؤمنين العاديّين، وبين خليفة بطرس. فهو لا يجد صعوبة إيمانيّة، إن جاز لي التعبير على هذا النحو، فكلّ ما يفرضه الإيمان يشكّل عنده بداهة واقعيّة. وعلى الرغم من تقديره باسكال (وهو يستشهد به كثيراً) فإنّه هكذا لا يجد حاجة لتبرير أيّ رهان حول هذا الموضوع، ولا يرى دافعاً إلى التأكّد عن طريق الرجوع إلى “الحساب الإحتمالي”.
أن يعمد الله، الذي تجسّد بيسوع المسيح، إلى التصرّف بالعالم كلّه، وإلى تكييفه على قدر محبّته، فهذه حتميّة يعيشها المسيحيّ…”كارول فوجتيلا” ويلمسها ويختبرها على طريقة الصوفيّين كلّهم. وما يمكن أن يشكّل صعوبة عندنا يتحوّل عنده إلى واقع ثابت ومحسوس. وهو يعلم جيّداً، كأستاذ للفلسفة سابقٍ، أنّ النفس البشريّة تبحث دائماً عن البراهين حول الحقيقة المسيحيّة (وهو يكرّس لهذه القضيّة صفحات مكثَّفة). هذا النعت، بالمقابل، لا يأتي إلاّ ليثبت حقيقة هدف الرجاء عنده. “طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا بل أبي الذي في السماوات وأنا أقول لك أنت صخر وعلى الصخر هذا سأبني كنيستي فلن يقوى عليها سلطان الموت” (7) في ساعة التجربة، داخل هذه “العواصف من الشك، وفي هذه “الليالي المظلمة” التي تهدّد إيماننا المترجرج أحياناً، ألا نفكّر بهذه الصخرة التي بها نتشبّث؟ أليس هو الشاهد الأمين على حقيقة الإنجيل، وعلى وجود عالم آخر يتلقّى فيه كلّ إنسان ما يستحقّ وينال الحياة الأبديّة بكلّ كمالها، شرط أن يرغب فيها؟
لقد عهد المسيح البشريّة كلَّها إلى رجل جعل منه “نائبه”: “سمعان سمعانّ هوذا الشيطان قد طلبكم ليغربلكم كما تغربل الحنطة، ولكنّي دعوت لك ألاّ تفقد إيمانك. وأنت ثبّت إخوانك متى رجعت” (8).
هذه هي المهمّة الحاليّة لخليفة بطرس الذي يُعَدّ بين الذين “شهدوا القيامة” ويعلمون أنّ “يسوع صعد إلى السماء” (9) فحياته وكلامه، وبخاصّة أعماله، هي الضمانة لذلك.
هذه اليد الممدودة لطمأنتنا، وهذا التأكيد الذي يُجِلُّ “عظمة الحقيقة” ويهيم بها، يبدو أجمل هديّة تقدّمها لنا هذه الصفحات. ففيها منفعة لمن يقرأها، إذ تريحه وتُشجّعه على المزيد من التماسك، وعلى استخراج أوفى العبر من مقدّمات إيمانه.
أمنيّتي أن يفتح قرّاء هذا الكتاب قلوبهم لرسالة الأب الأقدس. فقد أسرّ إليّ، من على فراشه في المستشفى حيث كان يعاني من سقطة رديئة، أنّه قدّم لقرّاء هذه الصفحات بعضاً من تجاربه التي إجتازها، والتي ترك فيها مجالاً كي يشفَّ منها الرجاءُ والفرحُ. وقد أكّدت له أنّنا، جميعاً، ندين له بهذا الفرح. وتأكيدي هذا لم يكن عبارةً عن مجرّد لياقة عابرة.
فيتّوريو ميسّوري
الحواشي:
1) R.A.I. الشبكة الأولى الرئيسية للتلفزيون الإيطالي.
2) منشورات برونشفيغ Brunschvig، المقطع 139
3) أعمال الكرسي الرسولي، أو جريدة الفاتيكان الرسمية.
4) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس، 9 / 22 – 23
5) أعمال الرسل 4 / 12
6) منشورات روبير لافون Robert Laffont – باريس.
7) إنجيل متى 16 / 17
8) إنجيل لوقا 22 / 23
9) أعمال الرسل 1 / 22
العبور إلى الرجاء
مَن هو البابا؟
بقيّة من إسطورة أم شاهدّ لله؟
– عَفوَك يا صاحبَ القداسة، إذا بدا سؤالي الأوّل أطولَ من بقيّة الأسئلة التي تلي:
إنّني بحضرة رجل يوشّحه البياض…لباسٌ يعود إلى زمن آخر، يزّينه صليب وليس بمقدوري إلاّ التصوّر أنّ هذا الرجل الذي يسمّونه “بابا” يمثل، بذاته، سرّاً، وحتّى تحدّياً، إن لم يكن شَكّاً، لكثيرين من معاصرينا، باسم العقل، أو حتّى باسم الحسّ السليم.. وبالنتيجة، فأمام حبر أعظم، ليس علينا سوى أن نختار.. فرأس الكنيسة الكاثوليكيّة يحدّده الإيمان (تحديداً ارتضاه المؤمنون) كنائب ليسوع المسيح.. فهو إذاً، يُعتَبر كالإنسان الذي يمثّل ابن الله على الأرض.. وبهذه الصّفة يتصرّف، ويقوم مقام الشّخصية الثّانية لله الكلّي القدرة المثلّث الأقانيم. هذا حقاً ما يؤكّده كلّ بابا، بكلّ اتّضاع، ولكن بكل اعتقاد، أيضاً. وهذا ما يؤمن به الكاثوليك، إذ ليس صدفةً أن يسمّوا البابا الأب الأقدس أو صاحبَ القداسة. غير أنَّ هذه التّسمية تبدو لكثيرين من معاصرينا، عبثيّة وغير معقولة. فالبابا، بنظرهم، ليس ممثّل الله، وهو لا يشهد لسوى أساطير وخرافات قديمة لم تعد مقبولةً عند إنسان اليوم، الإنسان “النَّاضج”.
وهكذا، فعلى من يواجه حبراً أعظم (قداستك بالذات، أو أيّاً من أسلافك أو من خلفائك) أن يراهن، كما يقول باسكال، على ما يأتي: أَأنت الشّاهد الحيّ الغامض لربّ الأكوان، أم أنتَ الممثل الأعظم لوهمٍ قديم مغرقٍ في القِدم؟!
لذا أتجرّأ فأطرح السؤال: ألم يهتزَّ اعتقادُك مرّة كونك مرتبطاً بيسوع المسيح، وبالتالي بالله تعالى؟ ألم يكن، عندك، قطّ – ليس شَكّاً بالطّبع – ولكن ألم تطرح أسئلةً إنسانيّةً بحت، عن حقيقة قانون الإيمان هذا الذي تردّده في أثناء كلّ قدّاس، والذي يعلن الإيمان المذهل الذي أنت ضمانُه الأعظم؟!
سأبدأ محاولاً توضيح صياغة المفاهيم التي طرحتَ: إنّ سؤالك المشبع، من ناحية، بإيمان حيّ، مَشُوبٌ، من ناحية أخرى، ببعض القلق. تحملني هذه الملاحظة الأولى إلى ما ورد في العظة التي ألقيتها في بداية جلوسي على كرسي بطرس، وهي “لا تخافوا!”.
هذا القول تَوجَّهَ به المسيح، مرّات كثيرة، إلى من كان يلتقيهم. ولقد قال الملاك، قبلاً، لمريم: “لا تخافي” (1). كذلك قال ليوسف: “لا تَخَفْ” (2) وأعاد المسيح هذا القول لبطرس وللرسل في ظروف مختلفة، بخاصّة بعد قيامته. وإذا كان يشدّد على مقولة: “لا تخافوا!” فلأنّه كان يشعر بالتأكيد، أنّ تلاميذه خائفون. فهم لم يكونوا متيقّنين من أنّ مَنْ يرون هو هذا المسيح الذي عرفوه. لقد خافوا حين ألقيَ القبض عليه، وخافوا أكثر حين ظهر لهم بعد قيامته.
هذه الكلمات التي تلفّظ بها المسيح، تردّدها الكنيسة، ومع الكنيسة يردّدها البابا مذ عظته الأولى في ساحة القديس بطرس: “لا تخافوا”. هذه العبارة ليست كلمات في الهواء. إنّها متجذّرة بعمقٍ في الإنجيل.
ممَّ علينا ألاّ نخاف؟ قبل كلّ شيء أن نواجه أنفسنا بالحقيقة. أن نعرف حقيقة أنفسنا. ولقد وعى بطرس، يوماً هذه الحقيقة جارحةً مؤلمةً، فقال إذّاك ليسوع: “تباعدْ عنّي، يا سيّدي، فأنا رجل خاطئ” (3).
أعتقد أنّ بطرس لم يَعِ وحدَه هذه الحقيقة. فكلّ إنسان يواجه الحقيقة هذه. كذلك كلّ خليفة لبطرس. وإنّ مَنْ يُجيبُ عن أسئلتك، الآن، ليستشعر هذه الحقيقة بوضوح كلّي.
كلّنا يَدين لبطرس حينَ رَجا المسيحَ، ذلك اليوم: “تباعد عنّي، يا سيّدي، فأنا رجل خاطئ” إذ أجابه المسيح: “لا تخَفْ! ستكون، بعد اليوم، للبشر صيّاداً” (4) أي بمعنى: لا تَخفِ النّاس! الإنسان هو دائماً نفسه لا يتغيّر. فالنظريات التي يكوّنها ليست دائماً كاملة، بل هي ناقصة بقدر ما هو واثقٌ من نفسه. أين مصدر هذا الخوف؟ إنه في قلب الإنسان. فقلبنا قلقٌ. والمسيح نفسه عرف جزعنا وقلقنا أكثر من أيّ كان: “كان يعلم ما في الإنسان” (5).
إذاً، ولكي أجيب عن سؤالك الأوّل، أودّ أن أعود، في الوقت نفسه، إلى كلام المسيح بالذّات، وإلى كلماتي الأولى التي ألقيتها في ساحة القديس بطرس. عندها أستطيع القول: “لا تَخَفْ”. عندما يدعونك “نائبَ المسيح” أو “الأبَ الأقدس” أو “صاحبَ القداسة” وعندما يستعملون تعابير مماثلة، حتّى وإن بَدت مخالفة للإنجيل. ألم يقل المسيح: “لا تدعوا أحداً أباً لكم في الأرض، لأنّ لكم أباً واحداً هو الآب السماويّ، ولا تدعوا أحداً يدعوكم مرشداً، لأنّ لكم مرشداً واحداً، وهو المسيح” (6). إنّ هذه التعابير، المستندة إلى تراث قديم، قد دخلت في اللغة الدارجة. ولذا، علينا ألاّ نخاف منها أيضاً.
وإذ يشجّعنا المسيح ويحثّنا على عدم الخوف، فإنّ مردّ ذلك إلى الله وإلى الإنسان. فهو يريد أن يقول: لا تخافوا من هذا الإله، الذي هو، بحسب الفلاسفة، المُطلق المنزّه (الذي لا يقع تحت حواس ولا تطولُه معرفة). لا تخافوا من الله، ولكن أدعوا معي “أبانا” (7). لا تخافوا أن تقولوا: أب! اشتهوا حتّى أن تكونوا مثلَه كاملين، لأنّه كامل هو. نعم: “إذاً، أنتم ستكونون كاملين، كما أنّ أباكم السماويّ كامل هو” (8).
المسيح هو سرّ (9) الله الذي لا يُرَى. سرّ يُوجب الحضور. الله معنا. الله ذو الكمال اللامتناهي، ليس فقط مع الإنسان، إنّما هو نفسه صار إنساناً. وهذا ما قاله بطرس ليسوع على طريق قيصريّة فيليّبس: “أنت المسيح، ابن الله الحيّ” (10) فبذاك كان يعلن، وبطريقة غير مباشرة: أنت ابن الله الذي صار إنساناً. لم يخشَ بطرس قول ذلك حتّى وإن لم تكن هذه الكلمات له. لقد كانت من الله: “ما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا من أحد يعرف الآب إلاّ الابن” (11).
“طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللّحم والدّم كشَفا لك هذا بل أبي الذي في السّماوات” (12) تلفّظ بطرس بهذه الكلمات بوحي الروح القدس. وتردّدها الكنيسة، أيضاً، وباستمرار، بوحي من الروح القدس.
إذاً، لم يخف بطرس من الله الذي صار إنساناً. بينما خاف على ابن الله كإنسان. لم يكن بمقدوره أن يتفهم الجلد، وإكليل الشّوك، وأخيراً الصّلب ويتقّبَلها. كان يخاف من هذا كلّه. ولقد وبخّه المسيح على ذلك، ولكن من غير أن يرذله.
لم ينبذ هذا الإنسان ذا الإرادة الطيّبة والقلب المضطرم. هذا الإنسان الذي سينتضي سيفه على الجلجلة ليدافع عن سيّده. كلّ ما قاله يسوع له: “هوذا الشيطان قد طلبكُم ليغربلَكُم كما تُغربلُ الحنطة، ولكِنِّي دعوتُ لكَ ألاّ تفقدَ إيمانك. وأنتَ ثبّتْ أخوانك متى رجعتَ” (13). لم ينبذ المسيح بطرس. فلقد قدّر له اعترافه بإيمانه قرب قيصريّة فيليبس، وقاده، بقوّة الروح القدس، من خلال آلامه، ليتجاوز إنكاره إيّاه.
لقد بدا بطرس، كونه إنساناً، غيرَ قادر على أن يتبع المسيح حيث كان، وبخاصّة إلى الموت. غير أنّه كان، بعد القيامة، ومع يوحنا، أوّل المسرعين إلى القبر ليتحقّق من اختفاء جسد المسيح.
إذاً، فلقد أكّد يسوع، بعد القيامة، رسالة بطرس عندما قال له بوضوح تام: “إرعَ حملاني! اسهر على خرافي” (14). ولكن ليس قبل أن يسأله إذا كان يحبّه.أمّا بطرس الذي سبق أن أنكر المسيح، ولكن من غير أن ينقطع عن محبّته، فقد استطاع أن يجيب: “أنت تعلمُ أنّي أحبّك!” (15) غير أنّه لم يُضِف: “لستُ بناكرك و إن وجبَ عليَ أن أموت معكَ” (16). لأنّ البقيّة لم تعد تتعلّق ببطرس فقط وبقواه الإنسانيّة البسيطة. فكلّ شيء، بعد هذا، يرتكز على الروح القدس الذي وعد به المسيح مَنْ سيمثّله على الأرض.
في الواقع، كان بطرس، يوم العنصرة، أوّل منْ توجّه بالكلام إلى جموع الإسرائليّين، وإلى الذين قدموا من مختلف المناطق، مذكّراً إيّاهم بالخطيئة التي اقترفها مَنْ سمّروا المسيح على الصليب، مؤكّداً حقيقة قيامته، حاثّاً إيّاهم على أن يرتدّوا إلى الإيمان ويعتمدوا.
وهكذا، فإن المسيح، وبفضل عمل الروح القدس، استطاع أن يضع ثقته في بطرس حتّى إنّه إئتمنه كليّاً، مع بقيّة الرسل بمن فيهم بولس الذي كان لا يزال، في ذلك الوقت، يضطهد المسيحيين ويبغض اسم يسوع.
تجاه هذه الأحداث فإنّ عبارات من مثل: “الحبر الأعظم” أو “الأب الأقدس” أو “صاحب القداسة” لهي ضئيلة القيمة. وما هو جوهري ما ينتج عن موت المسيح وقيامته، وما يصدر عن قوّة الروح القدس. فإنّ بطرس، ومعه بقيّة الرّسل، وحتّى بولس بعد ارتداده، قد أضحوا، جميعاً، شهوداً للمسيح أمناء، بذلوا دماءهم في سبيله. وأخيراً، لم يكتف بطرس بعدم نكرانه المسيح وانقطاعه عن ترديد مقولته التعيسة: “إني لا أعرف هذا الرّجل” (17) ولكنّه ثابر على إيمانه حتّى النّهاية: “أنت المسيح ابن الله الحيّ” (18). وهكذا صار، بدوره، الصخرة التي لا تتزعزع، وإن كان، باعتباره إنساناً، رملاً متحرّكاً. إنّه المسيح بالذات الذي هو الصخرة. فهو بنى كنيسته على بطرس. على بطرس وبولس والرسل. الكنيسة هي رسوليّة بسلطان المسيح.
هذه الكنيسة تعترف: “أنت المسيح ابن الله الحيّ“. هكذا تبشّر الكنيسة بهذه الحقيقة عبر الأجيال مع كلّ مَنْ يقاسمونها إيمانها. مع كلّ الذين أظهر لهم الآب الابن في الروح القدس، كما أنّ الابن أظهر لهم الآب في الروح القدس أيضاً (19).
هذا الوحي نهائيّ هو. لا يمكن إلاّ قبوله أو رفضه. يمكن قبوله عندما نعترف بالله الآب الكّلي القدرة خالق السماء والأرض، وبيسوع السميح الابن، المساوي الآب في الجوهر، وبالروح القدس الذي هو ربّ يهب الحياة. كما يمكن أن نرفض كلّ هذا ونكتب بأحرف بارزة: “ليس لله ابن”، “يسوع المسيح ليس ابن الله، ليس سوى أحد أنبيائه وقد لا يكون الأخير بينهم، إنّه إنسان فحسب!”.
أيمكن لموقف كهذا أن يفاجئنا، بينما نعرف الصعوبات التي عاناها بطرس نفسه؟ كان يؤمن بابن الله، ولكنّه لم يتوصّل إلى القبول بأنّ ابن الله هذا، بكونه إنساناً، جُلدَ وكُلِّلَ بالشّوك ومات على الصليب.
هل علينا أن نَعجبَ لماذا، حتّى الذين يؤمنون بإله واحد، وكان إبراهيم له شاهداً، يُعانون من صعوبات قبول الإيمان بإله مصلوب؟ إنّهم يتصوّرون أنّ الله لا يمكن أن يكون إلاّ قديراً عظيماً، مطلقَ التنزيه والسموّ، بهياً في سلطانه، قدوساً لا يدركه بشر. الله لا يكون إلاّ هكذا. إذاً، لا يمكن أن يكون محبّة تعطي ذاتها وتسمح بأن تُرى وتُسمَع، وتُقَلَّد كإنسان، وتقيّد وتُصفع وتُصلب. فقد لا يكون هذا الله تعالى!. وهكذا فإن تمزّقا عميقاً انتاب قلب التراث الوحداني الكبير.
إنّ بطرس والرّسل وخلفاءهم في الكنيسة، التي بنيت على صخرة هي المسيح، لشهودُ الله الذي صُلِبَ وقام بيسوع المسيح. بهذا، هم شهودُ الحياة التي هي أقوى من الموت، شهود الله الواهب الحياة، لأنّه هو المحبّة (20). هم شهود لأنّهم عاينوا وسمعوا ولمسوا بأعين وآذان وأيدي بطرس ويوحنا وكثيرين سواهما. ولكنّ المسيح قال لتوما: “طوبى للذين يؤمنون ولم يَروا” (21).
– تقول إنّ البابا سرٌ، وقولك حقّ. وتقول أيضاً، وأنت دائماً على صواب، إنّه سِمَةُ تناقض وتحدٍّ. ألم يقل سمعان الشيخ في المسيح نفسه إنّه سيكون آية معروضة للرفض (22)!
وأنت على صوابٍ، كذلك، عندما تقول إنّ الخيار واجب أمام حقيقة كهذه – أي أمام حقيقة البابا – وإنّه صعب على الكثيرين من الناس. ولكن، هل كان هذا سهلاً على بطرس، أو على أيّ من خلفائه، أو على البابا الحاليّ؟ كلّ خيار يُوجب على المرء مبادرة، ومع هذا فقد قال المسيح: “ليس اللّحم والدّم كشفا لك هذا. بل أبي الذي في السّماوات” (23). إنّ خياراً كهذا ليس فقط مبادرة من إنسان، إنّه عمل من الله الذي يعمل في الإنسان ويتجلّى. وبموجب هذا العمل الإلهي يمكن أن يردّد الإنسان: “أنت المسيح ابن الله الحيّ” (24). كما يمكن أن يعلن، بعد ذلك، قانون الإيمان (25) بكامله، المبنيّ على منطق الوحي الذي لا يمكن تجاوزه. كذلك بمقدوره أن يتذكّر، ويذكّر الآخرين النتائج التي تصدر عن منطق الإيمان هذا، والمشبعة ببهاء هذه الحقيقة بالذّات. وبمقدوره أيضاً، أن يقوم به من غير أن يجهل أنّه، بسببه، سيصبح هو نفسه “آية معروضة للرفض”.
ماذا يبقى لإنسان كهذا؟ يبقى له، فقط، الكلمات التي توجِّه بها يسوع نفسه إلى تلاميذه: “فإذا اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً، وإذا حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم أيضاً” (26) أي لا تخافوا! لا تخافوا من سرّ الله. لا تخافوا من محبّته. لا تخافوا من ضعف الإنسان ولا من عظمته. فالإنسان يبقى عظيماً حتّى في ضعفه. لا تخافوا أن تكونوا شهوداً لكرامة كلّ إنسان منذ اللّحظة التي حُبِلَ به فيها حتّى مماته.
أعود إلى أحد الألقاب التي تطلق على البابا. يقولون، في ما يقولون، إنه “نائب المسيح” ممثّله. هذه التّسمية تعود، في أصلها، إلى الإنجيل بالذات. فلقد قال المسيح لرسله، قبل أن يصعد إلى السّماء: “ها أنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم” (27)، فهو حاضر في كنيسته، وإن كان لا يُرَى. إنّه، أيضاً، في كلّ مسيحيّ بالمعمودية وببقيّة الأسرار. ولهذا كان، من العادة، التأكيد، في زمن الآباء: “المسيحيّ هو مسيح آخر”. يراد بذلك الإشارة إلى سموّ كرامة المعمّد ودعوته إلى القداسة بالمسيح. كذلك يكون المسيح حاضراً، وبنوع أخصّ، في كاهن يتصرّف كشخص المسيح عندما يحتفل بالقربان المقدّس أو يمنح الأسرار.
من هذا المنظور تأخذ عبارة “نائب المسيح” معناها الحقيقيّ. إذ يُراد بها الخدمة لا التشريف والتكريم. وهي ترسم واجبات البابا في الكنيسة ووظيفته كخليفة لبطرس. لأنّه رُسِمَ لخير الكنيسة والمؤمنين. ولقد فهم القديس غريغوريوس الكبير (28) هذا الأمر كلّ الفهم: فمن بين كلّ التسميات التي أطلقت على رتبة أسقف روما كان يفضّل تسميته: “خادم خدّام الله”. على كلّ حال، فإنّ هذا اللقب لا يتناول البابا وحده. فكلّ أسقف هو نائب المسيح في الكنيسة التي أوكلت إليه. فالبابا هو نائبه عن كنيسة روما، ومن خلالها، عن كلّ الكنائس المشاركة إيّاها في إيمانها، وفي دستورها، وفي أنظمتها (29). ولكن، لو استعمل هذا اللقب، بنوع خاصّ، كدليل على كرامة أسقف روما، فمن الواجب أن تُذكَر في الوقت نفسه، كرامة الجسم الأسقفي بكامله، المرتبط بها ارتباطاً وثيقاً. كذلك كرامة كلّ أسقف، وكلّ كاهن، وكل معمّد.
وكم هي سامية كرامة الأشخاص الذين كرّسوا ذواتهم، نساءً ورجالاً، فاختاروا كدعوة ذاتية، أن يتزوّجوا عروس الكنيسة، المسيح! والمسيح، مخلّص العالم والإنسان، هو عروس الكنيسة وكلّ مَنْ فيها: “العريس بينكم” (30). إنّها إحدى مهمّات البابا الرسوليّة أن يعلّم هذه الحقيقة ويجعلها حاضرة في كنيسة روما، وفي الكنيسة عامّة، في الإنسانيّة كلّها، وفي العالم أجمع.
لذا، ولكي أبدّد مخاوفك، لأنّها على ما يبدو، قد أملاها إيمان صادق، فإنّني أنصحك بقراءة القديس أغسطينوس الذي كان يحبّ أن يردِّد: “أنا أسقف لأجلكم، وأنا مسيحيّ معكم” (31). فإذا أمعنّا الفكر نرى أن “مسيحيّ”، هنا، تعني أكثر من “أسقف” حتّى ولو عَنَى ذلك أسقف روما!
الحواشي:
1) إنجيل لوقا 1 / 30
2) إنجيل متى 1 / 20
3) إنجيل لوقا 5 / 8
4) إنجيل لوقا 5 / 10
5) إنجيل يوحنا 2 / 25
6) إنجيل متى 23 / 9 – 10
7) إنجيل متى 6 / 9
8) إنجيل متى 5 / 48
9) السر هو أسلوب لاختبار أمر ما قد يستحيل الوصول إليه. المسيح هو الحضور المنظور والحسي لله غير المنظور (تعليق للناشر9.
10) إنجيل متى 16 / 16
11) إنجيل متى 11 / 27
12) إنجيل متى 16 / 17
13) إنجيل لوقا 22 / 31 – 32
14) إنجيل يوحنا 21 / 15 و 16
15) إنجيل يوحنا 21 / 15
16) إنجيل متى 26 / 35
17) إنجيل متى 26 / 72
18) إنجيل متى 16 / 16
19) إنجيل متى 11 / 25 – 27
20) رسالة القديس يوحنا 4 / 8
21) إنجيل يوحنا 20 / 29
22) إنجيل لوقا 2 / 21 – 34. “ولما كان يوم طهورها بحسب شريعة موسى، صعدا به إلى أورشليم ليقدماه للرب، وكان في أورشليم رجل بار تقي اسمه سمعان، وكان الروح القدس قد أوحى إليه أنه لا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب. فأتى الهيكل بدافع من الروح. ولما دخل بالطفل يسوع أبواه حمله على ذراعيه وبارك الله ثم قال لمريم: “ها إنه جُعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل و”آية مُعرضةً للرفض”.
23) إنجيل متى 16 / 17
24) إنجيل متى 16 / 16
25) “أؤمن” Credo في اللاتينية. هي الكلمة الأولى في النص القانوني الذي به يعلن المسيحيون عن جوهر إيمانهم. يُعلَنُ قانون الإيمان كل يوم أحد في القداس. وله نصان “قانون الرسل” و”قانون نيقيا – القسطنطينية” (تعليق للناشر).
26) إنجيل يوحنا 15 / 20
27) إنجيل متى 28 / 20
28) غريغوريوس الأول الكبير (نحو 540 – 604) محافظ مدينة روما، ترك وظيفته وثروته واعتنق الحياة الرهبانية. عام 560 انتخب بابا على الرغم من عدم قبوله بالمنصب، لأنه كان يريد أن يبقى أصغر الصغار في الكنيسة. طيلة مدة حبريته أنجز أعمالاً عظيمة (تعليق للناشر).
29) مطابق “للحق القانوني” أي نص القوانين التي تنظّم شؤون الكنيسة وعلاقاتها مع مختلف أعضائها.
30) إنجيل متى 9 / 15
31) راجع على سبيل المثال الخطاب، 340، 1، مجموعة الآباء اللاتين PL 38, 1483.
كيف نصليّ؟ ولمَ؟
إذا كان الأمر هكذا، فهل لي أن أسألك بأن تبوح لنا ببعض من مكنونات قلبك وسرّه؟
الاعتقاد أنّ في شخصك، كما في شخص أيّ بابا، يتجسّد السرّ المعلن بالإيمان، يطرح، بدهيّاً، السؤال الآتي: كيف تتحمّل هذا العبء الذي يفوق القوى الإنسانيّة؟ فما من إنسان، على الأرض، حتّى كبار ممثّلي الأديان، يضطلع بمسؤوليّة كهذه. ما من إنسان، مثلك، على علاقة وثقى بالله، على الرغم من الإيضاحات التي أضفيتها على المسؤولية التي يتقاسمها كل معمّد بحسب كفاءته ومستواه.
هل لي، يا صاحب القداسة، أن أسألك: كيف تتعامل مع يسوع؟ كيف تحاور، في الصّلاة، هذا المسيح الذي أوكل إلى بطرس، ومنه إليك عبر الخلافة الرسوليّة، “مفاتيح ملكوت السماء”، عندما أعطاه “سلطان الحلّ والربط”؟
إنّك تطرح سؤالاً عن الصلاة، وتطلب من البابا أن يقول لك كيف يصليّ؟
أنا أشكرك على هذا، وقد يكون من الأفضل أن نأخذ، كنقطة انطلاق، قول القديس بولس، في رسالته إلى الرومانيّين. فالرسول يدخل مباشرة في صلب الموضوع، حين يكتب: “إنّ الروح يأتي لنجدة ضعفنا لأنّنا لا نحسن الصلاة كما يجب، ولكنّ الروح يشفع لنا بأنّاتٍ لا تُوصَف” (1).
ما هي الصلاة؟ من المعروف، عامّةً، أنّها محادثة. وفي أيّة محادثة متكلّمان؛ “أنتَ” و”أنا”. في الصلاة تبدأ “الأنتَ” بحرف بارز. وإذا ظهر “الأنا”، في بدابة الصلاة وكأنّه العنصر الأهم، فسنكتشف، بعدها، أن الواقع مختلف. هذا ما تعلّمنا إيّاه تجربتنا في الصلاة. “فالأنت” هو الأهمّ لأنّ مصدر صلاتنا هو الله. وهذا بالتحديد ما يعلّمنا إيّاه القديس بولس في رسالته إلى الرومانيّين. فالصلاة، بحسب الرسول، تعكس واقع الخلق كلّه. ولها، إذاً، بمعنى أو بآخر، وظيفة كونيّة. الإنسان هو كاهن الخليقة كلّها، وهو المتكلّم عنها، ضمن النطاق الذي يقوده فيه الروح.
علينا أن نتأمّل طويلاً بهذه الفقرة من الرسالة إلى الرومانيّين لكي ندخل في عمق حقيقة الصلاة. فلنقرأ إذن: “…فالخليقة تنتظر، بفارغ الصبر، تجلّي أبناء الله. فقد أخضِعتْ للباطل بسلطان الذي أخضعها، لا طوعاً منها، ولكن بسبب من أخضعها لهذا السلطان. ومع ذلك لم تقطع الرجاء لأنّها هي أيضاً ستتحرر من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء الله في حريّتهم ومجدهم. فإنّا نعلم أنّ الخليقة جمعاء تئنّ، إلى اليوم، من آلام المخاض، وليست وحدها، بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في الباطن منتظرين التبنّي، وافتداء أجسادنا، لأنّنا نلنا الخلاص، ولكن في الرجاء…” (2) وهنا موقع هذه الكلمات التي ذكرناها: “إنّ الروح، أيضاً، يأتي لنجدة ضعفنا لأنّنا لانحسن الصلاة كما يجب، ولكنّ الروح نفسه يشفع لنا بأنّات لا تُوصف” (3).
إذاً، هو الله الذي يقوم بالدور الأوّل في الصلاة. وهو المسيح الذي يخلّص الخليقة أبداً من عبوديّة الفساد، ويقودها إلى الحريّة بمجد أبناء الله. وهو الروح القدس الذي “يأتي ليُعينَنا”. عندما نصلي نشعر بأنّنا أصحاب المبادرة، ولكنّ الصلاة هي، دائماً، مبادرة الله فينا تماماً كما وصفها مار بولس. هذه المبادرة تعيدنا إلى إنسانيّتنا الحقيقيّة، وإلى دعوتنا الفريدة. إنّها تدخلنا في كرامة أبناء الله السّامية التي طالما انتظرتها الخليقة جمعاء.
علينا، وبمقدورنا، أن نعتمد أساليب مختلفة للصلاة. والكتاب المقدّس يعلّمنا ذلك بإعطائنا أمثلةً متنوّعة. فكتاب المزامير لا يقوم مقامه كتاب. علينا أن نصلّي “بأنّات لا تُوصف” لندخل في إيقاع ابتهالات الروح القدس بالذّات. علينا أن نبتهل لننال الغفران متّحدين “بالصراخ الشديد” للمسيح المخلّص (4) من غير أن ننقطع عن إعلان مجد الله. الإنسان هو كاهن الخليقة، والمسيح ثبّته في هاتين الكرامة والدّعوة. ولقد أتمّت الخليقة “عمل المجد” بحسب ما هي، وبقبولها أن تصبح ماهي مدعوّة لأن تكون.
فالعالم والتقنية يُستخدمان هما أيضاً، بطريقة ما، لبلوغ هذه الغاية. ولكن، وبما أنّهما من النشاطات البشريّة، قد يُبعِدان عن هذه الغاية النهائية. هذه المجازفة هي حاضرة، بخاصّة، في مدنيّتنا. وهي، لهذا السبب بالتحديد، تجد صعوبة لتكون مدنيّة الحياة والمحبّة. فما ينقصها هو “عمل المجد”. دعوة أساسيّة لكلّ مخلوق، وبخاصّة للإنسان الذي خُلِقَ ليصير في المسيح نبيّاً وملكاً للخليقة جمعاء.
لقد كتب الكثير عن الصلاة. وجرت عليها، أكثر من ذلك في تاريخ الجنس البشريّ، اختبارات بخاصّة في تاريخ إسرائيل والمسيحيّة. يصل الإنسان إلى الكمال في الصلاة عندما يجعل حضور الله مشرقاً فيه لا عندما يسترسل في التعبير عن فرديّته. وتاريخ صلاة المتصوّفة في الشرق كما في الغرب، يشهد على ذلك: مار فرنسيس – القديسة تريزا دافيلا – القديس يوحنا الصليبي – القديس أغناطيوس دي لويولا. وفي الشرق، مثلاً، مار سرافين – (Séraphine De Sarov) – وغيره كثيرون.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 26
2) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 19 – 24
3) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 26
4) الرسالة إلى العبرانيين 5 / 7 “وهو (المسيح) الذي في أيام حياته البشرية رفع الدُعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع ذواف إلى الذي بوِسعه أن يُخلصّه من الموت فاستُجيب لتقواه”. (استشهاد للناشر).
صلاة نائب المسيح
هذا التحديد الدقيق للصلاة المسيحيّة كان وافياً جدّاً، وفي محلّه. ولكن اسمحوا لي أن أعود إلى السؤال المطروح: كيف؟ ولمن؟ ولماذا يصلّي البابا؟
عليك أن تتوّجه بسؤالك إلى الروح القدس. فالبابا يصلّي كما يسمح له الروح القدس. أظنّ أنّ عليه أن يصلّي بطريقة تخوّله القيام بوظيفته على الوجه الأكمل، وذلك بتقصّي السرّ المُوحَى به في المسيح. وبهذا فإنّ الروح القدس يقوده بالتأكيد، على ألاّ يقيم الإنسان حواجز. “فالروح يأتي ليُعينَ ضعفنا”.
لماذا يصلّي البابا؟ وما الذي يملأ المساحة الداخلّية لصلاته؟
في الوثيقة النهائيّة للمجمع الفاتيكاني الثاني، يبدأ الدستور الرعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم بهذه الكلمات: “فرح إنسان اليوم ورجاؤه وأحزانه وهمومه”. كلّ هذا موضوع صلاة البابا.
كلمة إنجيل تعني البشرى. وهذه البشرى هي دائماً، دعوة إلى الفرح. ما هو الإنجيل؟ إنّه تفسير رائع للعالم وللإنسان، لأنّه إظهار حقيقة الله. فالله ينبوع الفرح والرجاء الأوّل للإنسان. الله كما أظهره المسيح لنا. الله الخالق والأب: “فإنّ الله أحب العالم حتى أنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (1).
يُظهِرُ الإنجيل، قبل كلّ شيء، فرح الخليقة. فالله الذي “رأى أنّ ذلك حسن” (2) هو ينبوع فرح الخلائق جمعاء، وعلى أعلى مستوى بالنسبة إلى الإنسان، إذ يبدو الله الخالق وكأنّه يقول لخليقته كلّها: “حسن أن تكوني”. فهذا الفرح الذي يبديه نقلته إلينا البشرى عندما أعلنت لنا أنّ الخير أقوى من كلّ الشرور الموجودة في العالم. لأنّ الشرّ ليس أصليّاً ولا نهائياً. إنّه إحدى النقاط التي تمتاز بها المسيحيّة عن كلّ أشكال التشاؤم الحياتيّ.
وُهِبَ الإنسانُ الخلقَ وأوكلَ إليه، لا ليكون مصدر ألم له، بل ليؤسّس لوجود خلاّق في العالم. ورُبّ إنسان يعتقد بطيبة الخلائق الأصليّة قادر على أن يكشف أسرار الخلق كلّها، لكي يكمّل باستمرار العملَ الذي أوكله الله إليه. فمَنْ يقبل الوحيَ، وبخاصّة الإنجيل، يَع بوضوح أنّ الوجود أفضل من العدم – لذا فإنّ أُفق الإنجيل لا يترك مجالاً لأيّ نوع من النرفانا، الفناء المطلق والتلاشي، والاستسلام. بل على العكس، فإنّ تحدّياً كبيراً معروض على الإنسان. وهو أن يقود إلى الكمال كلّ ما هو مخلوق، إن كان هو بذاته أو كان العالم بأجمعه.
هذا الفرح المختصّ بالخليقة تمّمه فرح الخلاص وفرح الفداء. يبشّر الإنجيل، أوّلاً، بفرح عظيم، ألا وهو خلاص الإنسان. فخالق الإنسان هو مخلّصه أيضاً. والمخلّص لا يواجه الشرّ، فقط، بكلّ وجوهه الحاضرة في العالم. ولكنّه يعلنُ، كذلك، انتصاره على الشرّ. قال المسيح: “غلبت العالم” (3). لهذا القول ضمانته الكاملة في السّرّ الفصحيّ (4). فليلة الفصح ترتّل الكنيسة بحبور: “طوبى لكِ أيّتها الخطيئة التي جعلتنا نستحقّ فادياً كهذا” (5).
إذاً، يكمن سبب فرحنا في كوننا جديرين بقهر الشرّ، واقتبال البنوّة الإلهيّة. هذا هو جوهر البشرى بالذات. يعطي الله الإنسانَ السّلطانَ بالمسيح: “إنّ الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم” (6). إنّ الفداء لهو ارتفاع الخليقة إلى بُعدٍ جديد. فالخليقة جمعاء مأخوذة بتقديس خلاصيّ وحتّى بتأليهٍ، فكأنّها منجذبة نحو فلك ألوهةِ الله وحياته الخاصّة. وعلى هذا المستوى تُقهَر قوّةُ الخطيئة المخرّبةُ. الحياة الأبديّة التي برزت في قيامة المسيح تبتلع الموت، إذا صحَّ التعبير. “أينَ غَلبتُك يا موت؟” سأل بولس وهو شاخص إلى المسيح الذي قام من بين الأموات (7).
إنّ البابا بصفته شاهداً للمسيح وكاهن البشرى الجديدة، إنما هو إنسان الفرح والرجاء. الإنسان الذي يؤكّد قيمة الوجود الأساسيّة، قيمة الخليقة والرجاء في الحياة الآتية.
طبعاً! ليس الموضوع موضوعَ فرح ساذج، ولا رجاء باطل. ففرح الانتصار على الشرّ لا يحجب واقع وجود الشرّ في العالم، وفي كلّ إنسان. بل على العكس، فإنّ إدراكنا هذا الواقع يزدادُ قوّةً. يعلّمنا الإنجيل أن نسمّي الخير والشرّ كلاّ باسمه، ولكنّه يعلّمنا أيضاً أنّنا نستطيع “أن نتغلّب على الشرّ بالخير” (8). وهذا واجبنا.
إليك التعبير الأكثر أصالة للخلقيّة المسيحيّة. فإذا كانت هذه الخلقيّة ناهدةً بكاملها نحو القيم الأسمى، وإذا كانت تستوحي من تأكيد للخير، بمثل هذا الشمول، فإنّها لا يمكن أن تكون إلاّ بالغة التطلّب على كلّ حال. فعمل الخير ليس بالسهولة التي نتصوّرها. إنّه تلك الطريق الضيّقة التي يتكلّم عليها المسيح في الإنجيل (9). إذاً، فإنّ فرح الخير ورجاء غلبته، في الإنسان وفي العالم، لا يستبعدان الخوف على هذا الخير، الخوف من أن يظهر الرجاء باطلاً.
نعم، إنّ على البابا، ككّل مسيحيّ، أن يعي المخاطر التي تتهدّد حياة الإنسان في العالم ومستقبله في الزمن الحاضر والآتي والأبدّي (10). لكنَّ وعي هذه المخاطر لا يقود أبداً إلى التشاؤم. إنّه حافز فقط على الكفاح لتغليب الخير على جميع الأصعدة. ومن هنا، بالتحديد، يبرز احتياجنا للصلاة، في غمرة هذه المعركة، لتغليب الخير في الإنسان وفي العالم.
مع ذلك، فإنّ لصلاة البابا بُعداًَ وثيق الخصوصيّة. فهمُّ الكنائس جميعها الذي يحمله في فكره وفي قلبه يقود الحبر الأعظم ليتمّ، يوميّاً، بصلاته، حجّاً عبر العالم كلّه. وهكذا ينبثق نوع من جغرافية لصلاة البابا تتمثّل في الطوائف والكنائس والمجتمعات، وفي المشكلات التي تقتحم العالم الحاضر أيضاً. بهذا المعنى، فإنّ البابا مدعوٌّ، إذاً، إلى صلاة كونيّة حيث “هّمُّ الكنائس جميعها” (11) يسمح له أن يعرض، أمام الله، الفرح والرجاء، وفي الوقت نفسه، ما تتقاسمه الكنيسة والإنسانيّة المعاصرة من ألم وجزع.
بإمكاننا أيضاً أن نذكر الصلاة المختصّة بعصرنا، صلاة القرن العشرين. فسنة الألفين تشكّل تحدّياً حقيقياً. علينا أن نعيد اكتشاف الخير الأعظم الذي نشأ من سرّ تجسّد الكلمة. ولكن علينا، في الوقت نفسه، ألاّ نخفي سرّ الخطيئة التي تنتشر باستمرار. ولقد كتب مار بولس: “حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة” (12). هذه الحقيقة العميقة تجدّد باستمرار، الدعوة الملّحة إلى الصلاة. فهي تُظهر كم أنّ الصلاة ضروريّة للعالم وللكنيسة لأنّها في النهاية تشكّل الطريقة الأبسط لتجعل الله ومحبتّه الخلاصيّة حاضِرَين في العالم. لقد أوكل الله إلى البشر خلاصهم بأنفسهم كما أوكل إليهم الكنيسة، وفي الكنيسة عمل المسيح الخلاصيّ بكامله، وأوكل إلى كلّ منّا، بنوع خاصّ، كلّ كائن بشريّ والبشريّة جمعاء. إلى كلّ واحد أوكل الجميع، وإلى الجميع أوكل كلّ فرد. فوعيُ هذه الحقيقة الخارقة ينبغي أن يجد أبداً صداه في صلاة الكنيسة، وبخاصّة في صلاة البابا.
نحن كلّنا “أبناء الموعد” (13) فقد كان المسيح يقول لرسله: “ثقوا إني قد غلبت العالم” (14). ولكنّه كان يقلق كذلك: “لكن، متى جاء الإنسان أفتراه يجد الإيمان على الأرض؟” (15) هذا هو مصدر البعد الرسوليّ لصلاة الكنيسة والبابا.
تصلّي الكنيسة لكي يتمّ، في كلّ مكان، عمل المسيح الذي يخلّص العالم. إنّها تصلّي لكي تتمكّن، هي بالذات، من أن تحيا متمّمةً، ودون انقطاع، الرسالة التي تسلّمتها من الله. وهذه الرسالة، وقد ذكر بها المجمع الفاتيكاني الثاني، تحدّد هي نفسها، جوهرها، بطريقة ما.
إذاً، الكنيسة والبابا يصلّيان للذين عُهِدَ إليهم، بنوع خاصّ، بهذه الرسالة. يصلّيان للدعوات، ليس فقط للدعوات الكهنوتيّة والدينيّة، ولكن للدعوات إلى القداسة، أيضاً، وهي كثيرة بين علمانيّي شعب الله.
تصلّي الكنيسة أيضاً لمن يتألّمون. فالألم يشكّل أبداً، امتحاناً قاسياً، ليس جسدياً فحسب، بل فطريّ أيضاً. فالحقيقة التي جهر بها مار بولس عندما أكّد أنّه بآلامه “يُتمّ بجسده ما نقص من شدائد المسيح” (16) هذه الحقيقة هي في قلب الألم، مظهر أساسيّ في بشارة الإنجيل. ولكنّ الإنسان لا يستطيع اجتياز عتبة هذه الحقيقة إذا لم يقده إليها الروح القدس. فالصلاة لكلّ الذين يتعذّبون تندمج، بالضرورة، بهذه الصرخة التي يصعّدها البابا والكنيسة، متّحدين، إلى المسيح. إنّها صرخة لكي يتغلّب الخير حتّى من خلال الشرّ والألم وكلّ أخطاء الإنسانيّة ومظالمها.
وأخيراً تصلّي الكنيسة من أجل الموتى. وهذه الصلاة تشير إلى حياة الكنيسة نفسها. الكنيسة تسكن في رجاء الحياة الأبدية. والصلاة لأجل الموتى تنتمي إلى معركة ضدّ واقع الموت. ضدّ هذا الخراب أو الهدم الذي يهدّد، دون رحمة، وجود الإنسان على الأرض. هذه الصلاة تقودنا إلى أن نقتبل، شخصيّاً، وحيَ القيامة. والمسيح بذاته يشهد على الحياة والخلود اللذين وعد بهما الله كلّ كائن بشريّ.
الصلاة هي تفتيش عن الله بقدر ما هي وحيٌّ منه. يتجلّى الله خالقاً وفادياً ومخلّصاً وروحاً “يفحص عن كلّ شيء حتّى عن أعماق الله” (17). وليس أقلّ من ذلك “أسرار القلب” (18). في الصلاة يتجلّى الله، قبل كلّ شيء رحمة، أي محبّة تأتي لملاقاة الإنسان المتألّم. وهذه المحبّة تعضد وتنتشل وتدعو إلى الثقة. وغلبةُ الخير، في هذا العالم، مرتبطة كلّ الارتباط بهذه الحقيقة. فالإنسان الذي يصلّي يعلّم هذه الحقيقة. وهو، نوعاً ما، يجعل الله المحبة والرحمة، حاضراً وسط هذا العالم.
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 3 / 16
2) سفر التكوين 1 / 1 – 25
3) إنجيل يوحنا 16 / 33
4) سر آلام وموت وقيامة ابن الله الذي صار إنساناً (تعليق الناشر).
5) نشيد ابتهاج Exultet.
6) إنجيل يوحنا 3 / 17
7) رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل قورنتس 15 / 55
8) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 12 / 21
9) إنجيل متى 7 / 14
10) نسبة إلى المصير النهائي للإنسان والعالم (تعليق للناشر).
11) رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل قورنتس 11 / 28
12) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 5 / 20
13) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية 4 / 28
14) إنجيل يوحنا 16 / 33
15) إنجيل لوقا 18 / 8
16) رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي 1 / 24
17) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 2 / 10
18) المزمور 43 (44) / 22
هل الله موجود؟
لدِين المسيحيّين الكاثوليك الذين أنت راعيهم وسيّدهم (باسم الراعي والسيّد الوحيد) ثلاث “درجات” أو قل ثلاث “ركائز” مرتبط بعضها ببعض: الله – يسوع المسيح – الكنيسة. كلّ مسيحيّ يؤمن أنّ الله موجود.
كذلك يؤمن كلّ مسيحيّ أنّ الله لم يتكلّم فحسب بل تجسّد بشخصيّة تاريخيّة، إبّان حكم الإمبراطوريّة الرومانيّة، هي شخصيّة يسوع الناصريّ.
غير أنّ الكاثوليك، من بين بقيّة المسيحيّين، يذهبون إلى أبعد من ذلك: إنّهم يؤمنون أنّ هذا الإله، هذا المسيح يحيا ويعمل – كما لو أنّه في “جسد” (لكي نستعمل تعبير العهد الجديد) – في الكنيسة التي لها، في الوقت الحاضر، على الأرض، رئيس منظور، هو أنت، أسقف روما.
أكيد أنّ الإيمان عطيّة ونعمة إلهيّة. ولكنّ العقل هو أيضاً عطيّة من الله. فعلى المسيحيّ، كما دعا لذلك القديسون وعلماء الكنيسة، منذ القدم، أن “يؤمن ليفهم”، ولكنّه مدعوٌّ أيضاً على أن “يفهمَ ليؤمن”.
فلنبدأ، إذاً، من البداية، ولنبقَ على الأقلّ في هذه اللحظة إذا أمكن، ضمن منظور إنسانيّ، وهو: هل يستطيع الإنسان، يا صاحب القداسة، أن يتوصّل إلى التأكّد من أنّ الله موجود حقّاً وإذا كان كذلك، فكيف؟
إنّ تحليلاً نهائيّاً لسؤالك يوضح أنّه يرمي إلى التمييز الذي أقامه باسكال بين المطلق، أي إله الفلاسفة (مَنْ كانوا يُدعون مُلحدين وعقلانيّين)، وإله يسوع المسيح (وقبله إله الآباء من إبراهيم حتى موسى). إنّ هذا الأخير هو وحده الإله الحيّ. فالأوّل ليس سوى نتيجة الفكر الإنسانيّ، نتيجة التّنظير، الذي يبقى مع هذا قادراً على أن يقول فيه شيئاً صحيحاً، كما يذكّرنا الدستور المجمعيّ حول الوحي الإلهيّ، “كلمة الله” (1)، فكل براهين العقل، في النهاية، تتبع الطريق التي دلَّ إليها سفر الحكمة والرسالة إلى الرومانيّين: الطريق التي تقود من العالم المنظور إلى المطلق اللامنظور.
إن أريسطو وأفلاطون سارا في هذا المنحى كلٌّ على طريقته. والتقليد المسيحيّ السابق لتوما الأكويني، وأغسطينوس أحدُ أركانه، كان يستوحي، بأكثره، أفلاطون محاولاً، بحقّ، أن يبتعد عنه. أمّا في ما يختصّ بالمسيحيّين، فالمطلق الفلسفي الذي يُعتبر وكأنّه الكائن الأوّل أو الخير الأسمى، لم يكن له كبير معنى. فقد تساءلوا: ماذا يجدي الدخول في تنظير فلسفيّ حول الله، إذا كان الله قد تكلّم ليس فيط بأنبيائه بل أيضاً بابنه هو؟ فعلم اللاهوت عند آباء الكنيسة، بخاصّة الشرقيّين منهم، ابتعد شيئاً فشيئاً عن أفلاطون والفلاسفة بصورة عامّة. بعد ذلك تحوّلت الفلسفة، في قلب المسيحيّة، إلى لاهوت (مثلاً كما هي، في عصرنا الحاضر، عند فلاديمير سولوفياف) (2).
وعلى العكس، لم يهجر القديس توما الطريق التي افتتحها الفلاسفة. فبدأ خلاصته اللاهوتيّة بالسؤال “هل الله موجود؟” (3). إنه السؤال الذي تطرحه أنت. هذا السؤال بدا جزيل الفائدة ليس فقط لأنّه سمح بوضع النقاط على علم الإلهيات (4) الذي يبحث في صلاح الله وعدله، ولكنّ المدنيّة الغربيّة بكاملها، التي يطيب لنا أن نعتبرها الأكثر تطوّراً، تتبّعت نشوء الردّ على هذا السؤال وحتى، في يومنا الحاضر، لو وضعت الخلاصة اللاهوتيّة جانباً لبقي السؤال الأساس يتردّد، دون انقطاع، في مدنيّتنا.
ولكي نتابع تأمّلنا، أرى من الملائم، الآن، أن أذكر مقطعاً بكامله، من وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني “فرح ورجاء”. وهو الآتي: “إنّ اللاتوازنَ الذي يشغلُ عالم اليوم هو في الحقيقة مرتبط بلا توازن أعمق، جذوره في قلب الإنسان. ففي الإنسان نفسه عناصر مختلفة تتصارع. فهو، من حيث كونه خليقةً، يخبرُ حدودَهُ المتعدّدة، وهو من جهةٍ أخرى يشعرُ أنّه لا محدود في رغباته، وأنّه مدعوٌّ إلى حياةٍ أسمى. وهو بين هذه المُشادّات الضاغطة مضطراً أبداً أن يختار أو أن يرفضَ. وهو العليلُ والخاطئ، كثيراً ما يفعلُ ما لا يريدُ، ولا يفعلُ ما يريدُ أن يفعله (5)، وهكذا ففي ذاته شقاقٌ، ومن هذا الشقاق الذاتي ينشأ في المجتمع هذا القدرُ من الخُصومات الشديدة (…) ومع ذلك يزداد عدد الذين، أمام تطوّر العالم الحاضر، يطرحون الأسئلة الأكثر اتّصالاً بالأسس، أو يتحسّسونها تحسّسا جديد الحدّة: ما الإنسان؟ ما معنى الألم و الشر والموتِ التي لا تزالُ قائمةً مع هذا العظيم من التطور؟ ما نفعُ هذه الانتصارات التي تنال بمثل هذا الثمن الغالي؟ ماذا يستطيع الإنسان أن يُقدّم للمجتمع، وماذا يُمكنه أن ينتظر منه؟ ما الذي يعقُبُ هذه الحياة الأرضيّة؟
أما الكنيسة فتؤمن بأنّ المسيح، الذي مات وقام لأجل الجميع (6)، يُقدّمُ للإنسان، بوساطة روحه الأقدس، من النور والقوّة ما يُمكنه من الاستجابة لدعوته العُليا، وبأن ليس تحت السماء اسم آخرُ أعطي للناس به ينبغي أن يخلُصوا (7)، وهي تؤمنُ أيضاً بأنّ عند سيدها ومعلمها مفتاح تاريخ البشر وقلبه ونهايته” (8).
هذا النصّ المجمعيّ هو شاسع الغنى. ويمكننا أن نرى بوضوح، ونحن نقرأه، أنّ الجواب عن السؤال: هل الله موجود؟ لا يُطرح على العقل فحسب، لأنّه، أيضاً، سؤال يتناول الوجود الإنسانيّ بكامله. صحيح أنّه يتعلق بمواقف مختلفة يجد الإنسان فيها نفسه، عندما يفتّش عن مغزى وجوده وفحواه. غير أنّ مسألة وجود الله تبقى مرتبطةً كلّ الارتباط بنهاية وجود الإنسان ذاته. ولا يتعلّق الأمر بالعقل فقط، لأنّ إرادة الإنسان متورّطة في ذلك. إنّه سؤال يلامس القلب الإنسانيّ (“أسباب العقل” عند بسكال). وبرأيي أنّه من الظلم أن نرى، في مقاربة القديس توما، تصرّفاً عقلانيّاً صرفاً. صحيح أنّنا لا نستطيع إلاّ أن نوافق إتيان جيلسون (9) عندما يؤكّد أنّ العقل هو أعجب ما خلق الله. ولكنّ هذا لا يعني قطعاً أنّنا نصبّ في عقلانيّة أحاديّة الجانب. لأنّ توما الأكويني يؤكّد غنى كلّ كائن مخلوق وتركيبه، وبخاصّة الكائن البشريّ. وإنّه لمن المؤسف أن يُهمل فكره، بعد المجمع، لأنّه، في الواقع، لا ينفكّ معلّم الشمولية الفلسفيّة واللاهوتيّة. ومن هذا المنظور يجب درس طرائقه الخمس أي الطرائق الخمس التي تقود إلى الجواب عن سؤال: هل الله موجود؟
الحواشي:
1) كلمة الله رقم 3
2) فيلسوف ولاهوتي روسي (1853 – 1900) اكتشف بحماس الفلسفة الوضعية الغربية والتفسير النقدي الذي وضعه حول الكتاب المقدس. أعلن نفسه ملحداً ومن أتباع الفلسفة الماديّة. ولكن لم يمض وقت طويل حتى استعاد إيمان طفولته وكرّس حياته للفلسفة وللرسالة. راقبه حكم القياصرة ومنعه من التدريس. اعتبره عدد من العلماء نبياً لما حمل لاهوته من محبة لله وسعى لوحدة الكنيسة. شخّصه دوستويفسكي على المسرح من خلال شخصيّة اليوشا في “الأخوة كرامازوف”.
3) راجع الموسوعة اللاهوتية Somme théologique 1 a, q. A. 3
4) أو اللاهوت الطبيعي (العقلاني) الذي يبرر صلاح الله رغم وجود الشر. (تعليق للناشر).
5) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 7 / 14 وما يليه.
6) رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل قورنتس 5 / 15
7) أعمال الرسل 4 / 12
8) “فرح ورجاء” دستور عقائدي “الكنيسة في عالم اليوم”، عدد 10
9) إتيان جيلسون استاذ من جامعة السوربون ومعهد فرنسا، عضو الأكاديمية الفرنسية (1884 – 1978)، مؤرخ كبير لفلسفة القرون الوسطى. (تعليق للناشر).
ما البراهين التي نملكها عن وجود الله؟
إسمحوا لي بتوقّف قصير. أنا لا أشكّ مطلقاً بالقيمة الفلسفيّة والنظريّة لما بدأتم بعرضه؛ ولكن هل لا يزال لهذا النوع من الدلالات مغزى ملموس في ما يتعلّق بإنسان اليوم، عندما يتساءل عن وجود الله وكنهه؟
برأيي، هذا الأمر هو ثابت اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، وإن منذ أمدٍ غير بعيد. فالواقع أنّ الذهنيّة الوضعيّة التي كانت لها أهميّة قصوى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تجد نفسها اليوم مدحوضةً نوعاً ما. والإنسان المعاصر يكتشف من جديد ما هو مقدّس على الرغم من أنّه لا يعرف أن يسمّيه باسمه.
لم تكن الوضعيّة فقط فلسفة منهجيّة، بل كانت إحدى هذه المدارس، مدارس الشكّ التي أزهرت وأخصبت في العصر الحاضر. هل الإنسان مؤهّل حقاً ليعرف أكثر مما ترى عيناه، وتسمع أذناه؟ هل هناك معرفة أخرى ممكنة غير المعرفة التجريبيّة الصرف؟ وهل قدرات العقل البشريّ خاضعة كليّاً للحواس، وموجّهة داخلياً بقواعد علم الرياضيّات التي أظهرت فائدتها بنوع خاصّ، في ترتيب الظواهر بصورة جذريّة، وفي توجيه سيرورة التطوّر التقنيّ؟
فلو اعتمدنا الرؤية الوضعيّة فإنّ تصوّرات كالله والنّفس تفقد معناها بكامله. والواقع أن لا شيء يسمح بانضباطها في تجربة حاسّية. ولكن، بالفعل، إن هذه المقاربة هي الموضوعة موضع التساؤل، حاليّاً على الأقل، في بعض الميادين.
وبإمكاننا أن نتأكّد منه، مثلاً، بمقارنتنا أوّل وآخر أعمال ليدويج ويجنشتين Ludwig Wittgenstein الفيلسوف النمساوي في النصف الأوّل من القرن الحالي.
مع هذا، فما من إنسان ينكر كون المعرفة الإنسانية تصدر، في الدرجة الأولى، عن معرفة حاسيّة. وما من فيلسوف اتّباعيّ وضعها موضع شكّ ولا حتّى أفلاطون وأريسطو. فواقعيّة المعرفة، كذلك الواقعيّة المسمّاة ساذجة تتساويان والواقعيّة الناقدة في الاتّفاق على أنّ ما من شيء كائن في الفكر إلاّ وُجِدَ، قبل ذلك، في الإدراك الحسّيّ. إلاّ أنّ حدود هذا الإدراك ليست، حصراً، حاسّية. فنحن نعرف، بالنتيجة، أنّ الإنسان لا يدرك فقط الألوان والأصوات والأشكال بل الأشياء بصورة إجمالية. فمثلاً إنّه يعرف ليس فقط مجموعة الصّفات المتعلّقة بموضوع الإنسان، ولكن أيضاً الإنسان بذاته كشخص. إنّه يعرف، إذاً، حقائق تجاوز الحاسّية، أو بتعبير آخر تلك التي تتموقع أبعد من الاختبار. مع هذا، فمن غير الممكن، أيضاً، أن نؤكّد أنّ ما يتجاوز الاختبار، أي ما يتجاور الميدان التجريبيّ، وما يفوقه، لا ينفكّ أن يكون تجريبيّاً.
إنّه لمن العدل، إذاً، الكلام على التجربة الإنسانيّة والتجربة العقلّية والتجربة الدينيّة. فإذا كان ممكناً استحضار هذه التجارب، فإنّ من الصعب أن ننكر أنّ الخير والشرّ والحقيقة والجمال تجد مكاناً في داخل التجربة الإنسانية. كما يمكن، أيضاً، أن تجد الله فيها. فالله بذاته ليس، بالتّأكيد، موضوعاً لمعرفة تجريبيّة. والكتب المقدّسة تشير إلى ذلك على طريقتها: “إن الله ما رآه أحدٌ قط” (1). فإذا كان الله موضوع معرفة، فهو كذلك على مستوى التجربة التي يقوم بها الإنسان، بالتساوي، على العالم المرئيّ وعالمه الداخليّ الخاصّ. وهذا أمر يتّفق على قوله لنا سفر الحكمة والرسالة إلى الرومانيّين. فهناك يترك عمانوئيل كانط الطريق التقليديّة التي رسمتها أسفار العهد القديم والقديس توما الأكوينيّ، ليتبع طريق التجربة الأخلاقيّة: يعرف الإنسان نفسه ككائن أخلاقّي، جدير بأن يتصرّف حسب معايير الخير والشرّ، وليس فقط حسب معايير المنفعة واللّذة. يعرف نفسه، أيضاً ككائن دينيّ، جدير بأن يتّصل بالله. والصلاة التي تكلّمنا عليها سابقاً هي، بمعنى أو بآخر، أوّل برهان عن هذه الحقيقة.
وإذا ابتعدنا عن هذه الفرضيّة الوضعيّة، فإنّ الفكر المعاصر قد قطع مراحل فاصلة نحو اكتشاف للإنسان أكثر اكتمالاً. فمع اكتشاف قيمة اللغة المجازيّة والرمزيّة، مثلاً، نرى أنّ التفسير (2) العصري، الذي نلاقيه في أعمال بول ريكور (Paul Ricoeur) ، أو من ناحية مغايرة، في أعمال عمانوئيل لافيناس (Emmanuel Levinas) ، يقرّبنا بفضل نظريّات جديدة، من حقيقة العالم والإنسان. وبقدر ما تبعدنا الوضعيّة عن هذا الفهم الأوسع، بقدر ما يسمح لنا التفسير، الذي يستقي من معنى اللغة الرمزيّ، بأن نلاقي هذه الرؤية، وحتّى بأن نغنيها نوعاً ما. طبعاً، لا أقول هذا بهدف نكران قدرة العقل على تكوين تصوّرات وثيقة عن الله وعن حقائق الإيمان.
لهذا السبب، فإنّ فلسفة الدين هي بالغة الأهميّة للفكر المعاصر. مثلاً فلسفة ميرسيا الياد (Mircéa Eliade) ، وعندنا، في بولونيا، فلسفة رئيس الأساقفة ماريان جورسكي (Marian Jawrski) ، ومدرسة ليبلان (Lublin). نحن شهود لعودة عرضيّة إلى الماورائيّات، أي إلى فلسفة الكائن، من خلال علم الإناسة التّامّ. فلا يمكن التفكير الصحيح بالإنسان من دون هذه العودة إلى الله، الذي هو أساسيّ بالنسبة إليه. وهذا ما كان يسميّه القديس توما: “الفعل الواجب الوجود” (Actus essendi) بلغة الفلاسفة. وفلسفة الدين تعبّر عن الشيء نفسه مستعملة درجات التجربة الإناسيّة.
إن فلاسفة الحوار من مثل مارتين بوبر (Martin Buber) ، وعمانوئيل لافيناس مَنْ أتينا على ذكره آنفاً، قد أسهموا كثيراً في هذه التجربة. ولقد وجدنا أنفسنا، بعد ذلك، قريبين كثيراً من مار توما، ولكنّ الطّريق لم تعد تمرّ بالكائن والوجود، كما تمرّ بالأشخاص، وبلقائهم من خلال “الأنا” و”الأنت”. هنا تنشأ مساحة جوهرية لوجود الإنسان الذي هو، دائماً، تعايش ومشاركة.
أين تعلّم فلاسفةُ الحوار هذا الأمر؟ لقد استقَوه، قبل كلّ شيء، من تجربة الكتاب المقدّس. فحياة الإنسان بكاملها تعايش في ما هو يوميّ – “الأنت” و”الأنا” – ولكن، أيضاً، في المساحة المطلقة والنهائية: “أنا” و”أنتَ”. فالتقليد البيبلي يدور حول هذا “الأنت” الذي هو، قبل كلّ شيء، إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله الآباء، ثمّ إله يسوع المسيح والرسل، وإله إيماننا.
إنّ إيماننا هو إناسيّ بعمق، متجذّر جوهرّياً في تعايش شعب الله والاتّحاد مع “الأنتَ” الأزليّة. وتعايش كهذا أساسيّ للتقاليد اليهوديّة – المسيحيّة، وينطلق من مبادرة الله بالذات. ويقع في الخطّ المستقيم للخالق إذ هو امتداد له وهو في الوقت نفسه، وكما يقوم القديس بولس: “اختارنا فيه قبل إنشاء العالم (…) وقدّر (…) أن يتبّنانا بيسوع المسيح” (3).
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 1 / 18
2) علم يحدد مبادئ وأساليب تفسير النصوص. يساعد علم التفسير في اكتشاف المعنى الذي نلحقه بنص معين، بالنسبة إلى وجهة النظر التي نعتمدها لدرسه.
3) رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس 1 / 4
لماذا يحتجب الله ما دام موجوداً؟
إذاً، الله موجود. ولكن ألا يجب تفهّم اعتراض الكثيرين من الناس، أمس واليوم، كونه لا يظهر بشكل أوضح؟ لماذا لا يعطينا عن وجوده، براهين يحسّها ويقبلها الجميع؟ لماذا يشبه تخطيطه السّريّ “لعبة التخبئة” مع مخلوقاته؟
صحيح أنّ هناك أسباباً للإيمان، ولكن، كما أكدّ ويؤكد الكثيرون، هناك، أيضاً، أسباب للشّكّ، حتّى للنكران… ألا تكون الأمور أكثر بساطةً لو أن وجود الله كان أكثر وضوحاً؟
أظنّ أنّ الأسئلة التي تطرحها، والتي يتساءل الكثيرون في موضوعها، لا يمكن أن تكون في موقع الإشكالية عند القديس توما، أو عند القديس أوغسطينوس أو في إشكالية التقليد اليهوديّ – المسيحيّ الواسع. يبدو لي أنّ لهذه الأسئلة مصدراً مختلفاً وهو: العقلانيّة الصافية، ميزة الفلسفة العصريّة. إذ يبدأ تاريخها مع ديكارت الذي فصل، إذا صحّ القول، فكرة الوجود عن كلّيّتها، وطابقها مع العقل بالذات “أنا أفكرّ، إذاً أنا موجود”.
ولكم اختلفَ الأمر مع القديس توما الذي اعتبر أنّ الفكر لا يحدّ الوجود، بل على العكس، فإنّ الوجود، أي كوننا موجودين، هو الذي يحدّد الفكر! فأنا أفكّر كما أفكّر، لأنّني أنا مَنْ “أنا” أي مخلوق، ولأنّ الله هو مَنْ هو، أيّ السرّ المطلق غير المخلوق. فإذا لم يكن سرّاً كان التجلّي غير ضروريّ. ولكن دقيقين كلّ الدّقّة، فإنّ التجلّي، أي إظهار الله ذاته، قد لا يكون ضرورياً.
ولن يكون لأسئلتك أساس إلاّ إذا استطاع الإنسان، بعقله الفعّال المخلوق والمحدّد بذاتيّته، أن يجتاز المسافة التي تفصل المخلوق عن الخالق، المسافة بين الكائن المُحْدَث والتابع، والكائن الجوهر (بحسب التعبير المعروف الذي وجّهه المسيح إلى القدّيسة كاترين دوسيان “مَنْ هي غير كائنة” و“مَنْ هو كائن” (1).
إنّ المشكلات التي تشغلك موجودة، كذلك، في كتبك، وهي تعبّر عن نفسها بسلسلة من الأسئلة. فأنت لا تطرحها باسمك فقط، إنّما أنت تحاول أن تكون ناطقاً باسم معاصرينا. إذ تحاول أن تساعدهم في تفتيشهم عن الله، هذا التفتيش الصعب، أحياناً، والقلق، والذي لا مخرج له. وقلقك يُستشفّ في سؤالك: لماذا لا توجد براهين دامغة عن وجود الله؟ ولماذا يبدو محتجباً كما لو كان يلاعب مخلوقاته؟ أليس ملائماً أن يكون كلّ شيء أكثر بساطةٍ، فيكون وجوده كامل الوضوح؟ كلّ هذه الأسئلة تتّصل بمجموعة أحكام اللاأدرية المعاصرة. واللاأدرية لا تعني الإلحاد. إذ لا يتعلّق الأمر بالإلحاد المبرمج. خاصّةً، كما هو الإلحاد الماركسيّ وبمنظور مختلف، إلحاد “المستنيرين”.
مع هذا، فإنّ لأسئلتك صياغة تقليديّة مصدرها العهدين: القديم والجديد. فعندما تتكلّم على الله الذي يحتجب تستعمل، تقريباً، لغة موسى الذي كان يتمنّى أن يرى الله وجهاً لوجه. ولكنّه لم يستطع أن يرى سوى “ظهره” (2). ألا يوحي لنا ذلك معرفة الله من خلال خليقته؟ وعندما تتكلّم على اللعب فإنّ ما يخطر على بالي لهو هذا التعبير من سفر الأمثال أو الحكمة “يتلّهى على وجه الأرض بين أبناء الناس” (3). أفلا يعني هذا أنّ حكمة الله تُعطى للمخلوقات من غير أن تكشف لها سرَّها كلَّه؟
إنّ إظهار الله ذاته يتمّ بطريقة في غاية الوضوح من خلال “تأنسنه”. وهنا أيضاً تعود التجربة الكبرى لتقوم باختزال تقليديّ لما هو إلهيّ إلى ما هو إنسانيّ – كما شرحه لودويج فوارباخ (Ludwig Fuerbach) . صاحب هذه الفكرة هو فوارباخ، وعنده يتجدّر الإلحاد الماركسي ولكن، “أقول قول أحمق” (4). فالتحدّي صدر من الله نفسه. لأنه صار حقاً إنساناً بابنه، ووُلِدَ من العذراء. فمن هذه الولادة، ومن خلال آلامه وصليبه وقيامته، يبلغ إظهار الله ذاته الذروة، في تاريخ البشريّة، أي: ظهور الله اللامرئيّ في ناسوت المسيح المرئّي.
كان الرسل لا يبرحون يسألون المسيح، عشيّة الآلام قائلين: “أَرِنا الآب وحسبنا” (5). وكان جوابه قاطعاً: كيف يمكنكم أن تقولوا أَرنا الآب، ألا تؤمنون بأنّي في الآب وأنّ الآب فيَّ. صدّقوني على الأقلّ، من أجل تلك الأعمال، فأنا والآن واحد (6).
لكلام المسيح هذا بُعدٌّ شاسع. نجد أنفسنا، تقريباً، في مواجهة تجربة الله المباشرة التي ينهد إليها الإنسان المعاصر. ولكنّ هذه التجربة المباشرة ليست معرفة الله “وجهاً لوجه” (7) معرفته كإله.
لنحاول التفكير دون تحيّز أو انفعال: أكان الله يستطيع أن يذهب بعيداً في تنازله وفي تقرّبه من الإنسان، ومن مؤهلاّته المعرفيّة التي يمتلكها؟ في الحقيقة، إنّه ذهب إلى أبعد ما يمكن، ولم يكن ليستطيع الذهاب أبعد من ذلك. وبمعنى آخر فإنّ الله ذهب حتّى أبعد مما يجب! ألم يَصيرِ المسيح “عثاراً لليهود وحماقة للوثنيّين؟” (8) ذلك لأنّه كان يدعو الله أباه، ولأنّه كان يظهره بوضوح في ذاته. وهذا لا يمكن إلاّ أن يبدو مُغالياً. لقد بدا الإنسان غير قادر على تقبّل هذا القرب. وهكذا ظهرت النزاعات.
إنّ لهذا النزاع الواسع أسماء محدّدة: فهو أولاً في الكنيسة، عند اليهود، ثمّ في الإسلام. فلا اليهوديّة ولا الإسلام يمكنهما التسليم بمثل هذه الإنسانية في الله. وكان الاعتراض أنّ: “هذا لا يليق بالله. يجب أن يبقى العليّ، كلّي التنزيه والجلال والرحمة. ولكن ليس إلى حدّ افتداء زلاّت خليقته ومعاصيها”.
إذاً، ومن وجهة نظرنا، هناك مبّرد لتأكيدنا أنّ الله ذهب إلى أبعد ما يجب عندما أظهر ذاته للإنسانيّة، وعندما عرضَ الأكثر ألوهية عنده، أي حياته الخاصّة: أظهر ذاته في سرّه. ولكنّه لم يتوقّف خوفاً من أن يكشف هذا الإظهار، أمام الإنسان، إذا صحّ التعبير. لأنّ الإنسان لا يقبل أن يحتمل الإغراق في السرّ. إذ لا يكون الله هو الذي به “حياتنا وحركتنا وكياننا” (9). ولكن يحزنه أن لا تتأكّد هذه الحقيقة إلاّ بموت الله وقيامته.
مع ذلك فقد كتب مار بولس: “ولكن، إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضاً باطل” (10).
الحواشي:
1) ريمون دي كابو: “الاسطورة الكبرى” Raymond de Capoue, Legenda maior, 1, 10, 92.
2) سفر الخروج 33 / 18 – 23. “قال موسى ليهوه: “أرني مجدك”. قال (يهوه): “أما وجهي فلا تستطيع أن تراه لأنه لا يراني الإنسان ويحيا”… إذا مرّ مجدي، إني أجعلك في حفرة الصخرة وأظللك بيدي حتى أمّر، ثم أرفع يدي فترى ظهري، وأما وجهي فلا يُرى”.
3) سفر الأمثال 8 / 31
4) رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل قورنتس 11 / 23
5) إنجيل يوحنا 14 / 8
6) إنجيل يوحنا 14 / 9 – 11؛ 10 / 30
7) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 13 / 12
8) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 1 / 23
9) أعمال الرسل 17 / 28
10) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 15 / 14
أيمكن الادّعاء حقاً أنّ يسوع هو الله؟
فلننتقل إذاً، من قضيّة الله إلى قضيّة يسوع، كما سبق وبدأتم بذلك.
لِمَ لا يمكن أن يكون يسوع حكيماً فقط كسقراط؟ أو “نبيّاً” كمحمّد؟ أو “صاحب رؤيا” كبوذا؟ وكيف نبرّر اليقين، الذي لا مثيل معروفاً له، أنَّ هذا اليهوديّ المحكوم عليه بالإعدام في مقاطعة مجهولةٍ من الإمبراطورية الرومانيّة، هو ابن الله، وله طبيعة الآب ذاتها؟ فهذا الادّعاء المسيحيّ لا يوازيه أيّ اعتقاد دينيّ آخر. وقد حدّده بولس بالذات بأنه “شكّ وجنون”.
إنّ مار بولس يعي بعمق طبيعة المسيح المطلقة، الفريدة والتي لا تمكن محاكاتها. فلو كان المسيح حكيماً فقط كسقراط، “ونبيّاً” كمحمّد، أو “صاحب رؤيا” كبوذا، لما كان ليكون كما هو. إنّه الوسيط الوحيد بين الله والناس.
إنّه الوسيط لأنّه الله المتأنس. فهو يحمل في ذاته عالم الألوهيّة الحميم، والسرّ الثالوثي كلّه، وفي الوقت ذاته يحمل سرّ الحياة في الزمن وفي الخلود. إنّه حقّاً إنسان، ولكنّ الألوهيّ فيه لا يختلط بالناسوتيّ: فيبقى مطلق الألوهيّة.
غير أنّ هذا لا يمنع كون المسيح كامل الناسوت! بهذا، فإنّ الإنسانيّة جمعاء وتاريخها بكامله يجدان فيه تعبيرها أمام الله. وليس فقط أمام إله بعيد لا يمكن الوصول إليه، ولكن أمام الله الذي هو في يسوع المسيح، أو بالأحرى الذي هو يسوع المسيخ بالذّات. إنّه شيء لا مثيل له في أيّ دين آخر ولا في أيّ فلسفة من الفلسفات.
المسيح هو فريد مطلق! وهو لا يكتفي بالبلاغة والبيان. فينشر مبادئ نظام دينيّ يُفرَضُ على جميع عباد الله. وهو ليس، بالتالي، حكيماً فقط بالمعنى الذي كانه سقراط، حتّى ولو كان ارتضاءُ الموت الحرُّ، عند هذا الأخير وباسم الحقيقة، يشبه، بعض الشبه، التضحية على الصليب.
يقلّ شبه المسيح ببوذا، أيضاً، لأنّه لا ينكر كلّ قيمة لكلّ ما هو مخلوق. فبوذا على صواب عندما لا يرى إمكان خلاص للإنسان في الخلق. ولكنّه على خطأ في هذا عندما ينفي عن الخلق أيّة قيمة للإنسان مهما كانت. بينما لا يفعل المسيح ذلك ولا يستطيعه لأنّه الشاهد الأزليّ للآب ولمحبّة خليقته منذ البدء. فسرعان ما يرى الخالق كلّ ما هو خير في خلقه، وبخاصّة في الإنسان الذي صُنِعَ على صورته ومثاله. فهو من منظوره يرى هذا الخير من خلال ابنه المتجسّد. يراه كدعوة لابنه وللمخلوقات العاقلة كلّها. فلو قمنا بجهد للذهاب إلى ابعد ما يمكن في الرؤية الإلهيّة لاستطعنا القول إنّ الله يرى هذا الخير بطريقة خاصّة من خلال آلام ابنه وموته.
وفي الواقع، فإنّ هذا الخير سيتأكد بالقيامة التي هي بداية الخلق الجديد وبدء تلاقي الخلق كلّه في الله ومنطلق المصير النهائيّ للخليقة كلّها. ويفصح هذا المصير عن نفسه في أنّ الله سيكون “كل شيء في كل شيء” (1).
إذاً، لقد كان المسيح، منذ البداية، في قلب إيمان الكنيسة وحياتها. إنّه أيضاً في قلب السلطة التعليمية واللاّهوت. وفي ما يختص بالسلطة التعليمية بالذات، علينا أن نحافظ، باهتمام بالغ، على أعمال الألف الأوّل، منذ المجمع النيقاويّ الأوّل (2) حتّى المجمع النقياوي الثاني (3) الذي كان ثمرة المجامع السابقة، ولا سيّما مجمَعَي أفسس (4) وخلقيدونيا. وترتكز مجامع الألف الأوّل كلّها على سرّ الثالوث الأقدس بما فيه انبثاق الروح القدس. غير أنّ هذا كلّه مسيحانيّ الأصل. ومنذ أن أعترف بطرس، حين قال: “أنت المسيح ابن الله الحي؟” (5) إذا المسيح في قلب إيمان المسيحيّين وحياتهم، في قلب شهادتهم التي قدموها غالباً بدمائهم.
لقد عرفت الكنيسة، بفضل هذا الإيمان، انتشاراً متنامياً على الرغم من الاضطهادات. إذ نصّر الإيمان، باطّراد، العالم القديم. وعلى الرغم، أيضاً، من اضطهاد الآريوسيّة (6) التي كانت تنمو في ذلك الحين، فإن الإيمان الصحيح بالمسيح الإله المتأنّس، كما اعترف بطرس بذلك قرب قيصريّة فيليبّس، لم ينفك أن يكون محور حياة الكنيسة وشهادتها وعقيدتها وطقسها. ويمكننا القول إنّه حدث، منذ البدء، تمحور مسيحانيّ للمسيحيّة. يتعلّق هذا، في المقام الأوّل، بالإيمان، ولكنّه يتعلّق كذلك بتقليد الكنيسة الحيّ. إنّنا نجد فيه ظاهرة بيّنة الوضوح في نمو التعبّد لمريم ونمو الفكر اللاهوتي المريمي: “تجسّد من الروح القدس ومن العذراء” (7). وما الفحوى واللاهوت المريميّين، في الكنيسة سوى مظهرين بسيطين للتمحور المسيحانيّ الذي ذكرته.
نعم علينا أن نكرّر ذلك من غير أن نتعب أبداً. فالمسيح، على الرغم من بعض وجوه التقارب، لا يشبه محمّداً ولا سقراط، ولا بوذا. إنّه مطلق الفرادة ولا يضارعه أحد. ففرادة المسيح التي أعلنها بطرس قرب قيصريّة فيليبس هي محور إيمان الكنيسة كما هي موجزة في قانون إيمان الرسل: “أؤمن بالله الآب الكلّيّ القدرة، خالق السماء والأرض، وبيسوع المسيح، ابنه الوحيد، ربّنا الذي حُبِل به من الروح القدس، ووُلِدَ من مريم العذراء، وتألّم على عهد بيلاطس البنطيّ، وصلب ومات وقُبر ونزل إلى الجحيم، وقام في اليوم الثالث من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الله الآب الكلّي القدرة”.
فقانون الإيمان هذا، الذي نسمّيه قانون الرسل، هو التعبير عن إيمان بطرس والكنيسة كلّها. فمنذ القرن الرابع بدأ اعتماد قانون الإيمان، الذي سمّي قانون نيقية والقسطنطينيّة. هذا القانون الذي دخل في التعليم المسيحيّ وفي الطقسيّات طورّ تعليمها. وفي الواقع، تعمّقت الكنيسة في الثقافة اليونانيّة، ووعت ضرورة تركيز تعليمها بطريقة يفهمها العالم كلّه، ويقتنع بها.
وهكذا، فقد أعلنَ في نيقية والقسطنطينيّة أنّ يسوع المسيح هو “ابن الله الوحيد، مولود غير مخلوق، مساوٍ الآب في الجوهر، وبه كان كلّ شيء”.
هذه الصيّغ ليست نتيجةً للثقافة اليونانيّة فحسب، إنّما تتأتّى عن التراث الرسوليّ مباشرةً، فلو أردنا أن نعود إلى الينابيع، إلى المصادر، لوجدناها، قبل كلّ شيء، عند مار بولس ومار يوحنا.
فمسيحانيّة بولس هي فائقة الغنى، وانطلاقتها كانت منذ الحدث الذي حصل له على أبواب دمشق: فالفتى الذي كان على المذهب الفريسيّ، تحوّل، عند ذاك، إلى أعمى. ولكنّ أعين نفسه تفتّحت، في الوقت ذاته، على حقيقة المسيح الذي قام. وهذه هي تلك الحقيقة التي عاهد نفسه، بعد ذلك، على أن يعبّر عنها في رسائله.
إنّ معاني تعليم إيمان نيقية تعكس عقيدة بولس، ولكنّها تتضمّن، أيضاً، تركة يوحنا ولا سيما التي في مقدمة إنجيله (8). فهي، كما في رسائله كلّها، شهادة لكلمات الحياة: “ذاك الذي سمعناه ذاك الذي رأيناه بعينينا ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا” (9).
وبمعنى آخر، يبدو يوحنّا أكثر أهليّةً للشهادة من بولس. غير أنّ شهادة بولس تبقى، على الأخصّ، الأكثر تأثيراً. فالمقارنة بينه وبين يوحنّا مهمّة. وبالنتيجة علينا أن نطلب، عنده، دلائل الإيمان الأولى.
هذه الدلائل ليست عند بولس فحسب، بل هي، أيضاً، عند لوقا الذي كان رفيقاً له. فعنده نجد العبارة التي يمكن أن تستخدم معبراً يربط بين بولس ويوحنّا. إنها الكلمات التي تفوّه بها المسيح – وقد نقلها الإنجيليّ – هكذا: “… تهلل بدافع من الروح القدس” (10). فقال: “أحمدك يا أبتِ ربّ السماء و الأرض، على أنك أخفيت هذه الأشياء على الحكماء والأذكياء، وكشفتها للصغار. نعم يا أبتِ هذا ما كان رضالك. قد سلمني أبي كل شيء، فما من أحد يعرف من الابن إلاّ الآب، ولا مَن الآب إلاّ الابن، ومَنْ شاء الابن أن يكشفه له” (11). هنا، يُعيد لوقا ما قاله متى عن يسوع عندما ردّ على “اعتراف” بطرس: “ليس اللحم والدم كشفا لك هذا بل أبي الذي في السماوات” (12). غير أنّ عبارة لوقا تتوافق كلّ التوافق مع ما جاء في مقدّمة يوحنّا: “إن الله ما رآه أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخذ عن” (13).
مع ذلك، فإنَّ هذه الحقيقة تتردّد، غالباً، عند يوحنّا، حتى ليصعب أن نذكر، هنا، كلّ مقتطفاتها؟ فمسيحانيّة العهد الجديد واضحة وضوحاً ساطعاً، وعلم الكلام واللاهوت، في العصور التي تلت، والآباء، استقوا جميعاً، وبإعجاب دائم التجدّد، من هذا التراث لكّي ينّموه ويعّمقوه باطّراد.
قد تتذكر أنّ رسالتي البابويّة الأولى عن “فادي الإنسان” ظهرت بعد انتخابي ببضعة أشهر فقط، في 16 تشرين الأوّل 1978. ففي الواقع، كان مضمونها يعتمل فيّ عندما جلست على كرسيّ بطرس.
كان يكفيني أن “أفعّل” ذاكرتي. إذا صحّ التعبير، وخبرتي في ما كنت أعيشه سابقاً وأنا على عتبة البابويّة. أسمح لنفسي أن أشير إلى هذا، لأنّ رسالتي البابويّة تجهد في أن تعبّر عن التعليم التقليديّ الذي تلقّنته، من جهة، والأسلوب الرعويّ الذي ينجم عنه، من جهة ثانية. فسرّ الفداء متمثّل فيه من خلال الرؤية الجديدة والعظيمة للإنسان ولكلّ ما هو إنسانيّ. هذه الرؤية التي اقترحها المجمع وبخاصّة الدستور الراعوي “فرح ورجاء”، هذه الرسالة البابوية تبغي أن تكون نشيد ابتهاج عظيم أمام افتداء المسيح الإنسان نفساً وجسداً. فموضوع فداء الجسد، بُحِثَ، بعد ذلك، وبصورة مباشرة، في حلقة الأربعاء للتعليم الدينيّ: “رجلاً وامرأةً خلقهما” ولكن قد يكون من الأصحّ القول: “رجلاً وامرأةً خلّصهما”.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس إلى أهل قورنتس 15 / 28
2) مجمع نيقية (325) حدد عقيدة ألوهية المسيح (تعليق للناشر).
3) مجمع نيقية الثاني عقد عام 787 (تعليق للناشر).
4) مجمع أفسس (431) ومجمع خلقيدونيا (451) حددا أن المسيح هو إله حق وإنسان حق، هو أقنوم واحد في طبيعتين (تعليق للناشر).
5) إنجيل متى 16 / 16
6) بدعة أطلقها أريوس كاهن الاسكندرية (280 – 336) ولاقت نجاحاً واسعاً، على الرغم من تحريمها تكراراً من قبل المجامع المسكونية. ويدّعى آريوس أن يسوع هو مجرد خليقة أغدق الله عليه انعاماً خاصاً فتبّناه: فهو ليس إلهاً. (تعليق للناشر).
7) “قانون الإيمان”.
8) إنجيل يوحنا 1 / 1 – 18
9) رسالة يوحنا الأولى 1 / 1
10) إنجيل لوقا 10 / 21
11) إنجيل لوقا 10 / 21 – 22
12) إنجيل متى 16 / 17
13) إنجيل يوحنا 1 / 18
ها كانت تضحية المسيح
ضروريّة لخلاص البشر؟
بما أنّكم منحتموني، بمودّتكم وطيبتكم الأبويّة، حرّية كبرى، فإنني أتمنّى أن أتابع الآن، إذا شئتم، فأثير قضايا قد تبدو لكم غريبةً، ولكنّها، كما سبق أن أشرتم، قضايا يطرحها معاصرونا. فعندما تبشّرهم الكنيسة بالإنجيل، نشعر وكأنهم يتساءلون: لماذ “قصّة الخلاص” هذه، كما يسمّيها السميحيّون، بهذا التعقيد؟ أكان الله الآب بحاجة، حقاً لأن يضحّي، وبهذه القسوة، ابنه بالذات ليغفر لنا ويخلّصنا؟
إنّ سؤالك يلامس، بصورة شاملة، تاريخ الخلاص، وبالتالي المعنى الأعمق للفداء. لنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على تاريخ الفكر الأوربّي بعد ديكارت. لماذا ديكارت في الواجهة من جديد؟ ذلك أن عمله لا يسم بداية عصر جديد في تاريخ الفكر الأوربّي فحسب بل، أيضاً، لأنّ هذا الفيلسوف، الذي يعدّ، بلا شكّ، من أكبر الفلاسفة الذين أعطتهم فرنسا للعالم، هو في أساس تيّار مركزيّ بشريّ واسع في الفلسفة. ففلسفته: “أنا أفكّر، إذاً أنا موجود” التي ذكرتها آنفاً، يمكن أن تكون شعاراً للعقلانيّة الحديثة.
فعقلانيّة القرون الأخيرة كلّها، في دلالتها الأنكلو سكسونيّة، كما في دلالتها القارّية مع الكانطيّة والهيغلّية والفلسفة الألمانيّة في القرنين التاسع عشر والعشرين حتى هوسرل (Husserl) وهيدغر (Heidegger)، يمكن أن تُعتبر امتداداً وتطوراً لمفاهيم ديكارت. فمؤلّف التأمّلات الماورائيّة ببرهانه الكائني، الانطولوجي، أبعدنا عن فلسفة الوجود كما طرائق مار توما التقليديّة. هذه الطرائق تقود إلى الله، “الوجود القائم بذاته”. وإذ يجعل الوعي مطلقاً يقودنا ديكارت، بالأحرى، إلى الوعي الصرف، إلى الفكر الصافي. فمطلق كهذا ليس قطعاً الوجود القائم بذاته. إنّه بالأحرى، الفكر القائم بذاته نوعاً ما. عند هذا لا يكون له أيّ معنى سوى ما يطابق الفكر الإنسانيّ. وعند ذاك لا نعود نحسب لصحّة هذا الفكر الموضوعيّة أي حساب. لأنّها تضحي شيئاً حاضراً في الوعي الإنسانيّ.
هنا، نجد أنفسنا على عتبة الحضوريّة (immamentisme) والذاتانيّة (subjectivisme) المعاصرتين. فديكارت يسم، على حدّ سواء، بداية تقدّم العلوم الصحيحة والطبيعية والعلوم الإنسانيّة في بعدها الجديد. ولاحقاً زال الاهتمام بالماورائيّات ليتركّز على فلسفة المعرفة. وكان هو أشهر ممثّلي هذا التيّار.
صحيح أنّ من المستحيل أن ننسب، مباشرةً، إلى أبي العقلانيّة الحديثة، الابتعاد الشاسع عن المسيحيّة. بيد أنّه من الصعب ألاّ نعترف أنّه هو الذي خلق المناخ الذي نشأ فيه هذا الابتعاد، في العصر الحاضر. لم يكن ذاك تحوّلاً قاسياً بل سيرورة مستديمة. ونستنتج، بعد ديكارت بمئة أو بمئة وخمسين سنةً أنّ كلّ ما كان مسيحيّاً أساساً في عرف الفكر الأوربيّ، قد وُضعَ جانباً. ويمثّل “المستنيرون” في فرنسا، اليوم، الدور الأوّل، فهذا المذهب يوطّد، دون مواربة، لعقلانية متشدّدة. فالثورة الفرنسيّة هدمت المذابح المكرّسة للمسيح. ورمت بالصلبان في الشوارع، وأدخلت مكانها عبادة إلهة العقل. وعلى أساس هذه العبادة أُعيدت صياغة مُثُل الحرّية والمساواة والإخاء. وهكذا اقتُلِع التراث الروحيّ، وبخاصّة الأخلاقيّ الذي أنشأته المسيحيّة، من أساسه الإنجيلي. إلى هذا الأساس يجب إرجاعه اليوم، لكي يلقى حيويتّه كلّها.
مع ذلك، فإنّ سيرورة الابتعاد عن إله الآباء، إله يسوع المسيح والإنجيل، والإفخارستيا، لم تكن لتفرض الطلاق مع إله موجود فوق العالم. وفي الواقع، كان إله “عَبَدَةِ الله” (déistes) دائم الحضور, ويمكننا أن نستدلّ عليه عند العلماء الموسوعيّين الفرنسييّن، وفي كتابات فولتير، وجان جاك روسّو، وحتى بشكل أوضح عند اسحق نيوتن الذي وسمت مبادئه الرياضيّة الفلسفة الطبيعيّة (Philosophiae naturalis principia mathematica) بداية الفيزياء الحديثة.
ولكنّ موقع هذا الإله هو، دون التواء، خارج العالم. فإلهٌ حاضر في العالم يبدو غير مُجدٍ لعقول تعطي الأفضليّة لمعرفة الكون الطبيعيّة. كذلك فإنّ إلهاً يعمل في الإنسان ليبدو غير ذي نفع للشعور المعاصر، ولعلوم الإنسان التي تدرس الآليّة الواعية واللاواعية للحياة. وهكذا فعقلانيّة “المستنيرين” وضعت جانباً الإله الحقيقيّ، وبخاصّة الإله الفادي.
ما كانت نتائج ذلك؟ كانت، أساساً، أنّ على الإنسان، حتماً، أن يحيا مقوداً بعقله كما لو أنّ الله غير موجود. لم يكن ينبغي طرد الله فقط من ميدان معرفة العالم الذاتيّة ما دام مبدأ وجود الخالق أو العناية الإلهيّة كان غريباً على العلم. ولكن، كان ينبغي أيضاً، التصرّف كما لو أن الله غير موجود، أي كما لو أنّه لا يهتم بالعالم. لقد وضعت الله خارج العالم بحجّة أنّه فرضيّة غير ممكن التحقّق منها. وبالمقابل، فإنّ ما كان يبدو حتميّاً هو أن الله هذا قد أقصيَ عن العالم.
لمَ الإنسانيّة بحاجة للخلاص؟
لقد تتبعت باهتمام تحليلك الفلسفيّ، ولكن ما علاقة هذا بالسؤال الذي طرحته حول “تاريخ الخلاص”؟
كنت سأتناول هذه النقطة بالتحديد. ففي الواقع إنّ طريقة التفكير والعمل العقلانيّة هذه لما اصطُلِحَ على تسميته التنوير (Lumières) تقتحم قلب الخلاصيّة المسيحيّة (La sotériologie) وأعني بذلك الفكر اللاهوتيّ حول الخلاص والفداء. “إن الله أحب العالم حتى أنّه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (1). كلّ كلمة، من جواب المسيح هذا لنيقوديموس، تشكّل حجر عثرة لذهنية اتباع “مذهب التنوير”، الفرنسيين منهم والإنكليز والألمان.
لنأتِ الآن إلى موضوع سؤالك مباشرة، فنحلّل أقوال المسيح هذه التي في الإنجيل بحسب يوحنّا ولنميّز النقاط التي تتعارض مع الذهنية (forma mentis) التي حاولتَ وصفها. ظاهرّياً إنّك تجعل من نفسك ناطقاً باسم إناس اليوم، لذا تسأل “لمَ قصّة الخلاص بهذا التعقيد؟”.
في الواقع، علينا أن نؤكّد أنّها بسيطة جدّاً. وبإمكاننا أن نبيّن، بطريقة بالغة الوضوح، بساطتها العميقة، والمنطق المدهش الذي تنطوي عليه، انطلاقاً ممّا قاله يسوع لينقوديموس بالضبط.
إليك التأكيد الأوّل: “الله أحبّ العالم”. ففي ما يتعلّق بفلسفة “المستنيرين”، لا يحتاج العالم لمحبّة الله، فهو مكتفٍ ذاتيّاً. وهو ليس محبّة، في الدرجة الأولى. بل هو بالأحرى، من هذا المنظور، عقل يدرك أزليّاً. ما من أحد بحاجة إلى تدخّله في عالم الوجود المكتفي ذاتيّاً، والشّفيف أمام الوعي العصريّ المتحرّر أبداً، وباطّراد، من الأسرار بفضل البحث العلميّ الخاضع باستمرار أشدّ الخضوع للإنسان، كأنّه منجم للمادة الأوّليّة لا ينفد، لهذا الإنسان صانع التقنيّة العصريّة. فهذا، بالضبط، هو العالم الذي عليه أن يجعل الإنسان سعيداً.
وعلى العكس، فإنّ المسيح يؤكّد لنيقوديموس “إن الله أحب العالم حتى أنّه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك مَن كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (2). هكذا يجعلنا يسوع نفهم أنّه ليس سهلاً على العالم أن يعطي الإنسان سعادةً مطلقة، إنّما يمكن أن يصير مصدر تعاسة له. هذا العالم الذي يبدو وكأنّه ميدان واسع. هذا العالم حيث تطبّق مكتشفات العلوم والتقنيّات، وتطوّرات الحضارة، والأنماط الحديثة لوسائل الاتّصال، والنظام القائم على الحرّيّات الديمقراطية الخ… هذا العالم غير جدير بأن يجعل الإنسان سعيداً.
عندما يتكلّم المسيح على المحبّة التي يكنّها الآب للعالم، فإنّه لا يقوم بسوى إعادة التفسير الأوليّ لقصّة الخالق في سفر التكوين: “ورأى الله أنّ هذا حسن جداً” (3). مع ذلك، لا يعني هذا أنّ العالم أُعطي السلطان المطلق ليخلّص الإنسان. لا، ليس العالم في وضع يجعل الإنسان سعيداً، أو يجعله ينجو من الشرّ في مختلف أشكاله وأنواعه: من أمراض، وأوبئة، وأعاصير، ومصائب، الخ… فالعالم بكلّ ثرواته وكلّ نواقصه بحاجة للخلاص، بحاجة للفداء.
لا يستطيع العالم أن ينقذ الإنسان من العذاب كما لا يمكن أن ينقذه من الموت مطلقاً. فالعالم فانٍ بكامله، كما يشير إلى ذلك مار بولس في رسالته إلى الرومانيّين: وهو خاضع للفساد ولسلطان الموت. كذلك الإنسان في بُعدِه الجسديّ. فالخلود ليس من هذا العالم. ولا يمكن أن يقتبله الإنسان من غير الله. لهذا يتكلّم المسيح على محبّة الله التي تظهر بمجيء ابنه الوحيد “لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (4). فالحياة الأبديّة لا يعطيها الإنسان إلاّ الله، وهي لا يمكن أن تكون إلاّ عطيّة من الله. كما لا يمكن أن يعطيه إيّاها العالم المخلوق. فالخليقة، والإنسان معها “أخضعت للباطل” (5).
إنّ ابن الإنسان لم يأتِ إلى العالم “ليدين العالم بل ليخَلُصَ به العالم” (6). فالعالم الذي وجده ابن الله، عندما صار إنساناً، لم يكن ليستحقّ الخلاص بسبب الخطيئة التي سادت التاريخ منذ زلّة الإنسان الأول. ولكن هذه نقطة مختلفة يرفضها الفكر “التنويري”. فهو لا يقبل بواقع الخطيئة، وبخاصّة الخطيئة الأصليّة.
عندما اخترت، كموضوع لعظتي، الوصايا العشر ووصيّة المحبّة، يوم زيارتي الأخيرة لبولونيا، صُدِمَ بذلك كل البولونيّين المتأثّرين بفلسفة “المستنيرين”. فعندما يحاول البابا إقناع العالم بواقع خطيئة الإنسان يصبح شخصاً “غير مرغوب به”. وإنّ أصحاب هذه العقلّية لمصدومون، بنوع خاصّ، بما يقوله مار يوحنا عندما يذكر كلمات المسيح ذاته. فقد بشّر المسيح بمجيء الروح القدس الذي “أخزى العالم على الخطيئة” (7). هل يمكن أن تقول الكنيسة غير ذلك؟ ومع هذا فإنّ إظهار واقع الخطيئة لا يعادل الإدانة: “إنّ ابن الإنسان لم يأتِ إلى العالم ليدين العالم، ولكن ليخَلُصَ العالمُ به”. إظهار واقع الخطيئة يعود، على العكس، إلى خلق شروط الخلاص. وشرط الخلاص الأوّل هو أن يعي الإنسان خطيئته بما فيها خطيئته “الموروثة”، ثمّ أن يعترف بها أمام الله الذي لا ينتظر سوى هذا الاعتراف ليخلّصه. الخلاص يعني أن يأخذه بين ذراعيه، ويرفعه باندفاع الحبّ المنقذ، الذي هو دائماً أقوى من أيّة خطيئة. ويبقى مثل الابن الشاطر، من وجهة النظر هذه، نمطاً لا مثيل له.
وكما ترى، فتاريخ الخلاص يبدو بغاية البساطة، وهو يتوافق وتطوّر كامل التاريخ الإنسانيّ على الأرض، إذ يبدأ مع آدم الأوّل، ومحوره هو في ظهور آدم الثاني، يسوع المسيح (8)، وحدُه في التتّمة النهائيّة لتاريخ العالم، في الله، عندما يصير “كُل شيء في كل شيء” (9).
وهو التاريخ نفسه الذي يتمّ، أيضاً، في إطار كلّ وجود إنسانيّ. ويمكننا القول إنّنا نجد له، كملّخص، في مثل الابن الشاطر، أو في ما قاله المسيح للمرأة الزانية: “وأنا لا أحكم عليك، إذهبي ولا تعودي بعد الآن إلى الخطيئة” (10). ويرتكز تاريخ الخلاص على تدخّل الله الحاسم في تاريخ البشريّة. ويبلغ هذا التدخّل ذروته في السرّ الفصحيّ – آلام يسوع وموته، وقيامته، وصعوده إلى السماء – لكي يُنجَز في العنصرة. هذا التاريخ يكشف إرادة الله الفادية، ولكنّه يظهر أيضاً ماهيّة رسالة الكنيسة. إنّه تاريخ كلّ إنسان، وفي الوقت نفسه تاريخ الأسرة البشريّة بكاملها مع بداية الخلق، ثمّ إعادة الخلق المفتدَى في المسيح، وفي الكنيسة. ولقد فهم القديس أغسطينوس جيّداً سيرورة هذا التاريخ عندما كتب: مدينة الله (La cité de Dieu) ولكن لم يكن وحده قطّ.
يسمح تاريخ الخلاص أن نجدّد باستمرار تفسير تاريخ البشريّة. هذا التفسير الذي علينا أن نستعيده دائماً. وفي الواقع فإنَّ مفكّرين كُثراً، ومؤرّخين معاصرين يهتمّون به لأنّه هو الذي يحثّ الفكر أكثر من أيّ شيء آخر. وكلّ المسائل التي عالجها المجمع الفاتيكاني الثاني تتركّز، في النهاية، على هذا الموضوع.
وأخيراً، فإنّ تاريخ الخلاص لا يثير مسألة تاريخ الإنسان بقدر ما يثير معنى وجوده. وبالنتيجة، هو، في الوقت نفسه، تاريخ ونظرة ما ورائية. ويمكن القول إنّه يكوّن اللاهوت في شكله الناجز نجوزاً تامّاً. إذا اعتبرنا، هذا اللاهوت، كعلم كلّ “اللقاءات” بين الله والعالم. وما الدستور الختاميّ للمجمع الفاتيكانيّ الثاني، “دستور عقائدي في رسالة الكنيسة” في علاقة الكنيسة والعالم المعاصر، سوى تأوين (actualization) لهذه الرؤية الأساسية.
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 3 / 16
2) إنجيل يوحنا 3 / 16
3) سفر التكوين 1 / 12 – 31
4) إنجيل يوحنا 3 / 16
5) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 20
6) إنجيل يوحنا 3 / 17
7) إنجيل يوحنا 16 / 8
8) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 15 / 45
9) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 15 / 28
10) إنجيل يوحنا 8 / 11
إذا كان الله محبّة فلماذا
هذا الشرّ كلّه في العالم؟
إنّ ما عرضتموه لَتصوّراتٌ شاسعةٌ خلاّبةُ لا يمكن إلاّ أن تغذّي رجاء المؤمنين.
مع هذا فلا يمكننا أن نتجاهل أنّ المسيحييّن يطرحون، هم أيضاً، وقت المحنة، سؤالاً مؤلماً: كيف لا نكفّ عن الثقة بإله قد يكون أباً رحيماً، أو قد يكون المحبّة ذاتها، بحسب وحي العهد الجديد، وبحسب ما تردّدونه بشغف، كيف لا نكفّ عن الإيمان بهذا الإله بينما ترانا نواجه من العذابات والمظالم والأمراض والموت ما يبدو مسيطراً على تاريخ البشريّة الكبير، والتاريخ الصغير اليوميّ لكلّ منّا؟
يستمر الصليب ثابتاً بينما العالم يدور. لقد سبق أن قلت: “نحن قلب تاريخ الخلاص بالذات. صحيح أنّ ما من أحد يمكنه أن يتحاشى هذه الأسئلة التي هي في مصدر شكوك كثيرة، ليس فقط حول حلم الله وطيبته إنّما حول وجوده بالذات: كيف أمكن أن يسمح الله بهذا المقدار من الحروب، وبمعسكرات الاعتقال؟ (La Shoah). إذا سمح الله بذلك فهل يبقى محبّة كما أعلن يوحنا في رسالته الأولى؟ وهل ذلك عدلٌ، أيضاً، تجاه خليقته؟ ألا يضع على كاهل كلّ إنسان حملاً ثقيلاً؟ ألا يترك الإنسان في وحدة مأسوّية، مسحوقاً بوزر الحياة، محكوماً بوجود لا أمل فيه؟ وماذا عن كلّ هؤلاء المرضى الذين في المستشفيات، وكلّ هؤلاء الأطفال المعاقين، وكلّ هؤلاء الناس الكائنين الذين لا يحصلون أبداً على جزء ولو ضئيل من السعادة الأرضية، هذه السعادة البسيطة التي تمنحها المحبّة والزواج والعائلة؟ يمكن أن تبدو صفحة الحياة قاتمةً جدّاً! ونجد على ذلك أمثلة كثيرة في الأدب الاتّباعيّ (الكلاسيكي) والأدب المعاصر. ويكفي أن نذكر فيودور دوستويفسكي، وفرانز كفكا أو ألبير كامو.
لقد خلق الله الإنسان ذكيّاً وحرّاً؛ وإذ فعل هذا قَبِلَ أن يُخضع نفسه لحكم خليقته.
وتاريخ الخلاص هو أيضاً تاريخ الحكم الذي لا يزال الإنسان يصدره في حقّ الله. لأنّ الأمر لا يتعلَق بأسئلة بسيطة أو بشكوك بل بحكم حقيقيّ فعلاً. وإنّ جزءاً من سفر أيوب، في العهد القديم، ليتضمّن النموذج المثاليّ لحكم كهذا. يندرج في هذا تدخّلات الشيطان الخدّاع الدائم السرعة في حكمه، بحدّة ذهن غريبة، ليس فقط على الإنسان بل على عمل الله في تاريخ الإنسان، أيضاً. نجد لهذا توضيحات مؤثرة في سفر أيوب.
أمّا في ما يتعلّق بعار الصليب فلقد أحسنت، في أسئلتك السابقة، صياغة العبارة: أكان ضرورياً لخلاص الإنسان أن يضحي الله بابنه على الصليب؟
في هذه المرحلة من تأمّلنا نرى أنّنا مؤهلون فقط لأن نتساءل إذا كان بالإمكان غير ذلك… فهل كان بمقدور الله، إذا صحّ القول، أن يبرّر نفسه من تاريخ الإنسان ووزر ألمه ألاّ بوضع صليب المسيح في قلب هذا التاريخ بالضبط؟ حتماً، يمكن أن نجيب أن ليس على الله أن يبّرر نفسه أمام الإنسان بل يكفي أن يكون كلّيّ القدرة. وانطلاقاً من هذا المنظور فإنّ كلّ ما يفعله ويسمح به يجب أن يكون مقبولاً. وهذا موقف أيّوب في الكتاب المقدس. ولكنّ الكليّ القدرة هو حكمة كذلك. وهو محبّة أيضاً، وهذا ما يجب علينا أن نردّده دائماً. لذا، يحرص على أن يبّرر نفسه، نوعاً ما، في ما يتعلّق بتاريخ الإنسان. فموقفه ليس مطلقاً خارج العالم، فلا يبالي بالعذاب الإنسانيّ. إنّه عمانوئيل، ” الله معنا”، الذي يقاسم الإنسان مصيره ويشاركه فيه. يكشف هذا كم هي غير كافية وكم هي مغلوطة صورة الله التي رسمتها فلسفة “المستنيرين” والتي قُبلت بمعزل عن روح النقد. أمّا في ما يتعلّق بالإنجيل فقد كان ذلك إنكفاءً بالتأكيد: أي كلّ ما هو معاكس للتقدّم في معرفة الله والعالم، أو بالأحرى كان خطوةً إلى الوراء في إمكان فهمهما.
لا،لا، ليس الله شخصاً غائباً عن العالم، مكتفياً بكونه حكمة وقدرة كلّيّة. فحكمته وقدرته الكليّة موضوعتان طوعاً في خدمة الخليقة. فإذا كان العذاب ماثلاً في التاريخ الإنسانيّ فإنّ القدرة الكلّية لا يمكن أن تظهر إلاّ بالقدرة الكليّة لعاره على الصليب. فعار الصليب هو مفتاح سرّ الألم الذي لا ينفصل تحدّيه عن تاريخ الإنسان.
يسلّم بهذا حتى الذين ينتقدون المسيحية اليوم. فهم يعترفون، كذلك، أنّ المسيح المصلوب هو برهان لتضامن الله مع الإنسان المعذّب. يأخذ الله نفسه جانب الإنسان ويقوم بذلك بصورة جذريّة: “وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب” (1). وهذا يتضمّن كلّ شيء، وكلّ ألم مهما كان إفرادياً أو جماعياً. الآلام التي سبّبتها قوى الطبيعة أو التي سبّبها الإنسان عمداً: كالحروب ومخيّمات الاعتقال، والإبادات الجماعيّة. ويطرق فكري، هنا، محرقات اليهود، وأيضاً محرقات عبيد أفريقيا السود، على سبيل المثال.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس إلى أهل فيليبي 2 / 7 – 8
لِمَ لا يمكن أن يُلغيَ الله الشرَّ والألم؟
نعرف جيّداً، مع ذلك، اعتراض البعض، وهو أنّنا بإيضاحات كهذه نكون قد غيّرنا وجهة المسألة إلى الألم و الشرّ، من غير أن نواجهها حقيقةً. ففي الواقع، يؤكّد الإيمان أنّ الله كلّيّ القدرة. إذاً، لِمَ لم يُلغ العذاب من العالم الذي خلقه، ولِمَ يُصِرّ على عدم إلغائه؟
ألا يمكن، عند هذا، أن نتكلّم عن نوع من “العجز الإلهيّ” كما يفعل ذلك، الآن، مفكّرون مخلصون لدينهم؟
نعم، يمكننا القول إنّ الله عاجز أمام الحرّية الإنسانيّة. كما يمكننا القول، بمعنى أو بآخر، أنّ الله يكفّر عن كلّ ما أعطاه للكائن الذي خلقه على “صورته ومثاله” (1). كما أنّه لا يعدل عمّا أعطى. لهذا السبب يترك للإنسان أن يحاكمه أمام محكمة غير شرعية تتحدّاه بأسئلتها: “أفأنت ملك إذن”؟ (2) وبمعنى آخر: “تدّعي، إذاً، أنّ كلّ ما يحدث في العالم، في تاريخ إسرائيل وفي تاريخ الأمم جمعاء، مرتبط بك”؟
وإنّنا لنعرف ردّ المسيح حينما استجوبه بيلاطس، قاضيه إذ قال: “ولدت، وأتيت العالم ألاَ لأشهد للحق” (3) ولكن: “ما هو الحق”؟ (4) هنا يتوقّف الإجراء القضائي. إنّها الدعوى المأسويّة التي يَتهّم فيها الإنسان الله أمام محكمة التاريخ. فالحكم لم يصدر في نطاق احترام الحقيقة. فقد قال بيلاطس أولاً: “أنا لا أجد فيه سبباً لإتهامه” (5). لكنه أمر، بعد ذلك بقليل: “خذوه، أنتم، واصلبوه”(6) وهكذا يغسل يديه، ويتملّص من السؤال الذي طرحه بنفسه، متخلّصاً من كل المسؤولية، ليلقي بها على الجمع المهتاج.
وهكذا فإنّ إدانة الإنسان لله لا ترتكز على الحقيقة، بل على استغلالٍ سلطوي، وتآمرٍ جبان. أفلا تكشف هذه الإدانة حقيقة تاريخ الإنسان، حقيقة عصرنا؟ ألا يمكن في أيّامنا هذه، أن تتكرّر إدانة كهذه في محاكم لا تُحصّى تابعة لأنظمة طغيان كلّيّانيّة (توتاليتاريّة)؟ ونحن، ألمْ نصدر أحكاماً مماثلة ضمن مجالسنا الديمقراطية عندما ندين، مثلاً، الكائن البشريّ، قبل ولادته، بمقتضى شرائع تُسَنُّ بانتظام؟
إنّ الله هو دائماً، إلى جانب المعذّبين، وقدرته الكلّيّة تُظهِرُ، بحقٍّ، قبوله الطوعيّ للألم. كان بإمكانه ألاّ يفعل ذلك فيطلق قدرته الكليّة حين صلبه بالذات. فلقد عُرِض عليه: “فلينزل، الآن، المسيح ملك إسرائيل، عن الصليب، لنرى ونؤمن” (7). ولكنّه لم يرفع التحدّي، فكونه بقى على الصليب حتى النهاية، وكونه استطاع أن يقول، على الصليب، ككلّ الذين يتألّمون: “ألوي ألوي لما شبقتاني؟” (8) كلّ ذلك جعل هذا الحدث وكأنّه الأكثر حسماً في تاريخ الإنسان. فلولا احتضار الله على الصليب لبقيت حقيقة كونه محبّةً معلّقةً في الفراغ.
نعم الله محبّة، ولأجل هذا أرسل ابنه ليظهر به المدى الذي تصل إليه المحبّة. فالمسيح هو الذي “أحبّ حتّى النهاية” (9) و”حتّى النهاية” تعني حتى آخر نسمة من الحياة، كما تعني أنّه أخذ على عاتقه كلّ ما ينتج عن خطيئة الإنسان، بحسب ما تنبّأ أشعيا: “لقد حمل هو آلامنا (…) كلّنا ضللنا كالغنم، كل واحد مال إلى طريقه، فألقى الرب عليه إثم كلّنا”. (10).
“إنسان الألم” هو الكشف عن هذه المحبّة التي “تتحمّل كلّ شيء” (11) هذه المحبّة التي هي “العظمى” (12). إنّه الكشف عن هذا الإله الذي ليس محبّة فحسب، بل “يُفيض المحبّةَ في قلوبنا بالروح القدس” (13). وأخيراً فإنّ الإنسان، الذي يشارك المصلوب في الفداء، ينتصر في ذواتنا على الإنسان الذي يدّعي إدانة الحكمة الإلهيّة الفاعلة في حياته الخاصّة وفي تاريخ الإنسانيّة.
وهكذا، يجد كلّ منّا نفسه في قلب تاريخ الخلاص بالذات. فالحكم على الله يُضحي حكماً على الإنسان. والبُعد الإلهي لهذا الحدث يلتقي والبعد الإنسانيّ ويتشابكان ويتّحدان. فكيف لا نتأثّر بذلك؟ فمن جبل “الطوباويات” تقود طريق البشرى الجديدة إلى طريق الجلجلة (14). إنّها تمرّ بطور طابور، جبل التجلّي.
يشكّل عار الجلجلة تحدّياً هو من الفداحة بحيث أنّ الله أراد أن يُخطر الرّسل بما سيحدث منذ الجمعة العظيمة حتى أحد الفصح.
ورسالة الجمعة العظيمة النهائية هي الآتية: أيّها الإنسان، يا مَنْ تحاكم الله، وتنذره بأن يبرّر نفسه أمام محكمتك، أنظر إلى ذاتك، ألن تكون مسؤولاً عن موت هذا المحكوم عليه؟ ألا تحاكم نفسك، حقاً، عندما تحاكم الله؟ فكّر ملياً ألا يبقى هذا الحكم ونتيجته – الصليب والقيامة بعده – الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقودك، بعد الآن، إلى الخلاص؟
عندما بشرّ الملاك جبرائيل عذراء الناصرة بولادة الابن، وإذ أعلن أن: “ولن يكون لملكه نهاية” (15) كان من الصعب، فعلاً، التوقّع أن هذه الكلمات تبشّر بأحداث كهذه، وأنّ مُلْكَ الله، في العالم، سيتوطّد بثمن كهذا، وأنّه سيكون، مذ ذاك، على تاريخ خلاص الإنسانيّة بكاملها، أن يتبع طريق الصليب.
مذ ذاك فقط أم منذ البداية بالذات؟ فما حصل على الجلجلة هو حدث تاريخ ولكنّه غير محدود بالمكان والزمان. إنّه يرجع في الماضي، إلى بداية العالم، ويفتح باب المستقبل حتى نهاية التاريخ. يستعيد الإنسانية كلّها في كلّ الأمكنة وكلّ الأزمنة. فالمسيح هو ما تنتظره الإنسانيّة، وهو في الوقت نفسه، نهايتها: “فلا خلاص بأحد غيره لأنه ما من اسم تحت السماء أطلق على أحد الناس ننال به الخلاص” (16).
المسيحيّة هي دين الخلاص، أي التأمّل اللاهوتيّ في الخلاص، في ما لو استعملنا لغة اللاهوت. فالسرّ الفصحيّ يتضمّن التأمّل اللاهوتيّ المسيحيّ في الخلاص. فعلى الإنسان أن يتوقّف عند أقدام الصليب لكي يأمل بالخلاص بالله. وبعد ذلك، أي يوم الأحد الذي يلي السبت المقدّس، عليه أن يتواجد أمام القبر الفارغ فيسمع ما قيل لنساء أورشليم: “إنه ليس ههنا فقد قام” (17). فمن الصليب إلى القيامة يتوضّح اليقين بأن الله يخلّص الإنسان، يخلّصه بالمسيح، بصليبه، وبقيامته.
الحواشي:
1) سفر التكوين 1 / 26
2) إنجيل يوحنا 18 / 37
3) إنجيل يوحنا 18 / 37
4) إنجيل يوحنا 18 / 38
5) إنجيل يونا 18 / 38؛ 19 / 6
6) إنجيل يوحنا 19 / 6
7) إنجيل مرقس 15 / 32
8) إنجيل مرقس 15 / 34
9) إنجيل يوحنا 13 / 1
10) أشعيا 53 / 4 – 10
11) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 13 / 7
12) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 13 / 13
13) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 5 / 5
14) علق يسوع على الصليب، في الجلجلة وهي تلة تقع خارج أسوار أورشليم (تعليق للناشر).
15) إنجيل لوقا 1 / 33
16) أعمال الرسل 4 / 12
17) إنجيل متى 28 / 6
هل يُخَلَّصُ العالم كلّه؟
لا تجهلون، قداستكم، أنّنا، نحن معشر العاديّين، معرضّون، في غمرة ثقافة اليوم، لعدم فهم المعنى الحقيقيّ لما يقوم عليه المفهوم المسيحيّ للوجود؟
أسألكم، إذاً، ما المعنى المحسوس، في الإيمان، لكلمة “خلاص”؟ وما هذا الخلاص الذي هو قلب المسيحيّة كما تردّدون؟
الخلاص يعني التخلّص من الشرّ. وهذا لا يعني فقط الشرور ذات الطبيعة الاجتماعية كالظلم والقهر والاستغلال فحسب، ولا الأمراض والمصائب، والكوارث الطبيعيّة، وكلّ ما يعتبر مصيبةً في تاريخ البشريّة.
الخلاص يعني التخلّص من الشرّ جذريّاً ونهائياً وحتّى الموت لم يعد يُعتبر شرّاً غير قابل للمعالجة ما دامت القيامة قد تلته. القيامة هي عمل المسيح. فَبِه لم يعد يموت شرّاً ميئوساً منه. لأنّ سلطان الحياة قد تغلّب عليه وقهره. وليس بحوزة العالم سلطان مماثل. فهو يستطيع أن يبلغ الكمال بتقنيّاته العلاجيّة في ميادين مختلفة، غير أنّه يبقى، في النهاية، عاجزاً عن أن يخلّص الإنسان من الموت. لذا لا يمكن، بأيّ شكل من الأشكال، أن نتصوره مصدر خلاص للإنسان. الله وحده يخلّص، يخلّص البشريّة جمعاء بالمسيح. وحتّى اسم يسوع الذي يعني “الله المخلّص” يعلن خلاصنا ويؤكدّه. وكثيرون من بني إسرائيل كانوا قد حملوا هذا الاسم، ولكن يمكن القول إنّ هذا الاسم كان ينتظر ابن إسرائيل الذي عليه أن يؤكّد حقيقته: “ألستُ أنا الرب؟ فإنه ليس من رب آخر لا إله غير إله بار مخلِّص ليس سواي” (1).
الخلاص يعني التخلّص من الشرّ المطلق. فالشرّ ليس فقط غروب الإنسان المتزايد، تبعاً للوقت الذي ينقضي ومع الإنهيار النهائي في لجّة الموت. لأنّ الشرّ، وقد أضحى أكثر تجذّراً، هو رفض الله للإنسان، أي الهلاك الأبديّ الذي هو نتيجة رفض الإنسان لله.
الهلاك الأبديّ نقيض الخلاص، ولكنّه والخلاص مرتبطان بكون الإنسان مدعوّاً إلى الحياة الأبديّة، وكلاهما يفترض خلود الكائن البشريّ. ولا يمكن الموت المؤقّت ألاّ يجعل الإنسان معدّاً للحياة الأبدية.
ما الحياةُ الأبديّة؟ إنّها السعادة التي تنجم عن الاتّحاد مع الله. فالمسيح يؤكّد أنّ “الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك، ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح” (2). يتحقّق الاتّحاد مع الله في رؤية الكائن الإلهيّ “وجهاً لوجه” (3). وهذا ما يُعى بالرؤية الطوباويّة، لأنّها تلائم مآل الحقيقة الإنسانيّ. إذ يمكن الإنسان بفضل معارفه ما قبل العلميّة ثم العلميّة، أن يتوصّل إلى جزيئات من الحقيقة. ووحدها رؤية الله “وجهاً لوجه” يمكنها أن تسمح له فيتمتّع بفيض الحقيقة كلّه. بهذه الطريقة فقط ترتضي رغبة الإنسان نهائياً ألا وهي: تأمّل الحقيقة.
غير أن الخلاص يذهب أبعد من ذلك أيضاً. فإذ يعرف الإنسان الله “وجهاً لوجه” يلاقي كمال الخير المطلق. وإنّ الحدس الأفلاطوني لفكرة الخير قد وجد في المسيحية تثبيتاً نهائياً في الميدان الفلسفيّ البحت. ولا يعني ذلك اتّحاده بفكرة الخير، بل اتّحاداً بالخير عينه. “ماذا عليّ أن أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟” أجاب المسيح: “لمَ تدعوني صالحاً؟ ما من صالح إلاّ الله وحده” (4). إنّ الله هو اكتمال الحياة لأنه اكتمال الخير. فالحياة فيه ومنه، وليس لهذه الحياة حدود في المكان والزمان “فالحياة الأبديّة” ترتكز على الاشتراك في حياة الله ذاته باتّحاد الآب والابن والروح القدس. وتفسّر عقيدة الثالوث الأقدس الحقيقة حول حياة الله الخاصّة، وتدعو إلى تشهّيها. والإنسان مدعوّ إلى اتّحاد كهذا بيسوع المسيح، ومَقودٌ إليه.
حياة الإنسان الأبديّة هي هذا بالتمام والكمال. يعطي موت المسيح الحياة لأنّه يسمح للمؤمنين بالمشاركة في قيامته. فالقيامة هي تعبير عن الحياة التي تنتصر على الموت وتغلي حدوده. فقبل موته وقيامته أقام المسيح أليعازر من القبر، والحوار الذي سبق ذلك مع أخت صديقه يستحقّ التأمل فيه. فقد قالت مرتا، قبلاً: “لو كنتَ هنا، يا سيّدي، لما مات أخي” وقد أجابها يسوع: “سيقوم أخوك”. وردّت مرتا: “أعلم أنّه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير”. ولكنّ يسوع أجاب: “أنا القيامة والحياة. من آمن بي وإن مات فسيحيا وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت للأبد” (5).
إنّ هذه الكلمات التي نطق بها، قبل قيامة أليعازر، تعبّر عن حقيقة قيامة الأجساد التي إجترحها المسيح. فقيامته هو، وانتصاره على الموت يجذبان كلّ إنسان. نحن كلّنا مدعوّون إلى الخلاص، أي إلى المشاركة في الحياة التي تجلّت في قيامة المسيح. وبحسب القديس متى فإنّ هذه القيامة يجب أن يسبقها الحكم على أعمال البّر التي أتممناها أو أهملناها (6). ويلي هذا الحكم دعوة الصالحين إلى الحياة الأبديّة، وإحالة الملاعين إلى الهلاك الأبديّ، إلى الانفصال النهائيّ عن الله، إلى طلاق المشاركة مع الآب والابن والروح القدس. وهذا ليس معناه أنّ الله يرفض الإنسان بقدر ما أنّ الإنسان هو الذي يرفض الله.
إنّ إمكان الهلاك الأبديّ مؤكّد في الإنجيل دون أيّ لَبْس أو إبهام. ولكن إلى أيّ مدى يتمّ ذلك واقعيّاً في دنيا الآخرة؟ إنّه بالنهاية لسرٌّ عظيم. وهو لا يسمح، مع هذا، أن ننسى أنّ الله “يريد أن يخلّص البشر جميعاً، فيصلوا إلى المعرفة” (7).
إنّ السعادة التي تغمرنا بمعرفة الحقيقة، برؤية الله وجهاً لوجه، وبالمشاركة في حياته، تلبّي بعمق، الطموح المحفور في كيان الإنسان ذاته والذي لا يترك مجالاً لأيّ شكّ. فحوى الفقرة التي ذكرتها من الرسالة الأولى إلى طيموتاوس: أنّ الذي خلق الإنسان وحباه هذا النزوع الأساسي إلى السعادة لا يمكنه أن يتصرف بخلاف ذلك فلا يستطيع إلاّ أن “يريد أن يخلّص الناس جميعاً فيتوصلّوا إلى معرفة الحقيقة” (8).
المسيحيّة هي دين خلاصيّ والخلاصيّة المسيحيّة هي خلاصيّة الصليب والقيامة. يريد الله أن ” يحيا الإنسان” فهو، بموت الابن، يقترب من كلّ إنسان ليظهر له الحياة التي يدعوه إليها. فعلى من يرغب في الخلاص، وإن غير مسيحيّ، أن يتوقّف أمام صليب المسيح.
ولكن، أيمكن أن يعرف هذا الإنسان كيف يتقبّل حقيقة السرّ الفصحيّ؟ هل يعرف أن يؤمن؟ هذه الآن مسألة أخرى، لأنّ سرّ الخلاص هو عمل قد تمّ. إنّ الله يأخذ بين ذراعيه كلّ الناس في كلّ العصور، بصليب ابنه وبقيامته، فيضمّهم جميعاً في الحياة المتجليّة بالصليب والقيامة والتي لا تنفكّ تتفجرّ منهما. فالسرّ الفصحيّ بات مطعّماً في تاريخ البشريّة كما في التاريخ الخاصّ لكلّ إنسان. يساعدنا على فهم ذلك الاستعارة الواردة في إنجيل يوحنا (9) في مثل الكرمة والأغصان.
إنّ عقيدة الخلاص المسيحيّة تعلن أنّ اكتمال الحياة المسيحيّة هو الذي يخلّص. ولا يتعلّق الأمر بخلاص بات سهل المنال باكتشاف الحقيقة في الوحي بل، بالأحرى، بخلاص بات ممكناً بالمحبّة وفي المحبّة. إذ يمكننا القول إنّ الخلاصيّة المسيحيّة ترتكز، قبل كلّ شيء على المحبّة الإلهيّة.
بالنتيجة هي المحبّة التي تملك هذا السلطان الخلاصي بالدرجة الأولى. وبحسب رسالة مار بولس إلى القورنثيّين، فإن هذا السلطان هو أسمى من سلطان المعرفة الخالصة للحقيقة. “فالآن تبقى هذه الأمور الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبّة ولكن أعظمها المحبّة” (10). فالخلاص بالمحبّة هو، في الوقت عينه، مشاركة في اكتمال الحقيقة، وفي الجمال. فكلّ اكتمال هو في الله. و”كل كنوز الحياة والقداسة هذه”، كما تقول طلبات قلب يسوع الأقدس، وهبها الله للإنسان بيسوع المسيح. إنّ الطبيعة الخلاصيّة المسيحيّة تتجلّى في حياة الكنيسة السرّية. فالمسيح الآتي “لتكون الحياة للناس وتفيض فيهم” (11) يفجر ينابيع الحياة، ويهبنا طريقاً إليها في سرّ فصحه، المتعلّق بالموت والقيامة. ويرتبط بهذا السرّ سرّا العماد والإفخارستيا، هذان السرّان اللذان يضعان في الإنسان بذرة الحياة الأزّلية. ولقد وطّد المسيح كذلك سلطان سرّ المصالحة المجدّد في السرّ الفصحّي إذ قال للرسل، بعد القيامة: “خذوا الروح القدس، مَنْ غفرتم لهم خطاياهم تُغفَر لهم” (12).
تتبدّى الطبيعة الخلاصيّة المسيحيّة في العبادة أيضاً: ففي صميم كل فعل تسبيحيّ يتواجد احتفال القيامة والحياة.
تركّز الكنيسة الشرقيّة، في طقسها، على القيامة بصورة أساسيّة. وتحترم الكنيسة الغربيّة هذه الأولويّة للقيامة، ولكنّها تتعهّد أحياناً، وبوضوح أكثر، الاحتفال بالآلام. إنّ عبادة صلب المسيح قد كيّفت تاريخ الصلاة المسيحيّة فألهمت أعظم القدّيسين الذين أنجبتهم الكنيسة عبر العصور. فكلّهم، بدءاً بالقدّيس بولس، قد أجلّوا صليب المسيح واحترموه (13). ومن بين هؤلاء يحتلّ القديس فرنسيس الأسيزي مقاماً سامياً دون سواه. ما من قداسة مسيحيّة دون وفاء للآلام. كما أنّه ما من قداسة دون اعتراف بأولويّة السرّ الفصحيّ.
إنّ الكنيسة الشرقيّة تعلّق أهميّة خاصّة على عيد التجلّي. فغالباً ما استقطب هذا السرّ القدّيسين الأرثوذكس. وقد حمل قدّيسو الكنيسة الكاثوليكيّة أحياناً، آثار جراح المسيح، كالقديس فرنسيس الأسّيزي. لقد حملوا السمات الحسيّة التي تشير إلى انتمائهم إلى المسيح حتى في آلامه. وهكذا تطوّرت، طيلة الفي سنة، هذه الحصيلة الكبرى لحياةٍ ولقداسةٍ محورها المسيح دائماً. بيد أنّ المسيحيّة، وبخاصّة الغربيّة، وبالرغم من توجّهها نحو الحياة الأزليّة، نحو السعادة في الله، لم تتحوّل قطّ ديناً لا يبالي بالعالم، بل كانت دائمة الانفتاح عليه، على مشكلاته، وقلقه، وتوقّعاته. وإننا لنجد تأكيداً لذلك ساطعاً في الدستور الراعوي “فرح ورجاء” الصادر عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، حول الكنيسة في عالم اليوم، والذي يعود الفضل فيه إلى مبادرة يوحنّا الثالث و العشرين الشخصيّة. فقبل أن يموت تسنّى له أن يقدّم للجميع هذا الاسهام الشخصيّ. فالقاء الضوء على عالم اليوم لا يقوم فقط على تجديد حياة الكنيسة، ولا يتعلّق في السعي إلى الوحدة المسيحيّة فحسب، “لكي يؤمن العالم” (14) إنّها، أيضاً، وبخاصّة، عمل “لأجل خلاص العالم” هذا العمل الخلاصيّ، المتكيّف باستمرار مع “شكل هذا العالم الفاني” هو موجّه، على الدوام، نحو الخلود، نحو اكتمال الحياة. فالكنيسة لا تشيح بنظرها أبداً عن هذا الاكتمال النهائي الذي يقودنا المسيح إليه. لذا، فإنّ طبيعة التأمّل اللاهوتيّ للكنيسة تأخذ في الحسبان كلّ أبعاد الحياة الإنسانيّة والزمنيّة. الكنيسة هي جسد المسيح: جسد حيّ يمنح الحياة لكلّ شيء.
الحواشي:
1) أشعيا 45 / 21
2) إنجيل يوحنا 17 / 3
3) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 13 / 12
4) إنجيل مرقس 10 / 17 – 18
5) إنجيل يوحنا 11 / 21 و 23 – 26
6) وإذا جاء ابنُ الإنسان في مجده (…) يجلس على عرش مجده وتحشر لديه جميع الأمم، فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء (…) ثم يقول الملك للذين عن يمينه: “تعالوا، يا من باركهم أبي، فرثوا الملكوت المُعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جُعتُ فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ، ومريضاً فعدتموني، وسجيناً فجئتم إلي”. فيُجيبه الأبرار: “يا رب، متى رأيناك فجئنا إليك؟” فيجيبهم الملك: “الحق أقول لكم: كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه”. ثم يقول للذين عن الشمال: “إليكم عني، أيها الملاعين، إلى النار الأبدية المُعدّة لإبليس وملائكته: لأني جعت فما أطعمتموني، (…) وكنت غريباً فما آويتموني وعرياناً فما كسوتموني، ومريضاً وسجيناً فما زرتموني” (…) أيّما مرة لم تصنعوا ذلك لواحد من هؤلاء الصغار فلي لم تصنعوه. فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي، والأبرار إلى الحياة الأبدية”.
7) رسالة القديس بولس الأولى إلى طيموتاوس 2 / 4
8) حزقيال 18 / 23
9) إنجيل يوحنا 15 / 1 – 5: “قال يسوع: “أنا الكرمة الحق وأبي هو الكرام. كل غصن فيّ لا يُثمر يفصله. وكل غصن يُثمر يُقضبه ليكثر ثمره. وكما أن الغُصن، إن لم يثبت في الكرمة لا يستطيع أن يُثمر من نفسه، فكذلك لا تستطيعون أنتم أن تُثمروا إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة (…) فمن ثبت فيَّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يُثمر ثمراً كثيراً لأنكم، بمعزلٍ عني لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً. (استشهاد الناشر).
10) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 13 / 13
11) إنجيل يوحنا 10 / 10
12) إنجيل يوحنا 20 / 22 – 23
13) غلاطية 6 / 14
14) إنجيل يوحنا 17 / 20 – 21. “قال يسوع هذه الأشياء ثم رفع عينه نحو السماء وقال: …لا أدعو لهم وحدهم بل أدعو أيضاً للذين يؤمنون بي عن كلامهم فليكونوا بأجمعهم واحداً: كما أنك فيَّ، يا أبَت، وأنا فيك فليكونوا هم أيضاً فينا ليُؤمنَ العالم بأنك أنتَ أرسَلتني”. (استشهاد من الناشر).
لِمَ هذه الأديان كلُّها؟
ولكن، إذا كان الله الذي في السماء، والذي خلّص العالم ولا يزال يخلّصه، واحداً، وإذا كان هو الذي تجلّى بيسوع المسيح، فلماذا سمح بهذا المقدار من الأديان المختلفة؟
ولماذا جعل طَلبَ الحقيقة بهذه الصعوبة، وسط تشابك العبادات و المذاهب والرؤى والمعتقدات التي تتوافر ناميةً، منذ القدم وحتّى اليوم، بين شعوب الارض كلّها؟
إنّك تشير إلى تعدّدية الأديان. وأنا أودّ، بالأحرى، أن استخرج ما لهذه الأديان من تلاقٍ أساسيّ جوهري، ومن أصل مشترك.
إنّ المجمع الفاتيكاني الثاني حدّد علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحيّة في وثيقة مميّزة تبدأ بالعبارة الآتية: “في عصرنا”. إنّه نصّ وجيز، ومع ذلك فهو غنيّ جدّاً، إذ يسترجع، بأمانة، شهادة التقليد. وما يُقَرأ فيه يتوافق وفكرة آباء الكنيسة منذ أقدم العصور.
لقد اضطلع الوحي المسيحيّ، منذ نشأته، بتاريخ الإنسان الروحيّ، آخذاً في الحسبان، بطريقة أو بأخرى، الديانات كلّها، مبرزاً بذلك وحدة الجنس البشريّ أمام مصير الإنسان النهائيّ والأبديّ. ولقد استذكرت الوثيقة المجمعية هذه الوحدة مشيرةً بذلك إلى بحث ما اختصّ بعصرنا من تقارب الإنسانيّة ووحدتها، بما له صلة بالوسائل التي هي بمتناول مدنيّتنا. وتعترف الكنيسة، في ما آلته على نفسها من أمر هذه الوحدة، بالواجبات المترتبّة عليها: “ذلك بأنّ جميعَ الشعوب يؤلفون أسرةً واحدةً: فهم جميعُهم من أصلٍ واحدٍ إذ أسكن الله الجنسَ البشريّ كلّه على وجه هذه الأرض (1)، ولهم جميعاً غايةٌ قُصوى واحدةٌ، وهي الله الذي يبسط على الجميع كنفَ عنايته، وآيات لُطفه، ومقاصده الخلاصية، إلى أن يجتمع مختاروه في المدينة المقدَّسة التي يُضيئُها مجدُ الله، وفي نوره تَسلُكُ الشعوب جميعاً (2).
“وينتظر الناس من الأديان المختلفة جواباً عن الألغاز الخفيّة لواقع الإنسان التي ما فَتئت في الأمس ولم تفتأ اليوم تُدخلُ القلقَ البالغ على قلب الإنسان: فما الإنسان؟ وما معنى الحياة وغايتُها؟ ما الخير والخطيئة؟ وما أصلُ العذابِ وغايته؟ ما الطريق إلى السعادة الحقة؟ ما الموتُ والدينونةُ، وما الثَّواب بعد الممات ؟ وأخيراً ما السرُّ القصيُّ الذي يكتنفُ وجودنا ويسمُو على الإدراك، وهو المبدأ وإليه المعاد؟
“لا جرَمَ أنَّنا، منذ أقدم الأزمنة حتى يومنا هذا، نَجدُ عند مختلف الشعوب، حساسيّة بهذه القوة الخفيَّة، الحاضرة في مجرى الأشياء وأحداث الحياة البشريَّة؛ بل تصادف أحياناً الاعتراف بإله أسمى، بل بأبٍ. وإنّ هاتين الحساسيّة والمعرفة تؤثرانِ في حياتهم تأثيراً دينياً بالغاً.
وتُحاول الديانات التي نشأت مع تطور الثقافات أن تجيب عن هذه الأسئلة بتحديداتٍ أدق، وتعبير أقربَ إلى الصحة (3).
هنا، تقودنا الوثيقة المجمعية إلى الشرق الأقصى، نحو الشرق الأسيويّ بالدرجة الأولى. قارّة لم يجنِ منها نشاط الكنيسة التبشيريّ، الذي بدأ مذ عهد الرسل، سوى ثمار ضئيلة. إنّ نسبة مئوية ضئيلة من سكّان هذه القارّة الأكبر بين القارّات تعترف بالمسيح.
هذا لا يعني أنّ التزام الكنيسة التبشيريّ لم يكن كافياً. على العكس، لقد كان ولا يزال كثيفاً. ومع هذا فإنّ تقليد الثقافات القديمة السابقة للمسيحية لا ينفكّ يسيطر في الشرق. فإذا كان الإيمان بالمسيح يلامس القلوب والعقول فإنّ صورة حياة المجتمعات الغربيّة، المسّماة مسيحيّة، تشكّل، بالأحرى، شهادة نقيضة، وتضحي حاجزاً هاماً في طريق تقبّل الإنجيل. ولقد ألمح، مراراً، إلى ذلك المهاتماغاندي، وهو هنديّ هندوسيّ. كان ذا روح إنجيلية عميقة، على طريقته الخاصة، وكان يعتبر أن ما يخيب أمله هو التأثير الضئيل على حياة الشعوب الأوربيّة السياسيّة والاجتماعية. فهل كان بمقدور هذا الرجل، الذي كان يجاهد ليحرّر بلاده الشاسعة من التبعيّة الاستعماريّة، أن يقبل بالمسيحيّة على النحو الذي تظهره قوى الاستعمار؟
لقد وعى المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الصعوبات. من هنا أهميّة الوثيقة حول العلاقات بين الكنيسة والهندوسيّة وسائر أديان الشرق الأقصى إذ نقرأ فيها: “ففي الهندوكيّة مثلاً يُكبُ الناس على سبر أغوار السر الإلهي والتعبير عنه بسيل من الأساطير، وبالاجتهادات الفلسفية النافذة. إنهم ينشدون انعتاق واقعنا الراهن من سطوة القلق، إما بالاعتكاف على أنماط من الزُهد والاستجهاد، أو بطريق التأمل العميق، أو بطريق التوجه إلى الله في حبٍ وثقةٍ. أما الوذية، على مختلف صيغها، فإنها تعترف بالنقص الجذري في هذا العالم المتحول، وتُعلّمُ السبيل التي يتمكن الناس بها، بقلبٍ تقيّ واثق، إما من الحصول على الانعتاق الكامل، وإما من الانتهاء إلى الإشراق الأعظم، وذلك باجتهادهم الذاتي، أو بعونٍ من العلاء” (4).
وأبعد من ذلك، فإنّ المجمع يذكّر أنّ “الكنيسة الكاثوليكيّة لا تنبذ شيئاً مما هو في هذه الديانات حقٌ ومقدس؛ وتولي تقديرها باحترام صادق هذه الطرق المسلوكة في العمل والحياة، وهذه القواعد والتعاليم، التي، وإن اختلفت في أمورٍ كثيرة عما تقول به هي وتُعلّمه، تحمل، غير مرةٍ، قبساً من شُعاع الحقيقة التي تنيرُ جميع الناس. غير أنها تُبشر، ويجب أن تُبشر بلا انقطاع، بالمسيح الذي هو “الصراط والحقيقة والحياة” (5) والذي ينبغي أن يجد الناس به اكتمال الحياة الدينية، والذي به تصالح الله مع المخلوقات كلها (6).
ما يقوله المجمع، هنا، يرتكز على القناعة المتجذّرة في التقليد منذ القدم. وهو أنّ “بذور الكلمة” متمثّلة في الديانات جمعاء. إذاً، فالكنيسة تحاول أن تميّز هذه البذور في تقاليد الشرق الأقصى الكبيرة لتستخرج منها نوعاً من محور اهتمام مشترك بين تطلعات العالم العصريّ المعقّدة. ويمكننا أن نؤكّد أن موقف المجمع استُوحيَ، هنا، من اهتمام عالميّ حقيقيّ. فالكنيسة يقودها إيمانها بإرادة الله الخالق لخلاص الناس أجمعين، بيسوع المسيح، الوسيط الوحيد بين الله والناس. إذ إنّه “افتداهم” جميعاً. فالسرّ الفصحيّ معروض للناس أجمعين، ومفتوحة فيه طريق الخلاص للناس جميعاً، من دون استثناء.
ويؤكّد المجمع، في فقرة أخرى، أنّ الروح القدس يعمل بصورة ملموسة حتى خارج الهيكليّة المنظورة للكنيسة (7). إنّه يعمل، بالضبط، انطلاقاً من بذور الكلمة هذه، التي تشكّل نوعاً من جذر أو أصل لخلاص مشترك للأديان كلّها. ولقد سنحت لي الفرصة، مرّات متعدّدة، لأقتنع بهذا، إبّان زياراتي لبلدان الشرق الأقصى، أو حين لقاءاتي، هنا بالذات، ممثّلين لهذه الأديان. وبخاصة في مناسبة لقاء أسّيز التاريخيّ إذ اجتمعنا لنصلّي من أجل السلام.
إذاً، بدل أن نندهش من أنّ العناية الإلهيّة سمحت بهذا التنوّع الكبير للأديان، كان علينا، بالأحرى أن نندهش من عدد العناصر المشتركة بينها.
ولهذا، فمن اللائق ألاّ ننسى كل الديانات البدائّية، الديانات الأرواحيّة التي تضع في المقام الأوّل شعائر الاجداد. فالذين يكرمون هكذا أسلافهم، يبدون أقرب خصوصيّة إلى المسيحيّة، ويجد معهم نشاط الكنيسة التبشيريّ لغةً مشتركةً دون كبير عناء. أليس في احترام مقدّسات الأجداد هذا نوع من التهيّؤ لإيمان المسيحيّين في شركة القدّيسين التي تجعل المؤمنين جميعاً، أحياء وأمواتاً، يؤلّفون جماعة واحدة، أي جسماً واحداً؟
إنّ الإيمان بشركة القدّيسين، هو في نهاية المطاف، إيمان في المسيح، مصدر الحياة والقداسة الأوحد للجميع. إذاً، ليس عجباً أن يُضحي الأرواحيّون الأفريقيون والأسيويّون أمناء للمسيح بسهولة تتجاوز، في كلّ حال، السهولة التي يستلزمها ارتداد أتباع الديانات الكبرى في الشرق الأقصى.
فهذه الديانات، كما يعرضها لنا المجمع، تمثّل ميّزات المذاهب.إنّها مذاهب شعائريّة وخلقيّة في الوقت نفسه، تشدّد بقوّة على الخير والشرّ. وتشكّل الكنفوشيّة الصينية، والطاوية، بالتأكيد، جزءاً منها: إذ يريد طاو أن يقول “حقيقة خالدة” أي هي شيء يشبه، إلى حدّ ما، “الكلمة” بالمفهوم المسيحي، ينعكس في عمل الإنسان بالحقّ وبالخير الأدبي. لقد مثّلت أديان الشرق الأقصى دوراً هامّاً في تاريخ علم الأخلاق وفي الثقافة، فسمحت بأن يعي سكّان الصين والهند واليابان والتيبت، كذلك شعوب جنوب شرقي آسيا وأرخبيل المحيط الهادي، هويّتهم القوميّة. فلبعض هؤلاء الشعوب ثقافات تعود إلى عهود بعيدة جدّاً. فسكّان أوستراليا الأصليّون يمكنهم أن يفخروا بتاريخ يعود إلى عشرات آلاف السنين. فتقاليدهم السلاليّة والدينيّة أقدم من تقاليد إبراهيم وموسى…
لقد أتى المسيح إلى العالم من أجل هؤلاء الشعوب جميعاً، ولقد “افتداهم” هم أيضاً. من المؤكد أنّه يتبع طرقه الخفيّة لكي ينضمّ لكلّ منهم في المرحلة الأخرويّة الحاليّة لتاريخ الخلاص. وبالفعل، فكثيرون، في هذه المناطق، هم الذين يقبلونه وأكثر منهم مَنْ يؤمنون به إيماناً ضمنيّاً (8).
الحواشي:
1) أعمال الرسل 17 / 26
2) الحكمة 8 / 1؛ أعمال الرسل 14 / 17؛ رسالة القديس بولس إلى أهل روما 2 / 6 – 7؛ رسالة القديس بولس الأولى إلى طيموتاوس 2 / 4
3) في عصرنا، وثيقة مجمعية في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية 1 – 2 (Nostra Aetate).
4) في عصرنا، وثيقة مجمعية في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، 1 – 2
5) إنجيل يوحنا 14 / 6
6) في عصرنا، وثيقة مجمعية في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، 2
7) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة، 13
8) الرسالة إلى العبرانيين 11 / 6. “وبغير إيمان يستحيل نيل رضا الله، لأنه يجب على الذي يتقرّب إلى الله أن يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يبتغونه” (استشهاد للناشر).
هل البوذيّة بديل عن المسيحيّة؟
قبل أن ننتقل على الديانات التوحيديّة أي إلى الدينين الكبيرين (اليهوديّة والإسلام) اللذين يعبد أتباعُها إلهاً واحداً، أودّ أن أقترح، على قداستكم، التوقّف، ولو قليلاً أيضاً، عند البوذيّة. ففي الواقع، أنتم لا تجهلون أنّ هذه العقيدة الخلاصيّة تجذب، على ما يبدو، عدداً كبيراً من الغربيّين كبديل عن المسيحيّة، أو كمتمّم لها نوعاً ما، أقلّه في مايتعلّق بتقنيات الزهد والتصوّف.
نعم أنت على صواب، وأنا أشكرك لأنّك أثرت هذه المسألة. فمن بين الأديان التي ذكرتها وثيقة المجمع “في عصرنا” تستحقّ البوذيّة اهتماماً خاصّاً، لأنّها في وجه ما، كالمسيحيّة، ديانة خلاص. بيد أنّه علينا أن نسارع فنضيف أنّ الخلاصيّة البوذيّة هي في الاتجاه المعاكس للمسيحية.
نعرف، في الغرب، تمام المعرفة وجه الدالاي لاما رئيس التيبت الروحيّ. لقد لقيته مرّات متعدّدة. فشخصيتّه تقرّب البوذيّة من الغرب المسيحيّ، وتثير اهتماماً واضحاً بالروحانيّة البوذيّة وبطرُق صلاتها. حتى إنّي قمت بزيارة “للبطريرك” البوذيّ في بانكوك – تايلاندا – وكان بين الرهبان المحيطين به رهبان من أصل أميركيّ. وإنّنا نعاين اليوم بعضاً من الانتشار البوذيّ في الغرب.
إنّ الخلاصيّة البوذيّة تشكّل النقطة المركزيّة، لا بل النقطة الوحيدة لهذا المذهب. مع هذا فإنّ التقليد البوذيّ والطرائق المشتقّة منه، تقدّم طريقة خلاصيّة سلبيّةً بالمعنى الحصريّ تقريباً. “فالإشراق” الذي اختبره بوذا، يمكن أن يُختصر، في الواقع، في الاقتناع بأنّ هذا العالم شرّ، وأنّه للإنسان مصدر تعاسة وعذاب. ولكي نتخلّص من هذه الآلام يقتضي، إذاً، التخلّص من العالم. علينا أن نقطع صِلاتنا بالواقع الخارجيّ. الصِّلات التي يفرضها علينا تكويننا البشريّ والماديّ والجسديّ. وبقدر ما يحدث هذا التحرّر نصبح لا مبالين بكلّ ما هو في العالم. فنتحرّر من العذاب أي من الشرّ المتأتّي من العالم.
هل تقرّبنا هذه الطريقة من الله تعالى؟ لا ، ليس الأمر كذلك في “الإشراق” الذي اقترحه بوذا. فالبوذيّة، بجزء منها كبير هي مذهب “ملحد”. فنحن لا نتخلّص من الشرّ من خلال الخير المتأتي من الله، بل نتحرّر منه فقط بابتعادنا عن العالم الذي هو شرّ. فاكتمال التجرّد ليس الاتّحاد بالله بل ما يسمّى بالنرفانا أي اللامبالاة الكاملة بالعالم. الخلاص، قبل كلّ شيء، هو تحرّر من الشرّ نناله بفضل تجرّدنا الكامل عن العالم حيث يكمن مصدر الشرّ. هذه هي قمّة الطريقة البوذيّة الروحيّة.
وبهذا الموضوع تحدث، أحياناً، محاولات مقارنة بين بعض المتصوّفين المسيحيّين: ممن هم من أوربا الشمالية (إيكهارت – تولر – سوزو – رويسبرويك) (Eckhart, Tauler, Suso, ruysbroek) أو من الممثّلين المتأخرين للتصوّف الإسباني (القديسة تريزيا الأفيلية (Thérèse d’Avilla) والقديس يوحنا الصليبي (Jean de la Croix) ولكن عندما يتكلم الصليبي في “ارتقاء الكرمل” أو في “الليلة الظلماء” إنما يتكلم في الحاجة إلى الصفاء والابتعاد عن عالم الحسّ، فهو لا يتصوّر هذا التجرّد كهدف بحدّ ذاته. “لكي تصل إلى ما لا تتذوّق، اذهب من حيث لا تتذوّق. لكي تصل إلى ما لا تعرف، اذهب من حيث لا تعرف. لكي تصل إلى ما لا تملك، اذهب من حيث لا تملك شيئاً” (1). إنّ هذه النصوص التقليديّة للقدّيس يوحنا الصليبي معتمدة، أحياناً، في الشرق الأسيويّ، كإثبات شرعيّ لطرق الشرق النسكيّة. ولكنّ عالِمَ (2) الكنيسة هذا لا يقترح تجرّداً عن العالم فقط. فإذا كان يوصي بالتحرّر من العالم فلكي يتّحد بما هو مغاير للعالم. وما هو مغاير للعالم ليس النيرفانا بل الشخص، إنّه الله. فالصفاء لا يكفي ليحدث الاتّحاد بالله. لأنّ هذا الاتحاد لا يتمّ إلاّ بالمحبّة، وفي المحبّة.
يبدأ التصوّف الكرمليّ تماماًَ حيث يتوقّف التأمّل البوذيّ وفروضه حول الحياة الروحيّة. ففي تطهّر النفس البشريّة الفاعل والمنفعل، وفي الليالي المختصّة بالأحاسيس والروح، يرى القديس يوحنا الصليبي، قبل كلّ شيء، التهيّوء الضروريّ لكي تكون النفس مضطرمة بلهيب المحبّة المستعر. من هنا كان عنوان كتابه الرئيسيّ: “لهيب المحبّة المستعر”. وهكذا، وعلى الرغم مما يبدو من جوانب متقاربة، فإنّ فرقاً جوهرياً لا يزال قائماً. فالتصوف المسيحيّ، على مرّ العصور جميعها، بدءاً بآباء الكنيسة حتى التصوّف الكرمليّ، مروراً بلاهوتييّ الفلسفة الكبار، كالقديس توما الأكوينيّ، ونسّاك أوربا الشماليّة، لم ينشأ من “إشراق” سلبيّ بحت، حيث يعي الإنسان مدى الشرّ الذي يتأتّى من الارتباط بالعالم، بواسطة الشعور والفكر والروح. يتولّد التصوّف المسيحي من وحي الله الحيّ. فالله هذا ينفتح على الاتّحاد مع الإنسان ويثير فيه سهولة الاتّحاد به، بخاصّة عندما ينّمي فيه الفضائل الإلهيّة: الإيمان والرجاء وعلى الأخصّ، المحبّة.
إنّ التصوّف المسيحيّ عبر العصور وحتى يومنا الحاضر، بما فيه تصوّف المدهشين من الرجال النشيطين أمثال منصور دي بول، وجان بوسكو، ومكسيميليان كولب، قد بنى ويبني المسيحيّة بكلّ ما فيها من جوهريّ أساسيّ. وهو يبني الكنيسة كونها وحدة إيمان ورجاء ومحبّة. كما يبني، في الوقت نفسه، الحضارة، وبخاصّة “الحضارة الغربيّة” المتميّزة باتّصالها الإيجابيّ بالعالم، والتي ازدهرت بفضل تطوّر العلم والتقنيّة، أي بنظامين متجذّرين في التقليد الفلسفيّ لليونان القديمة، وفي الوحي اليهوديّ – المسيحيّ. فالحقيقة حول الله الخالق والمسيح الفادي تشكّل رافعة جبّارة تولّد موقفاً إيجابياً من الخليقة، وتبعث على الالتزام في تحوّله وكماله.
لقد أعاد المجتمع الفاتيكانيّ الثاني، وبوضوح، تأكيد هذه الحقيقة: أن نتبنّى موقفاً سلبياً تجاه العالم، مع اقتناعنا أنّه مصدر عذاب الإنسان وأنّ علينا، بالنتيجة، الانفصال عنه، فهذه هي السلبيّة بعينها، ليس لأنّ هذا الموقف هو رؤية من زاوية واحدة، بل لأنّه أيضاً بغاية التعارض مع تطوّر الإنسان كما رسم له الخالق الذي وهبه العالم واستودعه إيّاه.
نقرأ في “فرح ورجاء”: “فهو يجعل نصب عينيه عالم البشر، أي عموم الأسرة البشرية مع عموم ما يُحيط بها من مقومات البيئة؛ عالم هو مسرح تاريخ الجنس البشري، الموسوم بجهد الإنسان في إخفاقه ونجاحه، عالم هو في عقيدة المؤمنين وليدُ محبة الخالق وحفيظها؛ سقط في عبودية الخطيئة ولكن المسيح قد حطم بالصليب والقيامة شوكة الشرير وحرره لكي يتحول وفاقاً لقصدِ الله، ويبلغ كمال وجوده” (3).
تظهر لنا هذه الكلمات أنّ بين ديانات الشرق الأقصى، وبخاصّة البوذيّة، وبين الديانة المسيحيّة، فرقاً جوهريّاً في طريقه فهم العالم. فهو في نظر المسيحيّين خليقة الله التي افتداها المسيح. إذ فيه يلتقي الإنسان ربّه. فهو ليس بحاجةٍ، إذاً، لكي ينفصل نهائياً عن العالم ليكتشف عمق السرّ الذي أنشأه بنفسه في إنسانيّته. فرؤية العالم وكأنّه شرّ “مطلق” لا معنى لها، في نظر المسيحيّة، إذ في أساس تاريخه يوجد الله الخالق الذي يحبّ خليقته، الله الذي “جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك من يؤمن به، بل ينال الحياة الأبدية” (4).
قد ينبغي، إذاً، تحذير المسيحيّين الذين يستجيبون بحماس لبعض ما تعرضه تقاليد الشرق الأقصى الدينيّة. مثلاً ما يتعلّق منها بطرائق التأمل والزهد وتقنيّاتهما. فقد أضحت هذه الممارسات، في بعض الأوساط، نوعاً من نمط مقبول من دون أي انتقاد تقريباً. وعلى العكس، فإنّ من الملائم أن نعمّق أكثر فأكثر، تراثنا الروحي ونغذّيه، ونحاسب أنفسنا، كوننا أهملناه دون وجه حقّ. وهنا، علينا أن نذكر بالوثيقة المهمّة، وإن موجزة، الصادرة عن مجمع العقيدة والإيمان: “حول بعض جوانب التأمّل المسيحيّ” (5). فهذا النصّ يعطينا أجوبة محدّدة عن هذا السؤال: “هل يمكن أن نُغنِيَ الصلاة بأساليب تأمّل ناجمة عن تشابك ديانات وثقافات أخرى (6)؟ وكيف يتسنّى لنا ذلك”؟
إنّ مسألة تجديد بعض تقاليد الغنوصيّة (7) القديمة تحت شكل ما يُسمى “الجيل الجديد” (New Age) ، لهي مختلفة. فمن المستحيل أن يؤخذ المرء بالإيهام بأن عودة المعرفة الغنوصيّة قد توطّئ لتجديد في الدين. فالأمر يتعلّق، بكلّ بساطة بالوجهة الجديدة للموقف الروحيّ الذي يدّعي معرفةً بالله فائقةً، فيخلص إلى رفض الكلمة الإلهية نهائياً، مستبدلاً إيّاها بكلام بشريّ محض. فالعرفان الغنوصي لم يختف قطّ من ميدان المسيحيّة. لقد عايشها دائماً، تارةً كتّيار فلسفيّ، وأحياناً كثيرة تحت أشكال دينيّة، أو محاذية للدين، بتناقض واضح، حتى وإن لم يكن واضحاً، مع جوهر المسيحيّة.
الحواشي:
1) صعود الكرمل Montée du Carmel I, 13, 11
2) تمنح الكنيسة هذا اللقب للقديسين الذين تعترف لهم بسلطة خاصة في مجال التعليم. (استشهاد للناشر).
3) وثيقة مجمعية، دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، 2
4) إنجيل يوحنا 3 / 16
5) 15 تشرين الأول 1989
6) رقم 3
7) تدّعي الغنوصية أن الإنسان لا يخلص إلا بالوحي الذي يتلقّاه وبالتالي فإن الخلاص يقتصر على فئة من المتلمذين الذين يلجون باب العرفان.
ما الفرق بين إله المسلمين وإله المسيحييّن؟
لا شكّ في أنّ المقاربة مختلفة عندما يتعلّق الأمر بالكنيسة والمسجد حيث يجتمع الذين يعبدون الإله الواحد.
نعم، صحيح ما تقوله. فالأمر يختلف في ما يتعلّق بهاتين الديانتين التوحيديّتين، بدءاً بالإسلام. ففي الإعلان المجمعيّ “في عصرنا” الآنف الذكر، يمكننا أن نقرأ ما يأتي: “وتنظر الكنيسة أيضاً بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرحمن القدير الذي خلقَ السماء والأرض” (1). إنّ المؤمنين بالتوحيد هم، بنوع خاص، الأقرب إلينا.
أتذكّر حدَثاً من أحداث شبابي، يوم كنّا نزور دير القديس مرقس، في فلورنسا. فقد وقفنا مندهشين مُعجبين أمام جدرانيّات فرا أنجليكو.. في تلك الأثناء انضمّ إلينا رجل راح يشاطرنا إعجابنا بأعمال ذلك الراهب والفنّان العظيم. غير أنّه ما لبث أن أضاف: “ولكن، ما من شيء، هنا، يبلغ مدى جمال توحيدنا الإسلامي”. لم يمنعنا ذلك التصريح من أن نكمل زيارتنا برفقة ذلك الرجل، وأن نتابع معه نقاشاً ودّياً. ولقد تذوّقت سلفاً، في تلك المناسبة، ما يمكن أن يكون عليه الحوار بين المسيحيّة والإسلام، والذي حاولنا أن نطوّرَهُ منهجيّاً منذ المجمع.
من يطالع القرآن، وكان مُلمّاً بالعهدين القديم والجديد، يتبيّن له جليّاً ما وقع فيه للوحي الإلهي من اختزال. ومن المستحيل ألا يُلحظَ عدمُ مقاربة ما قاله الله عن ذاته، بلسان الأنبياء أولاً، في العهد القديم، ثمّ وبشكل نهائي، بواسطة ابنه، في العهد الجديد. إن الغنى الذي يتجلّى في كشف الله لذاته، والذي يشكّل تراث العهدين القديم والجديد، كل ذلك قد تغاضى عنه الإسلام بالفعل.
إن القرآن يصف الله بأجمل ما عرفه اللسان البشري من الأسماء الحسنى. ولكنّه في النهاية، إله متعالٍ عن العالم، ذو جلال، لا “إلهنا معنا”، عمانوئيل. ليس الإسلام دين فداء؛ فلا مجال فيه للصليب. يَذْكرُ عيسى، ولكن ليس إلاّ بوصفه نبيّاً يمهّد لخاتمة جميع الأنبياء، محمد.
كذلك، ورد ذكر السيدة مريم البتول. ولكن لا ذكر لمأساة الفداء. لذلك تختلف نظرة الإسلام عن المسيحيّة، لا على الصعيد اللاهوتي فحسب بل أيضاً على الصعيد الانتروبولوجي.
بيد أنّ التديّن الإسلاميّ يستحقّ كلّ تقدير. فلا يمكننا، مثلاً، ألاّ نعجب بالأمانة على الصلاة. إذ إنّ الذي يسمّي الربّ، الله، يجثو على ركبتيه، غير آبهٍ بالزمان أو المكان، مستغرقاً في الصلاة مرّات عديدة في النهار. هذه الصورة تبقى نموذجاً لمن يعترفون بالله الحقّ، وبخاصّة لأولئك المسيحيّين الذين يهجرون كاتدرائيّاتهم الرائعة، ويصلّون قليلاً، أو لا يصلّون مطلقاً.
لقد دعا المجمعُ الكنيسة للحوار مع أتباع النبيّ فسلكت الكنيسة هذا السبيل. وإنّنا لنقرأ في الإعلان المجمعي “في عصرنا” ما يأتي: “ولئن كان قد وقع، في غضون الزمن، كثيرٌ من المُنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يحثّهم جميعاً على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم في ما بينهم، وأن يَصونوا ويُعزّزوا كلهم معاً، من أجل جميع الناس، العدالة الاجتماعية، والقيمَ الروحية، والسلامَ و الحرية” (2).
من هذا المنظور كان للقاءات الصلاة، في أسّيز، أهميّة بالغة، بخاصّة الصلاة لإحلال السلام في البوسنة 1993، كما أشرت آنفاً. أضف إلى ذلك لقاءاتي مع المسلمين في أثناء رحلاتي الرسوليّة المتعدّدة إلى أفريقيا أو إلى آسيا. إذ حدث أن أكثريّة سكّان البلدان التي قصدتها، كانت من المسلمين: وهذا لم يمنعهم من استقبال البابا بحفاوة بالغة، والإصغاء إليه بمودّة.
إن رحلتي إلى المغرب، بدعوة من الملك الحسن الثاني، يمكن اعتبارها، بدون شكّ، حدثاً تاريخياًَ، إذ لم تكن زيارة مجاملة فحسب، بل عملٌ رعويٌ حقّ. ويبقى ذلك اللقاء مع الشبيبة، في مدرّج الدار البيضاء الفسيح (1985)، حدثاً لا يُنتَسى! ولقد كان انفتاح الشباب على خطبة البابا، حول الإيمان بالله الواحد، مثيراً للدهشة. كان ذلك، حدثاً لا سابق له.
على كلٍّ، فإن الأمر لا يخلو من صعوبات عملية. ففي البلدان التي تتسلّم فيها التياراتُ الأصولية زمامَ السلطة، يغدو تفسيرُ حقوق الإنسان ومبدأ الحرية الدينية، تفسيراً من منظور واحد، مع الأسف، حيث يُقصد بالحرية الدينية فرض “الدين الحق” على جميع المواطنين. ممّا يجعل حالة المسيحيين في هذه البلدان مأساوية، أحياناً. ومع ذلك، يبقى الانفتاح على الحوار والتعاون، من جهة الكنيسة، موقفاً ثابتاً لا يتغيّر.
الحواشي:
1) “في عصرنا”، علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة، مرجع سابق، 3
2) في عصرنا، علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة، مرجع سابق، 3
هل باستطاعة الشعب اليهوديّ
أن يجد نفسه في العهد الجديد؟
من المتوقَّع أن ترغب قداستكم فتحدّثوننا، الآن، عن ديانة إسرائيل.
أؤكد لك أنّنا، من خلال التعدّد المدهش للأديان التي تحيط بنا، بحلقات متراكزة، إذا صحّ التعبير، نصلُ إلى الديانة الأقرب إلينا: ديانة شعب الله في العهد القديم.
فتعابير الإعلان المجمعي “في عصرنا” تشكّل منعطفاً حاسماً. يقول المجمع: “فكنيسة المسيح تعترف بأن بواكير إيمانها ودعوتها تُوجَدُ، من قبيل سرِّ الخلاص الإلهي، في الآباء وموسى والأنبياء… من أجل هذا لا تستطيع الكنيسة أن تنسى أنها قد تسلَّمت وحي العهد القديم من هذا الشعب الذي شاء الله برحمته الفائقة الوصف، أن يُبرمَ معه الميثاق القديم؛ وأنها تغتذي من أصل الزيتونة الصريحة التي طعمت فيها فروع الزيتونة البرية، أي الأمميون…وبإزاء هذا الواقع، واقع التراث الروحي العظيم، المشترك بين المسيحيين واليهود، يريد المجمع أن يشجّع ويُحضّ على التعاون والتقدير المتبادل بين المِلَّتين، وذلك خصوصاً بالدراسات الكتابية واللاهوتية، وبطريق الحوار الأخوي أيضاً” (1).
هذا التصريح المجمعيّ ناجم عن اختبار لأشخاص عديدين، يهوداً ومسيحيّين. وهناك أيضاً اختباري الشخصي الذي عشته في مسقط رأسي، منذ سنوات حداثتي. أذكر، قبل كلّ شيء، المدرسة الابتدائية في “فادوفيس” حيث كان أكثر من ربع عدد التلاميذ يهوداً. وهنا، أشدّد على أن أذكر، بنوع خاصّ، صداقتي مع أحدهم وهو “جرزي كليجر”. فهي صداقة ما تزال مستمّرة منذ أيّام الدراسة الأولى حتى اليوم. وصورة اليهود الذين كانوا يؤمّون الكنيس المتاخم لمدرستنا، أيّام السبت، ما تزال شاخصةً أمام عينيّ. فالطائفتان الروحيّتان، الكاثوليك و اليهود، كان يجمعهما، على ما أعتقد، شعورهما بالصلاة لإله واحد. ومع أنّنا لم نكن نستعمل اللّغة ذاتها، فإنّ الصلوات في الكنيس وفي الكنيسة كانت تستند، في قسم كبير منها، على النصوص نفسها.
وتأتي، بعد ذلك، الحرب العالميّة الثانية، مع معسكرات الاعتقال والإبادة المنظّمة. فيعاني منها أبناء وبنات الشعب الإسرائيليّ قبل غيرهم، لسبب وحيد هو كونهم يهوداً. ولقد توّجب على البولونيّين أن يجابهوا هذا الواقع المرير، وإن بصورة غير مباشرة.
وقد عانيت، أنا شخصياً، من هذا الواقع. وكان هذا تجربة لم تبارحني حتى اليوم. فمن الممكن أن تكون “أوشويتز” الرمز الأكثر تعبيراً عن محرقة الشعب اليهوديّ، والذي يذكّر إلى أيّة نتيجة يمكن أن يؤدّي، داخل الأمّة، نظام مبنيّ على مبادئ الكراهية العنصريّة والتعطّش إلى السلطة. ولا تنفكّ صورة “أوشويتز” حيّة تدفعنا إلى الحذر وتذكرنا أن معاداة الساميّة خطيئة فظيعة ضدّ البشريّة جمعاء، وأنّ كلّ نوع من أنواع العنصريّة يؤدّي حتماً إلى سحق الإنسان.
أودّ العودة إلى كنيس “فادوفيس” الذي هدمه الألمان. هذا الكنيس أمّحت معالمه. ومنذ بضع سنوات قصدني صديقي “جرزي” ليقول لي إنّ بلاطة تذكاريّة ستُوضع مكان الكنيس. وهنا، أرغب في الاعتراف بأنّنا كنّا متأثّرين، وحاولنا جاهدين أن نتذكر الأشخاص الأعزاء الذين كنّا نعرفهم وسُبُوتَ صبانا ومراهقتنا تلك، عندما كانت الجماعة اليهوديّة في “فادوفيس” تنطلق إلى الصلاة. ولقد وعدته بتوجيه رسالة شخصيّة لهذه المناسبة، دلالة على التضامن والاتّحاد الروحيّ مع الجماعة اليهوديّة. وهذا ما حصل. ونقل “جزري” نفسه مضمون هذه الرسالة إلى مواطنيّ في “فادوفيس”. وكان ذاك الحجّ شاقّاً عليه، لأنّ عائلته كانت قد بقيت في المدينة الصغيرة وقضت في “أوشويتز”. وإذ عاد إلى “فادوفيس” لتدشين لوحة الكنيس التذكاريّة، كانت تلك المرّة الأولى بعد خمسين سنة…
وكما ذكرت، أعلاه، كان في التمهيد لوثيقة “في عصرنا”. تجارب لأشخاص عديدين. وأذكر فترة عملي الرعويّ في “كراكوفيا”. وهي مدينة لا تزال قائمة فيها آثار عدّة للثقافة وللتقليد اليهوديّين بخاصّة في حيّ “كازيميرز”. وكان فيه، قبل الحرب، عشرات المعابد اليهوديّة، وبعضها ذو غنى فنيّ كبير. وكانت لي، بصفتي رئيس أساقفة “كراكوفيا”، اتصالات حميمة مع الجماعة اليهوديّة في المدينة. كما أقمت علاقاتٍ ودّيةً صادقة مع رئيس هذه الجماعة استمرّت بعد ذهابي إلى روما.
ومنذ انتخابي في السدّة البطرسيّة لم أحتفظ من ماضيّ إلاّ بما تجذّر عميقاً في حياتي: فأنا أحاول دائماً أن ألتقي ممثّلي الجماعات اليهوديّة، خلال رحلاتي الرسوليّة في العالم. وبالتّالي فإنّ زيارتي لكنيس روما كانت تجربة فريدة ومميّزة في حياتي. وتاريخ يهود روما يشكّل، بحدّ ذاته، جزءاً كبيراً من تاريخ هذا الشعب. بالإضافة إلى أنّ صفحاته كتبت في امتداد أعمال الرسل. وخلال هذه الزيارة المشهودة أُعطيَ لي أن أُشيرَ إلى أنّ “اليهود هم أخوتنا الأبكار في الإيمان”. وما قلته، هناك، لم يكن إلاّ خلاصة لما صرّح به المجمع. وهذه الأقوال تعكس قناعة عميقة من قناعات الكنيسة.
كان المجمع الفاتيكانيّ مقتضباً حول هذا الموضوع. ولكنّ ما أُعلن يشمل واقعاً واسعاً ليس روحياً فحسب إنّما هو ثقافيّ أيضاً.
وهذا الشعب الاستثنائي لا يزال يحتفظ بعلامات الاختيار الإلهيّ. وقد حصل لي أن أكّدت ذلك أمام أحد السياسيّين الإسرائليّين الذي وافق على ذلك بطيبة خاطر، ولكنّه أضاف: “يا ليت ذلك لم يكلّف غالياً!”. وبالحقيقة فإنّ إسرائيل دفعت غالياً ثمن “اختيارها”: وبفضل هذا الثمن الباهظ يمكن أن تصبح هذه الأمة أكثر شبهاً بابن الإنسان الذي كان ابناً لإسرائيل بحسب الجسد. وإنّ الذكرى الألفين لميلاده ستكون عيداً لليهود أيضاً.
وإنّي لأسرّ جدّاً أن يكون تنصيبي على كرسيّ مار بطرس متزامناً مع الدورة التمهيديّة للمجمع، في زمن تحقّق فيه الوحي الذي كان في أصل إعلان “في عصرنا”. وهكذا فإنّ زمني الاختيار الإلهيّ يتقاربان: العهد القديم والعهد الجديد.
فالعهد الجديد يجد جذوره في العهد القديم. ولكن متى يستطيع شعب العهد القديم أن يجد نفسه في العهد الجديد؟ هذا الجواب يتعلّق بالروح القدس. ونحن، كبشر، علينا فقط ألاّ نعرقل طريقه. لأنّ الحوار اليهوديّ المسيحي، هو، في الواقع، تحقيق أوليّ لهذه الإرادة التي هي عدم وضع عوائق وحواجز. وتجدر الإشارة، هنا إلى أنّ هذا الحوار، في كلّ ما يختصّ بالكنيسة، يقوده المجلس البابويّ لتعزيز وحدة المسيحيّين (2).
وإنّي لأبتهج، أيضاً، أنّه في إطار تطوّر السلام الجاري في الشرق الأوسط، ورغم المصاعب والعوائق الجمّة، وبفضل المبادرة الإسرائيلية، أصبحت العلاقات الديبلوماسيّة بين الكرسيّ الرسوليّ وإسرائيل ممكنةً. أمّا بخصوص الاعتراف بالدولة الإسرائيلية فيهمّني أن أوضح أنّني لم أعارض يوماً هذا المبدأ.
وفي أحد الأيّام، وختاماً لأحد لقاءاتي مع الجماعات اليهودية، قال أحد المشاركين: “أودّ أن أشكر قداسة البابا لما عملت الكنيسة الكاثوليكية طيلة ألفي سنة في سبيل التّعريف بالإله الحقيقيّ”.
إنّ هذه الكلمات تساعد بطريقة غير مباشرة على الفهم كيف أن العهد الجديد يسهم في تكملة كلّ ما تجذّر في دعوة إبراهيم، وفي العهد الذي توطّد مع إسرائيل في سيناء، وفي تراث الأنبياء الملهمين الفائق الغنى. هؤلاء الأنبياء الذين أعلنوا مسبقاً، في كتبهم المقدسة حضور من سيرسله الله “عندما تتمّ الأزمنة” (3).
الحواشي:
1) في عصرنا، مرجع سابق، 4
2) وليس عن طريق المجلس الحبري للحوار بين الأديان أو المجلس الحبري للثقافة، كما يخيّل للبعض، وقد غاب عنهم ما يجمع بين كنيسة المسيح والشعب اليهودي. (تعليق للناشر).
3) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية 4 / 4
هل المسيحية إلى زوال؟
عفوك أيّها الأب الأقدس، لكنّ دوري يقوم على أن أكون مستحثّاً محترماً مهمّته أن يطرح على قداستكم بعض القضايا التي تقلق العديد من الكاثوليك، اليوم.
لقد كرّرتم مرّات عديدةً، ونوّهتم بأهميّة الحدث الرمزيّة، ألا وهو اقتراب الألف الثالث لتاريخ الفداء. وإذا ما صحّت النظريّات الإحصائية، فإنّ المسلمين سيكونون، في حقبة السنة الألفين، وللمّرة الأولى في التاريخ، أكثر عدداً من المسيحيّين. كما أن الهندوس، اليوم، هم أكثر عدداً من البروتستانت والأرثوذكس أرواماً وصقالية مجتمعين. وخلال زياراتكم الرسوليّة، في العالم، غالباً ما تصلون إلى بلدان حيث المؤمنون بالمسيح، وخاصّة الكاثوليك هم أقلّية، وفي تضاؤل.
فما هو شعوركم تجاه هذا الواقع بعد عشرين قرناً من الكرازة الإنجيليّة؟
وهل لكم أن تكشفوا لنا مقصَد الله الخفيَّ؟
أعتقد أنّ مثل هذه الرؤيا للموضوع ناجمة عن تعبير ساذج أصلاً. والسؤال يُطرح على مستوى أعمق. وقد حاولت أن أشرحه في الجواب عن سؤالك السابق. وفي الحالة الراهنة، فإنّ الإحصاءات لا تغيّر شيئاً: فهنا ليس للأرقام أي معنى.
وعلى الرغم من أنّ علم الاجتماع الدينيّ مفيد ونافع. فليس فيه شيء قاطع بهذا الخصوص. وبراهينه القياسيّة في تحليل يقين الكائنات العميق ليست وثيقة بالقدر الكافي. والإحصاءات التي تصوّر الإيمان بمظهر كمّيّ لا تصيب أبداً جوهر المسألة. إن الإحصاءات التي تتناول الإيمان من زاوية كميّة، كالإثبات التصوّري أو الاستقصائي لعدد المشاركين في الطقوس الدينية، لا تلامس جوهر الموضوع. لذلك فالأرقام ليست بكافية.
وسؤالك، كما أشرت أنت إلى ذلك، يحاول أن يكون تحدّياً، ويطرح الموضوع على الشكل التالي:
لنُحصي المسلمين أو الهندوس، في العالم، ولنُحصي الكاثوليك أو المسيحيّين بوجه عام، فنعرف آنذاك ما هي الديانة الأكثر عدداً، الديانة المستقبليّة والديانة التي تبدو على العكس، منتميّةً إلى الماضي، أو التي تبدو منخرطة في طريق الزوال؟
وبالواقع، فإنّ السؤال من وجهة النظر الإنجيليّة يطرح بطرق مختلفة. والمسيح يقول: “لا تخف أيّها القطيع الصغير، فقد حسن لدى أبيكم أن ينعم عليكم بالملكوت” (1). أعتقد أنّ السيّد المسيح، هنا، يعطي مسبقاً أفضل جواب يمكن تصوّره عن القلق الذي يتردّد صداه من خلالك. ويذهب يسوع بعيداً، أيضاً، عندما يسأل: “ولكن متى جاء ابن الإنسان أفتراه يجد الإيمان على الأرض؟” (2).
وكما الاستشهاد السابق حول “القطيع الصغير” فإنّ هذا التساؤل يكشف واقعيّة السيّد المسيح الأساسيّة حيال رسله. إذ هو لم يهيّئهم لنجاح سهل، بل تكلّم بوضوح عن الاضطهادات التي تنتظر المؤمنين. وفي الوقت نفسه، ثبّت دعائم الإيمان: “لقد سُرّ الآب أن يعطي الملكوت” لهؤلاء الرجال الجليليّين الإثني عشر، وبواسطتهم، إلى البشريّة جمعاء. وأخطرهم أنّ إخفاقات واضطهادات تنتظرهم في طريق الرسالة التي وجهّهم إليها، لأنّه هو نفسه كان مُضّطَهداً: “إذا اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً”. ولكنّه عاد فقال متابعاً: “وإن حفظوا كلامي، فسيحفظون كلامكم أيضاً” (3).
ولقد وعيت، منذ حداثتي، أنّ هذه الأقوال تتضمّن بالفعل جوهر الإنجيل المقدّس، الإنجيل الذي لا يَعدِ أبداً بنجاحات سهلة المنال. إنّه لا يضمن لأحد حياة ممتعة؛ بل على العكس، فإنّه يطرح واجبات، وفي الوقت عينه يحتوي على وعد رائع – ألا وهو الحياة الأبديّة للإنسان الخاضع لشريعة الموت – الوعد بالنصر، عن طريق الإيمان، للإنسان المهدّد بهذا القدر من الهزائم.
وفي الإنجيل مفارقات أساسيّة: مَنْ أهلك نفسه فسيجدها؛ من مات فسيحيا؛ من حمل صليبه فسيخلص؛ فهذه الحقيقة الرئيسيّة، في قلب الإنجيل، تصطدم دائماً وأينما كان، باعتراضات البشر.
وسيصبح الإنجيل المقدّس، في كلّ زمان وكلّ مكان، تحدّياً للضعف البشريّ. ولكنّ قوّته تكمن في هذا التحدّي في حسّه الباطني: ألا يملك في داخله شعوراً يخوّله تخطّي ذاته؟ إذ لا يكون المرء إنسانيّاً إلاّ بتخطي هذه الذات: “تعلّموا أنّ الإنسان يفوق أخاه الإنسان إلى أقصى حدّ” (4). تلك هي حقيقة الإنسان الراسخة؛ والمسيح هو أوّل مَنْ عرفها. إنّه يعلم جيّداً “ما في الإنسان” (5). وفي إنجيله المقدّس لمس حقيقة الإنسان العميقة الحميمة. لمسها بادئ ذي بدء بواسطة الصليب. وإنّ بيلاطس عندما قال عن يسوع، بعد جلده وتكليله بالشوك: “هو ذا الرجل” (6) لم يكن يدور في خلده أنّه أعلن حقيقةً أساسيّة، وعبّر للتاريخ عن ثبات مضمون الكرازة بالإنجيل المقدس في كلّ زمان وكلّ مكان.
الحواشي:
1) إنجيل لوقا 12 / 32
2) إنجيل لوقا 18 / 8
3) إنجيل يوحنا 15 / 20
4) بليز باسكال، خواطر Blaise Pascal, Pensées, &d. Brunschvicg n. 434.
5) إنجيل يوحنا 2 / 25
6) إنجيل 19 / 5
هل يمكن رفع التحدّي للكرازة الجديدة؟
هل تتلطّف قداستكم فتتوقّف، قليلاً، عند هذه العبارة التي تعودون إليها في كلّ إرشاد، وفي كلّ تعليم: الكرازة الرسولية، أو بالأحرى الكرازة الجديدة التي تبدو العمل المسيحيّ الرئيس والملحّ، في نهاية القرن العشرين؟
في الواقع، إنّ النداء إلى اندفاع تبشيريّ كبير يلقى آذاناً مصغية، وتجاوباً ملموساً في كنيسة عالم اليوم، مع العلم أنّه لم يكن يوماً منسيّاً: “الويل لي إن لم أبشرّ” (1). وما أعلنه القديس بولس الطرسوسيّ، عاشته عصور الكنيسة كلّها. هذا الرسول الفريسيّ المهتدي لازمه هذا “الويل” بحدّة. وقد سمع كلامه شعب البحر المتوسط حيث كان يعيش: بشارة الخلاص الجديدة في يسوع المسيح. هذا الشعب بدأ يفكر في معنى رسالة كهذه. وكثُرٌ همُّ الذين تبعوا هذا الرسول. وعلينا ألاّ ننسى النداء العجائبيّ الذي دفع بالقدّيس بولس إلى تجاوز الحدود بين آسيا الصغرى وأوربا (2). وهكذا كانت بداية الكرازة الأولى في أوربا.
فالتقاء الإنجيل مع العالم الإغريقيّ اليونانيّ أعطى ثماراً جمّة. وممّن يستحقّون التفاتاً خاصاً، من بين الذين نجح بولس في جمعهم حوله، أولئك الذين قدموا إلى أثينا ليسمعوا كلامه.
ومن الأهمية بمكان تلخيص خطاب القدّيس بولس في ساحة أثينا العامة (3): إنّه رائعة في نوعه، لأنّ أقوال الرسول وطريقة عرضه لما يقول يظهران عبقريّته التبشيريّة. ونحن نعلم حقّ العلم أنّ هذا الخطاب باء بالفشل. وبقدر ما كان بولس يتكلّم على إله مجهول فإنّ مستمعيه كانوا يتتبعونه لأنّهم رأوا، في خطابه، المبادئ التي تتّفق وتديّنهم الخاصّ. ولكن ما إن أتى على ذكر القيامة حتى هبّوا معارضين محتجّين ففهم الرسول عندئذ أنّه صعب على اليونانيّين المعتادين على الأساطير والخرافات، وعلى مختلف طرائق التأمّل الفلسفيّ، قبول سرّ الخلاص بالمسيح. ومع ذلك، فلم ينسحب. ورغم أنّه مُني بفشل في أثينا، فقد استأنف، بتشبّث الورع، البشارة بالإنجيل. وهذه الصلابة أفضت به أخيراً إلى روما، حيث لقي حتفه.
وهكذا، خرج الإنجيل من إطار أورشليم وفلسطين الضيّق، وبدأ مساره حتى أقصى حدود العالم آنذاك. وما بشّر به بولس، بصوت حيّ، أكّده في ما بعد، في رسائله التي تشهد على أنّ الرسول ترك وراءه، في تنقّلاته وأسفاره جماعات حيّةً، ولم يتوقّف، يوماً، عن أن يكون حاضراً معها كشاهد للمسيح المصلوب والقائم من الموت.
وبالتالي، فإنّ الكرازة التي أطلقها الرسل، هي التي أرسَتْ قواعد الصرح الروحي للكنيسة، وحملت في الأصل صيرورتها، وظهرت مثالاً يصلح لكلّ العصور. وعلى خطى الرسل، فإنّ التلاميذ أكملوا عمل الكرازة في الجيلين الثاني والثالث. وكان ذاك العصر البطوليّ، عصر القديس أغناطيوس الأنطاكيّ (4)، والقديس بوليكربوس (5)، وغيرهما من الشهداء الأبرار.
والكرازة لا تقوم فقط على تعليم الكنيسة الحيّ، بشارة الإيمان الأولى والتعليم الدينيّ، بل أيضاً على تأمل واسع عميق في الحقيقة الموحاة. وهذا البحث تحقّق، منذ البدء، في عمل آباء الكنيسة، في الشرق والغرب. ولكن عندما حصلت مواجهة مع الهَذيان الغنوصيّ، ومع الهرطقات الاخرى التي طغت، حصل الجدل.
وفي الكرازة يُسَجَّل، بنوع خاصّ، نشاط المجامع مختلفة. فمجمع أورشليم الذي عقده الرسل بالذات، في حوالي السنة الخمسين (6)، كان يمكن أن يكفي الأجيال الأولى لو لم يحصل لقاء مع العالم الإغريقيّ. أمّا المجامع المسكونيّة المتتالية فقد عُقِدَتْ بهدف توضيح حقائق الإيمان الموحاة، في أسلوب سهل ومقنع، لمن كانوا يعيشون في محيط ثقافته يونانيّة.
كل هذا يتعلّق بتاريخ الكرازة الذي تطوّر من خلال الالتقاء مع ثقافة كلّ عصر. لذلك، فقد اشترك آباء الكنيسة كلّهم بتبشير العالم بطريقة فاعلة من دون الاكتفاء بإرساء قواعد العقيدة المسيحيّة اللاهوتيّة والفلسفيّة، في الألف الأوّل للمسيح. ألم يقل السيّد: “إذهبوا إلى العالم كلّه” (7). فمع الاكتشافات العظيمة كان على الكنيسة أن تبذل جهدها في سبيل الكرازة والتبشير.
ولقد تميّز الألف الأوّل للمسيح باللقاءات مع شعوب متعدّدة، تمكّنت بتنقّلاتها، من الدخول إلى الأراضي المتنصّرة. هؤلاء الغزاة اقتبلوا الإيمان، وأصبحوا مسيحيّين على الرغم من أنّهم كانوا، غالباً عاجزين عن سبر غور سرّ المسيحيّة في مدى كمالها. وهكذا فإنّ قسماً كبيراً من هؤلاء المهتدين الجدد جنحوا نحو الآريوسيّة التي تنكر مساواة الابن للآب، محاولين نشر هذه الهرطقة في العالم المسيحيّ. لم يكن ذلك الجدل لاهوتيّاً فحسب، بل معركة طاحنة لا هوادة فيها، رهانها تأويل جوهر الإنجيل بالذات. فكان لا بدّ من سماع صوت المسيح، من خلال هذه النزاعات: “إذهبوا، إذن، وتلمذوا كلّ الأمم” (8). ولا شكّ في أنّ فاعليّة هذا النداء الذي أطلقه فادي العالم هي مذهلة.
ومن أهم أحداث التاريخ التبشيريّة، كان، بدون شكّ، الرسالة التي أدّاها الاخوان القدّيسان كيرلّس وميتودس. وهما من تسالونيكي، في اليونان. هذان أصبحا رسولي الصقالبة، إذ حملا إليهم الإنجيل، وأسّسا، في الوقت عينه، ثقافتهما الوطنيّة. ويمكننا القول إنّ هذه الشعوب مُدينة لهما باللغة الطقسيّة والأدبية. فقد عمل كلاهما في القرن التاسع بين القسطنطينية وروما. تحرّكا باسم وحدة كنائس الشرق والغرب. ولو أنّ هذه الوحدة قد بدأت تتفكّك حينذاك. وقد بقي إرث كرازتهما في المقاطعات الواسعة لأوروبا الوسطى الجنوبيّة. كما أنّ العديد من الأمم السلافية ما زالت تعتبرهما، حتى اليوم، سيّديَ إيمانها، وأبوي ثقافتها.
وهناك موجة تبشيريّة جديدة انطلقت، في أواخر القرن الخامس عشر بدءاً من أسبانيا والبرتغال. وهذا النشاط كان مميّزاً في ذلك العصر، ولا سيّما بعد انشقاق الشرق، في القرن الحادي عشر، والذي نتج عنه انقسام مأساوي في الغرب. فعظمة البابويّة، في القرون الوسطى، كانت قد غابت، والاصلاح البروتستانتي انتشر بقوّة. وبينما راحت الكنيسة الرومانيّة تخسر، في شمالي جبال الألب، شعوباً بكاملها، فإنّ العناية الإلهيّة أخذت تفتح لها آفاقاً جديدة. ومع اكتشاف أميركا، بدأت الكرازة، في هذه القارّة، من الشمال إلى الجنوب. ولقد احتفلنا، منذ وقت غير بعيد، بالذكرى المئوية الخامسة لهذه الكرازة. ليس فقط لنتذكر حَدثاً قد مضى، إنّما لنتساءل عن مسؤوليّتنا، اليوم، على ضوء العمل الذي حقّقه المرسلون الأبطال، ولا سيّما الرهبان، من أول القارّة الأميركية إلى آخرها. فالاندفاع التبشيريّ الذي برز ما وراء المحيط الأطلسيّ، مع اكتشاف القارّة الجديدة، لم يقصّر في أخذ مبادرات كنسيّة جديدة نحو الشرق. فالقرن السادس عشر هو قرن القديس فرنسيس كسفاريوس الذي بسط نشاطه الرسوليّ، تحديداً، في الشرق، نحو الهند واليابان. هذا النشاط كان فعّالاً، ولو أنّه اصطدم بمقاومة شديدة من قبل شعوب وريثة لحضارات ألفيّة (9). وبحسب اقتراح الأب ماثيو ريتشي (10) رسول الصين، علينا أن نلتزم بشارة الإنجيل إذا ما رغبنا في أن تصل المسيحيّة بعمق إلى نفوس هذه الشعوب. ولقد سبق لي أن أوردت أنّ عدداً ضئيلاً جدّاً من الشعب الأسيويّ يدين بالمسيحية. ولكن من المؤكّد أنّ هذا “القطيع الصغير” يشارك في الملكوت الذي سلّمه الآب إلى الرسل بواسطة المسيح. كما أنّ حيوية بعض الكنائس الآسيوية مذهلة. أكرّر مرّة أخرى: هذه هي ثمرة الاضطهادات. وهذا ما ينطبق، بنوع خاصّ على كوريا وفيتنام، ومؤخّراً على الصين.
إنّ الشعور بأنّ الكنيسة هي في حالة كرازة مستمرة ظهر بقوّة في القرن الماضي ولا يزال في القرن الحاضر، ولا سيّما بين الكنائس العريقة في أوربا الغربيّة. ويكفي، هنا، أن نذكّر بأنّ نصف كهنة رعايا بعض الأبرشيّات الفرنسيّة توجّه مؤخراً إلى التبشير.
والرسالة البابوية رسالة الفادي المنشورة منذ وقت غير بعيد، تسعى جاهدة في مراجعة الماضي القريب والبعيد، بدءاً، بساحة أثينا العامة، وصولاً إلى أيامنا، إذ تتكاثر الاجتماعات المماثلة. إنّ الكنيسة تعلن البشارة وتبشّر بالمسيح الذي “هو الطريق والحقّ والحياة” والوسيط الأوحد بين الله والبشر. وعلى الرغم من الضعف البشريّ فإنّ الكنيسة لا تملّ من التبشير. فالموجة التبشيرية الكبيرة، في القرن السابق، ملأت القارّات قاطبةً، وبخاصّة القارّة الأفريقية حيث أُنشِئت، حديثاً، كنيسة محلّية مؤلفة من السطان الأصليين وبإدراة أساقفة أفارقة. كما أضحت هذه القارّة السوداء قارّةً للدعوات التبشيرية والإرساليّة. والدعوات الكهنوتيّة والرسولية ليست في نقص، والحمد لله. فبينما هي على نقص في أوربا، نراها على ازدياد في أفريقيا وآسيا.
وقد يأتي يوم نرى فيه أنّ الكردينال “هياسنت تياندوم” على حقّ حين توقّع أنّ العالم القديم سيبشّره رُسُلّ لا ينتمون إلى العرق الأبيض. وهنا ينبغي أن نتساءل، أيضاً، إذ ما كان هذا برهان على الحيويّة المتجدّدة في الكنيسة دون انقطاع. أذكر هذه الوقائع لأسلّط ضوءاً مختلفاً على السؤال المقلق وهو تضاؤل عدد المسيحيّين وبخاصّة الكاثوليك. فالانهزاميّة ليست، في الحقيقة، مبرّرة في الكنيسة. فإذا لم يكن العالم كاثوليكياً من الناحية الطائفيّة أو المذهبيّة فهو، بالتأكيد، مطبوع، بعمق، بطابع الإنجيل. ويمكننا، أيضاً، أن نتأكد من أن سرّ الكنيسة أي جسد المسيح، موجود فيها دائماً بطريقة فعّالة، وإن غير منظور.
إنّ الكنيسة تجدّد، كلّ يوم، معركتها ضدّ روح هذا العالم، وهي ليست إلا معركة لأجل رمق هذا العالم. فإذا كان الإنجيل حاضراً، والتبشير متواصلاً من جهة، فإنّ حركة ضدّ التبشير قويّة لا تتوقّف ولا تلقي السلاح، من جهة أخرى. ففي متناولها وسائل وبرامج واسعة وهي تتصدّى بشدّة للإنجيل وللتبشير. وفيما يظهر أن روح هذا العالم هي الأقوى فإنّ المعركة في سبيل رمق هذا العالم المعاصر هي ذروتها. وفي هذا المعنى تتكلم الرسالة البابوية العامة “رسالة الفادي” على ساحات معاصرة هي عالم العلم والثقافة ووسائل الإعلام.
وهي تلك الأوساط التي تؤلّف نخبة المفكّرين كما أنّها ميدان الكتّاب والفنّانين.
إنّ التبشير، في أيّامنا الحاضرة، يجدّد لقاءه مع الإنسان، ويتكيّف مع كلّ جيل، بينما تمرّ مروراً عابراً الأجيال التي ابتعدت عن المسيح وعن الكنيسة، والتي قبلت النموذج “العلمانيّ” الدنيويّ فكريّاً وحياتياً، أو فُرِض عليها فرضاً. فالكنيسة تنظر دائماً نحو المستقبل، وتتوجّه، دونما توقّف، نحو الأجيال الطالعة. تقبل، بحماس، ما بدا أنّ أهلها قد رفضوه.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أنّ السيّد المسيح هو دائماً شابّ، وأنّ الروح القدس يعمل بدون توقّف. هذا ما توضحه ملاحظة المسيح: “إنّ أبي إلى الآن يعمل، وأنا أيضاً أعمل” (11). فالآب والابن يعملان معاً في الروح القدس الذي هو روح الحقّ لا ينفكّ يجتذب الإنسان ولا سيّما القلوب الفتيّة. فيجب، إذاً ألاّ نتوقّف عند الإحصاءات. ومن جهة المسيح فإنّه لا يعلّق أهميّة إلاّ على أعمال المحبّة. وإنّ الكنيسة، بدورها لم تكفّ عن إلقاء نظرة مستقبلية مليئة بالرجاء، على الرغم من كل الخسارات التي تتكبّدها. فهذا الرجاء هو علامة لقوّة الروح. أمّا سلطان الروح فينبغي أن يقاس بحسب قول الرسول بولس: “الويل لي إن لم أبشّر” (12).
وبعد عشر سنوات على انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، دعي مجمع الأساقفة إلى الانعقاد ليدرس موضوع الكرازة والتبشير. فكانت ثمرة هذه الجهود الإرشاد الرسوليّ لبولس السادس “واجب الكرازة”. ليس هذا الإرشاد رسالةً بابوية لكنّ قيمته الجوهرية تُعتبر أكثر أهمية من بعض الرسائل البابويّة. ويمكن القول إنّ هذا النصّ هو تطوير للتعليم المجمعيّ في كلّ ما يتعلقّ برسم رسالة الكنيسة الجوهرية: “الويل لي إن لم أبشّر”.
يشتدّ، في العالم المعاصر، التعطّش إلى الإنجيل، ويزداد بخاصّة في مدى منظور السنة الألفين الذي بات قريباً. وندرك هذه الحاجة بجلاء ربّما لأنّ العالم يبدو مبتعداً عن الإنجيل أو لأنّه لم يبلغ ذلك بعد. فالافتراض الأول، أعني البعد عن الإنجيل، يتعلّق، على الأخصّ، بالعالم القديم. وفي الدرجة الأولى، بأوربا، وبالمقابل، فإنّ الافتراض الثاني يتعلّق بالقّارة الآسيويّة والشرق الأقصى وأفريقيا. وإذا ما كنّا نردّد، منذ “واجب الكرازة” عبارة “البشارة الجديدة”، فما ذلك إلاّ بالنسبة إلى التحدّيات الجديدة التي يطلقها العالم المعاصر ضدّ رسالة الكنيسة.
يُشار هنا إلى أنّ الرسالة البابوية العامة “رسالة الفادي” تتحدّث عن “ربيع تبشيريّ جديد”. وما هو أكثر دلالةً، أيضاً، أنّ هذه الرسالة استقبلتها الأوساط المختلفة بارتياح، وحتى بحماسة. وبعد “واجب الكرازة”، فإن هذا النصّ يقترح حصيلةً، تتماشى وواقع الحال، لمبادئ تشّجع على تبشير العالم المعاصر.
تجهد الرسالة في أن تحصر القضايا الساخنة وتطوّقها. وهي تشير إلى العراقيل التي تعيق طريق التبشير، وتسعى لتوضيح بعض المفاهيم التي غالباً ما تتجاوز الحدود. وتلفت أخيراً إلى مناطق في العالم حيث حقيقة الإنجيل مرتقبة بالتأكيد. مثلاً، في البلدان التي كانت شيوعيّة، هذه البلدان التي لها تاريخ مسيحيّ طويل أصبحت، فعلاً، بحاجة إلى إعادة تبشير.
ولا علاقة لهذا بالتبشير الجديد بما كانت قد ألمحت إليه بعض المنشورات في حديثها عن “التجديد” أو التي أطلقت اتّهامات في “الاقتناص” التبشيري، معالجة مفاهيم التعدّدية والتسامح بطريقة انفراديّة انحيازيّة. وإنّ قراءة عميقة للقرار المجمعيّ في “الحرية الدينية” تساعد على توضيح سوء التفاهم، وإزالة المخاوف التي تحاول إيقاظها هكذا، ربّما بهدف حرمان الكنيسة من أيّ قوّة ونشاط هي بحاجة إليهما لتأدية رسالتها التبشيريّة. هذه المهمة تشكّل جزءاً من ذاتيّة الكنيسة نفسها. ولقد صاغ المجمع الفاتيكانيّ الثاني مبدأها عندما أكد أنّ: “الكنيسة رسوليّة في طبيعتها” (13).
وبمعزل عن الاعتراضات التي تتناول مبدأ الكرازة بالذات، وفرص إيصالها إلى العالم المعاصر كما يجب، فإنّ انتقادات أُخرى وُجّهت على مستوى الطرائق والوسائل التي استُعْمِلت لذلك. ففي 1989 أُقيم يوم الشبيبة العالميّ في سان جاك كومبوستيل، في اسبانيا. وقد كان ردّ الشبيبة، وبخاصّة الأوربيّة، بالغ الحماس. ومن جديد، عرفت الطرق القديمة التي تقود الحجّاج، نحو قبر الرسول يعقوب الكبير، حركةً عجيبةً. ونحن نعرف ما لهذا القبر، ولزيارات الحجّ عامّة، من أهميّة بالنسبة إلى المسيحيّة. كما نعرف الدور الذي قامت به هذه المسيرات الروحية في صياغة الهويّة الثقافية لأوربا. ولكن، في الوقت عينه الذي كانت تتجدّد فيه هذه الظاهرة التأسيسيّة، فإنّ أصواتاً كانت ترتفع لكي تدعم مقولة أنّ “حلم كومبوستيل” ينتمي من الآن، وبصورة واضحة لا لَبْسَ فيها، إلى الماضي وأنّ أوربا المسيحيّة لم تَعُدْ تُحسبُ من سوى المعطيات التاريخية التي يجب أن تُوضع بين المحفوظات، في الاستيداع. وأن بعض الأوساط التي تدّعى تمثيل الرأي العامّ، يمكن أن يجتاحها الذعر، لمجرد التفكير البسيط بأنّ كرازة جديدة لا يمكن إلاّ أن تدعو إلى التبصّر.
فضلاً عن هذا، ومن منظور الكرازة الجديدة، فليس من الحياد في شيء، إذا ما عدنا فكشفنا عن القيمة الأصلية لما يسمّى بالتدّين الشعبيّ. فمن وقت غير طويل لم يكن يحكَى عنه إلاّ بنوع من الازدراء. واليوم، بالمقابل، عرف بعض أشكال التعبير الجماعيّ عن الإيمان، كالحجّ على الطرقات القديمة والحديثة، تجدّداً حقيقيّاً. وهكذا، أضيفت تجربة جاسنا غورا في شيستيكوفا 1991 إلى شهادة تجمّع سان جاك كومبوستيل 1989، التي لا تُنتَسى. وباتت الأجيال الطالعة هي التي تتطوّع، قبل غيرها، للحجّ. ليس فقط في قارّتنا القديمة هذه، ولكن في الولايات المتّحدة حيث تجمّع في لقاء عالمي في دنفر 1993 مئات الآلاف من الشّبان المؤمنين بالمسيح، على الرغم من غياب التقليد الداعي إلى الحجّ إلى المزارات في أميركا.
إذاً، هناك اليوم، طلب واضح لتبشير جديد. ويتوقع الإنسان أن ترافقه بشارة الإنجيل في حجّه على الأرض. وينتظر الشبّاب هذه الرسالة ليبدأوا بالسير على الطريق. أوليسَ بروز هذه الظاهرة علامة للسنة الألفين التي تقترب؟
إنّ الحجّاج غالباً ما يلتفتون، أكثر فأكثر، نحو الأرض المقدّسة، نحو الناصرة وبيت لحم والقدس. وفي مسيرة الإيمان هذه استمرار لشعب الله في العهدين القديم والحديث. ففي نهاية القرن العشرين هذه، يحتفظ هذا الشعب، بين الأجيال الطالعة، بالضمير نفسه الذي لإبراهيم عندما كان يصغي إلى صوت الربّ الذي دعاه إلى مواصلة حجّ الإيمان. وأيّ دعوة في الإنجيل تتكرّر أكثر من: “اتبعني” (14). هذا الصوت يدعو الناس، اليوم، وبخاصّة الشّباب، ليذهبوا بعيداً على طرقات الإنجيل، باتّجاه عالم أفضل.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 9 / 16
2) أعمال الرسل 16 / 9 – 10
3) أعمال الرسل 17 / 16 – 34
4) كان أغناطيوس أسقف إنطاكية (تركيا حالياً) قد أوقف على عهد “تراجان” واستشهد في روما حوالي 107 (تعليق الناشر).
5) تتلمذ بوليكربوس على القديس يوحنا. ثم أصبح أسقفاً على مدينة إزمير. واستشهد محكوماً عليه بالنار في عهد الإمبراطور ماركس اوريلوس عام 150. (تعليق للناشر).
6) راجع: أعمال الرسل 15
7) إنجيل مرقس 16 / 15
8) إنجيل متى 28 / 19
9) في بشارة الإنجيل، حرص على التعبير بأمانة عن الرسالة المسيحية، وجعلها حاضرة في مختلف ثقافات الشعوب.
10) يسوعي، إيطالي (1552 – 1610)، أول مرسل نجح في الدخول إلى الصين، ووفّق بين الليتورجيا والعادات الصينية، وتناول في كتاباته اللاهوتية النقاط المشتركة مع فلسفة كونفوشيوس. (تعليق للناشر).
11) إنجيل يوحنا 5 / 17
12) رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 9 / 16
13) إلى الأمم، وثيقة مجمعية، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، 2
14) راجع مثلاً متى 4 / 19 – 20؛ 8 / 22؛ مرقس 1 / 17 – 18؛ 2 / 14؛ لوقا 5 / 27؛ 9 / 59 – 61؛ يوحنا 1 / 37؛ 1 / 40 – 43
هل الشباب مبعث للرجاء حقيقيّ؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الشباب يحظى بلفتة عطوف من الأب الأقدس. وقداستكم تحبّون أن تردّدوا أنّ الكنيسة تضع بهم رجاءها لكي يطلقوا التبشير بالإنجيل.
ولكن، هل إنّ قداستكم أكيدة من أنّ لهذا الرجاء ما يبرّرُه؟ ألا نجد أنفسنا، مع الأسف، حيالَ وهْمٍ يتجدّد دائماً في صدور الراشدين، وهو أن الجيل الطالع سيكون أفضل من جيلهم، ومن الأجيال التي سبقت جميعاً؟
إنّك تثير، هنا، مشكلةً تحليلها معقّد والرهانات عليها جسيمة.
كيف يتصرّف الشباب، اليوم، وعمَّ يبحثون؟
قد يمكننا أن نكتفي بجواب هو أنّ مثلهم مثل الشباب دائماً، وفي كل زمن. وكما ذكر المجمع (1)، هناك ثوابت في الكائن البشري لا تتغير من جيل إلى آخر. وأكثر من ذلك، أيضاً، يمكن أن تتحقق هذه المعطيات للشبيبة، في مراحل أخرى من الحياة. ومع ذلك، علينا أن نعترف أنّ شباب اليوم هم من بعض الوجوه، واضحو الاختلاف عمّن تقدّمهم. فعندما كنّا فتياناً نشأ جيلنا وهو يجتاز محن الحرب الأليمة ومخيّمات الاعتقال والأخطار المستديمة. فهذه التجارب أبرزت، عند شباب ذلك الزمان – وأفكّر هنا بشباب العالم أجمع، حتى وإن كان في ذهني، بنوع خاصّ، الشبيبة البولونيّة – كفاءات في البطولة فائقةً.
يكفي أن نستعيد عصيان “فرصوفيا” العامّ في السنة 1944، إذ لم يتردّد معاصِرَيَّ، وقد دفعهم اليأس، في إلقاء حياتهم الفتيّة في سعير النار. كانوا يريدون، بطريقة ما، أن يظهروا نضجهم حيال ما تلقّوه من ارثٍ ثقيل. أنا أنتمي إلى هذا الجيل أيضاً. وأظنّ أنّ بطولة معاصريّ رسمت الحدّ الفاصل في تبيّن دعوتي الكهنوتيّة. وقد كتب الأب كونستانتي ميكالسكي، وهو أحد كبار أساتذة جامعة “جاجلون” في كراكوفيا، غبّ عودته من معتقل “ساشنهوزن”، كتاباً بعنوان: “بين البطولة والوحشيّة”. فهذا العنوان يطلعنا، بالتمام، على المناخ الذي كان يسود تلك الحقبة. فلقد كان “ميكالسكي” يذكر، في حديثه عن الأخ “البرت شميالوسكي” بوصيّة الإنجيل التي بموجبها “ينبغي أن نعطي حياتنا” (2) ومن العجب، في هذه الحقبة الموسومة باحتقارٍ للإنسان مرعبٍ، وقد بات ثمن الحياة الإنسانيّة بخساً كما لم يكن من ذي قبل، أن تضحي حياة كلّ منا أثمن ما تكون عندما تغدو عطيّةً مجانيةً.
وما هو مؤكّد أن شباب اليوم ينشأون على مفهوم مختلف كلّ الاختلاف. فهم لا يحملون ندوب الحرب العالميّة الثانية، وقليلون منهم، علاوة على ذلك، لم يعرفوا، أو عرفوا قليلاً، الجهاد ضدّ النظام الشيوعيّ والدولة التوتاليتاريّة. إنّهم يعيشون الحريّة التي كسبها لهم غيرهم، ويستسلمون، أحياناً، لإغراءات المجتمع الاستهلاكي. وبصورة موجزة، هذه هي مواصفات الأوضاع الراهنة.
وعلى الرغم من هذه الحالة، فلا شيء يسمح بأن نؤكّد، بصورة قاطعة، أنّ الشباب، اليوم، يدير ظهره للقيم التراثية، ويهجر الكنيسة. وإنّ خبرة المربّين والرعاة تؤكّد، اليوم كما بالأمس، أنّ نوعاً من المثالية ما يزال يطبع هذا العصر، عصر الشباب، وإن كان لهذه المثاليّة، مع ذلك، ميل لأن تبدو بصيغة انتقادات. بينما كانت تعبّر عن ذاتها، في الماضي، بطريقة إيجابيّة، وذلك بالاتزام. وإنّ الأجيال الجديدة تنشأ اليوم، في مناخ تسيطر عليه الوضعية الجديدة. في حين كانت السيطرة للتقاليد الرومنطيقيّة في فترة شبابي، في بولونيا. فالشبّان الذين كنت ألتقيهم، في ذلك الجوّ من الحماس، كانوا يرون في الكنيسة وفي الإنجيل منطلقات تمكّنهم من إطلاق قواهم الخفيّة التي تسمح لهم بأن يبنوا حياةً ذات مغزى. وما زلت أذكر المناقشات التي كانت تدور بيني و بين هؤلاء الشبّان الذين كانوا يعبّرون، بألفاظ محسوسة، عمّا يقدّم لهم الإيمان.
الاكتشاف الأساسي الذي قمت به، في تلك الحقبة من رسالتي الرعويّة المكرّسة للشباب، بنوع خاصّ، كان أنّ الأهم يتقرّر، غالباًَ، في نهاية سنّ المراهقة. ما هو عمر الشباب؟ طبعاً إنه ليس حقبةٌ من الحياة عاديّةً واقعةً بين سن الطفولة وسنّ الرشد. بل، على العكس، أظنّ أنّه فترة ميّزتها العناية الإلهيّة إذ منحتها لكلّ كائن بشريّ ليجدد دعوته. إنّها فترة يفتّش فيها كلّ منّا عن جواب لتساؤلاته الأساسيّة كما الشابّ في الإنجيل – طبعاً.
حول معنى وجوده، إنما كذلك، وبطريقة أكثر محسوسيّة، عمّا يمكنه أن يبني حياته يوماً بعد يوم. هذا ما يميز زمن الشباب عن بقيّة الأعمار. فعلى كلّ مربٍّ أن يأخذ في الحسبان هذه البنيّة فيجهد في مساعدة كلّ فتى، وكلّ فتاة، لكي يضطلع كلّ منهما بدعوته. ويمكنني أن أضيف فأقول: ينبغي أن نحبّ، في الشبيبة، هذه السمات الجوهرية الأساسيّة.
أكيد أنّ الإنسان يرغب، في كلّ حقبة من حياته، أن يؤكّد شخصّيته، ويجد الحبّ، ولكنّ هذين الطوحين الجوهرييّن يظهران، إبّان الشباب، بكثافة متزايدة. غير أنّ الرغبة في تأكيد الذات لا يمكن أن تسمح بتشريع كلّ شيء، أو أيّ شيء كان. والشباب لا يطلب، فعلاً، أن يُسمح له بكلّ شيء. فهو مستعدّ لقبول التوجيه، وينتظر أن يُقال له “نعم” أو “لا”. إنّه يفتّش عن مستشارين نصوحين، ويريدهم أن يكونوا مهيّئين لذلك. فإذا أفضى، طوعاً، بما عنده، لأشخاص ذوي سلطة، فلأنّه يشعر أنّ هؤلاء أغنياء بالعطف الإنسانيّ، وهم، بالتالي، جديرون بمرافقته في الدرب التي اختار السير عليها.
من الواضح أنّ المشكلة الأساسيّة التي تواجهها الشبيبة تبقى، في الأساس مشكلة الشخص. فالشبيبة هي فترة شخصنة الحياة الإنسانيّة. وهي، أيضاً، حقبة اكتشاف المشاركة. والشبّان، فتياناً وفتيات، يعون، تدريجاً، أنّ عليهم العيش للآخرين ومع الأخرين. فهم يشعرون جيداً أن لا معنى لحياتهم إلاّ بمقدار ما يجعلون منها هبةً مجانيّة لقريبهم. وكلّ الدعوات تجد مصدرها في هذا الاكتشاف، أكانت دعوات كهنوتية ورهبانيّة أم دعوات إلى الزواج.
أقول هذا لأنّ الزواج هو دعوة وعطيّة من الله. ولن أنسى أبداً ذلك الشاب، الطالب في مدرسة البوليتكنيك، في كركوفيا، الذي كان يطمح، بعزم، إلى القداسة. كان ذلك هدفه في الحياة. وكان يعي أنّه اقتبل الحياة “لأسمى مصير” كما يقول القدّيس “ستانيسلاس كوستكا”. وقد اقتنع، في الوقت عنيه، أنّه لم يكن مدعوّاً إلى الكهنوت ولا إلى الحياة الرهبانيّة. كان يدرك أن دعوته هي أن يكون علمانياً. وكان مشدوداً إلى عمله وإلى دروسه في الهندسة، ويبحث عن رفيقة لحياته، يبحث عنها جاثياً على ركبتيه. ولا يمكنني أن أنسى ما قاله لي، في نهاية يوم من أيام إحدى الرياضات الروحيّة: “أعتقد أنّ عليّ القبول بالفتاة الفلانيّة كزوجة لي لأنّ الربّ هو الذي أعطانيها”، ذاك كما لو أنّه لم يترك نفسه لتقوده رغباته فقط، بل كذلك صوت الله ذاته. كان يعرف جيّداً أنّ كلّ سعادة مصدرها الله، وقد اختار زوجته على نحوٍ رائع. هذا الشاب اسمه “جرزي سيازيلسكي” وهو مات قبل الأوان، إثر حادث في السودان حيث كان مدعوّاً للتعليم في الجامعة. ودعوى تطوبيه قد أطلقت الآن.
إن دعوة الشباب إلى الحبّ تشكّل، طبيعياً، واقع حياتهم المؤدّي، أكثر من سواه، إلى واقع الراشدين. ولقد تنبّهت إلى ذلك فوراً، خلال خدمتي الكهنوتيّة. فقد كنت أشعر كما لو أن قوّةً خفيّةً تدفعني، وهي واجب إعداد الشباب للزواج، والكلام معهم على الحبّ. فالحبّ لا يُعلَّم، ومع هذا، فلا حاجة في العالم كحاجة شابٍّ للتعلّم. وعندما كنت كاهناً شاباً تعلّمت أنّ أحبّ الحبّ البشري. وقد كان أحد المواضيع التي جعلتُها محورَ كهنوتي كلّه، واعظاً ومرشداً في كرسيّ الاعتراف، وفي كلّ ما كنت أكتبه. فإذا أحببنا، فعلاً، الحبّ البشريّ، شعرنا بحاجة ماسّة إلى التطوّع، بكل قوانا، لمصلحة “الحبّ الأكبر”.
هذا لأنّ الحبّ عظيم وجميل. والشباب، في الواقع، يبحث، دائماً، عن الجمال في الحبّ ويريد أن يكون حبّه جميلاً. فإذا استسلم الشبّان للتجارب، وتبعوا أنماط عيش تبدو وكأنها “مَعْثَرَةً للعالم المعاصر” (مع الأسف، فالنماذج الخدّاعة ليست بقليلة الانتشار) فإنّهم يحملون، دائماً، في قرارة نفوسهم، بحبّ نقيّ جميل. ينطبق هذا على الفتيان والفتيات على السواء. وأخيراً، هم يشعرون جيّداً أنّه ما من أحد يمكنه أن يقدّم لهم حبّاً كهذا، بمعزل عن الله. إذا، هم على استعداد لأن يتبعوا المسيح دون أن يأبهوا للتضحيات التي يرتبّها عليهم هذا الاختيار.
لقد كوّنت هذه الفكرة السامية عن الشباب والشبيبة طيلة السنوات التي كنت خلالها كاهناً شاباً. وبعدها، لم يفارقني قطّ هذا المثال، وهو الذي دفعني إلى لقاء الشباب حيثما ذهبتُ. فكلّ كاهن رعية، في روما، يعرف أنّ زيارة أسقف روما لرعيته يجب أن تُختَتَم بلقاء مع الشباب. وليس صحيحاً أنّ في روما حيث يذهب البابا يريد أن يرى الشباب والشباب يريدون أن يروه. ففي الحقيقة ليس البابا من يبحثون عنه، بل المسيح. فهو الذي يعرف “ما في قلب الإنسان” (3) بخاصة ما في قلوب الشباب. ووحده المسيح يعرف أن يجيب، حقيقةً، الذين يسألون أنفسهم ويسألونه. وحتى لو تضمّنت هذه الأجوبة متطلّبات فإنّ الشباب ل يتهرّبون منها، بل على العكس، يبدون، بالأحرى، وكأنهم لا ينتظرون سواها.
تخوّلنا هذه التذكّرات كلّها أن نفهم كيف ولدت “أيّام الشباب العالميّة”. فلقد دُعيَ الشباب إلى روما في مناسبة يوبيل سنة الفداء. ثمّ في مناسبة السنة العالّمية للشباب التي أعلنتها منظّمة الأمم المتّحدة 1985. إنّ أحداً لم يخترع هذه الأيام والمناسبات. إنّما هم الشباب الذين أوجدوها. وهذه التجمّعات تتطابق وطموح الشباب في بلدان العالم كلّها. وهذه الأيام هي أحياناً، غنيّة بالمفاجآت للكهنة و الأساقفة. فعدد الشبان المشاركين فيها وطريقة قضاء هذه الأيّام يتجاوزان، عادّة كلّ التوقّعات وكلّ الآمال.
يعطينا الشباب، بهذا، شهادة رائعة بما هم عليه في الواقع. فلقد أضحت هذه التجمعات الضخمة العالميّة وسيلة تبشير بالإنجيل غير مألوفة. فهؤلاء الشباب، هم، في الواقع، حَمَلةُ طاقة واسعة للخير والإبداع. وعندما ألتقيهم حيثما كان، في العالم، أصغي أولاً إلى ما يريدون أن يقولوه لي عن ذواتهم، وعن المجتمع الذي يعيشون فيه، وعن الكنيسة. فأقول لهم: “ليس ما سأقوله لكم هو المهمّ، إنّما الأهم ما تقولونه لي، ولن تقولوه لي بالكلمات فقط، بل بحضوركم أيضاً بأغانيكم، وحتى برقصكم، وبألعابكم، وبإيماءاتكم المضحكمة، وبالاختصار بحماسكم”.
نحن، أساساً، بحاجة إلى حماس الشباب، وإلى فرحهم بالعيش اللذين يكملان فرح الله الأصليّ عندما خلق الإنسان. إنّهم يحسّون بهذا الفرح في داخلهم. وكلّ فرح ينبع من المعين نفسه، ولكنّ التعبير عنه، في حياة الإنسان، دائم الجدّة، ولا مثيل له. وللشباب ألف طريقة وطريقة ليعبّروا عن فرحهم. إذاًَ، من الخطأ بمكان الادّعاء أن البابا هو الذي يقود الشباب من قطب إلى قطب، على وجه البسيطة كلها، لكي يفرض نفسه عليهم كمرشد لهم. والصواب أنّهم هم الذين يقودونه. فبقدر ما أتقدم في السنّ بقدر ما يحثّني الشباب على أن أبقى شاباً. فلا يسمحون لي أن أنسى ما علّمتنيه الحياة ألا وهو اكتشاف الشبيبة وأهمّيتها الحاسمة في كلّ وجود إنسانيّ. وأعتقد أنّ هذا يفسّر أشياء كثيرة.
يوم بداية حبريّتي في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1978 أصررت، في نهاية الاحتفال، على القول للشباب، في ساحة القديس بطرس: “أنتم رجاء الكنيسة والعالم، وأنتم رجائي أيضاً”. إنّها كلمات علينا ألاّ ننساها مطلقاً.
ولكي نختصر موضوع الشباب والكنيسة، أشدّد على التأكيد أنّ الشباب يبحثون عن الله في أعماق ذواتهم. يبحثون عن معنى لحياتهم. يبحثون عن جواب حقيقيّ عن السؤال: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟” (4) ففي بحثهم هذا لا يمكنهم إلاّ أن يلتقوا الكنيسة، والكنيسة لا يمكنها إلاّ أن تلتقي الشباب. يكفي أن تفهم الكنيسة، كلّ الفهم، حقيقة ما يطمحون إليه. وعلى الشباب أيضاً، أن يتعرفوا إلى الكنيسة، وأن يكتشفوا فيها المسيح السائر، خلال العصور، مع كل جيل، ومع كلّ كائن بشريّ. إنّه يسير مع كلّ منّا كصديق. وهل من وقت، في حياة كلّ شابّ، أكثر حسماً من اليوم الذي يتأكد فيه أنّ يسوع هو صديقه الوحيد الذي لا يخيّبه أبداً، والذي يمكنه أن يعتمد عليه دائماً؟
الحواشي:
1) فرح ورجاء مرجع سابق، 10
2) إنجيل يوحنا 15 / 13
3) إنجيل يوحنا 2 / 25
4) إنجيل لوقا 10 / 25
هل سقوط الشيوعيّة سرّ أم أعجوبة؟
يبدو الله صامتاً. لم ينقطع الكلام على “سكوت الله” هذا. ولكنّ الله في الحقيقة، لا ينفكّ يعمل. هذا ما يؤكّده منْ يقرأون، في خضم المفاسد البشريّة، تحقّق المخططات السريّة للعناية الإلهيّة.
ولكي لا نتكلّم على سوى أحداث قريبة العهد، فلقد عبّرتم أحياناً، عن قناعة فائقة الوضوح. أذكر، على سبيل المثال، ما قلتموه في بلاد البلطيق، في مناسبة زيارتكم الأولى لأرض من أراضي ما كان اتّحاداً سوفياتيّاً، في خريف 1993. وهذه القناعة كانت في أنّه يمكننا أن نلمح “إصبع الله” في سقوط الماركسّية الملحدة. لقد ألمحتم إلى “سرّ” وحتى، مرّات، إلى “أعجوبة” وأنتم تذكرون هذا الانهيار لسلطان سقط في نهاية عامه السبعين، بعد أن كان يبدو وكأنّ أمامه عصوراً يحياها.
يؤكّد المسيح: “إنّ أبي ما زال يعمل، وأنا أعمل أيضاً” (1). ما معنى هذا التأكيد بالضبط؟ الاتّحاد مع الآب والابن بالروح القدس يشكل أساس الحياة الأبدية. “والحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح” (2). ولكن عندما يُظهر لنا المسيح أنّ الآب “ما يزال يعمل” فإنّه لا يكشف مباشرة ما يجري في الأبدية، بل يكشف، بالأحرى، أنّ الله يعمل باستمرار. فالمسيحية ليست فقط ديانة معرفة مجرّدة، ديانة تأمّل، إنّها، على حدّ سواء، ديانة عمل محسوس مادّي، هو عمل الله وعمل الإنسان. ولقد أوضح ذلك القديس يوحنا الصليبي، معلّم التأمّل والحياة النسكيّة العظيم إذ يقول: “على مشارف نهاية حياتنا نُدَان في موضوع المحبّة” (3). ولقد سبق أن أعلن يسوع هذه الحقيقة بالذات، بأبسط طريقة، في عظته حول الدينونة الأخيرة التي نقلها إلينا القديس متى في إنجيله (4). هل يمكن الكلام على سكوت الله؟ وإذا كان الأمر هكذا فكيف نفسّر هذا الصمت؟
نعم يمكننا، بمعنى أو بآخر، الادّعاء أنّ الله ساكت، وهو إذ يفعل ذلك فلأنّه كشف لنا كلّ شيء. فلقد تكلّم سابقاً، بلسان أنبيائه “في آخر الأبام هذه” وكذلك بشخص ابنه (5)، حين قال لنا بالمسيح كلّ ما كان عليه أن يقوله. ويؤكّد القديس يوحنا الصليبي أنّ المسيح: “كمنجم غنيّ بمسارب من الكنوز ضخمةٍ، نحتفرها باستمرار، ولا نستطيع أن نأتي عليها أو ننتقص منها، بل، على العكس، نكتشف، في كلّ تجويف، مسارب من الثروات جديدةً” (6). إذاً، علينا أن نعاود الإصغاء، من دون كلل، إلى صوت الله الذي تجسّد في تاريخ البشر. وإذا لم يسمع البعض هذه الكلمة، فقد يكون أنّهم لم يوسّعوا لها في قلوبهم بما فيه الكفاية. ففي ما يتعلّق بهم تكلّم المسيح على الذين “ينظرون ولا يبصرون، ولأنهم يسمعون ولا يسمعون” (7). ومع هذا فإنّ اختبارنا الله يبقى في متناول كلّ إنسان، لأنّنا نصل إليه بسهولة عبر يسوع المسيح، بالروح القدس الذي يسكن في قلوبنا. وعلى الرغم من المظاهر فكثيرون هم الذين يختبرون، يومياً، عمل الله في العالم. إنّه الاختبار الأعظم الذي يمكننا، وبخاصة الأجيال الفتيّة منّا، وأن نجريه في أيّامنا، فأيّ معنى آخر يمكن أن نعطيه لتزايد الجمعيّات والحركات التي تظهر في الكنيسة؟ أيّ ظاهرة تفسّر هذا الإزدهار إن لم تكن كلمة الله التي أصغيَ إليها وسُمِعتْ؟ وماذا تعني تجربة تجمّع دنفر إن لم تكن سماع الشبيبة صوت الله، على الرغم من قرينة تشير إلى أنّ الفشل كان مؤكّداً، وأقول هذا من منطلق بشري، لسبب بسيط وهو أنّه صنع الكثير لكي يُمنعَ الإصغاء إليه؟
إنّ هذا الإصغاء لصوت الله، وهذا التعرّف إليه هما في مصدر العمل: فحركة الفكر، وحركة القلب، وحركة الإرادة تتأصّل فيه. ولقد حاولت، يوماً، أن أجعل ممثّلي حركات رسولية مختلفة يَعُون أنّ الكنيسة هي، قبل كل شيء، “حركة”، رسالة. إنّها الرسالة التي تبدأ بالله الآب، وتلتقي البشرية من خلال الابن في الروح القدس، وتكيّفها بشكل دائم التجدّد. بلى، فالمسيحيّة هي عمل الله الرائع! وعمل كلمة الله يمرّ في عمل الأسرار. وما الأسرار (كلّ الأسرار) إن هي إلاّ عمل المسيح في الروح القدس؟ فعندما تعمّد الكنيسة فإنّ المسيح هو الذي يعمّد. وعندما تغفر الكنيسة الذنوب فإنّ المسيح هو الذي يغفرها. وعندما تمنح الكنيسة سرّ القربان المقدّس فإنّ المسيح هو الذي يمنح ذاته: “هذا هو جسدي”. وهذا يندرج على كلّ الأسرار التي هي، دائماً، عمل المسيح، عمل الله في المسيح. إذاً، من الظلم، أن نتكلّم على صمت الله. بل علينا، بالأحرى، أن نتكلّم على إرادة خنق صوت الله.
في الحقيقة، إنّ إرادة خنق صوت الله هذه هي متعمّدة مقصودة بما فيه الكفاية. فكثيرون يعملون ما بوسعهم لكي لا يُسمع صوته. لكي يبقى صوت البشر وحده مسموعاً. والحال أنّ صوت البشر عاجز عن أن يعطي سوى نظرّيات أرضية. غير أنّ حديثه جدير بأن يثير الأسى أو يبعث الدمار على صعيد كونيّ. وهل علينا أن نذكّر بتاريخ عصرنا المأسويّ؟ يتبيّن، في سؤالك، أنّ عمل الله يظهر، في تاريخ عصرنا، من خلال سقوط الشيوعيّة. علينا دائماً، أن نتجنّب الاختصارات المفرطة. فإنّ ما ندعوه شيوعيّة له تاريخه. وهذا التاريخ بدأ بثورة في وجه الظلم، وقد سبق أن ذكرت هذا في رسالتي البابويّة “العمل البشري”، فنقمة عالم العمّال العادلة تحوّلت، في ما بعد، عقيدة. ولكنّ هذا الاعتراض تسلّمت مقاليده الكنيسة أيضاً. ولكي نقتنع بذلك، ما علينا سوى إعادة قراءة الرسالة البابوية المنشورة في أواخر القرن الماضي “الشؤون الحديثة”. أضف إلى أنّ سلطة الكنيسة لم تكتفِ بالاعتراض فحسب إنّما ألقت على المستقبل نظرةً تنبّؤيّةً. وبالفعل، فقد كان لاون الثالث عشر أوّل مَنْ تنبّأ، بطريقة ما، بانهيار الشيوعيّة وتوّقع أنّ هذا السقوط سيكلّف البشرية وأوروبا غالياً. “لأنّ العلاج يمكن أن يكون أخطر من الدّاء نفسه”. هذا ما كتبه في رسالته البابويّة 1891. هكذا تكلّم هذا البابا، بكامل سلطة الكنيسة المعلّمة.
وما قولك في أولاد “فاطيما” البرتغاليّين الذين سمعوا، فجأة، العذراء مريم، تقول لهم عشيّة ثورة تشرين 8: “سوف ترتدّ روسيّا إلى الإيمان، وفي النهاية سينتصر قلبي؟” لم يكن بمستطاع هؤلاء الأولاد أن يخترعوا هذه التنبّؤات إذ لم يكن عندهم سوى إلمام بسيط بالتاريخ و الجغرافيا، ومعرفة أقلّ بالحركات الاجتماعية وانتشار العقائد، ومع هذا فقد تحقّق كلّ ما بشّروا به (9).
ألا يسمح تذكّر هذه الأحداث بفهم سبب تعيين البابا “من بلد شرقيّ” لخاتمة هذا القرن؟ وقد كان ينبغي أيضاً أن تحدث مؤامرة ساحة القديس بطرس في الثالث عشر من أيار 1981 (10) لكي يصير كلّ شيء واضحاً ومفهوماً، ولكي يستطيع صوت الله الذي يتكلّم في تاريخ البشريّة خلال “علامات الأزمنة” أن يُسمعَ ويُفهمَ بسهولة أكبر.
وهكذا فالآب هو دائب العمل، وكذلك الابن بالروح القدس الذي لا يُرَى، والذي هو محبّة. وبكونه محبّة لا ينفك يتابع عمل الله الثالوثيّ الخلاّق، الخلاصيّ المقدّس والمحيي.
إنّه لمن السذاجة الادّعاء أنّ انهيار الشيوعيّة ناجم عن تدخّل العناية الإلهيّة المباشر. فالشيوعيّة، كونها نظاماً، سقطت وحدها بطريقة ما. وما سقوطها إلاّ نتيجة لأخطائها ولتطرّفها. فلقد بدت “دواءً أشدّ خطراً من الدّاء نفسه”. وإذ أمست تهديداً جسيماً وتحدّياً هائلاً للعالم أجمع لم تنجح، مع هذا، في إقامة إصلاح اجتماعيّ حقيقيّ. لقد سقطت الشيوعيّة وحدها بسبب ضعفها الذاتي الملازم لها.
إنّ أبي مايزال يعمل وأنا أعمل أيضاً” (11). إنّ سقوط الشيوعيّة يقدم لنا، بالحقيقة، نظرةً شاملة إلى الماضي عن طرائق الفكر والعمل التي تَدمَغُ الحضارة المعاصرة، وبخاصّة الأوروبية، والتي أدت إلى ظهور الماركسية. هذه المدنيّة حقّقت نجاحات أكيدة في ميادين متعدّدة. ولكنّها اقترفت أخطاءً جسيمةً وتجاوزات لا تُغتفر، إذ استغلّت الإنسان بكلّ ما يمكن تصوّره من الوسائل. ولقد عرفت حضارتنا أن تخصّ نفسها دائماً بأنظمة سلطوية وقهرية، سياسية كانت أم ثقافية، على الأخصّ عن طريق وسائل الإعلام والاتّصال، تتيح لها بأن تفرض على البشريّة جمعاء أخطاءها وتجاوزاتها.
كيف لنا أن نفسّر، بغير هذا، الفجوة التي حدثت بين بلدان نصف الكرة الشماليّة الغنيّة، وبلدان نصف الكرة الجنوبيّة الفقيرة التي يزداد فقرها يوماً بعد يوم؟ من هم المسؤولون عن ذلك؟ المسؤول هو الإنسان. هم الناس بأنظمتهم العقائدية وطرق فلسفاتهم. ولكنّي أقول، في تحليل أخير، إنّ المذنب الحقيقيّ هو رفض الله، وإرادةُ محو كامل لكل ما هو مسيحيّ. هذه المعركة ضدّ الله تسيطر، منذ قرون ثلاثة، وبمقدار واسع، على فكر الشرق وحياته. فالاشتراكية الماركسيّة ليست سوى ترجمة متفاقمة الخطر لمنهاج استئصال المسيحيّة هذا. ومَنْ لا يرى اليوم أن مشروعاً كهذا لم يعد بإمكانه أن يخفي، أكثر، التهديد الذي يشكلّه؟ أو مَنْ لا يرع، أخيراً، عجزه؟
ذلك لأنّ الله هو أمين على عهده الذي أقامه مع الإنسانيّة في يسوع المسيح. وهو لن ينقضه أبداً لأنّه أراد، جازماً، أن يقود مصيرُ الإنسان إلى الحياة الأبديّة في ملكوت السماوات. فهل يستسلم الإنسان لمحبّة الله، وهل يعترف بخطأه المأسويّ؟ وهل يقرُّ بهزيمته أميرُ الظلمات هذا، “أبو الكذب” (12) الذي يتّهم باستمرار أبناء البشر كما أتّهم، قبلاً، أيوب (13)؟
من المحتمل أن لا. ولكن، قد تضعف شيئاً فشيئاً الحجج التي نقدّمها له لكي يتّهمنا. كما يمكن أن تلقي البشريّة سلاحها، وتصير، تدريجاً، أكثر إنسانيّة. وقد تفتح من جديد أذنيها وقلبها لتصغي إلى الكلمة التي بها قال الله للإنسان كلّ شيء.
ليس لهذا الاهتداء أيّ مردود مخجل. فالمرء لا يتعلّم حقاً إلاّ عندما يعرف أخطاءه. ويمكن أن تتبع الإنسانيّة الطريق نفسه لكي يقودها الله في دروب تاريخها الوعرة. فهو لا ينفكّ يعمل في هذا الاتّجاه. وسيبقى الصليب والقيامة أساس عمله الدائم. هذه هي الكلمة النهائية حول الحقيقة والمحبّة. وهذا هو ينبوع عمل الله، الذي لا ينضب، في الأسرار كما في سائر الطرق التي يعرفها وحده. وعمل الله هذا يتمّ في قلب الإنسان على مدى تاريخ البشريّة.
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 5 / 17
2) إنجيل يوحنا 17 / 3
3) كلام الحب والنور، Paroles de lumière et d’amour
4) إنجيل متى 25 / 31 – 46
5) الرسالة إلى العبرانيين 1 / 1 – 2
6) نشيد روحي، 13 / 37، رقم 4
7) إنجيل متى 13 / 13
8) إشارة إلى الثورة التي أدت إلى استيلاء البلشفيك اللينينيين على السلطة في روسيا، عام 1917
9) في 13 أيار 1917 ظهرت السيدة العذراء مريم إلى ثلاثة رعاة صغار: لوسيا ولها من العمر عشر سنوات وفرنسيسكو 9 سنوات وجاسينتا 7 سنوات. وهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. سمعوا في الظهور: “لا تخافوا! أنا آتية من السماء”. وفي 13 تموز “عودوا إلى هنا كل شهر: في تشرين الأول أقول لكم من أنا وماذا أريد وأصنع آية عظيمة لكي يؤمن بكم الجميع”. وأضافت: “إن الحرب (1914 – 1918) أوشكت على الانتهاء، ولكن إذا لم يكف الناس عن الإساءة إلى الرب، في ولاية البابا القادم، فإن حرباً أخرى أسوأ بكثير سوف تندلع”. وأضافت: “إذا سمع الناس كلامي، فإن روسيا سوف تعود (إلى الإيمان) وسيعرف العالم السلام. وإلا فإنها ستنشر أضاليلها في العالم متسببة بحروب واضطهادات ضد الكنيسة، ولكن في النهاية، إن قلبي الطاهر سينتصر”. وبعد هذه الظهورات الأولى، أخضع الأولاد إلى استجواب القوى الأمنية والضغوطات المختلفة، ولكنهم لم يبدّلوا أبداً من شهاداتهم.
في 13 تشرين الأول، اجتمع أكثر من 50 ألف نسمة في مكان الظهورات وعاينوا آية الشمس الشهيرة. كشفت العذراء مريم عن نفسها للأولاد وسلمتهم سراً. (تعليق للناشر).
10) محاولة اغتيال كان ضحيتها “البابا البولوني” في عام 1981 توافق ذلك مع الذكرى الأولى لظهورات فاطيما، (تعليق للناشر).
11) إنجيل يوحنا 5 / 17
12) إنجيل يوحنا 8 / 44
13) سفر أيوب 1 / 9 وما يليه.
ألا يكون خلاص خارج الكنيسة؟
يرتكز الإيمان ا لكاثوليكيّ على حقائق ثلاث حيّة، وثيقة الصلة بعضها ببعض. ولقد سبق أن عرضنا لاثنتين منها: الله ويسوع المسيح. وحان الوقت للكلام على الثالثة، أي الكنيسة.
إنّ الشعوب قاطبة، حتى مَنْ في الغرب، تؤمن بالله، أو أقلّه “بألوهية ما”. فالإلحاد المُعلن والمدعوم كان، ويبدو أنّه ما يزال، مختَصّاً “بنخبة من الناس”. وكثيرون هم الذين ما زالوا مستمّرين في الإيمان بأنّ الله تجسّد بيسوع الناصريّ، أو على الأقلّ تجلّى فيه بطريقة فريدة.
وأمّا الكنيسة؟ وبخاصّة الكاثوليكيّة؟ فإنّها تثير حولها، عند الكثيرين، مشاعر النقمة حين تدّعي أنّ “لا خلاص خارج الكنيسة”. إذ كثيراً ما يتساءل المسيحيّون، حتّى الكاثوليك منهم، لماذا تمتلك الكنيسة الكاثوليكيّة، وحدَها من بين سائر الكنائس، كمالَ الإنجيل، فتكون جديرةً بتعليمه دون سواها؟
لكي نجيب عن سؤالك نجد من الملائم، بادئ ذي بدء، أن نشرح العقيدة المسيحيّة للخلاص ولوساطة الخلاص التي تأتينا دائماً من الله فقط. “لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، وهو إنسان، أي المسيح يسوع” (1) و“فلا خلاص بأحد غيره لأنه ما من اسم آخر تحت السماء أطلق على أحد الناس ننال به الخلاص” (2).
وبالنتيجة فإن الحقيقة الموحاة هي أن الخلاص ثابت، نهائياً، في المسيح. والكنيسة، التي هي جسد المسيح، هي بكلّ بساطة أداة الخلاص. وإنّنا لنقرأ، منذ الكلمات الأولى للوثيقة المجمعيّة “نور الأمم” حول الكنيسة، ما يأتي: “الكنيسة هي في المسيح بمثابة السر، أي العلامة والأداة في الاتحاد الصميم بالله ووحدة الجنس البشري برمته” (3). أي هي، في الوقت نفسه، العلامة والواسطة لذلك. وكونها شعب الله فهي، إذاًَ، جسد المسيح في الآن ذاته.
لقد أعطى المجمع الأخير شرحاً عميقاً لسر الكنيسة. “فإذا كان أحد في المسيح فإنه خلق جديد. قد زالت الأشياء القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة (4)، وهو، إذ بث روحه القدوس في أخوته الذين كان يجمعهم من الأمم كافة، جعلهم، روحياً، كجسده” (5). إن الكنيسة العالمية، وكما شرحه بوضوح القديس قبريانوس القرطاجي في القرن الثالث، تظهر “كشعب يتلاقى في وحدةٍ، مع الآب والابن والروح القدس” (6). حياته من الله، وفي الله. وهكذا يتم الخلاص يخلص الإنسان في أحضان الكنيسة بمقدار ما يدخل بواسطتها في سر الله الثالوثي، سر صميم الحياة الإلهية.
إن ها الواقع لصعبٌ تفهمه إذا ما تعلقنا بمظاهر الكنيسة المنظورة. ولكن للكنيسة هيكلية بنيوية كأي كائن حي. وهذا، بالضبط ما اعتمده مار بولس صورة لشعوره الرائع عن جسد المسيح الذي هو الكنيسة (7): “فأنتم جسد المسيح وكل واحد منكم عضوٌ منه (8) (…) وكذلك، نحن في كثرتنا جسد واحد في المسيح لأننا أعضاء بعضنا لبعض” (9)، ففي عملية بناء جسد المسيح تسيطر مجموعة متنوعة من الأعضاء والوظائف. والروح الذي يوزع هذه المواهب المتنوعة لخير الكنيسة، بمقدار ثرواته ومستلزمات خدماته، واحدٌ هو (10).
وهكذا فإن المجمع بعيد عن إعلان أية مركزية كنسية. والتعليم المجمعي هو مسيحاني محض على المستويات جميعها. وبالتالي، هو متجذر في السر الثالوثي. وإننا لنجد، دائماً، في قلب الكنيسة، المسيح وذبيحته مُحتَفَلاً بها بمعنى أو بآخر على مذبح الخليقة كلها، على مذبح العالم. فالمسيح هو “الابن البكر للخليقة كلها” (11) وبقيامته، هو “البكر بين الأموات” (12) أيضاً. تجتمع الخليقة كلها حول ذبيحة فدائه، وتنضج بالله دعوته الأبدية. وإذا ما تحقق هذا العمل في “آلام المخاض” فإن انتشاره في التاريخ يحييه الرجاء، كما يشرحه لنا مار بولس في رسالته إلى الرومانيين (13).
الكنيسة، في المسيح، كاثوليكية هي ـ أي شاملة. ولا يمكن أن تكون غير ذلك، وهذا ما أوضحه المجمع: “فشعب الله الواحد هو إذن حاضرٌ في جميع شعوب الأرض بما أنه يستمدُ من جيمع الشعوب مواطنيه الأخصاء ـ مواطني ملكوتٍ ليس هو، من ذات طبيعته، من الأرض بل من السماء. ومن ثمَ فجميع المؤمنين المتفرقين في أرجاء العالم هم على الشركة، في الروح القدس، بعضهم مع بعض، حتى إن “المقمَ في رومة يعرف أن الذين هم في الهند أعضاء له”.
ونقرأ، أيضاً، في الوثيقة نفسها، أحد أهم مقررات المجمع: “وبفعل هذا الشمول يحمل كل جزءٍ إلى الأجزاء الأخرى، وإلى الكنيسة كلها جمعاء، مكاسب مَواهبه الخاصة، بحيث إن الكل، وكل جزءٍ منه، ينمو، بما يمدُه به الجميع وبسعيهم المشترك المتناسق، نحو الملء في الوحدة” (14).
إن الكنيسة هي، في المسيح، شراكة، من أوجه متعددة. فالمشاركة التي تحققها بين الناس تجعلها شبيهة بالمشاركة الإلهية بين الآب والابن والروح القدس في الثالوث. وهي، بفضل هذه الشراكة، أداة خلاص البشر. إذ تحمل، في طياتها، سر تضحية الفادي، وتتغذى منه باستمرار. فيسوع المسيح، بدمه الذي أُريقَ، “دخل القدس مرة واحدة، لا بدم التيوس والعجول، بل بدمه، فحصل على فداءٍ أبدي” (15).
المسيح، إذاً، هو “المُعتَمَدُ” الوحيد، والحق، لخلاص الإنسانية. ومثله الكنيسة. في المقياس الدقيق الملتزم الذي تعمل ضمنه بواسطة المسيح، وفي المسيح. ويعلّم المجمع أنَ: “المسيح وحده هو وسيطُ الخلاصِ وصِراطُه، هو الحاضر لأجلنا في جسده الذي هو الكنيسة. فإنَّه إذ يعلّم بصَريح العبارة ضرورة الإيمان والمعموديّة (16)، قد أكّد في الوقت نفسه ضرورة الكنيسة التي يَلجُ فيها الناس بالمعموديّة كما من بابها. ومن ثم فإنّ الذين لا يجهلون أنّ الله قد أنشأ، بيسوع المسيح، الكنيسة الكاثوليكية أداةً ضروريةً ثم يرفضون الدّخول إليها أو الثبات فيها، لا يستطيعون سبيلاً إلى الخلاص” (17).
وهكذا يطوّر المجمع تعليمه حول الكنيسة كمعتمد خلاص في المسيح إذ يقول: “وينتمي إلى مجتمع الكنيسة انتماءً تامّاً أولئك الذين، بعد إذ حصلوا على روح المسيح، يتقبّلون قبولاً كليّاً مُركَّبَها وجميع وسائل الخلاص التي أنشِئت فيها؛ ويتَّحدون، في مجتمعها المنظور، بالمسيح الذي يقودها بواسطة الحبر الأعظم والأساقفة المتَّحدين في ما بينهم بربُطِ الاعتراف بالإيمان، والأسرار والحُكمِ الكنسي، والشركة بيد أنه لا يخلص، على كونه منتمياً إلى الكنيسة، ذاك الذي لا يثبتُ في المحبَّة، فيقيم في حضن الكنيسة “بالجسم” لا “بالقلب”. وليتذكر جميع أبناء الكنيسة أنّهم بنعمة خاصةٍ من المسيح لا باستحقاقاتهم الذاتيّة هم ما هم عليه من الوضع؛ وإنهم إن لم يتجاوبوا معها بالفكر والقول والأعمال فلن يخلصوا، بل ستكون دينونتهم أشدّ وأعسر” (18).
وأعتقد أنّ تأكيدات المجمع هذه تجيب، دون أي لَبْس، عن الاعتراض الذي تضمّنَهُ سؤالك. فعندنا هنا، بالنتيجة، تبرير ضرورة الكنيسة كطريق للخلاص أوحد.
يقول المجمع إذا كان المسيحيّون ينتمون، بالضرورة، إلى الكنيسة، فغير المسيحيّين الذين يؤمنون بالله، كذلك ذوو الإرادة الطيبّة هم “منتظمون” في شعب الله، أي في الكنيسة (19). وهذان البعدان لهما أهمّيتهما للخلاص، ولكلّ منهما درجات مختلفة. فخلاص الناس بالكنيسة وفي الكنيسة، ولكن بالمسيح دائماً. ومساحة الخلاص يمكن أن تتجاوز إطار المظاهر الشكليّة. ويمكن أن توجد أماكن وطرق “انتظام” في جسد المسيح. ولقد ذكّر بهذا البابا بولس السادس في رسالته البابويّة الأولى “كنيسته”. مستعيداً تعدّدية “حلقات الحوار حول الخلاص” (20) وقد حدّد المجمع هذه “الحلقات كمساحات انتماء إلى الكنيسة و”انتظام” فيها. وهذا هو المعنى الحقيقيّ للصيغة المعروفة: “لا خلاص خارج الكنيسة”.
كيف يمكن عدم الاعتراف بأنّ هذا التأكيد هو، في الواقع، منفتح بقدر ما هو معقول! وليس من الحقّ أن نرى فيه سمة نوع من “العزل الكنسيّ”. فالذين يتمرّدون، ضدّ ما يسمّونه الادعاءات المفرطة للكنيسة الكاثوليكية، يجهلون أكيداً معنى حقيقة تعليمها.
تفرح الكنيسة الكاثوليكيّة عندما تبشّر المجموعات المسيحيّة الأخرى بالإنجيل معها، وهي عالمة أنّها مؤتمنة على وسائل الخلاص بالتمام والكمال (21).
ولأنها كاثوليكية بالتحديد، فإنّ الكنيسة منفتحة على الحوار مع المسيحييّن الآخرين، ومع كلّ أعضاء الديانات غير المسيحيّة، ومع ذوي الإرادة الطيّبة. وقد ردّد ذلك. من دون كلل، يوحنّا الثالث والعشرون، وبولس السادس. وما ينبغي فهمه بعبارة “ذوي الإرادة الطيّبة” محدّد بوضوح ومفنّد في النّص المجمعيّ “دستور عقائدي في الكنيسة”. والكنيسة تبشر بالإنجيل مع كلّ مَنْ يعترفون بالمسيح. وهي تريد أن تدلّ الجميع إلى طريق الخلاص الأبديّ، أي إلى مبادئ الحياة في الروح والحقّ.
إسمح لي أن أَسِرّ إليك بذكرى من ذكريات طفولتي. فيوماً، أعطاني والدي كتاب صلاة يتضمّن، بنوع خاصّ، صلاةً للروح القدس، ولقد نصحني أن أتلوها يوميّاً. فبذلت جهدي لأقوم بذلك. وهكذا فهمت، وللمرّة الاولى، معنى كلمة المسيح للسامريّة حول “عُبَّاد الله الحقيقيّن” الذين “يعبدونه بالروح والحَّقّ” (22). ولقد مررت، بعد تلك الحقبة، بمراحل كثيرة. فمثلاً، قبل دخولي إلى الإكليريكيّة، تعرّفت بعلمانيّ اسمه يان تيرانوسكي، وقد كان متصوّفاً حقاً. فهذا الرجل الذي أعتبره كقديس، عرّفني إلى كبار المعلّمين الروحيّين الأسبان، وفي مقدّمتهم القدّيس يوحنا الصليبي. وقبل أن أدخل إلى الإكليريكيّة متخفيّاًَ كنت أقرأ أعمال هذا المتصوّف، وبخاصّة قصائده، حتى إنّني درست اللغة القشتاليّة لأستطيع قراءتها بلغتها الأمّ. وكانت تلك فترة أخرى حاسمة في حياتي.
أعتقد أنّه كان لاقتراح والدي دورٌ أساسيّ في توجيهي نحو “عبادة الله الحقيقيّة”. فلقد وجدت فيها الرغبة والوسيلة لأنتمي إلى “عبّاده الحقيقيّين” الذين “يعبدونه بالروح والحقّ”. لقد اكتشفت الكنيسة، من جديد، كوحدة خلاص. ففي هذه الكنيسة وجدت مكاني ودعوتي. وقدّرت، تدريجاً، معنى الفداء الذي حقّقه المسيح، وبالتالي، معنى الأسرار، وبخاصّة القدّاس. وفهمت، شيئاً فشيئاً، ما كان ثمن افتدائنا. كلّ هذا جعلني، أيضاً، أتعّمق، أكثر فأكثر، في سرّ الكنيسة التي لها بُعْدٌ منظور لأنّها، على الأخصّ، سرّ. فبُنْيَتُها وتنظيمها هما في خدمة هذا السرّ. وبما أنّها جسد المسيح السرّيّ فهي تستقبلنا جميعاً وتجمعنا كلّنا. فأبعادها الروحيّة والسريّة تربو كثيراً على ما تقدّمه إحصاءات العلوم الاجتماعيّة ودراساتها بأكملها.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس الأولى إلى طيموتاوس 2 / 5
2) أعمال الرسل 4 / 12
3) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق 1
4) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية 6 / 15، رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل قورنتس 5 / 17
5) نور الأمم، مرجع سابق 7
6) De Oratione Dominica, n. 23.
7) رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي 1 / 18
8) رسالة القديس بولس إلى أهل قورنتس 12 / 27
9) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 12 / 5
10) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق، 7
11) رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي 1 / 15
12) رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي 1 / 18
13 رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 23 – 24
14) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق، 13
15) رسالة إلى العبرانيين 9 / 12
16) إنجيل مرقس 16 / 16؛ يوحنا 3 / 15
17) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق، 14
18) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق، 14
19) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق 15 و 16
20) كنيسته، رسالة للبابا بولس السادس Ecclesiam suam, éditions du Centurion, Paris 1964 N. 101 – 117.
21) دستور عقائدي في الكنيسة، مرجع سابق، 8، واستعادة الوحدة، وثيقة مجمعية، قرار في الحركة المسكونية، 4.
22) إنجيل يوحنا 4 / 21 – 13
“قال يسوع للسامرية: “صدقيني أيتها المرأة، تأتي ساعة فيها تعبدون الآب لا في الجبل ولا في أورشليم، أنتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم لأن الخلاص يأتي من اليهود ولكن تأتي ساعة وقد حضرت الآن فيها العبّاد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحق، فمثل أولئك العباد يريد الآب”. (استشهاد للناشر).
بحثاً عن الوحدة الضائعة
إنّ ما عرضتموه يستدعي، على الفور، سؤالاً جديداً. فعلى الرغم من النتائج التي تحقّقت، يبدو الحوار المسكونيّ – أي الجهود المبذولة لوحدة المسيحيّين كما طلبها المسيح نفسه، بالصّلاة، من أبيه – يبدو أنّه يؤدّي بالأحرى، إلى خيبات أمل. ولنا مثال على ذلك قريب العهد، ألا وهو بعض قرارات الكنيسة الأنجليكانيّة التي توسّع الهوّة، وبالتحديد، حيث كان يمكن أن نأمل بالاقتراب من إعادة الوحدة. فما هي، يا صاحب القداسة، انطباعاتكم وآمالكم، حول هذا الموضوع الحادّ؟
قبل الكلام على خيبات أمل، علينا أن نعود إلى مبادرة المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أعاد فتح طريق المسكونيّة، في تاريخ الكنيسة. هذا المشروع عزيز عليّ بنوع خاصّ. فأنا، في الواقع، أنتمي إلى أمّة عريقة الجذور في تراث كنسيّ مسكونيّ مديد، على الرغم من اعتبارها كاثوليكيّة، قبل كل شيء.
ففي خلال عصور من تاريخها الألفيّ كانت التجربة البولونيّة تجربة دولةٍ، تضمّ، في أرجائها، شعوباً متعدّدة، ومذاهب مختلفة مسيحيّة وغير مسيحيّة أيضاً. وبفضل هذا التراث كانت عقليّة البولونيّين، ما زالت، موسومة بالسماح والانفتاح على مَنْ يخالفونهم التفكير، أو مَنْ يؤمنون ويصلّون ويحتفلون بأسرار الإيمان ذاتها على غير طريقتهم. ولقد عرف تاريخ بولونيا نفسه محاولات في الوحدة ملموسةً. فاتّحاد “برست”، عام 1596، طبع بداية تاريخ الكنيسة الشرقيّة التي نسمّيها، اليوم، الكنيسة الكاثوليكية ذات الطقس البيزنطيّ الأوكرانيّ، والتي كانت، حينذاك، وقبل كلّ شيء كنيسة الشعوب الروسية والبيلّوروسيّة.
لقد حرصت على إعطاء هذه الإيضاحات قبل أن أتكلّم على الخيبات التي بدت، حالياً، وكأنّها تفسد الحوار المسكونيّ. وأظّن أنّ مجرّد إعادة فتح الطريق، بحماسة واقتناع، هذه الطريق التي تقود المسيحيّين كافةً نحو الوحدة، يحمل في طيّاته، من الأهمية أكثر بكثير ممّا يتضمّن من كل خيبات الأمل هذه. وإنّ المسيحيّين، في نهاية الألف الثاني، باتوا مدركين، بوضوح مطّرد، أنّ الانقسامات بينهم لا تتنافى وصلاة المسيح في الهيكل، “فليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنك فيَّ يا أبت، وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني” (1).
لقد استطاع المسيحيّون، من مختلف المذاهب والطوائف أن يدركوا فعاليّة أمنية المسيح هذه، ومطابقتها للزمن الراهن، بخاصّة من خلال الواقع الراهن التبشيري الذي تكثّف كثيراً في هذه الفترات الأخيرة، أكان من قِبَل الكنيسة الكاثوليكيّة، كما أشرت آنفاً، أم من قِبَل الكنائس والطوائف البروتستانتيّة. لأنّ الشعوب التي يتوجّه إليها المبشّرون لا تهمل سؤالهم عن انقساماتهم، وعن أيّ الكنائس هي التي أسّسَها المسيح؟
وذلك عندما يبشّرونهم بالمسيح وبإنجيله. أو عندما يعظونهم داعين إلى مثُل الأخوّة والوحدة. ففي الواقع، لم يؤسّس المسيح سوى كنيسة واحدة، وهي، وحدها، يمكنها التكلّم باسمه. وهكذا فإنّ التجارب التي أُجريت في إطار تجديد العمل التبشيريّ هي، بطريقة ما، في أصل ما انتهت إليه الحركة المسكونيّة في مفهومها الحاليّ.
كان من عادة البابا يوحنّا الثالث والعشرين، الذي بوحي من الله، جعل المجمع يلتئم، أن يقول: إنّ ما يفرّق المؤمنين جميعاً عن المسيح، لهو أقلّ وزناً بكثير ممّا يجمعهم. هذا التأكيد يختصر جيّداً جوهر المشروع المسكونيّ. ولقد نَحَا المجمع الفاتيكانيّ الثاني المنحى ذاته، كما تبيّن ذلك الوثيقة التي ذكرتها حول الكنيسة، أضف إليها المرسوم حول المسكونيّة “استعادة الوحدة” وإعلان الحريّة الدينيّة “في الكرامة الإنسانية” التي تلقي ضوءاً أساسياً على وجهات النظر المسكونيّة.
إنّ ما يجمعنا لأكبرُ بكثير ممّا يفرّقنا. والوثائق المجمعيّة تُطَوّر، بطريقة محسوسة، هذا الحدث الجوهريّ ليوحنا الثالث والعشرين. إذ، في الواقع، نحن نؤمن، جميعاً، بمسيح واحد، وهذا الإيمان هو، أساساً، ميراث تعليم السبعة المجامع المسكونيّة الأولى، التي عقدت قبل السنة الألف. إذاً، هناك أسس للحوار لكي يتوسّع مجال الوحدة. كما يجب أن يكون التبادل متوازناً، مع الاهتمام بتجاوز الانقسامات التي تعود أسبابها الرئيسة إلى الاقتناع بأنّ كلاّ منّا يمتلك الحقيقة وحده.
إنّ الانقسامات هي، بالتأكيد، ضدّ ما أرسى المسيح دعائمه. ومن المستحيل التصوّر ألاّ تكون موّحدةً هذه الكنيسة التي أسّسها المسيح معتمداً على الرسل وعلى بطرس.
لكن، يمكننا أن ندرك، إذا أخذنا بعين الاعتبار التطوّرات السياسيّة والثقافيّة، أنّ المؤمنين راحوا، على مرّ العصور، يفسّرون رسالة المسيح الواحدة تفسيرات مختلفة.
غير أنّ هذه الطرق المختلفة، لفهم دين المسيح ولممارسته، يمكنها، أيضاً، في حالات معيّنة، أن تكون مكمّلة، ولا يصحّ القول إنّ عليها أن تنعزل بالضرورة. نستنتج إلى أيّ مدى يتجاوب بعض التفسيرات، في الإيمان الواحد، مع بعض الممارسات المختلفة، بدل أن تتناقض في ما بينها. وهكذا، علينا أن نحدّد أين يبدأ الانقسام الحقيقيّ حول الإيمان، والحدود التي تجاوزها التعريض بالإيمان والتشويه به. ويبدو، من هذه الناحية، أن التباين بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسية ليس بذلك التباين الشاسع. كما علينا أن نعترف، بالمقابل، في ما يختص بالكنائس والطوائف الناجمة عن الإصلاح، أنّ التباين، بيننا وبينها، أوضح بكثير، لأنّ بعض الأسس الجوهريّة، التي ثبّت المسيح دعائمها، تبدو جلياً وكأنّها أهملت.
ومن الثابت الاستنتاج، في الوقت نفسه، أنّ العقبات النفسيّة والتاريخيّة هي، أحياناً، أكثر أهميّة، في مواجهة الكنائس الأرثوذكسية، منها في العلاقات مع بعض الطوائف الناجمة عن الإصلاح. لذا، فإنّ العلاقات الشخصيّة هي أساسيّة. وهذا ما ألمسه في كلّ مرّة التقي ممّثلي هذه الكنائس، أكان في روما أم في مناسبة أسفاري التي أقوم بها إلى مختلف أجزاء العالم. إن مجرد كوننا نستطيع أن نجتمع لنصلّي معاً يشكل تقدّماً له قيمته. مع أنّ التفكير فيه، منذ بضع عشرات السنين، كان ضرباً من المحال.
من المناسب أن أذكر، في هذا المجال، بعض الزيارات التي قمت بها، والتي ارتدت أهميّة خاصّة، من وجهة النظر المسكونيّة. على سبيل المثال، زيارتي إلى بريطانيا العظمى، أو إلى البلدان السكندينافيّة. فالمعارضة، الذاتيّة، عموماً، هي أكثر أهميّة حيث نشأ الانقسام. وهكذا، فإنّنا نلمس التحفّظ، في البروتستانتية، في ألمانيا وسويسرا، مثلاً، أكثر ممّا نلمسه في أميركا الشماليّة أو في أفريقيا. ولن أنسى أبداً ما اعترف به ممّثلو الطوائف البروتستانتية، في الكاميرون، في لقاء مسكونيّ هنالك، إذ قالوا: “نعرف أنّنا منقسمون، ولكنّنا لا نعرفُ السبب”.
أمّا في أوربا فتبرز المشكلة بصورة مختلفة كليّاً. فعلى الرغم من كلّ شيء، يمكننا أن نعدّد أحداثاً كثيرة تُظهر إلى أيّ مدى لا تنفك الرغبة في طلب الوحدة تزداد عند المسيحيّين.
ويبقى أكيداً أن خيبات الأمل التي تتكلّم عليها لا يمكن إلاّ أن يستشعرها الأشخاص أو الجماعات التي تظنّ أنّ بإمكانها، بطريقة ساذجة وسطحيّة، رفع التحدّي عن وحدة المسيحيّين، إذ يرغب الكثيرون في أن يعتقدوا أن المجمع قد حلّ هذه المشكلة من أساسها، يدفعهم إلى ذلك حماسهم وتفاؤلهم. ولكنّ المجمع لم يقم بسوى فتح الطريق نحو الوحدة. لقد فتحها، قبل كل شيء، من ناحية الكنيسة الكاثوليكية. واجتياز الطريق التي رُسِمَت، على هذا النحو، يفترض التقدّم بصبر وأناة، وسط عوائق ليست مذهبيّة فحسب، بل ثقافية واجتماعية، أيضاً، تراكمت خلال العصور. لذا يجب، أولاً، التفتيش عن التحرّر من القوالب والرتابة التي لا طائل تحتها. ولكن يجب أولاً إبراز الوحدة الكائنة واقعاً.
ولقد تحقّق، على هذه الطريق، أكثر من تقدّم وبُوشر بالحوار المسكوني، بكثافة، على عدّة مستويات. فأدّى إلى نتائج ملموسة. وهناك لجان متعدّدة من اللاهوتيّين الذين يعملون معاً على ذلك. ورُبّ مُسهمٍ في هذا التطوّر أو متابع له، يُقرُّ، دون أدنى ريب، بأنّ الروح القدس يعمل على هذا الموضوع ويرعاه. مع هذا، فما من أحد يتصوّر أن طريق الوحدة قصيرة وسهلة. إذ ينبغي قبل كلّ شيء، أن نصلّي كثيراً، وأن نعود إلى ذواتنا فنتعلم أن نمجّد الله. ونضرع إليه بصوت واحد، ونعمل، أيضاً، مجتمعين، للعدالة والسلام، ولترتيبٍ أكثر مسيحيّةً لنظام العالم، ولكي يتمّم المؤمنون بالمسيح، جميعاً، الرسالة التي دُعوا إليها في العالم.
لقد وُسِمَ عصرُنا، بنوع خاصّ، بأحداث مخالفة، بصورة مباشرة، لحقيقة الإنجيل. وتحضرني، هنا ذكرى الحربين العالميّتين، ومخيّمات التعذيب والإبادة. ومن غريب المفارقات أنّ من الممكن أن تكون هذه الأهوال قد أسهمت في يقظة ضميرٍ سرّعت وجوب عقد المجامع المسكونيّة بين المسيحيّين المنقسمين. فإبادة اليهود استطاعت أن تمثّل دوراً خاصّاً، فقادت الكنيسة والمسيحيّة إلى إعادة التفكير في الصلة بين العهدين القديم والجديد. فمن الناحية الكاثوليكية عبّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن رأيه في هذا الموضوع، في الوثيقة المجمعية “عصرنا” وأسهم في إنضاج الوعي بأن أبناء إسرائيل “أخوتنا الأبكار”، وذلك بفضل الحوار، بخاصّة، ضمن إطار المسكونيّ. وإنّ منشّط هذا الحوار مع اليهود، في الكنيسة الكاثوليكية، هو المجلس الحبري الخاص بتعزيز الوحدة بين المسيحيين، الذي من مهامّه في الوقت نفسه، تشجيع الحوار بين مختلف الطوائف المسيحيّة.
فلو أخذنا بعين الاعتبار هذه الأحداث جميعها لكان من الصعب ألاّ نعترف بأن الكنيسة الكاثوليكية آلت على نفسها التطوّع، باقتناع راسخ، في العمل المسكوني، وأنّها أخذت تَعَقُدَ المشكلة في الحسبان، وأنّها لم تُقدم على شيء إلاّ بكلّ الجدّية المفروضة. علماً أنّ الوحدة الحقيقية ليست، ولا يمكن أن تكون، ثمرة جهود إنسانيّة فقط. إنّما مهندسها الوحيد هو الروح القدس، الذي يعرف، وحده، أن يتبيّن الزمن الذي تبلغ فيه العقليّة البشريّة حدّاً من التطوّر كافياً، كي يصل السير نحو الوحدة إلى نهاية غايته.
متى سيحصل هذا؟ من الصعب أن نتنبّأ به. على كلّ حال، فإنّ المسيحيّين يدركون، مع إطلالة الألف الثالث، أنّ الألف الأوّل كان عصر الكنيسة الواحدة، وأنّ الثاني عرف، في الشرق كما في الغرب، انقسامات عميقة من الملحّ جداً أن نتجاوزها اليوم.
ينبغي أن نكون، في الألف الثاني على الأقل، أقلّ انقساماً، وأكثر استعداداً لسلوك طريق الوحدة التي من أجلها صلّى المسيح ليلة آلامه. والرهان على هذه الوحدة باهظ هو. فالأمر يتعلّق، بطريقة ما، بمستقبل العالم، بمستقبل ملكوت الله في العالم. فإنّ ضعف البشر وحواجزهم لا يمكنها أن تمنع تحقيق ما رسمه الله للعالم وللبشرية. فإذا كان بمستطاعنا أن نتذكر كلّ هذا، حينذاك يمكننا أن ننظر إلى المستقبل ببعض من التفاؤل. كما يمكننا أن نقتنع بأنّ “ذاك الذي بدأ فيكم عملاً صالحاً سيسير في إتمامه إلى يوم المسيح يسوع” (2).
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 17 / 21
2) رسالة القديس بولس إلى أهل فيليبي 1 / 6
لمَ انقسام المسيحيّين؟
إنّ ما يرسمه الله لا يمكن سبر غوره غالباً. ولم يُعطَ لنا أنّ “نرى” وبالتالي أن نفهم إلاّ في الحياة الآخرة فقط. ولكن، قد يكون ممكناً، منذ اليوم، أن نضع تصميماً لجوابٍ عن سؤال طالما تطارحه كثيرون من المؤمنين عبر العصور. وهو التالي: لماذا سمح الروح القدس بهذا القدر من الانقسامات العميقة، والعداوة بين مَنْ يؤكّدون اعتقادهم بإنجيل واحد، كرسل لمسيح واحد؟
في الواقع، لا يمكننا إلاّ أن نطرح السؤال: لمَ سمَح الروح القدس بكلّ هذه الانقسامات؟ إنّ الأسباب والتحوّلات التاريخية التي قادت إليها معروفة بصورة عامّة. مع هذا يمكننا أن نتساءل إذا ما كانت المظاهر تُخفي توضيحاً يتعدّى، في موقعه، التاريخ الإنسانيّ.
عن هذا السؤال يمكننا أن نقترح جوابين اثنين: الأوّل، وهو أكثر سلبيّة، يعترف بأنّ الانقسامات هي الثمرة المرّة لخطايا المسيحيّين. والثاني، وهو أكثر إيجابيّة، أوحت به الثقة بمَن يمكنه أن يستخلص خيراً من الشر والضعف البشريّ. ألن تسمح الانقسامات، أخيراً، بأن تكتشف الكنيسة تعدّدية الغنى في الإنجيل وفي فداء المسيح؟ قد كان من الممكن في النهاية، ألاّ يتمّ هذا الاكتشاف بطريقة أخرى.
ومن منظور أكثر شموليّةً، من المؤكّد أنّ الإنسان بحاجة إلى نوع من الجدليّة لكي يطوّر مؤهّلات معرفته وعمله. ألم يأخذ الروح القدس بالحسبان هذا الواقع الإنسانيّ، بعطفه الإلهيّ؟ ألا ينبغي أن يتوّصل الجنس البشريّ إلى الوحدة بالتعدّدية، وأن يتعلّم أن يكون كنيسة واحدة في تعدّدية أشكال من التفكير و العمل والثقافة والحضارة؟ ألا يتطابق تفسير كهذا، بجزء منه على الأقلّ، مع حكمة الله وصلاحه وعنايته التي برهن عنها دائماً تجاه خلائقه؟
ولكنّ هذه الاعتبارات لا يمكن أن تبرّر الانقسامات التي تزداد تفاقماً. ينبغي، في وقت من الأوقات، أن تظهر المحبّة التي توحّد. فهناك أحداث كثيرة تدعونا إلى التفكير في أنّنا سنصل إلى وقت كهذا بالفعل. لذا ترتدي المسكونيّة أهمية كهذه للمسيحيّة. فهي الجواب عن الدعوة التي تتضمّنها رسالة بطرس الأولى التي تطلب منّا أن: “نردّ على من يطلب منّا دليلَ ما نحن عليه من الرجاء” (1).
فالاحترام المتبادل شرط أوّل لمسكونيّة مماثلة. ولقد ذكّرت، منذ برهة، بتجربتي الشخصيّة، في هذا الموضوع، المرتبطة بتاريخ مسقط رأسي. مشيراً إلى أنّ الأحداث التاريخيّة شكّلت فيها مجتمعاً موسوماً بسماح عظيم، حيث تتعايش طوائف كثيرة وشعوب متعدّدة. بينما كان الهراطقة، في أوربا الغربية، يُحاكمون ويُحرقون. وقد أعطى آخر ملك بولونيّ من سلالة “جاجلون” برهاناً عن هذا السماح، عندما أعلن: “لست ملكاً على ضمائركم”.
فضلاً عن هذا، فلانتذكّر أن السيّد المسيح قد أوكل إلى بطرس مهمّة رعويّة، عندما طلب منه أن يسهر على وحدة “القطيع”. إذاً، فإنّ مهمّة خليفة بطرس تتضمّن، كذلك، خدمة الوحدة. وهذه المسؤولية تُمارس حتى في بُعدها المسكونيّ. فلا ينبغي، إذاً، أن تخلق عوائق بل، على العكس، عليها أن تفتح طرقاً. وليس في ذلك أي تعارض والرسالة التي استودعها يسوع لبطرس قائلاً: “ثبّت أخوتك” (2). إنّ هذه الكلمات، التي تلفّظ بها المسيح قبل أن ينكره بطرس بفترة قليلة، لها مغزاها. كما لو أنّ الربّ، بالذات، أراد أن يقول له: “تذكر أنّك أنت ضعيف، أيضاً، وأنّك بحاجة دائمة إلى الهداية. وليس بإمكانك أن تثبّت الأخرين إلاّ إذا وعيت ضعفك الذاتي. وما أعطيك إيّاه، كمهمّة، هو أن تشهد للحقّ، حقّ الله الفائق الروعة، الذي أوحى به لخلاص الإنسان. غير أنّ هذا الحقّ لا يمكن أن يُبشَّر به، وأن يُدرك إلاّ بالمحبّة”. يجب، دائماً، “أن يُصنَعَ الحقّ بالمحبّة” (3).
الحواشي:
1) رسالة القديس بطرس الأولى 3 / 15
2) إنجيل لوقا 22 / 32
3) رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس 4 / 15
المجمع: أهو بداية نهاية الكنيسة؟
إسمحوا لي أن استمرّ، متحدّياً مُجلاً، في مهمّة الناطق باسم مَنْ يريدون أن يرفضوا التفاؤل والتشاؤم على حدّ سواء، آخذين جانب الواقعيّة الصِرف والقاسية. فكما تعلمون كانت هناك، وما زالت، آراء تقول – فيما لو أقمنا جردة لعقود ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، فإنّ الأبواب التي شرّعها هذا المجمع أسهمت في إبعاد الذين كانوا “داخل” الكنيسة أكثر ممّا قرّبت الذين ظلّوا “خارجها”. وبعضهم لا يتردّد، اليوم، في دقّ ناقوس الخطر معتبراً أنّ التماسك والانضباط في الإيمان، داخل الكنيسة، قد خسرا من قوّتهما، وأضحيا مهدّدَين بنزعات نابذة رافضة، أو بآراء لاهوتيّة تتحدّى تعليم السلطة الكنسيّة.
اسمح لي أن أرفض هذا النوع من التفسير. فكلّ ما قد حاولت إبرازه سابقاً، لا يمكن إلاّ أن يُبطل الرأي الذي ذكرته. ومن جهتي، إنّ الطريقة، التي أرى فيها الوضع، ترتكز، قبل كلّ شيء على الإيمان بالروح القدس الذي يقود الكنيسة. غير أنّ هذه الرؤية تدعمها مراقبة للواقع واعية. فالمجمع الفاتيكانيّ الثاني هو نفع للكنيسة عظيم. كما هو نفع للذين اشتركوا فيه جميعاً، وللعائلة البشريّة بكاملها، ولكلّ فرد منّا.
أكيد أنّه من الصعب أن تُرسمَ خُطط للمجمع، بيد أنّه من الضروريّ، دائماً، الرجوع إليه، لأنّه بات للكنيسة مُستنداً، وحتى تحدّياً. فعلينا أن نتبنّاه بحرفيّته، ونقيَةُ الميول المغرضة. فانحرافات كهذه موجودة، وهي لم تظهر بعد المجمع فحسب. فبطريقة ما، وَجدَ المجمع في العالم، وحتى في صميم الكنيسة، هذه التحاليل المتحيّزة حيث كانت تتوضّح الأولويّات التي برزت، بعد ذلك، مؤيّدة أو مخالفة لفهمه، ولقبوله، ولتطبيقه. فإذا قُدِّر لي، إذاً، وضمن هذه الشروط، أن أشترك في المجمع بكامله، فمعنى ذلك أنّ الأمر، بحقٍّ، نعمة من الله خاصّة.
وعلى أساس هذه التجربة، وضعت كتاباً عنوانه: “في أسس التجديد” (1) شرحت فيه، منذ الأسطر الأولى، أنّني كنت أرغب، من وضعه، في إيفاء ما يدين به كلّ أسقف للروح القدس لدن اشتراكه في المجمع. بلى، لقد حصل في حَدَث هذا المجمع الفاتيكاني الثاني، نوع من العنصرة: إذ رسم المجمع لأساقفة العالم قاطبة، وبالتالي للكنيسة، الطريق التي عليهم سلوكها في نهاية الألف الثاني. ولقد وصف بولس السادس هذه الطرق في رسالته “كنيسته” (2). بدأت بالاشتراك، في هذا المجمع، مذ كنت لا أزال أسقفاً شاباً. وإذكر أن مقعدي كان بالقرب من مدخل كاتدرائية مار بطرس. ومنذ الدورة الثالثة اقتربت قليلاً من المذبح، عندما عيّنت رئيساً لأساقفة كراكوفيا…
كان المجمع مناسبة لسماع الآخرين، ولكنّه كان مناسبة لإظهار الخلَق والإبداع. وكان الأساقفة الأكبر سنّاً، والأوفر خبرةً، يمثّلون، بطبيعة الحال، الدور الأكبر في إعداد الفكر المجمعيّ. وإذ لم تكن لي أيّة خبرة، كنت أتابع وأتعلّم. وشيئاً فشيئاً، توصّلت إلى الاشتراك أكثر في الأفكار المجمعيّة وحتى إلى الإسهام في وضعها. وهكذا، منذ الدورة الثالثة، وجدت نفسي ضمن الفريق الذي يهيّئ ما كان يُدعى، آنذاك، المخطّط الثالث عشر والذي صار، فيما بعد، الوثيقة الرعوية “فرح ورجاء”. هكذا أعطي لي أن أشارك في عمل مشوّق في صميم هذه اللجنة. فهي كانت تضمّ ممثّلين عن لجان لاهوتيّة ومختصّين في رسالة العلمانيّين. وستبقى لي دورة “أريتشيا…” قرب روما، المنعقدة في كانون الثاني 1965، ذكرى لا تُنسى. وما يزال عليّ، للكاردينال غبريال ماري غارون (3)، دَيْنٌ خاصٌ من العرفان للمساعدة الحاسمة التي عضدني بها عند إعداد الوثيقة الجديدة. كما أودّ أن أقول الشيء نفسه، لسائر الأساقفة، وكذلك للاهوتيّين الذين كان لي حظّ الجلوس معهم إلى طاولة العمل ذاتها. أمّا الأبوان إيف كونغار (4) وهنري لوباك (5) فلهما عليّ، بنوع خاصّ، الكثير الكثير. ولا أزال أذكر، اليوم، بأيّة عبارات شجعّني، هذا الأخير، على الاستمرار في الطريق التي حاولت أن أختطّها، خلال الحوار التمهيديّ ولقد تُوبِع العمل، بعد ذاك، في الفاتيكان. ولم أنقطع قطّ، منذ تلك الفترة، عن تقوية علاقات الودّ الوثيق التي خصّني بها الأب لوباك. كان المجمع فرصةً كبرى للكنيسة. ولقد قيل عنه، آنذاك، إنّه “مُنتدى الروح القدس”. ففي المجمع، خاطب الروح القدس الكنيسة كلّها، في كونيّتها، بفضل إسهام الأساقفة الذين قاموا من جميع أصقاع العالم. وهذه الكونيّة دعمها وقوّاها اشتراك ممثّلين كثيرين لكنائس وطوائف غير كاثوليكية. إنّ تدخّل الروح القدس يقود دائماً إلى اكتشاف أكثر عمقاً للسرّ الأبديّ. كما يدلّ، في الوقت نفسه، إلى الطريق التي يجب أن يسلكها الذين أوكلت إليهم مهمّة تفعيل هذا السرّ في العالم المعاصر. وأن يجتمع كلّ هؤلاء الناس، بواسطة الروح القدس، وأن يشكلوا، في أثناء المجمع، كتلةً واحدة يصغي أعضاؤها بعضهم لبعض، ويصلّون ويفكّرون ويبدعون معاً، لتلك أحداث ترتدي أهميّة خاصّة للكرازة الإنجيلية. “فالكرازة الجديدة” مصدرها المجمع الفاتيكاني الثاني، وهذا المجمع يطبع، دون جدل، بداية عصر جديد في تاريخ الإنسانيّة، وفي تاريخ الكنيسة أيضاً.
الحواشي:
1) ترجمة فرنسية، منشورات سانتوريون Aux fondements du renouveau éd. Du Centurion, Paris, 1981.
2) كنيسته Ecclesiam Suam، مرجع سابق، رقم 60 وما يليه.
3) رئيس أساقفة سابق لمدينة تولوز، قام بدور بارز في المجمع المسكوني خاصة في صياغة “فرح ورجاء”، ثم شغل منصب أمين مجمع التربية الكاثوليكية. (تعليق للناشر).
4) راهب دومينكاني، فرنسي، ولد في سيدان Sedan سنة 1904. عيّن خبيراً للمجمع وقام بدور لاهوتي بارز. (تعليق للناشر).
5) يسوعي فرنسي ولد في كمبري Cambrai سنة 1896 وتوفي سنة 1991. سنة 1941 أطلق مع الأب دانيللو Sources chrétiennes “ينابيع المسيحية” التي تنشر نصوص آباء الكنيسة. اختاره لاحقاً البابا يوحنا الثالث والعشرون لاعداد المجمع المسكوني وشارك فيه بصفة خبير. كان تأثيره على أعمال المجمع مميزاً. سنة 1983 عيّنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني كاردينالاً. (تعليق للناشر).
وماذا سيبقى من هذا المجمع؟
إذاً، ما من شكّ، عند قداستكم، أنّه، في ما يتعلّق بهذه النقطة من تاريخ الكنيسة والعالم، كان من المفروض انعقاد مجمع مسكونيّ جديد. إنّما بأسلوب وبمضامين مختلفة عمّا في المجامع العشرين التي سبقت. منذ مجمع نيقيّة سنة 325 حتى المجمع الفاتيكاني الأول سنة 1869.
لم نكن بحاجة للمجمع الفاتيكاني الثاني، لكي نواجه هرطقةً معيّنةً، مثلما كان ضرورياً، مرّات عدّة، خلال الألف الأوّل. ولكن، بالأحرى لكي نشبك سياقاً ذا قطبين: الأول فكّ المسيحيّة من عقال الانقسامات المتراكمة طيلة الألف الذي كان يشارف على الانتهاء. والثاني إطلاق الرسالة الإنجيلية للكنيسة ضمن أوسع الإمكانات، على عتبة الألف الثالث. لهذا يختلف المجمع الفاتيكاني الثاني، عن المجامع السابقة، كما ألمحتَ، بحقٍّ، إليه. فهو لم يرد أن يتبنّى أسلوباً دفاعياً. وما من مرّة ظهرت صيغة إدانة في وثائق المجمع: “ليكن محروماً” (1). إنه أسلوب مسكونيّ، وانفتاح، لا مأخذ عليه، على الحوار الذي يجب أن يكون “حوار خلاص” بحسب بولس السادس. وحوار كهذا لا ينبغي أن ينحصر في سائر الطوائف المسيحية، إنّما ينفتح، أيضاً، على بقيّة الأديان غير المسيحيّة، على عالم الثقافة والحضارة، كما على عالم غير المؤمنين. فالحقيقة لا تقبل، في الواقع، أن توقفها حدود ما. فهي موّجهة إلى الجماعات والأفراد. فإذا ما أُجريت هذه الحقيقة في المحبة (2) وجدت موافقةً عالمية. هاك ما هي، حقاً، فرادة المجمع الآخير، والروحية التي انعقد بها.
إنّ حقيقة المجمع الجوهريّة ستبقى هذه الفرادة، وهذه الروحيّة وليست النزاعات بين “تقدميّين” و”محافظين” ولا الجدالات السياسيّة والدينونة التي مكّنت مَنْ حاولوا أو مَنْ سوّلت لهم أنفسهم، احتجاز الحدث المجمعيّ وحبسه. ولهذا السبب سيبقى المجمع الفاتيكاني الثاني مُستَنَداً للكنائس جمعاء، وبرنامج عمل لكلٍّ منّا.
فخلال العقود التي مرّت، منذ اختتام المجمع الفاتيكاني الثاني، اعتُمِدَ هذان، المستند وبرنامج العمل، في مجالات متعدّدة. وتحضرني، الآن، السينودسات اللاحقة للمجمع. كذلك السينودسات العامّة لأساقفة (3) العالم كلّه التي دعا إليها البابا. كما لسينودسات الأبرشيّات، أو المقاطعات الكنسيّة. وأنا أعرف، من خلال خبرتي، إلى أيّ مدى يلبّي هذا المسعى السينودي تطلّعات الطوائف المختلفة، وأيّة ثمار يمكن أن تُجنى منه. فالسينودسات المقامة، بخاصّة في الأبرشيّات (4) وضَعتْ، بدهيّاً، حدّاً لتحقيق ذاتيّة الكنيسة المقصورة على الأكليروس. ولقد باتت، هذه السينودسات، وسيلة ليؤمّن كلّ واحد حصّته في حياة الكنيسة. وهذا الحدث يتشارك فيه، بصورة بالغة الوضوح، العلمانيّون، كون الكنيسة موكولةً إلى مسؤولية الفرد والجماعة. وفي هذا، حقاً، مصدر تجدّد. كما نرى فيه، كذلك، تكيّفاً للوجه الذي ستبدو فيه الكنيسة في الأجيال المقبلة، خلال الألف الثالث.
في مناسبة الذكرى العشرين لاختتام المجمع عقد سينودس فوق العادة للأساقفة سنة 1985، أُشيرُ إليه لأنّه كان في أصل “تعليم الكنيسة الكاثوليكية” (5). فبعض اللاهوتيّين، وأحياناً جماعات بكاملها، كانوا يدافعون عن قضيّة مفادها أنّ التعليم الدينيّ دون جدوى، لأنّه وسيلة قديمة لنقل الإيمان عفا عليها الزمن ولم تعد تماشي العصر. ولقد أسمعونا، أيضاً، أنّ إعداد تعليم للكنيسة الشاملة لا يمكن تحقيقه. وكانوا قد ادّعوا أن إعلان القانون الجديد للحق الكنسي، الذي بدأ العمل به تلبية لرغبة من يوحنا الثالث و العشرين، غير مُجدٍ، ولا نفع منه رعوياً. مع أن الأساقفة لم يأخذوا، في السينودس، بهذه الآراء المتشائمة إنّما بالعكس كان القانون، بحسب ما أعلنوه، مبادرة ملائمة لأنّها تلبيّ احتياجات الكنيسة.
كان تعليم الكنيسة الكاثوليكية، كذلك، ضرورياً ليفسح في المجال أمام غنى الكنيسة، بعد المجمع، فيُعرض بطريقة جديدة، ويُقدّم من منظور جديد. وقد كان من المستحيل التوصّل إلى ذلك من دون تعليم الكنيسة الشاملة. فعلى كلّ جماعة، بالتالي، أن تخلق تعليمها الخاصّ بحسب احتياجاتها المحلّية مرتكزة على هذا النصّ الأساسيّ كإسناد. ولقد أنهي العمل عليه في وقت قصير نسبيّاً، اشتركت فيه الكنيسة جمعاء. والفضل في ذلك يعود، بنوع خاصّ، إلى الجهود التي بذلها، دون كلل، الكاردينال جوزف راتزنجر، مدير مجمع العقيدة والإيمان. وأضحى التعليم المطبوع سنة 1992 “كتاباً من أكثر الكتب رواجاً” في العالم أجمع. وهذا النجاح برهاان عن أهميّة الطلب على هذا النوع من الكتب التي تبدو، للوهلة الأولى، غير شعبيّة.
لم يضعف الاهتمام بالتعليم المسيحي قطّ. فنحن في مواجهة “توزيعة جديدة”. والعالم الذي أتعبته الأنظمة العقائدية ينفتح على الحقيقة. وقد حان الوقت لكي تبدأ عظمة هذه الحقيقة في التألق فتضيء، من جديد، ظلمات الوجود الإنسانيّ. وحتى لو كان من المناسب الاحتراس باعتبار ما قد تمَّ وما هو قائم العمل عليه، فمن الواجب الاعتراف بأن المجمع لن يبقى حبراً على ورق.
إن الروح الذي أوحى بالمجمع الفاتيكاني الثاني لم يتكلّم عبثاً. فخبرة هذه السنوات الأخيرة تسمح لنا أن نستشفّ رؤىً جديدة في الانفتاح على حقيقة الله، وهي حقيقة على الكنيسة أن تبشّر بها “بوقتها أو بغير وقتها” (6) فيستطيع كلّ خادم للإنجيل، أن يشكر الروح القدس الذي وهبه هذا المجمع. كما عليه ألاّ ينسى أبداً ما يَدينُ له به. وستمضي سنون وحتى أجيال قبل أن يُستوفَى هذا الدّينْ.
الحواشي:
1) “ليكن محروماً” عبارة وردت لأول مرة في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس تعبيراً عن طرد الخطأة الذين يرتكبون معاصي كبيرة، خارج الجماعة المسيحية. وحتى القرون الوسطى كان الحرم مرادفاً للطرد خارج الجماعة. وقد استعمل لاحقاً للإشارة إلى ناشري المعتقدات المناقضة للإيمان. (تعليق للناشر).
2) رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس 4 / 15
3) جمعية تضم ممثلي الأساقفة في العالم أجمع، ولها مهمة استشارية لدى البابا. مجامع الأساقفة تعبير عن الحلقة الأسقفية في الكنيسة. (تعليق الناشر).
4) جمعية مندوبي الكهنة والرهبان والعلمانيين في الأبرشية يرئسها الأسقف. (تعليق للناشر).
5) نشر في فرنسا، في منشورات Mame/ Plon
6) رسالة القديس بولس الثانية إلى طيموتاوس 4 / 2
إنكفاء أم تجديد؟
أسمح لنفسي بأن أسجّل أن كلامكم يُشكل تكذيباً قاطعاً في وجه مَنْ يتهمّكم، لِقصَرٍ في البصر أو انحياز، بتغذية مخططات “إصلاح” أو “ردّ فعل”، ضد ما أدخله المجمع المسكوني من تجديد.
فكما تعلمون، قلّةٌ هم الذين يشكّون في ملاءمة التجديد الحاصل ضمن الكنيسة. وما يشكّ فيه البعض ليس المجمع الفاتيكاني الثاني بحدّ ذاته، بقدر ما هي التأويلات التي اعتُبِرت وكأنها ضدّ روحية آباء المجمع.
اسمح لي أن أعود إلى أحد أسئلتك. فهو كغيره، يرمي إلى تحدّ مقصود: هل، حقاً، أنّ المجمع فتح أبوابه على مصراعيها ليدخل إلى الكنيسة أناس اليوم، أم أنه سبّب، بالأحرى، هربَ أشخاصٍ ومجماعاتٍ ومجتمعات؟
إنّ ما قلته ينطبق، إلى حدّ ما، على الواقع بخاصّة إذا نظرنا إلى الكنيسة في أوربا الغربية، وحتى لو أضحت، اليوم، علامات التجديد الدينيّ محسوسة في هذه البلدان أكثر فأكثر. بيد أنّ موقف الكنيسة يجب أن يُقَوَّم في شموليتّه. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار، كلّ ما يجري، اليوم، في أوربا الوسطى والشرقية، وما أبعد من ذلك، في أميركا الشماليّة والجنوبيّة، في بلاد الرسالة بخاصّة في القارّة الأفريقية، وفي الامداء الواسعة من المحيطين الهندي والهادي، وحتى، إلى حدّ ما، في مختلف مناطق آسيا، بما فيها الصين. ففي عدد من هذه البلدان، وضع الشهداء حجر الأساس لبناء الكنيسة.
وعلى هذه الأسس نشأت كنائس ذات ديناميّة متزايدة، وإن كانت، بالفعل، أقليّة، غير أنّها تضجّ بالحياة. ولقد شهدنا، منذ المجمع، تجديداً هو، قبل كل شيء، نوعيّ. فإن الحركات المستوحاة من الدين تنمو وتتطوّر. وإن استمر النقص في عدد الكهنة أو حتى لو كانت الدعوات الكهنوتية الجديدة قليلةً جداً. هذه الحركات تولد من جديد بمضمون يختلف قليلاً عنه في المؤسّسات الكاثوليكية القديمة التي كانت اهتماماتها، بالأحرى، اجتماعية. فبوحي من تعليم الكنيسة الاجتماعي، توجهّت هذه المجتمعات نحو تغيير المجتمع، نحو العدالة الاجتماعية. وبعضها دخل في حوار مستمرّ مع الماركسيّة، إلى حدّ أنه خسر، في جزء منه، هويّته الكاثوليكية. وبالمقابل، فإنّ الحركات الجديدة اتّجهت نحو تجديد الشخصيّة الإنسانيّة. فالإنسان هو العامل الأساس في كلّ المتغيّرات الاجتماعية والتاريخية. ولكن، عليه أن يجدّد ذاته في المسيح وفي الروح القدس لكي يعمل في هذا الاتّجاه. فإعادة التوجّه هذه واعدةٌ جدّاً في مستقبل الكنيسة.
ففي الماضي، كثيراً ما استند التجديد في الكنيسة على الرهبانيّات. كان ذاك في زمن انحطاط الأمبراطورية الرومانيّة مع البنديكتان. أمّا في العصور الوسطى فمع الرهبان المتسوّلين (الفرنسيسكان والدومينيكان). وبعد الإصلاح الدينيّ مع اليسوعيّين والمبادرات المماثلة. وفي القرن الثامن عشر مع الافتدائيين (rédemptoristes) والمتألّمين (passionistes). وأخيراً في القرن التاسع عشر مع الجمعيّات التبشيريّة النشيطة من أمثال الكلمويين (verbistes) والمخلّصين (salvatoriens). وطبعاً، الساليزيان، وغيرهم.
وقد ظهر، خلال عصرنا الحاضر – عدا الرهبانيّات والجمعيّات التي تأسّست حديثاً، والانتشار الفائق لجمعيات كهنوتية – حركاتٌ من نوع مستجدّ، في فترة المجمع المسكوني وفي ما بعده. هذه الحركات جمعت، طبعاً، أشخاصاً مكرّسين، إنّما، وعلى الأخصّ، علمانيّين متزوّجين، ومندمجين في الحياة المهنيّة. فالمثال المُحتذى في تجدّد العالم بالمسيح، ينجم مباشرةً عن الالتزام الأساسيّ بالعماد.
من الظلم أن نتكلّم، اليوم، على الانكفاء فقط، إذ نرى ظهور براعم جديدة، وبخاصّة تغيّراً جذرياً في شكل القاعدة. أفكّر هنا، بأوربا وأمريكا، وعلى الأخصّ، بأميركا الشماليّة وبأميركا الجنوبية، إنّما بطريقة مختلفة. فالأسانيد التقليدية كانت، نوعاً ما، كميّة. وقد أفسحت في المجال، اليوم، لمعالم ثابتة جديدة أوفر نوعيّة. وفي هذا يمكننا أن نبصر ثمرةً من ثمرات المجمع.
عُقد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، بالضبط، في الوقت الذي بدأ فيه النموذج القديم يُخلي الساحة للجديد. إذاً، يمكننا أن نؤكّد أن المجمع حدث في وقت ملائم، وقام بمهمّة تلبّي حاجة لا تعاني منها الكنيسة فحسب بل العالم بأكمله.
فإذا صادفت الكنيسة، بعد المجمع، صعوبات في مجال العقيدة، أو النظام، فإنّ هذه الصعوبات نادراً ما تكون من الخطورة بحيث تدفعنا فيه إلى الخوف من انقسامات جديدة. فكنيسة المجمع الفاتيكانيّ الثاني، كنيسة الحلقة الأسقفية العالمية الوثقى، تخدم، فعلاً، عالمنا على مستويات كثيرة التعدّد. فهي كونها جسداً للمسيح حقيقياً، تتمّم رسالتها في الفداء، وتدافع عن العدالة والسلام. وتبقى الوحدة العالميّة للكنيسة الكاثوليكيّة قوّة ثابتةً في عالم منقسم. وقد فهم أعداؤها هذا في حينه. وما زالت الهيئات السياسيّة المختلفة، والجمعيّات العالميّة، اليوم، تأخذ ذلك في الحسبان. صحيح، إنّ الكنيسة تمثّل قوّة مزعجة، في نظر البعض، ففي مجالات متعدّدة، تكرّر الكنيسة الرفض الذي جرى على ألسنة الرسل (1): “لا نستطيع السكوت” (2) ولكنّها تبقى أمينة تجاه نفسها. إنّها تتألق “بألق الحقيقة” (3) الذي يغمر به الروح القدس وجه عروسه.
الحواشي:
1) أعمال الرسل 4 / 20
2) “لا نستطيع السكوت” هذه العبارة تعني الرفض القاطع.
3) عنوان لرسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني صدرت سنة 1993 في منشورات Mame/ plon, Paris
هل الكنيسة تجاوزها الزمن
بفعل تطوّر العادات والأخلاق؟
إنّ ما ألمحتم إليه، عن تشدّد بطرس ويوحنّا، في أعمال الرسل، عندما أعْلنا: “أمّا نحن فلا نستطيع السكوت عن ذكر ما رأينا وما سمعنا” (1) يذكّر أن أقوال البابا بقيت بعيدة من الإجماع ولم تُستَقبل كما يجب على الرغم من الرغبة، التي أبدتها الكنيسة، في الحوار. فإذا اعتمدنا مرآة شبكة الإعلام العالميّة، التي قد تكون مُشوَّهةً، ندرك أن المواقف التي تتّخذونها هي غالباً ما تكون، بوضوح (وحتى بعنف) موضوعَ نزاع. بينما لا تعمل الكنيسة إلاّ على تثبيت تعليمها، وبخاصّة في مجال الأخلاق.
إنّك تطرق، هنا، بابَ مشكلة قبول تعليم الكنيسة في عالم اليوم، بخاصّة في المجال الأدبيّ والأخلاقيّ. ولقد كتب أحدهم أنّه في ما يتعلّق بعلم الأخلاق، وبخاصّة الأخلاقيّة الجنسيّة، تعارض الكنيسة والبابا الميول الغالبة في العالم المعاصر، أي تيسير العادات وتحريرها. وبما أنّ العالم يجري في هذا الاتّجاه، نشعر أنّ الكنيسة تتراجع، أو بالأحرى، نشعر أن العالم يبتعد. وهكذا فإنّ عالم اليوم، يبتعد عن البابا وعن الكنيسة.
إنّه رأي واسع الانتشار. وأنا مقتنع بأنّه جائر بكلّيته. فالرسالة الحبرية العامة “تألق الحقيقة” تظهره بدقة حتى وإن كان المضمون لا يعني، مباشرةً، السلوكية الجنسيّة، إنّما التهديد الذي تجعله النسبويّة الأخلاقية يضغط على الحضارة الغربية. ولقد أخذ بولس السادس هذا الأمر في الحسبان، ووعى أنّ من واجبه الكفاح ضدّ هذه النسبوية لخير الإنسان الأساسيّ. ففي رسالته “الحياة البشرية” استجاب لنداء مار بولس الذي كتب لتلميذه طيموتاوس: “أعلن كلام الله، وألحّ فيه بوقته وبغير وقته… فسيأتي يوم لا يحتمل فيه الناس التعليم السليم” (1).
ألم يسبق الرسول إلى إعطاء الوصف الكامل للحالة الراهنة؟
لقد عوّدت وسائل الإعلام مختلف الفئات الاجتماعيّة سماعَ “ما يدغدغ الآذان” (2) فقط. وكان يمكن أن يزداد الوضع فساداً لو أنّ اللاهوتيّين، وبخاصةٍ الكتّاب الأخلاقيّين، بدل أن يكونوا شهوداً للتعليم الصحيح، يتواطأون مع وسائل الإعلام التي توسّع، حينذاك، نشر معتقداتها الجديدة. فإذا كان المعتقد الحقيقيّ ضعيف الشعبيّة فمن غير المسموح به أن نفتّش عن الشعبيّة في تسويات رخيصة. على الكنيسة أن تواجه هذا من دون أن تتهرّب من الردّ على هذا السؤال: “ماذا أعمل من صالح لأنال الحياة الأبدية؟” (3) لقد حذّرنا المسيح من ذلك: طريق الخلاص ضيقّة وحرجة، وهي ليست طريق الهلاك الرحبة الواسعة (4).
لا يحقّ لنا أن نهمل “التعليم الثابت” ولا أن نبدّل فيه. فدور السلطة التعليمية الكنيسة (5) هو نقله دونما زيادة أو نقصان. وهذا أيضاً، واجب اللاهوتييّن، وخصوصاً الأخلاقيّين الذين يتحمّلون مسؤوليّة خاصّة بصفتهم معاوني الكنيسة المعلّمة.
وإنّه لأمر معلوم أن تحتفظ كلمات يسوع بكامل قيمتها. هذه الكلمات التي وجّهها إلى المشترعين الذين يلقون على كواهل الناس أحمالاً ثقيلة بينما هم يرفضون أن يحملوها (6)، ولكن يجب أن نعرف، مع ذلك، ما هو الحمل الأثقل: إنه الحقيقة حتى وإن بدت مستلزماتها ثقيلة الحمل، أو مظهر الحقيقة الذي يُوهم بالاستقامة الخلقيّة. فالرسالة “تألق الحقيقة” تقودنا إلى مواجهة هذا الصراع الأساسيّ، الذي بدأت الضمائر تتبيّنه اليوم أفضل منها في سنة 1968، عندما نشر بولس السادس رسالة “الحياة البشرية”. أصحيح أن الكنيسة تبقى جامدة بينما العالم يبتعد عنها؟ أيمكننا التأكيد أنّ سباق العالم نحو حريّة السلوك المتزايدة باطّراد يسيرُ في خطّ لا عودة منه؟ ألا تخفي هذه المعتقدات، حقاً، المفهوم النسبيّ لوجود بالغ الشؤم للإنسان؟ لا نخدعنَّ أنفسنا بهذا، فما هو في الميزان، في ما يتعلّق بالإجهاض ومنع الحمل هو، في النهاية، الحقيقة حول الإنسان. إذاً، لن تشكّل هذه الحقيقة أي تقدّم، ومن المستحيل أن نرى في تحرير العادات طابع “التطوّر الأدبيّ”. ففي مواجهة ميول كهذه، على رعاة الكنيسة جميعاً، وبخاصّة البابا، أن يكونوا يقظين كلّ اليقظة، كي لا يتجاهلوا ما أوعز به مار بولس في رسالته الثانية إلى طيموتاوس: “أمّا أنت فكن متقشفاً في كلّ أمر وتحمل المشقات وأعمل عمل المبشّر، وقُم بخدمتك أحسنَ قيام” (7).
ما الإيمان في الكنيسة؟ نؤكّد في قانون الإيمان وفي قانون الرسل، كما في إعلان إيمان مجمع نيقيه – القسطنطينية “أؤمن بالكنيسة”. فبطريقة ما، نضع الكنيسة على المستوى ذاته الذي نضع فيه أسرار الثالوث الأقدس والتجسّد والفداء. بيد أنّ الإيمان بالكنيسة، كما بينّه الأب دي لوباك، ليس له المعنى نفسه الذي للإيمان في الأسرار الكبرى لله بالذات. ففي الواقع، لا نؤمن بالكنيسة فحسب، بل إننا نشكّل الكنيسة. وبحسب المجمع المسكوني نستطيع القول إننا نؤمن بالكنيسة بصفتها سرّاً. ولكن بصفتنا شعب الله نعي أننا الكنيسة. نحن الكنيسة بصفتنا أعضاء في بنيتها التسلسليّة، ولكن على الأخصّ، لأنّنا نشارك في رسالة المسيح الثلاثية: البنويّة والكهنوتيّة والملكيّة؟
لقد تجدّد إيماننا بالكنيسة، وتعمّق بصورة معبّرة بالمجمع. وظلّ التركيز، زمناً طويلاً، على بُعدِ الكنيسة المؤسّسي والتسلسليّ. وأُغفلَ قليلاً أنّها لا تستمرّ بسوى النعمة. وكونها شعب الله هي، أساساً، هبة لدنيّة، ومنحة إلهيّة (8). ويمكننا القول إنّ الإيمان بالكنيسة أُعطي لنا، من جديد، كرسالة، من خلال تعليم المجمع، وإنّ التجديد، ما بعد المجمع، ينسحب بخاصّة، على إعادة اكتشاف هذا الوجه الإيمانيّ المتميّز الخصوبة. فالإيمان بالكنيسة، كما يعلّمه المجمع الفاتيكانيّ الثاني، يحثّنا على معاودة النظر في مخطّطاتنا المفرطة في التشدّد: إعادة النظر في الانقسامات القديمة، كالتي كانت تفرّق بين الكنيسة التي تعلّم والكنيسة التي تصغي، في ضوء واقع أنّ كل متعّمد يشارك، من موقعه الخاصّ، في رسالة المسيح النبويّة والكهنوتية والملكيّة. إذاً، لا يتعلّق الأمر بتغيير المفاهيم فحسب، إنّما بتجديد الممارسة كذلك، كما حاولت أن أبيّنه في دراستي حول مدى فعاليّة المجمع وعنوانها: “في مصادر التجديد” (9)؟
اسمح لي، مع هذا، بأن أعود، هنيهةً، إلى الوضع الدينيّ في أوربا، اليوم. فقد كان البعض يتوقّع أن يستتبع سقوط الشيوعيّة عودةٌ بدهيّةٌ إلى الدين في طبقات المجتمع كلّها.
هل حصل ذلك؟ نعم، إنّما ليس بالشكل الذي كانوا يتصوّرونه، على الرغم من أنّ الظاهرة حصلت، بالفعل، وبصورة قاطعة، في روسيا. كيف؟ أساساً بشكل عودة إلى تقاليد الكنيسة الأرثوذكسية وممارستها. بيد أن الحريّة الدينية التي استُعيدت هناك، منذ قرون، بالبولونيّين والألمان والليتوانيّين، والأوكرانيّين المقيمين في روسيا، بالإضافة إلى جماعات بروتستانتيّة، ولبِدَع عديدة غربية تمتلك وسائل ماليّة طائلة تحاول الآن أن توطّد لنفسها هناك.
ففي بلدان آخرى يرتبط سياق العودة إلى الإيمان، أو الاستمرار في الكنيسة التي يُنتَمى إليها، بالوضع الدينيّ تحت النير الشيوعيّ، وبالتقاليد المحليّة السالفة. ويمكننا التحقّق من ذلك بسهولة، ونحن نرصد، مثلاً مجتمعات كمجتمعات بوهيميا وهنغاريا، وكذلك رومانيا أو بلغاريا ذات الأكثرية الأرثوذكسية. أمّا بلدان يوغوسلافيا فتشكّل حالات خاصّة.
مع هذا، أين تكمن القوّة الحقيقية للكنيسة؟
إنّ قوة الكنيسة تكمن بوضوح، اليوم كما بالأمس، في شهادة القدّيسين، هؤلاء الرجال وهؤلاء النسوة الذين لم يتبعوا سوى طريق المسيح نفسه، هؤلاء الذين عاشوا الحياة التي يهبها المسيح في الروح القدس. واليوم لا ينقص الكنيسة قدّيسون أكان في الشرق أم في الغرب.
إنّ قدّيسي عصرنا هم، في الغالب، شهداء. والأنظمة التوتاليتاريّة التي سادت أوربا، في أواسط القرن العشرين، قدّمت الكثيرين منهم للكنيسة. وعالم معسكرات الاعتقال المعروف بمخيّمات الموت، كان المكان والوسيلة لمحرقة اليهود الشنيعة. ولكنّه قدّم، كذلك، قدّيسين حقيقيّين. ويكفي أن نذكر أسمي الأب مكسيميليان كولب (10)، وإديت ستين (11) – دون أن ننسى شهداء الحرب الأهلية في اسبانيا (12). أمّا في أوربا الشرقيّة فهؤلاء الشهداء طائفة كبيرة، بخاصّة بين الأرثوذكس، الروس والأوركرانيّين والبيلروسيين، من غير أن ننسى القادمين من وراء الأورال. كذلك لنا شهداء كاثوليك في روسيا وأوكرانيا وغاليقيا، ورومانيا، وبلغاريا وألبانيا، وفي بلدان يوغوسلافيا السابقة. فهؤلاء يمثّلون الحشد الوافر الذي “يتبع الحمل” (13) كما يقول القدّيس يوحنّا في رؤياه. إنّهم يتمّمون باستشهادهم شهادة المسيح الفادية (14)، وبهذا، بالذات، يجعلون من الممكن قيام عالم جديد، وأوربا جديدة، وحضارة جديدة في آن و احد.
الحواشي:
1) أعمال الرسل 4 / 20
1) رسالة القديس بولس الثانية إلى طيموتاوس 4 / 2 – 3
2) راجع طيموتاوس، مرجع سابق 4 / 3
3) إنجيل متى 19 / 16
4) راجع إنجيل متى 7 / 13 – 4: قال يسوع “ادخلوا من الباب الضيّق فإن البابَ رحب والطريق المؤدي إلى الهلاك واسع والذين يسلكونه كثيرون. ما أضيق الباب وأحرج الطريق المؤدي إلى الحياة، والذين يهتدون إليه قليلون. (تعليق للناشر).
5) الرسالة التعليمية التي أوكلها السيد المسيح إلى رسله، وهي الرسالة الموكولة إلى البابا والأساقفة.
6) راجع إنجيل لوقا 11 / 46. “قال يسوع: الويل لكم أنتم أيضاً يا علماء الشريعة، فإنكم تحملّون الناس احمالاً ثقيلة وأنتم لا تمسّون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم” (استشهاد للناشر).
7) 2 طيموتاوس 4 / 5
8) نالت الكنيسة موهبة الروح القدس الذي تجلّى في حياة الجماعة المسيحية بأشكال متنوعة. (تعليق للناشر).
9) ترجمة فرنسية، Aux sources du renouveau, Centurion, Paris, 1983
10) من رهبان مار فرنسيس، بولوني، سجن في اوشويتز عام 1941. وقدم نفسه للإعدام مكان رب أسرة كان محكوماً عليه بالموت جوعاً، عقاباً له على محاولة منه للفرار. (تعليق للناشر).
11) أديت ستين Edith Stein نشأت على الإيمان اليهودي، وأصبحت من أتباع هوسرل وماكس شيلر، ثم اعتنقت الإلحاد. وبعد مراحل في تطورها الروحي اعتنقت الإيمان الكاثوليكي واقتبلت العماد المقدس. دخلت دير الراهبات الكرميليات في كولون عام 1934. أوقفت عام 1942 على أنها يهودية، ونفيت إلى معسكر اوشويتز حيث قتلت.
12) في أثناء هذه الحرب، أعدم الجمهوريون 13 أسقفاً و 4000 كاهن و2500 راهب و 280 راهبة و240 طالباً اكليريكياً. ولا أحد يعلم عدد العلمانيين الذين قتلوا لأسباب دينية. من جهة أخرى أبعد القوميون 278 كاهناً و 125 راهباً و3 أساقفة.
13) رؤيا القديس يوحنا 14 / 4
14) رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي 1 / 24. “يسرني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمُّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة”. (استشهاد للناشر).
هل يمكن أن يهلك الإنسان إلى الأبد؟
ضاعفت الكنيسة، في الآونة الأخيرة، من الكلام. حتى إنّ الأمر ليُغرينا على القول إنّ الكنيسة أصدرت من الوثائق، خلال العشرين سنةً الأخيرة، وعلى مختلف المستويات، ما يزيد على ما صدر في العشرين قرناً السابقة.
بيد أنَّ البعض يشعر أنّ الكنيسة، وهي السخيّة بالكلام، تبقى صامتةً حول موضوع بالغ الأهميّة، ألا وهو الحياة الأبدية. فيا صاحب القداسة، هل الجنّة والمطهر والجحيم لا تزال موجودةً؟ ولماذا يُعلّق الكثيرون من رجال الكنيسة على الأحداث الراهنة، ولا يقولون إلاّ النذر القليل عن الخلود، وعن الاتّحاد النهائيّ بالله الذي هو، بحسب الإيمان، دعوة الإنسان ومصيره وهدفه الأسمى؟
إفتحْ الوثيقة المجمعيّة حول الكنيسة “دستور عقائدي في الكنيسة” الفصل السابع، الذي يبحث في طابع الأخرويّات، في الكنيسة، وعنوانه: “في الحجّ على الأرض” وارتباطها مع الكنيسة السماويّة. إنّ سؤالك، في الأساس، لا يطول صلة الكنيسة السائرة المتجوّلة مع الكنيسة السماويّة، إنّما الصلة بين ما يسميّه اللاهوت الأخرويات والكنيسة الأرضيّة. وعندما تُلمح إلى أن الصلّة قد اختفت، بطريقة ما، من الممارسة الرعويّة، فلست على خطأ كليّاً. وسيتذكّر البعض، أنّه من مدة قصيرة، كانت مواضيع “المصاير النهائيّة” وحقائق الموت الأخيرة، والدينونة، والجحيم والنعيم والمطهر، تشكّل جميعها الموضوع الدائم للتأمّلات التي كان يديرها المبشّرون بفنّ استذكاريّ رفيع، في أثناء العظات التي كانت تُلقى في مناسبة الرياضات الروحية، أو خلال التبشير الرسوليّ. فكم من أناس ارتدّوا واعترفوا بفضل هذه العظات وهذا الوصف للآخرة. فضلاً عن ذلك، علينا الاعتراف بأنّ هذا الأسلوب الرعويّ كان بالغ الفرادة: “تذكّر أنّك سوف تمثل، أخيراً، أمام الله، مع حياتك كلّها، وأنّك سوف تحمل أمام محكمته مسؤولية أعمالك جميعها، وأنّك سوف تُحاكم لا على أعمالك وأقوالك فحسب، بل على أفكارك أيضاً، حتى الأكثر خفاءً”. من المؤكد أنّ هذه العظات، التي يكرّر محتواها، بأمانة، ما أوحى به العهدان القديم والجديد، كانت تلامس الإنسان في شغاف قلبه، فتعذّب ضميره، وتُخضعه، وتقوده صاغراً إلى كرسيّ الاعتراف، وهكذا تُسهم بقوّة في خلاصه.
الإنسان حرّ، إذا هو مسؤول. وعظمته تكمن في كونه مسؤولاً أمام ذاته، وأمام مجتمعه، وأمام الله. أنا أفهم القلق الذي يعبّر عنه سؤالك: فأنت تخاف من أنّ نسيان مساع كهذه في التعليم الديني (1) والكرازة (2) والوعظ (3)، قد يؤدّي إلى تعريض عظمة الإنسان هذه، الأوليّة، إلى الخطر. وبالنتيجة يمكننا أن نتساءل إذا كانت الكنيسة، من دون هذا النوع من الرسالة، ما تزال قادرةً على أن تستحثّ البطولة فتعطي العالم قدّيسين. لا قدّيسين “كباراً” يُرفعون على المذابح، بل قدّيسون “يوميّون” بالمعنى الذي تعطيه آداب العصور المسيحية الأولى لهذه العبارة. كذلك، أن يذكّر المجمع بالدعوة الشاملة للقداسة، في الكنيسة، لأمر له مغزاه. هذه الدعوة الشاملة معناها أنّها تختصّ بكلّ متعمّد، بكلّ مسيحيّ. إنّها، دائماً، خاصّة، ذاتيّة، مرتبطة بالعمل وبالمهنة. تحثّ على أن تُؤخذ في الحسبان “المواهب” التي مُنحناها. فنتساءل إذا ما كان الإنسان قد أحسن استعمالها أم أساء. وإنّنا لنذكر أنّ السيّد المسيح حكم بقساوة على الرجل الذي دفن وزنته في الأرض (4).
من الصحيح أنّ، في التقليد التعليمي الدينيّ، في الكنيسة وفي الكرازة كان مركز الصدارة لا يزال يعود، حتى عهدٍ قريب، إلى أخروية (اسكاتولوجية) يمكن نعتها بالفرديّة، حتى ولو كانت متجذّرة، بعمق، في الوحي. ويمكننا، بالمقابل، أن نعتبر تعليم المجمع كأخرويّة للكنيسة وللعالم.
“طابع كنيسة الأرض الاسخطولوجي واتحادها بكنيسة السماء” هذا هو عنوان الفصل السابع من “دستور عقائدي في الكنيسة”. أقترح أن تقرأه. إنه يتناول هذا الحدث. فهو يبدأ هكذا: “إنّ الكنيسةَ التي دُعينا إليها جميعاً في المسيح، وفيها نحصلُ على القداسة بنعمةِ الله، لن تبلغَ تمامها إلاّ في المجد السماوي عندما يحينُ الأوانُ الذي يتجدَّد فيه كل شيء (5)، وعندما الكون بأسِره، المرتبط بالإنسان ارتباطاً صميماً وبه يُدرك مصيره، يجد مع الجنس البشريّ، في المسيح، كماله النهائي. فالمسيح إذ ارتفع عن الأرض جذَب إليه جميع الناس (6). وإذ نهض من بين الأموات (7)، أرسل روحه القدوس المُحيي على الرُسل، وجعل به جسده، الذي هو الكنيسة، سرّاً جامعاً للخلاص، وإذ جلس عن يمين الآب يستمر على عمله في العالم ليقود الناس إلى الكنيسة، ويُتحدَهم به بواسطتها اتحاداً أوثق، ويُشركهم في حياته المجيدة ببذله لهم جسده ودمه غذاءً. وإن الحالة الجديدة التي وُعدنا بها ونرتجيها قد وَجَدت في المسيح بدايتها، وبإرسال الروح القدس انطلاقها، وتستمر به في الكنيسة حيث يُعلمنا الإيمان معنى حياتنا الزمنية نفسها، ما دُمنا، على رجاء االخيرات الآتبة، نعمل على إنجاز المهمة التي أناطها الآب بنا، ونتدَّبر هكذا أمر خلاصنا (8). فالأزمنة الأخيرة إذن قد أتت بالنسبة إلينا (9). وتجديد العالم قد حصل على غير تراجعٍ، ووقع، بكل حقيقة، في الأيام الحاضرة: ذلك بأنَّ الكنيسة مزدانة الآن على الأرض بقداسةٍ حقيقةٍ وإن غير كاملةٍ. بيد أنَّها، إلى أن تتحقَّق السماوات الجديدة والأرض الجديدة حيث يسكن البرّ (10)، تحمل إبَّان رحلتها، في أسرارها ومُؤسساتها المرتبطة بهذا الزمن، صورة الدهر الزائل؛ وتعيش هي نفسها وسط الخلائق التي لا تني تئنُّ الآن في أوجاع المخاض، وتنتظر تجلّي أبناءِه (11)” (12).
ينبغي أن نعترف أنّ مفهوماً كهذا للأخرويّات لا يظهر كثيرً في التبشيرالتقليدي للعصور السابقة. ومع هذا فهو مفهوم أصلي كتابّي. فكلّ ما ذكرته، من النصّ المجمعيّ، مكوّن، في الواقع، من شواهد مأخوذة من الإنجيل والرسائل وأعمال الرسل.
فالأخروية “الكلاسيّة” التي تعالج ما يُسمى بـ “المصاير النهائيّة” استبدَلها المجمع في هذا المنظور البيبلي الأساسيّ. وكما سبق أن قلت تبقى الأخروية عميقة الإناسة. ولكنها، في ضوء العهد الجديد، تعود فتتركّز، قبل كلّ شيء، على المسيح، وعلى الروح القدس، فهي بمعنى أو بآخر، كونيّة.
يمكننا أن نتساءل إذا كان الإنسان المنطوي في كيان فرديّ، بمواجهة حياته الخاصّة، ومسؤوليّته ومصيره الشخصيّ، ومستقبله الأخرويّ الخاص، ونعيمه، ومطهره، وجحيمه الخاصّة، لا ينتهي إلى الضياع في هذا المنظور الكونيّ. ولكي نرّد على سؤالك، بطريقة غير مباشرة، ينبغي أن نكون من الاستقامة بحيث نعترف أنّ الإنسان ضَلّ، وأن المبشرين ومعلّمي الدين والمربّين، كذلك، ضلّوا وتاهوا. لذا، لم تعد لديهم الشجاعة ليهدّدوا بالجحيم. كما أنّ من الممكن أيضاًً ألاّ يخاف منها الذين كانوا يستمعون إليهم.
علينا أن ندرك أنّ معاصرينا باتوا لا يشعرون تقريباً “بالمصاير النهائية”. فمن جهة، نرى هذا النقص بالشعور يزكّيه ما يسمّى علمنة أو علمانيّة مع ما ينجم عنها من سباق إلى الاستهلاكية، الموجهّة نحو المتعة العاجلة لخيرات هذا العالم. ومن جهة ثانية فإنّ الجحيم الزمنيّة أسهمت، على طريقتها، في تشريع هذا النقص بالشعور. فبعد تجربة مخيّمات الاعتقال والمحرقات والقصف عدا الكوارث الطبيعيّة والمصائب الشخصيّة، هل يبقى للإنسان أسوأ من ذلك يخافه في الآخرة؟ هل يمكن أن يخاف ذلاً أكثر واحتقاراً؟ هل يمكن أن يعود فيخشى الجحيم؟
وهكذا أضحت الأخرويّة وكأنها غريبة عن الإنسان المعاصر، بخاصّة في حضارتنا. ومع ذلك فلن تصل هذه اللامبالاة إلى حدّ تجاهل الإيمان بالله كعدالة سامية، ينبغي، في نهاية المطاف، أن يقول الحقيقة حول الأعمال البشريّة ليُثيب، في النهاية، الخير، ويعاقب الشرّ. وفي الحقيقة، ما من أحد غير الله يمكنه أن يدين. وهذا الواقع يعيه الناس جميعاً. ولم تتمكّن أهوال عصرنا وفظائعه من إلغاء هذا الشعور: “كما أنّه كتب على الناس أن يموتوا مرة واحدة وبعد ذاك يوم الدينونة” (13).
تشكّل هذه الرؤية القاسم المشترك بين الأديان كلّها أكانت توحيديّة أم لا. فعندما يتكلّم المجمع على الطابع الأخروي للكنيسة السائرة، فإنّه يرتكز، كذلك، على هذا الاقتناع البدهيّ: الله هو القاضي العادل الذي يثبت الخير ويعاقب الشرّ. إنّه، بالنتيجة، إله إبراهيم وإسحق وموسى، وكذلك هو إله المسيح الذي هو ابنه. وهذا الإله هو محبّة، قبل كلّ شيء. وهو ليس أبا الابن الشاطر فحسب، ولكنّه، أيضاً، الأب الذي “جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بأن تكون له الحياة الأبدية” (14). هذه هي، بالضبط، الحقيقة الإنجيلية حول الله التي تحفز وتشرّع نوعاً من التغيير في المنظور الأخرويّ. ففي المقام الأوّل، ليست الأخرويّة فقط علم ما ينبغي أن يحدث أيضاً، علم ما سوف يحدث بعد الحياة الأرضية. لأنّ الأخروية دُشّنت بمجيء المسيح. فالحدث الأخرويّ كان، قبل كلّ شيء، موته المفتدي وقيامته. من هنا بدء “السماء الجديدة، والأرض الجديدة” (15). ومستقبل كلّ منّا مرتبط، ما وراء القبر، بهذين التأكيدين: “أؤمن بقيامة الجسد” و “أؤمن بمغفرة الخطايا والحياة الأبدية”. هذه هي القاعدة المسيحانيّة المركزيّة christocentrique للأخروية.
بالمسيح أوحى الله إلى العالم أنه يرغب في أن: “يخلص جميع ويبلغوا إلى معرفة الحق” (16). هذه الجملة من الرسالة الأولى إلى طيموتاوس لها أهمية حاسمة لكي تُفهم جيداً، وتبشّر “بالمصاير النهائية”. فإذا رغب الله في أن يخلص الناس جميعاً بواسطة الروح القدس، فهل يمكن أن يهلك الإنسان، أو أن يرذلَهُ الله؟
لقد شغلت مسألة الجحيم، على مدى الأزمنة، مفكّري الكنيسة الكبار، منذ أوريجانوس حتى ميخائيل بولغاكوف وهانس أورس فون بالتازار. ولقد رفضت المجامع الأولى النظريّة القائلة بالرؤيويّة النهيوية (Apocatastase finale) والتي، بحسبها، يتجدّد العالم بعد تدميره فتخلص كلّ خليقته، وهي نظريّة تلغي الجحيم ضمنيّاً. مع هذا فإنّ المشكلة ما زالت تطرح نفسها. هل يمكن أن يرتضي الله، الذي أحبّ الإنسان كثيراًَ، أن يرذلَهُ هذا الإنسان، وأن يُعاقب، في هذا، بعذابات لا تنتهي؟ علماً أن كلام يسوع لا لَبْس فيه. فهو يتكلم، بوضوح، في إنجيل متى، على الذين سيلاقون عذابات أبدية (17). مَنْ هم هؤلاء؟ تُرد الكنيسة قطّ أن تأخذ موقفاً معيّناً في هذا الشأن، فبين قداسة الله والضمير الإنسانيّ سرّ لا يُكتَنه. فصمت الكنيسة، إذاً، هو الموقف الوحيد الملائم. حتى وإن قال المسيح عن يوضاس عندما خانه: “فلّو لم يولد ذلك الإنسان لكان خيراً له” (18). فينبغي ألاّ يُفهم من هذه العبارة أنّها هلاك أبديّ.
مع هذا، تبقى مقاومة في ضمير الإنسان الأخلاقيّ الذي يثور ضدّ نسيان هذا المنظور: الله محبّة، ولكن أليست هذه عدالة سامية أيضاً: هل يمكن أن يقبل ببقاء الجرائم الأكثر هولاً وبشاعةً بلا عقاب؟ أليس العقاب الحازم ضرورياً، نوعاً ما، لكي يستقيم نوع من التوازن الخلقيّ في تاريخ البشريّة البالغ التعقيد؟ أليست الجحيم، إذا صحّ القول، “خشبة الخلاص” الأخير لضمير الإنسان الخلقيّ؟
فضلاً عن هذا، فإنّ الكتاب المقدس يذكّر بواقع نار مطهّرة. ولقد حفظت كنيسة المشرق هذه الفكرة لأنّها موجودة في الكتاب المقدس، وبالأحرى، في المعتقد الكاثوليكي حول المطهر.
ومن جهتي، فقد وجدت في أعمال القديس يوحنا الصليبي، بمعزل عن مرسوم البابا بنديكتوس الثاني عشر، في القرن الرابع عشر، البرهان الأكثر إقناعاً في ما يختصّ بالمطهر. “فشعلة الحبّ الحيّة” التي يتكلم عليها المتصوّف الاسبانيّ هي، قبل كلّ شيء، مُطهرة. و“الليالي الصوفيّة” التي يصفها عالم الكنيسة الكبير هذا، إنطلاقاً من خبرته الذاتية، تشكّل معادلة للمطهر. أفلا ينبغي أن يجعل الله الإنسان يمرّ بتطهير داخليّ لطبيعته الجسدّية والروحيّة كلّها، لكي يقوده إلى الاتّحاد به؟ لسنا، هنا، أمام محكمة مألوفة. فنحن نواجه سلطان المحبّة بالذات.
نعم، إنّ المحبّة هي التي ستديننا أوّلاً. فالله هو محبّة، يدين بمحبّة. إذاً، تفرض المحبّة التطهّر ليصير الإنسان جديراً بالاتّحاد بالله الذي هو دعوته ومصيره النهائيّ.
ليس من الضروري الإلحاح أكثر، فعدد كبير من اللاهوتيّين، في الشرق كما في الغرب، وحتى يومنا هذا، كرّسوا مجلّدات بكاملها “للمصاير النهائية” للأخروية. ولم تنقطع الكنيسة عن وضع نفسها في منظور أخرويّ. كما لم تنقطع عن قيادة الناس نحو الحياة الأبدية. فلو عزفت عن ذلك لكانت غير أمينة على دعوتها، على العهد الجديد الذي عقده الله معها بيسوع المسيح.
الحواشي:
1) تعليم يساعد المعمدين ليفهموا الوحي في وحدته المتناسقة. (تعليق للناشر).
2) تعلن مفهوم الإيمان. (تعليق للناشر).
3) يفسّر الكتاب المقدس، خاصة في مجال الليتورجيا. (تعليق للناشر).
4) إنجيل متى 25 / 25 – 30
5) أعمال الرسل 3 / 21
6) إنجيل يوحنا 12 / 32 (يوناني).
7) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 6 / 9
8) رسالة القديس بولس إلى أهل فيليبي 2 / 12
9) رسالة القديس بولس إلى أهل قورنتس 10 / 11
10) رسالة القديس بطرس الثانية 3 / 13
11) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 8 / 19 – 22
12) دستور عقائدي في الكنيسة، وثيقة مجمعية، مرجع سابق، عدد 48
13) الرسالة إلى العبرانيين 9 / 27
14) إنجيل يوحنا 3 / 16
15) رؤيا القديس يوحنا 21 / 1
16) رسالة القديس بولس الأولى إلى طيموتاوس 2 / 4
17) إنجيل متى 25 / 46
18) إنجيل متى 26 / 24
ماذا يفيد الإيمان؟
يبدو الكثيرون، بعد سماعهم هذا العرض عن المسيحية، مستعدّين للاعتراف بسحرها. غير أنّهم يخلصون، أحياناً، إلى التساؤل: “ماذا يفيد الإيمان، بعد كلّ هذا، وماذا يمكن أن يعطينا أكثر؟ أولسنا نستطيع العيش بنزاهة وبلياقة من دون أن نعقّد الحياة بالإنجيل”؟
إنّ الجواب عن سؤال كهذا يمكن أن يكون بالغ الإيجاز. ففائدة الإيمان لا تُقاس استناداً إلى أيّة منفعة، حتى إلى منافع ذات طبيعة خلقيّة. وما أنكرت الكنيسة قطّ أنّ غير المؤمن يمكن أن يكون، هو أيضاً، نزيهاً ومستقيماً. على كلّ حال، يمكن أي إنسان أن يدرك ذلك بسهولة. ومن الخطأ الادّعاء، كما يغرينا الأمر لذلك أحياناً، أنّ الإيمان نافع لأنّه يحثّ على الاستجابة لمتطلّبات الأخلاقيّة الإنسانيّة. بالعكس، يمكننا أن نؤكّد أن فائدة الإيمان تكمن، بكلّ بساطة، في أن نؤمن وأن نثق. فإن نؤمن ونثق نستَجبْ لكلمة الله. وهذه الكلمة لا تسقط في الخواء. بل ترتدّ، مثقلةً بثمارها، إلى من تلفّظ بها أولاً، كما أوضح ذلك النبيّ إشعيا (1) بأسلوب أخّاذ. بيد أنّ الله يرفض، قطعاً، أن يفرض علينا جواباً كهذا.
إنّ تعليم المجمع الأخير ينيرنا حول هذا الموضوع بالضبط، بخاصّة في الوثيقة المجمعية “الكرامة الإنسانية” حول الحريّة الدينية فينبغي التمكّن من الاستشهاد بكامل هذا النصّ، وتحليله بكلّ تفاصيله. غير أنّه قد يمكن الاكتفاء باستعادة بعض مقاطعه، من مثل: “فعلى جميع الناس إذن أن يطلبوا الحقيقة ولا سيَّما في ما يتعلق بالله وكنيسته، حتى إذا ما عرفوها اعتنقوها وكانوا عليها مُحافظين” (2).
ما يشير إليه المجمع، هنا، هو، قبل كلّ شيء، كرامة الإنسان، فالنصّ يتابع: “وإذ كان جميع الناس أشخاصاً، أي ذوي عقلٍ وإرادةٍ حرةٍ، ومن ثم ذوي مسؤولية شخصية، فيداعي كرامتهم وبدافع من طبيعتهم نفسها ومن الإلزامية الأدبية يجب عليهم أن يطلبوا الحقيقة، ولا سيّما تلك التي تتعلق بالدين. وهم مُلزمون، إذا وجدوا الحقيقة، أن يعتنقوها، وأن يُطبّقوا حياتهم على مُقتصياتها” (3). ولنقرأ، أبعد قليلاً: “أن تطلبَ الحقيقة يجب أن يَجريَ بالطريقة التي يختصُ بها الشخص الإنسانيّ في كرامته وطبيعته الاجتماعية، أي بالبحث الحر، وبالتعلم أو التربية، والتبادل الفكري والحوار” (4).
إنّ المجمع، كما نلاحظ، يبدي احتراماً فائقاً للحرية الإنسانية. فهو يستند إلى متطلّبات الضمير الداخليّة. لكي يُظهر أنّ الإنسان الذي يستجيب لله ولكلمته في الإيمان، ينسجم كلّ الانسجام مع كرامته الشخصيّة. فالإنسان لا يمكن أن يُرغم على التزام الحقيقة لأنّه مدفوع إليها بطبيعته فقط. فحرّيته نفسها تدفعه إلى البحث عن الحقيقة باستقامة. وعندما يجدها يلزمها فكراً وتصرّفاً على السواء.
هذا ما علّمته الكنيسة دائماً، وما علّمه، قبلاً، المسيح وطبّقه طيلة حياته كلّها على الأرض. قد ينبغي، من هذه الزاوية، إعادة قراءة كامل القسم الثاني من النصّ المجمعي حول الحرّية الدينيّة. فهناك نجد الجواب عن سؤالك. وهو، بالأحرى، جواب سبق أن أعطيَ، مُجملاً، في تعليم الآباء، وفي اللاهوت التقليديّ، منذ القدّيس توما الأكوينيّ حتى جون هنري نيومن (5). ولم يقم المجمع بسوى تأكيد ما علّمته الكنيسة دائماً. وموقف القدّيس توما واضح جدّاً، فهو، إلى حدّ ما، ملائم للاحترام غير المشروط للضمير، إذ يؤكّد أنّ فعل الإيمان بالمسيح يكون غير لائق بالإنسان في حال اقتناعه، في قرارة ضميره، بأنّه ارتكب سوءاً، وهو ينجز هذا العمل (6). فالإنسان ملزم بأن يصغي إلى دعوة ضميره التي تبدو له جليّة، ويتبعها، وإن خاطئة. على كلّ حال يجب ألاّ نستنتج أنّ من الممكن استمراره في الخطأ، دونما عقاب، ودون البحث عن الوصول إلى الحقيقة.
فإذا كان نيومن، من جهته، يضع الضمير فوق السلطة فإنّه لا يؤكّد إلاّ ما أكدّته دائماً السلطة التعليمية الكنيسة. فالضمير، كما يعلّم المجمع هو: “المركز الأشد عمقاً في الإنسان، والهيكل الذي ينفردُ فيه إلى الله، ويسمعُ فيه صوت الله. وهذا الناموس ينكشفُ للضمير بطريقةٍ عجيبةٍ ويكتمل بمحبّة الله والقريب. ووفاءً لهذا الضمير لا بُد للمسيحيين، بالاتّحاد وسائر البشر، أن يطلبوا الحقيقة، ويبحثوا عن حلٍ عادلٍ للقضايا الاجتماعية الكثيرة التي تعترضُ حياة الأفراد والجماعات. وبقدرِ ما يتغلّب الضمير القويم يبتعد الأفراد كما تبعدُ الجماعة عن القرار الأعمى، ويعملون على تطبيق النُظُم الأخلاقية الواقعية. ولا يقلُّ أن يضِلَّ الضمير من جراء جَهلٍ مُطبقُ على الإنسان الذي قلّما يُعنى بالبحث عن الحق والخير، والذي كادت الخطيئة تعمي ضميره شيئاً فشيئاً” (7).
من الصعب ألاّ نبالي بالترابط الداخليّ للإعلان المجمعيّ حول الحريّة الدينيّة. فعلى ضوء هذا النصّ، نرى، بوضوح، أن فائدة الإيمان تكمن، أساساً، في كون الإنسان يستطيع أن يحقّق، بطبيعته العقليّة المنطقيّة ما هو خير بامتياز. ولا يتوصّل إلى ذلك إلاّ عندما يعطي جوابه لله. وهذا واجبه لا تجاه الله فحسب بل تجاه نفسه كذلك.
لقد صنع المسيح كلّ شيء ليقنعنا بأهميّة جوابنا الأساسيّ. فعلينا أن نعطيه إيّاه في شروط من الحرية الضمنيّة، كأن يكون على ضوء تألّق الحقيقة التي هي في أساس كرامة الإنسان. لقد طلب المسيح أن تتصرّف الكنيسة مثله. لهذا، غالباً ما احتجّت الكنيسة، عبر تاريخها، على الذين كانوا يريدون أن يُرغموا الآخرين على الإيمان وذلك بـ “الهداية بالسيف”. علينا أن نذكر، هنا، بالموقف الذي اعتمدته المدرسة الكاثوليكية الاسبانيّة، في سلامنكا، تجاه العنف الذي مُورس ضد سكّان أميركا الأصليّين، الهنود الحمر، بحجّة تنصيرهم. وبالروحيّة ذاتها، احتّجت أكاديميّة كراكوفيا، إثر مجمع كونستانس سنة 1414، ضدّ التجاوزات التي أُرتكبت ضدّ شعوب البلطيق، للذريعة نفسها.
يرغب المسيح، حقاً، في الإيمان، ويرغب فيه صادراً عن الإنسان وللإنسان. فلقد قال لمن كانوا ينتظرون منه أعجوبةً: “اذهب، إيمانك خلّصك” (8). وحال الكنعانيّة، في هذا الخصوص، مؤثرة جداً. تصرّف المسيح كما لو أنّه كان يرفض سماع دعوته إلى مدّ يد العون، كما لو أنّه يريد أن يستحثّ، هذا الاعتراف المؤثر “فصغار الكلاب نفسها تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها” (9). كان يتمنّى أن يجرّب تلك المرأة، لكي يتمكّن من أن يقول لها، أخيراً: “ما أعظم إيمانك أيتها المرأة فليكن لك ما تريدين” (10).
يرغب يسوع في إيقاظ الإيمان عند البشر كما يرغب في أن يستجيبوا لنداء أبيه. غير أنّ رغبته تحترم كرامة الإنسان دائماً. لأنّ في البحث عن الإيمان نوعاً من الإيمان الضمنيّ الذي يطبّق شروط الخلاص الضرورية.
هناك فقرة، في الوثيقة المجمعيّة حول الكنيسة، “دستور عقائدي في الكنيسة” تستحقّ أن تُعاد قراءتُها لنجيب عن سؤال: “أنّ الذين، على غير ذنبٍ منهم، يَجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، ويَطلبون مع ذلك الله بقلب صادقٍ، ويجتهدون، بنعمته، أن يتممّوا في أعمالهم إرادته كما يُمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم أن ينالوا الخلاصَ الأبدي. يجتهدون، لا بمعزلٍ عن مؤازرة النعمةِ، أن يسلكوا مسلكاً مستقيماً، فإن العناية الإلهية لا تَحبُس عنهم المُساعداتِ الضرورية لخلاصهم” (11).
لقد أتيتَ على ذكر إمكانيّة “حياة مستقيمة نزيهة من دون الإنجيل”. وأنا أقول لك إذا كانت الحياة مستقيمة بالفعل فذلك لأنّ الإنجيل – جهلناه أو رذلناه بطيبة خاطر – يعمل في الواقع، في قلب المرء الذي يبحث ليعي الحقيقة ويتهيّأ لقبولها ما إن يعرفها. وبالفعل فإنّ استعداداً كهذا يظهر أنّ النعمة باتت تفعل فعلها في النفس. فالريح تهبّ حيث تشاء (12). وحريّة الروح تتلاقى وحريّة الإنسان، وتمنحها الأسس التي كانت تنقصها.
كان هذا الإيضاح ضرورياً كي لا نقع في مخاطر تفسير ذي طابع “بلاجيّ”. فالأمر يتعلّق بخطر قائم منذ زمن القديس أوغسطينوس. وهذا الخطر بدأ يعاود الظهور، على ما يبدو، في عصرنا الحاضر. كان “بيلاج” يؤكّد أنّ بمقدور الإنسان أن يحيا حياة مستقيمة وسعيدة حتى من دون نعمة الله. إذاً، فنعمة الله لن تكون لازمة له اللزوم كلّه. وعلى العكس، فالحقيقة هي كون الإنسان مدعوّاً، فعلاً، إلى الخلاص. وإنّ وجوداً نزيهاً هو، حقاً، شرط ضروري لبلوغه. غير أن هذا الخلاص يبقى متعذّر المنال كليّاً من دون معونة النعمة الإلهيّة.
وفي النهاية، بمقدور الله وحده أن يخلّص الإنسان على أن يتعاون الإنسان في ذلك. وكون الإنسان يستطيع التعاون مع الله فذلك ما يشكّل عظمته الحقيقيّة. فالحقيقة التي يُدعى الإنسان بموجبها، ليعمل في كلّ شيء مع الله لمصير حياته الأخير، أي خلاصه وتمجيده، هذه الحقيقة تجد التعبير عنها في التقليد الشرقيّ تحت اسم “الفعل التزامني” (Synergie): أي “يخلق” الإنسان العالم مع الله. و”يخلق” معه كذلك خلاصه الذاتيّ. فتأليه الإنسان يصدر عن الله، ولكن على الإنسان أن يُسهم مع الله حتى في هذا.
الحواشي:
1) راجع أشعيا 55 / 10 – 11. “كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك دون أن يروي الأرض ويجعلها تنتج وتنبت لتؤتي الزارع زرعاً والآكل طعاماً، فكذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليَّ فارغة بل تتمّ ما شئت وتنجح فيما أرسلتها له”. (استشهاد للناشر).
2) بيان في الحرية الدينية، وثيقة مجمعية، عدد1
3) بيان في الحرية الدينية، وثيقة مجمعية، عدد2
4) بيان في الحرية الدينية، وثيقة مجمعية، عدد3
5) كاهن انكليكاني واستاذ أوكسفورد، نيومان (1801 – 1890) متعمق في تاريخ الكنيسة الأولى، وفي فكر آباء الكنيسة. اهتدى سنة 1845 إلى الكنيسة الكاثوليكية، لاقتناعه بأمانتها للمسيح، وعيّن كاردينالاً سنة 1879. تتميّز كتاباته بالتجدّد وبمستواها الأدبي الرفيع. (تعليق للناشر).
6) الموسوعة اللاهوتية somme théologique Ia – IIae, q. 19, a.5
7) دستور عقائدي في الكنيسة في عالم اليوم، وثيقة مجمعية، عدد 16
8) إنجيل مرقس 10 / 52
9) إنجيل متى 15 / 27
10) إنجيل متى 15 / 28
11) دستور عقائدي في الكنيسة، وثيقة مجمعية، عدد 16
12) إنجيل يوحنا 3 / 8
ما هي أسس حقوق الإنسان؟
لقد أتيتم، أكثر من مرّة، على ذكر كرامة الكائن البشريّ. فمع حقوق الإنسان التي هي نتيجة لهذه الكرامة، نجد أنّه موضوع كثيراً ما يتكرّر في تعليمكم. ولكن، علامَ ترتكز، ي العمق، كرامة الكائن البشري بالنسبة إلى البابا؟ وما هي، في نظره، حقوق الإنسان الواقعيّة؟ وهل يتعلّق الأمر، بكل بساطة، بامتيازات تمنحها الحكومات والدول أم هناك شيء مختلف، في الأساس وأعمق؟
يبدو أن سبق لي وعالجتُ، بطريقة ما، ما هو في صميم سؤالك: “علام تقوم كرامة الكائن البشريّ؟ وعلام ترتكز حقوق الإنسان؟ “نرى، بوضوح، أن هذه الحقوق قد أدرجها الله ذاته في نظام الخلق. ولا يمكننا الكلام، هنا، على امتيازات تمنحها مؤسّسات إنسانيّة وحكومات أو منظّمات عالميّة. فهذه المؤسّسات لا تعبّر عن سوى ما دوّنه الله في النظام الذي خلقه بنفسه، كذلك في الضمير الخلقيّ، أو في قلب الإنسان، كما يوضحه مار بولس في رسالته إلى الرومانيّين (1).
إنّ الإنجيل هو الإعلان الأكمل لحقوق الإنسان كلّها. فعندما نحهله أو ننساه، نبتعد، شبه مرغمين، عن حقيقة الإنسان. فالإنجيل يؤكّد، فعلاً، الشريعة الإلهيّة التي تحكم نظام الكون الخلقي، كما يؤكّدها، بصورة قاطعة، بالتجسّد ذاته. فَمنْ هو الإنسان، إذاً، لو أنّ ابن الله تقلّد الطبيعة البشريّة؟ وماذا ينبغي أن يكون عليه الإنسان لو أنّ ابن الله بالذات كان مستعداً ليدفع الثمن الأغلى، مهما بلغت قيمته، في سبيل استعادة كرامته؟ تعبّر طقسيّة الكنيسة، كلّ سنة، عن الإعجاب العميق الذي تثيره هذه الحقيقة، وهذا السرّ، زمن الميلاد كما ليلة الفصح: “طوباك أيّتها الخطيئة التي جعلتنا نستحقّ فادياً كهذا” (2). فالمسيح المخلّص يؤكّد حقوق الإنسان على أتمّها، مجّدداً إيّاه في الكرامة التي اقتبلها لكونه خُلِقَ على صورة الله ومثاله.
ولكن، بما أنّك تطرّقت إلى هذا الموضوع، اسمح لي أن أنتهز هذه الفرصة لأقول لك كيف أن حقوق الإنسان أضحت محور اهتماماتي. فلقد دُهشت عندما أدركت أن الاهتمام بالإنسان وبكرامته أضحى، خلافاً لكلّ توقّع، الميدان المفضّل للجدل مع الماركسيّة. وهذا، بدون شكّ، لأنّ الماركسيّين ركّزوا، هم أنفسهم، هذا الجدل على موضوع الإناسة (الانتربولوجيا).
فعندما وصل الشيوعيّون إلى الحكم، في بولونيا، بعد الحرب، وبدأوا بمراقبة المناهج في الجامعات، كنّا نتوقّع أن تُطبَّق نظريّاتهم حول الماديّة الجدليّة، منذ البداية، على تعليم فلسفة الطبيعة. ويجب الاعتراف، هنا، أن هذا ما استعدّت له الكنيسة، في بولونيا. وإنّي لأذكر التشجيع الذي مَثّلتْهُ للمثقّفين الكاثوليك، في أثناء هذه السنين التي تلت الحرب، منشورات الأب كازيميارز كلوزاك، أحد نوابغ أساتذة جامعة اللاهوت في كراكوفيا، والمشهود له بعمله الواسع. كان يواجه الفلسفة الماركسيّة للطبيعة بمسعىً مجدّد، يسمح أن نكتشف، باستمرار، الفكر الخلاّق، ونظام الخليقة الإلهيّ. وهكذا انضوى الأب كلوزاك في التقليد الفلسفيّ الذي يبدأ مع اليونان ويستمرّ بفضل تفكير العلماء المعاصرين كالفرد نورث وايتهيد، مروراً بطرق توما الأكويني الخمس.
إن العالم المنظور لا يقدّم أسّساً علميّة ليبرّر تفسيراً ملحداً لوجوده. وعلى العكس، فإنّ تفكيراً نزيهاً يجد فيه عناصر كافية تقود نحو معرفة الله. فالروح الملحدة تبدو، حينذاك، أحادية الجانب، ومغرضةً.
أذكر، أيضاً، كلّ المناقشات حول هذا الموضوع. ولقد شاركت، كذلك، في لقاءات عديدة، مع علماء فيزيائيّين، على الأخصّ، انفتحوا، بعد أينشتين، وبصورة مدهشة، على تفسير الإيمان بالله دون الوحي ولكنّ الغريب في الأمر أنّ هذا النوع من الجدل مع الماركسيّة لم يطل قطّ. وبدا، سريعاً، أنّ الإنسان ذاته، بخلقيّته، أضحى الموضوع الرئيس لهذه المواجهات. إذ طُرحت فلسفة الطبيعة جانباً. ففي إثبات عقيدة الإلحاد أخلى تفسير علم الكونيّات المكان لبراهين علم الأخلاق. وعندما أصدرتُ كتابي “الشخص والفعل” (3)، كان الماركسيّون بالطبع، أوّل من انتقده، لأنّ هذا العمل كان يتصدّى لخطة جدليتهم الهجومية على الدين والكنيسة.
بيد أن عليّ أن أحدّد بدقة، هنا، أن تفكيري، حول الشخص والفعل، لم يتولّد قطّ من المواجهة مع الماركسيّة. فالتفكير بالإنسان كشخص يسكنني منذ زمن طويل. وقد يكون مردّ هذا إلى أنّه لم يكن لي قطّ إيثار خاصٌ لعلوم الطبيعة؛ ولكنّ الإنسان شغفني دائماً: بدايةً، في أثناء دراستي في كليّة الآداب لجهة أن الإنسان هو صانع اللغة وموضوع المشروع الأدبي. وبعدها، عندما اكتشفت دعوتي الكهنوتية، حينذاك بدأ اهتمامي بالإنسان كموضوع أساسيّ للنشاط الرعويّ.
كنّا، آنذاك، في فترة ما بعد الحرب، وكان النزاع مع الماركسيّة على أشدّه. ففي ما يتعلّق بي، أضحت الأولويّة هؤلاء الشبّان الذين يدقّون بابي، والذين لم يكونوا يأتون إليّ بأسئلة حول وجود الله فحسب. لأنهّم كانوا يسألونني، على الأخصّ، كيف يمكنهم أن يحيوا، أي كيف يستطيعون مواجهة تحدّيات الحبّ والزواج، والمشكلات المرتبطة بالحياة المهنيّة. والأسئلة التي طرحها هؤلاء الشبّان، طيلة المدة التي تلت الاحتلال الألمانيّ، انطبعت في ذاكرتي. إنّها استفساراتهم وشكوكهم، ما جعلني أكتشف، بطريقة ما، الدرب التي يجب سلوكها. وانطلاقاً من الخبرة التي أكسَبتْنيها هذه اللقاءات قمت بدراسة جعلتُ مضمونها في العنوان الآتي: حبّ ومسؤوليّة (4).
فدراستي: “الشخص والفعل”، جاءت بعد ذاك بكثير، ولكنّها نبعت من المصدر ذاته. ولم يكن ممكناً، إذا جاز القول، أن نحاذر الإطلال على تفكير كهذا، منذ أن خرجت من إطار إشكاليّة وجود الإنسان، ليس الإنسان المعاصر فحسب، إنّما الإنسان في كلّ زمان. فمسألة الخير والشرّ لا تفارقنا أبداً، ولنا، على ذلك، شاهد، هذا الشاب، في الإنجيل، الذي كان يسأل يسوع: “ماذا عليّ أن أفعل لأرث الحياة الأبدية” (5)؟
وهكذا، ركّزت دراساتي حول الإنسان والكائن البشريّ، لأسباب رعويّة، قبل كل شيء. وبالفعل، كان ذاك لكي أتمّم رسالتي كراع، فصغت، في حبّ ومسؤولية، مفهوماً لمعيار شخصانيّ. وهذا يتعلّق بمحاولة لترجمة وصيّة المحبّة في مصطلح علم الأخلاق الفلسفيّ. فالشخص كائن لا يلائمه إلاّ بُعْدٌ واحد: الحبّ. فنحن عادلون تجاه شخص ما إذا أحببناه. وهذا يندرج على الله وعلى الكائنات البشريّة. إنّ حبّنا لشخص ما يمنعنا من أن نعامله كسلعة للمتعة، وهي فكرة نجدها في علم الأخلاق الكانطيّ، وتشكّل ما يسمّى بالضرورة الثانية. على كلّ حال، لهذه الضرورة طابع سلبي، بالأحرى، ولا يستنفد محتوى وصيّة الحبِّ كلّه. فإذا أصرّ كانط، بهذا المقدار من الشدّة، على عدم إمكانيّة معاملة المرء كسلعة للمتعة فلكي يتصدّى، بخاصّة، للمنفعيّة الأنكلوسكسونيّة. بيد أنّنا لو سلّمنا أنّه أصاب هدفه، من وجهة النظر هذه، فهذا لا يعني أنّه كامل كلّياً مدى الوصيّة الإنجيليّة للمحبّة. فهذه في الواقع، لا تفرض نفي كلّ تصرّف يحوّل الإنسان إلى سلعة متعة فحسب، بل تطلب أكثر من ذلك: أن يعرف المرء ذاته.
إنّ الترجمة الصحيحة الشخصانيّة لوصيّة المحبّة تنوجد، مرّة أخرى، في نصّ من نصوص المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “فإنَّ السيّدَ يسوع عندما طلب في صلاته إلى الآب وقال: “ليكونوا بأجمعهم واحداً… كما نحنُ واحداً” (6) فإنّه يفتح احتمالات على العقل صعبة الإدراك، ويوحي إلينا أنّ هناك بعض الشبه بين الأقانيم الثلاثة وأبناء الله في الحقّ والمحبّة. يظهر هذا الشبه أنّ الإنسان، الخليقة الوحيدة على الأرض، التي أرادها الله لذاته، لا يمكنه أن يوجد كليّاً إلاّ حين يُعطي ذاته بتجرّد” (7). نرى، في هذا، تفسيراً أميناً لوصيّة المحبّة. وهي صيغة صافية للمبدأ الأساسي المتعلّق بمعرفة الشخص، لسبب بسيط هو أنّه شخص أي “المخلوق الوحيد على الأرض، الذي ارتضاه الله لذاته”. وفي الوقت عينه، فإنّ النصّ المجمعيّ يشير إلى أنّ العطاء المتجرّد للذّات هو عنصر المحبة الأكثر حسماً. وهذا العطاء الكامل يقود الإنسان إلى تحقيق ذاته بالمحبّة وفي المحبّة.
وهكذا فإنّ معرفة الإنسان نفسه، وعطاء ذاته المتجرّد لا يتنافيان فحسب، إنّما يعزّز واحدهما الآخر، بل يتضمّن واحدهما الآخر كذلك: يبلغ الإنسان اكتمال طبيعته عندما يعطي ذاته. هذا هو التحقيق الأكمل لوصيّة المحبّة. إذ نصيب بذلك صميم الحقيقة حول الإنسان، كما أوحاها المسيح إلينا بحياته، وكما أكدّها تقليد الخلقيّة المسيحيّة وشهادة القدّيسين، والكثير من أبطال محبّة القريب، عبر العصور.
فإذا حَرمنا الحرّية الإنسانيّة هذا البعد، وإذا لم يعرف الإنسان أن يعطي ذاته للآخرين، فإنّ حرّيته يمكن أن تصير خطراً عليه، وعلى الآخرين: ستختار الحرّية أن تعمل ما يعتبره كلّ فرد وكأنّه صالح له، ما يؤمّن له ربحاً أو لذّة أوفر. حتى وقد تكون لذّةً مُتسامية، فإذا لم ندخل في إمكانية إعطاء الذات، نتعرّض بالضرورة، لخطر الإنغلاق ضمن هذه الحريّة الأنانيّة التي نبذها كانط. ولقد تابع هذه الفكرة ماكس شيلر، والمفكّرون الذين اقترحوا علم أخلاق للقيم. ولكن يبقى أن الإنجيل يقدّم لنا، وحده، التطلّب الخلقي الأكمل. لهذا فإنّ الإنجيل يحتوي إعلاناً متماسكاً مرتبطاً بحقوق الإنسان كلّها، بما فيها الحقوق التي يمكن أن تزعج البعض لأسباب مختلفة.
الحواشي:
1) رسالة القديس بولس إلى أهل روما 2 / 14 – 15. “الوثنيون الذين بلا شريعة، إذا عملوا بحسب الطبيعة ما تأمر به الشريعة كانوا شريعة لأنفسهم هم الذين لا شريعة لهم، فيدلون على أن ما تأمر به الشريعة من الأعمال مكتوبٌ في قلوبهم وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم، فهي تارة تشكوهم وتارة تدافع عنهم، وسيظهر ذلك كله كما أعلن في بشارتي، يوم يدين الله بيسوع المسيح ما خفي من أعمال الناس”. (استشهاد الناشر).
2) نشيد الابتهاج.
3) ترجمة فرنسية، Personne et acte, Centurion, paris,1983.
4) ترجمة فرنسية amour et responsabilité, dialogue et stock, paris, 1978.
5) إنجيل مرقس 10 / 17
6) إنجيل يوحنا 17 / 21 – 22
7) دستور عقائدي في الكنيسة في عالم اليوم، مرجع سابق، عدد 24.
لماذا تتشدّد الكنيسة في مسألة الإجهاض؟
في مقدّمة حقوق الإنسان هذه “المزعجة” التي أتيتم على ذكرها، هناك، دون شكّ، حقّ الحياة وواجب حمايتها منذ لحظة الحمل. هذه ، أيضاً، قضيةً غالباً ما تتكرّر في تعليمكم بلهجة مؤثّرة. ولقد وُصِفَتْ إدانتكم التي لا تكلّ، لكلّ شكل من أشكال تشريع الإجهاض، “بالهاجس”، في بعض الأوساط السياسيّة والثقافيّة. ولقد سُمِعَ، في هذا الشأن، أنّ الأنَسييّن هم الذين حصلوا على أن يكون منع الحمل مسموحاً به إختيارياً ومضموناً.
ما من حقّ للإنسان جوهريّ أكثر من حقّه في الحياة! ومع هذا، فإنّ ثقافة عصريّة معيّنة أرادت أن تنكره عليه. وذهبت في ذلك مذهباً جعل من المطالبة بحمايته، والدفاع عنه “إزعاجاً”. ولكن، ما من حقّ آخر يلامس عن قرب الوجود الذاتيّ للفرد! إنّ حقّ الحياة ينطوي، أولاًَ، على حقّ الولادة، ثمّ على حقّ العيش حتى الموت الطبيعي: “لي الحقّ في الحياة، ما دمتُ حيّاً”.
إنّ المشكلة التي تطرحها حياة الطفل الذي حُبِلَ به، والذي سيولد كذلك، هي حسّاسة بنوع خاصّ. ومع هذا، لا يمكن أن يكون الجواب عنها إلاّ صريحاً! فتشريع منع الحمل ليس سوى أذنٍ مُنِحَ لراشدين، بضمان من القانون، ليحرموا من الحياة، قبل أن يرى النور، كائناً بشريّاً لا يمكنه الدفاع عن نفسه. كيف لنا أن نتصوّر إدانةً أكثر ظلماً! وكيف نجسر أن نتكلّم على “هاجس” البابا عندما يُشكّك في ضرورةٍ أساسيّة من ضرورات الضمير المستقيم: وهي الدفاع عن حقّ الحياة لكائن بشريّ بريء، لا حماية له!
إنّ المشكلة، بالتأكيد، مطروحة، أحياناً، ضمن حدود الحقّ، الذي قد تناله المرأة، لممارسة حرّية الاختيار في مواجهة الحياة التي تحملها في أحشائها. فقد يتوجّب على المرأة، من هذا المنظور، أن يكون لها الحقّ في أن تختار بين وضع الطفل، أو حرمان الحياة لمن حبلت به. ولكن، بإمكان كلّ منّا أن يقتنع بأنّ الأمر لا يتعلّق، هنا، بسوى بديل خاطئ. إذ لا يمكننا الكلام على حرّية اختيار عندما يكون أحد الخيارات شرّاً أخلاقيّاً صريحاً بالغ الوضوح، عندما يعني صراحةً وبكلّ بساطة، انتهاكاً للوصية: “لا تقتل”!
ألا تستدرك هذه الوصيّة بعض الاستثناء؟ والجواب، بلا ريب: “كلاّ… ففرضيّة الدفاع المشروع لا تنطبق أبداً على بريء، إنّما فقط على مُعْتَدٍ ظالم. والمطلوب، أكثر من أيّ شيء، احترام ما يسميّه الأخلاقّيون مبدأ الدفاع الذي لا يُنتزع، ولكي يكون الدفاع شرعيّاً ينبغي أن تتسبّب ممارسته بأقل ضرر ممكن، وعلى الأخصّ، أن تتجنّب، قدر الممكن، إلحاق الضرر بحياة المعتدي.
إن حالة الجنين لا تتوافق وهذه الإشكاليّة، فالطفل الذي حُبِلَ به في أحشاء أمه ليس أبداً معتدياً ظالماً! إن هو إلاّ كائن لا حمالة له ينتظر الاستقبال والحماية.
بيد أنّه، من الملائم، أن نعترف، في هذا المجال، بأنّنا شهود لمآسٍ إنسانيّة حقيقيّة. فالمرأة، في أكثر الأحيان، ضحيّة أنانيّة الرجل. وهكذا، يحدث ألاّ يريد الرجل أن يتحمّل مسؤوليّة الحياة الجديدة التي أسهم في الحمل بها. فهو يلقيها على عاتق المرأة كما لو أنّها هي وحدها “الجانية”. وفي الوقت الذي تشتدّ حاجتها فيه إلى عونه ومساندته، يبدو الرجل أنّه لا يفكّر، صَلَفاً ووقاحةً، بسوى نفسه. فلقد استغلَ عواطف المرأة أو ضعفها، غير أنّه يرفض كلّ حسّ بالمسؤولية عن الفعل الذي أتمّه. إنّها مآسٍ يعرفها جيداً، ليس فقط الجالسون في كرسي الاعتراف، إنّما، أيضاً، محاكم العالم كلّه بما فيه (واليوم أكثر فأكثر) محاكم القاصرين.
لذا، من المناسب، ونحن نرفض، بحزم، الموقف المسمّى “للاختيار”، أن نأخذ بشجاعة جانب المرأة، ما هو “للمرأة”. أي لخيار هو – في الحقيقة، لمصلحة المرأة. فبالنتيجة، هي التي ستدفع الثمن الباهظ، إذا كانت لها الشجاعة لتحتفظ بولدها. وقد تدفع أكثر فيما لو حَرمت الطفل، الذي حُبلت به، حياتهَ. فالموقف الوحيد الذي نرتئيه، في حالة كهذه، هو التضامن المطلق مع المرأة الحامل. إذ من غير المسموح به أن نتركها وحدها. فخبرة الكثيرين من أصحاب الرأي تظهر أنّ المرأة تتمنّى، في قرارة نفسها، ألاّ تنزع الحياة من الطفل الذي تحمله في حشاها. فإذا شجّعناها في شعورها هذا المتعذّر كبحة، وإذا ساعدناها، في الوقت عينه، على التحرر من ضغوط محيطها، عند ذاك بإمكانها أن تكون قادرة حتى على اجتراح البطولات. هذا ما يؤكّده كثيرون من أصحاب الرأي، وبخاصّة، مسؤولون عن مراكز استقبال الأمّهات العزباوات. ومع هذا، يبدو أنّ الذهنيّة بدأت تتطوّر إيجاباً في هذا المنحى. حتى وإن كنا لا نزال نلتقي عدداً من هؤلاء المزعومين بأنّهم “محسنو الإنسانيّة” الذين يدّعون مساعدة النساء بتخليصهنّ من إمكانيّة الأمومة.
نحن، هنا، في موقف يمكن أن نصفه بالحرج فعلاً، أكان من وجهة النظر المتعلّقة بحقوق الإنسان أم المتعلّقة بحقوق الخلقيّة والرعويّة كذلك. فهذه الوجوه كلّها مترابطة ترابطاً وثيقاً. ولقد أدركت هذا، دائماً، في حياتي وفي خدمتي ككاهن وكأسقف في أبرشيَتي، وأخيراً كخليفة لبطرس، مع المسؤوليّات الناجمة عنها. لذا، أُصرّ على تكرار رفضي القاطع لكلّ اتّهام أو ظنّ بأيّ “وسواس” عند البابا، في هذا الموضوع. فالأمر يتعلّق، هنا، بمشكلة لها أهميّة أساسيّة، وعلينا، لكي نواجهها، أن نبرهن عن أكبر قدر ممكن من المسؤوليّة واليقظة. وفي هذا المجال، لا يمكننا أن نستسلم إلى أيّ موقف تساهلي تحليلي لأنه يؤدي مباشرةً إلى دوس حقوق الإنسان. وبهذا نتوصّل إلى نكران القيم الأساسيّة ليس فقط لحياة الأفراد والعائلات، إنّما أيضاً لحياة المجتمعات بالذات. أليست هذه الحقيقة البغيضة التي تستدعيها العبارة الفظّة: “حضارة الموت”؟
معلوم أنّ مسألة مواجهة “حضارة الموت” هذه ببرنامج لزيادة غير مسؤولة لعدد السكان، على سطح الكرة، غير واردة أبداً. فالمعطيات الإحصائية (الديموغرافيّة) يجب أن تؤخذ في الاعتبار. والطريق التي ينبغي اتباعها، لأخذ ذلك في الحسبان، هي ما تسميّه الكنيسة: الأبوّة و الأمومة المسؤولتين. يعلّم هذا مستشارو الكنيسة لشؤون العيلة. وهذه الفكرة تقوم على فرضيّة أن على الكائن البشريّ أن يُحَبَّ لذاته، وأنّ حبّاً زوجيّاً موثوقاً به يجب أن يكون مسؤولاً، لأنّه ما من حبّ من غير مسؤوليّة. نعم إنّ جمال الحبّ يكمن في المسؤولية. وعندما يكون الحبّ مسؤولاً يضحي، حقاً، حُرّاً.
وإذ أؤكّد هذا، أستوحي، بدقّة بالغة، تعليم رسالة سلفي الجليل بولس السادس “الحياة البشرية” الذي يلتقي معي، ويؤكّد خبرتي السابقة مع محدّثي الشبان المتزوجين والمقبلين على الزواج، عندما كنت أكتب “حبّ ومسؤوليّة”. لقد سبق أن قلت ذلك: إنّهم هم الذين أمّنوا تنشئتي في هذا المضمار. فلقد أسهموا بنشاط، رجالاً ونساءً، في رعويّة العائلات، وفي رعويّة الأبوّة والأمومة المسؤولتين وبإنشاء دائرة المشورة الزوجيّة التي تطوّرت، بعد ذلك، في الكنيسة. أمّا النشاط الأساسيّ لهذه المراكز، التي هي عملهم الأوليّ، فقد كان يختصّ، وما يزال، بالمحبة الإنسانيّة. كانوا يعيشون، هناك، وما يزالون، مسؤولية هذه المحبّة الإنسانيّة.
فعسى ألاّ ينتقص أيّ فرد من هذه المسؤولية في ايّ مكان. ولتبقَ كاملة عند المشترعين والمربّين والكهنة. فكم من مجهول يجب أن أحيّي، وأُظهر عميق عرفاني لما نذر له نفسه، ولتضحيته التي لا تحدّ إذ أسهم في تثبيت هذه الحقيقة المسيحيّة الشخصانيّة.
إنّ الإنسان لا يمكنه أن يحقّق ذاته إلاّ بمقدار ما يعرف كيف يعطي ذاته للآخرين بتجرّد.
وبالإضافة إلى مراكز المشورة الزوجيّة ينبغي أن نشير إلى عمل التنشئة الذي أتمّه التعليم العالي. أذكر المعاهد التي أعرفها والتي أسهمت، في بعض الحالات، في إنشائها. أذكر، بنوع خاصّ، كرسيّ أستاذيّة علم الأخلاق في جامعة لوبلان الكاثوليكية، وبالأخصّ المؤسسة التي أنشئت، هناك، بعد رحيلي مباشرة، بإدارة بعض أقرب معاونيّ، في ذلك الوقت، وتلامذتي القدامى. كذلك أذكر الأستاذين تادوسز ستيكزن وأندرزج سزوستك. إن الشخص ليس، في الحقيقة، مادّة نظريّة مدهشة. إنه موجود في صميم السلوك الأدبي الإنساني؟
أمّا هنا، في روما، فلا يمكنني أن أهمل ذكر المؤسّسة التي أُنشئت، في الروحية ذاتها، في جامعة اللاّتران، والتي حرّكت مبادرات مماثلة في الولايات المتّحدة، وفي المكسيك والتشيلي، وفي بلدان أخرى. فالطريقة الأصحّ لخدمة قضيّة الأبوّة والأمومة المسؤولتين تقوم، بالضبط، على اكتشاف الأسس الخلقيّة والإحصائية. أمّا التعاون، في أيّ مجال آخر، بين الرعاة وعلماء البيئة والأطباء، فليس بهذه الضرورة.
وفي غمرة هذا الجدل بين المفكرين المعاصرين أودّ أن أنوّه باسمٍ على الأقل، ألا وهو اسم عمانوئيل لافيناس الذي يمثّل أحد تيّارات الشخصانيّة المعاصرة، وفلسفة الحوار، ومثله مارتين بوبر، وفرانز روزانزويج، فقد تسجّل في التقليد الشخصانيّ للعهد القديم، حيث توضّحت، بقوّة، العلاقة بين “الأنا” الإنسانيّة، و”الأنت” المطلقة السموّ والألوهة.
إنّ الله، الذي هو المشترع الأعظم، أعلن جهراً، من على جبل سيناء، هذه الوصية: “لا تقتل!” إنّ في هذا لأمراً خلقيّاً ذا طابع مطلق. فكما أخوته في الدين عانى لافيناس مأساة المعتقلات بعمق. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي من أجلها يعطي، لهذا الإيعاز الواضح، في الوصايا العشر، تفسيراً لافتاً مميّزاً. فبالنسبة إليه، تظهر حقيقة الفرد من خلال وجهه. وفلسفة الوجه تشكّل إرثاً من العهد القديم، وبالضبط، من المزامير وأسفار الأنبياء، حيث الكلام دائماً على “البحث عن وجه الله(1)”. فعبر الوجه يتكلّم الإنسان. ووجه كلّ إنسان، يمسي ضحيّة، يصرخ: “لا تقتلني!”. فالوجه الإنسانيّ والوصيّة: “لا تقتل” اتّحدا عند لافيناس، بصورة فائقة كشاهد على عصرنا، حيث تشرّع القتل برلمانات عديدة بسهولة لا تُصدق، على الرغم من كونها أنتُخبت ديمقراطيّاً! غير أنّه قد يكون من الأفضل ألاّ نُسهب أكثر في موضوع مؤلم بهذا المقدار.
الحواشي:
1) على سبيل المثال: المزمور 27 (26)، 8
هل يحوّلنا التعبّد لمريم عن المسيح؟
كلّ شيء لمريم، هذا هو شعار حبريّتكم. لقد اتّسم تعليمكم ونشاطكم بإحياء اللاهوت والتعبّد المريميّين استمراراً لتقليد كاثوليكيّ. فضلاً عن ذلك، فإنّ الحديث عن ظهورات لأمّ الله سرّية، ورسالات، يتزايد يوماً عن يوم. وقد أخذت جماهير تحجّ كما في القرن الماضي. فهل لقداستكم أن تقولوا لنا شيئاً في هذا الخصوص؟
كل شيء لمريم: لا يتعلّق الأمر، فقط، بصيغة ورع اصطلاحيّة، هي تعبير بالغ البساطة عن تعبّد ما. ولكنّه يتعلّق بأكثر من ذلك بكثير. فعندما كنت أشتغل كعامل في مصنع، إبّان الحرب العالمية الثانية، ترسّخ توجّهي نحو هذا التعبّد. وحتّى ذلك الوقت، بدا لي أنّه من الأفضل أن أترك مسافةً ما، بيني وبين ورع طفولتي المريميّ، لكي أركّز حياتي الروحيّة على المسيح. ولكنّي فهمت، بفضل القديس لويس – ماري غرينيون دومونفور (1)، أنّ التعبّد لأمّ الله الصحيح هو حقاً مسيحانيّ التركيز، متجذّر بعمق، في سرّ الثالوث، وفي سرّي الجسّد والفداء.
وهكذا عدت فاكتشفت الورع المريميّ باهتمام متجدّد؛ ولم تنقطع حالة التقوى هذه عن النضوج فيّ، فآتت ثمارها الظاهرة في الرسالة البابويّة “أم الفادي” كما في الرسالة الرعويّة كرامة المرأة.
ينبغي على كلّ منّا أن يعي أنّ التعبّد المريميّ لا يعبّر عن تحفّز في القلب، وميل عاطفيّ فحسب، بل يستجيب للحقيقة الموضوعيّة حول أم الله. فمريم هي حوّاء الجديدة التي أقامها الله قرب المسيح، الذي هو آدم الجديد، منذ البشارة، ثمّ ليلةَ الولادة في بيت لحم، وفي عرس قانا الجليل، وعلى أقدام الصليب في الجلجلة، وحتى في اجتماع الرسل يوم العنصرة: فأمّ المسيح الفادي هي أمّ الكنيسة.
لقد حقّق المجمع الفاتيكاني الثاني قفزة إلى الأمام أكان ذلك في ما يختصّ بالعقيدة أم في التعبّد المريميّ. ومن المستحيل أن نذكر، هنا، كاملاً، الفصل الثامن المدهش من الوثيقة المجمعية “نور الأمم”. وهذا ممّا يدعو إلى الأسف! فعندما كنت أشارك في المجمع، اكتشفت، بالتمام، خبرتي الشخصية في ماهيّة هذا المجمع، كذلك كلّ خبرتي السابقة منذ طور الفتوّة، وكلّ ما يجعلني أتّحد، بصورة فريدة، بأمّ الله، تحت أشكال دائمة التجدّد.
وكان أول شكل من أشكال اتّحادي بالعذراء القديسة، وأقدمها، صلاة طفولتي في كنيسة فادوفيس الرعائيّة، أمام صورة سيّدة المعونة الدائمة، المرتبطة بالتقليد الكرمليّ. هذه الصلاة فريدة في بلاغتها إذ تعتمد الرمزيّة الخصبة. ولقد اكتشفت ذلك، في مطلع شبابي، بفضل دير الكرمل القائم “على التلّة” في مسقط رأسي. كما كان عندي شكل آخر للتعبد المريميّ، ألا وهو الحجّ التقليديّ إلى كالواريا زابرزي دويسكا، وهي أحد المزارات التي تجذب جموعاً من الحجّاج، بخاصّة القادمين من جنوب بولونيا والجهة الأخرى من جبال الكربات. فمن خصائص هذا المقام السامي أنه غير محصور بعبادة مريم فحسب، بل هو مركز متعمّق بالمسيحانيّة؟
يتبعون، أولاً، في أثناء إقامتهم، “الدروب” التي هي درب الصليب، حيث يلاقي الإنسان مكانه الحقيقيّ، قرب المسيح بواسطة مريم. ومراحل الصلب موقعها في أعلى نقطة تشرف على الضواحي. والتطواف الكبير الذي يُقام كلّ سنة، قبل عيد انتقال العذراء، ليس سوى تعبير عن إيمان الشعب المسيحيّ: فأمّ الله تشارك، بطريقة فريدة، بالقيامة، وبمجد ابنها.
منذ طفولتي ارتبط تعبّدي المريميّ ارتباطاً وثيقاً بالبعد المسيحانيّ. وهذا، بالضبط، ما علّمنيه حجّاج كالورايا.
مظهر آخر كان الغالب، في جاسناكورا، وهو أيقونة العذراء السوداء. فعذراء جاسناكورا جليلة محترمة، منذ قرون، على أنّها مليكة بولونيا. إنّها حَرَمُنا الوطنيّ. وكان الشعب البولونيّ يأتي، ولا يزال، إلى سيّدته ومليكته طالباً العضد والقوّة الضروريّين لنهضته الروحية. فجسناكورا هي المكان الرمزيّ للكرازة الإنجيلية في الوطن كلّه. ولقد ارتبطت دائماً، بطريقة ما، الأحداث الهامّة، في تاريخ بولونيا، بهذا المكان. فهنالك، على تلك التلّة يتلخّص ماضي شعبي، وتاريخه المعاصر.
آمل في أن تساعد هذه الذكريات القليلة على فهم السبب الذي يدفع البابا الحالّي إلى التعبّد المريميّ، وبخاصّة، ما يدفعه كليّاً إلى الالتجاء لمريم وهو يردّد كل يوم: كلّ شيء لك.
الحواشي:
1)louis- marie grignion de montfort (1673 – 1716) رُسم كاهناً سنة 1700 وعيّن مرشداً لمستشفى بواتية، ثم واعظاً متجولاً. أسس مع “ماري لويز تريشت” marie louise trichet “جمعية بنات الحكمة”. أراد أن يجمع في جمعية مريمية كهنةً ومعلمي تعليم مسيحي. اكتشفت روحانيته المريمية المميّزة والعميقة في أيامنا. (تعليق الناشر).
ما هي مكانة المرأة في الحياة الاجتاعيّة؟
في رسالتكم البابويّة التي وضعتم لها عنواناً له دلالته: “كرامة المرأة” أردتم، في ما أردتم، أن تُظهروا كيف أنّ التعبّد الكاثوليكيّ لامرأة، هي مريم، أثّر على كامل الإشكاليّة الحاليّة للمرأة.
استطراداً لما سبق أن قلته، أودّ أن أتطرّق، الآن، إلى بُعدٍ آخر من العبادة المريميّة لا يُفسَّر بشكل تعبّد أو ورع فحسب، بل بموقف شامل من المرأة كما هي.
إذا كان عصرنا يتميّز، في المجتمعات الليبرالية بتصاعد مطّرد وفاعل لحركة تحرر المرأة، فهناك مبرّر لكي نفكّر بهذا التطوّر الذي يشكّل ردّة فعل ضد الانتقاص من الاحترام المتوجّب للمرأة. فكلّ ما كتبته عن هذا الموضوع، في رسالتي “كرامة المرأة” كنت أحمله في داخلي منذ أمد بعيد جداً. وحتى، إلى حدّ ما، منذ طفولتي. كذلك تأثّرت، بالتأكيد، بالمناخ السائد في فترة تنشئتي: إذ كان احترام المرأة، آنذاك، في ذروته، وبخاصّة كونها أمّاً.
أظنّ أنّ بعض النسويّة المعاصرة تجد جذورها في نقصان الاحترام الحقيقي للمرأة. والحقيقة المعلنة حول المرأة تختلف كلّياً. فاحترام المرأة وسحر سرّ الأنوثة كذلك الحبّ التعاهدي لله بالذات، وللمسيح، المعبّر عنه في الفداء، هذه كلّها عناصر لم تكن غائبةً عن حياة الكنيسة. يشهد على ذلك تقليد من الممارسات والعادات غنيّ، نرى العالم، ومع الأسف، محاولةً لتغييبه. فقد أضحت المرأة، في حضارتنا، سلعة متعةٍ.
إذاً، ما له دلالته، إلى أقصى حدّ، في هذا السياق، عودة لاهوت المرأة الصحيح إلى الظهور. فيُعاد اكتشاف جمالها الروحيّ، وإبداعها المتميّز، كما تُوضع الأسس الضرورية لاستعادة مكانتها الحقيقيّة في الحياة العائلية والمجتمعيّة والثقافية.
ولكي نتوصّل إلى كلّ هذا، علينا أن نلتفت من جديد نحو أمّ المخلّص. فوجه مريم والإكرام الذي يمكننا أن نقدّمه لها، سيكون لنا مصدراً عظيماً للوحي والإبداع.
لا تخافوا!
كما سبق أن جعلتمونا نفهم أنّه ليس من باب الصدفة أنّكم أصررتم على أن تبدأوا حبريّتكم بنداء كان له، وما يزال، دويّ عميق في العالم: “لا تخافوا!”
إنّها صرخة يمكن تأويلها بطرق مختلفة. فهل تجد قداستكم شرعيّةً الطريقة التي تقوم على الظنّ أنّ على الكثيرين من الناس أن يتعلّموا، من الإنجيل، ألاّ يخافوا أبداً؟ ففي الواقع كثيرون هم الذين يخشون أن تجعل بشرى الخلاص الجديدة حياتهم أكثر صعوبةً بسبب المتطلّبات التي يشعرون وكأنّها حِمْلٌ عليهم، بدل أن تكون تحريراً لهم.
عندما أطلقت النداء “لا تخافوا!” في الثاني والعشرين من تشرين الأوّل 1978، في ساحة القديس بطرس، لم أكن أعرف، بالتأكيد، إلى أين ستقودني هذه الكلمات أنا والكنيسة. فالرسالة، التي كانت تنقلها، صادرةً عن الروح القدس، هذا “المعزّي” الذي وعد به السيّد المسيح رُسله، أكثر مما هي صادرة عن الإنسان الذي تلفّظ بها. ولقد تسنّى لي، على مرّ السنين، أن أجدّد هذا النداء، أكثر من مرّة.
“فلا تخافوا!” هذه، يجب أن تؤخذ في مفهومها الأوسع. إذ كانت تشجيعاً للناس أجمعين، ليتغلّبوا على الخوف الذي توحيه حالة العالم المعاصر في الشرق كما في الغرب، وفي الشمال كما في الجنوب: لا تخافوا ممّا خلقتموه بأنفسكم، لا تخافوا من كلّ ما يمكن أن يرتدّ خطراً على الإنسان وقد سبّبه لنفسه! وبكلمة واحدة لا تخافوا من أنفسكم!
لماذا علينا ألاّ نخاف؟ لأنّ الله افتدى الإنسان! فعندما تلفظّت بهذه الكلمات، في ساحة القدّيس بطرس، كان يبدو لي بوضوح، وقت ذاك، أنّ على رسالتي البابويّة الأولى، وحبريّتي بكاملها، أن تقدّما حقيقة الفداء على كلّ ما عداها. على هذه الحقيقة تترسّخ عبارة: “لا تخافوا!” هذه، “إن الله أحب العالم حتى أنه جاد بابنه الوحيد” (1). وهذا الابن يظلّ في صميم تاريخ الإنسانيّة بصفته فادياً. فالفداء يَسمُ تاريخ الإنسانيّة كلّه، بما فيه التاريخ السابق للمسيح. فهو يهيّئ لمستقبل الإنسان الأخوريّ. هو هذا النور “والنور يشرق في الظلمات ولم تدركه الظلمات” (2). فقوّة صليب المسيح وقيامته هي أعظم من كلّ الشرّ الذي يمكن أن يخاف منه الإنسان، والذي عليه أن يخشاه.
وهنا، علينا أن نعود إلى الشعار: “كل شيء لك”. ففي أحد أسئلتك السابقة، كنت تستفسر عن أمّ الله، وعن الظهورات العديدة الخاصّة التي حدثت، خلال القرنين الأخيرين، على الأخصّ. ولقد أخبرتك كيف أنّ التعبّد لمريم نما في حياتي الشخصيّة، أولاً في مسقط رأسي، ثمّ في مزار كلاواريا، وبعدها في جاسناكورا. فجاسناكورا اقتحمت تاريخ وطني، في القرن السابع عشر كنوع من “لا تخافوا!” صادر عن المسيح، على لسان والدته. وعندما تسلّمت في الثاني والعشرين من تشرين الأوّل سنة 1978 الميراث الروماني كخليفة لبطرس، كانت تلك التجربة المريميّة التي عشتها على أرضي البولونيّة قد حُفِرَت، بعمق، في ذاكرتي.
“ما بالكم مضطربين!” قال المسيح لرسله (3) وللنسوة (4) بعد قيامته. ولا تخبرنا النصوص الإنجيلية أنّ مريم تلقّت أيضاً هذا التشجيع. وإذ كانت قوّية بإيمانها “فما كانت تخاف”. وإنّ تجربة بلدي هي التي أفهمتني، قبل غيرها، كيف شاركت مريم في انتصار المسيح. كذلك عرفت، مباشرة، من الكاردينال ويزنسكي (5)، أنّ سلفه الكاردينال أوغيست هلوند تلفّظ، قبل موته، بهذه الكلمات النبويّة: “إنّ النصر إذا ما أتى، أتى بواسطة مريم”.
لقد شهدتُ، في أثناء خدمتي الرعويّة، في بولونيا، تحقّق هذا القول. وإذ انتُخب بابا، وواجهت مشكلات الكنيسة كلّها، فإنّ هذا الشعور، هذا الاقتناع، أقام فيّ دائماً. لأنّ النصر، في هذا البعد الكونيّ أيضاً، إذا ما حصل، فإنّ مريم قد تحقّقه. المسيح سينتصر بمريم. وهو يريد أن تكون شريكته في انتصارات الكنيسة في عالم اليوم وعالم الغد.
كنت، إذاً، مقتنعاً بذلك في قرارة نفسي، حتى وإن كنت، في تلك الحقبة، أجهل كلّ شيء، تقريباً، عن “فاطيما”. كنت استشعر فقط أنّ في ذلك نوعاً من الاستمرارية، من “لاساليت” (6) في فاطيما، مروراً بـ”لورد” دون أن ننسى، في ماضٍ أبعد، جاسناكورا البولونيّة خاصتنا.
ثم حلّ الثالث عشر من أيار 1981. فعندما أصبت برصاصة مهاجمي، في ساحة القديس بطرس، لم يدر في خلدي، حينذاك، أنّنا نحتفل بذكرى اليوم الذي ظهرت فيه مريم للأولاد الثلاثة في “فاطيما” في البرتغال لكي تنقل إليهم الرسائل التي بدت، ونهاية العصر تقترب، على وشك أن تتأكّد بكلّيّتها.
ألم يتلفّظ المسيح، مرّة أخرى، “ما بالكم مضطربين!”، عند حَدَثٍ كهذا؟ ألم يردّد، في هذه المناسبة، رسالته الرعويّة، على نيّة البابا والكنيسة. وأبعد من ذلك على نيّة العائلة الإنسانيّة جمعاء؟
نحن، في نهاية الألف الثاني، نجد أنّنا بحاجة، أكثر من أيّ يوم مضى، لسماع هذه الكلمة للمسيح القائم من الموت: “ما بالكم مضطربين!”. إنّها ضرورة لإنسان اليوم الذي لا ينفكّ، حتى بعد سقوط الشيوعيّة، يخاف في قرارة نفسه، وخوفه له ما يبّرره. إنّها ضرورة للأمم التي تنبعث إذ تحرّرت من النير السوفياتيّ، غير أنّها ضرورة، أيضاً، للأمم التي تشهد، من الخارج، هذه التجربة. إنها ضرورة لكلّ الشعوب، ولكلّ الأمم في العالم كلّه. يجب أن يتحصّن، في ضمير كلّ كائن بشريّ اليقين أنّ هناك منْ يُمسِك بيديه مصير هذا العالم العابر. مَنْ بحوزته مفاتيح الموت والجحيم (7). مَنْ هو الألف والياء في تاريخ الإنسان (8) أكان فرديّاً أم جماعيّاً، وبخاصّة اليقين أن هذا هو المحبّة (9).
المحبّة تصنع الإنسان. المحبّة التي صُلِبَت وقامت من الموت. المحبّة الحاضرة أبداً بين البشر. إنّها المحبّة القربانيّة. فهي ينبوع المشاركة الذي لا ينضب. وهي وحدها التي يمكن أن نصّدقها ونؤمن بها من دون تحفّظ، عندما تطلب منّا ألاّ نخاف: “ما بالكم مضطربين!”.
إنّك تلاحظ أن الإنسان المعاصر يتضايق من العودة إلى الإيمان، لأنّ المتطّلبات الخلقيّة المترتبّة عليه والناجمة عنه، تخيفه. وخوفه هذا مبرّر إلى حدّ ما: بلى الإنجيل يرتّب متطلّبات. فالمسيح، من هذه الناحية، لم يعلّل بالأوهام تلاميذه ولا مَنْ كانوا يسمعونه، بل على العكس، هيّأهم، بعزم شديد، ليواجهوا كلّ أنواع التناقضات الداخليّة والخارجيّة من دون أن يستبعد أبداً إمكانيّتهم في أن يقرروا تركه. بيد أنه إذ يؤكّد الدعوة إلى عدم الخوف “ما بالكم مضطربين!” فإنّه لا يقول هذا ليقلّل من شأن هذه المتطلّبات بطريقة أو بأخرى، بل على العكس، إنّه يؤكّد بهذا حقيقة الإنجيل كلّها، والفرائض الناجمة عنها جميعاً. غير أنّه يُظهر، في الوقت عينه، أنّ هذه المتطلّبات لا تتجاوز قوى الإنسان. فإذا ارتضاها الإنسان، في إيمانه، وجد، عندئذٍ، في النعمة، التي لا يمنعها الله عنه، القوّة التي تسمح له بمواجهتها. والعالم يذجر ببراهين عن عمل هذه القوّة الفادية التي يبشّر بها الإنجيل بوضوح يفوق المتطّلبات الخلقيّة التي يفرضها. ففي العالم الكثير من الرجال والنساء الذين تشهد حياتهم أنّ من الممكن ممارسة كل ما تطلبه الخلقيّة الإنجيليّة! أضِفْ أن الخبرة تثبت أنّ الحياة البشرية لا يمكنها أن تنجح إلاّ على مثالهم.
إنّ قبولنا المتطلّبات الإنجيليّة معناه أن نتحمّل أبعاد إنسانيّتنا الخاصّة كلّها، فنتبّين فيها جمال ما رسمه الله، معترفين بواقع الضعف البشريّ كلّه، على ضوء سلطان الله بالذات: “ما يُعجِزُ الناس فإن الله عليه قدير” (10).
من غير الممكن أن نفصل بين الخلقيّة التي عرضها الله على الإنسان وخلقيّة المحبّة الفادية، أي عطيّة النعمة التي التزم الله، بمعنىً ما، أن يمنحها. فما هو الخلاص الذي حمله المسيح إن لم يكن هذا بالتحديد؟ الله يريد أن يخلّص الإنسان، وأن تكتمل الإنسانيّة بحسب المقياس الذي حدّده له بذاته. والمسيح استند إلى القول: إنّ النير الذي يضعه على كواهلنا لين، وحمله، في النهاية خفيف (11).
فدخول الإنسانيّة في الرجاء أساسيّ، من غير أن يتوقّف على عتبته، أو أن يُقاد إليه. أظنُ أنّ الشاعر البولونيّ الكبير نورويد، الذي كان يصف ما اكتشفه في صميم الكيان المسيحيّ، قد عبّر عن هذا الواقع أفضل تعبير إذ قال: “نحن لا نمشي خلف المخلّص الذي يحمل صليبه، بل خلف المسيح الذي يحمل صليبنا” (12) أرأيت لماذا يمكننا أن نصف الحقيقة، حول الصليب، “بالبشارة الجديدة”؟
الحواشي:
1) إنجيل يوحنا 3 / 16
2) إنجيل يوحنا 1 / 5
3) إنجيل لوقا 24 / 36
4) إنجيل متى 28 / 10
5) رئيس أساقفة بولونيا، أقالته السلطات الشيوعية من كرسيه وسجنته غداة الحرب العالمية الثانية. بعد وفاة ستالين أفرج عنه وعاد إلى مهامه السابقة. توفيّ بعد تنصيب ابنه الروحي، كارول فويجتيلا إلى السدة البابوية. (تعليق الناشر).
6) سنة 1846 في قرية “لاساليت” الصغيرة في جبال الآلب، في منطقة غرينوبل، ميلاني وعمرها 15 سنة ومكسيمان 11 سنة، رأيا سيدة جميلة طلبت منهما أن ينقلا رسالة توبة واهتداء روحي. (تعليق الناشر).
7) راجع رؤيا القديس يوحنا 1 / 18
8) راجع رؤيا القديس يوحنا 22 / 13
9) راجع رسالة يوحنا الأولى 4 / 8 – 16
10) إنجيل لوقا 18 / 27
11) إنجيل متى 11 / 28 – 30: “تعالوا إليَّ جميعاً أيها المرهقون المثقلون وأنا أريحكم، احملوا نيري وتتلمذوا لي فإني وديع متواضع
12) lettre à j.b. zleski, paris, le 6 janvier 1851
العبور إلى الرجاء
على ضوء ما تكرّمتم فقلتموه لنا، والذي نحن ممتنّون لكم به، هل علينا أن نستنتج أن أسباب الخوف من إله يسوع المسيح قد تناقصت عند الإنسان، أكثر من أيّ وقت مضى؟ وعليه، فهل يجدي “العبور إلى الرجاء” لنكتشف أنّ لنا أباً فنعترف أنّه يحبّنا؟
“رأس الحكمة مخافة الله” (1). هذا ما يؤكّده صاحب المزامير. اسمح لي أن أنطلق من هذا القول الكتابيّ لأجيب عن سؤالك الأخير: إنّ الكتاب المقدّس يتضمّن دعوة ملحّة، علينا التزامها وهي “مخافة” الله. ولا يتعلّق الأمر هنا بمطلق خوف، بل بهذا الخوف الذي هو عطيّة من الروح القدس. فبين عطايا الروح القدس التي يعدّدها إشعيا (2) يأتي الخوف من الربّ في الدرجة الأخيرة. لكنّ هذا لا يفترض أنه أقلّ أهميّة، لأنّ “رأس الحكمة مخافة الله” حقاً. والحكمة تحتلّ مركز الصدارة بين عطايا الروح القدس. لذا، وبخاصّة اليوم، علينا أن نتمنّى لو “يخاف” الله كلّ إنسان. كذلك يخبرنا الكتاب المقدّس أنّ هذه “المخافة” التي هي بداية الحكمة، لا علاقة لها بخوف المُستعبدَ. إنّها مخافة بنويّة لا مخافة عبوديّة. فالعلاقة الهيغليّة بين السيّد والعبد غريبة كلّياً عن الإنجيل. وهذا النوع من العلاقة يَسِمُ عالماً غابَ الله عنه. ففي عالم اليوم حيث الله موجود حقاً، وحيث تعمل الحكمة الإلهيّة، هناك فقط يمكن أن يُوجد الخوف البنويّ.
يُظهر لنا المسيح بالذات التعبير الأصدق والأخصب عن هذه “المخافة”. فهو يريد أن يجعلنا نستشعر الخوف من كلّ ما يسيء إلى الله. يريد ذلك لأنّه أتى إلى هذا العالم ليحرّر الإنسان. إنّها المحبّة التي تحرّر الإنسان لأنّها المصدر الأول لكلّ ما هو صالح. فمحبّة كهذه، بحسب مار يوحنا: “تطرد الخوف” (3). وكلّ مظهر للخوف العبوديّ، أمام السلطان الصارم لله الكليّ القدرة، يضمحل، ويفسح مكاناً للاهتمام البنويّ لكي تتحقّق في العالم إرادته، أي الخير الذي يجد فيه تعالى بدايته وكماله النهائيّ.
وهكذا فإنّ قدّيسي الأزمنة كلّها هم كتجسّد محبّة المسيح البنويّة التي هي، على غرار ما عند القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، محبّةٌ للخلائق جميعها، وفي الوقت نفسه، محبّة قوّة الصليب المنقذة التي تقيم في الخليقة توازناً بين الخير والشرّ.
فهل يحرّك، حقاً، هذا الخوف البنويّ، الذي هو، قبل كلّ شيء، محبّة، إنسان اليوم المعاصر؟ هناك متّسع لأن نعتبر، والدلائل متوافرة، أنّ النموذج الهيغليّ للعلاقة بين السيّد والعبد، يشغل، اليوم، حيّزاً أوسع في الضمائر ممّا تشغله الحكمة التي تجد بدايتها في مخافة الله البنويّة. فالنموذج الهيغلي يولّد فلسفة توازن القوى. فإذا كانت هناك ديناميّة يمكنها أن تصفّي هذه الفلسفة فهي، بالتأكيد، لن تكون إلاّ في إنجيل المسيح حيث تحوّلت، وبصورة جذريّة، علاقة السيد والعبد علاقة أبٍ بابنه.
هذه العلاقة، بين الأب وابنه، لا تنتمي إلى أيّة حقبة. إنّها أقدم من تاريخ البشر. فالأبوة التي تظهر بكامل ألقها تندرج في إطار السرّ الثالوثيّ لله، ومن هناك، تنير التاريخ الإنسانيّ بكامله. مع هذا، فقد صادف “تألق الأبوّة الإلهيّة”، في التاريخ، مقاومة أولى، كما يخبرنا الوحي: وهي حدث الخطيئة الأصليّة المظلم، ولكن البيّن في الوقت نفسه وهنا، عندنا المفتاح الحقيقيّ لتفسير الواقع. فالخطيئة الأصليّة ليست انتهاكاً لإرادة الله واضحاً فحسب، ولكنّها أعمق من ذلك بكثير، إنّها نفيّ لمخطّط خيّر يُلهم هذه الإرادة. وهكذا تقود الخطيئة إلى إلغاءٍ للأبوّة، وتحوّل، إلى ظلام، الإشعاع الذي ينير الكون المخلوق، وتجعل موضع شكّ حقيقة كون الله محبّةً، ولا تُعيد إلى وعينا سوى علاقات السيّد والعبد. إنّ الربّ يحاول، بغيرة، أن يحتفظ بسلطانه المطلق على العالم وعلى الإنسان. وهكذا يُدفع الإنسان إلى الثورة ضدّ الله. وكما خلال حقب التاريخ كلّها، يرى الإنسان نفسه وقد تحوّل إلى العبوديّة، مدفوعاً إلى الثورة ضدّ سيّده.
قد يغريني الأمر فأختصر جوابي عارضاً المفارقة الآتية: لكي يتحرّر الإنسان المعاصر من خوفه من ذاته، ومن العالم، ومن الآخرين، ومن قوى هذا العالم، ومن الأنظمة الضاغطة، ومن كلّ خوف استعباديّ في مواجهة هذه “القوّة الفائقة” التي يسميّها المؤمنُ الله، يجب، بكلّ بساطة، أن نتمنّى له أن يحمل في قلبه “مخافة الله” الحقيقيّة وينمّيها، هذه المخافة التي هي بداية الحكمة.
“مخافة الله” هذه ليست سوى قوّة الإنجيل المنقذة. وهي ليست هدّامةً أبداً. بل على العكس هي دائماً خالقة. تحثّ أناساً ينقادون بروح المسؤولية الملازمة للمحبة. وتحثّ قدّيسين، أي مسيحيّين حقيقيّين، وبهؤلاء يتعلّق المستقبل النهائيّ للعالم. ولقد كان أندريه مالرو على حقٍّ بالتأكيد، عندما قال إنّ القرن الحادي والعشرين قد يكون عصر التدّين وقد لا يكون. أمّا البابا الذي بدأ حبريّته هاتفاً: “لا تخافوا!”. فيحاول، من جهته، أن يبقى أميناً كليّاً لهذا التشجيع. وهكذا، فهو جاهز دائماً لخدمة الإنسان والأمم والبشريّة جمعاء، بروحيّة هذه الحقيقة الإنجيليّة.
الحواشي:
1) المزمور 111 (110)، 10
2) أشعيا 11 / 1 – 3. “ويخرج غصن من جذع يسَّى وينمي فرع من أصوله ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة ويوحي له تقوى الرب، فلا يقضي بحسب رؤية عينيه، ولا يحكم بحسب سماع اذنيه بل يقضي للضعفاء بالبر”. (استشهاد للناشر).
3) رسالة القديس يوحنا الأولى 4 / 18 – 19
“لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تنفي عنها الخوف، لأن الخوف يعني العقاب ومن يخف لم يكن كاملاً في المحبة”.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post