ارشاد رسولي
تألق الحقيقة
Veritatis splendor
البابا يوحنّا بولس الثاني
إلى
جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة
في
أسس تعليم الكنيسة في الأخلاق
أيُّها الإخوة الأجلاء،
سلام وبركة رسوليّة!
إن تألّق الحقيقة ينعكس في أعمال الخالق كلها، ولاسيّما في الإنسان المخلوق على صورة الله وكمثاله (راجع تكوين 1 / 26): الحقيقة تنوّر العقل وتضفي على حريّة الإنسان أصالتها، وبذلك تحمله على أن يعرف الرّب ويحبه. وفي هذا المعنى يصلي صاحب المزامير قائلاً: “أشرق علينا وجهك” (مز4 / 7).
مدخل
يسوع المسيح النور الحق الّذي ينير كل انسان
1- ان البشر المدعوين إلى الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح “النور الحق الّذي يُنير كل إنسان” (يو 1 / 9) يصيرون “نوراً في الرّب” و”أبناء النور” (أفسس 5 / 8) ويتقدّسون “بالطاعة للحق” (1 بط 1 / 22).
هذه الطاعة ليست دائماً سهلة. فإن في سرّ الخطيئة الأصليّة، التي اقترفها الإنسان بتحريض من الشيطان “الكذاب وأبي الكذب”(يو 8 / 44) سبب تعرّض الإنسان لتجربة تحويل أنظاره عن الله الحي والحق إلى الأوثان (انظر 1 تسا 1 / 9) “مستبدلاً الكذب بحقيقة الله” (روم 1 / 25)، حتى القدرة على ادراك الحقيقة يغشاها ظلام وتَهِنُ إرادة التقيّد بها، فينقاد هكذا للنظرة النسبية واللاأدرية للأمور ويروح ينشد حرية وهمية خارج نطاق الحقيقة.
لكن ماكان لغياهب الضلال والخطيئة أن تحجب كليّاً نور الله الخالق عن الإنسان. لذلك يظلُّ دائماً في أعماق قلبه الحنين إلى الحقيقة المطلقة والعطش لمعرفتها حق المعرفة. وإنَّ في بحث الإنسان الدؤوب في مختلف المجالات وفي شتّى القطاعات لدليلاً ساطعاً على ذلك، ويُبرز ذلك أكثر بعد في بحثه عن معنى الحياة. وما كان تقدّم العلم والتقنية، الشاهد العظيم على طاقات عقل البشر وتصميمهم، ليعفي البشرية من طرح الأسئلة الدينيّة الأساسيّة، بل يدفعها بالأحرى إلى مجابهة اقسى الصراعات وأحرجها، صراعات القلب والضمير.
2- ليس من يسعه التهرُّب من الأسئلة الأساسية: ماذا ينبغي لي أن أعمل؟ كيف أميّز بين الخير والشر؟ لاسبيل للجواب عليها الاّ على “نور الحقيقة المتألّق” الذي يُنير أعماق الروح البشريّة، يشهد بذلك صاحب المزامير بقوله:
“كثيرون يقولون: مَنْ يُرينا الخير. ارفع علينا نور وجهك ياربّ”(مز 4 / 7).
إن نور وجه الله يتألّق بكل بهائه في وجه يسوع المسيح “صورة الله الّذي لايُرى” (كول 1 / 15)، “وضياء مجده” (عبر 1 / 3)، المملوء نعمة، وحقاً” (يو 1 / 14)، وهو “الطريق والحق والحياة”(يو 14 / 6) وعليه فيسوع المسيح هو الّذي يُعطي الجواب على تساؤل الإنسان، ولا سيّما تساؤلاته في الدين والأخلاق، بل يسوع المسيح هو الجواب على حدّ ما يذكّر به المجمع الفاتيكاني الثاني: “إنّ سرّ الإنسان بالواقع لا ينجلي حقاً إلاّ في سرّ الكلمة المتجسّد. فإنَّ آدم الإنسان الأول كان رمز الآتي، المسيح الرّب. والمسيح سرّ الآب ومحبّته يُظهر مليّاً للإنسان ذاتيّته الحقة ويكشف له سمو دعوته”.ٰ
المسيح “نور الأمم” ينوّر وجه كنيسته التي يرسلها في العالم كلّه لتنادي بالإنجيل في الخليقة كلّها” (مر 16 / 15)(2).
والكنيسة، شعب الله مابين الأمم،³ الواقفة على تحديات التاريخ الجديدة والجهود التي يبذلها البشر في البحث عن معنى الحياة، تعرض على الجميع الجواب النابع من حقيقة يسوع المسيح وإنجيله. وللكنيسة دائماً شعور حيٌّ “بواجبها في تقصّي علامات الأزمنة في كل وقت وتفسيرها على نور الإنجيل، بحيث تستطيع أن تعطي كل جيل الجواب الملائم للأسئلة التي يثيرها الناس منذ القدم في معنى الحياة الحاضرة والمستقبلة وما بينهما من علاقات متبادلة”(4).
3- إن رعاة الكنيسة بالاشتراك مع خليفة بطرس يقفون في هذا الجهد إلى جانب المؤمنين، يرافقونهم ويقودونهم بسلطانهم التعليميّ، مستنبطين دائماً تعابير جديدة عن الحب والرّحمة، يتجهون بها ليس فقط إلى المؤمنين بل أيضاً إلى جميع ذوي النيّة الطيبة. ويظل المجمع الفاتيكاني الثاني شهادة منقطعة النظير على عذا الموقف الّذس تتخذه الكنيسة “الخبيرة بالإنسانية”(5) التي تتجنّد لخدمة كل إنسان وخدمة العالم أجمع (6).
تعرف الكنيسة أن المسألة الأخلاقيّة تتناول في العمق كل إنسان، وتعني جميع البشر، حتّى أولئك الّذين لا يعرفون المسيح ولا إنجيله ولا الله نفسه. وتعرف أن سبيل الخلاص على طريق الحياة هو بالواقع مفتوح أمام الجميع، كما أشار إلى ذلك بوضوح المجمع الفاتيكاني الثاني: “ان الّذين دون ذنب منهم يجهلون انجيل المسيح وكنيسته، ويطلبون الله مع ذلك بقلب مخلص ويحاولون بتأثير النّعمة أن يعملوا ما به بكملون إرادته كما يكشفها لهم ويميلها عليهم ضميرهم، هؤلاء يمكنهم بلوغ الخلاص الأبدي”، ويُضيف: “هؤلاء الّذين دون ذنب منهم ما بلغوا بعد معرفة الله الصريحة، ولكنّهم يعملون،لا بمعزل عن النّعمة الإلهية لا تحرمهم المساعدات اللازمة لخلاصهم. لأن كل ما يمكن أن يكون عندهم من صلاح وحق تعتبره الكنيسة استعداداً انجيلياً وعطيّة من ذلك الّذي يُنير كل انسان لتكون له بالنهاية الحياة(7).
غرض هذه الرسالة العامة
4- طالما عالج الأحبار الأعظمون، ولاسيّما في غضون القرنين الماضيين، وعَرضوا شخصياً أو مع مجمعهم الأسقفي، تعليماً اخلاقيّاً يتناول الحياة البشرية من جوانبها العديدة والمختلفة. باسم المسيح وسلطانه، وبدافع الأمانة لرسالتهم في النّضال من أجل الإنسان حضّوا ونقضوا وشرحوا وعزّزوا وسندوا وعزّوا وأسهموا، واثقين من عون روح الحق، في فهم أفضل للمتطلبات الأخلاقية في الشّأن الجنسي البشري، وشؤون العيلة والحياة الاجتماعيّة والإقتصاديّة، والسياسيّة. في تقليد الكنيسة وتاريخ الإنسانيّة يشكِّك تعليمهم تعمُّقاً مستمرّاً في فهم الشأن الأخلاقي(8).
إنما يبدو من اللازم اليوم أن نعود فنقرأ تعليم الكنيسة بمجمله من أجل التذكير ببعض حقائق أساسيّة في التعليم الكاثوليكي تتعرض للتشويه أو للرفض في الآونة الراهنة. فإنّ حالة جديدة برزت في المجتمع المسيحي ذاته الذي شهد انتشار شكوك واعتراضات كثيرة من الوجهة الإنسانيّة والنفسانيّة، والاجتماعيّة والثقافيّة، والدينيّة، حتى اللاهوتيّة بالذّات، حول تعاليم الكنيسة في الأخلاق. ولم تعد مسألة معارضات محدودة و ظرفية بل أنه طرحٌ للنقاش مركّز يشمل التراث الأخلاقي كله، يقوم على نظريات محددة تتصل بعلك الإنسان والأخلاق. وتنبت هذه النظريات متأثرة تاثراً سافراً تارةً، وتارةً مقنَّعاً، بتيارات فكريّة تصل الى حدّ قطع الصلة الضرورية والأساسية بين الحريّة البشرية والحقيقة. فيُرفَض تعليم الكنيسة المتّبع في الشريعة الطبيعية والطابع الشامل والصحيح الثابت الّذي يرتديه ما تأمر به. وتُعلن ببساطة بعض تعاليم الكنيسة في الأخلاق غير مقبولة. وتُعتبر السلطة التعليمية ذاتها أنها لا تستطيع التدخل في الشأن الأخلاقي الاّ “لحث الضمائر” و”لعرض القيم” التي لكل أحد أن يستلهمها فيما بعد، بشكل مستقل، في أخذ قراراته وخياراته في الحياة.
وتجدر الإشارة بنوع خاص إلى التباين القائم بين جواب الكنيسة المتعارف وبعض المقولات اللاهوتيّة حتى الشائعة في المعاهد الإكليريكية والكليات اللاهوتية، حول قضايا هي بالغة الأهمية بالنسبة للكنيسة وحياة المسيحيين الإيمانية، بل أيضاً بالنسبة لتعايش الناس بعضهم مع بعض.
ويذهب البعض إلى حذ التساؤل: هل إن وصايا الله المطبوعة في قلب الإنسان وهي مختصّة بعهد الله مع شعبه تصلح حقاً لتوجيه خيارات الأفراد والجماعات اليومية؟ هل يصح أن نُطيع الله وأن نُحب من ثَمّ الله والقريب، ونحن لا نحفظ هذه الوصايا الإلهية في كل الظروف؟ ويشيع إلى ذلك الرأي الذي يضع موضع الشك العلاقة الأساسية وغير المنفصمة التي ترتبط بطريقة متماسكة الإيمان بالواجب الأخلاقي كما لو كان مناطاً بالإيمان وحده قرارُ إنتمائنا لسلطات الكنيسة ووحدتها الداخلية، فيما تُقبل في المجال الأخلاقي تعددية الآراء والمسالك، منوطةً بوجدان كل أحد أو بمختلف الأجواء الإجتماعيّة والفكرية السائدة.
5- ولقد رأينا، في هذا الوضع القائم حالياً، كما سبقَ فأعلنّا في الرسالة الرسولية “روح الرب”، الصادرة في شهر آب سنة أف وتسعمئة وسبع وثمانين، بمناسبة مرور قرن على وفاة الفونس ماري دي ليغوري، أن نُحرر هذه الرسالة العامة التي ” تتبسط وتتعمث في معالجة مسائل تتصل بأصول اللاهوت الأخلاقي ذاتها” (9)، أصول تطعن فيها بعض مذاهب اللاهوت الأخلاقي في عصرنا.
إننا نحثكم جميعاً أيها الإخوة بالأسقفية المحترمون، الذين تحملون معنا مسؤولية الحفاظ على “التعليم الصحيح” (2 تيمو 4 / 3) لكي نركّز معاً بوضوح على بعض نقاط في التعليم هي حاسمة في مواجهة هذه الأزمة الحقيقية، لما تتفق عنه من صعوبات جمّة وخطيرة تكتنف ممارسة المؤمنين الأخلاقية، والشركة في الكنيسة، والوفاق والإستقامة في الحياة الإجتماعية.
وإذا كانت هذه الرسالة العامة، المنتظرة منذ زمن، لم تسلّم للطباعة الاّ اليوم، فذلك لأننا رأينا من الموافق أن يسبقها صدور كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي لأن فيه عرضاً كافياً وافياً للتعلين المسيحي في الأخلاق.
التعليم المسيحي يتناول حياة المؤمنين الأخلاقية في أصولها ومحتواها من مختلف الجوانب، كما ينبغي لحياة “أبناء الله” أن تكون: “فالمسيحيون الذين يعرفون بالإيمان شرف حالتهم الجديدة، يُدعون لأن “يسلكوا كما يليق ببشارة المسيح” (فيلبي 1 / 27). انهم بقبولهم الأسرار وبالصلاة ينالون نعمة المسيح ومواهب روحه التي تهيئهم لهذه الحياة الجديدة” (10). لذلك فإن هذه الرسالة العامة تعوّل على التعليم المسيحي “كمرجع صالح وموثوق به لعرض التعليم الكاثوليكي”(11)، فنكتفي بمعالجة أهم مسائل تعليم الكنيسة في الأخلاق، معالجة تتضمن تفنيداً لآراء يتداولها بعض رجال العلم في مسائل تتعلق بعلم الأخلاق واللاهوت الأخلاقي. هذا هو بالتحديد الغرض من هذه الرسالة العامة، بها نعالج المسائل المتداولة بعرض براهين التعليم في الأخلاق المتصلة بالكتب المقدسة والتقليد الرسولي الحي (12)، مسلِّطين الأضواء على مقدمات ونتائج هذه المشادات التي تترك أثرها على هذا التعليم.
الفصل الأول
“أيها المعلم، ماذا أعمل من الصلاح؟”
(متى 19 / 16)
المسيح والجواب على التساؤل في الأخلاق
“ودنا منه أحدهم” (متى 19 / 16)
6- إن حوار يسوع مع الشاب الغني الوارد في الفصل التاسع عشر من إنجيل القديس متى يوفر لنا أرضية صالحة لنعود فنسمع من فم المسيح ما يُزيل كل إبهام عن تعليمه في الأخلاق: “ودنا منه أحدهم وقال له: أيها المعلم الصالح ماذا أعمل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لِمَ تدعوني صالحاً؟.واحد هو الصالح. ان شئت أن تدخل الحياة إحفظ الوصايا. فقال له: وما هي؟ قال له يسوع:لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد شهادة زور، أكرم أباك وأمك وأحبب قريبك كنفسك. فقال له ذلك الشاب: هذه كلّها حفظتها فما ينقضي بعد؟ قال له يسوع: إن شئت أن تتكون كاملاً إذهب ة
وبِعْ مقتناك وأعطهِ للمساكين، فيكون لك كنز في السماء. وتعال اتبعني”
(متى 19 / 16 – 21) (13).
7- “وجاءَ أحدهم…” في هذا الشاب الذي لم يذكر انجيل متى اسمه ينبغي أن نرى كل إنسان يسعى، على وعي منه أو غير وعي، إلى المسيح، فادي الإنسان ويطرح عليه السؤال في القضية الأخلاقية. وهو الشاب، قبل أن يكون ذلك سؤالاً عن الشرائع التي يجب حفظها، بحث عن المعنى الكامل لحياته. وذلك فعلاً هو الهدف الخاص لكل قرار وعمل بشري والسعي الخفي والحافز الباطني الذي يحرّك الحرية. وما كان هذا السؤال في النهاية الاّ ليعبر عن التوق إلى الخير الأسمى الذي يجذبنا ويدعونا اليه. إنه صدى الدعوة الآتية من الله الذي منه انبثقت حياة الإنسان واليه تنتهي. ذلك هو البُعد الذي يحث المجمع الفاتيكاني أن لا يغيب عن السعي إلى التعمق في علم لاهوت الأخلاق، بحيث يبرز في معالجته قدر الدعوة السامية للغاية التي قبلها المؤمنون من المسيح(14)، الجواب الوحيد الذي يملأ رغبات قلب الإنسان.
ولقد أقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا “اللقاء” مع المسيح، لأنها هي “تسعى إلى هذا فقط أن يجد المسيح كل إنسان، لكي يكمل المسيح ايضاً مسيرة الحياة مع كل أحد” (15).
“أيّها المعلّم ماذا أصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟” (متى 19 / 16)
8- من صميم القلب خرج هذا السؤال الذي يوجهه الشاب الغني للمسيح، سؤال أساسي في حياة كل انسان يقتضي الجواب عليه، لأنّه يتعلّق بممارسة العمل الأخلاقي الصالح والحياة الأبديّة. إن من يتكلّم مع المسيح يعرف جيداً الصلة القائمة بين العمل الأخلاقي الصالح وتقرير مصيره. هو اسرائيلي تقي عاش، إذا جاز القول، في ظلّ شريعة الرّب.
ويمكننا أن نستخلص ممّا قاله ليسوع إنه لم يكن ليجهل البتة جواب الشريعة. الأرجح ان ما في شخص يسوع من جاذبية اثار فيه اسئلة جديدة في الصلاح الأخلاقي. وقد رأى أن لا بدّ له حقاً من الإتصال بذلك الذي بدأ كرازته بهذه الدعوة الجديدة الملحة والأساسية: “لقد تمّ الزمان وملكوت الله اقترب، توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1 / 15).
فلا بدّ لإنسان عصرنا من أن يلتفت إلى المسيح ليأخذ منه الجواب على الخير والشر.
هو المعلّم، القائم من الموت، الذي فيه الحياة وهو حاضر في كنيسته وفي العالم أجمع. يفتح الكتب (المقدسة) للمؤمنين، وباعلانه كل ما يريده الآب يعلّم الحقيقة في السلوك الأخلاقي. المسيح مبدأ تدبير الخلاص وقمته، الألف والياء في تاريخ البشرية، هو يكشف سرّ حالة الإنسان ودعوته الكاملة. لذلك “فالإنسان الذي يريد أن يعرف ذاته في العمق، لا يكتفي باعتبارات ومعايير في حياته مرتجلة وجزئية وفي الغالب خارجية بل ظاهرية فقط، بل يجب عليه أن يسلّم ذاته إلى المسيح مع قلقه وشكوكه، مع ضعفه وشرّه، ومع حياته وموته. ينبغي له أن يدخل في المسيح، إذا جاز القول، مع كل ما هو عليه. عليه أن يضطلع ويلتزم بحقيقة التجسد والفداء كلها، لكي يعود فيجد نفسه. هذا الخط اذا أكمل الإنسان المسيرة عليه، فإنه ينعم ليس فقط بعبادة الله بل أيضاً بمشاهدته”(16).
فإذا شئنا أن نتعمّق في فهم تعليم الإنجيل في الأخلاق، وادراك محتواه السامي والذي لا يتغيّر، علينا أن نتفحّص بدقة معنى سؤال الشاب الغني في الإنجيل، وأكثر منه معنى جواب يسوع كما يهدينا هو اليه. فيسوع بثاقب معرفته ما في الإنسان يجيب وكأنه يقود الشاب بيده خطوة إلى معرفة الحقيقة الكاملة.
“واحد هو الصالح” (متى 19 / 17)
9- قال يسوع: “لم تسألني عن الصلاح؟ واحد هو الصالح. إن شئت أن تدخل الحياة إحفظ الوصايا” (متى 19 / 17). أمّا في رواية الإنجيليين مرقس ولوقا فالسؤال وارد هكذا: “لمَ تدعوني صالحاً؟ لا صالح إلاّ الله وحده” (مر 10 / 18 انظر لو 18 / 19).
إن المسيح قبل أن يردّ على السؤال يدعو الشاب إلى أن يَعي بوضوح في ذاته السبب الذي يدفعه إلى طرح السؤال. “فالمعلم الصالح” يُعلن للذي يسأله – ولنا نحن أيضاً – ان الجواب على السؤال: “ماذا أفعل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟” لا يمكن أن نجده إلاّ بتوجيه روحنا وقلبنا نحو من هو “وحده صالح”: “لا صالح الاّ الله وحده” (متى 10 / 18 انظر لو 18 / 19). فالله وحده يمكنه أن يجيب على السؤال في الصلاح، لأنّه هو الصالح.
فالبحث عن الصلاح يَعني بالفعل التوبة إلى الله، كمال الصلاح. ويُبيّن يسوع أن السؤال الذي يطرحه الشاب على نفسه هو بالواقع سؤال ديني قبل كل شيء. والصلاح الذي يستهوي الإنسان، ويلزمه في آن معاً، ينبع من الله بل هو الله نفسه، الذي وحده هو أهل لأن “يُحب من كلّ القلب وكل النفس وكل الفكر” (متى 22 / 37)، وهو منبع سعادة الإنسان. يسوع يردّ الفعل الصالح إلى جذوره الدينية، إلى الاعتراف بالله، الصلاح الأوحد، ملء الحياة الأبدية، غاية العمل البشري الأخيرة، والسعادة الكاملة.
10- إن الكنيسة المتثقفة بكلام المعلّم تَعتبر أن الإنسان المصنوع على صورة الخالق، المُفتدى بدم المسيح، والمُقدّس بحضور الروح القدس، غايته الأخيرة هي في أن يكون “للإشادة بمجد” (أفسس 1 / 12) الله، مهتماً في أن يعكس بهاءَه في كل عمل من أعماله: “إعرفي ذاتك اذن ايتها النفس الجميلة، إنك صورة الله”، يكتب القديس امبروسيوس. إعرف نفسك إيها الإنسان إنك مجد الله (1 قور 11 / 7). واسمع كيف تكون انت مجدُ الله. يقول النبي: “معرفتك صارت عجيبة فوق طاقتي” (مز 138 / 6)، ذاك يعني أن جلالك في أعمالي أعجب وفي مشورة الإنسان يُبشر بحكمتك. وفيما أتأمل في ذاتي، أنا مَن تَعرف أنتَ أفكاري الخفيّة ومشاعري الباطنيّة، أدرك اسرار حكمتك. أعرف إذن ذاتك أيها الإنسان كم أنت عظيم واسهر على ذاتك.”(17)
يَتضح للإنسان من هو وما عليه أن يفعل عندما يُظهر الله نفسه. فالوصايا العشر ترتكز على هذه الكلمات: “أنا الرّب إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر، من دار العبوديّة، لا يكنْ لكَ آلهة أخرى تجاهي” (خروج 20 / 2 – 3). في كلمات العهد مع إسرائيل العشر وفي الشريعة كلها يظهر الله أنه يُريد أن يُعرف ويُعترف به أنه هو “وحده الصالح” ومن وحده، برغم خطيئة الإنسان، يظل “المثال” الأعلى للمسلك الخُلقي الذي تُعبر عنه الوصية: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس ربكم وإلهكم” (أحبار 19 / 2) والذي يظل أميناً في محبته للإنسان، فيعطيه شريعته (أنظر خروج 19 / 9 – 24 و 20 / 18 – 21) لكي يرده إلى الوفاق الذي كان قائماً في البدء بينه وبين الخالق والكون كله، وبخاصة لكي يُدخله في محبته: “وأسير بينكم، وأكون إلهكم وتكونون لي شعباً” (أحبار 20 / 12).
ويبدو الإلتزام بالحياة الأخلاقية كجواب مبادرات حب الله المجانية الكثيرة للإنسان. إنه جواب الحب، على حد ما جاء في سفر تثنية الإشتراع عن الوصية الأولى: “اسمع يا إسرائيل إن الرب إلهنا ربّ واحد، فأحبّ الربّ إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك، ولتكن هذه الكلمات التي آمركَ بها اليوم في قلبكَ، وكررها على بنيك” (تثنية 6 / 4 – 7). وهكذا فالحياة الأخلاقية المتضمنة في هبة حب الله المجاني، تعكس مجد الله: “مَن أحبَّ الله يكفيه أن يُرضي من يُحب، فليس مكافأة ننتظرها أعظم من المحبة ذاتها. فالمحبة هكذا تأتي من الله، لأن الله نفسه هو المحبة” (18).
11- القول إن الله وحده صالح يردّنا إلى لوح الوصايا الأولى الذي يَدعونا لأن نعترف بالله رباً واحداً ومتعالياً ونؤدي له وحده العبادة لأجل قداسته اللامتناهية (انظر خروج 20 / 2 – 11). فالصلاح هو أن نكون لله ونطيعه، وأن نسير أمامه بتواضع ونحن نصنع البرَّ ونحب الرحمة (انظر ميخا 6 / 8). ولأن نَعرِفَ الرب إلهاً لنا هو من الشريعة الرأس والأساس والقلب، منه تصدر وإليه تتجه الوصايا الخاصة. وبممارسة الوصايا الأخلاقية يبرز اختصاص شعب اسرائيل بالرب لأن الله هو الصالح وحده. تلك هي شهادة الكتب المقدسة، كل صفحة منها تنضح بالشعور الحي بقداسة الله المُطلقة: “قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود” (اشعيا 6 / 3).
لكن إذا كان الله هو الصلاح، لا يستطيع إنسان بجهده الخاص، حتى في سعيه للحفاظ التام على الوصايا، أن “يتمِّم” الشريعة، أي أن يعترف بالرب إلها ويُؤدي العبادة التي تجب له وحده (انظر متى 4 / 10). “تتميم” الشريعة لا يمكن أن يكون إلا عطية إلهية. إنها تقدمة الشركة مع الصلاح الإلهي الذي تجلى واكتمل في يسوع، من دعاه الشاب الغني بقوله “أيها المعلم الصالح” (مر 10 / 17 و لو 18 / 18). وإن ما استطاع لربما أن يلمحه لمحاً فقط سينكشف له في النهاية جلياً، بدعوة يسوع له: “تعال اتبعني”.
“إن شئت أن تدخل الحياة، إحفظ الوصايا” (متى 19 / 17)
12- الله وحده يستطيع أن يُجيب على السؤال عن الصلاح، لأنّه هو الصلاح. بَيدَ أن الله سبق فأجاب على هذا السؤال: فَعلَ ذلك يوم خَلَقَ الإنسان، وأعدّه بحكمة ومحبّة للغاية التي لإجلها خُلِقَ، بشريعةٍ مكتوبةٍ في قلبه (انظر روم 2 / 15)، “الشريعة الطبيعة” وما هذه إلاّ “نور العقل الذي أفاضه الله فينا، به نَعرفُ ما علينا أن نعلمه وما علينا أن نتجنّبه. نور وشريعة منحها الله للإنسان حين خَلقَه” (19). وهذا ما دأب عليه فيما بعد، في تاريخ اسرائيل، وبالأخص “بالكلمات العشر”، أو الوصايا في سينا، يها ثبَّتَ وجود شعب العهد (انظر خروج 24) ودعاه ليكون له “خاصة من جميع الشعوب” شعباً مقدساً” (انظر خروج 19 / 5 – 6)، يجعل نور قداسته يتألَّق بين الأمم (انظر الحكمة 18 / 4 وحزقيال 20 / 41). وعطية الوصايا العشر هي وعد العهد الجديد وعلامته، فيه ستُكتَب الشريعة من جديد في قلب الإنسان (انظر ارميا 31 / 31 -34)، وتحلّ محلّ شريعة الخطيئة التي أفسدت ذلك القلب (انظر ارميا 17 / 1)، فيعطي حينئذ “قلباً جديداً” لأن “روحاً جديداً” سيحل فيه هو روح الله (انظر حزقيال 36 / 24 – 28) (20).
لذلك بعد التوضيح الهامّ “واحد هو الصالح” قال يسوع الشاب: “إن شئتَ أن تدخل الحياة. إحفظ الوصايا” (متى 19 / 17) وبذلك يُعبّر صراحة عن العلاقة الوثيقة بين الحياة الأبدية والعمل بالوصايا الإلهية. فوصايا الله تُهدي الإنسان إلى طريق الحياة وتُوصله إليها. من فم المسيح نفسه، موسى الجديد، تُعلن للبشر ثانية الوصايا العشر وهو يثبتها نهائياً ويضعها أمامنا كطريق وشرط الخلاص. والوصية مرتبطة بوعد. موضوع الوعد في العهد القديم كان أرضاً يملكها الشعب ويعيش فيها بحرية وحسب البر. (انظر تثنية 6 / 20 – 25). أمّا في العهد الجديد فموضوع الوعد “ملكوت السماء”، كما أعلن يسوع في “العظة على الجبل” – عظة تحوي الصيغة الأشمل والأكمل للشريعة الجديدة (متى 5 / 7)، المتفقة اتفاقاً جلياً مع الوصايا العشر التي سلّمها الله لموسى على جبل سينا. وتتطابق العبارة “الحياة الأبدية” مع مضمون كلمة ملكوت، أنها الإشتراك بحياة الله ذاته، شركة تبلغ كمالها فقط بعد الموت، بيد انها بالإيمان منذ الآن، نور الحق، ومصدر معنى الحياة، وهي بدء الاشتراك بالملّ في أتباع المسيح. يترك بيوتاً أو إخوةً أو أخوات أو أباً أو أماً أو إمرأةً أو بنين أو حقولاً لأجل إسمي ينال عوض الواحد مئة ويرث حياة الأبد” (متى 19 / 29).
13- لم يكتفِ الشاب بجواب يسوع، فراح يسأل المعلّم عن الوصايا الواجب حفظها قال له: “ماهي” (متى 19 / 18) يسأل عما يجب عليه أن يفعله في الحياة لكي يظهر أنه معترف بقداسة الله. أمّا يسوع فبعد أن حوّل فكر الشاب إلى الله، ذكّره بالرسوم التي في الوصايا العشر تتعلّق بالقريب. “قال يسوع: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد شهادة زور، أكرم أباك وأمك وأحبب قريبك حبّك لنفسك” (متى 19 / 18 -19).
من سياق الحديث وخاصة من المقابلة بين النص الوارد عند متى والنصوص الموازية عند لوقا ومرقس، يتضح أن يسوع لم يكن يَنوي أن يُعدد واحدة واحدة كل الوصايا الضرورية “لدخول الحياة”، بل بالأحرى أن يشدّ الشاب إلى “نقطة الارتكاز” في الوصايا العشر بالنسبة لكل وصية أخرى، الا وهي ما تعنيه للإنسان الآية: “أنا الرب الهك”. لا يمكننا اذن أن نغفل عن أحكام الشريعة التي يذكّر الرب بها الشاب وهي عداد وصايا ما يسمونه “اللوح الثاني” من الوصايا العشر التي (انظر روم 13 / 8- 1) يختصرها ويكملها بوصيّة محبة القريب: “أحبب قريبك حبّك لنفسك” (متى 19 / 19 ومر 12 / 31). ففي هذه الوصية تَبرز كرامة الشخص البشري الخاصة لكونه “الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها” (21). وما وصايا الله المختلفة سوى ترديد للوصية الواحدة المتعلقة بخير الشخص البشري، كما أن تعدد المواهب عنده يُعبر عن ماهية طبيعته الروحية والبشرية التي تتصل بالله وبالقريب وسائر مخلوقات الكون، على حدّ ما جاء في تعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي: “إن الوصايا العشر هي وحي الله، ولكنها تعلّمنا بالوقت ذاته ماهية انسانية الإنسان. تسلط الضوء على الواجبات الأساسية وبوجه غير مباشر اذن على الحقوق الأساسية الملازمة لطبيعة الشخص البشرية” (22).
الوصايا التي ذكّر يسوع بها الشاب الذي تكلّم معه تؤمّن صالح الشخص البشري، صورة الله، بتأمين كل ما يؤول لخيره: “لا تقتل، لا تزنِ،لا تسرق، لاتشهد شهادة زور” وهي كلها مبادئ أخلاقية يُعبّر عنها بأسلوب النهي.
إن الوصايا الناهية تعبر بشكل أقوى عن واجب بديهي لا يُمَسْ، واجب الحفاظ على الحياة البشرية، والشركة التي تُوحِّد الزوجين والملكية الخاصة، والصدق والصيت الحسن.
الوصايا إذاً هي الشرط الأساسي لمحبة القريب وهي محك لها. وتشكل المرحلة الأولى في الطريق المؤدي إلى الحرية وبدايتها. لقد كتب القديس أغسطينوس يقول: “الحرية الأولى إذن هي في تجنب المعاصي… كالقتل، والزنى، والتدنس بالفسق، والسرقة، والغش، وانتهاك القدسيات وما شابه ذلك. وإذا أخذ الإنسان يتجنب الوقوع فيها (وكل إنسان مسيحي يجب أن يتجنبها) يأخذ يتطلّع إلى الحرية، إنما تلك بداية حرية لا حرية كاملة” (23).
14-بَيْدَ أن ذلك لا يعني أن المسيح يُريد محبة القريب أن تسبق محبة الله أو أن تفترق عنها. العكس هو الصحيح كما يتضح من حواره مع معلم الشريعة. يطرح عليه هذا سؤالاً شبيهاً بسؤال الشاب فيُحيله يسوع على وصيّتي محبة الله ومحبة القريب (لو 10 / 25- 27)، مذكّراً بأن في حفظها فقط بلوغ الحياة الأبدية: “أفعل هذا تحيَ” (لو 10 / 28). وممّا يُلفت النظر أن تكون الوصية الثانية بالتحديد هي التي أثارت فضول معلّم الشريعة وجعلته يسأل: “من هو قريبي؟” (لو 10 / 29). فأجابه المعلّم بمثل السامري الصالح، المثل المفتاح لفهم وصيّة محبة القريب (انظر لو 10 / 20 – 37).
هاتان الوصيتان اللتان “بهما تتعلّق الشريعة كلها والأنبياء” (متى 22 / 40) هما متداخلتان ومرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، وعلى وحدتهما التي لا تنحلّ يشهد المسيح بتعليمه وبحياته. وقد بلغت رسالته هذه الذروة على صليب الفداء (انظر يو 3 / 14 – 15)، علامة حبه الذي لا يتجزأ لأبيه وللجنس البشري معاً (انظر يو 13 / 1).
هذا ويؤكدّ بوضوح كل من العهدين القديم والجديد اننا لا يمكننا أن نحبّ الله محبة حقيقية بدون محبة القريب التي تتم بحفظ الوصايا. وهذا ما يركّز عليه القديس يوحنا بإلحاح في رسالته: “إذا قال أحد إنني أحب الله وهو يُبغض أخاه كان كاذباً لأن من لايُحب أخاه الذي يراه لا يُمكنه أن يحبّ الله الذي لا يراه” (يو 4 / 20).
لهذا يتفق الإنجيلي مع تعليم المسيح الأخلاقي كما يعبّر عنه بشكل رائع لا لبسَ فيه بمثل السامري الصالح (انظر متى 25 / 31 – 46).
15- في العظة على الجبل التي تُعتبر شرعة الإنجيل الأخلاقية (24)، يقول يسوع: “لا تَظنوا أني جئت لأحلّ الشريعة والأنبياء، ما جئت لأحلّ بل لأُكمّل” (متى 5 / 17). يسوع هو مفتاح الكتب المقدسة: “تفحصوا الكتب … إنها تَشهَد لي” (انظر يو 5 / 39). إنه هو محور التدبير الخلاصي، جامع العهدين القديم والجديد، ومحور الشريعة وتكميلها في الإنجيل، وهو الرباط الحيّ والأبدي بين العهد القديم والجديد. في شرح كلام بولس المسيح: “المسيح غاية الشريعة” (روم 10 /4) كَتَبَ القديس امبروسيوس يقول: “في المسيح لا زوال الشريعة بل كمالها، لأنّه أتى لا ليحلّ الشريعة بل ليكملها. فكما انه يوجد عهد قديم، ولكن الحقيقة كلها في العهد الجديد، كذلك فالشريعة التي أُعطيت على يد موسى هي صورة الشريعة، فشريعة موسى إذن هي النموذج الأول للحقيقة” (25).
لقد كمّل يسوع وصايا الله وبخاصة وصيّة محبة القريب برفع موجباتها إلى أعلى وأسمى المبررات: حبّ القريب ينبع من قلب يحب ولأنه يحب فهو أهلٌ لأن يضطلع بأسمى الموجبات. ويُوضح يسوع أن الوصايا يجب الاّ تؤخذ كغاية أدنى لا يجب تجاوزها بل كخطوة منفتحة على المسيرة الروحية والأخلاقية نحو الكمال، الحبُّ روحها (انظر كولوسي 3 / 14). هكذا تَصير الوصية “لا تقتل” دعوة إلى حبّ يَعطف على حياة القريب، يحميها ويغذيها. والوصية التي تحرّم الزنى تَصير دعوة إلى نظرة محتشمة إلى الجسد تحترم فيه معنى الزواج: “سمعتم انه قيل للأولين: “لاتقتل”، كل من يقتل يستوجب الإدانة. أمّا أنا فأقول لكم: من يغضب على أخيه يستوجب الإدانة… سمعتم أنه قيل: “لاتزنِ”، أمّا أنا فأقول لكم: كل من نَظرَ إلى أمرأة واشتهاها فقد زنى بها للحال في قلبه” (متى 5 / 21 – 22 و 27 – 28). ويسوع هو كمال الشريعة الحيّ لأنه يحقق معنى الشريعة الأصيل بتقدمة ذاته صار هو الشريعة الشخصية الحيّة، يدعو إلى تقفي خطاه، ويُعطي بروحه نعمة الإشتراك في حياته ويمنح الحبّ والقوة للشهادة له في خيارات الحياة والأفعال (انظر يو 13 / 34 – 35).
“إن شئتَ أن تكون كاملاً” (متى 19 / 21)
16- لم يكتفِ الشاب بالجواب عن الوصايا، فسأل يسوع: “هذه كلها حفظتها، فما ينقضي بعد؟” (متى 19 / 20). إنه ليصعب على من يُقدّر تقديراً صحيحاً وزن المستلزمات التي تفرضها شريعة الله أن يؤكد براحة ضمير: “هذه كلها حفظتها”. لكن ومع ذلك أعطى مثل هذا الجواب وقد حَفِظَ منذ صباه بثبات وسخاء نفس أفضل نوع من الحياة الأخلاقية، فقد فهم ذلك الشاب الغني أنه بعيد جداً عن الغاية: شعر أمام يسوع بأن شيئاً ينقصه. هذا الشعور بالنقص زاده يسوع عند الشاب بجوابه الأخير، فيه يستفيد من توقه إلى كمال يتجاوز الشرح المعوّل عليه للوصايا، لكي يدعوه إلى الدخول في طريق الكمال: “إن شئتَ أن تكون كاملاًَ إذهب وبِعْ ما تقتنيه وأعطهِ للمساكين فيكون لكَ كنزٌ في السماء وتعالَ اتبعني” (متى 19 / 21).
هذا المقطع من جواب يسوع ينبغي لنا أن نقرأه ونفسره مثل المقطع السابق، في سياق بشارة الإنجيل الأخلاقية الشاملة وبخاصة العظة على الجبل في التطويبات (انظر متى 5 / 3 – 12) وأولها بالواقع تطويب الفقراء، “الفقراء بالروح” كما يحدّد متى (5 / 8) أي المتواضعين.
ويُمكن من هذا القبيل التأكيد على أن التطويبات هذه أيضاً واردة في جواب يسوع على سؤال الشاب “ماذا أفعل من الصلاح لأرث الحياة الأبدية؟”. فإن كل طوبى هي وعد، من وجهة نظر معينة، “بالصلاح” الذي يفتح للإنسان باب الحياة الأبدية، بل هو الحياة الأبدية.
التطويبات ليس من شأنها وضع قواعد خاصة للسلوك، إنما تتناول مواقف ورغبات أساسية في الحياة، لذلك لا يُمكن مساواتها بالوصايا. وفيما عدا ذلك لا إنفصال ولا تناقض بين التطويبات والوصايا، فجميعها تتعلق بالصلاح، بالحياة الأبدية. العظة على الجبل تبدأ بإعلان ثماني تطويبات ولكنّها ترتبط في محتواها بالوصايا (انظر متى 5/20- 48) وفي الوقت نفسه تُظهِر هذه العظة انفتاح الوصايا واتجاهها نحو الكمال، المختص بالتطويبات. هذه هي قبل أي شيء وعود عليها ترتَّبت بوجه غير مباشر أحكام المسلك الخلقي. وهي في جذورها العميقة مثل صورة للمسيح رسمها هو ذاته وهي من هذا القبيل دعوات للسير في إثره ولشركة حياة معه(26).
17- إننا لا نعرف إلى أي مدى فَهِمَ شاب الإنجيل كلمات يسوع العميقة والخطيرة في جوابه الأول له: “إن شئتَ أن تدخل الحياة احفظ الوصايا”. لكن من المؤكد أن الالتزام الذي يُظهره الشاب بحفظ الرسوم الأخلاقية كلها هي الحق اللازم لنمو ونضوج الرغبة في الكمال أي في تحقيق معناها بالسير في خطى المسيح. إنّ حوار يسوع مع هذا الشاب يساعدنا على فَهم شروط النمو الخُلقي عند الإنسان المدعو إلى الكمال، فالشاب الذي حفِظَ الوصايا بانَ غيرَ مؤهلٍ، بقواه الخاصة، لأن يقوم بالخطوة التالية التي لا بدّ للقيام بها من أن ينعم الإنسان بحرية ناضجة: “إن شئتَ” وبموهبة النعمة الإلهية: “تعال اتبعني”.
إن الكمال يتطلب هذا النضج في عطاء الذات الذي تُدعى إليه حرية الإنسان. لقد عيّنَ يسوع الوصايا للشاب كشرط أول لا بدّ منه لتكون له الحياة الأبدية، بينما يتضمن ترك كل ما يقتنيه الشاب والسير وراء الرب ما يشبه الشرط: “إن شئتَ”. إنّ كلام يسوع يُبرز قوة الدفع التي تُنمّي الحرية حتى تبلغ نضجها وتؤكد الرباط القائم بين الحرية والشريعة الإلهية. فحريّة الإنسان وشريعة الله لا تتنابذان بل تتجاذبان. إنّ تلميذ المسيح يعرف أنه مدعوّ للحرية: “أما أنتم يا إخوتي فإلى الحرية دُعيتم” (غلا5/ 13)، كما يُعلن بولس الرسول بفرح واعتزاز. ولكنّه يُوضح للحال: “فلا تكن حريّتكم فرصة للجسد بل ليخضع بعضكم لبعض بالمحبة” (غلا5/ 13). إن الحزم الذي به يجابه بولس أولئك الذي يَحسبون أنهم يتبررون بأعمال الشريعة لا شأن له مع “تحرير” الإنسان بالوصايا لأنها، بالعكس، في خدمة ممارسة المحبة. “مَنْ أحبّ قريبه فقد تمم الشريعة. لأن الوصايا التي تقول: “لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشتهِ وسواها من الوصايا تكتمل كلها بهذه الكلمة: أحبب قريبك حبك لنفسك” (روم 13/ 8- 9).
إن القديس أغوسطينوس نفسه في حديثه عن ممارسة الوصايا، يعتبرها حريّة أولى غير كاملة، ويردف قوله: “ورُبَ قائلٍ: لماذا هي ليست حرية كاملة؟ “لأني أرى في أعضائي شريعة أخرى تُقاوم شريعة ضميري”… فالحرية من جهة والعبودية من جهة، فلا حرية كاملة، لا خالصة ولا مليئة، لأن لا أبدية بعد. فنحن نُعاني الضعف من جهة، ومن جهة أخرى قد قَبِلنا الحرية. كل ما هو خطيئة منا، زال قبلاً بالعماد. ألأنَّ الذنب زال زال معه كل ضعف؟ لو أنه كان زال لَكُـنّا اليوم نعيش بلا خطيئة. لكن من يجرؤ على قول ذلك غير المتكبّر. غير من لا يستحق رحمة التحرير؟… إذن لأننا لا نزال على بعض الضعف، يمكنني القول أننا بقدر ما نخدم الله نحن أحرار، وبقدر ما نخدم شريعة الخطيئة لا نزال عبيداً” (27).
18- مَن “يخضع للجسد” يحسّ بشريعة الله عليه حملاً ثقيلاً، بل نقضاً أو في أي حال انتقاصاً لحريته الخاصة. ومَن بالعكس ينقاد للحبّ “ويسير بالروح” (انظر غلا 5/ 16) ويرغب في خدمة الغير، يجد في شريعة الله السبيل الأساسي اللازم لفعل المحبة بحريّة الخيار والممارسة. بل يشعر في داخله باندفاع – “بضرورة” حقة ولا اضطرار- لأنه لا يكتفي بممارسة أحكام الشريعة غير المهمة كثيراً، بل لأن يحفظ هذه الوصايا في العمق كلها. وإنها لَمسيرة حائرة ومتعثرة طالما نحن عائشون على الأرض، لكن يُمكن أن نكمّلها بالنعمة التي تجعلنا نحصل على حرية أبناء الله الكاملة (روم 8/ 21)، فنلبي بحياتنا دعوتنا السامية التي بها صرنا “أبناء في الابن”.
هذه الدعوة إلى الحب الكامل، ليست حكراً على فئة معيّنة من البشر. فالدعوة، “اذهب وبعْ ما تقتنيه وأعطِه للمساكين” مع الوعد بأن “سيكون لك كنز في السماء”، تعني للجميع، لأنّ فيها التتميم الأساسي لمحبة القريب، كما أنّ الدعوة التالية “تعال اتبعني” هي الميزة الجديدة التامة لمحبة الله. فالوصايا ودعوة يسوع للشاب الغني إنما هي خدمة المحبة الواحدة غير المنقسمة التي تنزع من تلقاء ذاتها إلى الكمال، كمال قياسه الله وحده: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماء كامل هو” (متى5/ 48). وفي إنجيل لوقا يُعطي يسوع هذا الكمال بُعداً آخر بقوله: “كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم هو” (لو6/ 36).
“تعال اتبعني” (متى 19/ 21)
19- إن طريق هذا الكمال وطبيعته هما في السير في خطى المسيح، في أن نتبع المسيح بعد أن نتخلى عن مقتنياتنا الخاصة وعن أنفسنا أيضاً. تلك هي بالتحديد خلاصة حوار المسيح مع الشاب: “وتعال اتبعني” (متى 19/ 21) إنها دعوة سيفهم التلاميذ جيداً معناها العجيب العميق بعد قيامة المسيح، عندما يقودهم الروح القدس إلى جميع الحق ( يو16/ 13).
يسوع نفسه يأخذ المبادرة ويدعوه ليتبعه. وتُوَّجه الدعوة قبل الكل إلى أولئك الذين تُعْهَدُ إليهم هذه الرسالة الخاصة وفي طليعتهم الرسل الإثني عشر، لكن يبدو أن على كل مؤمن أن يكون أيضاً تلميذ المسيح ( أع 6/ 1)، فاتّباع المسيح إذن هو القاعدة الأساسية والطبيعية لتعليم الأخلاق المسيحي. فكما كان يتبع شعب إسرائيل الله الذي كان يقوده في البرية إلى أرض الميعاد (خروج 13/ 12) هكذا ينبغي للتلميذ أن يتبع يسوع الذي إليه يجذبه الآب ( يو6/ 44).
فالقضية إذن ليست فقط قضية تعليم يجب سماعه ووصية يجب قبولها بالطاعة، بل قضية اللحاق الواجب بالمسيح شخصياً، والاشتراك بحياته ومصيره، وطاعته الحرّة المحبة للآب. فإذا تبع تلميذ يسوع بفعل إيمان ذلك الذي هو الحكمة المتجسدة، فإنه يصير تلميذ الله ( يو6/ 45) لأن يسوع هو نور العالم، نور الحياة ( يو 8/ 12)، الراعي الذي يقود إلى الآب، بحيث أن من يراه (الابن) يرى الآب ( يو 14/ 6- 10). لذلك فالإقتداء بالابن الذي هو “صورة الآب الذي لا يُرى” ( كول1/ 15) يعني الإقتداء بالآب.
20- يطلب يسوع أن نسير في خطاه ونسلك طريق حبّه، الحب الذي يبذل ذاته كلها لإخوته حباً لله: “هذه وصيّتي، أن يُحبَّ بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم” ( يو 15/ 12) وكلمة “كما” هذه تفرض الإقتداء بالمسيح، بحبه الذي يعبّر عنه بغسل الأرجل: ” فإن كنتُ أنا ربكم ومعلمكم قد غسلتُ أرجلكم فكم عليكم أنتم أن يغسلَ بعضكم أرجلَ بعض. لقد أعطيتكم مثالاً لكي، كما صنعتُ أنا لكم، أنتم أيضاً تصنعون” ( يو13/ 14- 15) إن تصرّف يسوع وكلامه وأعماله هذه وبخاصة آلامه وموته على الصليب، هي شهادات حية لحبه لأبيه وللبشر. هذا الحب عينه يطلب يسوع من الذين يتبعونه أن يقتدوا به. وتلك هي الوصية “الجديدة”: “أعطيكم وصية جديدة وهي أن يحبَّ بعضكم بعضاً، فكما أنا أحببتكم هكذا فليحبَّ بعضكم بعضاً” (يو13/ 34- 35).
إنّ كلمة “هكذا” تُشير إلى أي مدى هو أحبَّ ويريد تلاميذَه أن يُحبوا بعضهم بعضاً. إنه بعد أن قال: “هذه وصيتي لكم أن يحبَّ بعضكم بعضاً كما أحببتكم” ( يو 15/ 12) يتابع يسوع فيقول كلاماً يُشير إلى تقدمة حياته ذبيحة على الصليب، وشهادة على حبه “حتى النهاية” ( يو 13/ 1): “ما من حبّ أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه” (يو15/ 13).
إنّ يسوع بدعوته الشاب إلى أن يتبعه في طريق الكمال يطلب منه أن يكون كاملاً في وصية المحبة، في “وصيته”: أن يقوم بفعل العطاء الكامل، أي أن يقتدي بالمعلّم “الصالح” ويمارس الحب الذي أحبه، ذلك الذي أحبّ “إلى النهاية” وهذا ما يطلبه يسوع من أي إنسان يريد أن يتبعه: “من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (متى16/ 24).
21- ولأن يتبع المرء المسيح لا يعني أن يقتدي به إقتداءً خارجياً فقط، ذلك يعني الإنسان في صميم ذاته. ولأن نكون تلاميذ يسوع يعني أن نصير شبيهين بذلك الذي صار خادماً حتى بذل الذات على الصليب (فيليبي 2/5- 8). بالإيمان يحلّ المسيح في قلب المؤمنين (أف 3/ 17)، وهكذا يشابه التلميذ سيده ويتمثل به. تلك هي ثمرة النعمة وحضور الروح القدس الفاعل فينا.
المسيحي المندمج بالمسيح يصبح عضواً في جسده الذي هو الكنيسة (1قو 12/ 13- 27). إن العماد بفعل الروح القدس يجعل المؤمن يشابه المسيح في سرّ موته وقيامته الفصحي، ويلبس المسيح ( غلا3/ 27): “فلنرفع آيات المديح والشكر، يهتف القديس أوغسطينوس مخاطباً المعّمدين، ليس فقط لأننا صرنا مسيحيين، بل لأننا صرنا المسيح (…) فاندهشوا وافرحوا، أننا صرنا المسيح” (28).
يموت المعّمد للخطيئة ليقبل حياة جديدة (روم 6/ 3- 11)، وحيّاً بالله في المسيح يسوع يُدعى لأن يسلك بالروح وتظهر ثماره في حياته (غلا 5/ 16- 25). والاشتراك أخيراً بالإفخارستيا، سرّ العهد الجديد، هو ذروة المشابهة للمسيح، لينبوع “الحياة الأبدية” (يو6/ 51- 58)، مبدأ وقوّة بذل الذات الكامل، بذلٌ، كما يشهد بولس، أمر يسوع أن يُذكر في الاحتفال بالأسرار وفي الحياة: “كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تبشرون بموت الرب حتى مجيئه” (1كو 11/26).
“عند الله كل أمر مستطاع” (متى19/ 20)
22- مُرّة حقاً كانت نتيجة حوار يسوع مع الشاب الغني: “أمّا الشاب فلمّا سمع تلك الكلمة مضى حزيناً لأنه كان ذا مالٍ كثير” (متى19/ 22). ولا الرجل الغني وحده، بل التلاميذ أنفسهم انزعجوا من دعوة يسوع ليتبعوه، دعوة تفوق بإلزاماتها التطلعات والقوى البشرية: “فلما سمع التلاميذ عجبوا جداً وقالوا: من يستطيع إذن أن يخلص” (متى 19/25).
وفي الفصل ذاته من إنجيل (متى 19/ 3- 10) يفسّر يسوع ما ورد في شريعة موسى عن الزواج رافضاً مبدأ الطلاق، راجعاً بالعمل بشريعة موسى إلى المبدأ الأول والمعّول عليه: قصد الله في الإنسان الذي حاد عنه الإنسان بعد الخطيئة: “لقساوة قلوبكم أَذِنَ لكم موسى أن تُطلّقوا نساءَكم، ولم يكن من البدء هكذا” (متى19/8). أزعج التذكير “بالمبدأ” التلاميذ فعلّقوا على الكلام قائلين: “إذا كانت هذه حال الإنسان مع زوجته فخير له أن لا يتزوج” (متى19/10). فأجاب يسوع، منوِّهاً تنويهاً خاصاً بموهبة العزوبة “من أجل ملكوت السماء” (متى19/12)، صاغه بشكل قاعدة عامة، مُشيراً إلى هبة جديدة وعجيبة أنعم بها الله على الإنسان، “فقال لهم: ما كل أحد يقبل هذه الكلمة، إلاّ من أُعطي لهم” (متى19/11).
لا يستطيع الإنسان أن يقتدي بحبّ المسيح ويستعيده بعد ضياع بقواه الخاصة، إنما يصير أهلاً لهذا الحب فقط بعطية من الله يقبلها. فكما أن السيد المسيح قَبِلَ الحبّ من أبيه، هكذا أشرك بدوره تلاميذه به مجاناً: “كما أحبني أبي أنا أيضاً أحببتكم، اثبتوا في محبتي (يو 15/19). وعطية يسوع هي عطية الروح نفسه، الذي أولى ثماره (غلا 5/22) هي المحبة: “محبة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا” (روم5/5). فيتساءل القديس أغوسطينوس: “هل إنّ حفظ الوصايا من صنع المحبة، أم أن المحبة من صنع حفظ الوصايا، لكن من يُخالجه الريب في أن المحبة تسبق؟ إنّ مَنْ لا يُحب ليس له ما يدفعه إلى حفظ الوصايا” (29).
23- “لأن شريعة روح الحياة التي بالمسيح يسوع حررتك من شريعة الخطيئة والموت” (روم8/2). بهذه الكلمات يقودنا الرسول إلى النظر في العلاقة بين الشريعة (القديمة) والنعمة (الشريعة الجديدة) على ضوء تاريخ الخلاص الذي تمّ بالمسيح. إنه يعترف للشريعة بدورها التربوي: إنها تُخوّل الإنسان الخاطئ أن يختبر مدى عجزه وتنزع منه إدعاء الإكتفاء الذاتي التام وتجعله بالتالي منفتحاً على إلتماس “الحياة في الروح” وقبولها. ولا سبيل لحفظ وصايا الله إلاّ في هذه الحياة الجديدة. فإننا بالإيمان بالمسيح نتبرر (روم 3/28). برّ تنشده الشريعة لكن لا يمكنها أن تعطيه لأحد، والمؤمن بالمسيح أيّاً كان، يجده معلَناً وموهوباً له بالمسيح. ويوجز القديس أغوسطينوس إيجازاً رائعاً الجدل الذي يُقيمه بولس بين الشريعة والنعمة، فيقول: “الشريعة أُعطيَت إذن لكي تُطلب النعمة، والنعمة، أُعطيَت لكي تكمّل الشريعة” (30).
لا يمكننا حسب الإنجيل أن ننظر إلى الحب والحياة قبل كل شيء نظرتنا إلى وصية مفروضة، لأنهما يستلزمان ما يتجاوز قوى الإنسان، وإنما يتحققان فقط كثمرة لعطية الله الذي يشفي ويُجدد قلب الإنسان ويحوّله بنعمته: “فإن الشريعة كانت بموسى والنعمة والحق بيسوع” (يو 1/17) لذلك يرتبط وعد الحياة الأبدية بعطية النعمة لأن موهبة الروح التي قبلناها هي “عربون ميراثنا” (أفسس1/14).
24- هكذا ينجلي الوجه الخاص والأصيل الذي تأخذه وصية الحب والكمال: إنها مقدرة توفرها للإنسان النعمة وحدها، عطية الله وحبّه. ثم إن يقيننا الباطني بأن قبولنا وتملّكنا حب الله في المسيح يسوع يولّد ويُعزّز تجاوبنا المسؤول بحبنا الكامل لله ولإخوتنا كما يذّكرنا بإلحاح كثيراً يوحنا الرسول في رسالته الأولى: “أيها الأحباء لنحبّ بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله، وكل مَن يحبّ الله هو مولود من الله ويعرف الله. ومَن لا يحب لا يعرف الله لأن الله محبة….
“أيها الأحباء، إن كان الله أحبنا هكذا فعلينا نحن أيضاً أن نحبّ بعضنا بعضاً….نحن نحبّ لأنه هو أحبنا أولاً (1 يو 4/ 7- 8 و 11 و 19).
إن هذا الرباط الذي لا ينحلّ بين نعمة الله وحرية الإنسان، بين الموهبة والواجب، يعبّر عنه القديس أغوسطينوس بهذه الكلمات البسيطة والعميقة في صلاته لله: “أعطِ ما تأمر به ومُر بما تشاء” (31).
العطية لا تنتقص من قوّة إلزام وصية الحب أخلاقياً بل تعززها: “وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أوصانا” (1 يو 3/23) ولا “يثبت” في الحب إلاّ من يحفظ الوصايا: “إذا حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي كما حفظت أنا وصايا أبي وأنا ثابت في محبته” (يو 15/10).
إنّ القديس توما يجمع كل ما يتعلّق بالأخلاق في صلب بشارة يسوع، وفي كرازة الرسول، ويعرض بإيجاز بديع تعليم الآباء الشرقيين والغربيين العظيم وبخاصة تعليم القديس أغوسطينوس (32)، فيؤكد أن الشريعة الجديدة هي نعمة الروح القدس المعطاة لنا في الإيمان بالمسيح (33). إن الوصايا التي يتحدث عنها الإنجيل تهيء لهذه النعمة أو تبرز فعلها في الحياة. فإن الشريعة الجديدة لا تأمر فقط بما يجب فعله، بل تمنح القوّة “لعمل الحق” (يو 3/21). ويلفت القديس يوحنا فم الذهب إلى أن الشريعة الجديدة أُعلِنَت لمّا نزل الروح القدس من السماء يوم العنصرة، ويردف قوله: الرسل “لم ينزلوا من الجبل حاملين ألواح الوصايا بأيديهم، مثل موسى، بل حاملين الروح القدس في نفوسهم وقد أصبحوا هم بالنعمة شريعة حيّة وكتاباً” (34).
“وها أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر” (متى 28/20)
25- إن الحوار بين يسوع والشاب الغني مستمر بشكل أو بآخر، عبر التاريخ، حتى الآن. والسؤال: “يا معلّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية” ينبت في قلب كل إنسان ويظل المسيح هو الذي يُعطي الجواب الكامل والنهائي. المعلّم الذي يعلّم وصايا الله، والذي يدعو الناس ليتبعوه والذي يُعطي النعمة لحياة جديدة لا يزال حاضراً يعمل بيننا حسب وعده: “وها أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر” (متى 28/ 29). وحضور المسيح مع الإنسان في كل الأزمنة والأجيال يتمّ في جسده الذي هو الكنيسة. ولهذا السبب وعد يسوع تلاميذه بالروح القدس، يذكّرهم ويعلّمهم وصاياه (1 يو 14/26) وسيكون النبع الذي منه تتفجر الحياة الجديدة في العالم (يو 3/ 5- 8 وروم 8/ 1- 13).
إنّ الرسوم الأخلاقية التي أمر بها الله في العهد القديم وبلغت الكمال في العهد الجديد والعهد الأبدي بواسطة ابن الله الذي صار إنساناً، يجب الحفاظ عليها بأمانة والمواظبة على الالتزام بها في مختلف الحضارات. وعلى مدى الأجيال. وقد سلّم يسوع مهمة تفسيرها إلى الرسل وخلفائهم يمدّهم بالعون روح الحق: “مّن سمع منكم سمع مني” (لو 10/16). وقد أنار هذا الروح الرسل وقواّهم فقاموا بمهمتهم في الكرازة بالإنجيل وإعلان “طريقة” الرب (أع 18/25) ينادون قبل كل شيء بالسير في خطى المسيح والإقتداء به: “إن حياتي هي المسيح” (فيليبي 1/21 ).
26- إنّ في تعليم الرسل في موضوع الأخلاق، مع العظات والتوجيهات المتصلة بالأوضاع التاريخية والحضارية، عقيدة أخلاقية ترتكز على قواعد للمسلك ثابتة. هذا ما نقتبسه من رسائلهم المدرجة في عداد الكتب المقدسة التي تعرض تفسيراً للرسوم الأخلاقية الواجب حفظها في مختلف الأوضاع في حضارة ما (روم 12/ 15، و1قور 11/ 14، وغلا 5/6 ، أفسس4/6 ، كولوسي 3/ 4، 1بطرس ويعقوب). إنّ الرسل المبعوثين للكرازة بالإنجيل سهروا منذ أول عهد الكنيسة، على استقامة أخلاق المسيحيين عملاً بمسؤوليتهم في الرعاية، كما تعهدوا سلامة الإيمان بكامله، (35)، وعلى توزيع العطايا السامية في الأسرار (36). والمسيحيون الأولون سواء منهم الذين خرجوا من الشعب اليهودي أم من غيرهم من الأمم، كانوا يختلفون عن الوثنيين ليس فقط بإيمانهم وطقوسهم بل أيضاً بشهادة حياتهم وأخلاقهم المستمدة من الشريعة الجديدة (37). فالكنيسة هي شركة إيمان وحياة في آنٍ معاً، مبدأها “الإيمان الذي يعمل بالمحبة” (غلا 5/ 6).
يجب أن لا تتعرض اللحمة بين الإيمان والحياة لأيّ خرق يعطلها: وحدة الكنيسة لا يجرّحها فقط المسيحيون الذين ينكرون أو يموّهون حقيقة الإيمان، بل أيضاً أولئك الذين يتنكرون للواجبات التي يمليها عليهم الإنجيل (1قو 5/ 9- 13) فالرسل ينبذون أي طلاق بين الالتزام الباطني والأعمال التي تعبّر عنه وتؤكده (1يو 2/ 3- 6). لذلك كان آباء الكنيسة منذ عهد الرسل يشجبون علناً الذين بتعليمهم ومسلكهم يتسببون في الفرقة (38).
27- لقد ألقى يسوع على عاتق الرسل مهمة نشر تعليم الإيمان والأخلاق وحفظه (متى 28/ 19- 20)، مهمة يواصل القيام بها خلفاؤهم. هذا ما نجده في تقليد الكنيسة الحي الذي به – على حد ما جاء في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني – “تحفظ مدى الكون في تعليمها وحياتها وعبادتها، وتنشر في الأمم، كل ما هي عليه تقوم. هذا التقليد المتحدر من الرسل يستمر في الكنيسة بفعل الروح القدس” (39). في الروح القدس تقبل الكنيسة الكتب المقدسة وتنقلها كشهادة “للعظائم” التي يصنعها الله في التاريخ (لو 1/ 39) وبفم الآباء والمعلمين تعترف بحقيقة الكلمة المتأنس، وتمارس وصاياه ومحبته في حياة القديسين والقديسات وفي ذبيحة الشهداء وتحتفل برجائه في طقوسها: بالتقليد يسمع المؤمنون “صوت الإنجيل الحي” (40)، تعبيراً أميناً عن الحكمة والمشيئة الإلهية.
في داخل التقليد وبعون الروح القدس يفسح المجال لتفسير شريعة الرب تفسيراً أصيلاً. فالروح عينه الذي يوحي بوصايا يسوع وتعاليمه، هو الكفيل أن تُحفظ بكل ورع، وتُفسر بأمانة، وتُراعى في تطبيقها تطبيقاً صحيحاً تقلبات الأوضاع والأزمنة. إنّ “التطبيق” على هذا النحو لوصايا الله هو علامة التعمق في البحث في الوحي وثمرته، وفهم المستجدات التاريخية والثقافية على ضوء الإيمان، فهماً تبرز فيه قوة الوحي الدائمة ويسير في خط التفسير الذي يعطيه تقليد الكنيسة الكبير، في تعليمها وحياتها، يشهد بهما الآباء بتعليمهم، والقديسون بحياتهم، والكنيسة بطقوسها والسلطة المعلمة بتعليمها.
“إنّ مهمة تفسير كلمة الله في الكتاب والتقليد تفسيراً أصيلاً هي موكولة، بنوع خاص، كما يذكر المجمع الفاتيكاني، لسلطان الكنيسة التعليمي الحي وحده، الذي يمارس سلطته باسم يسوع المسيح” (41). وهكذا تبرز الكنيسة في حياتها وتعليمها “كعمود الحق وأساسه” (1تيمو 3/ 15)، وعمود الحق أيضاً في المسلك الخلقي “فللكنيسة أن تُعلن في كل زمان ومكان المبادئ الأخلاقية في الشؤون الاجتماعية، بل لها أن تحكم في كل شأن بشري، كلما اقتضت ذلك حقوق الشخص البشري الأساسية وخلاص النفوس” (42).
وخاصة في ما يتعلّق بالمسائل المطروحة على بساط البحث في أيامنا والتي نبتت حولها توجهات وآراء جديدة، ترى السلطة التعليمية، أمانة منها للمسيح وجرياً على التقليد الكنسي، إن من واجبها الملحّ إعلان حكمها وتعليمها لكي تساعد الناس في سعيهم إلى الحقيقة والحرية.
الفصل الثاني
“لا تتشبهوا بهذا العالم” (روم 12/ 2)
الكنيسة وحكمها على بعض الآراء
في اللاهوت الأخلاقي الحالي
“تكلم بما يليق بالتعليم الصحيح” (تيط 2/ 1).
28- إن التأمل في الحوار بين يسوع والشاب الغني قيض لنا الوقوف على أهم ما يعلّمه الوحي في العهد القديم حول المسلك الخلقي، أي: خضوع الإنسان في سلوكه لله الذي هو “وحده الصالح” والعلاقة بين الأعمال البشرية الصالحة والحياة الأبدية، والسير في خطى المسيح الذي يفتح أمام الإنسان النافذة على الحب الكامل، وأخيراً عطية الروح القدس ينبوع ومصدر الحياة الأخلاقية “للخليقة الجديدة” (2 قو 5/17).
والكنيسة في معالجتها القضية الأخلاقية تضع دائماً نصب عينيها الكلمات التي وجهها يسوع إلى الشاب الغني، فالكتاب المقدس هو دائماً لتعليم الكنيسة الينبوع الحي والخصب، كما يعمل على التذكير به المجمع الفاتيكاني الثاني: “الإنجيل هو ينبوع كل حقيقة خلاصية وكل مسلك أخلاقي” (43). فقد حفظت الكنيسة بأمانة ما يعلمه كلمة الله ليس فقط في الحقائق التي يجب الإيمان بها، بل أيضاً في المسلك الأخلاقي، أي المسلك الذي يرضى الله عنه (1 تيمو 4/ 1) محققة في تعليمها عرضاً موازياً لعرضها الحقائق التي يجب الإيمان بها. الكنيسة التي يقودها الروح القدس لم تهمل قط ولن تهمل أبداً البحث في “سر الكلمة المتجسد” الذي فيه يشرق للأذهان سر الإنسان” (44).
29- لقد اتخذ تأمل الكنيسة في الموضوع الأخلاقي الذي قامت به على نور المسيح “المعلم الصالح”، صيغة تعليم لاهوتي هو علم لاهوت الأخلاق، علم يتقبل الوحي الإلهي، يستلهمه ويتجاوب في الوقت نفسه مع متطلبات العقل البشري. لاهوت الأخلاق هو تأمل في ما يتعلق “بالأخلاقية”، أي في ما هو خير وما هو شر في الأفعال البشرية وفي الإنسان الذي يفعلها، وبهذا المعنى يتناول جميع البشر، بيد أنه أيضاً “لاهوت” بحيث أنه يعتبر في “من هو الصالح وحده”، المبدأ والغاية للمسلك الأخلاقي، من في إعطائه ذاته للإنسان في المسيح، يقدم له سعادة الحياة الإلهية.
المجمع الفاتيكاني الثاني يحث رجال العلم على أن “يبذلوا عناية خاصة في اتقان لاهوت الأخلاق لأن عرض هذه المادة بطريقة علمية مشبعة من الكتاب المقدس يبرز سموّ دعوة المؤمنين في المسيح وواجبهم في أن يحملوا في المحبة ثمراً لحياة العالم” (45) والمجمع ذاته يدعوهم، مع مراعاة أسلوب علم اللاهوت الخاص ومستلزماته إلى البحث مع رجال عصرهم عن طريقة أوفق لإيصال التعليم العقائدي لأهل عصرهم لأن وديعة الإيمان وحقائق الإيمان شيء وطريقة التعبير عنها شيء آخر على أن يحافظ على المعنى والدلالة” (46) وإلى ذلك يدعو جميع المؤمنين وبخاصة علماء اللاهوت: “فليعش إذن المؤمنون في الاتحاد الوثيق مع أهل عصرهم ويجتهدوا في أن يفهموا تماماً أساليبهم في الإحساس والتفكير، التي يعبرون عنها في ثقافتهم”(47).
إن جهود العديد من علماء اللاهوت وبتشجيع من المجمع، قد انتجت ثماراً بما حملت من أفكار صائبة ومفيدة في العقائد التي يجب أن نؤمن بها ونطبقها في حياتنا تطبيقاً يتماشى مع مفاهيم أهل عصرنا وتساؤلاتهم.
إن الكنيسة، وخاصة الأساقفة، الذي لهم سلَّم المسيح قبل كل شيء خدمة التعليم، ينظرون إلى هذه الجهود بعين الرضى ويحضون علماء اللاهوت على متابعة هذا العمل بدافع من التقوى العميقة والحقّة، “تقوى الله رأس الحكمة” (أمثال 1/ 7).
لكن وفي الوقت نفسه ورد في الجدل اللاهوتي بعد المجمع آراء في مفهوم الأخلاق المسيحي لا تتفق مع التعليم الصحيح (2 تيمو 4/ 3). لا شك في أن السلطة التعليمية في الكنيسة لا تدعي فرض أي أسلوب لاهوت ولا فلسفي على المؤمنين، لكنها حرصاً منها على حفظ كلمة الله (48) وعرضها بأمانة، ترى من واجبها أن تعلن أن بعض ما يذهب إليه علماء لاهوت وما ينادي به بعض الفلاسفة لا يتفق أبداً مع الحقيقة الموحاة (49).
30- إننا برسالتنا العامة هذه التي نتوجه بها إليكم أيها الإخوة الأعزاء في الأسقفية إنما نبغي إعلان المبادئ الضرورية لتفنيد هذه الآراء التي لا تتفق مع “التعليم الصحيح”، مذكرين بتلك المبادئ التي يرتكز عليها تعليم الكنيسة في الأخلاق، والتي تتعرض لخطر الضلال أو الالتباس أو النسيان.
وهي هذه المبادئ التي بها يناط “الجواب على الأسرار التي تنطوي عليها الحالة البشرية والتي تقلق في العمق، اليوم مثلها في الأمس، قلوب البشر: من هو الإنسان، ما معنى حياتنا والغاية منها، ما الخير وما الخطيئة، ما مصدر العذاب وما الغاية منه، ما هي الطريق إلى بلوغ السعادة الحقيقية، ما الموت والدينونة والجزاء بعد الموت، وما هو بالنهاية هذا السر النهائي الذي يعجز عنه كل وصف والذي يلف وجودنا ونحن منه خرجنا وإليه نؤول” (50).
هذه التساؤلات وغيرها، مثل: ما هي الحرية، وما هي علاقتها بالحقيقة التي تحملها شريعة الله، وما شأن الضمير في صياغة صورة الإنسان الأخلاقية، كيف نحكم في حقوق الإنسان وواجباته بما يتفق مع الحقيقة في الآخلاق – هذه كلها يمكن أن تختصر في السؤال الأساسي الذي طرحه شاب الإنجيل على يسوع: “أيها المعلم، ماذا يمكنني أن أعمل من الصلاح لأرث الحياة الأبدية؟”. الكنيسة التي أرسلها يسوع لتنادي بالإنجيل “وتتلمذ جميع الأمم…. وتعلمهم أن يحفظوا جميع ما أوصى به” (متى 28/ 19- 20)، تجيب اليوم أيضاً بما أجاب به المعلم: إن لها من النور والقدرة ما يمكنها معه أن تحلّ أصعب الأسئلة وأكثرها تعقيداً. هذا النور وهذه القدرة يحملان الكنيسة على التوسع في البحث اللاهوتي، لا النظري فقط بل الأخلاقي أيضاً، في إطار العلوم المختلفة، الأمر الواجب بنوع خاص في القضايا المستجدة (51).
وإنما بهذا النور وهذه القوة في الكنيسة تمارس السلطة مهمة الحكم في الأمور، مرددة ومتبنّية التوصيّة التي يوجهها الرسول بولس إلى تيموتاوس: “أناشدك أمام الله وربنا يسوع المسيح، المزمع أن يدين الأحياء والأموات في ظهور ملكوته، نادِ بالكلمة وقم بذاك مجتهداً في وقته وغير وقته، وبّخ ونبّه بكل أناة وتعليم، فإنه سيكون زمن لا يسمعون فيه التعليم الصحيح، بل يكثرون المعلمين لأنفسهم، بحسب شهواتهم وانجذاب سمعهم، فيصرفون آذانهم عن الحق ويميلون إلى الخرافات. فكن أنت يقظاً في كل شيء واحتمل الشرور واعمل عمل المبشّر وقم بخدمتك (2 تيمو 4/ 1- 5).
“تعرفون الحق والحق يحرّركم” (يوحنا8/ 32)
31- إن القضايا الإنسانية المطروحة أكثر من سواها اليوم والتي تجد حلولاً مختلفة في البحث في الشؤون الأخلاقية تتصل كلها، وإن بأوجه مختلفة بالمسألة العسيرة جداً مسألة حرية الإنسان.
لا ريب في أن لدى عصرنا شعوراً حاداً بالحرية: “إن لدى أهل عصرنا وعياً يتزايد يوماً بعد يوم لكرامة الشخص البشري” كما جاهر في حينه الإعلان المجمعي في الحرية الدينية “الكرامة البشرية” (52). ومن ثمّ يطالب الإعلان بان يتاح للبشر “أن يتمتعوا بالقرار الخاص والحرية المسؤولة، فيعملون لا مسيّرين قسراً بل منقادين لواجب الضمير” (53). بيد أن الحق في الحرية الدينية مثله في احترام الضمير في سعي الإنسان إلى الحقيقة، يُعتبر بنوع خاص وكل يوم أكثر أساس حقوق الإنسان بمجملها (54).
هكذا يشكل الشعور الحادّ بكرامة الشخص البشري وفرادته، واحترام الضمير في السلوك البشري من المعطيات الثابتة في الثقافة العصرية. بيد أن هذا الشعور الصالح في ذاته، يترجم عنه بتعابير عديدة ليست كلها موفقة والبعض منه ينحرف عن حقيقة الإنسان. كخليقة الله وصورته، يحتاج إلى الإصلاح والتقدم على نور الإيمان(55).
32- إن بعض التيارات الفكريّة الحديثة تعلي شأن الحرية إلى حد جعلها قيمة مطلقة بحد ذاتها، مصدر وينبوع كل الصالحات. تسلك هذه المعارج تعاليم فقدت مفهم المافوقيات أو أنها بالأحرى تنكر الله تماماً.
ضمائر الأفراد هي، وفق هذه التعاليم، المؤهلة وحدها للقول الفصل في الأخلاق، تحدد وتقرر ما هو خير وما هو شر. إلى المبدأ القائل بأن على كل إنسان أن يتبع ضميره، يضاف بغير حقٍ المبدأ القائل بأن ما يصدر عن الضمير الخاص هو القول الفصل في الشأن الأخلاقي. لكن على النحو هذا يستبدل بمبدأ الحقيقة القائمة بذاتها، مبدأ الصدق والأصالة ” والاتفاق مع الذات” الأمر الذي يؤدي إلى اعتماد نظرة في الشأن الأخلاقي محض فردية.
من البديهي أن “أزمة الحقيقة” ليست بغريبة عن هذا التصرف. لأنه إذا ضاع مفهوم الحقيقة الشاملة في الخير الذي يمكن للفكر البشري أن يدركه، فمفهوم الضمير حكماً يتغير، إذ لا يعود الضمير يعتبر كما هو في الأصل، أي فعل عقل بشري به يطبق الإنسان مفهوم الخير الشامل على حالة معّينة، وهكذا يحكم في المسلك الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه هنا الآن، بل يتجه التفكير إلى اعتبار الضمير البشري هو المؤهل وحده مستقلاً لتحديد مقاييس الخير والشر وبالتالي المسلك. هذه النظرة تلتقي مع نظرة في الأخلاق فرديّة تقول بأن كل إنسان يواجه “حقيقته” التي تختلف عن “حقيقة” الآخرين. نظرة فرديّة يؤدي التوسع بها للنهاية إلى رفض فكرة الطبيعة البشرية ذاتها.
ومن هذه النظرات المختلفة تنبت تلك الآراء التي تحدث شرخاً بين الشريعة الأخلاقية والضمير، بين الطبيعة والحرية.
33- ومع المغالاة في إعلاء شأن الحرية، وبردة فعل معاكسة غير متوقعة، تضع ثقافة معاصرة هذه الحرية ذاتها موضع الشك. بيد أن عدة مذاهب فكرية، يطلق عليها معاً اسم ” العلوم الإنسانية” تلفت بحقّ ٍ النظر إلى حالات نفسانية واجتماعية تنوء بثقلها على ممارسة الحرية. إن معرفة هذه الحالات وما تثيره من اهتمامات هي مكاسب ذات شأن كبير تطبق في شتى المجالات مثل فن التربية وممارسة العدالة. ولكن البعض تجاوزوا المعطيات التي يمكن استنتاجها من هذه الاعتبارات فوضعوا موضع الشك حقيقة الحرية البشرية ذاتها وأنكروها.
لا بد من الإشارة إلى بعض الاستنتاجات غير الجائزة في مجال علم الإنسان. فانطلاقاً من التنوع الكثير في الأخلاق والعادات والثقافات السائدة بين البشر، يصل بعضهم إن لم يكن إلى التنكر للقيم الإنسانية الشاملة فأقلَّه إلى اعتبار الشأن الأخلاقي أمراً نسبياً.
34- “أيها المعلم ماذا أعمل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟ “إن هذا السؤال في الشأن الأخلاقي الذي يجيب عليه المسيح لا يمكن أن يتجاوز مسألة الحرية بل أنه يقيمها في الوسط، طالما أن لا أخلاقية بلا حرية. “لا يطلب خير إلاّ في الحرية”(56). لكن أي حرية؟ أمام أهل زماننا الذين “يقدرون الحرية كثيراً” ويجدّون في طلبها بنشاط، ولكنهم يمارسونها في الغالب ممارسة سيئة، كما لو كان كل شيء يحلُُّ إذا طاب، بما فيه الشر، يعرض المجمع الحرية الحقة: “الحرية الحقة هي في الإنسان العلامة المثلى للصورة الإلهية. فالله أراد أن يترك الإنسان لخيار ذاته” (سيراخ 15/ 14)، بحيث يطلب الله خالقه من تلقاء ذاته، بملء حريته، ويبلغ في الاتصال به الكمال الناجز والسعيد” (57). إذا كان لكل إنسان الحق في أن يُحتَرَم في سعيه نحو الحقيقة، فعلى كل إنسان قبل ذلك واجب ملزم وثقيل أن يطلب الحقيقة وإذا وجدها أن يعتنقها (58). وبهذا المعنى كان الكردينال نيومان، المدافع الشهير عن حقوق الضمير، قد تعوّد التأكيد بقوة على “أن للضمير حقوقاً لأن عليه واجبات” (59).
إن بعض الآراء المعاصرة في لاهوت الأخلاق تذهب، بتأثير الآراء ذات النزعة الفردية والباطنيّة التي أشرنا إليها، مذهباً جديداً في تفسير علاقة الحرية بالشريعة الأخلاقية، وبالطبيعة البشرية والضمير وتستنبط مقاييس جديدة للحكم في طابع الأعمال الأخلاقي. آراء تلتقي رغم اختلافها في زعزعة بل في إنكار علاقة الحرية بالحقيقة.
إذا أردنا أن نقوم بنقد هذه الآراء نقداً يعترف بما هو مشروع فيها ومفيد وصحيح، وبما فيها أيضاً من التباس وخطر وضلال، علينا أن نحكم فيها على ضوء الحرية المتعلقة بالحقيقة تعلقاً مطلقاً، تعبر عن قوته تعبيراً صريحاً وذا سلطان كلمات المسيح القائل: “وتعرفون الحق والحق يحرركم” (يو8/ 32).
الحرية والشريعة
“وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها” (تك 2/ 17)
35- نقرأ في سفر التكوين: “وأمر الرب الإله الإنسان قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك 2/ 16- 17).
بهذه الصورة يعلمنا الوحي الإلهي إن سلطة تمييز الخير من الشر هي منوطة لا بالإنسان بل بالله وحده. الإنسان حرّ بلا شك، لأنه هو يستطيع أن يفهم ويقبل وصايا الله. وحريته واسعة لأنه يقدر أن “يأكل من كل شجر الجنة”، بيد أن هذه الحرية ليست بلا حدّ، بل يجب أن تقف عند “شجرة معرفة الخير والشر”، لأن عليها أن تقبل الشريعة الأخلاقية التي يمليها الله على الإنسان، والإنسان بقبوله هذه الشريعة إنما يكمل حقاً حريته الشخصية. فالله الصالح وحده يعرف معرفة تامة ما هو صالح للإنسان وبدافع من حبه له يعرضه عليه في الوصايا.
لذلك لا تُضْعِفُ شريعةُ الله حريةَ الإنسان، ولا تلغيها، بل تحفظها وتقوّيها. بينما تسلك بعض الثقافات المعاصرة طريقاً معاكساً، إذ تنادي بتعاليم في الأخلاق تنطلق من التناقض بين الحرية والشريعة. تلك هي حال تعاليم تنسب إلى أفراد أو جماعات خاصة صلاحية تحديد ما هو خير وما هو شر: فالحرية البشرية بنظرهم يمكنها أن “تصنع القيم” وتحتل مقاماً أرفع من الحقيقة، كما لو أن الحقيقة كانت وليدة الحرية، التي تدعي لذاتها من الاستقلالية في الحقل الأخلاقي ما يعني تمتعها بالسلطان المطلق.
36- إن إدعاء الاستقلالية الحديث هذا لم يوفر حتى علم لاهوت الأخلاق الكاثوليكي. إذا كان هذا اللاهوت لم يذهب إلى القول بمعارضة الحرية البشرية للشريعة الإلهية، ولا بإعادة النظر في أصل المبادئ الأخلاقية الديني، بيد أنه أفضى إلى إعادة النظر كلّياً في دور العقل والإيمان في تحديد القواعد الأخلاقية المختصة بمسلكيات معينة، “في هذا العالم“، أي تلك التي تختص بالإنسان نفسه، وبالآخرين وبأمور هذه الدنيا كلها.
لكن لا بد من الاعتراف بأننا نجد في محاولة التفكير هذه من جديد، بعض المطالب المحقة الآتية من أفضل التقاليد في التعليم الكاثوليكي. فبدعوة من المجمع الفاتيكاني الثاني (60)، صار سعي لإجراء حوار مع التيارات الفكرية الحالية لتسليط الضوء على الطابع المعقول والمفهوم والمقبول إذن من الجميع – الذي ترتديه مبادئ أخلاقية هي من صلب الشريعة الطبيعية (61). فصار تأكيد على الطابع الداخلي الذي ترتديه الفرائض الأخلاقية النابعة من هذه الشريعة والتي لا تملى على الإرادة لفرض واجب ما لم يقرّها العقل البشري مبدئياً ويلزم بها الضمير عملياً.
لكن فات بعضهم أن العقل البشري تابع للحكمة الإلهية وأن الوحي الإلهي، في حال الطبيعة الساقطة الراهن، ضروري لمعرفة الحقيقة في موضوع الأخلاق حتى تلك التابعة للنظام الطبيعي (62)، فذهبوا إلى القول بأن العقل هو سيد ذاته كلياً فيما يتعلق بالأحكام الأخلاقية التي بها تستقيم مسيرة الحياة في هذا العالم، أحكام تجري على نظام أخلاقي بشري محض وقف شريعة يفرضها الإنسان على نفسه، تصدر عن العقل البشري وحده. شريعة لا يمكن أن يعتبر الله هو واضعها، إلاّ من حيث أن العقل يمارس تنظيمها بحرية من أجل الوصية الأولى والكاملة التي أملاها الله على الإنسان. هذه الآراء تناقض الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة الدائم، وتؤدي بالنهاية إلى هذا: إنها تنكر أن الله هو واضع الشريعة الأخلاقية الطبيعية وأن الإنسان باستخدام عقله يكون له يد في الشريعة الأزلية التي ليس هو الذي يفرضها.
37-إن بعض علماء اللاهوت الأخلاقي، رغبة منهم في وضع مفهوم الحياة الأخلاقية في إطار مسيحي رفيع، يميزون خلافاً للتعليم الكاثوليكي (63)، بين نظام أخلاقي من وضع البشر يختص بهذا العالم ونظام الخلاص الذي لا شأن فيه إلاّ لبعض النيات والمواقف تجاه الله والقريب. فيذهبون بالتالي إلى حد إنكار وجود محتوى أخلاقي معيّن ومحدّد وثابت وصالح للجميع، في الوحي الإلهي، إذ لا تحمل بزعمهم كلمة الله سوى الوعظ ودعوة عامة إلى الفضيلة يجسدها العقل البشري الحرّ وحده في أحكام “وضعية” توافق الظروف التاريخية الراهنة. إن الاستقلالية المحددة على هذا النحو تؤدي إلى إنكار سلطة الكنيسة التعليمية وصلاحيتها في ما يختص بوضع بعض الأحكام الأخلاقية المتعلقة “بالخير البشري” على حد قولهم لأنها في زعمهم لا صلة لها بمحتوى الوحي الحقيقي ولا شأن لها في الخلاص الروحي.
لا يخفى أحداً أن فهم استقلالية العقل البشري على هذا النحو ينطوي على مزاعم منافية للتعليم الكاثوليكي.
فمن الضرورة القصوى، في مثل هذه الحال أن تعلن بوضوح، على ضوء كلمة الله وتقليد الكنيسة الحي، والعلاقات الوثيقة بينهما. فعلى هذا النحو فقط يمكن الجواب على تساؤلات العقل البشري المشروعة، مع الاحتفاظ بمبادئ بعض المذاهب اللاهوتية الأخلاقية المعاصرة المقبولة، دون النيل من تراث الكنيسة في التعليم الأخلاقي، بنظريات في استقلالية العقل مغلوطة.
شاء الله أن يترك الإنسان “لمشورة نفسه” (ابن سيراخ 15: 14)
38- يستعير المجمع الفاتيكاني الثاني كلمات ابن سيراخ هذه لتوضيح معنى “الحرية الحقة”، التي هي “علامة صورة الله المميزة في الإنسان” فنقول: “شاء الله أن يترك الإنسان “لمشورة نفسه”، لكي يسعى إلى خالقه تلقائياً، ويبلغ حراً إلى الكمال الناجز السعيد بالالتزام به(64). هذه الكلمات تظهر عمق المشاركة في السيادة الإلهية العجيب الذي يدعى إليه الإنسان، فهي تبين كيف أن الإنسان يمارس سيادته على نفسه. هذه السيادة يرد ذكرها دائماً في تأملات اللاهوتيين في الحرية البشرية، وهي في نظرهم صفة ملوكية. فيكتب مثلاً القديس غريغوريوس قائلاً: “وتظهر النفس كرامتها الملوكية السامية بأن لا سيادة لأحد عليها وأنها تعمل كل شيء بدافع ذاتي وأنها في السُلطة على ذاتها تدبر ذاتها كما يطيب لها. فشأن من يكون هذا سوى شأن الملك؟… هكذا خلقت طبيعة الإنسان لتسود على سائر الخلائق، على مثال ملك العالمين، صورة حية عنه، تشارك مثالها الاسم والكرامة” (65).
أن يقود العالم، تلك هي مهمة الإنسان العظيمة ومسؤوليته الكبرى التي يتعهدها بحريته الخاضعة للخالق: “املأوا الأرض وأخضعوها” (تك1/ 28). بهذا الشرط يتمتع الناس أفراداً وجماعات باستقلالية عادلة، يعيرها الدستور المجمعي “فرح ورجاء” أهمية خاصة. إن للشؤون الأرضية استقلالية “تتمتع بموجبها الأشياء المخلوقة والجماعات بنواميسها وقيمها الخاصة، على الإنسان أن يتعرفها تدريجياً ويستخدمها وينظمها” (66).
39- لكن الله لم يعهد إلى الإنسان أن يهتم بالعالم وحده بل أن يهتم أيضاً بذاته ويكون مسؤولاً عن ذاته. الله “ترك (الإنسان) لمشورة ذاته” (سير 15/ 14)، لكي يطلب خالقه ويبلغ الكمال حراً. ولأن يبلغ الكمال يعني أنه يبنيه بذاته وفي ذاته. فكما أن الإنسان بإخضاعه العالم يجعله وفق عقله وإرادته، هكذا بقيامه بالأعمال الصالحة أخلاقياً يؤكد ويكمل ويرسخ في ذاته صورة الله.
بيد أن المجمع يحذر من الوقوع في فكرة خاطئة حول استقلالية الأشياء الأرضية، تقول بأن “الأشياء المخلوقة لا علاقة لها بالله وأن الإنسان يمكنه استخدامه دون أن يعود بها إلى الله” (67). إن هذه النظرة إلى الاستقلالية تسفر عن نتائج وخيمة للغاية تسيء إلى الإنسان ذاته، إذ ينتهي به الأمر إلى إنكار الله: “فخليقة دون الخالق عدم… بل إن نسيان الله يوقع الخليقة ذاتها في ظلام” (68).
40- إن تعليم المجمع يؤكد من جهةٍ دور العقل البشري في اكتشاف وتطبيق الشريعة الأخلاقية: إن المسلك الخلقي يتطلب مهارة وقدرة على الإبداع يتوفران عند الإنسان الذي هو مصدر أفعاله الحرة وعلّتها. ولكن من جهة أخرى يستمد العقل ما له من حقيقة وسلطة من الشريعة الأزلية التي ليست سوى الحكمة الإلهية (69). فالمسلك الأخلاقي إذن يرتكز على “استقلالية الإنسان الصحيحة” كأساس له (70). الإنسان هو سيد أفعاله. والشريعة الأخلاقية تنبثق من الله وفيه تجد منبعها، ولأن العقل الطبيعي يتحدر من الحكمة الإلهية فهي في آنٍ معاً شريعة الإنسان ذاته. الشريعة الطبيعية، كما قيل، “إنما هي نور العقل أفاضه الله فينا، به نعرف ما يجب أن نعمله وما يجب أن نتجنبه. نور وشريعة أعطاهما الله الإنسان في الخلق” (71) إن الاستقلالية الصحيحة التي ينعم بها العقل في سعيه تبيّن أن للإنسان في ذاته شريعته الخاصة التي يرضى الله عنها. بيد أن استقلالية العقل لا تعني أن العقل هو الذي يخلق القيم والسنن الأخلاقية(72). أما إذا كانت هذه الاستقلالية تنكر شراكة العقل عملياً مع حكمة الخالق والمشترع الإلهي، أو كانت تدعي حرية خلاّقة لسننٍ أخلاقية لشتى الظروف التاريخية والمجتمعات والثقافات المختلفة، مثل هذه الاستقلالية تناقض تعليم الكنيسة الصحيح في الإنسان(73). إنها موت الحرية الحقة: “أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك 2/ 17).
41- استقلالية الإنسان الأخلاقية الصحيحة لا تعني رفض الشريعة الأخلاقية بل تقبّلها كوصية من الله: “وأوصى الرب الإله الإنسان….” (تك2/ 16). وحرية الإنسان وشريعة الله تلتقيان وتكادان تمتزجان بحكم طاعة الإنسان الحرّة لله والعطف المجاني الذي يخص الله به الإنسان. الطاعة لله إذن ليست عبودية كما يتصورها البعض، تُخضع الإنسان في مسلكه الأخلاقي لقوة مطلقة من الخارج تعطل حريته. فلو كانت بالواقع عبوديّة أخلاقية تنكر على الإنسان أهليته للخيار الحرّ في كل ما يتعلق به، أو تفرض عليه سنناً من الخارج لصالحه، لكانت تناقض وحي العهد والتجسد الفادي. مثل هذه العبودية كانت تكون سلباً للهويّة مناقضاً لحكمة الله مثله للشخصية البشرية.
كثيرون يقولون محقين بالThéonomie أو بالاشتراع المشترك مع الله إذ أن طاعة الإنسان الحرة لشريعة الله تتضمن اشتراك العقل والإرادة مع حكمة الله وعنايته. فالله حين أوصى الإنسان أن لا يأكل “من شجرة معرفة الخير والشر” أكّد أن الإنسان لا يملك بذاته هذه المعرفة بل يحصل عليها على ضوء العقل والوحي الإلهي اللذين يكشفان له فرائض الحكمة الإلهية ونداءاتها. الشريعة إذن هي تعبير عن الحكمة الإلهية، إذا خضعت لها الحرية تكون تخضع لحقيقة الخلق. لذلك يجب أن نرى في حرية الشخص البشري صورة الله ووجوده بقربنا: “هو في جميعنا” (أفسس 4/ 6) وكذلك يجب الاعتراف بعظمة إله الكون واحترام قداسة شريعة الله الذي هو فوق الكل بلا حدّ. الله دائماً هو الأكبر (74).
“طوبى للرجل…. الذي في شريعة الرب هواه” (مز 1/ 1- 2)
42- إن حرية الإنسان إذا كانت على صورة إرادة الله، لا تتعطل بطاعتها للشريعة الإلهية، بل إنها بهذه الطاعة وحدها تبقى في الحقيقة، متجاوبة مع كرامة الإنسان، كما ورد بصراحة في المجمع: “إن كرامة الإنسان تحتم عليه أن يتصرف بخيار حرّ ٍ واع ِ، منقاداً لاقتناع شخصي من الداخل، لا لدافع باطني أعمى، ولا لضغط من الخارج. ويحصل الإنسان حقاً على هذه الكرامة عندما ينعتق من أسر أهوائه، ويسعى نحو غايته باختيار الخير حراً، ويعمل بالجدّ وحسن التصرف للحصول على الوسائل الملائمة لتحقيقها” (75).
على الإنسان، بتوجهه إلى الله، إلى الذي “هو صالح وحده”، أن يصنع الخير ويتجنب الشر بملء حريته. ولذلك كان لا بد للإنسان من أن يقدر على تمييز الخير من الشر. هذا ما يتم له قبل كل شيء بنور العقل الطبيعي، الذي هو انعكاس بهاء وجه الله في الإنسان. بهذا المعنى كتب القديس توما هذه الكلمات في شرح المزمور الرابع: “عندما يقول المرتل: اذبحوا ذبائح البر (مز 4/ 6) يردف قوله، كما لو كان يرد على المتسائلين عن البرّ ما هو: كثيرون يقولون من يرينا الخير؟”، فيجيب قائلاً: “رفعت علينا نور وجهك، يا ربّ” كما لو أن نور العقل الطبيعي الذي به نميّز الخير من الشر – وهو أمر يتعلق بالشريعة الطبيعية – ليس إلاّ انعكاس النور الإلهي فينا” (76) ونرى من ثمة لماذا تسمى هذه الشريعة شريعة طبيعية، لا بالنسبة للكائنات غير العاقلة، بل لأن العقل الذي يعلنها يخص الطبيعة الإنسانية (77).
43- يذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني بأن “سنّة الحياة البشرية العليا هي الشريعة الإلهية، الأزلية، الواقعيّة الشاملة، التي بها ينظّم الله بتدبير حكمته ومحبته الكون كله ومسالك الجماعة البشرية ويسوسها ويديرها، وقد أشرك الله الإنسان بشريعته هذه، بحيث يتوصل الإنسان، أكثر فأكثر بفضل العناية الإلهية التي ينعم بها، إلى معرفة الحقيقة التي لا تتبدل” (78).
ويعود بنا المجمع إلى التعليم “المدرسي” في شريعة الله الأزلية، يحدّدها القديس أغوسطينوس بقوله “إنها العقل أو الإرادة الإلهية الآمرة بحفظ نظام الطبيعة والناهية عن خرقه” (79). ويساويها القديس توما “بعقل الحكمة الإلهية من حيث… أنها تبلغ بكل الأشياء غايتها المطلوبة” (80). وحكمة الله هي عناية، وحب ساهر. فالله نفسه إذن يهتم حقاً وفعلاً بكل الخليقة (حكمة 7/ 22 و 8/ 11). بيد أن الله ينظر إلى البشر غير نظرته إلى سائر الخلائق: لا من الخارج، عبر الشرائع الطبيعية، بل من الداخل عبر العقل الذي بمعرفته شريعة الله بالنور الطبيعي يكون مؤهلاً لأن يهدي الإنسان ذاته إلى السبيل المستقيم للفعل الحر (81). هكذا يدعو الله الإنسان إلى مشاركته في عنايته، فيريد أن يدير العالم بواسطة الإنسان نفسه، أي بعقله وعمله المسؤول، لا عالم الطبيعة فقط، بل أيضاً عالم الأشخاص البشريين أيضاً. في هذا الحقل تبرز الشريعة الطبيعية كتعبير عن شريعة الله الأزلية: في هذا يكتب القديس توما: “تمتاز الطبيعة البشرية على سائر المخلوقات بخضوعها خضوعاً أرفع، إذا صح القول، للعناية الإلهية وذلك بمشاركتها العناية في تدبير شؤونها وشؤون الغير. ومن ثم إن لهذه الطبيعة سهماً في التدبير الإلهي يجعلها تتجه إلى السعي نحو الواجب والغاية المنشودة. وهي شركة الخليقة العاقلة هذه بالشريعة الإلهية تسمى الشريعة الطبيعية” (82).
44- طالما عادت الكنيسة إلى تعليم القديس توما في الشريعة الطبيعية واعتمدته في نظامها. فيركز سلفنا لاون الثالث عشر على خضوع العقل والشريعة البشرية خضوعاً أساسياً لحكمة الله وشريعته، فبعد أن يقول “إن الشريعة الطبيعية هي مكتوبة ومحفورة في نفوس الناس جميعاً، جماعات وأفراداً، لأن العقل البشري ذاته هو يأمر بالعمل الصالح وينهي عن الخطيئة” يرتفع بالفكر إلى “عقل” المشترع الإلهي “الأسمى”، فيقول لاون الثالث عشر: “بيد أن ما يأمر به العقل البشري لا يكتسب قوة الشريعة إلاّ من كونه الصوت والترجمان للعقل الذي يجب أن نُخضع له عقلنا وحريتنا”. فقوة الشريعة إنما هي في ما لها من سلطة لإملاء الواجبات وتوزيع الحقوق ومعاقبة بعض المخالفات: “أمور ما كانت كلها لتتوفر للإنسان، لو أنه كان هو نفسه يرسم لنفسه سنّة أعماله كمشترع أسمى”. ويخلص إلى القول : “فيتضح من ثم إن شريعة الطبيعة هي الشريعة الأزلية ذاتها مرسومة في الذين ينعمون بعقل يحدوهم إلى السعي في سبيل الواجب والغاية المنشودة وإنما هي العقل الأزلي، عقل الله خالق الكون ومدبره” (83).
بوسع الإنسان أن يعرف الخير والشر بما له من قدرة على التمييز يمارسها هو بواسطة عقله، وتحديداً بواسطة عقله المنّور بالوحي والإيمان، بفضل الشريعة التي أعطاها الله لشعبه المختار، بدءاً بالوصايا في سيناء. لقد دعي إسرائيل لأن يقبل شريعة الله ويحفظها، عطية خاصة وعلامة لاختياره والعهد الإلهي. هذا ما كلّم به موسى أبناء إسرائيل وسألهم: “أية أمة كبيرة لها آلهة قريبة منها كالرب إلهنا في كل ما ندعوه! وأية أمة لها رسوم وأحكام عادلة كجميع هذه التوراة التي أتلوها عليكم اليوم” (تثنية 4/ 7- 8). وفي المزامير نجد مشاعر المديح والشكر والتكريم التي يدعى الشعب المختار لأن يغذيها في نفسه نحو شريعة الله مع حثهم على أن يعرفوها ويتأملوها ويمارسوها في الحياة: “طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين وفي طريق الخطأة لم يقف وفي مجلس الساخرين لم يجلس، بل في شريعة الرب هواه وفي شريعته يهزّ نهاراً وليلاً” (مز1/ 1- 2) “شريعة الرب كاملة تردّ النفس وشهادة الرب صادقة تحكّم الغبي. أمر الرب مستقيم يفرّح القلب ووصية الرب نقيّة تنير العيون” (19/ 18، 8- 9).
45- الكنيسة تقبل وديعة الوحي كلها بالشكر، وتحفظها بمحبة، وترعاها بتقوى، وتؤدي مهمتها في تفسير شريعة الله تفسيراً صحيحاً على ضوء الإنجيل. والكنيسة تقبل أيضاً كعطية الشريعة الجديدة التي هي كمال شريعة الله في المسيح يسوع وبروحه: إنها حقاً الشريعة “الروحية” (إرميا31/ 31- 33)” المكتوبة لا بمداد بل بروح الله الحي، لا على ألواح من حجر بل على ألواح قلوب من لحم ودم” (2 قو 3/ 3) شريعة الكمال والحرية (2 قو 3/ 17)، هي “شريعة روح الحياة في المسيح يسوع” (روم8/ 2). في هذه الشريعة كتب القديس توما يقول: “هذه الشريعة يمكن أن نسميها بمعنى أول الروح القدس… لكن الروح القدس الذي يسكن الفكر فيعلم ليس فقط ما ينبغي عمله بما يفيض من نوره على العقل، بل يُنشِئ الرغبة في العمل الصالح… ويمكن القول بمعنى آخر أن الشريعة هي من ثمار الروح القدس نفسه، أي الإيمان الذي يعمل بالمحبة (غلا5/ 9) فتعلم باطنياً ما يجب عمله… وتنشئ الرغبة في العمل” (84).
هذا، وإن علم لاهوت الأخلاق يميّز عادة في بحثه الشريعة التي أعطاها الله أو أوصى بها عن الشريعة الطبيعة، وفي تدبير الخلاص الشريعة “القديمة” عن الشريعة “الجديدة”، فينبغي لنا أن لا ننسى أن هذه وتلك التمييزات المفيدة تُسنَدُ دائماً إلى الشريعة التي واضعها هو الإله الواحد ذاته، والموضوعة له هو الإنسان. إن الأساليب المتعددة التي بها يسهر الله على الإنسان والعالم في التاريخ، لا تتنابذ بل بالعكس تتساند وتتداخل. جميعها تصدر عن قصد حكمة الله ومحبته الذي به يعدُّ الناس “ليكونوا بشبه صورة ابنه” (روم 8/ 29).
وما كان هذا القصد الإلهي لينال من حرية الإنسان بل إن قبول هذا القصد هو السبيل الوحيد لتعزيز الحرية.
“إن العمل بالشريعة مكتوب على قلبهم” (روم 2/ 15)
46- إن التناقض المزعوم بين الحرية والشريعة يُطرَح من جديد بقوة في ما يختص بالشريعة الطبيعية وخاصة في ما يتعلق بالطبيعة. إن الجدل في الطبيعة والحرية رافق بالواقع تاريخ البحث في لاهوت الأخلاق، وقد احتدم في زمن النهضة والإصلاح كما يستدل من تعاليم المجمع التريدنتيني (85).
مثل هذا التوتر يبرز في عصرنا أيضاً وإن على نحو مختلف: فالميل إلى اختيار الأشياء، والأساليب والطرق العلمية الموضوعية، والتقدم التقني، وبعض ألوان الليبرالية، أدّت إلى تعارض هذين الطرفين، كما لو كان الجدل – إن لم نقل التصادم – بين الحرية والطبيعة من مقومات التاريخ البشري. وكان يبدو في عهود أخرى أن الطبيعة تُخضِع الإنسان كلياً لحركتها الناشطة بل لحتمياتها. وفي أيامنا أيضاً تبدو للكثيرين إحداثيات العالم المحسوس، والثوابت الكيميائية والفيزيائية، ودينامية الأجسام، والدوافع النفسية والضغوط الاجتماعية وكأنها وحدها العناصر الحاسمة في الشؤون البشرية. وفي هذا الصدد تعالج شؤون الأخلاق، في الغالب،رغم طابعها الخاص، كما لو كانت أموراً تفسَّر بفنّ الإحصاء، كحالاتٍ تُفحَص وتظهَّر فقط بالأساليب العلمية النفسية الاجتماعية. لذلك إن بعض البحاثة في علم الأخلاق، الذي يضطرون بحكم وظيفتهم لتفحُص الأعمال والأحداث البشرية، يتعرضون لتجربة قياس موضوع بحثهم، بل أحكامهم أيضاً وفقاً لمعطيات استقصاء يجري على تصرفات بشرية معينة أو على آراء الكثيرين من الناس في مواضيع أخلاقية.
فيما غيرهم من الاختصاصين في الشأن الأخلاقي الذي يعنون بالتربية على القيم، يلزمون جانب كرامة الحرية، لكنهم يعتبرونها في الغالب غير متناغمة بل متعارضة مع الطبيعة المادية والبيولوجية التي يجب أن تسيطر عليها تدريجياً. وفي هذا الصدد تلتقي آراء مختلفة في إغفال حال الطبيعة كخليقة وجهل مقوماتها. في نظر بعضهم الطبيعة هي مجرد عنصر في متناول العمل البشري وقدرته، قابلة للتغيير الجذري بل لأن تتجاوزها الحرية لأنها تبدو وكأنها تحدّ منها وتنقضها. وبنظر الآخرين أنه في تقدم طاقات الإنسان وحريته بلا حد تستقيم القيم الاقتصادية والاجتماعية بل الثقافية والأخلاقية، فلا تعود تعني الطبيعة إلاّ ما هو في الإنسان ومن العالم خارج نطاق الحرية. هذه الطبيعة تشمل أولاً الجسم البشري ببنيته وقواه. هذه العناصر الفيزيائية يعارضها كل ما يبنيه الإنسان أي العناصر الثقافية التي هي من عمل الحرية وثمرتها. إن الطبيعة البشرية المفهومة على هذا النحو تصبح مجرد مادة بيولوجية أو اجتماعية للاستعمال عند الحاجة.
هذا يعني بالنهاية إن الحرية تحدد ذاتها بذاتها وأنها من المسلّمات التي تخلق ذاتها وقيمها. وهكذا بالنهاية يتعرى الإنسان من طبيعته بالذات، ويكون هو بذاته علة كيانه، ولا يكون الإنسان إلاّ حريته، ولا شيئاً آخر.
47- وفي هذا الإطار نشأت اعتراضات المذاهب الفيزيائية والطبيعية (Physicisme, naturalisme) ضد مفهوم الشريعة الطبيعية التقليدية، فتزين لنا أن الشرائع الأخلاقية ما هي إلاّ شرائع بيولوجية. وتذهب السطحية في التفكير إلى حدّ إسناد طابع ثابت لا يتغير لبعض التصرفات البشرية يصار انطلاقاً منها إلى ادعاء سن شرائع أخلاقية صالحة للجميع. ويزعم بعض علماء اللاهوت أن مثل هذا “التفكير البيولوجي والطبيعي” يوجد في بعض وثائق السلطة المعلمة في الكنيسة، وبخاصة في ما يتعلق بأخلاقية الجنس والزواج. فإنها بزعمهم قد انطلقت من نظرة “طبيعية” في مفهوم العمل الجنسي لتعلن لا أخلاقية وسائل منع الحمل، والتعقيم المباشر، والعادة السرّية، والعلاقات الجنسية قبل الزواج والعلاقات اللواطية، والإخصاب المصطنع. ففي نظر هؤلاء اللاهوتيين، إذا اعتبرنا هذه الأعمال شراً لا نكون وفينا الإنسان العاقل الحر حقه من الاعتبار ولا أخذنا بعين الاعتبار تكيف الأحكام الأخلاقية بالضغوط الثقافية. ويؤكدون أيضاً أن الإنسان بقوة عقله التي يتمتع بها، ليس فقط يمكنه، بل يجب أن يحكم هو بملء حريته على معنى أفعاله. وهذا “الحكم على المعنى” يجب، كما يبدو، أن يحسب حساب حدود الإنسان التي تفرضها عليه أحوال الجسد وظروف الزمان والمكان. فينبغي بالتالي النظر في طرق العيش السائدة وتقصّي ما ترتدي من معنى في إطار حضارة معينة. والمهم قبل كل شيء واجب حفظ وصية الله: محبة الله والقريب. بيد أن الله، كما يؤكدون أخيراً، خلق الإنسان كائناً عاقلاً وتركه “لمشورة نفسه”. وينتظر منه أن يدبر ذاته بذاته تدبيراً عاقلاً. فحفظ محبة القريب يعني خاصة ويعني فقط احترام حرية الآخر في اختيار أسلوب حياته بذاته. ويقولون أن العادات البشرية الخاصة وما يسمى “بالميول الطبيعية” جلّ ما يمكنها عمله هو أن ترسم بعض الخطوط لاستقامة السلوك، ولكنه أعجز من أن تحدد أسساُ أخلاقية للأفعال البشرية البالغة التعقيد بالنظر لظروفها.
48- فتجاه هذه الآراء لا بدّ من النظر بإمعان إلى العلاقة القائمة بين الحرية والطبيعة البشرية، ولا بدّ خاصة من تفحص المكان الذي يحتله الجسد البشري في الشريعة الطبيعية. إن حرية تريد ذاتها مطلقة تؤدي إلى اعتبار الجسد البشري كمادة خام خالية من المعنى والقيمة الأخلاقية إلى أن تتعهده الحرية في مشروعها. فتظهر من ثم الجسد والطبيعة من المعطيات الأولى والفرضيات الضرورية مادياً لتمارس الحرية اختيارها، ولكنها خارجية بالنسبة للشخص البشري وللعمل البشري. فليس لعمل الطبيعة والجسد بحد ذاته طابع أخلاقي، إذ أن غاية نزعاتها تقف عند الخيرات الطبيعية أو ما “قبل الأخلاقية” (prė-moraux) كما يحلو للبعض أن يسموها. إذا اعتبرناها كمرجع يعتمد العقل للبحث في النظام الخلقي، نقع في (Physicisme, Biologisme) الفيزيسمية والبيولوجسمية. وفي هذه الحال يؤدي التوتر بين الحرية والطبيعة بهذا المعنى المحصور إلى الانقسام في داخل الإنسان.
هذا التعليم في الأخلاق لا يتفق مع حقيقة الإنسان وحريته، ويناقض تعليم الكنيسة في وحدة الإنسان المؤلف من جسد ونفس عاقلة هي بحد ذاتها وأساسياً الصورة التي تكتمل بها هويته (86). فالنفس الروحية الحية التي لا تموت هي مبدأ وحدة الإنسان، ذلك الشيء الذي به يوجد ككل، شخصاً واحداً بجسدٍ ونفس (87). هذه المعطيات لا تدل فقط على أن الجسد مُعد للقيامة، وسيكون شريكاً في المجد، بل تذكّر بالروابط القائمة بين العقل والإرادة الحرة من جهة والجسد والحواس من جهة ثانية، والشخص البشري، بما فيه جسده، يتعهد ذاته بذاته، وفي وحدة النفس والجسد هو مسؤول عن أعماله في الحياة الأخلاقية. ويكتشف في جسده بنور العقل وبسند من الفضيلة، الدلائل المشيرة إلى عطاء الذات، والتعبير عنها والاستعداد لها، وفقاً لقصد الخالق الحكيم. ويكتشف العقل، من خلال كرامة الشخص البشري القائمة بذاتها، القيمة الموجهة الأخلاقية التي تنطوي عليها بعض الأشياء التي ينتفع بها الإنسان ويُحمّل من طبعه عليها. ولما لم يكن ممكناً اعتبار الشخص البشري مجرد حرية تتصرف بذاتها بل يتكون من بنية روحية وجسدية محددة، فإن واجب محبته واحترامه كشخص بشري هو أبداً غاية في ذاته لا مجر أداة، ينطوي على احترام بعض القيم الأساسية احتراماً بدونه نقع في النسبية والاعتباطية.
49- إن التعليم الذي ينقض الشركة القائمة بين الفعل الأخلاقي والمعطيات الجسدية، ينقض ما يرسمه الكتاب المقدس والتقليد. مثل هذا التعلم يكرر بشكل جديد أضاليل قديمة، نبذتها الكنيسة دائماً لأنها تعتبر الشخص البشري مجرد حرية روحية صورية مجردة. هذه النظرية تُسقِطُ ما للجسد والأفعال التي تُنسَبُ إليه من معنى في الشأن الأخلاقي (1 قو 6/ 19). ففي نظر بولس الرسول لا يرث ملكوت الله “الفاسقون ولا عبدة الأوثان ولا الزناة ولا مضاجعو الذكور ولا السارقون ولا الفاجرون ولا السكيرون ولا النمامون ولا الخاطئون” (1 قو6/ 9- 10). هذه الإدانة التي يعلنها رسمياً المجمع التريدنتيني (88) تُحصي في عداد “الخطايا المميتة والتصرفات الشائنة” بعض الأفعال الصادرة عن إرادة حرة والتي تحرم المؤمنين من ميراث الحياة الأبدية. لأنه لا يمكن فصل النفس عن الجسد، فإنهما في الشخص الذي يعمل بإرادته وفي فعل الإرادة، إما يلتقيان معاً وإما يضيعان.
50- يمكننا الآن أن نفهم معنى الشريعة الطبيعية. إنها شريعة طبيعة الإنسان الخاصة الأصيلة، أي “طبيعة الشخص البشري” (89) التي هي الشخص البشري عينه في وحدة النفس والجسد، وحدة نزعاته الروحية والبيولوجية وسائر طبائعه الخاصة الضرورية لبلوغ غايته الأخيرة. “الشريعة الأخلاقية الطبيعية تبيّن وتملي الأهداف والحقوق والواجبات الملازمة لطبيعة الشخص البشري الجسدية والروحية. هذه الشريعة إذن لا يمكن اعتبارها مجرد سنّة بيولوجية بل يجب أن تحدد كنظام يمليه العقل ويدعو الله به الإنسان إلى أن يسيّر وينظّم حياته وأعماله، وبنوع خاص، إلى أن يسوس جسده ويستخدمه” (90). فعلى سبيل المثل، إن مصدر واجب احترام الحياة البشرية وأساسه يجب طلبهما في كرامة الإنسان ذاتها، وليس فقط في النزعة الطبيعية للحفاظ على الحياة. وبذلك تكتسب الحياة البشرية، عدا كونها بحد ذاتها خيراً أساسياً ينعم به الإنسان، بعداً أخلاقياً، بنسبتها إلى الشخص البشري الذي يجب دائماً احترامه من أجل ذاته. وإذ كان لا يجوز أبداً قتل إنسان بريء، فمن الجائز، بل من الحسن، بل أيضاً من الواجب، بذل الحياة (يو 15/ 13) من أجل القريب أو من أجل الشهادة للحق. وبالواقع لا يمكن الإحاطة بالمفهوم الإنساني للجسد إلاّ إذا اعتُبِر الشخص “وحدة متكاملة” أي “نفساً ناطقة في جسد وجسداً يحييه روح غير مائت” (91)، فالنزعات الطبيعية لا تأخذ بعداً أخلاقياً إلاّ من خلال نسبتها للشخص البشري ولتحقيق ذاته تحقيقاً لا يمكن أن يتم، إلاّ في الطبيعة البشرية. الكنيسة تخدم الإنسان برفضها إساءة استعمال الطاقات الجسدية استعمالاً يفقدها معناه الإنساني، وترشده إلى طريق الحب الحقيقي التي فيها وحدها يمكن هذا الحب أن يجد الله الحق.
شريعة الطبيعة إذا فهمناها على هذا النحو لا تترك مجالاً للفصل بين الحرية والطبيعة فإنهما تكونان مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً إحداهما بالأخرى وفي شركة حميمة.
“لم يكن من البدء هكذا” ( متى 19/ 8)
51- إن النزاع المزعوم بين الحرية والطبيعة ينعكس على تفسير بعض وجوه الشريعة الطبيعية، خاصة في ما يتعلق بشموليتها وثباتها.
“أين تكون هذه الرسوم مطبوعة – يتساءل القديس أغوسطينوس – إن لم يكن في كتاب ذلك النور الذي نسميه الحقيقة. عنها تؤخذ كل شريعة حقة وتُنقَل إلى قلب الإنسان الذي يصنع البرّ، تُنقَل لا بطريقة عابرة، بل تنطبع كما تُنقَل الصورة من الخاتم إلى الشمع ولا تزول عن الخاتم” (92).
وإنما بفضل هذه “الحقيقة” تكتسب الشريعة الطبيعية طابع الشمول. وهي، بحكم كونها مطبوعة في طبيعة الإنسان العقلية تفرض ذاتها على كل إنسان. إن الإنسان لكي يبلغ درجة كماله الخاص يجب عليه أن يصنع الخير ويتجنب الشر، وأن يحرص على إنجاب الحياة وعلى صيانتها، وأن يعتني بخيرات العالم المحسوس وينميها، وأن يتمرس بالشؤون الاجتماعية وأن يسعى في طلب الحق، وصنع الخير والتأمل في الجمال (93).
إن الشرخ الذي أدخله بعضهم بين حرية الأفراد وطبيعة الناس عامة، كما يتبين من بعض المذاهب الفلسفية التي لها في ثقافة اليوم شأن كبير، يحجب عن العقل شمولية الشريعة الطبيعية. بيد أن الشريعة الطبيعية، بما أنها تعبّر عن كرامة الشخص البشري وتركز أهم حقوقه وواجباته على أساس ثابت، فهي شاملة في أحكامها وتلزم الجميع. هذه الشمولية لا تتنكر لفرادة الأشخاص، ولا لميزة طبيعة كل إنسان الفريدة التي لا بديل لها، بل إنها بالعكس تتناول أفعاله في أصولها التي تشهد لشمولية الخير الحق. إن أفعالنا بخضوعها للشريعة العامة تبني الوحدة الحقة بين الناس وتمارس فيها، بنعمة الله، المحبة التي هي “رباط الكمال” (كول 3/ 14) أما إذا خرجت أفعالنا عن الشريعة أو جهلتها جهلاً مسؤولاً أو غير مسؤول فإنها تسيء إلى الوحدة بين الجماعة وبالتالي تؤذي الأفراد.
52- إنه لعدل وصالح أن يخدم الجميع الله دائماً ويؤدوا له واجب العبادة وأن يكرموا بالحق والديهم. مثل هذه الشرائع الوضعيّة التي تأمر بالقيام ببعض الأفعال والالتزام ببعض المواقف تلزم الجميع: إنها لا تتغيّر (94)، وهي تعني على النحو ذاته جميع الناس من مختلف الأعمار المخلوقين لكي “ينعموا بدعوتهم ومصيرهم الإلهيين” (95). هذه الشرائع الشاملة والثابتة تتجاوب مع معطيات العقل العملي وتطبّق على الفعال الخاصة بحكم الضمير. والإنسان الذي يعمل شخصياً يستوعب الحقيقة التي تنطوي عليها الشريعة، ويملك حقيقة ذاته هذه بأفعاله والفضائل المتصلة بها. إن وصايا الشريعة الطبيعية الناهية تلزم العموم، ويتقيد بها الأفراد والجماعات دائماً وفي كل الأحوال. إنها تتناول موانع تنهى عن بعض الأعمال دائماً وإلى ما شاء الله، دون استثناء، لأن القيام بمثل هذه الأعمال لا يتفق مع الإرادة الصالحة عند الإنسان، ولا مع دعوته للحياة مع الله والعيش المشترك مع القريب. ويحظر دائماً على كل إنسان أن يتجاوز الوصايا التي هي كلها ملزمة وبأي ثمن كان، وأن يمتهن كرامة أي كان، وبالأحرى كرامته الشخصية التي هي كرامة الجميع.
لكن إذا كانت الوصايا الناهية تلزم دائماً وفي جميع الأحوال فذلك لا يعني أن للنواهي في الأخلاق شأناً أعظم من الوصايا الإيجابية التي تأمر بفعل الخير. والسبب في ذلك هو أن وصية محبة الله والقريب لا تعرف لها حداً أعلى، بل حداً أدنى إذا انحطت عنه وانتُهِكت. هذا، وإن ما يجب عمله في بعض الأحوال يظل رهناً بالظروف التي لا يمكن للمرء أن يتوقعها كلها سلفاً وبالعكس إن من التصرفات ما لا يصح أي لا يتفق مطلقاً مع كرامة الشخص البشري. ويتفق دائماً للإنسان أن يُمنَع، لدافع الضغط أو أية ظروف أخرى معاكسة، من أن يقوم بعض الأعمال الصالحة، لكن من أن لا يقوم ببعض الأعمال وبخاصة إذا كان هو يفضل الموت على أن يصنع شراً.
لقد علّمت الكنيسة دائماً أنه لا يجوز أبداً القيام بأعمال تمنعها الوصايا الواردة في العهد القديم والعهد الجديد بصيغة النهي. فيسوع نفسه، كما أشرنا سابقاً يؤكد على الالتزام بهذه النواهي: “إن شئت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا… لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور” (متى 19/ 17- 18).
53- إن ما يُعرَف به إنسان عصرنا من حسّ ٍ مرهف في ما يتعلق بالتاريخ والثقافة يدفع البعض إلى الشك بثبوتية الشريعة الطبيعية ذاتها وثانياً بقيام “قواعد ثابتة للأخلاق” (96) تلزم جميع الناس الكائنين اليوم وسيكونون غداً ومثل الذين كانوا بالأمس: كيف يمكن، بزعمهم، القول بأن أحكاماً وآراء وضعت في الأزمنة الغابرة تسري على الجميع، بينما كان يُجهل التقدم الذي ستبلغه البشرية في ما بعد؟
لا يمكن أن ننكر أن الإنسان يتقلب في حضارة معينة لكن لا يمكن لهذه الحضارة أن تحدّد هويته. هذا، وإن تقدم الحضارات ذاته يظهر أن في الإنسان شيئاً يتجاوزها. وهذا “الشيء” هو بالتحديد طبيعة الإنسان: هي مقياس الحضارة وهي ما يجنّب الإنسان أن يكون عبداً لأيّ حضارة كانت، فيصون كرامته الإنسانية ويعيش بما يتفق مع حقيقة منزلته الرفيعة. إن إثارة الجدل حول مقومات الإنسان الأساسية والثابتة المتصلة اتصالاً وثيقاً بالمعطيات الجسدية ذاتها، لا يؤدي فقط إلى ما يتنافى مع خبرة البشر العامة، بل يعطل فهم تنويه يسوع “بما كان في البدء”، به أراد أن يصحح التفكير السائد في تلك الأيام الذي ينحرف بالأصول الأخلاقية عن مفهومها الصحيح ويحط من شأنها (متى 19/ 1- 19). وبهذا المعنى “تؤكد الكنيسة أن من الأمور ما لا يتغيّر بتغيّر الأحوال، لأنه مؤسس على المسيح الذي هو أمس واليوم وإلى الأبد” (97). هو “المبدأ” الذي، حين أخذ الطبيعة البشرية غمرها بأنواره في صميم كيانها وفي دينامية حبها لله وللقريب (98).
لا شك في أنه من الواجب أن نطلب ونجد للأعراف الأخلاقية الشاملة والثابتة صيغة تتوافق أكثر مع أنواع الحضارات المختلفة، وتبدو دائماً ملائمة أكثر لظروف الزمان الخاصة، وإبراز حقيقتها وتفسيرها (تفسيراً صحيحاً). إن حقيقة الشريعة الأخلاقية مثل “وديعة الإيمان”، ثابتة تعمّ الأجيال. أمّا الأحكام التي تعبر عنها فهي ثابتة في الجوهر، لكن لا بد من تحديدها وصياغتها “بالمعنى ذاته والتعبير ذاته” (99) وفقاً للظروف التاريخية على يد السلطة التعليمية التي يَسبقها ويُرافقها جهدُ عقل المؤمنين في قراءة وصياغة الأبحاث اللاهوتية (100).
II – الضمير والحقيقة
قدس أقداس الإنسان
54- إن العلاقة بين حرية الإنسان وشريعة الله تجد لها مسكناً حياً في “قلب” الإنسان، أي في ضميره. جاء في المجمع الفاتيكاني “أن الإنسان يكتشف في أعماق ضميره الشريعة التي لم يعطِها هو لذاته، بل أعطيها ليخضع لها ويسمع صوتها يدعوه دائماً إلى أن يحب الخير ويصنعه ويتجنب الشر، ويرنّ في أذن القلب كلما اقتضى الأمر، ويقول: إصنع هذا، تجنب ذاك. لأن للإنسان شريعة كتبها الله في قلبه. كرامته في طاعتها وعليها يدان، (رو 2/ 14- 16) (101).
لذلك فالمستند الذي نرتكز عليه في فهمنا العلاقة بين الحرية والشريعة له علاقة وثيقة بحكم الضمير. وبهذا المعنى تؤدي التيارات الثقافية التي تنصّب الحرية ضد الشريعة وتُفرّق بينهما وتجعل من الحرية نوعاً من الصنم، إلى إيلاء الضمير صفة “الخلق” في موضوع الأخلاق، الأمر الذي يخرج عن فكر الكنيسة التقليدي وعن تعليمها.
55- يرى بعض علماء اللاهوت أن دور الضمير، أقلّه في الأزمنة الغابرة، كان ينحصر في استخدام المبادئ العامة، لتُطَبَق على الحوادث الخاصة التي تطرأ على حياة الأفراد. لكنهم يقولون أن مثل هذه المبادئ ليست صالحة، بالواقع، لأن تتناول كلاً من هذه الأعمال وتراعي ما لها من خصوصيات. يمكنها أيضاً أن تساعد على تقدير بعض الحالات تقديراً صحيحاً، بيد أنها لا يمكن أن تحل محل الأشخاص عندما يأخذون قراراً في حالات خاصة. ومن ثم فإن من شان هذا الموقف الناقد من التعليم التقليدي في الشخص البشري وما لهذا التعليم من أثر في الحياة الأخلاقية، أن يدفع بعض أهل الفكر إلى القول بأن ليس لهذه المبادئ ما للشرائع الموجبة من قدرة على إلزام الضمير في أحكامه، إنما هي مجرد توجيهات عامة تساعد الإنسان بشكل تقريبي على أن ينظم بذاته حياته الخاصة الاجتماعية تنظيماً مرضياً. وهم أنفسهم يركّزون كثيراً على ما في الضمير من مضاعفات: إنه رهن التقلبات النفسانية والعاطفية، ورهن الأحوال المختلفة التي يتقلب فيها المجتمع والحضارة. ومن جهة أخرى يُعلون شأن الضمير الذي أسماه المجمع نفسه “قدس أقداس الإنسان يخلو فيه وحده الله الذي يُسمِعُه صوتَه في أعماقه” (102). صوت يقال أنه لا يحدو بالإنسان إلى أن يحفظ بدقة الشرائع بشكل عام، مثله إلى أن يلتزم بالواجبات التي يمليها عليه الله التزماً مسؤولاً ومثمراً.
وإن بعض أهل الفكر، حرصاً منهم على إبراز قدرة الضمير “الخلاقة” لا يعتبرون أفعال الضمير “أحكاماً” بل “قرارات” يستقل الإنسان بأخذها فيبلغ بذلك النضج الأخلاقي. ومنهم من يزعم أن السعي لمثل هذا النضج يصطدم بمواقف تأخذها في قضايا كثيرة سلطة الكنيسة التعليمية التي يمكن أن تخلق بمداخلاتها أزمات ضمير حادة عند المؤمنين.
56- ويذهب بعضهم تبريراً لمواقفهم إلى حد القول بازدواجية الحقيقة في الشؤون الأخلاقية. فإلى جانب الحقيقة النظرية المجرّدة، يجب بزعمهم القبول بنظرة وجودية إلى الحياة وتمتاز بتطابق أكثر مع الواقع. وقد تؤدي هذه النظرة في ظروف وأوضاع معينة، إلى اختراق مشروع للشرائع العامة، وهكذا يمكن لأحدهم بالواقع أن يعمل بضمير مرتاح، أعمالاً تعتبرها الشريعة الأخلاقية شراً بحد ذاتها. وينشأ في بعض الأحوال انقسام بل تناقض بين تعليم الوصية الذي له بحد ذاته طابع إلزامي شامل، وناموس كل ضمير بمفرده، به يميز بالواقع الخير من الشر. وعملاً بهذا المبدأ يحاولون ابتكار حلول “رعوية” كما يقولون، ويعتبرونها شرعية خلافاً لما تعلّمه الكنيسة، وفي وكدهم تبرير طريقة “خلاقة” لتطبيق اللاهوت الأخلاقي يكون بموجبها الضمير غير ملتزم بوصية ناهية خاصة، في كل الأحوال.
ليس من يجهل أن مثل هذه الاجتهادات تؤدي إلى تعطيل مفهوم ماهية الضمير ذاتها بالنسبة لحرية الإنسان وشريعة الله. وحدها الإيضاحات التي مرّ ذكرها حول العلاقة المرتكزة على الحقيقة، بين الحرية والشريعة، تمكننا من انتقاد فهم الضمير على هذه الطريقة “الخلاقة”.
حكم الضمير
57- إن نص الرسالة إلى رومة الذي يبرز كنه الشريعة الطبيعية هو يوضح أيضاً نظرة الكتب الإلهية في الضمير، وبخاصة في علاقته الخاصة بالشريعة: “وإذا كان الأمم الذين بلا ناموس عملوا من طبعهم بالناموس فهؤلاء الذين بلا ناموس كانوا لأنفسهم ناموساً مظهرين أن العمل بالناموس مكتوب في قلوبهم ونيتهم تشهد عليهم فيما ضمائرهم تشكو بعضاً أو تدافع عن بعض” (روم 2/ 14- 15).
فالضمير الذي على حد ما جاء عند القديس بولس، يضع الإنسان تجاه الشريعة، يكون هو شاهداً لهذا الإنسان: شاهداً على أمانته أو على عدم أمانته للشريعة أي على استقامة أو فساد أخلاقه. الضمير هو الشاهد الوحيد. فإن ما يحدث في القلب يخفى عن جميع الذين في الخارج. والضمير لا يؤدي شهادته إلاّ للشخص نفسه، وبالمقابل وحده الشخص يعرف جواب ضميره له.
58- لا يمكننا أن نقدّر بما فيه الكفاية حوار الإنسان هذا السرّي مع ذاته، فإنه بالواقع هو حوار حقاً مع ربّه، واضع الشريعة، مثال الإنسان الأعلى وغايته الأخيرة. كتب القديس بونافنتورا يقول: “الضمير هو مثل داعية الله ورسوله وما يقوله لا يأمر به من عند ذاته، بل يأمر كما من عند الله، مثل المنادي عندما يعلن أمر الملك. وهذا ما يستمد منه الضمير قدرة الإلزام” (103). فيمكن القول إذن أن الضمير يمكنه أن يؤدي للإنسان نفسه الشهادة على استقامته أو فساد أخلاقه. ولكنه في الوقت ذاته، لا قبل، هو شهادة الله نفسه، من يلج صوته وحكمه أعماق الإنسان، “حتى مفرق نفسه”، داعياً إياه بقوة ولطف إلى الطاعة: ” الضمير لا يغلق على الإنسان الباب مغلوباً على أمره في عزلة لا تخترق، بل يفتحه على دعوة الله وسماع صوته. وفي هذا، لا في أي شيء آخر، كل سرّ الضمير وكرامته، أي كونه المكان والإطار الذي فيه يكلم الله الإنسان” (104).
59- القديس بولس لا يكتفي بان يعترف بأن للضمير دور الشاهد بل يبين أيضاً كيف أنه يؤدي هذا الواجب وذلك في معرض الكلام عن “أفكار القلوب” التي تارة تشكو وتارة تبرر الأمم في ما يتعلق بتصرفاتهم (روم 2/ 15). و”أفكار القلوب” هذه إنما تكشف ما هو مختص بالضمير، أي أنها تعني الحكم من الوجهة الأخلاقية على الإنسان وأفعاله، حكم يبرره أو يدينه، حسب موافقة أو عدم موافقة أفعال الإنسان الشريعة الإلهية المنطبعة في نفسه. عن الحكم على الأفعال وعن فاعلها وعن الزمن المحدد لقضائه يقول بولس الرسول في النص ذاته أنه يتم “يوم يدين الله بيسوع المسيح خفايا جميع البشر بحسب إنجيلي” (روم 2/ 16).
وحكم الضمير هو حكم عملي، إذ أنه يملي على الإنسان ما يجب عليه أن يفعل وما يجب عليه أن يتجنب، أو أنه يدين فعلاً ما فعله. إنه حكم يُطبَّق على حال معينة اقتناع العقل بالمبدأ القائل بأن علينا أن نحب الخير ونعمله وأن نتجنب الشر. وهذا المبدأ الأول للعقل العملي يختص بالشريعة الطبيعية، إنه أساس لها، لأنه يسلط على الخير والشر ذلك الضوء الأول، انعكاس حكمة الله الخالقة التي هي في النفس الشرارة الخالدة، تتألف في قلب كل إنسان. لكن بما أن الشريعة الطبيعية تعلن بالعموم المقتضيات العملية العامة لاستقامة الأخلاق، يُطبَّق الضمير هذه الشريعة كما يلزم على الحالات الخاصة، فتصير للإنسان ناموساً في داخله ودعوة لعمل الخير في ظرف معين ومحدد. إنّ الطابع الإلزامي الذي ترتديه الشريعة لا يسقط، بل بالأحرى يتعزز، بتطبيع الشريعة على حادث معين راهن. حكم الضمير يثبت نهائياً موافقة أي مسلك كان للشريعة، إنه يضع القاعدة المباشرة لتقييم أخلاقية فعل الإرادة، “بتطبيق الشريعة الموضوعة على حادث معين” (105).
60- لحكم الضمير قوة إلزامية، كما للشريعة الطبيعية وأي معرفة عملية، وعلى الإنسان أن يعمل بموجبه. وإذا خالف هذا الحكم أو ارتكب فعلاً معيناً لم يقتنع باستقامته وصلاحه، فإنه يدان من ضميره ذاته، محك أخلاقية كل إنسان.
ما لهذا الإلزام الذي يمليه العقل من قدر، وما لصوته واحترامه من سلطة، ينبع من الحقيقة عن الخير والشر التي يسمعها ويعلنها. هذه الحقيقة تمليها “الشريعة الإلهية”، القاعدة الشاملة والوضعيّة للأخلاقية. فحكم الضمير لا يصنع الشريعة، بل يؤكد سلطة الشريعة الطبيعية والعقل في ما يمتّ بصلة للخير الأسمى الذي ينقاد الإنسان لقوته الجاذبة وينصاع إليه: “ليس الضمير بحد ذاته المصدر الصالح الوحيد لتمييز الخير والشر، إنما هو بالعكس يحمل طيََّه مبدأ الخضوع للشريعة القائمة التي عليها ترتكز وبها تتكيف استقامة ما يأخذ من قرارات، على ضوء الأوامر والنواهي التي تحكم السلوك البشري” (106).
61- إن الحقيقة عن الخير والشر التي تتضمنها شريعة العقل البشري يدركها الضمير على وجه عمليّ معين ببصيرته، ويحدو بفاعل الخير أو الشر إلى تحمل مسؤولية فعله: إذا فعل الإنسان الشر يظل حكم الضمير فيه شاهداً، إما على الحقيقة الشاملة التي هي لجانب الخير، وإما على الشر الذي يختاره. بيد أن حكم الضمير يبقى فيه عربون الرحمة والرجاء فإنه فيما يندد بالشر المرتكب، ينذر بوجوب التماس السماح وعمل الخير دائماً، بل ممارسة الفضيلة بنعمة الله.
هكذا، في حكم الضمير الذي يسبق القيام بعمل ما، تظهر العلاقة التي تربط الحرية بالحقيقة. ولهذا السبب يعبر الضمير عن ذاته بإصدار “أحكام” ليست مجرد “آراء” اعتباطية بل أنها تنير الحقيقة في الخير. إن درجة نضج هذه الأحكام وبالتالي نضج الإنسان الذي يبرزها ومسؤوليته لا تقاس بتحرر الضمير من الحقيقة، في سبيل استقلالية مزعومة في اتخاذ القرارات، بل خلافاً لذلك بالسعي الجادّ لاكتشاف الحقيقة مثله للقدرة التي للحقيقة على تسيير أفعاله.
في طلب الحق والخير
62- لا يخلو حكم الضمير على عمل ما دائماً من كل خطأ على حد ما جاء في المجمع الذي يعلن أنه “يتفق للضمير في كثير من الأحيان أن يخطأ، لداعي الجهل المطبق، دون أن يفقد لذلك اعتباره. بيد أننا لا يمكننا أن نقول ذلك في من، قلما، يهتم في طلب الحق والخير، ومن يكاد تمرسه بالخطيئة أن يفقده مع الوقت البصيرة” (107). بهذه الكلمات يوجز المجمع ما علّمته الكنيسة عبرا لأجيال في الضمير المضلل.
لا شك في أن على الإنسان الذي يريد أن يكون ذا “ضمير صالح” (1تيمو 1/ 5) أن يسعى في طلب الحق وبالحق يحكم، على حد ما جاء عند بولس الرسول الذي يقول أن لا بدّ للضمير من أن يستنير بالروح القدس (روم 9/ 1) وأن يكون “نقياً” (2تيمو 1/ 3)، ولا يسلك بخداع ولا يغش بكلمة الله، بل أن “يظهر الحق” (2 قو4/ 2). ويردف الرسول المذكور قوله محذراً المؤمنين أن “لا تتشبهوا بهذا الدهر بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقولكم لتختبروا مشيئة الله ما هي. وما هو صالح ومرضيُّ وكامل” (روم 12/2).
تحذير بولس يحثّنا على السهر بقوله أن ضميرنا معرض دائماً للوقوع في الخطأ.
ليس الضمير قاضياً معصوماً، بل يتفق له أن يخطأ. بيد أن خطأ الضمير يمكن أن يكون نتيجة الجهل المطبق، أي الجهل الذي لا يعيه الإنسان، ولا يمكنه بذاته أن يخرج منه.
فحيث مثل هذا الجهل المطبق، فلا خطيئة، على حدّ ما يذكرنا به المجمع، والضمير لا يفقد اعتباره لأنه وإن يكن ينحرف بنا عن النظام الأخلاقي، فإنه لا يزال ينشد الخير في الحقيقة التي يُدعى كل إنسان لأن يسعى في طلبها بخلوص النية.
63- وتظل الحقيقة في كل حال مصدر كرامة الضمير: فالضمير المستقيم يكون حيث الحقيقة الموضوعيّة مقبولة، والضمير المضلل يكون حيث، ذاتياً، يحسب الإنسان خطأ أنه في الحق. ولا يجوز الخلط بين الخطأ، الذي يقع فيه المرء في ما يراه هو خيراً أخلاقياً، والحقيقة التي يزيّنها العقل للإنسان غاية له، ولا يحلّ اعتبار الفعل الصادر عن ضمير صحيح صادق، من حيث القيمة الأخلاقية، مساوياً لفعل يدر عن ضمير مضلل (108). قد لا يُطالَب المرء بشرٍ ارتكبه بدافع الجهل، المطبق، لكن الشر يظل في كل حال شراً، أي مخالفاً للحقيقة في ما يختص بالأخلاق. فضلاً عن ذلك أن الخير غير المعروف لا يفيد نموّ فاعله أخلاقياً بشيء، لا يزيده صلاحاً ولا يرفعه إلى الخير الأسمى. لذلك حريُّ بنا قبل أن نحسب ذاتنا أنقياء باسم الضمير أن نردد كلمات صاحب المزامير: “من الذي يتبيّن الزلات؟ نقّني من الخفايا” (مز 18/ 13- 19) من الخطايا ما لا نرى، ويظل مع ذلك خطيئة، لأننا نرفض أن نُقبِلَ إلى النور (يو 9/ 39- 41).
إن الضمير الذي عنه يصدر الحكم الواقعي النهائي يعرِّض كرامته للخطر لجهل يؤاخذ به أي “إذا لم يهتم بطلب الحق والخير وكاد تقلبه في الخطيئة يعمي بصيرته” (109). وإلى أخطار انحراف الضمير يشير يسوع بتحذيره: “سراج الجسد العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّراً، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً فإن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون” (متى6/ 22- 23).
64- إننا نجد في كلام يسوع المشار إليه سابقاً دعوة إلى تنشئة الضمير فنخضعه إلى تحوّل مستمر بالتوبة، أي بالتوبة إلى الحق والخير. وبمثل هذا الكلام يحثّنا الرسول على أن لا نتشبّه بهذا العالم بل نتغيّر بتجديد أفكارنا (روم 12/ 2). عن “القلب” التائب إلى محبة الله والخير تصدر أحكام الضمير الصائبة.
لأننا إذا أردنا “أن نميز أين هي مشيئة الله، وما هو صالح ومقبول وكامل” (روم 12/ 2)، لا بدّ لنا من أن نعرف شريعة الله بالعموم. بيد أن ذلك لا يكفي بل يجب أن يكون الخير والحق من طبعنا (110). ويتأهل هذا الطبع ويتنامى بالفطنة وسائر الفضائل الرئيسية، وبالأحرى الفضائل الإلهية: الإيمان والرجاء والمحبة. وبهذا المعنى قال يسوع: “من يعمل الحق يقبل إلى النور” (يو 3/ 21).
ويجد المؤمنون في الكنيسة وتعليمها عوناً كبيراً على تنشئة ضميرهم، كما يؤكد المجمع: “على المؤمنين في سعيهم إلى تنشئة ضميرهم أن يمعنوا في التأمل بتعليم الكنيسة المقدس الحق. فالكنيسة الكاثوليكية هي بإرادة المسيح معلمة الحقيقة ومهمتها إعلان الحقيقة التي هي المسيح وتعليمها، وأن تعلن وتثبت بسلطتها الخاصة مبادئ النظام الأخلاقي المتحدرة من الطبيعة البشرية ذاتها” (111). لذلك فالكنيسة في إعلانها بسلطتها الخاصة حكمها في الشؤون الأخلاقية لا تعطل حرية ضمير المؤمنين، ليس فقط لأن الحرية ليست أبداً التحرر من الحقيقة إنما هي دائماً في الحقيقة وحدها بل أيضاً لأن السلطة لا تعرض على الضمير المسيحي حقائق غريبة عنه، بل توضح له حقائق من المفروض أن يكون حاصلاً عليها، تجنيها ثمرة من إيمانه الأول. فالكنيسة هي دائماً في خدمة الضمير ليس إلاّ، وتسنده لئلا يكون ” متزعزعاً مائلاً مع كل ريح تعليم من خداع الناس” (أفسس 4/ 14)، ولئلا يضلّ عمّا هو خير الإنسان الحق، ولكي يبلغ المؤمنون في الأمور الصعبة خاصة الحقيقة ويتثبتوا فيها.
III – في الخيار الأساسي ومناهج السلوك المحددة
“لا تجعلوا من الحرية فرصة للجسد” (غلا 5/ 13)
65- إن الاهتمام بالحرية اهتماماً يبدو اليوم مستغرباً بحدته، يحدو الاختصاصيين في العلوم الإنسانية واللاهوتية إلى الانكباب على البحث في طبيعتها وديناميتها. ويشيرون بحق إلى أن الحرية لا تقوم بأن يختار المرء فعلاً ما دون سواه، بل هي أيضاً، في إطار هذا الخيار ذاته، حكم الإنسان على ذاته والسير بحياته نحو الخير أو ضده، نحو الحقيقة أو ضدها وبالنهاية نحو الله أو ضده. ويركّزون بكل حق على ما لبعض الخيارات من شأن رفيع في حياة المرء إذ تخلق فيه مثل أرضية صالحة لقيام ونموّ سائر الخيارات اليومية.
بيد أن بعض أهل الفكر يعرضون إعادة نظر أحذق في العلاقة بين الشخص البشري وفعله. يتكلمون عن “حرية أساسية” هي غير حرية الخيار وأعمق منها. إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار يستحيل فهم الأفعال البشرية وتقييمها. ويبدو لهم أن الدور الرئيسي في الحياة الأخلاقية يعود “للخيار الأساسي” الناشئ من تلك الحرية الأساسية التي بها يأخذ الإنسان قراره إجمالياً، لاختيار معين، يصدر لا عن فكر واعٍ بل بصورة واعية تتجاوز حدود الإدراك. فتكون برأيهم الأفعال البشرية وفق هذه النظرة مجرد محاولات محددة، غير مؤهلة إطلاقاً للتعبير عن الحرية، ولا يمكن اعتبارها أكثر من علامات تدلّ عليها.
فيكون موضوع مثل هذا الفعل، بزعمهم لا الخير الأسمى – الذي تعبر الحرية البشرية عن ذاتها تجاهه على صعيد أسمى – بل الخيرات الخاصة المصنفة عندهم في صف أدنى. ومنهم من يرون من ثمَّ أن مثل هذه الخيرات المحدودة لا يمكن أن تفسح في المجال لممارسة حرية الإنسان ممارسة كاملة، وإن لم يكن أمام الإنسان مجال للتعبير عن خياره الأساسي إلاّ في قبول هذه الخيرات أو رفضها.
فيؤدي بهم ذلك إلى التمييز بين الخيار الأساسي والخيارات المتخذة للقيام بأفعال محددة، تمييزاً يرتدي عند الكثيرين من هؤلاء المفكرين طابع الانفصام أي أنهم يعتبرون أن لا معنى للخير والشر إلاّ على مستوى الخيارات الأساسية الرفيع، أما الخيارات التي تتناول شؤون الحياة الخاصة، في علاقة الإنسان مع ذاته أو مع غيره من الناس والأشياء العامة، فتعتبر “صائبة” أو “خاطئة”. وهكذا يرتسم انفصام في صميم الفعل البشري بين درجتين في الأخلاقية: هنا نظام خير وشرّ منوط بالإرادة وهناك أعمال محددة تعتبر صالحة أو نفاقية طبق عملية حسابية تقدر ما يتأتى عنها من خير أو شر مادي خارج عن النطاق الأخلاقي، بحيث أن القيام بفعل ما صادر عن خيار حرّ، أصبح يعتبر مجرد تحرك طبيعي لا تجري عليه الشريعة التي تحكم العمل البشري. فينتج عن ذلك أن نسبة الصفة الأخلاقية للإنسان تُحفَظ للخيارات الأساسية، وتُنزَع كلياً أو جزئياً عن اختيار الأفعال والتصرفات الخاصة.
66- لا شك في أن التعليم المسيحي في الأخلاق وما تعلمه الكتب المقدسة، يعترف بما للخيار الأساسي من شأن، يسم الحياة البشرية بالسمة الأخلاقية ويشدّ الحرية برباط وثيق أمام الله، فإنما هو خيار الإيمان وطاعة الإيمان (روم 16/ 26) “به يكل الإنسان ذاته لله بملء رضاه مؤدياً لله كل خضوع العقل والإرادة الذي يوحيه له” (112). هذا الإيمان الذي يعمل بالمحبة (غلا 5/ 6) ينبع من صميم الإنسان، من “قلبه” (روم 10/ 10) من هناك يؤتى بالإيمان ليثمر بالأعمال (متى12/ 33- 35، لو 6/ 45، روم 8/ 5- 8، غلا 5/ 22). في الوصايا العشر عبارة تتردد قبل كل وصية: “أنا الرب إلهك” (خروج 20/ 2) وهي تضفي على مختلف الوصايا الخاصة معناها الأصيل، فتنفح أخلاقية العهد القديم بصيغة تضمن شموليتها ووحدتها ورفعتها. فخيار اسرائيل الأساسي يتناول إذن الوصية الأولى (يشوع 24/ 14- 25، خروج 19/ 3- 8) وفي أخلاقية العهد الجديد أيضاً تأتي في الطليعة دعوة يسوع الأساسية لكي “نتبعه”، هذا ما قاله، للشاب الغني: “إن شئت أن تكون كاملاً…. اتبعني” (متى 19/ 21). دعوة يلبيها التلميذ تلبية حرة في “خيار أساسي”. وفي مثَلَيّ الإنجيل عن الكنز والدّرة الثمينة اللذين يبيع الإنسان كل ما له ليملكهما صورتان تمثلان “الخيار الأساسي” المطلق الذي يتطلبه ملكوت الله. طابع الخيار المطلق الذي يأخذه من يريد أن يتبع يسوع تعبر عنه تعبيراً رائعاً كلمات يسوع ذاته: “من أراد أن يحيي نفسه يهلكها ومن أهلك نفسه لأجلي ولأجل بشارتي يحييها” (مر 8/ 35).
إن دعوة يسوع “تعال اتبعني” تثبت حرية الإنسان وتشيد بسمو درجتها وبالوقت ذاته وتؤكد حقيقة وضرورة أفعال الإيمان والقرارات التي يمكن أن يقال أنها تمت إلى الخيار الأساسي بصلة. ونجد مثل هذه الإشادة بالحرية البشرية في كلمات القديس بولس: “أما أنتم فقد دعيتم إلى الحرية” (غلا 5/ 13). ولكن الرسول يعود فيوجه في الحال هذا التحذير الخطير: “لكن لا تجعلوا من حريتكم فرصة للجسد”، تحذير يرجع صدى كلماته السابقة: “هذه هي الحرية التي حررنا بها، فاثبتوا الآن ولا تعودوا ترتبطون بنير العبودية” (غلا 5/ 1). الرسول بولس يدعونا إلى السهر، فالعبودية تتربص دائماً بالحرية. هذا شأن فعل الإيمان الخاص – بوصفه خياراً أساسياً – إنه على حد ما سبق من كلام، يتميز عن خيار الأفعال الخاصة.
67- هذه الآراء تخالف إذن تعليم الكتاب المقدس الذي يعتبر الخيار الأساسي خياراً يأخذه الإنسان بملء حريته ويطبقه على الأفعال الخاصة. بالخيار الأساسي يستطيع الإنسان أن يضطلع بمسؤولية حياته، وبعون من نعمة الله، يتجه بها نحو غايته الأخيرة ملبياً الدعوة الإلهية. بيد أن هذه المقدرة التي يتمتع بها إنما يمارسها في خيارات تتناول أفعالاً خاصة محددة، بها يتقيد الإنسان حراً بإرادة الله وحكمته وشريعته. فيجب من ثم التأكيد على أن هذا الخيار الأساسي من حيث يختلف عن القصد المبهم غير المحدد والذي بالتالي لا ترتدي معه الحرية الصيغة الإلزامية، يتحقق دائماً في خيارات تتخذ بوعي وحرية. وإنما لهذا السبب يكون هذا الخيار موضع اعتراض كلما ألزم الإنسان حريته بقرارات معاكسة في موضوع أخلاقي خطير.
إن فصل الخيار الأساسي عن قيام الإنسان بأفعال محددة يعني التنكر لما به تكتمل وحدة الشخص البشري المكون من نفس وجسد. إن “الخيار الأساسي” المفهوم على هذا النحو الذي يكون معه مفصولاً عن الطاقات التي يولدها والخيارات التي تترجمه، لا يراعي في الإنسان الغاية المرسومة في داخله التي ينشدها في فعله، ولا يعطي الخيارات التي يتخذها حقها من الاعتبار. فإن أخلاقية الأفعال البشرية لا تنتج عن فعل الإرادة وحده وعن الميل وعن خيار أساسي في الفكر خالٍ من كل التزام فعلي شأنه شأن النية التي ينقصها القيام بجهد جدّي في واجبات الحياة الأخلاقية. إن الحكم في أخلاقية عمل ما يكون غير ممكن إذا تمّ بقطع النظر عن موافقة أو عدم موافقة اختيار سلوك معين مع كرامة الشخص البشري ودعوته من كل نواحيها. كل خيار يتضمن صلة تربط الإرادة الحرة بالخير أو بالشر، فتأمر الشريعة الطبيعية بأن يتبع الخير ويتجنب الشر. أما في ما يختص بالوصايا الآمرة فالفطنة دائماً تقضي بأن ينظر في شأنها هل هي ملائمة للأوضاع بالنظر مثلاً لغيرها من الواجبات التي قد تكون أخطر وأهم. أما الوصايا الناهية التي تحظر عملاً أو مسلكاً ما لأنه شر بحد ذاته، فهي لا تتحمل أي استثناء مقبول أخلاقياً أمام “استحداث” أي قرار معاكس. فحالما تعرف على وجه أكيد ومحدد صفة الفعل من الوجهة الأخلاقية فالعمل الصالح أخلاقياً يكون في العمل بالشريعة الأخلاقية وتجنب الذي تمنعه هذه الشريعة.
68- لا بدّ هنا من إضافة ملاحظة رعوية هامة وهي: إذا سلّمنا بمنطق المواقف التي أشرنا إليها سابقاً، فإن الإنسان يمكنه بفعل أي خيار أساسي أن يحافظ على أمانته لله، بقطع النظر عن توافق أو عدم توافق بعض خياراته وأعماله المحددة مع الشرائع والأحكام الأخلاقية الخاصة. فإذا كان خيار الإنسان الأول ممارسة المحبة، يمكنه أن يظل صالحاً، يعيش دائماً في نعمة الله ويعمل عمل خلاصه ولو خالف في بعض تصرفاته وصايا الله والكنيسة مخالفة متعمدة وثقيلة.
لكن الواقع أن الإنسان لا يمكنه أن يهلك ليس فقط بعدم محافظته على الخيار الأساسي الذي به “يسلّم ذاته لله تسليماً كاملاً” (113)، بل أيضاً بارتكابه عمداً أي خطيئة كانت مميتة تهين الله الذي أملى الشريعة، ويكون بالتالي متجاوزاً الشريعة بكاملها (يعقوب 2/ 8- 11) وحتى إذا حفظ الإيمان، فإنه يفقد مع ذلك “النعمة المبررة”، “والمحبة”، “والسعادة الأبدية” (114). فنعمة التبرير، كما يعلم المجمع التريدنتيني، من قبلها مرة يمكنه أن يخسرها ليس فقط بالكفر الذي يفقده الإيمان بل أيضاً بأي خطيئة مميتة أخرى (115).
الخطيئة المميتة والعرضية
69- إن الآراء في الخيار الأساسي التي سبق الكلام عنها دفعت عدداً من معلمي اللاهوت إلى أن يطرحوا على بساط البحث التمييز المعروف تقليداً بين الخطايا المميتة والخطايا العرضية. فيذهبون إلى القول بأن مخالفة الشريعة الإلهية التي تؤدي بالإنسان إلى خسارة “النعمة المبررة” – وهلاكه الأبدي إذا مات في حال هذه الخطيئة- لا تتأتى إلاّ عن عمل يلتزم فيه الإنسان كله، أي صادر عن الخيار الأساسي. وفي زعم هؤلاء اللاهوتيين أن الخطيئة المميتة تقع فقط إذا رفض أحدهم الله رفضاً يتطلب قدراً من الحرية لا يمكن أن يعتبر معه فعل إرادة ولا يرقى إليه تبصّر ضمير.
ويضيفون قولهم أنه بهذا المعنى يصعب التسليم، أقله نفسانياً، بأن المؤمن الذي يريد أن يظل متحداً بالمسيح وكنيسته يمكنه بمثل هذه السهولة أن يكرر السقوط في خطايا مميتة كما يبدو ذلك أحياناً من “مادة” أفعاله. وكذلك يصعب التسليم بأن الإنسان يستطيع في ردح من الزمن قصير أن يفك ارتباط اتحاده العميق بالله، ثم يتوب بعد ذلك إليه توبة صادقة. ويخلصون إلى القول أن خطورة الخطيئة إنما تقاس بالقدر من الحرية الذي به يرتكب الإنسان فعله، أكثر بمادة مثل هذا الفعل.
70- إن الإرشاد الرسولي “مصالحة وتوبة” الذي جاء بعد مجمع الأساقفة أكّد، جرياً على تقليد الكنيسة، على أهمية وقوة التمييز القائم بعد في أيامنا بين الخطايا المميتة والعرضية. ومجمع الأساقفة ذاته الذي انعقد سنة 1983 وعنه صدر الإرشاد المذكور “لم يكتفِ بتثبيت القرار الصادر عن المجمع التريدنتيني الذي تناول وجود الخطايا المميتة والعرضية وطبيعتها بل ذكر بأن الخطيئة المميتة هي خطيئة موضوعها مادة ثقيلة، وعلاوة على ذلك، إنها ترتكب بالوعي التام والقرار الحرّ” (116).
إعلان المجمع التريدنتيني لا يتناول فقط مادة الخطيئة الثقيلة بل أيضاً الوعي التام والقرار الحرّ كشرط لوقوعها. هذا وفي علم لاهوت الأخلاق والعمل الرعوي تعالج كما هو معروف حوادث كثيرة حيث رغم خطورة الفعل لجهة المادة الثقيلة، لكن بسبب انعدام الوعي الكامل والقرار الحر لا بحسب الفعل خطيئة مميتة.
ومن جهة ثانية يلزم تجنب الوقوع في خطر حصر الخطيئة المميتة في فعل “الخيار الأساسي“، كما يقال، ضد الله، أي في احتقار الله والقريب احتقاراً صريحاً ومعلناً، أو في رفض الحب رفضاً ضمنياً دون تفكير. “فالإنسان يرتكب أيضاً خطأً مميتاً عندما يختار بوعيه وإرادته ولأي سبب كان ما يعتبر تجاوزاً خطيراً للنظام. لأن مثل هذا الخيار ينطوي بالفعل على امتهان للوصية الإلهية وتنكر لحب الله للإنسان والخليقة كلها، فيبتعد الإنسان عن الله ويفقد المحبة. فالأفعال الخاصة إذن يمكنها أن تحوّل جذرياً ميل الإنسان الأساسي نحو الله. لا شك في أن لبعض الحالات النفسانية المعقدة والغامضة شأناً في تحمل الخاطئ تبعة فعله. لكن لا يجوز العبور من هذه النظرة النفسانية إلى إنشاء مبدأ لاهوتي من طراز “الخيار الأساسي” المترجم على وجه يتحول معه موضوعياً مفهوم الخطيئة المميتة التقليدي أو يوضع موضع الشك” (117).
وهكذا فإن الفصل بين الخيار الأساسي والخيارات المعتمدة في تصرفات معينة التي هي من طبعها أو بسبب الظروف، سيئة ولا تثير حول مثل هذا الخيار جدلاً، ينطوي على امتهان للتعليم الكاثوليكي في الخطيئة المميتة. “إننا مع تعليم الكنيسة التقليدي كلها نعتبر خطيئة معينة كل فعل به ينبذ الإنسان، حراً واعياً، الله وشريعته وعهد الحب الذي يعرضه الله عليه مؤثراً الانطواء على ذاته والتحول نحو ما يعاكس إرادة الله (التحول نحو الخليقة). الأمر الذي قد يتم بطريقة مباشرة وصريحة كما في خطيئة التعبد للأوثان، أو الجحود أو الإلحاد أو ما يضاهي ذلك بعد الطاعة لوصايا الله في مادة ثقيلة (118).
IV- في الفعل الأخلاقي
علم اللاهوت ولاهوت النهايات
71- إن العلاقة بين حرية الإنسان وشريعة الله، التي تتأصل وتحيا في ضمير الإنسان، تبرز وتكتمل بالأفعال البشرية. فإنما بالأفعال يكمّل الإنسان ذاته، هذا الإنسان المدعو “ليطلب الله خالقه تلقائياً ويبلغ حرّاً ملء الكمال والسعادة باتحاده بالله” (119).
الأفعال البشرية هي أفعال أخلاقية، لأنها تظهر استقامة فاعلها وتبنيها (120). إنها لا تكيّف أحوال الإنسان الخارجية فقط، بل بما أنها خيارات حرّة تلبس فاعلها مسؤولية أخلاقية وتبرز خطوط روحانيته الصحيحة. كما يشير إلى ذلك القديس غريغوريوس النيصي بأسلوبه الرائع: “إذن كل الكائنات المعرضة للتحول والتطور لا تثبت أبداً على حال، إنما هي في مخاض مستمر ينتهي إلى الأفضل أو إلى الأسوأ… الحياة البشرية في تحول مستمر، وبما أنها ليست أبدية، غير قابلة للتغيير، هي في ولادة مستمرة، ولادة لا تتم بتدخل من الخارج كما في الولادة الجسدية، بل أن ولادة كل أحد تتم بخياره الخاص، فيكون كما لو كان كل منا أباً لنفسه نلد ذاتنا كما نريدها خيار حرّ ” (121).
72- إن أخلاقية الأفعال تحدّدها علاقة حرية الإنسان بالخير الحق. خير يقوم، على شكل شريعة أزلية بحكمة من الله الذي يُعِدّ كل مخلوق لغايته الأخيرة. شريعة أزلية يدركها الإنسان بعقله الطبيعي، (وتلك هي الشريعة الطبيعية) مثله، لكن على وجه شامل وكامل، بوحي من الله خالق الطبيعة، (وتلك هي الشريعة الإلهية). ويكون الفعل صالحاً عندما تتفق خيارات حرية الإنسان مع خيره الحق، معربةً عن توجه الشخص البشري بإرادته نحو غايته الأخيرة أي نحو الله ذاته، الخير الأسمى الذي فيه يجد الإنسان ملء سعادته وكمالها. إن ما جاء الشاب الغني يسأل يسوع عنه في بدء حواره معه: “ماذا ينبغي لي أن أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟” (متى 19/ 16)، يسلط نوراً كاشفاً على العلاقة بين ما لفعل الإنسان من قيمة أخلاقية وغايته الأخيرة. وقد أجاب يسوع مثبتاً ما كان مخاطبه متأكداً منه: أن في القيام بالأعمال الصالحة التي يأمر بها من “هو صالح وحده” الشرط الضروري والسبيل المؤدي إلى الحياة الأبدية: “إن شئت أن تدخل الحياة احفظ الوصايا” (متى 19/ 17). إن يسوع بجوابه هذا الذي به أحال مخاطبه على الوصايا، يبين أن السبيل الغاية الأخيرة ممهور بخاتم حفظ الشرائع الإلهية التي تضمن خير البشر. إن عملاً واحداً يلزم به الإنسان جانب الخير يمكن أن يكون السبيل المؤدي فعلاً إلى الحياة.
الفعل البشري يكون فعلاً أخلاقياً بتوجيهه إلى الخير الحق على ضوء العقل والسعي الحرّ إلى هذا الحق الذي يراه العقل. الفعل البشري إذن لا يمكن أن يعتبر أخلاقياً لأنه يفي بهذا الغرض أو ذاك أو لأن فاعله يتصور أنه خير (122). وإنما يكون الفعل صالحاً أخلاقياً إذا كان يعني ويشهد بأن الشخص الذي يقوم به يتجه بملء إرادته إلى غايته الأخيرة وإن هذا الفعل هو كما يراه العقل على حقيقته منسجم مع خير الإنسان الحق. أما إن كان موضوع الفعل العمليّ غير منسجم مع الخير الحقيقي للشخص فإن اختيار مثل هذا الفعل يفسد الإرادة والإنسان كله أخلاقياً ويؤدي إلى رفض الغاية الأخيرة والخير الأسمى أي الله.
73- إن المؤمن بفعل وحي الله والإيمان يعرف الطابع الجديد الذي به تختم أخلاقية أفعاله، التي يجب أن تعبّر عن انسجامها أو عدم انسجامها مع كرامة الإنسان ودعوته التي أعطيت له بنعمة من الله. فبالمسيح يسوع وروحه يصير الإنسان “خليقة جديدة”، ابن الله، وبأفعاله يشهد بأنه على شبه صورة الابن البكر بين إخوة كثيرين (روم 8/ 29) أو أنه ليس على شبهه، وفقاً لأمانته أو عدم أمانته لموهبة الروح، وإنه ينفتح أو ينغلق على الحياة الأبدية، على المشاهدة والحب والسعادة في الاتحاد بالآب والابن والروح القدس (123). فالمسيح “صنعنا على صورته، يقول القديس كيرلّس الاسكندري، لكي نعكس بقداستنا وحياة البر والفضيلة، خصائص الطبيعة الإلهية… ويتألق جمال هذه الصورة فينا نحن الذين في المسيح، كلما برهنّا بأفعالنا الحسنة أننا من أهل الصلاح” (124).
بهذا المعنى تأخذ الحياة الأخلاقية في الأساس طابع لاهوت النهايات لأنها تقوم على اختيار توجيه الحياة إلى الله الخير الأسمى وغاية الإنسان الأخيرة. وهذا مرة أخرى ما يثبته سؤال الشاب ليسوع: “ماذا ينبغي لي أن أفعل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية”؟ بيد أن هذا التوجيه إلى الغاية الأخيرة ليس رهن تقدير ذاتي مرتكز على النية فقط، بل يقتضي أفعالاً تصلح بحد ذاتها لأن توجه إلى الغاية الأخيرة، لأنها تتلاءم مع خير الإنسان الحقيقي الذي ترعاه الوصايا. وهذا ما ذكّر به يسوع في جوابه: “إن شئت أن تدخل الحياة احفظ الوصايا” (متى 19/ 17).
بديهي أن توجيهاً كهذا يجب أن يكون عقلياً، حراً واعياً وإرادياً يكون بفعله الإنسان مسؤولاً عن أعماله، خاضعاً لحكم الله الديان العادل الرحيم الذي يجازي الخير ويعاقب الشر كما يقول الرسول بولس محذراً أنه “لا بدّ لنا جميعاً من الوقوف أمام منبر المسيح يجازي كل إنسان في جسده بكل ما فعل خيراً كان أم شراً (2 قو5/ 10).
74- لكن أنّى يقتبس عمل الإنسان الحرّ الصفة الأخلاقية؟ ما الذي يؤمن توجيه هذه الأعمال البشرية إلى الله؟ تُرى نيّةُ مَنْ يعملها، أم ظروف عمله، وبالأخص نتائجها، أم موضوع العمل ذاته؟
تلك هي المسألة التي تسمى تقليدياً مسألة “مصادر الأخلاقية”. وقد برزت أو تكررت في شانها طوال هذه الحقبات الأخيرة اتجاهات ثقافية ولاهوتية تحمل سلطة الكنيسة التعليمية على الحكم فيها بكل دقة.
بعض النظريات الأخلاقية المنسوبة إلى “لاهوت النهايات” (Téléologie) تبدي اهتماماً خاصاً بتوافق الأفعال البشرية مع الأهداف التي يسعى إليها صاحبها ومع القيم التي يقول بها.
المقاييس لفهم الأفعال فهماً صحيحاً من الوجهة الأخلاقية تستمد من تقييم الخيور التي لا شأن لها أو لها من بعيد شأن بالأخلاق ويسعى إليها الإنسان، ومن تقدير القيم الموازية لها التي يجب مراعاتها. وفي رأي بعضهم أن تصرفاً ما يجب اعتباره مصيباً أو معيباً إذا أمكن أن يوفر أو لا يوفر المزيد من تحسن في حال الذي يعنيهم: التصرف إذن يكون مصيباً إذا أعطى الكثير ومعيباً إذا أعطى القليل.
إن العديد من معلمي لاهوت الأخلاق الكاثوليك الذي يقولون أيضاً بهذه النظرية يحرصون على الابتعاد عن النفعية والأدائية (utilitarisme et pragmatisme )، نظريتين تريان أن الحكم في أخلاقية الأفعال البشرية يتم بقطع النظر عن غاية الإنسان الأخيرة. إنهم يرون بكل حق من الضروري إقامة المزيد من البراهين العقلية القوية التي تثبت متطلبات الحياة الأخلاقية وتضع لها القواعد. وإن سعيهم هذا في أثر البراهين مشروع وضروري لأن النظام الأخلاقي الذي تقره الشريعة الطبيعية هو في متناول الفهم بسهولة. ثم أنه بحث يلبي حاجات الحوار والتعاون مع المسيحيين غير الكاثوليك ومع غير المؤمنين وهو رائج جداً في ما يسمى بالمجتمعات التعددّية.
75- بيد أن السعي لتمرير أخلاقية كهذه تستند إلى العقل – وهي تعرف أحياناً بالأخلاقية المستقلة – هو مشوب بأخطاء في الحلول تتأتى بنوع خاص عن نقص في فهم موضوع الفعل الأخلاقي. فإن البعض منهم لا يأخذون كفاية بعين الاعتبار التزام الإرادة بخيارات تبدر عنها، هي كشرط به تختبر استقامتها من الوجهة الأخلاقية وسعيها إلى غاية الإنسان الأخيرة. بينما لغيرهم نظرة في الحرية تغفل بعض شروط العمل بها، أي صدق الالتزام بالخير الحق واتخاذ القرار استناداً إلى الواقع. وهذا يعني حسب هذه الآراء أن الإرادة الحرة لا هي مقيدة أخلاقياً بالتزامات معينة، ولا تتأثر بخياراتها الخاصة، رغم أنها تحمل تبعة أعمالها ونتائجها. هذا النوع من اللاهوت، المعتمد أسلوباً لتعيين القاعدة الأخلاقية، يمكن استناداً إلى بعض التعابير والصور المقتطفة من مختلف الآراء أن يطلق عليه اسم مذهب العواقبيّة (conéquentialisme ) أو مذهب النسبية (proportionalisme ). الأول يحاول استخلاص القاعدة لاستقامة سلوك معيّن من الوجهة الأخلاقية، من حساب النتائج المنتظرة من قرار يوضع في حيز التنفيذ. والثاني يقابل القيم والقواعد المتوقعة بعضها مع بعض فيهتم بالحري للنسبة البادية بين النتائج الصالحة والنتائج السيئة، التي تتأتى فعلاً عن وضع معين، فيما يتعلق بما هو “الخير الأكبر” أو “الشر الأصغر”.
مثل هذه المذاهب اللاهوتية الأخلاقية وإن تكن تعترف بالقيم الأخلاقية التي يقول بها العقل والوحي، فإنها لا تسلم بأنه من الممكن أن يحرّم تحريماً مطلقاً القيام ببعض أفعال تعتبر منافية لهذه القيم في كل زمن وثقافة. إن من واجب القائم بهذه الأفعال ولا شك، السعي في طلب القيم المنشودة، لكن من وجهة نظر مزدوجة: فإن ما ينطوي عليه الفعل البشري من قيمة أو خير، قد يندرج في النظام الأخلاقي (بالنسبة للقيم الأخلاقية بحد ذاتها، مثل محبة الله ومحبة القريب والعدالة إلخ…) وقد يندرج في نظام لا شأن مباشر للأخلاق فيه، ويسمى أيضاً نظاماً غير أخلاقي، أو طبيعي أو كياني (بالنسبة لما يحصل من فوائد أو أضرار للفاعل أو لأي شخص معني بها عاجلاً أم آجلاًً. كالصحة والمرض، والكمال الجسماني، والحياة، والموت وخسارة الممتلكات المادية إلخ…). ففي عالم يختلط فيه دائماً الخير بالشر، وتقترن النتائج الحسنة بالنتائج السيئة، لا بدّ من التمييز في الحكم على أخلاقية الفعل بين “صلاحه” الأخلاقي المتأتي عن نيّة الذي يقوم بالفعل في علاقتها بالشأن الخلقي “وصوابيته” وفقاً للنتائج أو العواقب التي يمكن توقعها والموازنة بينها. وبالتالي يمكن اعتبار الأفعال صائبة أو خاطئة من الوجهة الأخلاقية، فيما يستحيل الحكم على إرادة فاعلها أهي صالحة أم غير صالحة.
وهكذا يمكن لفعل يخالف الوصايا الناهية العامة بتعديه على حق الغير في أمور ليس لها بحد ذاتها علاقة مباشرة بالأخلاق، أن يعتبر فعلاً جائزاً أخلاقياً، إذا تركز فعل الفاعل، بعد نظرة مسؤولة إلى ما ينطوي عليه هذا الفعل من خير، على قيمته الأخلاقية المعتبرة حاسمة بالنسبة للظروف التي يتم فيها.
إن تقييم عواقب الفعل بمقابلة هذا الفعل مع نتائجه والنتائج بعضها مع بعض أمر لا علاقة له مباشرة بالنظام الأخلاقي. وحدها الأمانة لأسمى القيم المحبّة والحكمة تعطي أفعال الإنسان الطابع الأخلاقي وتميز بين الصالح والطالح منها، أمانة ما كانت لتكون حتماً غريبة عن بعض الخيارات المغايرة لبعض الوصايا الأخلاقية. هذه الوصايا يجب، حتى في المادة الثقيلة، أن تعتبر قواعد أخلاقية عملية غير ثابتة دائماً وتتحمل الشواذ.
من وجهة النظر هذه ما كان القيام بأفعال يعتبرها علم الأخلاق التقليدي غير جائزة، ليشكل شراً أخلاقياً موضوعياً.
موضوع فعل الإرادة
76- تكتسب هذه الآراء بعض قوة الإقناع من تآلفها مع العقلية العمليّة التي تعمل بحق على تنظيم الشؤون التقنية والاقتصادية على أساس حساب الموارد والأرباح والوسائل والنتائج: وهي التي تحاول أن تحرر الإنسان من أخلاقية الإلزام التسلطية والاعتباطية والتي يجب من ثمَّ اعتبارها لا إنسانية.
إن مثل هذه الآراء تخرج عن تعليم الكنيسة وذلك لأنها تَعتبر صالحةً أخلاقياً، أفعالاً حرة تخالف بطبيعتها الشريعة الإلهية. مثل هذه التعاليم لا يمكنها ادعاء الاعتماد على التقليد الكاثوليكي في علم الأخلاق. لأنه إذا صح أنه مارس الإفتاء في بعض المشاكل الضميرية للموازنة بين أفضل الإمكانيات لفعل الخير في ظروف معينة، فصحيح أيضاً أن ذلك كان يتم فقط في حالات تكون فيها الشريعة على شيء من الغموض لذلك لا يمكن اعتبار مثل هذا التوضيح تحاملاً مطلقاً على سلطة الوصايا الأخلاقية الناهية التي تلزم بلا استثناء. على المسيحيين أن يعرفوا ويحفظوا الوصايا الأخلاقية التي تعلنها الكنيسة باسم الله الخالق السيد (125). وعندما يجعل بولس الرسول تمام الشريعة في الوصية “أحبب قريبك حبّك لنفسك” (روم 13/ 8- 10) فهو لا ينتقص من شأن الوصايا بل يثبتها بإفصاحه عن تبعاتها وخطورتها. فإنه لا سبيل لفصل محبة الله والقريب عن حفظ عهد الوصايا الذي جدّده يسوع المسيح بدمه وبعطية الروح. كرامة المسيحيين هي في أن يعتبروا الله أحق بالطاعة من البشر (أع 4/ 19، 5/ 29)، طاعة حتى الشهادة على مثال قديسي العهد القديم والجديد وقديساته، الذي أُعلنوا قديسين لأنهم فضّلوا الموت على أن يرتكبوا أي شيء منافٍ للفضيلة أو الإيمان.
77- إن الآراء المشار إليها سابقاً تركز على النية وعواقب الفعل البشري كمحك لصوابية الخيارات الأخلاقية. لا شك في أن للنية شأناً كبيراً – كما يلح عليها يسوع إلحاحاً شديداً بوجه الكتبة والفريسيين الذي كانوا يغالون في فرض بعض الأفعال الخارجية التي لا شأن للقلب فيها (مرقس 7/ 20، متى 15/ 19)- كما أن للخير الذي نجنيه وللشر الذي نتجنبه من فعل ما شأناً كبيراً أيضاً. إنها قضية مسؤولية. بيد أن أخذ هذه العواقب والنية بعين الاعتبار لا يكفي وحده للحكم في أخلاقية خيار معيّن. وليس حساب الخير والشر المتوقع من فعل ما الأسلوب المناسب للحكم في اختيار مسلك ما هل هو “حسب مظهره” أم “بحد ذاته خير أو شر، محلل أو محرم”. فالعواقب التي يمكن توقعها من فعل ما، هي منوطة بظروف هذا الفعل التي يمكنها أن تُعدِّل وتبدِّل في خطورة الفعل السيئ لا أن تغير ماهيته من الوجهة الأخلاقية.
هذا، وليس من يجهل كم يصعب عليه بل يستحيل تقدير كل عواقب أفعاله وتأثيراتها الحسنة أو السيئة، المعتبرة خارج النطاق الأخلاقي (pré-moraux ). لا يمكن تقديرها تقديراً كاملاً شاملاً. فكيف يمكن إذن تحديد نسبٍ من تقديرات قواعدها تظل غامضة؟ وكيف يمكن تبرير فرض إلزام مطلق قائم على حسابات غير مضمونة؟
78- إن الفعل البشري، يقتبس الطابع الأخلاقي قبل كل شيء وأساساً من “الغرض” الذي يقصده الإنسان بفعل إرادة حرّ ٍ واع ٍ، كما يتضح من بحث للقديس توما عميق لا يزال صالحاً حتى الآن (126). ومن ثمّ لا بدَّ للوقوف على هذا الغرض الذي يعطي الفعل طابعه الأخلاقي، من الدخول في وجهة نظر الفاعل. لأن غرض فعل الإرادة هو الدافع للنهج الذي يسلكه الفاعل بحريته. مثل هذا الغرض، بملاءمته للنظام الذي يقرّه العقل، هو مبدأ صلاح الإرادة، يكملنا أخلاقياً ويهيئنا لأن نبصر غايتنا الأخيرة في الخير الكامل، في الحب الأصيل. فلا يحق لنا أن نُحلّ محلَّ غرض الفعل الأخلاقي تصرفاً أو حادثاً طبيعياً ينظر فيه لجهة تأثيره في العالم الخارجي. الغرض هو الغاية المباشرة للخيار الحرّ الذي يحرك إرادة الفاعل. وقد جاء بهذا المعنى في كتاب “تعليم الكنيسة الكاثوليكية”: “إنه لمن الخطأ الفادح سلوك مسلكٍ ينطوي على انحراف في الإرادة أي على شرّ أخلاقي” (127). ونقرأ عند الأكويني: “يتفق كثيراً أن يتصرف البعض بنية طيبة لكن ذلك لا يجدي نفعاً في غياب الإرادة المستقيمة، كما لو أن أحدهم اقترف سرقة ليطعم فقيراً. فالنية طيبة لكن ينقصه الإرادة المستقيمة، وبالتالي فإن النية الطيبة لا تعذر الشر المرتكب”. “كما يقول بعضهم: “نعمل السيئات لتأتي الخيرات” (روم 3/ 8). (128).
أما السبب في أن النيّة الحسنة لا تكفي بل يجب أيضاً اختيار العمل الحسن فهو في أنّ الفعل البشري منوط بالغرض الذي يسعى إليه وبالتالي لا بدّ من النظر في هذا الغرض هل أنه من الممكن أن نتوجه أم لا إلى الله “الصالح وحده” ويهب الكمال للإنسان. فالعمل الصالح إذن هو الذي يعود غرضه بخير على الإنسان ويوفر له من الخيرات الأخلاقية أفضلها. إذن، إن علم الأخلاق المسيحي، مع تفضيله التركيز على غرض الفعل الأخلاقي، لا يرفض أن يأخذ بعين الاعتبار لاهوتياً الدافع الباطني إذا كان يوجّه إلى خير الإنسان الحقيقي، بيد أنه لا يعترف بصلاح هذا الفعل إلاّ إذا كان يحافظ على المبادئ البشرية الطبيعية الأساسية. الفعل البشري المستقيم غرضه يمكن التوجه به أيضاً إلى الغاية الأخيرة. ويبلغ هذا الفعل عينه قمة الكمال إذا وجهته الإرادة بدافع المحبة إلى الله. وفي هذا المجال يعلن معلم اللاهوتيين الأخلاقيين والمعترفين قائلاً: “لا يكفي أن نعمل الأعمال الحسنة، بل يجب أن نحسن عملها ولكي تكون أعمالنا حسنة يجب أن نعملها إرضاءً لله” (129).
“الشر الباطني” لا تصنع السيئات لتأتي الحسنات (روم 3/ 8)
79- لا بدّ إذن من نبذ مقولة النظريات الغائية (téléologiques) والنسبية (proportionalistes) القائلة بإستحالة اعتبار الخيار الإرادي لبعض التصرفات أو الأعمال، شرّاً من الوجهة الأخلاقية، بالنسبة لنوعها – أي لغرضها – دون النظر إلى النيّة التي يتم لأجلها هذا الخيار أو إلى مجمل العواقب التي يتوقع أن تتأتى منه على جميع المعنيين به.
إن العنصر الأهم والأساسي للحكم في الفعل البشري من الوجهة الأخلاقية هو الغرض الذي يتحكم في اتجاهه نحو الخير والغاية الأخيرة التي هي الله. هذا الاتجاه يكتشفه العقل في الإنسان، في صميم كيانه، وفي نزعاته الطبيعية وفي دوافعه ومقاصده التي تنطوي دائماً على بعد روحي: هذه كلها تحويها بالفعل الشريعة الطبيعية. وهي تؤلف مجموعة “الخيرات التي من أجل الإنسان” وهي في “خدمة خير الإنسان” الخير الذي هو الإنسان وكمال الإنسان ذاته. وهي خيرات تضمنها الشرائع الإلهية التي تحوي الشريعة الطبيعية كلها (130).
80- والحال أن العقل يثبت أن من أغراض الفعل البشري ما لا يمكن توجيهه إلى الله لأنه ينافي كلياً خير الشخص المخلوق على صورته. تلك هي الأفعال التي يعتبرها التقليد الكنسي شراً في ذاتها، هي دائماً وبحد ذاتها هكذا، أي من أجل غرضها ذاته، بقطع النظر عن من هو الفاعل والظروف التي يتم فيها الفعل. وبالتالي فإن الكنيسة، دون أن تنكر ما للظروف وبالأخص ما للنية من وزن في الشأن الأخلاقي، تعلم أن ثمة أفعالاً هي بحد ذاتها، بصرف النظر عن ظروفها، محرمة دائماً تحت طائلة الخطأ الثقيل، من أجل غرضها (131). إن المجمع الفاتيكاني الثاني في معرض كلامه عما يحق للشخص البشري من احترام، يتبسط في سرد أمثال على مثل هذه الأفعال: “وعدا ذلك إن كل ما هو ضد الحياة ذاتها مثل أي نوع من أعمال القتل، والإبادة الجماعية والإجهاض، والإجهاز على المنازع بداعي الرفق به، وكل ما فيه من انتهاك للكمال البشري كبتر الأعضاء، والتعذيب الجسدي والمعنوي، ووسائل الضغط على النفوس، وكل ما يسيء إلى الكرامة الإنسانية كالأوضاع المعيشيّة اللاإنسانية، والسجن الاعتباطي، والنفي، والاستعباد، والبغاء، والمتاجرة بالرقيق نساءً وأولاداً، وأوضاع العمل المذلّة التي يستخدم فيها العمال كمجرد أداة إنتاج لا كأشخاص أحرار مسؤولين، كل ما ذكرناه وسواه أيضاً هو من الأمور المشينة حقاً التي من شانها أن تفسد الحضارة وتلطخ بالعار الذي يتصرفون بها هكذا أكثر من الذين يعانون من أذاها، وتلحق إهانة جسيمة بشرف الخالق” (132).
وهاكم تعليم البابا بولس السادس في الأفعال التي هي شرّ في ذاتها وتلك التي تتعلق بالعقاقير لمنع الحمل التي تؤخذ قصداً لتعقيم فعل الزواج: “الواقع أنه إذا جاز التغاضي أحياناً عن شرّ غير خطير تفادياً لشر أعظم أو إفساحاً في المجال أمام خير أكبر، فإنه لا يجوز أبداً، ولا لأي سبب مهما كان خطيراً، أن تعمل السيئات لتأتي الحسنات” (روم 3/ 8): أي حمل الإرادة على أمر هو من طبعه مخالف للشريعة الأخلاقية، ويعتبر بالتالي معيباً بحق الإنسان، وإن يكن المقصود منه صيانة أو تنمية ما يؤول بخير على الأفراد أو العيال أو المجتمعات البشرية” (133).
81- عندما تعلمنا الكنيسة أنّ من الأفعال ما هو شر في ذاته إنما تتبع تعليم الكتاب المقدس. فالقديس بولس الرسول يؤكد ذلك تأكيداُ قاطعاً: “لا تضلوا، فإنه لا الزناة ولا عبدة الأوثان ولا العهرة ولا المفسدون ولا مضاجعو الذكور ولا السارقون، ولا البخلاء ولا السكيرون ولا الشتامون ولا الخطفة يرثون ملكوت الله” (روم 6/ 9).
وإذا كان الفعل شراً في ذاته، فالنية الطيبة وبعض الحالات الخاصة قد تخفف من شرّه لكنها لا تقدر أن تزيله: إنه شرّ بحد ذاته وفي ذاته لا يصحح ولا يمكن أن يوجّه إلى الله ولا إلى خير الإنسان: “إذا كانت الأفعال ذاتها خطايا، بقول القديس أوغسطينوس مثل السرقة، والاغتصاب، والتجديف أو سوى ذلك، فمن هو هذا الذي يقول أنها إذا صُنِعت لدوافع صالحة لا تكون خطايا، أو، ما هو غير معقول، أنها تكون خطايا مبرّرة” (134).
لذلك لا يمكن أبداً أن تحوّل الظروف أو النيّات ما هو بحد ذاته شراً إلى فعل من أجل النية صالح، أو لأن يكون موضوع خيار مقبول.
82- هذا وإن النية تكون حسنة عندما تتجه نحو خير الإنسان الحقيقي بالنسبة لغايته الأخيرة. أما الفعل الذي لا يمكن لداعي غرضه أن يوجه إلى الله وهو معيب بحق الشخص البشري، فإنه يناقض هذا الخير دائماً وفي كل الحالات. ولا بدّ من الملاحظة في هذا الصدد أن حفظ الوصايا التي تنهي عن هذه الأفعال وقوة إلزامها الباقية دائماً وأبداً، أي بدون استثناء، ليس فقط لا ينتقص من النية بل يعبر عنها تعبيراً أصيلاً للغاية.
إن التعليم الذي يركّز على غرض الفعل كمصدر للأخلاقية يشكل توضيحاً أصيلاً لأخلاقية عهد الكتاب المقدس والوصايا والمحبة وسائر الفضائل. وميّزة السلوك البشري الأخلاقية الخاصة المنوطة بالأمانة للوصايا هذه، دليل الطاعة والحب. ولهذا السبب نردد القول أنه يجب رفض الرأي الخاطئ الذي يقول بعدم إمكانية اعتبار انتهاج مسلك معين أو القيام بفعل محدد شراً أخلاقياً بحد ذاته، دون الأخذ بعين الاعتبار الإرادة التي اعتمدت هذا الخيار، أو مع إهمال مجموع العواقب التي يتوقع أن تتأتى عن ذلك الفعل على من لهم شأن به. فبدون هذا التحديد العقلي لأخلاقية السلوك البشري يستحيل تركيز “نظام أخلاقي موضوعي” (135). أو وضع أي قاعدة أخلاقية تتمتع بقوة إلزام لا استثناء منه، الأمر الذي يلحق إساءة بالأخوّة البشرية والخير الحق وبالشركة الكنسية ذاتها.
83- يتبين مما سبق أن قضية أخلاقية الأفعال البشرية، وبخاصة قضية وجود أفعال هي بحد ذاتها شرّ، تطرح نوعاً ما قضية الإنسان ذاتها، قضية حقيقته والنتائج التي تتأتى من ذلك. إن الكنيسة بقولها في تعليمها بوجود شرّ كامن في بعض الأفعال البشرية، إنما تحافظ على أمانتها لحقيقة الإنسان كما هو، وبالتالي تحترمه وترعى كرامته ودعوته. ولذلك كان عليها أن ترفض الآراء المذكورة في ما سبق، المخالفة لهذه الحقيقة.
بيد أن علينا نحن أيها الإخوة المحترمون في الأسقفية، ليس فقط أن نلحّ في تحذير المؤمنين من الأضاليل والأخطار التي تنطوي عليها بعض المذاهب في علم الأخلاق، بل قبل كل شيء أن نظهر جمال هذه الحقيقة الباهر: إنها يسوع المسيح نفسه. فيه، من هو الحياة (يو14/ 6)، يستطيع الإنسان أن يدرك ويمارس بالأفعال الصالحة دعوته إلى الحرية بالطاعة للشريعة الإلهية التي تختصرها وصية محبة الله والقريب. الأمر الذي يتم له بقوة الروح القدس، روح الحق والحرية والحب، فيه أُعطينا أن نقبل الشريعة في داخلنا وندركها ونمارسها كدافع للحرية الشخصية الحقيقية “الحرية التي هي في كمال الشريعة” (يعقوب 1/ 25).
الفصل الثالث
لئلا يُبطل صليب المسيح” ( 1 قور 1/ 17)
صلاح الأخلاق من أجل حياة الكنيسة والعالم
“لهذه الحرية قد حرّرنا المسيح” (غلا 5/ 1)
84- إن المسألة الأساسية التي تثيرها بنوع خاص التعاليم الأخلاقية المشار إليها سابقاً، هي مسألة العلاقة بين حرية الإنسان وشريعة الله، والعائدة بالنهاية إلى العلاقة بين الحرية والحقيقة.
المسيحي يؤمن والكنيسة تعلّم “أن الحرية الخاضعة للحقيقة هي التي توصل الشخص البشري إلى خيره الحقيقي” (136),
إذا قابلنا موقف الكنيسة هذا مع الوضع الاجتماعي والثقافي في أيامنا تبين لنا بوضوح أن على الكنيسة ذاتها أن تقوم بجهد رعوي مكثّف حول هذا الموضوع الأساسي ذاته: “إن هذه العلاقة الأساسية بين الحق والخير والحرية مهملة إلى حد بعيد في الثقافة اليوم، وواجب الكنيسة ورسالتها أن تحثّ الإنسان على أن يكتشفها من جديد، لأجل خلاص العالم. إن سؤال بيلاطس “وما هو الحق” ينبع من خير الإنسان البائس. إنه لا يعرف، في الغالب، من هو ومن أين هو آتٍ وإلى أين هو ماضٍ. وهكذا نرى هذا الإنسان لا ينفك يرتمي متهالكاً في أوضاع تؤدي إلى تدمير ذاته تدميراً مريعاً. وإذا أعرنا سمعنا بعض الأصوات، فلا مجال بعد للكلام عن قيم أخلاقية ذات طابع ثابت مطلق. فعلى مرأى من الجميع يُزْدَرَى بالحياة البشرية في الرحم قبل أن تولد، وتُغتَصَبُ باستمرار حقوق الشخص البشري الأساسية، وتُهْدَرُ، ظلماً، الخيرات الضرورية لمعيشة الإنسان. وما هو أخطر من ذلك: الإنسان لم يعد واثقاً بأنه يستطيع أن يجد في الحقيقة وحدها خلاصه، وقوة الحق توضع موضع الشك وتُنْسَبُ إلى الحرية وحدها، المعرّاة من كل موضوعية، مهمةُ الخيار الحرّ بين الخير والشر. مثل هذه النسبيّة في المجال اللاهوتي تنقلب عدم ثقة في حكمة الله الذي يرعى الإنسان بالشريعة الأخلاقية. إنهم ينقضون ما تأمر به الشريعة الأخلاقية بما يعتبرونه أحوالاً خاصة، لأنهم لا يعتبرون أن الإنسان إنما يجد دائماً خيره الوحيد الحق في شريعة الله” (137).
85- إن الكنيسة في قيامها بواجب تفنيد هذه التعاليم الأخلاقية لا تقف عند حدّ التنديد بها ورفضها، إنما تريد بكثير من الحب أن تساعد المؤمنين جميعاً على تنشئة ضميرهم في موضوع الأخلاق تنشئةً يمكنهم معها أن يتخذوا القرار المطابق للحقيقة، على حدّ ما يدعو إليه الرسول: “لا تتشبهوا بهذا العالم بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد أفكاركم لتتبيّنوا مشيئة الله في ما هو صالح ومقبول وكامل عنده” (روم 12/ 2). وإن الكنيسة في قيامها بمهمتها هذه تستند – وهذا “سرها” كمؤسسة – لا على نشر التعليم وتوجيه الإرشادات الرعوية فقط، بل على تركيز أنظارها في الرب يسوع. الكنيسة ترمق يسوع بحب لا يني كل يوم، وهي تعي جيداً أنها عنده فقط تجد الجواب الحق والنهائي على السؤال في موضوع الأخلاق.
وبخاصة في يسوع المعلق على الصليب تجد هي الجواب على السؤال الذي يعذّب العديد من الناس: كيف يمكن الطاعة لشرائع أخلاقية شاملة ثابتة لا تتغير أن تحترم فراديّة الشخص البشري وتميّزه ولا يكون فيها تعدّ ٍ على حريته وكرامته.
الكنيسة واعية رسالتها كما وعاها بولس الرسول “المسيح… أرسلني… لأبشر لا بحكمة الكلمة لئلا يصير صليب المسيح باطلاً…. أما نحن فنبشر بالمسيح مصلوباً عثاراً لليهود وجهالةً للأمم، وأمّا للمدعويين، يهوداً واليونانيين، فالمسيح هو قوّة الله وحكمة الله” (1 قور 1/ 17، 23- 24). المسيح المعلّق على الصليب أعطانا معنى الحرية الأصيل، لقد عاش هذه الحرية إذ قدّم ذاته تقدمةً كاملة وهو يدعو تلاميذه إلى أن يشتركوا في حريته.
86- إن التبصر بالعقل والخبرة اليومية يكشفان الضعف الذي تعاني منه حرية الإنسان، حرية ولا شك صحيحة، لكنها محدودة: ليس لها في ذاتها مبدؤها الثابت المطلق بل في الإطار الموجودة فيه الذي يحدُّها يوفر لها الإمكانيات في آنٍ معاً. إنها حرية مخلوق، أي حرية معطاة يجب أن تُقبل مثل زرع يتولى الضمير إنضاجه. بها ترتسم في الإنسان المخلوق تلك الصورة التي توفر له الكرامة كشخص بشري، لأن بها يتردد صدى الدعوة الأولى التي دعا بها الخالق الإنسان إلى الخير الحقيقي وإلى ما هو أعظم وما أوحى به المسيح: إلى عقد صداقة معه، والاشتراك بالحياة الإلهية ذاتها. بالحرية يمتلك الإنسان ذاته بلا منازع وينفتح بالوقت ذاته على الناس، بالخروج من ذاته من أجل معرفة الآخر ومحبته (138). أساس الحرية إذن هو حقيقة الإنسان وغايتها المشاركة.
إن العقل والخبرة لا يتحدثان عن ضعف الحرية البشرية فقط بل أيضاً عن مأساتها. يكتشف الإنسان سرّ انحراف حريته عن طلب الحق والخير ليختار في الغالب ما هو زائل ومحدود وعابر. بل أنه يجد في أفكاره المضلّلة وخياراته الخاطئة أصل ذلك التفلّت الجذري الذي يدفعه إلى أن ينبذ الحق والخير وأن يجعل من ذاته مبدأ ذاته المطلق: “تصيران مثل الله” (تك 3/ 5). الحرية إذن تحتاج إلى من يحرّرها، والمسيح هو المحرّر: “هو من حرّرنا لنصير أحراراً” (غلا 5/ 1).
87- المسيح أعلن أن معرفة الحق باستقامة وانفتاح هي الشرط لحرية صحيحة: “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو 8/ 32) (139). الحق جعل الشهداء أمام السلطات أحراراً أقوياء. وكذلك القول عن يسوع أمام بيلاطس: “إني لهذا وُلِدْت ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو 18/ 37) وهكذا يجب على الذي يعبدون الله أن “يعبدوه بالروح والحق” (يو 4/ 23). وبهذه العبادة يصيرون أحراراً. التقيد بالحقيقة وعبادة الله في المسيح يسوع هما بمثابة الأصل العميق الذي فيه تتجذر الحرية.
هذا وإن يسوع في حياته لم يبيّن بالكلام فقط أن الحرية تكمل بالحب، أي ببذل الذات. فالذي قال: “ما من حبّ أعظم من يبذل حياته عن أحبائه” (يو 15/ 13)، بادر الآلام راضياً (متى 26/ 46) وبذل حياته من أجل الجميع طاعة لأبيه على الصليب (فيلبي 2/ 6- 11). لذلك فالتأمل بيسوع معلقاً على الصليب هو الدرب الملوكية التي يجب على الكنيسة أن تسير عليها كل يوم إذا كانت تريد أن تفهم معنى الحرية كله: إنها في بذل الذات في سبيل الله والإخوة. وإن الاتحاد بالرب معلّقاً على الصليب وقائماً من الموت هو النبع الذي لا ينضب، منه تنهل الكنيسة بلا انقطاع، لكي، بالحرية، تحيا وتعطي وتخدم. إن القديس أغوسطينوس في شرحه الآية الثانية من المزمور التاسع والتسعين: “اعبدوا الرب بالفرح” يقول: “في بيت الله العبادة حرة. العبادة حرة حيث لا القسر بل الحب هو الذي يَعبُد… كن بالحب عبداً لأنك بالحق صرت حراً… أنتَ عبدٌ وحرٌ معاً. عبدٌ لأنك صرتَ عبداً، وحرٌ لأنك محبوب من الله الذي صنعك، بل أنت أيضاً حرٌ لأنك تحب ذاك الذي صنعك… أنتَ عبدُ الرب، ومعتق الرب. فلا تحاول أن تتحرر بابتعادك عن بيت محرّرك!” (140).
هكذا تدعى الكنيسة ويدعى كل مسيحي فيها إلى الاشتراك في خدمة المسيح الملوكية على الصليب (يو 12/ 32) وفي النعمة وأيضاً في مسؤولية ابن الإنسان “الذي ما جاء ليُخدَم بل ليَخدُم ويبذل نفسه فداءً عن الكثيرين” (متى20/ 28) (141).
يسوع هو إذن مثال الحرية الكاملة الحيّ والشخصي في الطاعة المطلقة لمشيئة الله. جسده المسمّر على الصليب هو عنوان الوثاق الذي لا ينحلّ بين الحرية والحقيقة كما أن قيامته من بين الأموات هي تمجيد لخصوبة الحرية وقوّتها الخلاصية، حريّة نمارسها في الحقيقة.
“أن نمشي في النور” (1 يو 1/ 7)
88- معارضة الحرية للحقيقة بل انفصالها التام عنها ينشآن ويظهران ويتمان في فصام أخطر وشرٍّ من أي شيء سواه، هو الفصل بين الإيمان والحرية.
إن هذا الفصل يشكل همّاً من أكبر هموم الكنيسة الرعوية تجاه تيار العلمنة الحالي وهي ترى الكثيرين يفكرون ويعيشون “كما لو أن الله ليس موجوداً”. إننا نواجه عقلية سائدة تؤثر تأثيراً عميقاً وعلى نطاق واسع في مواقف المسيحيين أنفسهم وتصرفاتهم، يضعف فيهم الإيمان فيفقد خاصيته كقاعدة للاستنارة وللعمل في الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية. والواقع أن القواعد التي يعتمدها المؤمنون لأحكامهم وقراراتهم، في إطار حضارة مفرّغة من مسيحيتها، تبدو في الغالب غريبة بل معارضة لما يعلّمه الإنجيل.
فصار لا بدّ للمسيحيين من أن يعودوا فيكتشفوا جديد إيمانهم والقوة التي ينفح بها أحكامهم في وجه هذه الحضارة الواسعة الانتشار والقادرة جداً: “كنتم من قبلُ في ظلمة، يقول بولس الرسول محذّراً، أما الآن فأنتم نور بربنا. فسيروا الآن كأبناء النور. إن ثمار النور في كل صلاح وبرّ وحق. فكونوا مميزين ما هو حسن لدى ربنا ولا تكونوا مشاركين في أعمال الظلمة التي هي بلا ثمر، بل كونوا موّبخين عليها… فانظروا الآن كيف تسيرون، لا كالجهال، بل كالحكماء الذي يفتدون الزمن لأن الأيام سيئة” (أفسس5/ 8- 11و 15- 16، تسا 5/ 4- 8).
فلا بدّ إذن من العودة إلى الإيمان وإبراز وجهه المسيحي الحق، إنه ليس مجرد مجموعة قضايا على العقل أن يسلّم بها ويصدّقها، بل هو معرفة المسيح معرفة اختيارية، أن نذكر وصاياه ذكراُ حياً، إنه حقيقة تعاش.
هذا، والكلمة لا تكون قُبِلت حقاً ما لم تتحوّل إلى أعمال، ما لم تمارَس. الإيمان قرار يُلزم كيان الإنسان كله. إنه للمؤمن لقاء وحوار واتحاد الحب والحياة مع يسوع المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة (يو 14/ 6). إنه يستوجب فعل ثقة وتسليم الذات للمسيح، يؤهلنا لأن نعيش كما عاش هو، (غلا 2/ 2) أي في محبة الله والأخوّة كلَّ المحبة.
89- بيد أن للإيمان محتوى تعليمياً وأخلاقياً. إنه يُنشِئ ويتطلّب حياة التزام صحيح في أن نقبل ونحفظ وصايا الله كما يعلّمها الإيمان ويكّملها، على حدّ ما جاء عند يوحنا: “الله نور ولا ظلمة فيه. وإذا قلنا إن لنا شركة معه ونحن نمشي في الظلام نكون كذابين، لا نسلك بالحق… وبهذا ندرك أننا عرفناه إذا حفظنا وصاياه. من قال: “إني أعرفه” وهو لا يحفظ وصاياه هو كذاب وليس الحق فيه. وأما من يحفظ كلمته فذاك تكمُل فيه حقاً محبة الله، وبهذا نعرف أننا فيه. والذي يقول: أنني فيه ثابت وجب عليه أن يسلك كما هو سلك” (1يو1/ 5- 6 و2/ 3- 6).
بالممارسة الأخلاقية يصير الإيمان “اعترافاً” لا أمام الله فقط بل أيضاً أمام الناس. يصير شهادة: “أنتم نور العالم، قال يسوع، لا تخفى مدينة مبنية على جبل ولا يوقد سراج ويوضع تحت مكيال بل على منارة ليضيء على جميع من في البيت. فليضيء هكذا نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات (متى 5/ 14- 16) هذه الأعمال هي خاصة أعمال المحبة (متى 25/ 31- 46) والحرية الحقيقية التي تظهر وتحيا بعطاء الذات، عطاء كاملاً كما فعل يسوع الذي على الصليب “أحب كنيسته وبذل ذاته لأجلها” (أفسس5/ 25). شهادة يسوع هي الينبوع والمثال والنموذج لشهادة التلميذ المدعو لأن يخطو هذه الخطوة: “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني” (لو 9/ 23). وللمحبة كما تأمر بها الوصايا الإنجيلية، أن تقود المؤمن إلى تأدية أسمى الشهادات، الشهادة بالدم، دائماً سيراً في خطى يسوع الذي مات على الصليب: “فتشبّهوا الآن بالله كالأبناء الأحباء، كتب بولس يقول لأهل أفسس، وسيروا بالمحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه عنا قرباناً وذبيحة لله، عرفاً طيباً” (أفسس 5/ 1- 2).
شهادة الدم تمجيد لقداسة شريعة الله التي لا تنقض
90- إن العلاقة بين الإيمان والأخلاق تتألق بكل بهائها في الاحترام المطلق الواجب لمتطلبات كرامة كل إنسان التي لا تهدر. متطلبات تحميها الشرائع الأخلاقية التي تحرّم الأفعال التي هي شر من طبعها بلا استثناء. إن شمولية الشريعة الأخلاقية وثباتها يُظهران ويخدمان معاً الكرامة الشخصية أي كرامة الإنسان المطلقة التي لا تمس، الإنسان الذي في وجهه يشع بهاء الله (تك 9/ 5- 6). شهادة الدم المسيحية التي رافقت ولا تزال ترافق مسيرة الكنيسة تثبت بأجلى وجه ضرورة نبذ التعاليم الأخلاقية التي تنكر وجود شرائع أخلاقية ناهية ثابتة لتوجيه السلوك، لا تقبل الشواذ.
91- إننا نجد في العهد القديم شهادات رائعة في الأمانة لشريعة الله المقدسة، أمانة ثابتة حتى الإقبال على الموت من أجلها. فهذا تعنيه بوضوح قصة سوسنة في جوابها للقاضيين الفاسقين اللذين هدداها بالموت إن هي صدّت شهواتهما الدنسة قالت: “لقد ضاق بي الأمر من كل جهة، فإني إن فعلت هذا فهو لي موت، وإن لم أفعل فلا أنجو من أيديكما. لكن خير لي أن لا أفعل ثم أقع في أيديكما من أن أخطأ أمام الرب” (دانيال 13/ 22-23) إن سوسنة بتفضيلها “الوقوع بريئة” في أيدي القاضيين، لم تشهد فقط لإيمانها وأمانتها لله، بل أيضاً لطاعتها للحقيقة وللنظام الأخلاقي ذي الطابع المطلق. إنها بإقبالها على شهادة الدم تؤكد أنه لا يحلُّ لنا أن نفعل ما تعلنه شريعة الله شراً لكي نجني من ذلك خيراً. لقد اختارت “الحظ الأفضل” : شهادةً جليّة دون مساومة أدتها للحقيقة ولإله إسرائيل على الخير الحق، وهكذا بأفعالها شهدت لقداسة الله.
وفي بدء العهد الجديد ذاته يرفض يوحنا المعمدان أن يلتزم الصمت في ما يختص بشريعة الرب وأن يساوم على الشر، “باذلاً نفسه في سبيل العدالة والحق”(143)، وهكذا كان “سابقاً” المسيح حتى في شهادة الدم. (مرقس 6/ 17- 29). ولذلك “زُجَّ في ظلمة السجن من جاء ليشهد للنور ومن استحق أن يُدعى سراجاً مضطرماً ومنيراَ بالنور الذي هو المسيح واعتمد بدمه ذاك الذي أعطي له أن يُعمّد فادي العالم” (143).
وإننا نجد في العهد الجديد ذكر شهادات عديدة أدّاها أتباع المسيح، بدءاً باسطفانوس الشماس (أع 6/ 8 إلى 7/ 60) والرسول يعقوب (أع 12/ 1- 2) الذين استشهدوا في سبيل إيمانهم ومحبة المعلّم رافضين أن ينكروه. وبذلك تبعوا الرب يسوع الذي شهد أمام قيافا وبيلاطس “شهادة حسنة” (1تيمو 6/ 13)، مثبتاً حق إنجيله بتقدمة حياته. وشهداء آخرون لا يُحصى عددهم احتملوا الاضطهاد والموت ولم يرضوا أن يقوموا بعمل وثني بإحراقهم البخور أمام تمثال الامبراطور (أع 13/ 7- 10) حتى أنهم رفضوا التظاهر بهذه العبادة ضاربين المثل في رفض القيام حتى بعمل واحد منافٍ لمحبة الله وشهادة الإيمان. بالطاعة، مثل المسيح، سلّموا حياتهم للآب الذي كان يستطيع وحده أن يحييهم من الموت (عبر 5/ 7).
وتعرض الكنيسة مثل الكثيرين من القديسين والقديسات الذين بشّروا بالحقيقة الأخلاقية ودافعوا عنها حتى الشهادة بالدم وفضلوا الموت على ارتكاب خطيئة واحدة مميتة. والكنيسة بإحصائها إياهم في عداد القديسين قدّست شهادتهم وأعلنت صدق رأيهم في أن محبة الله تشمل ضرورة حفظ الوصايا وعدم الانحراف عنها ونبذها وفي أحرج الظروف، حتى في سبيل الحفاظ على الحياة.
92- في شهادة الدم التي تؤكد على عدم المسّ بالنظام الأخلاقي تتجلى قداسة الشريعة وحرمة كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، كرامة لا يجوز أبداً التعرض لها أو الانتقاص منها حتى بنيّة حسنة ومهما كانت الصعوبات. يسوع يحذّرنا بمنتهى الصراحة قائلاً: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه” (مر8/ 36).
شهادة الدم تشجب “المدلول الإنساني” الذي يحاول البعض إضفاءه على فعل هو بحدّ ذاته شر، وتعتبر ذلك زوراً وخداعاً حتى إذا كان في ظروف غير عادية. بل إنها تفضح صورته الحقيقية، إنه اغتيال لإنسانية الإنسان في الذي يقترفه أكثر منه في الذي يُقتَرَف بحقه (144). شهادة الدم هي إذن تمجيد للإنسانية الكاملة ولحياة الإنسان الحقيقية، كما يشهد بذلك القديس أغناطيوس الإنطاكي في كلامه للمؤمنين الساكنين في روما حيث تحمّل الآلام لأجل الإيمان: “سامحوني يا إخوتي. لا تمنعوني من أن أحيا، ولا تريدوني أن أموت…. دعوني أدرك النور الصافي وإذا ما بلغت إليه حينئذٍ أصير إنساناً. اسمحوا لي أن أقتدي بآلام إلهي” (145).
93- وشهادة الدم هي أخيراً آية قداسة الكنيسة الفائقة. الأمانة لشريعة الله المقدسة الممهورة بشهادة الدم حتى الموت هي البرهان الساطع والالتزام الرسولي حتى الدم الذي يحمي تألق الحقيقة في الأخلاق وفي فكر الأفراد والجماعات من أن يكتنفه ظلام. مثل هذه الشهادة لها شأن منقطع النظير في شدّ إزر المجتمع المدني، ولا المدني وحده، بل الجماعات الكنسيّة ذاتها، لتجنيبها أخطر الأزمات التي يمكن أن يتقلب فيها الإنسان وهي الخلط بين الخير والشر، خلطاً يغدو فيه وضع نظام أخلاقي للأفراد والجماعات أمراً مستحيلاً. إن الشهداء، وبالعموم جميع القديسين في الكنيسة بشهادة حياتهم الناطقة الجذابة المستنيرة كلها بتألق الحقيقة الأخلاقية، ينيرون جميع الأجيال في التاريخ ويوقظون فيهم الحسّ الأخلاقي. إنهم بشهادتهم الصادقة للخير تأنيبٌ حيّ لجميع الذين يعتدون على الشريعة (الحكمة 2/ 12) ولا تزال كلمات النبي يتردد صداها في أيامنا: “ويلٌ للقائلين للشر خيراً وللخير شراً، الجاعلين الظلمة نوراً والنور ظلمة، الجاعلين المرّ حلواً والحلو مرّاً” (أشعيا 5/ 20).
إذا كانت شهادة الدم تشكّل قمة الشهادة للحقيقة الأخلاقية، وقليلون نسبياً هم المدعوون إليها، فثمة شهادة صالحة في متناول المسيحيين ينبغي لهم أن يستعدوا لها يومياً، لا تُثنيهم عنها التضحيات والانزعاجات مهما عظمت. لأنه إلى جانب الصعوبات الكثيرة التي يمكن للأمانة للنظام الأخلاقي أن تواجهها، حتى في ظروف الحياة العادية، المؤمن، مدعو لإلتزام بطولي، يحققه بمعونة نعمة الله التي يلتمسها بالصلاة وفضيلة القوة، التي تشدّ إزره وتذهب به، كما يقول القديس غريغوريوس الكبير، حتى إلى “أن يحب مشقات هذا العالم في سبيل المكافآت الأبدية” (146).
94- ليس المسيحيون وحدهم من يشهدون للطابع المطلق الذي يرتديه الخير الأخلاقي، بل يساندهم الحسّ الأخلاقي لدى جميع الشعوب وفي التقاليد الدينية والحكمة الشرقية والغربية، غير الغريبة عن فعل روح الله الباطني والسرّي، يشهد لهم جميعاً الشاعر اللاتيني جوڦـينالس بقوله: “اعتبر شرّاً عظيماً أن تفضل نفسك على الشرف، ولتحفظ الحياة أن تفقد دوافع الحياة” (147). إن صوت الضمير يذّكرنا دائماً بلا لَبَس أن من الحقائق والقيم الأخلاقية ما يجب علينا أن نكون مستعدين لبذل حياتنا من أجله.
في ما يُقال عن القيم الأخلاقية وبخاصة في تضحية الحياة من أجلها، ترى الكنيسة تلك الشهادة للحقيقة عينها التي كانت حاضرة في عمل الخلق وقد تجلّت كلها في وجه المسيح: “بما أن الفلاسفة الرواقيين، يقول القديس يوستينوس، أقله في ما قالوا في الشؤون الأخلاقية، تميّزوا بحكمتهم، الأمر الذي اتفق أيضاً للشعراء بفضل بذار الكلمة المزروع في كل الجنس البشري، هؤلاء الذين ساروا بهذا التعليم، تعرّضوا كما نعرف للكراهية وللقتل” (148).
القواعد الأخلاقية الشاملة والثابتة في خدمة الإنسان الفرد والجماعة
95- إن تعليم الكنيسة، وخاصة بإلحاحه في المحافظة على سلطة الوصايا الناهية عن الأفعال التي هي شرّ بحدّ ذاتها، يرى فيه البعض علامة تصلّب لا يُحتمل، وبالأخص في الظروف المعقّدة والمتوترة التي تعترض حياة الإنسان والمجتمع الأخلاقية، في أيامنا، تصلّب يتناقض بنظرهم مع عطف الكنيسة الأم. ويتّهمونها بأنها خالية من الرحمة والحنان.
لكننا لا يمكننا أن نفرّق حسّ الأمومة عند الكنيسة عن رسالتها التعليمية التي عليها كعروس المسيح أن تحافظ عليها. “لا يسعها أبداً كمعلّمة أن تتخلى عن إعلان قاعدة السلوك الأخلاقي… لكنها ليست بالطبع هي التي وضعتها. إنها تتقبل حقيقة المسيح التي تنعكس صورتها في كرامة الشخص البشري وطبيعته. فتكتفي بتفسير الشريعة الأخلاقية وتعرضها على جميع ذوي النيات الحسنة من البشر، دون أن تغفل طابعها الإلزامي المطلق والمتطلب الكمال” (149).
لأن اللطف الحقيقي والرحمة الصحيحة يجب أن يعبّرا عن الحب للإنسان وخيره الحقيقي وحريته الأصيلة. وهذا لا يكون طبعاً بإخفاء أو انتقاص الحقيقة الأخلاقية، بل بعرضها بمعناها العميق، كفيض حكمة الله الأزلية التي وصلت إلينا بالمسيح وكخدمة للإنسان في تنمية حريته وسعيه إلى السعادة (150).
وفي الوقت نفسه لا يمكن أبداً للحرص على عرض الحقيقة الأخلاقية بوضوح وإقناع أن يجعلنا نتخلى عن الاحترام العميق والمخلص للغير، احترام يحرّكه حب خالص سمح، يفتقر إليه الإنسان دوماً في مسيرته الأخلاقية المتعثرة بالصعوبات والأضاليل وقساوة الأوضاع. فإن على الكنيسة دائماً، مع تمسكها دائماً بمبدأ الحقيقة والمنطق الذي يمنعها من أن تسمي الشرّ خيراً والخير شرّاً ” (151)، أن تجتهد في أن “لا تحطم القصبة المرضوضة و تطفئ الكتان المدخن” (أشعيا 42/ 2). لقد كتب البابا بولس السادس يقول: “إذا كان عدم إهمال شيء من التعليم المسيحي الخلاصي هو وجه من وجوه الحب للنفوس رفيع، فلا بدّ من أن يقترن ذلك دائماً بالمحبة والتسامح، كما علّمنا الفادي نفسه في تخاطبه وتعاطيه مع الناس. إنه لم يأتِ ليدين العالم بل ليخلّصه (يو 3/ 17) لذلك كان قاسياً على الخطيئة صبوراً ورحيماً مع الخطأة (152).
96- ليس في تمسك الكنيسة بالرسوم الأخلاقية الشاملة والثابتة أي تحقير لأي شيء ولأي كان، إنما بذلك تخدم حرية الإنسان. فبما أنه لا حرية خارجاً عن الحقيقة أو ضدها، يجب اعتبار الدفاع، بلا تراخ ولا مساومة، عمّا تتطلبه كرامة الإنسان الشخصية ولا يمكنه التخلي عنه، إنه الشرط والوسيلة لقيام الحرية ذاتها.
هذه الخدمة تُؤدى لكل إنسان في فرادة كيانه ووجوده المطلقة: فالإنسان إنّما يُثبت وجوده كإنسان وقدرته على النضج الأخلاقي الحقيقي إثباتاً تاماً في التقيّد بالرسوم الأخلاقية. ومن أجل ذلك تطول هذه الخدمة جميع الناس، لا الأفراد فقط بل الجماعات والمجتمع البشري كله. لأن هذه الرسوم تشكّل الأساس الثابت والضمانة الصحيحة لتعايش البشر بالعدالة والسلام، وبالتالي للنظام الديمقراطي الحقيقي الذي لا يمكن أن يولد وينمو إلاّ في مساواة الجميع في الحقوق والواجبات المشركة. الرسوم الأخلاقية التي تنهى عن الفعل الذي هو بحدّ ذاته شرّ لا تفسح في المجال لأي تمييز ولا استثناء. فلا فرق في أن يكون الإنسان سيد العالم أو آخر فقراء الأرض: في موضوع الإلزامات الأخلاقية الجميع هم سواءٌ.
97- وهكذا تبرز الرسوم الأخلاقية وبخاصة الناهية منها عن الشر بكل معناها وبما لها من تأثير شخصي واجتماعي: إنها تدعم كرامة كل إنسان الشخصية التي لا تُمَسّ وتساعد الحفاظ على المجموعة البشرية وتقدمها تقدماً صحيحاً ومثمراً. هذا وإن وصايا اللوحة الثانية من الوصايا العشر التي ذكرّ يسوع بها شابَّ الإنجيل تشكّل القواعد الأولية لكل حياة اجتماعية.
لقد صيغت هذه الوصايا بتعابير عامة. ولكن بما أن الشخص البشري هو ويجب أن يكون مبدأ وموضوع وغاية كل المؤسسات البشرية (153)، يسمح بتحديد هذه الوصايا العامة وعرضها في قواعد مسلكية دقيقة ومفصّلة. وبهذا المعنى تتضمن الشرائع الأخلاقية الأساسية للحياة الاجتماعية إلزامات معينة يجب على السلطات والمواطنين معاً التقيد بها. ومهما يكن من أمر النيات الطيبة، أحياناً والظروف الصعبة، غالباً، لا يسمح للسلطات الاجتماعية ولا للأفراد أبداً أن يتعدّوا على حقوق الشخص البشري التي لا تُمسّ. وهكذا فإن للتعليم الأخلاقي وحده الذي يقرّ بأحكام أخلاقية تُطبق دائماً وعلى الجميع دون استثناء، أن يصون الأسس الأخلاقية للعيش المشترك على الصعيد الوطني مثله على الصعيد الدولي.
الأخلاق والتجديد الاجتماعي والمدني
98- إن ما تتعرض له شعوب وأمم بكاملها من ضروب الظلم الاجتماعي والاقتصادي والفساد المدني الخطيرة، يزيد في سخط الكثيرين من الذين يُطعَنون ويُمتهنون في حقوقهم الأساسية، وتزداد انتشاراً وإلحاحاً ضرورة التجديد الشخصي والاجتماعي الجذري، تجديداً يصون العدالة والتضامن والاستقامة والانفتاح على الغير.
لا شك في أن الطريق الواجب اجتيازها لطويلة وشاقة، ولا بدّ من بذل الجهود الكثيرة والعظيمة لإنجاز مثل هذا التجديد، لكثرة وخطورة الأسباب التي تثير وتساند مظاهر الظلم السائدة في العالم. لكن لكل إنسان من تاريخه وخبرته ما لا يصعب عليه معه أن يجد في أصل هذه المظالم أسباباً ثقافية أي متصلة بنظرة الإنسان للمجتمع والعالم. والحال أن الشعور الديني يدخل في صميم الطرح الثقافي وبدوره يرتكز على الشعور الديني ويكتمل به (154).
99- الله الواحد الخير الأسمى هو وحده الأساس الثابت والشرط الذي لا بديل عنه لأخلاقية المسلك وبالتالي للوصايا وبخاصة الوصايا الناهية، أي المانعة منعاً دائماً وفي كل الأحوال، التصرفات والأفعال التي لا تتفق مع كرامة الإنسان، أي إنسان كان. وهكذا يلتقي الخير الأسمى والخير الأخلاقي معاً في الحقيقة، حقيقة الله الخالق والفادي وحقيقة الإنسان الذي خلقه الله وافتداه. وعلى هذه الحقيقة فقط يمكن أن يقوم مجتمع متجدد وأن يجد هذا المجتمع حلاً للمشاكل المعقدة والخطيرة التي تهزّه، وفي مقدمتها مشكلة ال استبدادية (Totalitarisme) بأنواعها المختلفة جداً، لشق الطريق أمام الحرية الحقيقية. “فال استبدادية تتولّد من إنكار الحقيقة الموضوعية، لأنه إذا لم يكن من حقيقة سامية يجد الإنسان بانصياعه لها هويته الشخصية، في مثل هذه الحال، لا يبقى أي مبدأ ثابت يكفل العلاقات المستقيمة بين البشر، لأن مصالح الفئات والمجتمعات والأمم من شأنها أن تجعلهم يناوئ بعضهم بعضاً. لأنه إن لم يكن من حقيقة سامية يعترف بها الجميع، تسيطر قوة السلطان ويسعى كل واحد إلى أن يستعمل كل ما يملك من وسائل ليغلّب مصالحه وأفكاره غير آبهٍ لحقوق الآخرين. ويحافظ من ثمّ على الإنسان بقدر ما يصلح كأداة لصالح المسيطرين عليه. فال استبدادية العصرية إذن تتأصّل في التنكر لكرامة الشخص البشري السامية، الذي هو الصورة المرئيّة لله الذي لا يُرى، كرامة هي من حق الإنسان ذاتياً ولا يسوغ لأحد أن يتعدى عليها، لا لأي فرد ولا لأي جماعة ولا لأي أمّة ولا لأي دولة. ولا يجوز لأي هيئة تؤلف أكثرية في المجتمع أن تتصدى للأقليّة لتزيحها أو لتضطهدها أو لتستغلّها وتحاول إلغاءها” (155).
لذلك إن العروة التي لا تنفصم بين الحقيقة والحرية والتي تعبر بكل وضوح عن الرابطة الأساسية القائمة بين حكمة الله وإرادة الإنسان، تعني الكثير لحياة البشر في النطاق الاجتماعي الاقتصادي والسياسي الاقتصادي، كما يتضح من تعليم الكنيسة الاجتماعي – تعليم يدخل في نطاق علم اللاهوت وبالتحديد اللاهوت الأخلاقي (156). وكما يتضح أيضاً من عرضها للوصايا التي تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، ليس فقط في ما يتعلق بالمواقف التي يجب اتخاذها بوجه عام، بل أيضاً في ما يتعلّق بالتصرفات المعينة والمركزة والأفعال المحددة.
100- هذا ما يؤكده تعليم الكنيسة الكاثوليكية: “في الشأن الاقتصادي يتطلب احترام كرامة الشخص البشري ممارسة فضيلة القناعة لكبح جماح جشع التمتع بخيرات هذا العالم، وفضيلة العدالة لاحترام حقوق القريب وإعطائه ما يحق له، وفضيلة التضامن الإنساني، جرياً على القاعدة الذهبية واقتداء بسخاءِ الرب الذي لأجلنا، صار فقيراً، وهو الغني لنغتني نحن بقفره” (2 قو 8/ 9) (157).
ثم يعرض هذا التعليم سلسلة من العادات والأفعال تنافي الكرامة الإنسانية وهي: السرقة، واحتجاز الودائع والأغراض المفقودة، والغش في التجارة (تثنية 25/ 13- 16) وهضم الأجور ظلماً (تثنية 24/ 14- 15، يعقوب 5/ 4) واستغلال جهل الغير أو عوزه لرفع الأسعار بغية جني الأرباح (عاموس 8/ 4- 6) واغتصاب إيرادات مؤسسات المجتمع والاستئثار بها، والأعمال المنفذة تنفيذاً عاطلاً، والغش في تأدية الضرائب، وتزوير السندات والبيانات المالية، والبذخ والتبذير، إلخ (158). وأيضاً “ما تحرمه الوصية السابعة من أفعال أو مشاريع تؤدي، لأي سبب كان، لمصلحة خاصة أو إيديولوجية، للتجارة أو للتسلط، إلى استعباد الناس، إلى امتهان كرامتهم الشخصية، إلى ابتياعهم وبيعهم وإلى المقايضة بهم كما لو كانوا سلعة. ولأن تحوِّل بالقوة أشخاصاً بشريين إلى عملة متداولة أو مصدر كسب، ذلك إثم فظيع يُرتكَب بحق كرامتهم وحقوقهم الأساسية. القديس بولس يوصي السيد المسيحي أن يعامل عبده المسيحي “لا كعبد بل …. كأخ… في الجسد وفي ربّنا” (فليمون 16) (159).
101- في المجال السياسي لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن التزام جانب الحق بين الحكام والمحكومين، والنزاهة في الإدارة العامة، والإنصاف في الخدمة العامة، واحترام حقوق الأخصام السياسيين، ورعاية حقوق المدّعين في الدعاوى وتحاشي الأحكام المرتجلة، وتعاطي الشؤون المالية العامة بالاستقامة والإنصاف، والامتناع عن اعتماد وسائل مريبة أو محرمة في المحاولة بأي ثمن كان للاستيلاء على السلطة أو الحفاظ عليها أو تعزيزها، إنها كلها مبادئ تجد مصدرها، كما ضرورتها الملحة، في كرامة الشخص البشري الفائقة، وفي المسلمات الأخلاقية التي يجب أن يرتكز عليها عمل الدول (160). وطالما لم تراعَ هذه الأمور، فإن أساس التعايش السياسي يسقط، وكل عيش اجتماعي مشترك يتعرض تدريجياً للخطر ويزول (مز 13/ 3- 4، رؤيا 18/ 2- 3 و 9- 24). بعد أن سقطت في دول كثيرة المذاهب السياسية والاجتماعية التي كانت تربط الشأن المدني بنظرة سلطوية للأمور، وفي الطليعة النظرية الماركسية، يبرز اليوم خطر لا يقلّ شأناً، في رفض حقوق الشخص البشري الأساسية، وفي محاولة القيّمين على الشأن اغتيال المطلب الديني الموجود في قلب كلّ إنسان: إنه خطر الحلف القائم بين الديموقراطية ومبدأ النسبية الأخلاقية ( relativisme éthique) التي تحرم التعايش الاجتماعي في كل علاقة بالشأن الخلقي وتعريه كليّاً من أي صلة له بالحقيقة. لأنه “إن لم يكن ثمة حقيقة نهائية قاطعة تقود العمل السياسي وتضبطه، يغدو استغلال الأفكار والقناعات كوسيلة لاغتصاب السلطة سهل المنال. وإن نظاماً شعبياً خالياً من المبادئ يتحوّل بسهولة إلى استبدادية صريحة أو مستترة، والتاريخ شاهد على ذلك (161).
في شتى مرافق حياة الإنسان، العائلية منها، والاجتماعية والسياسية، يؤدي علم الأخلاق، المرتكز على الحقيقة المنفتح في الحقيقة على الحرية الحقيقية خدمة مميزة لا بديل عنها، لها شأن عظيم ليس فقط لدى الإنسان الفرد ومن أجل نموّه في الخير، بل أيضاً لدى المجتمع ومن أجل تقدمه الصحيح.
النعمة والطاعة لشريعة الله
102- حتى في أصعب الأحوال ينبغي للإنسان أن يتقيّد بالرسوم الأخلاقية، طاعة لوصايا الله المقدسة وانسجاماً منه مع كرامته الشخصية. ولا شك في أن الانسجام بين الحقيقة والحرية يفرض أحياناً تضحيات غير هيّنة ويكلّف تحقيقه الكثير حتى شهادة الدم في بعض الأحيان. بيد أن الخبرة العموميّة واليومية تعلّمنا أن الإنسان يتعرّض لتجربة نقض هذا الانسجام: “الشيء الذي أريده لا أفعله، بل الشيء الذي أكرهه إياه أفعل… والخير الذي أريد أن أفعله لا أفعله، بل الشر الذي لا أريد أن أفعله إياه أفعل” (روم 7/ 14- 19).
أنّى يتأتى بالنهاية هذا التمزق في داخل الإنسان؟ إن تاريخه مع الخطيئة يبدأ عندما لا يعود يعترف بالرب خالقه، ويريد أن يميّز بذاته فقط ما هو خير وما هو شر وأن يكون سيد ذاته المطلق غير خاضع لأحد: “تصيران مثل الله تعرفان الخير والشر” (تك3/ 5) تلك كانت التجربة الأولى، معها تتّفق سائر التجارب التي ينقاد لها الإنسان انقياداً سهلاً بسبب الجراح التي خلّتها فيه السقطة الأصلية.
بيد أننا نستطيع التغلّب على التجارب، وتجنب الخطايا، لأن الرب وهبنا مع الوصايا القدرة على حفظ الشريعة: “عينا الرب على الذين يتقونه، ويعلم كل أعمال الإنسان لم يوصِ أحداً أن ينافق، ولا أذِنَ لأحد أن يخطأ” (ابن سيراخ 15/ 20- 21). وقد يصبح حفظ شريعة الله في بعض الأحوال، أمراً عسيراً، بل صعباً للغاية، لكن غير مستحيل البتّة. هذا هو تعليم الكنيسة الثابت في تقليدها العريق، وقد عبر عنه المجمع التريدنتيني بالقول: “إنه ليس لأحد، مهما كان مبرراً أن يفكّر بأنه معفى من حفظ الوصايا التي منعها آباء المجمع تحت طائلة الحرم: أنه يستحيل على الإنسان المبرّر أن يحفظ وصايا الله! لأن الله لا يأمر بالمستحيل، بل أنه حين يأمر يدعوك إلى أن تفعل ما تقدر عليه”، وتطلبَ ما لا تقدر عليه، وهو يساعدك لتقدر. “وصايا الله ليست ثقيلة” (1يو 5/ 3) “ونيرُه طيّب وحمله خفيف” (متى 11/ 30) (162).
103- السبيل إلى الرجاء مفتوح دائماً أمام الإنسان الروحاني، يؤيده الله بنعمته ويجدّ الإنسان في السعي إليه بحريته. وإنما في صليب يسوع المخلّص، وفي عطية الروح القدس، وفي الأسرار النابعة من جنب الفادي المفتوح بالحربة، يجد المؤمن النعمة والقوّة لكي يحفظ دائماً شريعة الله المقدسة، حتى في أصعب الحالات، على حدّ ما جاء عند القديس اندرياس القريطشي: “إن الشريعة ذاتها تحيا بالنعمة، والشريعة تخضع للنعمة ويتطابقان بانسجام رائع، دونما اختلاط ولا امتزاج في خصوصيات كل منهما، بل بتحوّل على الطريقة الإلهية عجيب، فما كان إرهاقاً وأسراً وعبودية يغدو معه لطفاً وحرية” (163).
لا يقدر الإنسان على أمر إلاّ في سرّ فداء المسيح. “إنه لخطأ جسيم أن نخلص من ثمَّ إلى القول…. بأن القاعدة التي وضعتها لنا الكنيسة هي بحدّ ذاتها “مثالاً”، يكفي بالتالي أن نكيفه، ونحضره وننظمه لنطبقه على إمكانيات الإنسان المحدودة على ما تقتضيه، كما يقولون “الموازنة بين مختلف الخبرات وفقاً لأهميتها”. لكن ما هي هذه “إمكانيات الإنسان المحدودة”؟ وأي إنسان نعني؟ الإنسان الذي ينقاد لشهواته أم الإنسان المفتدى بالمسيح؟ لأن المقصود بالفعل هو هذا: حقيقة فداء. المسيح فدانا! وهذا يعني أنه هو من وهبنا إمكانية إحقاق حقيقته كلها، وإنما نحن هذه الحقيقة. هو من عَتَق حريتنا من سلطان الشهوة. وإذا كان الإنسان المفتدى يخطأ بعد، فلا يمكننا أبداً أن ننسب ذلك إلى نقص في عمل الفداء، بل إلى إرادة الإنسان في أن “يتهرب” من النعمة الفائضة من عمل الفداء هذا. وصية الله هي ولا شك بمقدور الإنسان، إنما الإنسان الذي أعطي الروح القدس، الإنسان ذاك الذي إذا سقط في الخطيئة يمكنه مع ذلك أن ينال المغفرة وأن ينعم بحضور الروح” (164).
104- في مثل هذه الحال تجد رحمة الله للإنسان الخاطئ والتائب ويجد عطفه على الضعف البشري مجالاً واسعاً. وعطفه هذا لا يعني أن نعرّض للشك أو أن نعطّل مفهوم الخير والشر ليتكيّف مع الظروف. لأنه إذا كان للإنسان إذا خطئ أن يعترف بضعفه ويلتمس رحمة الله على خطيئته، فلا بدّ لنا من أن نشجب تصرف من يجعل من ضعفه قياساً ومحكاً للخير الحقيقي بحيث يشعر بأنه يمكنه أن يعذر ذاته بذاته دون أن يطلب عون الله ويلتمس رحمته. مثل هذا التصرف يفسد أخلاقية المجتمع كله لأنه يدعو إلى الارتياب في حقيقة الشريعة الأخلاقية بالعموم، ويتنكر لطبيعة الوصايا الناهية المطلقة التي تتناول الأفعال البشرية المحددة، ويشوّش الأحكام في تقييم الأفعال.
أمّا نحن فعلينا أن نتقبّل الرسالة التي نقتبسها من مثل الفريسي والعشار في الإنجيل (لو 18/9- 14). العشار كان له أن يجد بعض العذر من خطاياه، وأسباباً تخفف بعض مسؤوليته. بيد أنه لم يتوقف في صلاته عند هذه الأعذار، بل عند عدم استحقاقه أمام قداسة الله اللامتناهية: “اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ” (لو 18/ 13). أما الفريسي فراح يعذر نفسه، وقد وجد لكل خطأ من أخطائه مبرراً. إننا نواجه هنا موقفين يقفهما إنسان كل الأزمنة في ضميره في الشأن الأخلاقي. فإننا نجد عند العشار ضميراً “تائباً”، واعياً كل الوعي ضعف طبيعته، ويجد في الذنوب التي ارتكبها، مهما كان عنده من أعذار شخصية، تأكيداً على حاجته للفداء. أما عند الفريسيّ فإننا نجد ضميراً “راضياً عن ذاته”، وفي ظنه أن بمقدوره أن يحفظ الشريعة بغنى عن النعمة، متأكداً أن لا حاجة به إلى الرحمة.
105- على الجميع أن يحذروا عدوى العقلية الفريسية التي تحاول التخلص من الشعور بحدودها وبخطيئتها، وتبرز في أيامنا بمحاولة تكييف الشريعة الأخلاقية وفق إمكانياتها ومنافعها، بل أيضاً برفض مبدأ الشريعة ذاته. وبالعكس، إن قبول التفاوت بين الشريعة والطاقة البشرية، أي طاقة قوى الإنسان الأخلاقية إذا كان متروكاً لذاته، يذّكي الرغبة عنده في النعمة ويهيئه لقبولها: “من يُنقذني من جسد الموت هذا؟”، يتساءل الرسول بولس. فيجيب بفعل اعتراف مفعم بالفرح والشكر: “إني أشكر الله بربنا يسوع المسيح” (روم7/ 24).
وإننا لنجذ هذا الشعور في صلاة القديس امبروسيوس أسقف ميلانو يقول فيها: “ما هو الإنسان إن كنتَ لا تفتقده؟ فلا تنسَ إذن المريض، واذكر أنك جبلتني من تراب، فكيف يمكنني أن أقف ما لم تكن مستعداً دائماً لأن تقوّيَ هذا الطين، لتأتي قوتي من رفع وجهك عليّ “تحجب وجهك فيفزعون جميعاً” (مز 103/ 29) وإذا نظرتَ إليَّ فالويل لي، ليس في ما تنظر إليه سوى أدران آثامي. فلا نفع لنا إن أهملتنا ولا إن التفتّ إلينا، لأننا وأنتَ تلتفت إلينا نحن نهينك. ولكن يمكننا أن نفكر أنك لا تطرح خارجاً الذين تراهم، لأنك تنقي مَن تنظرَ إليهم. فأمامك نار تضطرم فتحرق الإثم” (165).
علم الأخلاق والكرازة الجديدة بالإنجيل
106- الكرازة بالإنجيل تشكّل أعظم وأروع تحدّ ٍ تواجهه الكنيسة منذ نشأتها. والواقع أن هذا التحدي لا يتأتى عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية التي اعترضت الكنيسة في مسيرتها عبر التاريخ، مثله عن وصية المسيح بعد قيامته من الموت، وصية، تحدد علّة وجود الكنيسة بالذات: “انطلقوا إلى العالم كله ونادوا بإنجيلي في الخليقة كلها” (مر 16/ 15).
بيد أن الزمن الذي نعيش فيه، يحمل أقلّّّّّه في بعض البلدان، دعوة حثيثة، ولأسباب وجيهة للغاية، إلى كرازة جديدة، أي حتى إلى تبشير جديد بالإنجيل، ومتجدد أبداً، أي إلى تبشير يكون “جديداً بحرارته وطرقه وأساليبه وتعبيره” (166). فإن ضياع الإيمان المسيحي الذي ألمّ بشعوب وجماعات اشتهرت في القديم بالإيمان والحياة المسيحية، لا يؤدي فقط إلى ضياع الإيمان أو إلى فقد معناه في الحياة، بل أيضاً وبالضرورة إلى إضعاف الحس الأخلاقي وتعطيله، وذاك إمّا لأن وعي ميزات أخلاقية الإنجيل قد ضاع، وإمّا لضياع المبادئ والقيم الأخلاقية الأساسية. إن تيارات المذاهب التي تعتبر أن لا حقيقة إلاّ ما يرى الإنسان أنه حقيقة، وتلك التي تختلط فيها الحقيقة مع المنفعة والتي لا تقول إلاّ بالحقيقة النسبيّة، هذه التيارات الواسعة الانتشار في أيامنا لا يَعرضها القائلون بها كمواقف عملية، أو كأعراض أخلاقية، بل كنظريات يثبتها العقل بحيث تفرض ذاتها على الصعيد الثقافي والاجتماعي.
107- إن الكرازة – والكرازة الجديدة إذن – تحمل معها إعلاناً وعرضاً أخلاقياً. فيسوع نفسه، في تبشيره بملكوت الله وبحبّه المخلّص دعا إلى الإيمان والتوبة (مر1/ 15). وبطرس كما سائر الرسل في التبشير بقيامة يسوع الناصري من بين الأموات دعا الذين أرادوا أن يكونوا تلاميذ المسيح القائم من بين الأموات إلى أن يغيّروا حياتهم ويعتنقوا “الطريقة” الجديدة. (أعمال 2/ 37- 41 و 3/ 17- 20).
إن الكرازة الجديدة، عندما تعرض أسس التعليم الأخلاقي المسيحي وأبعاده، مثلها وأكثر منها عندما تعرض حقائق الإيمان تبرهن عن أصالتها، وبالوقت ذاته، تظهر كل قوتها في عمل الرسالة، إذا تمّت لا بالكلمة المعلنة فقط، بل أيضاً وبنوع خاص، بالكلمة المُعاشة، إنها قداسة الحياة التي تتألق في العديد من شعب الله، البسطاء المغمورين في غالب الأحيان، هي التي تشكّل الوسيلة الأبسط والأوفر جاذبية، إذا اعتنقناها استطعنا أن نعرف في الحال جمال الحقيقة وقوّة حب الله المحررة وقدر الأمانة المطلقة ولمتطلبات شريعة الله كلها، حتى في أصعب الحالات. لذلك نرى الكنيسة في اضطلاعها الحكيم بالتربية الأخلاقية تحث المؤمنين دائماً على أن ينشدوا في القديسين من كلا الجنسين وبخاصة في العذراء أم الله “الممتلئة نعمة” و” الكلية القداسة” المثال والقوة لكي يحيّوا بالفرح حسب وصايا الله وتطويبات الإنجيل.
إن حياة القديسين، التي تعكس صلاح الله – “الصالح وحده” – هي حقاً شهادة إيمان وحافز على إشراك الغير فيها، وهي أيضاً تمجيد لله ولقداسته اللامتناهية.
وهكذا تساعد حياة القداسة كل مسيحي على أن يعيَ ويحققَ على أكمل وجه خدمته المثلّثة والواحدة معاً: الكهنوتية والنبوية والملوكية التي قبلها هبةً بولادته الجديدة في العماد “من الماء والروح” (يو 3/ 5). وتكتسب حياة المسيحي الأخلاقية ذاتها طابع “عبادة الروح” (رومية 12/ 1، فيليبي 3/ 3)، عبادة تجد منهلها وغذاءها في ينبوع القداسة وتمجيد الله، الذي لا ينضب: في الأسرار، وبخاصة سر الافخارستيا. فالمسيحي باشتراكه في ذبيحة الصليب يشترك في تقدمة حب المسيح، ويصبح جديراً وملتزماً بأن يمارس المحبة ذاتها في كل مواقفه وتصرفاته في الحياة. في الحياة الأخلاقية أيضاً تبرز وتُمارس خدمة المسيحي المسكونية. وبقدر ما يمارِسُ بمساعدة النعمة، الطاعة لشريعة الروح القدس الجديدة، ينمو في الحرية التي دُعي إليها في خدمة الحقيقة والمحبة والعدالة.
108- إن منهل الكرازة الجديدة والأخلاقية الجديدة التي تعرضها وتنشطها بما ينتج عنها من قداسة سيرة وعمل رسالة، إنما هو روح المسيح مصدر وقوة الخصب في أمّنا الكنيسة المقدسة، كما يذكر البابا بولس السادس: “لا يمكن أن يكون تبشير بدون عمل الروح القدس (167). لروح يسوع الذي يقبله المؤمن بالتواضع والخضوع في قلبه، يعود الفضل في ازدهار الحياة الأخلاقية وشهادة القداسة بالتنوّع الواسع فيها بالدعوات والمواهب والمسؤوليات في مختلف ظروف الحياة والأوضاع. هو الروح القدس – كما سبق وأشار إلى ذلك نوفاتيانوس معبّراً في هذا الموضوع عن إيمان الكنيسة الحق – “هو مَنْ قوّى نفوس التلاميذ وعقولهم، وكشف لهم أسرار الإنجيل، ومَنْ زيّن نفوسهم بالأنوار الإلهية، وثبّتهم مِن أجل اسم الرب، فلم يهابوا السجن والقيود، بل إنهم ازدروا بسلطات هذا الدهر وبمضايقه، وقد تسلّموا أو تقوّوا به، متمتّعين بالمواهب التي يوزعها هذا الروح ويغدقها على الكنيسة عروس المسيح، تزدان بها. هو مَنْ يُقيم في الكنيسة الأنبياء، ويفقّه المعلمين، ويرعى الكلمة، ويصنع القوات والأشفية، ويعمل العجائب، ويمنح تمييز الأرواح، ويُثبّت السلطات، ويُلهم الأحكام، ويجمع ويوجّه سائر المواهب الأخرى، فيُقيمُ للربّ كنيسة مكمّلة متمّمة في كل مكان وكل شيء” (168).
في إطار هذه الكرازة الجديدة الحيّ، المعدّة لكي تُنشئ وتغذّي الإيمان “الذي يعمل بالمحبة” (غل 5/ 6)، وبالنسبة لعمل الروح القدس، يمكننا أن نفهم أي مكان يجب أن تحتلّ في الكنيسة، جماعة المؤمنين، البحوث التي يجب على علم اللاهوت أن يقومَ بها في موضوع الحياة الأخلاقية وأن تبرز رسالةُ معلّمي اللاهوت الأخلاقي ومسؤولياتهم.
في خدمة معلّمي اللاهوت الأخلاقي
109- إن الكنيسة الجامعة، المشتركة بفعل الروح القدس في خدمة الرب يسوع النبوية، هي مدعوة لعمل البشارة ولإداء شهادة حياة الإيمان. وبنعمة الروح القدس الحاضر فيها دائماً (يو 14/ 16- 17) لا يمكن “لجماعة المؤمنين الذي لهم مسحةٌ من الروح القدس” (1 يو 2/ 20 و 27) أن يغلطوا في الإيمان، وهذه الموهبة الخاصة تظهر عبر مَلَكَة الإيمان الفائقة الطبيعة التي ينعم بها الشعب المؤمن كلهم، عندما يعلنون جميعاَ من الأساقفة حتى المؤمن البسيط توافُقَهم في موضوع الإيمان والأخلاق (169).
إن واجب تأدية الخدمة النبوية يُوجب على الكنيسة أن تحرّكَ أو “تبعث” حياة الإيمان فيها (2 تيمو 1/ 6)، وخاصة بالتعمّق، بقيادة الروح القدس، في محتوى الإيمان. وإن معلّمي اللاهوت في الكنيسة مدعوون إلى خدمة المؤمن في “سعيه لوعي إيمانه”. نقرأ في التعليم: “هبة الحقيقة” ما يلي: “بين الدعوات التي يبعثها الروح القدس في الكنيسة، تبرز دعوة معلمي اللاهوت الذي مهمتهم أن يحصلوا، بالاتفاق مع السلطة التعليمية، على فهم أعمق لكلمة الله، الواردة في الكتب المُلهَمَة، وتنقلها الكنيسة بتقليدها الحيّ. فالإيمان من طبعه ينشد الفهم لأنه يكشف للإنسان حقيقة مصيره والسبيل للوصول إليه. حتى إذا كانت هذه الحقيقة تفوق نطقنا، ومعارفنا عاجزة عن التعبير عن عظمتها التي تفوق كل معرفة (أفسس 3/ 19)، فهي مع ذلك تدعو عقلنا – هبة الله المعطاة لنا لإدراك الحقيقة – إلى أن يدخل في نورها فيغدو هكذا أهلاً لأن يفهم نوعاً ما ما به يؤمن. وعلم اللاهوت الذي ينشد فهم الإيمان تلبيةً لصوت الحقيقة، يساعد شعب الله “على الدفاع عن رجاء إيمانهم أمام كل من يستجوبهم”، على حدّ ما يوصي به الرسول (1 بط 3/ 15) (170).
إن تحديد هوية علم اللاهوت وبالتالي رسالة ممارسته يقتبس من علاقته الحميمة الحية بالكنيسة، بسرّها وحياتها ورسالتها: “اللاهوت علم كنسي لأنه في الكنيسة ينشأ وفي الكنيسة يعمل …. وبما أنه في خدمة الكنيسة وجب أن يشعر بأنه داخل في رسالة الكنيسة، وبالأخص في خدمتها النبوية” (171). فاللاهوت الأصيل، وبالنظر لطبيعته ونشاط حركته، لا يمكن أن يزدهر ويتقدم إلاّ باتحاده الثابت المسؤول بالكنيسة وانتمائه إليها “كجماعة إيمان” كما أن الكنيسة تجني من البحث والتنقيب اللاهوتي ثماراً لحياة الإيمان فيها.
110- ما سبق فقلناه في علم اللاهوت، بالعموم، يمكن ويجب أن يُقال مجدداً في لاهوت الأخلاق، من حيث هو علم يستعيد قراءة الإنجيل كعطية ووصية الحياة الجديدة، الحياة “حسب الحقيقة في المحبة” (أفسس 4/ 15)، حياة قداسة الكنيسة، فيها تتألق حقيقة الخير البالغ ذروة الكمال. فالسلطة الكنسية المعلمة تتدخل ليس فقط في شؤون الإيمان، بل أيضاً وبشكل مترابط، في شؤون النظام الأخلاقي، “حيث تعمل، بأحكام تلزم ضمير المؤمنين، على تمييز الأفعال التي تتفق بحدّ ذاتها مع متطلبات الإيمان وتعزّز التعبير عنها في الحياة، من الأفعال التي بسبب خبثها، لا يمكن أن تتوافق مع هذه المتطلبات عينها: (172). والسلطة الكنسية المعلمة في تبشيرها بوصايا الله ومحبة المسيح تعلّم المؤمنين أيضاً وصايا خاصة ومحدودة وتطلب منهم أن يعتبروها ضميرياً ملزِمة. وعدا ذلك فهي تضطلع بمهمة لها شأن كبير في السهر على المؤمنين تحذرهم من الأضاليل الطارئة، ولو متستّرة، إذا كان ضميرهم عاجزاً عن تمييز القواعد الأخلاقية الصحيحة.
ولا بدّ هنا من الكلام عن مهمّة مَنْ – بتكليفٍ من الأساقفة الشرعيين – يعلّمون لاهوت الأخلاق في الإكليريكيات وكليات اللاهوت. إنها يضطلعون بواجب خطير، واجب تعليم المؤمنين – وبخاصة رعاة المستقبل – جميع الوصايا والرسوم الواجب حفظها التي تعلنها الكنيسة بسلطاتها. (173)
ومهما يكن من أمر الأسباب الموجبة التي قد تعرض فيها السلطة هذه الرسوم، فعلى معلّمي اللاهوت الأخلاقي أن يتبحّروا في درس الأسباب الموجبة لهذه التعاليم، والطابع الإلزامي الذي ترتديه، وارتباط بعضها بالبعض، وما لها من علاقة بغاية الإنسان الأخيرة (174). وعلى هؤلاء اللاهوتيين أنفسهم أن يعرضوا تعليم الكنيسة، وعليهم في أدائهم هذه الخدمة، أن يعطوا المثل ظاهراً وباطناً في احترام السلطة المعلّمة المختصة سواء في اللاهوت النظري أم الأخلاقي (175). وليحزموا قواهم بالتعاون مع السلطة المعلّمة ويبذلوا عناية خاصة ليسلّطوا الأضواء على المراجع الكتابيّة والأبعاد الأخلاقية والأدلّة الإنسانية التي يرتكز عليها التعليم الذي تعرضه الكنيسة في موضوع الأخلاق ونظرتها في الإنسان.
111- إن الخدمة التي على معلّمي اللاهوت الأخلاقي أن يؤدوها اليوم لها شأن عظيم، ليس فقط بالنسبة لحياة الكنيسة ورسالتها، بل أيضاً للمجتمع وللثقافة الإنسانية. فعليهم، مع تقيّدهم الوثيق الحي باللاهوت الكتابيّ والنظري، أن يبرزوا في نظرة علميّة، الحيويّة التي يمتاز بها جوابُ الإنسان على دعوة الله في مسيرته، نامياً في الحب وسط جماعة الخلاص. هذا ما يُضفي على لاهوت الأخلاق بُعداً روحياً يقتضيه اكتمال صورة الله التي في الإنسان، والأصول الصحيحة للتقدّم الروحي في مفهوم الزهد والصوفية (176).
إن صعوبات خاصة تعترض اليوم اللاهوت الأخلاقي وتعليمه. فلأن أخلاقية الكنيسة تستند حتماً إلى أحكام تقرّها ثابتة، لذلك لا يمكن اعتبار اللاهوت الأخلاقي مجرد علم متطور في إطار ما يسمونه العلوم الإنسانية. وبما أن هذه العلوم تعتبر الظاهرة الأخلاقية عرضاً تاريخياً واجتماعياً، فإن علم لاهوت الأخلاق، مع التزامه الأخذ بعلم الإنسان والطبيعة، لا يخضع أبداً للنتائج الاختبارية وتحاليل الظواهر علمياً. بل إن ما هو من شأن العلوم الإنسانية، يتعلق دائماً في علم لاهوت الأخلاق بالسؤال الأساسي: ما الخير وما الشر؟ وما العمل لبلوغ الحياة الأبدية؟
112- إذن على اللاهوتي الذي يعالج القضية الأخلاقية أن يلزمَ الحذر والتبصّر في تعاطيه مع ثقافة هي بمعظمها عمليّة وتقنيّة معرّضة للإنزلاق في النظريات النسبيّة والأدائية والوضعيّة (pragmatisme et positivisme ). فالمبادئ الأخلاقية، وفقاً للمقولة اللاهوتية، لا تخضع للظرف التاريخي الذي فيه تُعلن. وإذا كان بعض المؤمنين لا يتقيّدون بتعليم السّلطة الكنسيّة أو يعتبرون ما يُعلنه رعاةُ الكنيسة منافياً للشريعة الإلهية، مسلكاً صحيحاً، فذلك ليس برهاناً يُجيز لنا أن ننقضَ حقيقة الرسوم الأخلاقية التي تعلّمها الكنيسة. فالمبادئ الأخلاقية لا تثبت بالأسلوب العلمي التجريبيّ والشكليّ (empiriques et formelles). إن اللاهوت الأخلاقي لا يُنكر ما لهذه الأساليب، بل أمانةً منه للنظرة الإيمانية الفائقة الطبيعة، يأخذ بعين الاعتبار، قبل كل شيء، البعد الروحيّ في قلب الإنسان ودعوته إلى الحب الإلهي.
لأنه، فيما تعرض العلوم الإنسانية، شأنها شأنَ سائر العلوم الاختبارية، مفهومَ “ما هو طبيعيّ” عند الإنسان، بشكلٍ تجريبيٍّ معتمدةً على علم الإحصاء، يُعلمنا الإيمان بأن ما يُعتَبر “طبيعي” يحمل في طيّاته آثار سقطة الإنسان من حالته الأولى، أي جراح الخطيئة. وحده الإيمان المسيحي يهدي الإنسانَ سبيل العودة “إلى البدء” (متى 19/ 8)، سبيل هو الغالب غير سبيل العلوم الاختبارية. لذلك وإنْ تكن العلوم الإنسانية توفّر لنا معارف ذات شأن عظيم، فلا يمكنها أن تأتي بالأدلة القاطعة في مسألة الأحكام الأخلاقية. الإنجيل يكشف كلَّ الحقيقة عن الإنسان وأخلاقيّة مسلكه. وهكذا يُنير ويُنبّه أفكار الخطأة، معلناً لهم رحمةَ الله التي تجهد عاملةً على إنقاذهم، من اليأس من أنهم يستطيعون بقواهم الطبيعية أن يعرفوا شريعة الله ويحفظوها، وإمّا من الادّعاء بأنهم يستطيعون أن يخلّصوا ذاتهم بذاتهم. ثم يذكّرهم بفرح غفرانَ الخطايا الذي وحده يمكننا من أن نرى الشريعةَ الأخلاقية الحقيقية التي تُحرّر، ونعمةَ الرجاء وطريقَ الحياة.
113- إن مهمّة تدريس علم الأخلاق تفرض الاضطلاعَ الواعي بمثل هذه المسؤوليات الفكريّة والروحيّة والرعويّة، لذلك إن معلّمي لاهوت الأخلاق الذين يُكلَّفون أداءَ تعليم الكنيسة، يضطّلعون بواجبٍ خطير، واجب تربية المؤمنين على الحكم بموجب الضمير، وعلى الالتزام بالخير الحقيقي وعلى واجب التماس النعمة الإلهية بنفسٍ واثقة.
إذا كان توافق الآراء أو تعارضها، شأن الحياة العامة في إطار نظام تمثيلي شعبي، فلا شك في أنه لا يمكن أن يُناطَ علم الأخلاق بما يسمّونه الأخلاقية “الإجرائية” أي أنه لا يمكن تركيز هذا العلم وفقاً لأصول وصيغ المناقشات في النظام الديمقراطي. إن المعارضة التي تقوم على الاحتجاجات والمنازعات عبر وسائل الإعلام هي منافية للشركة الكنسية وفهم تركيبة النظام في شعب الله فهماً سليماً. ففي حال التنكّر لما يعلّمه رعاة الكنيسة، لا مجال ولا معنى للحرية المسيحية في اختلاف مواهب الروح. في مثل هذه الحال يجب على الرعاة، وفقاً لواجبهم الرسولي، أن يعملوا مُلحّين على صيانة حق المؤمنين في قبول التعليم الكاثوليكي سليماً كاملاً: “ينبغي لمعلّم اللاهوت ألاّ ينسى أنه هو أيضاً عضو في شعب الله، فمن واجبه أن يتصرّف معهم باحترام كلّي وأن يضطلعَ بمهمّة نفحه بتعليم لا يُسيء بأي شكل كان إلى تعليم الإيمان (177).
مسؤولياتنا الرعوية
114- مسؤولية الإيمان وحياة الإيمان في شعب الله يضطلع بها، بنوع خاص، الرعاةُ شخصياً، على حدّ ما يذكِّر به المجمع الفاتيكاني الثاني: “بين أهم واجبات الأساقفة تبرز الكرازة بالإنجيل. فالأساقفة هم دعاة الإيمان الذين يجيئون المسيح بتلاميذ جدد، والمعلّمون الأصيلون أي المُزَّودون بسلطة المسيح، يعلّمون الشعب الموكول إليهم ما ينبغي لهم أن يؤمنوا به وكيف يسلكون حسب هذا الإيمان، مستنيرين بالروح القدس، ويُخرجون من ذخائر الوحي كل جديد وقديم (متى13/ 52) ويجعلون هذا الإيمان يُثمر، ساهرين على تجنيب شعبهم خطر الأضاليل المداهم (2 تيمو 2/4 ، 1- 4)” (178).
إنه لمن واجبنا جميعاً ومن نِعم الله علينا، كرعاة الكنيسة وأساقفتها، أن نعلّم المؤمنين، ما يقودهم نحو الله، كما علّم المسيح الرب الشابَ الذي جاء يسأله كما جاء في الإنجيل. فعلى سؤله: “ماذا ينبغي لي أن أعمل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟”(متى 19/ 16)، أعاده يسوع إلى الله، رب الخليقة والعهد وذكَّره بالوصايا الأخلاقية التي أُنزِلَت في العهد القديم، مبيّناً معناها وما لها من سلطة، وألحّ عليه أن يتبعها في الفقر والتواضع والحب: “تعال اتبعني”. هذا التعليم ختم يسوع على حقيقته بدمه على الصليب، فصار بالروح القدس شريعة الكنيسة الجديدة وجميع المؤمنين.
مثل هذا “الجواب” على السؤال في الأخلاق يسلّمه المسيحُ الرب خاصة إلينا نحن رعاةُ الكنيسة المدعوّين إلى أن توضّح ذلك قياماً بوظيفتنا النبوّية. وعلينا أيضاً أن نتمم وظيفتنا الكهنوتية بالقيام بواجبنا الرعائي في تعليم الأخلاق المسيحية، الأمر الذي يتّم عندما نوزّع على المؤمنين مواهبَ النعمة والتقديس التي تؤهلهم لطاعة شريعة الله المقدّسة، وعلينا أن نسندَهم في إيمانهم بمثابرتنا على الصلاة من أجلهم، لكي يظلّوا ثابتين في ما يُمليه عليهم الإيمان (كولوسي 1/ 9- 12) سالكين حسب الإنجيل. إن تعليم الأخلاق المسيحية يجب أن يكون خاصة اليوم واحداً من أهم واجبات سهرنا ورعايتنا به نمارس وظيفتنا الملوكية.
115- والآن، فإنها المرة الأولى التي تقدّم فيها السلطة المعلّمة في الكنيسة عَرْضاً موَّسعاً للعناصر الأساسية في هذا التعليم وتبيّن الأسبابَ الداعية للتبصّر الرعائي الذي تفرُضُه ظروف الحياة والحضارة المعقّدة وغير المستقّرة أحياناً.
إننا على نور الوحي وتعليم الكنيسة، وبخاصة المجمع الفاتيكاني الثاني، قد ذكّرنا بإيجاز، بخاصيات الحرية الأساسية، وبأهم القِيَم المتّصلة بكرامة الشخص البشري وحقيقة أعماله، بحيث تَظهر في الطاعة للشريعة الأخلاقية نعمةُ وعلامة اختيارنا للتبّني بيسوع المسيح ابن الله الوحيد (أفسس1/ 4- 6). وقد حرصنا في هذه الرسالة العامة على تقييم بعض النزعات القائمة اليوم في علم لاهوت الأخلاق. إننا نحيطكم علماً بها، عملاً بكلمة الرب الذي أوصى بطرس بأن يثبّتَ إخوته (لوقا 22/ 32) لكي نوضح ونعزز حكمنا المشترك.
يعرف كل منا قوّة التعليم الذي يشكل أهم ما ورد في هذه الرسالة العامة والتي يذكَّر بها اليوم خليفة بطرس بسلطانه. كل منا يمكنه أن يتبيّن خطورة هذه القضيّة المُلتَبَسة لا على الأفراد فقط بل على المجتمع بأسره، قضيةُ تأكيد شموليّة وثبوتيّة الوصايا الأخلاقية، ولاسيّما الوصايا التي تنهى دائماً وبدون استثناء عن الأفعال التي هي شر بحدّ ذاتها.
بالاعتراف بهذه الوصايا، إنّ قلب المسيحيين ومحبتنا، محبة الراعي، يلبيّان نداء ذلك الذي “أحبنا هو أولاً” (يو 4/ 19). يطلب الله منا أن نكون قدّيسين كما أنه هو قدوس (لاويين 19/ 2) لكي، بالمسيح، نكون كاملين كما أنه هو كامل (متى5/ 48). هذه الوصية لا تنضب (لو6/ 36) وغاية الوصية أن تقودنا مع نعمة المسيح، على طريق ملء الحياة، حياة أبناء الله.
116- من واجبنا، نحن كأساقفة، السهر على كلمة الله، أن تُنقَل بأمانة، والاهتمام بإيصال هذا التعليم للمؤمنين بأمانة هو، أيها الإخوة المحترمون بالأسقفية، جزءٌ من خدمتنا الرعوية، واتخاذ الحيطة المناسبة لكي نحمي المؤمنين من كل تعليم أو رأي مخالف. ولنا في هذا الواجب من اللاهوتيين كل عون. بيدَ أن الآراء اللاهوتية لا هي قاعدة تعليمنا ولا هي الشريعة. سلطة تعليمنا تنبع، بتأييد الروح القدس، واتحادنا مع بطرس وبرئاسة بطرس، مِن أمانتنا للإيمان الكاثوليكي المستمد من الرسل. واجبنا الخطير نحن الأساقفة أن نسهر شخصيّاً على أن يُعطى في أبرشياتنا “التعليم الصحيح” (1 تيمو 1/ 10) في الإيمان والأخلاق.
وفيما يختص بالمؤسسات الكاثوليكية يضطلع الأساقفة بمسؤولية خاصة. سواء أكانت مؤسساتٍ معدة للرعاية العائلية والاجتماعية، أو مؤسسات مهيأة للتعليم أو للعناية بها وتزويدها بما يلزم من تفويضات، بيدَ أنهم لا يُعفَون هم أبداً من واجباتهم الخاصة. وإن من واجبهم، بالاتحاد مع الكرسي الرسولي، أن يعترفوا بصفة “الكاثوليكية” للمدارس (179)، أو أن يَحرموها منها في حالاتِ مخالفاتٍ طارئة، وكذلك القول في الجامعات(180) والمستشفيات والمراكز الاجتماعية والصحيّة التي لها صلة بالكنيسة.
117- في قلب المسيح، في صميم كل إنسان، يتردّد دائماً السؤال الذي طرحه ذلك الشاب في الإنجيل على يسوع: “يا معلّم، ماذا ينبغي لي أن أفعل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية؟ (متى 19/ 16) لكن المهمّ أن يُطرحَ هذا السؤال على المعلّم “الصالح” لأنه هو وحده موجه مَنْ يمكنه أن يُجيب بملء الحقيقة، في كل ظرف وفي مختلف الحالات. وعندما يطرح المؤمنون هذا السؤال من كل قلبهم يُجيبهم الرب بكلام العهد الجديد الذي سلّمه للكنيسة. أمّا نحن، كما يقول الرسول، فقد أرسلنا نُبشّر لا بحكمة الكلام لئلا يبطل صليب المسيح” (1 قو 1/ 17). لذلك إن في ما تُجيب به الكنيسة الإنسان السائلَ، حكمة المسيح، وقدرةَ المُعلَّق على الصليب وهو الحقيقة التي تُعطي ذاتها.
عندما يطرح الناس على الكنيسة سؤالاً يتعلّق بضميرهم، وعندما يتوّجه المؤمنون في الكنيسة إلى الأساقفة والرعاة، ففي جواب الكنيسة يكون صوت المسيح، صوت الحقيقة عن الخير والشر. في الكلمة التي تقولها الكنيسة، يتردّد في أعماق النفوس صوت الله الذي “هو الصالح وحده” (متى 19/ 17)، و”هو المحبة” (1يو 4/8 و 16).
إن مسحة الروح تجعل من هذا الصوت العذب الرصين نوراً وحياة للإنسان. وهو الرسول بولس أيضاً مَن يدعونا إلى الثقة، لأن “قوتنا هي من الله الذي أهّلنا لأن نكون خدام العهد الجديد، لا بالحرف بل بالروح،… لأن الرب روح وحيث روح الرب هناك الحرية. ونحن جميعاً بوجوه مُسْفِرة تعكس كما في المرآة مجدَ الرب فنتحوّل إلى تلك الصورة كما يؤتينا روح الرب” (2قو 3/ 4- 5 و 17- 18).
خلاصة
مريم أم الرحمة
118- إننا في هذه الخواطر الأخيرة، لنستودع ذواتنا مريم أم الله وأم الرحمة مع آلام حياتنا وأفراحها، وحياة المؤمنين وذوي الإرادة الصالحة وأخلاقهم، والبحوث والدروس التي تتم في علم الأخلاق.
هي أم الرحمة ابنها أرسله الآب عنوان، رحمة الله (يو3/ 16- 18). ما جاء ليدين الناس بل ليغفر الخطايا مستخدماً الرحمة (متى 9/13). وقد أظهر رحمته العظمى لنا بحلوله بيننا ودعوته إيانا لنأتي إليه ونعترف به مع بطرس بأنه “ابن الله الحي” (متى 16/ 16). ليس لخطيئة بشر أن تخمد رحمة الله وتمنعه من أن يمدَّنا بكل قدرته الظافرة إن سألناه. بل إنه يجعل من الخطيئة ذاتها وسيلة ليتجلّى حب الآب. مَن أعتَقَ الأسير بذبيحة ابنه (181)، مفتدياً إيانا برحمته. رحمةٌ بلغت الكمال بعطية الروح الذي يعطي حياة جديدة ويطالبنا بها. مهما عظمتْ ومهما كَثُرَتْ العراقيل التي ينصبُها الإنسان بضعفه وخطيئته، فإن الروح الذي يجدّد وجه الأرض (مز 103/ 30) يجعل الخير يتمّ ويكمل بأعجوبة منه. هذا التجديد ينفحنا القدرة على أن نعمل ما هو خير وسامٍ وجميل ومقبول عند الله ووفق إرادته، وإنما هو، على وجه ما، زهرة عطية الرحمة التي تُنهضنا من عبودية الشر وتمنحنا القدرة على تجنّب الخطيئة. يسوع بعطية الحياة الجديدة يجعلنا شركاء حبّه ويقودنا بالروح إلى الآب.
119- إن العزاء النابع من يقين الإيمان هو الذي يضفي على هذا الإيمان طابعه الإنساني والعجيب في بساطته. يتّفق أحياناً أن تظهر الأخلاقية المسيحية ذاتها في الجدل القائم حول قضايا جديدة ومعقّدة، صعبةَ الفهم ومستحيلة المنال. هذا خطأ، لأن هذا التعليم إذا عبّرنا عنه ببساطة الإنجيل، هو أن نتبع يسوع المسيح ونسلّمه ذاتنا وندع نعمته تغيّرنا ورحمته تجدّدنا. وهي أمور نحصل عليها في الشركة مع كنيسته: “من أراد أن يحيا، يُذكِّرنا القديس أغوسطينوس، يعرف أن يحيا، ويعرف أنّى يحيا، فليتقدم، وليؤمنْ، وليشتركْ في الجسد لكي ينتعش بالحياة. ولا يَخَفْ من تزاحم الأعضاء”(182)” كل إنسان، حتى الأقل علماً، وبالأخص مَنْ “قلبه بسيط” (مز 85/ 11) يمكنه، مستنيراً بالروح، أن يفهم جوهر الأخلاقية المسيحية. بيد أن هذه البساطة الإنجيلية لا تعفي من مواجهة الواقع الحياتي المعقّد، بل يمكنها أن تؤدي إلى فهمه فهماً أفضل، لأن السير في خُطى المسيح يسلّط النور تدريجياً على ميزات الأخلاقية المسيحية، ويُعطي بالوقت نفسه القوة الحية للحفاظ عليها. وعلى سلطة التعليم في الكنيسة أن تسهر وتهتمّ بتنشيط حركة السير في خُطى المسيح، لتنموَ نموّاً منظّماً وصريحاً، بدون أن تكتم أو تموّه المتطلبات الأخلاقية مع كل ما ينتج عنها. لأن من يحب المسيح يحفظ وصاياه (يو 14/ 15).
120- إن مريم هي أم الرحمة ولذلك عَهِدَ يسوع إليها بكنيسته وكل الجنس البشري. عند الصليب، لمّا قبلت بيوحنا ابناً لها، ومع المسيح سألت الآب أن يغفر للذين لا يعرفون ما يعملون (لوقا 23/ 34)، اختبرت مريم بطاعتها الكاملة للروح القدس كلّ غنى محبة الله وشموليتها، محبة وسَّعت قلبها فجعلته أهلاً لأن يضم الجنس البشري كله. وهكذا صارت أم الجميع وأم كل واحد منّا، الأم التي تنال رحمة الله لنا.
مريم هي آية ساطعة ومثال لنا في الحياة الأخلاقية. “تلك كانت مريم فكانت لذلك حياتها درساً للجميع”، يقول القديس أمبروسيوس (183)، موجّهاً الكلام خاصة إلى البتولات ولكنه يتوجه إلى الجميع أيضاً ويُعلن: “شرف المعلم أن يذكي الغيرة للمعرفة. من يكون أشرف من أم الله؟ مَن هو أبهى من تلك التي اختارها البهاء ذاته؟” (184) مريم مارست حريتها وبلغت بها الكمال بتسليم ذاتها لله وقبول عطية الله. لقد حفظت ابن الله المتجسد في حشاها البتولي حتى ولادته، وغذّته وربتّه ورافقته في أسمى فعل مارس به حريته بتقديم ذاته ذبيحة. مريم بتقديم ذاتها لله دخلت في سرّ قصد الله الذي أسلم ذاته للبشر. وبحفظ تلك الأحداث متأملةً بها في قلبها دون أن تفهمها دائماً، (لو2/ 19) أعطت المثَلَ لجميع أولئك الذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها (لو11/ 28)، وبحق دُعيت “كرسي الحكمة”. حكمة هي المسيح يسوع ذاته، كلمة الله الأزلي، الذي يُعلن ويتمم إرادة الآب (عبر 10/ 5- 10). مريم تدعو كل إنسانٍ إلى أن يقبل هذه الحكمة. وهي تأمرنا بما أمرت به أولئك الخدم في عرس قانا الجليل: “افعلوا ما يقوله لكم” (يو 2/ 5).
تشترك مريم في حالتنا البشرية، لكن في الانفتاح التام على نعمة الله. وبما أنها لم تعرف الخطيئة، يمكنها أن ترأف بكل ضعف. وبحشا الأم تتفهم الخاطئ وتحبه.
ولذلك تلزم جانب الحقيقة وتشارك الكنيسة في عبء تذكير الناس جميعاً بالواجبات الأخلاقية. وهي لذلك لا ترضى بأن يخدع الخاطئَ مَنْ يدّعي حبّه فيعذر له خطيئته، لأنها تعرف أن ذلك يجعل ذبيحة المسيح ابنها باطلة. ليس لأي حَلّة، تأتي من تعاليم فلسفية أو لاهوتية متساهلة، أن تجعل الإنسان سعيداً: وحده الصليب ومجد المسيح القائم من الموت يمكنهما أن يمنحا ضميره السلام وحياته الخلاص.
فيا مريم،
أم الرحمة،
ارمقي بنظرك جميعنا
لئلا يضل الإنسان سبيل الخير
ولئلا يفقد ضميره الشعور بالخطيئة
بل فلينمُ في الرجاء بالله
“الذي هو غني بالرحمة” (أفسس 2/ 4)
وليكمِّل بملء إرادته،
الأعمال الصالحة التي أعدّها الله له (أفسس 2/ 10)
وليظل هكذا طوال حياته
“لمدحِ مجده” (أفسس1/12).
أعطي في روما، قرب القديس في اليوم السادس من شهر آب، في عيد تجلّي الرب سنة 1993، الخامسة عشرة لحبريتنا
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1- دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، فرح ورجاء، عدد 22.
2- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم عدد 1.
3- المرجع نفسه عدد 9.
4- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء عدد 4.
5- البابا بولس السادس، كلمة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، (4/10/1965) عدد 1:AAS 57 (1965),P.878. الرسالة الحبرية “تقدم الشعوب” 26/3/1967، عدد 13: AAS 59 (1967), PP.263- 264
6- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 33.
7- دستور عقائدي، نور الأمم، عدد 16.
8- كان البابا بيوس الثاني عشر قد أوضح تطوّر هذا التعليم راجع الكلمة المذاعة في مناسبة الذكرى الخمسين للرسالة الحبرية العامة: “الشؤون الحديثة” للبابا لاون الثالث عشر (1/6/1941): AAS 33 (1941) 195- 205 وانظر أيضاً يوحنا الثالث والعشرين، الرسالة الحبرية العامة “أم ومعلمة” (15/5/1961): AAS 53 (1961) ص 410- 413.
9- Lettr apost. Spiritus Damini (1er août 1987): AAS 79 (1987), P. 1374
10- تعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي عد 1692.
11- Const. ap. Fidei depositum (11 octobre 1992), n.4
12- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 10.
13- Cf. Lettre apost. Parati simper à tous les jeunes du monde à l’occasion de l’Anné internationale de la Jeunesse (31mars 1985), nn. 2- 8: AAS 77 (1985), PP. 581- 600
14- قرار مجمعي في رسالة العلمانيين، عدد 16.
15- الرسالة الحبرية العامة “فادي الإنسان” (4/3/1979) عدد 13: AAS 71 (1979) P.
16- المرجع ذاته 10.
17- HexamronVIe jour , Sermo IV, 8, 50: CSEL 32,241
18- S. Léon Le Grand.Sermon XCII, ch.3: pl 54, 454.
19- S. Thomas d’Aquin, In duo præcepta caritatis et in decem legis præcepta. Prologus: Opuscula theogogica, i-II, q. 91, a, 2, Catéchisme de l’Église catholique, n. 1955.
20- Cf. S. Maxim le Confesseur, Quæstions ad Thalasuim q.64: PG, 723- 728
21- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 24.
22- تعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي، عدد 2070.
23- In Iohannis Evangelium Tractatus, 41,10: CCL 36, 363
24- Cf. S. Augustin, De Sermone Domini in Monte, I,1,1: CCL 35,1-2.
25- In Psalmum CXVIII exposition, serm. 18, 37: PL 15, 1541. cf. S. Chromace d’Aquilée, Tractatus in Marthæum, XX, I, 1-4: CCL 9/A, 291-292.
26- Cf. Catéchisme de l’Eglise catholique, n. 1717
27- In Iohannis Tractatus, 41,10: CCL 36, 363
28- In Iohannis Evangelium Tractatus, 21, 8: CCL 36, 216
29- Ibid., 82, 3: CCL 36, 533
30- De spiritu et littera, 19, 34 : CSEL 60, 187
31- Confessions, X, 29, 40: CCL 27, 176, cf. De gratia et libero arbitrio, XV: PL 44, 899
32- Cf. De spiritu et littera, 21,36, 26, 46: CSEL 60, 189-190, 200-201
33- Cf. Somme théologique, I-II, q. 106, a.1, concl. et ad. 2
34- In Matthæum, hom. I,1: PG 57, 15
35- Cf. S Irénée, Andversus hæreses, IV, 26, 2-5: SC 100/2, pp. 718-729
36- Cf. S. Justin, Apologie, I, 66: PG 6, 427-430
37- Cf. 1 p 2, 12-13, 17, Didaché, II, 2: SC 248, pp. 148 149, Clément D’Alexandrie, Le Pédagogue, I, 10, II, 10: PG8, 355-364, 497-536, SC 70, pp. 268-279, SC 108, pp. 165-219, Tertullien, Apologétique, IX, 8: CSEL,69, 24.
38- Cf. S. Ignace D’Antioche, Aux Magnésiens, VI,1-2: SC 10bis, pp. 82-85, S. Irénéem adversus hæreses, VI, 33, 1.6.7: SC100/2, pp. 802-805, 814-815, 816-819
39- دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 8.
40- المرجع نفسه.
41- المرجع نفسه، عدد 10.
42- Code de Droit canonique , can. 747, § 2.
43- دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 7.
44- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 22.
45- قرار مجمعي في رسالة العلمانيين، عدد 16.
46- دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 62.
47- المرجع ذاته.
48- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 10
49- Cf. Conc. Oecum. Vat. I, Const. dogm. Sur la foi catholique Dei Filius, ch. 4: DS, n. 3018
50- المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، عدد 1.
51- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء، 43- 44
52- المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في الخدمة الدينية، عدد 1، البابا يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة الحبرية العامة: السلام بين الأمم (11/4/1963) AAS 55 (1963), p279, ibid.,p. 265, والرسالة الإذاعية للبابا بيوس الثاني عشر (24/13/1944): AAS 37 (1945), p. 14.
53- بيان في الحرية الدينية، عدد 1
54- الرسالة الحبرية العامة، رسالة الفادي (4/3/1979) عدد 17، كلمة أمام أعضاء اللقاء العالمي للدراسات القانونية (10/3/1984)عدد 19:AAS 79 (1987), p. 561
55- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 11.
De hominis opificio, ch. 4: PG 44, 135- 136.
56) المرجع ذاته، عدد 17
57) المرجع ذاته
58) المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في الحرية الدينية، عدد 2، وأيضاً : Grégoire XVI, Engycl. Mirair vos arbitramur (15 août 1832): Acta Gregorii Papae XVI, I, pp. 169- 174, PIE IX, Encycl. Quanta cura (8 décembre 1864): pii IX P.M. Acta, I, 3, pp. 687- 700, LEON XIII, Ecycl. Libertas praestantissium (20 juin 1888): Leonis XIII P.M. Acta, VIII, Rome (1889), pp. 212- 246.
59) رسالة إلى سعادة الدوق نورفولك حول بعض الصعوبات التي تعترض الإنجليكان في التعليم الكاثوليكي (Uniform Edition: Longman, Green and Company, London, 1868-1881), vol. 2, p. 250.
60) دستور رعوي فرح ورجاء، عدد 40 و 43.
61) Cf. S. Thomas D’Aquin, Somme théologique, I-II, q. 71, a. 6, voir ausi ad 5.
62) Cf. Pie XII, Engycl. Humani genetic ( 12 août 1950): AAS 42 (1950), pp. 561- 562.
63) Cf. Conc. Œcum. De Trente, Sess. VI, Décr. Sur la justification Cum hoc tempore, can. 19- 21 : DS, nn. 1569- 1571,
64) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 17.
66) دستور رعوي فرح ورجاء، عدد 36.
67) المرجع ذاته
68) المرجع ذاته
69) انظر توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، 93 I-II, q. a.e, ad 2, cite par Jaan XXIII, Encycl. Pacem in terries (11 avril 1963): AAS 55 (1963), p. 271.
70) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 41.
71) S. Thomas D’Aquin, In duo præcepta caritatis et in decem legis præcepta. Prologus: Opuscula theological, II, n. 1129, Turin, Marietti (1954), p. 245.
72) كلمة أمام مجموعة الأساقفة الأميركيين في مناسبة زيارتهم الأعتاب الرسولية، (15/10/1988) عدد 6: Insegnamenti, XI, 3 (1988), p. 1228.
73) دستور رعوي فرح ورجاء، عدد 47.
74) S. Augustin, Enarratio in psalmum LXII, 16: CCL 39, 804.
75) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 17.
76) الخلاصة اللاهوتية I-II, q. 91, a. 2.
77) Cf. Catéchisme de l’Église catholique, n. 1955
78) بيان مجمعي في الحرية الدينية، عدد 3.
79) Contra Faustum, XXII, 27: PL 42, 418.
80) الخلاصة اللاهوتية I-II, q. 93, a.1.
81) Cf. ibid, I-II, q. 90, a.4, ad 1.
82) المرجع ذاته q. 91, a. 2
83) Engycl. Libertas præstantissimum (20 juin 1888): Leonis XIII P.M. Acta, VIII, Rome (1889), p. 219.
84) In Epistulam ad Romanos, ch. VIII, lect. 1.
85) Sess. VI, Décret Cum hoc tempore, ch. 1: Ds, n. 1521.
86) Conc. Œcum. De Vienne, Const. Fidei catholicæ: DS, n. 902, Conc. . Œcum. Latran V, Bulle Apostolici regiminis: DS, n. 1440.
87) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 14.
88) Cf. Sess. VI, Décret Cum hoc tempore, ch. 15: DS, n. 1544. في إرشاد رسولي المصالحة والتوبة، 2/12/1984، عدد 17: AAS 77 (1985), pp. 218- 223
89) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 51.
90) مجمع العقيدة والإيمان، الحياة هبة الله، 22/2/1987، AAS 80 (1988), p.74 والرسالة الحبرية العامة، للبابا بولس السادس، الحياة البشرية (25/7/1968)، عدد10: AAS 60 (1968), pp.487- 488 تعليم الإيمان “هبة الحياة” (22/2/1987) المقدمة، 3.
91) إرشاد رسولي في وظائف العائلة المسيحية (22/11/1981، عدد 11.
92) De Trinitate, XIV, 15, 21: CCL 50/A, 451.
93) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية I-II 9. 94, a. 2.
94) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 10.
95) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 29.
96) المرجع نفسه، عدد 16.
97) المرجع نفسه، عدد 10.
98) Cf. S. Thomas d’Aquin, somme théologique I-II q. 108, a. 1, يبين القديس توما الأكويني طابع الأعراف الأخلاقية، صورة ومحتوى، حتى في إطار الشريعة الجديدة، على أن الكلمة المتجسد يحمل الطبيعة البشرية.
99) S. Vincent De Lérins, Commonitorium primum, chap. 23: PL 50, 668.
100) Le développement de la doctrine morale de l’Eglis est semblable à celui de la doctrine de la foi: cf. Conc. Oecum. V A T. I, Const. dogm. Sur la foi catholique Dei Filius, ch. 4: DS, n. 3020, et can. 4: DS, n. 3024. A la doctrine morale s’appliquent aussi les paroles prononcées par Jean XXIII à l’occasion de l’ouverture du Concile Vatican II (11 Octobre 1962): AAS 54 (1962), p. 792, cf. “L’Osservatore Romano”, 12 octobre 1962, p. 2.
101) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 16.
102) المرجع نفسه.
103) In II Librum Sentent., dist. 39. a. 1, q. 3, concl.: Ad claras aquas, II, 907
104) اللقاء الرسولي العام ، (17/8/1983)، 2: Insgnamenti, VI, 2(1983),p. 256
105) Sprême S. Congrégation du Saint-Office, Instuction sur la “morale de situation” Contra doctinam (2 février 1956): AAS 48 (1956), p. 144.
106) رسالة حبرية عامة “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” للبابا يوحنا بولس الثاني (18/5/1986)، عدد 43: AAS 78 (1986),pp. 859- 860,، دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 16، بيان مجمعي في الحرية الدينية، عدد 3.
107) دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 16.
108) Cf. S. Thomas d’Aquin, De Veriatate, q. 17, a. 4.
109) دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 16.
110) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية II-II, q. 45, 1.2.
111) بيان مجمعي، في الحرية الدينية، عدد 14.
112) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 5، cf. Conc. Œcum. Vat. I, Const. dogm Dei Filius, ch. 3: Ds, n. 3008.
113) دستور عقائدي في الوحي الإلهي، عدد 5، cf S. cong. Pour la Doctrine de la Foi. Déclar. Persona humana (29 December 1975), n. 10: AAS 68 (1976), pp. 88-90
114) إرشاد رسولي بشأن المصالحة والتوبة (2/12/1984)، عدد 17: AAS 77 (1985), pp. 218-223
115) Session VI, Décret Cum hoc tempore, ch. 15: DS, n. 1544, can. 19: DS, n. 1569
116) إرشاد رسولي بشأن المصالحة والتوبة (2/12/1984)، عدد 17 AAX. 77 (1985),p. 221.
117) المرجع نفسه، ص 223.
118) المرجع نفسه، ص 222.
119) دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 17.
120) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، I-II, q.1, a.3: “Idem sunt actus morales et actus humani”
121) Vie de Moïse, II, 2-3: PG 44, 327-328: SC 1 ter, pp. 106-109.
122) Cf. S Thomas d’Aquin, Somme théologique, II-II. q.148- a.3.
123) دستور رعوي، فرح ورجاء، إن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الرعوي يؤكد ما يلي: “وهذا لا يعني المؤمنين فقط، بل أيضاً جميع الناس ذوي الإرادة الحسنة الذين تعمل نعمة المسيح في قلبهم على وجه خفي. لأنه بما أن المسيح مات عن الجميع وبما أن دعوة الإنسان هي واحدة للجميع، أي دعوة إلهية، يجب أن لا تشك في أن الروح القدس يوفر للجميع، بطريقة معلمها، الله إمكانية الاشتراك بسر الخلاص الفصحي” (عدد22).
124) Tractatus ad Tiberium Diaconum II. Responsiones ad Tibrium Diaconum sociosque suos: S. Cyrille d’Alexandrie, In D. Johannis Evangelium, III, éd. Philip Esward Pusy, Bruxelles, Culture et Civilisation (1965), p. 590
125) Cf. Conc. Œcum. De Trente, Sess. VI, Décret Cum hoc tempore, can. 19: DS, n. 1569. Voir aussi: CLEMENT XI, Const. Unigenitus Dei Filius (8 September 1713) contre les erreurs de Pasquier Quesnel, nn. 53-56: DS, nn. 2453-2456.
126) Cf. somme théologique, I-II, q. 18, a. 6.
127) Catéchisme de l’Eglise catholique, n. 1761.
128) In duo præcepta caritatis et in decem legis præcepta. De dilectione Dei: Opuscula theological, II, n. 1168: Turin, Marietti (1954), p. 250.
129) S. Alphonse-Marie De Liguori, Manière d’aimer Jésus Christ, VII, 3.
130) Cf. Somme théologique, I-II, q. 100, a. 1
131) إرشاد رسولي بشأن المصالحة والتوبة (2/12/1984) عدد 17AAS 77 (1985), p. 221. Cf Paul VI, Allocution. Aux members du Chapitre general de la Congrégation des Rédemptoristes (September 1967) AAS 59 (1967), p. 962.
132) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 27.
133) الرسالة الحبرية العامة، الحياة البشرية(25/7/1968)، عدد 14: AAS 60 (1968),pp. 590-491
134) Contra mendacium, VII, 18: PL 40, 528, cf. S. Thomas D’Aquin, Quæstiones quodlibetales, IX, q. 7, a. 2, Catéchisme de l’Eglise catholique, nn. 1753-1755
135) بيان مجمعي في الحرية الدينية، عدد 7.
136) كلمة أمام أعضاء المؤتمر العالمي للاهوت الأدبي (10/8/1986)، عدد 1: Insegnamenti IX, 1(1986),p. 970.
137) المرجع نفسه عدد 2.
138) دستور راعوي، فرح ورجاء، عدد 24.
139) الرسالة الحبرية العامة “فادي الإنسان” (4/3/1979)، عدد 12: AAS 71(1979),pp. 280- 281
140) Enarratio in Psalmum XCIX,7: CCL 39, 1397.
141) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي، نور الأمم، عدد 36، الرسالة العامة فادي الإنسان 4/3/1979)، عدد 21: AAS71(1979),pp 316- 317.
142) Missale Romanum, oraison de la Memoire du Martyre de Saint Jean Baptist, 29 août.
143) S. Bède Le Vénérable, Homeliarum Evagelii Libri, II, 23: CCL 122, 556- 557.
144) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 27.
145) Aux Romains, VI, 2- 3: SC 10 (1969), p.115.
146) Moralia in Job, VII, 21, 24: PL 75, 778.
147) Summum crede nefas animam præfere pudori/et propter vitam vivendi perdere causas”: Satirs, VIII, 83- 84.
148) Apologie II, 8: PG 6, 457- 458.
149) إرشاد رسولي في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، (22/11/1981) ، عدد 33.
150) المرجع نفسه، عدد 34.
151) إرشاد بشأن المصالحة والتوبة، (2/12/1984)، عدد 34.
152) الرسالة العامة، الحياة البشرية، (25/7/1968)، عدد 29.
153) دستور رعوي، فرح ورجاء، عدد 25.
154) الرسالة الحبرية العامة، السنة المئة، (1/5/1991)، عدد 24.
155) Ibid, n. 44:1.c., pp. 848- 849. Cf. Léon XIII, Encycl. Libertas præstantissimum (20 juin 1888): Leonis XIII P.M. Acta, VIII, Rome (1889), pp. 224- 226.
156) الرسالة الحبرية العامة، الاهتمام بالشأن الاجتماعي، البابا يوحنا بولس الثاني، (30/12/1987)، عدد 41: p. 571. AAS 80 (1988), p. 571.
157) Catéchisme de l’Église catholique, n. 2407.
158) المرجع نفسه، عدد 2408- 2413.
159) المرجع نفسه، عدد 2414.
160) إرشاد رسولي، العلمانيون المؤمنون بالمسيح، (30/12/1988)، عدد 42: 476- 472 AAS 81 (1989), pp. رسالة عامة، السنة المئة (1/5/1991)، عدد 46.
162) Session VI, Décret Cum hoc tempore, ch. 11: DS, n. 1536, cf. can. 18: DS, n. 1568. Le célèbre passage de Saint Augustin, cite par le Concile dans le texte rapporté, est tire du De natura et gratia, 43, 50: CSEL 60, 270.
163) Oratio I: PG 97, 805- 806.
164) خطاب أمام المشاركين في حلقة دراسية حول الإنجاب المسؤول (1/3/1984)، عدد 4: Insegnamenti VII, 1 (1984), p. 583.
165) De interpellatione David, IV, 6, 22 CSEL 32L2, 283- 284.
166) خطاب أمام الأساقفة أعضاء مجلس الأساقفة الكاثوليك في أميركا اللاتينية، 9/3/1983)، عدد 3: Insegnamenti, VI, 1 (1983), p. 698.
167) إرشاد رسولي في واجب إعلان البشارة (8/12/1975)، عدد 75: AAS 68 (1976), p. 64
168) De Trinitate, XXIX, 9- 10: CCL 4, 70.
169) دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عدد 12.
170) Congrég. Pour la Doctrine de la Foi, Instruction sur la vocation ecclésiale du théologien Donum veritatis (24 mai 1990), n.6: AAS 82 (1990), p. 1552.
171) كلمة أمام أساتذة وطلاب الجامعة الغريغورية (15/12/1979)، عدد 6: Insegnamenti II, 2 (1979), p. 1424.
172) Congrég. Pour la Doctrine de la Foi, Instruction Donum veritatis (24 mai 1990), n. 16: AAS 82(1990), p.1557.
173) Cf. C.I.C., can. 252, 1, 659, 3.
174) Cf. Conc. Œcum. Vat. I, Const. dogm. Dei Filius, ch. 4: Ds, n. 3016.
175) البابا بولس السادس، الرسالة العامة : الحياة البشرية (25/12/1979)، عدد 28: AAS 60 (1968),p. 501
176) S. Congrég. Pour l’Éducation Catholique, La formation théologique des futurs prêtres (22 février 1976), n. 100. Documentation Catolique, 1698 (1976), p.472. Voir les nn. 95- 101 qui presentment les perspectives et les conditions d’un travail fecund de renouveau théologique et moral: 1.c., pp. 471- 472.
177) Congrég. Pour la Doctrine de la Foi, Instruction Donum veritatis (24 mai 1990), n.11: AAS 82 (1990), p. 1554, cf. en particulier les nn. 32- 39 consacrés au problème du dissentiment: ibid., 1.c., pp. 1562- 1568.
178) دستور عقائدي، نور الأمم عدد 25.
179) Cf. C.I.C., can. 803, 3.
180) Cf. C.I.C., can. 803.
181)”O inaestimabilis dilectio caritatis: ut servum redimeres, Filium tradidisti”: Missale Romanum, In Resurrectione Domini, Praeconium.
182) In Iohannis Evangelium Tractatus, 26, 13: CCL, 36, 266.
183) De Virginibus, II, 2, 15: PL 16, 222.
184) Ibid., II, 2, 7: PL 16, 220.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post