مناظرات القديس يوحنا كاسيان مع آباء البرية – ج2
المناظرة الثامنة – الرئاسات[1]
للأب سيرينوس
في المناظرة السابقة تم الحوار الأول مع الأب سيرينوس بخصوص ضبط الفكر، ورأينا دور الشياطين في تشتيت الفكر. وقد تحدث الأب عن قوة الشيطان وإمكانياته، لكنه لن يستطيع أن يغلب المؤمن الملتصق بالله، لأن الذي معنا أعظم من الذي علينا. أما في هذا الحوار الذي يحوي 25 فصلاً، فتحدث فيه عن وجود رتب متنوعة بين الشياطين.
فصل 1: تحدث فيه عن كرم الأب سيرينوس (فصل 1)
فصل 2: سأل جرمانيوس عن أصل القوات المتنوعة جدًا المقاومة للإنسان، وعن الفروق بينها، إذ يقول الرسول بولس: “فإن مصارعتنا ليس مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 12:6). و”لا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو 38:8، 39). يسأل أيضًا: من أين جاءت كل هذه العداوة المملوءة حسدًا ضدنا؟ هل لنا أن نؤمن أن هذه القوات قد خلقها الرب لهذا الأمر، أي لتحارب ضد البشر بهذه الرتب التي لها؟
فصل 3: أجاب الأب سيرينوس بأن ما ورد في هذا الشأن في الكتاب المقدس هو سرّ مخفي يحتاج إلى دراسة واجتهاد. فكلمة الله هي طعام يلزم طبخه لكي يؤكل. لكلمة الله المعنى الظاهري الحرفي، وأيضًا المعنى الخفي (فصل 4).
فصل 6: يؤكد أن الله لم يخلق شيئًا شريرًا، بل كل ما خلقه هو حسن جدًا (تك31:1).
فصل 7: أوضح أن الله خلق السمائيين قبل خلقه العالم. “عندما صُنعت الكواكب معًا سبحتني الملائكة بصوٍت عالٍ” (أي 7:38). فقد كانت الملائكة موجودة في بدء خلقة العالم تسبحه على أعمال خلقته للعالم المنظور لنا.
يقول الإنجيلي يوحنا: “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3:1)، ويعدد الرسول بولس الخليقة قائلاً: “فإن فيه (في المسيح) خُلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خُلق” (كو 16:1).
فصل 8: تحدث عن سقوط الشيطان وملائكته وقد رثاهم النبيان حزقيال وإشعياء: “يا ابن آدم ارفع مرثاة على ملك صور وقل له: هكذا قال السيد الرب: أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال. كنت في جنة الله. كل حجر كريم، ستارتك عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوت أزرق وبهرمان وزمرد وذهب. أنشأوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت. أنت الكروب المنبسط المظلل وأقمتك. على جبل الله المقدس كنت. بين حجارة النار تمشيت. أنت كامل في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم. بكثرة تجارتك ملأوا جوفك ظلمًا فأخطأت. فأطرحك من جبل الله، وأبيدك أيها الكروب المظلل من بين حجارة النار. قد ارتفع قلبك لبهجتك. أفسدت حكمتك لأجل بهائك. سأطرحك إلى الأرض، وأجعلك أمام الملوك لينظروا إليك. قد نجست مقادسك بكثرة أثامك بظلم تجارتك” (حز 11:28-18).
ويقول إشعياء عن شيطان آخر:
“كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟! كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟!
وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مل العلي” (إشعياء 12:14-14).
يخبر الكتاب المقدس أن الشيطان لم يسقط وحده من حالته المباركة، بل يسقط التنين ومعه ثلث الكواكب (رؤ4:12).
في أكثر وضوح يقول أحد الرسل: “والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يهوذا 6).
هذا أيضًا وقد قيل لنا: “لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون” (مز7:80). على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟
يرى الأب سيرينوس أن الرؤساء هم الملائكة، سقطوا عن رتبهم المتنوعة من مواضعهم السمائية كثمرة شرهم، وأنهم أيضًا حملوا رتبًا حسب درجة شرهم. وكأنهم كما حملوا رتبًا متنوعة في حياتهم الملائكية، نالوا في سقوطهم رتبًا مضادة حسب درجة شرهم.
ف 9: يقول جرمانيوس إنهم اعتادوا أن يعتقدوا أن الحسد هو علة سقوط الشيطان وبدء سقوطه، الذي بسببه طرد من السماويات، وذلك عندما خدع آدم وحواء باحتيال.
ف 10: أوضح الأب سيرينوس أنه ظاهر من سفر التكوين أن بدء سقوط الشيطان ودماره كان قبل هذا الخداع. فقد قيل عن الحية (الشيطان) أنها أحكم من كل حيوانات الأرض، وجاءت كلمة “أحكم” في العبرية تعني “أحيل”. كان أكثر خداعًا ليس من الملائكة، لأنهم ليسوا مخادعين، ولا من البشر، لأنهم لم يكونوا بعد قد خلقوا (بل من ملائكته الساقطين معه). هذا الخداع الذي فيه كبرياء نزل به ليحمل اسم “الحية”، ويحمل حسدًا.
إنه لم يعد بعد يقدر أن يمشي بل يزحف، ولا أن يتطلع إلى فوق، بل يلتصق بالأرض يزحف عليها، وينحط ليزحف على بطنه يأكل طعامًا ترابيًا أي أعمال الخطايا، بهذا يحمل روح العداوة ضد كل الخليقة. هذه العداوة وإن كانت قد دفعت به ليخدع آدم وحواء، لكن كما يقول الأب سيرينوس أنها لنفعنا، وهذا الخلاف لفائدتنا، فيقف البشر في حذر منه كعدو خطير، فلا يقدر بعد أن يضرنا بأن يخدعنا بإظهاره الصداقة معنا.
هنا يمكنني خلال كلمات هذا الأب أن أضع مقارنة بين التصاق الإنسان بالحية القديمة إبليس وبين التصاقه بالسيد المسيح:
– يوجد صراع بين السيد المسيح كلمة الله وإبليس، كل منهما يريد أن يضم الإنسان إليه ويهبه ما عنده.- التصاق الإنسان بإبليس يجعله متشبهًا بالحية التي لا تقدر أن تمشي في الطريق الإلهي الملوكي بل تزحف على الأرض، فيصير الإنسان ترابيًا. أما الالتصاق بالسيد المسيح، الطريق الحق، فيهبنا جناحي الروح القدس لكي تنطلق النفس كحمامة وتطير إلى السماوي. بهذا تجلس النفس كما في السماويات وتنعم بالجنسية السماوية .
– التصاق الإنسان بإبليس يجعله يزحف على بطنه فيأكل التراب، ويجعل من بطنه إلهًا كقول الكتاب: “آلهتهم بطونهم”، يعيش الإنسان ليأكل، وليس يأكل لكي يعيش. يقتات الإنسان مع إبليس على الخطية كطعام داخلي له. أما السيد المسيح فيهبنا جسده ودمه مأكلاً ومشربًا لكي ننعم بالحياة الأبدية. يصير السيد المسيح “البر الإلهي” طعامًا للنفس التي تقتات به، أما طعام الجسد فضرورة لأجل الحياة.
– التصاق الإنسان بإبليس يسكب فيه روحه، الذي هو روح العداوة، أما التصاقه بالسيد المسيح فيسكب فيه روحه الذي هو روح الحب والصداقة على مستوى أبدي.
ف11: إن كان المخادع إبليس يسقط تحت العقوبة والدينونة التي يستحقها، فإن من يقبل الخداع لا يُعفى من العقاب، وإن كان عقابه أخف من العقاب الذي يسقط تحته المخادع نفسه.
يقول الرسول أن حواء لا آدم هي التي خُدعت، لكن آدم قبل مشورتها. لذا يليق بنا أن نحذر من كل مشورة شريرة، هذه التي تجلب عقوبة على من صدرت عنه ومن قبلها.
ف12: جماهير الشياطين وما تثيره من اضطرابات في جو حياتنا.
يرى الأب سيرينوس أن الجو ما بين الأرض والسماء مكتظ بجموع من الأرواح الخفيفة، تطير لا في هدوء ولا في خمول.
من عناية الله الفائقة أنه حجب هذا المنظر عن الأعين البشرية. لأنه لو كشف عن عينيْ الإنسان ليرى هذا المنظر لسقط في حالة رعب شديدة وانهيار، وفسدت حياته يومًا فيومًا، وعجز عن ممارسته لعمله اليومي وتحقيق رسالته. فالرؤيا تجعله يدخل في علاقة مباشرة منظورة خلالها يرى في كل لحظة ما يمارسونه من شر، مما قد يدفع الإنسان إلى الخطأ.
فصل 13: صراع الشياطين ليس فقط ضد الإنسان، وإنما حتى ضد بعضهم البعض، فإنهم لن يتوقفوا عن الخلافات والصراعات بسبب ما يحملونه من شر.
في دانيال 12:10-14 نرى رئيس الملائكة ميخائيل يُقاوم رئيس الفارسيين لمدة 21 يومًا لكي يحفظ دانيال منه. كما يتحدث عن رئيس لليونانيين… وإن الشيطان الذي يعهد بالفارسيين يصارع ليس فقط ضد أولاد الله، بل وضد الشيطان الذي يعهد باليونانيين. هذا في رأي الأب سيرينوس هو سرّ الصراعات المستمرة بين الأمم بروح الحسد الذي لا ينقطع. إنها صراعات بين الشياطين وبعضها البعض التي تثير الأمم ضد بعضها.
فصل 14: كيف نالت قوات الشر الروحية ألقاب القوات والرئاسات؟
لأنها تحكم وتسيطر على أمم مختلفة، ولها تأثيرها على أرواح أقل منها، وعلى شياطين، وقد شهدت الأناجيل عن وجود “لجيئون”.
فما كان يمكن دعوتهم أرباب ما لم يوجد من يمارسون عليهم الربوبية،
ولا يدعون قوات وسلاطين ما لم يكن لهم من يمارسون عليهم هذا السلطان.
فالفريسيون في تجديفهم على السيد المسيح قالوا: “ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين” (لو15:11)، كما دُعيت الشياطين: “ولاة العالم على ظلمة” (أف12:6)، ودُعي أحدهم: “رئيس هذا العالم” (يو30:14). ويتحدث الطوباوي بولس عن هؤلاء الرئاسات والقوات كيف يبطل سلطانهم على هذا العالم حين يخضع الكل للسيد المسيح فيقول: “متى سُلم المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة” (1كو24:15).
فصل 15: ليس بدون سبب حملت القوات المقدسة السمائية ألقاب الملائكة ورؤساء الملائكة.
دعوا “ملائكة” ومعناها “رسل”، لأن عملهم هو حمل رسائل إلهية.
ودعوا “رؤساء ملائكة” لأن لهم سلطان على الملائكة.
و”سلاطين” لأن لهم سلطان على أشخاص معينين.
و”رئاسات” إذ لهم أشخاص هم رؤساء عليهم.
و”عروش” لأنهم قريبون جدًا من الله وأخصاء وملتصقون به، فتستريح العظمة الإلهية فيهم كما في عرش إلهي بطريقة كمن يتكئ عليهم.
فصل 16: ندرك خضوع الشياطين لرؤسائهم ليس فقط مما ورد في الكتاب المقدس (لو19:11)، بل نراه أيضًا خلال خبرات القديسين المتنوعة.
روى الأب سيرينوس قصة أحد الاخوة (الرهبان). إذ كان في رحلة في تلك البرية وجد كهفًا فتوقف هناك ومارس صلاة الغروب فيها، مسبحًا بالمزامير. بعد الصلاة جلس قبل أن يأكل وكان جسده منهكًا، فرأى عددًا لا يحصى من فرق الشياطين، اجتمعت معًا من كل جانب. جاءوا كجموع لا تُحصى في طابور طويل، البعض يسبق الآخرين، وآخرون يتبعون رئيسهم، وهو أطول منهم وأكثرهم رعبًا. ووُضع عرش عليه كرسي للقضاء عالٍ، وبدأ يفحص أعمال كل واحدٍ منهم.
فإذا ما قال أحدهم أنه لم يستطع بعد أن يغلب منافسيه يصدر أمر بطرده في خزي وعار بكونه كسلانًا وخاملاً، ويوبخ بغضب شديد لأنه أضاع وقتًا طويلاً وأن عمله لم يُثمر.
أما الذين يقولون بأنهم خدعوا منافسيهم فيمتدحهم الرئيس ويمجدهم فوق الكل كمصارعين شجعان وأنهم صاروا نماذج مشهورة أمام البقية.
من بين هؤلاء ظهر أكثر الأرواح شرًا وقدم نفسه ليروي نصرته العظيمة. لقد أشار إلى راهب معروف جدًا، وأنه بعد صراعٍ ضده استمر 15 عامًا أخيرًا غلبه الليلة بخطية الزنا مع فتاة مكرسة، وأنه أغواها لكي يتزوجها. عندئذ صدرت صرخات فرح مدوية، ونال مديحًا عظيمًا بواسطة رئيس الظلمة، ووجهت إليه كرامات عظيمة.
إذ ظهر النهار اختفت كل الشياطين من أمام عيني الأخ، وكان متشككًا من جهة الأرواح الدنسة متذكرًا كلمات الإنجيل: “لم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8).
كمل الأخ طريقه إلى البلسم حيث يعلم أن هذا الإنسان يقطن هناك، هذا الذي تحدث عنه الروح الشرير بأنه قد حطمه، إذ كان الأخ معروفًا جدًا لديه. وعندما سأل عنه وجده بالفعل إنه في تلك الليلة ترك ديره وضل ساقطًا في خطيته مع الفتاة السابق ذكرها.
فصل 17: يقول الأب سيرينوس:
[يشهد الكتاب المقدس عن وجود ملاكين، أحدهما صالح والآخر شرير، يكونان ملاصقين لكل واحدٍ منا. يقول المخلص عن الملاك الصالح: “لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي السموات” (مت10:18). وأيضًا: “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز7:34). وأيضًا ما قيل في أعمال الرسل عن بطرس: “إنه ملاكه” (أع15:12).
أما عن وجود كلا النوعين من الملائكة فيعلمنا كتاب الراعي هذا بطريقة كاملة[2].
إن كنا نفكر في ذاك الذي هاجم الطوباوي أيوب فإننا نتعلم أنه كان يخطط ضده لكنه لم يقدر قط أن يجتذبه إلى الخطية، لذلك كان يطلب سلطانًا من الرب، إذ كان مربوطًا لا بفضيلة (أيوب)، بل بحماية الرب التي كانت تحميه دومًا.
قيل أيضًا عن يهوذا: “ليقف الشيطان عن يمينه” (مز6:19).]
فصل 18: درجات الشر الموجودة في الأرواح المعادية كما ظهرت في حالة فيلسوفين.
تحدث عن مثال لفيلسوفين كان لهما خبرة عظيمة في أعمال السحر مع الكسل والجسارة والشر. لقد حاولا أن يؤذيا الطوباوي أنطونيوس وإذ لم يستطيعا حاولا أن يخلعاه من قلايته بخيالات السحر وأكاذيب الشياطين، فأثارا ضده الأرواح الشريرة المملوءة عنفًا، ليهاجموه في حسدٍ لكونه خادم الله. وإذ لم يقدروا حتى على الاقتراب منه، إذ كان يرشم صدره وجبهته بعلامة الصليب مكرسُا وقته للصلوات والتوسلات، عادت الشياطين إلى من قاما بتوجيههم. قام الساحران بإرسال أرواح شريرة أكثر شرًا، وإذ عادوا خائبين لم يحققوا رسالتهم، أرسلا من هم أكثر قوة لمقاومة جندي المسيح الغالب، ولم يستطيعوا أن يصنعوا شيئًا ضده.
هكذا كل الحيل والخطط وفنون السحر نافعة في تأكيد التقدير العظيم لعمل المسيحيين، حتى إن هذه الخيالات العنيفة والمتسلطة التي تظن أنها قادرة على حجب الشمس والقمر إذ اتجهت نحو الطوباوي أنطونيوس لم تستطع أن تصيبه بضرر، ولا أن تسحبه من ديره للحظة واحدة.
فصل 19: لن تستطيع الشياطين أن تغلب البشر إلا إن امتلكوا أولاً أذهانهم.
أكمل الأب حديثه قائلاً:
[إذ دُهش الفيلسوفان انطلقا فورًا إلى الأب أنطونيوس، وكشفا له عن هجماتهما وخطتهما ضده، وطلبا أن يصيرا مسيحيين. وعندما سألهما عن اليوم الذي فيه مارسا هذا العمل اكتشف أنه في هذا اليوم كان محاربًا بأفكارٍ مرة. بهذه الخبرة أكد الطوباوي أنطونيوس وثبت الفكرة التي قلناها بالأمس في مناظرتنا إن الشياطين لا تستطيع أن تجد لها مدخلاً إلى ذهن أحد أو جسده، وليس لها سلطان أن تسيطر على نفس أحدٍ ما لم تنزع عنها كل الأفكار المقدسةوتجعلها فارغة فاقدة التأمل الروحي.
يليق بكم أن تعرفوا أن الأرواح الدنسة تطيع البشر بطريقين:
1- إما بالنعمة الإلهية والسلطان الذي لقداسة المؤمنين.
2- أو أن يكونوا مأسورين بذبائح الخطاة ويمارسون تلاوات معينة كعابدين للشياطين.
لقد ضل الفريسيون بفهم خاطئ وتخيلوا أن الرب المخلص أعطى الأوامر للشياطين بهذه الطريقة (أعمال السحر) إذ قالوا: “إنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين”. هذا يتفق مع تلك الخطة التي عرفوا أن سحرتهم والعرّافين الذين لهم – إذ يمارسون تلاوات لإبليس ويقدمون له الذبائح التي يُسر بها ويبتهج يصيرون له كخدام يهبهم السلطان حتى على الشياطين الخاضعة له.
فصل 20: سأل جرمانيوس عن ما ورد في سفر التكوين عن الملائكة الساقطين إن كانوا قد مارسوا علاقات جسدية مع بنات الناس (تك2:6)، وما ورد في الإنجيل عن الشيطان أنه كذاب وأبو الكذابين (يو44:8)، ماذا يعني بقوله أب الكذابين؟
فصل 21: الإجابة عن السؤالين السابقين.
أجاب الأب سيرينوس على السؤالين السابقين قائلاً:
[لا يمكننا أن نعتقد بأن هذه الكائنات الروحية يمكن أن تمارس علاقات جسدية مع النساء. لو كان هذا ممكنًا أن يتحقق حرفيًا، فلماذا لا يحدث الآن أيضًا، فإننا لا نرى بطريقة ما أن نساء يحملن بواسطة شياطين بدون علاقة جسدية مع رجال؟ خاصة عندما يظهر بوضوح أن الشياطين تجد لذة في إثارة الشهوة التي بالتأكيد كان الأفضل لها أن تحققها بواسطتها مباشرة عن أن تتم خلال الرجال، لو كان ذلك ممكنًا لهم أن يمارسوه. وكما يقول سفر الجامعة: “ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شئ يُقال عنه: انظر، هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا” (جا9:1-10).
لكن السؤال الذي طُرح يمكن أن يُحل بالطريقة التالية: بعد موت هابيل البار، لكي لا يخرج كل الجنس البشري من صلب إنسان قاتل لأخيه وُلد شيث بدلاً من أخيه الذي قتل (هابيل) ليحتل مكانه، ليس فقط بخصوص إنجاب الأجيال، بل وفي ممارسة العدالة والصلاح. وجاء نسله يتبعون مثال صلاح أبيهم، صاروا دائمًا في عزلة عن الدخول في علاقات (زيجية) مع قايين. فقد ظهر الاختلاف بين السلسلتين في الأنساب كما قيل لنا بوضوح: “آدم ولد شيثًا، وشيث ولد أنوش، وأنوش ولد قينان، وقينان ولد مهللئيل، ومهللئيل ولد يارد، ويارد ولد أخنوخ، وأخنوخ ولد متوشالح، ومتوشالح ولد لامك، ولامك ولد نوحًا” (تك5). وجاءت سلسلة أنساب قايين منفصلة: “قايين ولد حنوك، وحنوك ولد عيراد (قينان)، وعيراد ولد محويائيل، ومحويائيل ولد متوشائيل، ومتوشائيل ولد لامك، ولامك ولد يابال ويوبال” (تك17:4-21). وهكذا بقي خط الأنساب النابع من صلب شيث البار يختلط مع بعضه البعض مستمرًا إلى فترة طويلة في قداسة آبائهم وأسلافهم، لا يتلامسون مع تجاديف وشرور النسل الشرير المغروس فيه بذرة الخطية كما لو كانت تتنقل من الأسلاف.
طالما بقي هذا الانفصال بين الخطين: زرع شيث كمن صدر عن جذر ممتاز، دُعي بسبب قداسته “ملائكة الله”، أو كما نسخها البعض “أبناء الله” (تك 2:6 ). وعلى العكس دُعي الآخرون بسبب شرهم وشر آبائهم وتصرفاتهم الأرضية “بنات الناس”.
بالرغم من وجود الانفصال المقدس والنافع بينهما حتى هذا الوقت، فإنه بعد ذلك رأى أولاد شيث الذين هم أبناء الله البنات اللواتي من نسل قايين، فالتهبت فيهم الشهوة بسبب جمالهن، واتخذوا لهم منهن زوجات. علّمت الزوجات رجالهن شر آبائهن، واقتدن إياهم بعيدًا عن القداسة الموروثة وبساطة الذهن التي لآبائهم. فانطبق عليهم بكل دقة هذا القول: “أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون” (مز 6:82-7).
هؤلاء سقطوا من الدراسة الحقيقية للفلسفة الطبيعية التي تسلموها من أسلافهم، حيث تتبع الرجل الأول (آدم) دراسة كل الطبيعة واستطاع أن ينالها بوضوح، وسلّمها إلى خلفه على أسس أكيدة، وذلك قدر ما رأى العالم في بدء نشأته، حيث كان لا يزال الإنسان في رقته وبساطته كمن فيه ليس فقط كمال الحكمة هذه، بل ونعمة النبوة التي وهبت له بالوحي الإلهي، حتى أنه بينما كان ساكنًا في هذا العالم غير متعلم أعطى أسماء لكل الكائنات الحية، ولم يعرف فقط ثورة كل أنواع الحيوانات والثعابين وسمومها، بل وميّز بين أنواع النباتات والأشجار وطبائع الأحجار وتغيير الفصول التي لم يكن بعد قد اختبرها. استطاع أن يقول حسنُا: “الرب وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات حتى أعرف نظام العالم، وفاعلية العناصر، ومبدأ الأزمنة ومنتهاها وما بينها، وتعاقب الاعتدالات وتغيير الفصول، ودوائر السنة ومراكز النجوم، وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش، ونغمات الأرواح وخواطر البشر، وأنواع النبات وخواص الجذور، فعرفت كل ما خفي وكل ما ظهر” (حك 17:7-21).
تسلم نسل شيث هذه المعرفة الخاصة بكل الطبيعة خلال تعاقب الأجيال التي تسلمتها من الآباء، طالما بقيت الأجيال معتزلة الخط الشرير، إذ تتقبلها في قداسة، وتستخدمها لمجد الله ولإشباع احتياجاتها اليومية.
لكن إذ امتزجت بالجيل الشرير انسحبت نحو اقتراحات الشياطين وأفسدت استخدامها بطريقة ضارة. فقدت المعرفة التي تعلمتها في براءة، وصارت تتعلم في حب استطلاع مع جسارة بلا تعقل فنون السحر والتلاوات والخرافات. تعلمت الأجيال المتعاقبة أن تترك عبادة الله المقدسة، وأن تكرم وتسجد للعناصر أو النار أو شياطين الهواء.]
يروي بعد ذلك الأب سيرينوس كيف انتقلت فنون السحر وعبادة الأصنام والشياطين حتى بعد الطوفان خلال الزيجات الخاطئة
بين أولاد الله وبنات الناس.
فصل 22: اعتراض جرمانيوس على اعتبار الزواج بين أولاد الله من نسل شيث وبنات الناس من نسل قايين خطية حيث لم تكن هناك شريعة تمنع ذلك.
فصل 23: يوضح الأب سيرينوس أن الناموس الطبيعي من البداية يمنع ذلك، لهذا تعرضوا للعقوبة.
فصل 24: بعدل سقط أولاد الله الذين تزوجوا بنات الناس في العقوبة بالرغم من أنهم أخطأوا قبل الطوفان.
فصل 25: أوضح الأب سيرينوس معنى ما ورد في الإنجيل عن الشيطان أنه كذاب وأنه أبو الكذابين (يو44:8).
[إنه لأمر سخيف أن تتخيل هذا (أن الشيطان يلد أبناء) ولو على سبيل حب الاستطلاع. فإنه كما قلنا منذ قليل أن الأرواح لا تلد أرواحًا، كما أن النفس لا تقدر أن تصدر نفسًا، مع هذا لا نشك أن الجسد بصغره من زرع الإنسان. يميز الرسول بوضوح بين الحالتين، أي بين الجسد والروح … “ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم؛ أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا؟!” (عب9:12). أي شيء يمكن أن يكون أكثر وضوحًا من هذا التمييز، حيث يوضح أن البشر هم آباء أجسادنا، ولكنه دائمًا يعلِّم أن الله هو وحده أب النفوس.
مع أن الأمر الأصغر الخاص بهذا الجسد… يُنسب للبشر، بينما الجزء الرئيسي لتكوين الإنسان يشكله الله خالق الكل، يقول داود: “يداك خلقتاني وكوّنتاني” (مز 73:119). ويقول الطوباوي أيوب: “ألم تصبني كاللبن، وخترتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا، فنسجتني بعظام وعصب؟!” (أي 10:5،11). ويقول الله لإرميا: “قبلما صورتك في الرحم عرفتك” (إر 5:1). لكن سفر الجامعة يجمع بوضوح شديد ودقة طبيعة بين العنصرين وبدايتهما… ونهاية كل منهما، فاصلاً بين الجسد والنفس بقوله: “فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها” (جا 7:7).
هكذا إذ خُلق الشيطان أيضًا روحًا، أو ملاكًا صالحًا، لم يكن له أب إلا الله خالقه. لكنه عندما انتفخ بالكبرياء، وقال في قلبه: “أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي” (إش14:14) صار كذّابًا ولم يثبت في الحق (يو44:7)، بل ولد كذبًا من مخازن شره. صار ليس فقط كذابًا بل أبًا للكذب العملي. عندما وعد الإنسان بالألوهة وقال: “تصيران كالله” تك5:3 لم يثبت في الحق، بل كان منذ البدء قتّالاً يجلب آدم إلى حالة الموت، وقتل هابيل بيد أخيه بناء على اقتراحٍ منه.
________________________________________
[1] أرجو أن يسمح لنا الرب بنشر تعريب هذه المناظرة مع بقية نصوص كتابات القديس يوحنا كاسيان التي لم تُعرب بعد في مجلد آخر.
[2] الراعي لهرماس: ك2 وصية 6.
المناظرة التاسعة
الصلاة [1] للأب إسحق
1- مقدمة
ما قد وعدنا به في الكتاب الثاني من المؤسسات[2] بخصوص الحديث عن الصلاة الدائمة بلا انقطاع يتحقق بمعونة الرب بحديث الأب إسحق الذي نقدمه لكم…
2- العلاقة بين الصلاة والفضائل
هدف كل راهب وكمال قلبه هو المداومة على الصلاة بلا انقطاع، فيجاهد قدرما يسمح ضعفه البشري لينال العقل الهادئ غير المضطرب والنقاوة الدائمة حتى يمارس الأعمال الجسدية[3] بانسحاق قلب ثابت بغير قلق.
يوجد نوع من الوحدة المشتركة غير المنفصلة بين الاثنين (الصلاة الدائمة والفضائل)، فكمال الصلاة هو تاج بنيان كل الفضائل، فإذا لم تتحد كل فضيلة اتحادًا كاملاً بالصلاة لا تكون لها قوة أو ثباتًا. ودوام الهدوء في الصلاة وثباتها لا يمكن أن يكون أكيدًا وكاملاً ما لم تسندها الفضائل، ولا يمكن اقتناء الفضائل ما لم تثبت في الصلاة.
لهذا فإننا لا نقدر في حديث قصير أن نبحث بتدقيق “أثر الصلاة”، وأن نتعمق إلى “غاية الصلاة الرئيسية” التي نحصل عليها بعمل كل الفضائل، ما لم نناقش ونحسب الأمور التي يجب نبذها (الرذائل) أو تلك التي يلزم الاهتمام بها (الفضائل) من أجل الصلاة، وذلك حسب المثال الوارد في الإنجيل (لو28:14) أي أن نحسب حساب نفقة بناء البرج الروحي الشاهق العُلو، ونتمعن في ذلك مقدمًا بحرص. ومع هذا فإن هذه الأمور لا يجدي حسابها شيئًا، ولا يسمح هذا بإتمام العلو الشاهق لبناء الكمال كما يليق، ما لم نأخذ في اعتبارنا أولاً الأخطاء بصورة واضحة، أي ما لم نحفر ونزيل الفساد ونفايات الشهوات، حينئذ يجوز وضع أساسات البساطة والاتضاع القوية فوق التربة الصلبة التي لصدرنا الحي، أو بالأحرى توضع الأساسات على صخر الإنجيل (لو48:6). بهذا يرتفع برج الفضائل الروحية، ويقدر أن يصمد ويعلو إلى أعالي السموات في أمان كامل لا يتزعزع. فمتى وُضعت هذه الأساسات، لا يصيبه خراب ولا يؤذيه أي ضرر حتى وإن صدمته عواصف الشهوات العنيفة، وثارت ضده عذابات الضيق، وقامت ضده هجمات الأعداء الروحيين (الشياطين) العنيفة.
3- كيف نقتنى الصلاة النقية؟
لكي ما نرفع الصلاة بالغيرة والنقاوة اللازمتين لها ينبغي مراعاة الآتي:
أولاً: ترك كل قلق متعلق بأمور جسدية.
ثانيًا: ألا نترك فرصة لأفكارنا أن تشرد في الاهتمام أو حتى مجرد ذكر أي عمل من الأعمال[4]. وأن نلقي جانبًا كل الوشايات وكثرة الكلام الباطل (القال والقيل). وقبل كل شيء نترك الغضب، وننزع الكآبة المملوءة قلقًا، ونقتلع جذور الشهوات الجسدية المميتة والطمع.
هكذا إذ يرى الإنسان مثل هذه الأخطاء ويستبعدها ويقطعها عن طريق البساطة النقية والبراءة، عندئذ يلزمه أن يضع أساسًا أمينًا من الاتضاع العميق الذي يعين البرج الذي يرتفع إلى السماء. بعد ذلك يُقام عليها بنيان الفضائل الروحية، وتتحرر النفس من كل أحاديث وأفكار هائمة، ويبدأ في التأمل الإلهي، وترتفع النظرة الروحية قليلاً. لأنه بالتأكيد يرِد علينا أثناء الصلاة ما كان يشغل أذهاننا في الساعة التي تسبقها، وذلك من جرّاء دوام نشاط الذاكرة. فما نُريد الانشغال به أثناء الصلاة يلزم أن نُعد أنفسنا للتفكير فيه قبل وقت الصلاة. فالذهن في الصلاة يتشكل حسب الحالة التي يكون عليها قبل الصلاة.
عندما نتقدم للوقوف للصلاة، تتراقص أمام أعيننا صُور الحوادث والكلمات والأفكار التي سبقت الصلاة، من غضب وحزن وشهوات وأعمال سابقة، قد تجعلنا نضحك ضحكات ساخرة بفكاهات سخيفة أو بعض التصرفات، أو نتذكر مناقشتنا التي سبقت الصلاة. فإن كنا لا نريد أن يزعجنا شيء أثناء الصلاة، يلزمنا أن نحترس قبل الصلاة لنطهر القلب بعزم من كل هذه الأشياء، بهذا نتمم قول الرسول: “صلُّوا بلا انقطاعٍ” (1تس17:5)، “في كل مكانٍ رافعين أيادي طاهرة بدون غضبٍ ولا جدالٍ” (1تي8:2). ونحن لا نقدر أن ننفذ هذه الوصية ما لم يتنقَ عقلنا من كل بصمات الخطية ويلتصق بالفضيلة، حتى يكون صلاحه طبيعيًا، ويتغذى بالتأمل المستمر في الإله القدير.
إمكانيتنا للصلاة
طبيعة النفس تشبه ريشة غاية في النعومة أو جناحًا غاية في الخفة، فلو لم تتلفها أو تفسدها رطوبة خارجية، ترتفع طبيعيًا إلى أعالي السموات بحكم خفة طبيعتها وبفضل نفخة بسيطة… هكذا نفوسنا إذا لم تُثقل بالخطايا التي تلمسها، واهتمامات هذا العالم، أو تتلف برطوبة الشهوات المؤذية، فإنها ترتفع بمواهب نقاوتها الطبيعية، وتُحمل إلى الأعالي بنفخة خفيفة من التأمل الروحي وإذ تترك النفس الأمور السفلية المادية تنطلق نحو الأمور السماوية غير المنظورة. لذلك طالبتنا الوصية أن نحذر لئلا تثقل قلوبنا بالتُخمة والسكر واهتمامات هذا العالم (لو34:21).
فإذا أردنا وصول صلواتنا لا إلى السماء فحسب بل وإلى ما وراء السماء، لنهتم أن تعود نفوسنا إلى خفتها الطبيعية مغسولة من الأخطاء الأرضية ونقية من كل الخطايا. وهكذا تصل صلواتنا إلى الله من غير أن تعوقها أية خطية.
5- ما الذي يثقل النفس؟
وجدير بنا أن نلاحظ العلل التي أشار إليها الرب وأظهر أنها تثقل النفس. فهو لم يشر إلى الدعارة أو الزنا أو القتل أو التجديف أو الاغتصاب، هذه الأمور التي يعرف كل إنسان أنها مُهلكة ومميتة، إنما ذكر التخمة والسكر واهتمامات هذا العالم، هذه الأمور كثيرًا لا يتجنبها البشر، بل ولا ينظرون إليها على أنها مُهلكة، حتى أننا نجد بعضًا ممن يدعون أنفسهم رهبانًا (وأنا أخجل أن أقول ذلك) مثقلون بمثل هذه الانشغالات كأنها غير ضارة أو أنها نافعة.
هذه الرذائل الثلاث تثقل النفس، وتفصلها عن الله، وتُحملها بالأمور الأرضية… إلا أنه من السهل جدًا أن نتجنبها، لاسيما لنا (نحن الرهبان) إذ انفصلنا بعيدًا عن كل رجاء وأمل في هذا العالم الفاني، وليس لنا عذر أن نرتمي في أحضان الاهتمامات المنظورة والسكر والتخمة.
لكن هناك تخمة من نوع آخر لا تقِلّ خطرًا عن التخمة (بالمفهوم العام)، وسكر روحي يصعب تجنبه، واهتمامات بهذا العالم تصطادنا ونحن نعيش في حياة الوحدة. عن مثل هذه يقول النبي: “اصحوا أيها السكارى” (يوئيل5:1). ويقول إشعياء: “قد سكروا وليس من الخمر، ترنحوا وليس من المسكر” (إش9:29). في هذا السكر يستخدمون خمرًا يسميه النبي “سم الأفعوان”. أما عن الخمر فيقول: “لأن من جفنة سدوم جفنتهم ومن كروم عمورة” (تث32:32).
أتريد أن تعرف شيئًا عن ثمرة الكرم و بذار ذلك الغصن؟ إنه يقول: “عنبهم عنب سمٍّ، ولهم عناقيد مرارةٍ” (تث32:32). لأنه ما لم نتطهر من كل الأخطاء، ونزهد تخمة كل الشهوات، تثقل قلوبنا بمسكر وخمر أشد خطرًا، من غير أن تسكر بخمر أو تتخم بولائم.
أما من جهة الاهتمامات العالمية، فيمكنها أن تحاربنا لعلّها تتمكن منا نحن الذين ليس لنا أعمال في العالم (الرهبان)، وهذا يظهر بوضوح من تدابير الآباء السواح، إذ يتركون كل شيء اللهم إلا طعامهم اليومي الضروري والاحتياجات الضرورية للجسد.
7- أنواع الصلاة
أظن أنه لا يمكننا أن نقتني كل أنواع الصلاة بدون نقاوة القلب والروح مع استنارة الروح القدس.
هناك أنواع كثيرة للصلاة تختلف باختلاف الظروف وأحوال النفس… وبسبب بلادة قلبنا لا نقدر أن نعدد كل أنواع الصلاة، لكنني أحاول – قدر ما تسعفني خبرتي القليلة – أن أضعها في نسق معين. لأن صلواتنا تتغير كل وقت حسب درجة النقاوة التي تكون عليها النفس، والصفات التي صارت لها بسبب ما يحدث للإنسان من حوادث، أو ما يبذله من جهاد، لهذا لا يقدر إنسان أن يقدم على الدوام صلوات على نمط واحد.
فما يصلّيه الإنسان وهو نشيط غير ما يصلّيه وهو مثقّل بالحزن أو القنوط. ويصلي بطريقة أخرى عندما يكون منتعشًا بالفضائل الروحية، وبطريقة مغايرة عندما يهاجم بهجمات عنيفة… وبطريقة أخرى عندما يطلب الصفح عن خطاياه، وأيضًا عندما يسأل نعمة أو فضيلة ما، أو يتوسل من أجل إزالة خطية معينة. وعندما يُنخَس قلبه بالتفكير في الجحيم ويهاب الدينونة المقبلة، غير ما يصلّيه عندما يكون ممتلئًا بالرجاء والاشتياق إلى الأمور المقبلة. كذلك عندما يكون في مخاطر غير ما يصلّيه وهو في سلام وأمان. وعندما يكون مستنيرًا بإعلان أسرار سماوية غير ما يصلّيه وهو مثقّل بالإحساس بالعُقم من جهة الفضيلة وجفاف المشاعر.
9- الأربعة أنواع من الصلاة
… لا يزال ينتظرنا أمر صعب، وهو أن نشرح كل نوع من أنواع الصلاة حسب تقسيم الرسول إذ قال: “فأطلب أوَّلَ كلّ شيءٍ أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكُّرات” (1تي1:2). ماذا يقصد بالطلبات والصلوات والابتهالات والتشكرات؟!…
11- الطلبات
“فأطلب أوَّلَ كلّ شيءٍ أن تُقام طلبات”، الطلبة هي تضرع أو التماس بخصوص الخطايا، يقدمه الإنسان طالبًا الصفح عن خطاياه الحالية والماضية.
12- الصلوات
الصلاة هي التي تقدم شيئًا كنذر لله، ويسميها اليونان “نذرًا”. فما جاء “أوفي نذوري للرب” (مز14:116)، يُترجم عن اليونانية “أوفي صلواتي للرب”، كذلك نجد في سفر يشوع بن سيراخ: “إذا نذرت للرب نذرًا فلا تؤخره أيضًا” (3:5)، وأيضًا (تث21:23)و (جا4:5،5) جاء في اليونانية بمعنى “إذا صلّيت صلاة للرب فلا تتأخر في إيفائها”… ويكون إيفاء الصلاة هكذا: بزهدنا هذا العالم وإماتتنا عن كل الأفعال العالمية… واعدين بأن نخدم الرب بنية صادقة من القلب.
ونحن ننفذ الصلاة عندما نَعِد باحتقار الكرامة الأرضية، وازدرائنا بالغنى الزمني، ملتصقين بالرب في حزن قلبي وانسحاق روحي.
ونصلّي عندما نَعِد بأن نعضد على الدوام نقاوة الجسد العُظمى والصبر الثابت، وعندما ننذر بأن نقتلع من قلوبنا جذور الغضب تمامًا، وأصل الحزن الذي يعمل للموت.
أما إذا ضعفنا بالكسل وعُدنا إلى خطايانا القديمة، فإننا نكون قد فشلنا في إيفاء الصلاة، و بذا نخطئ بصلواتنا ونذورنا، وتنطبق علينا هذه الكلمات: “إنه من الأفضل ألا ننذر عن أن ننذر ولا نفي”، والتي تطابقها في اليونانية أنه من الأفضل ألا نصلّي عن أن نصلّي ولا نفي.
13- الابتهالات
تأتي بعد ذلك “الابتهالات” حيث اعتدنا، أن نقدم صلاة من أجل الآخرين أيضًا ونحن مملوءين بحرارة الروح، سائلين من أجل الأعزّاء علينا، ومن أجل العالم كله، مستخدمين عبارة الرسول بأن نصلّي “لأجل جميع الناس لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصبٍ” (1تي1:2،2).
14-التشكرات
يلي ذلك التشكرات… حيث نقدم لله الذهن، رافعين إيّاه، متذكرين بركات الله الماضية، متأمّلين في بركاته الحاضرة، متطلعين إلى البركات المقبلة التي أعدها للذين يحبونه. وبهذا تكون صلواتنا غنية، فإذ نتطلع بعيون نقية إلى ما أُعدّ للقديسين في المستقبل تحثّنا روحنا أن نقدم لله تشكرات لا يُنطق بها مع فرح بلا حدود.
15- لزوم الأنواع الأربعة لكافة البشر
تساعد الظروف نفسها على إيجاد هذه الأنواع الأربعة بغنى ووفرة. فالطلبات تنبع عن الحزن من أجل الخطية. والصلوات تصدر من الثقة في تقديم تقديمات والقدرة على إيفاء نذورنا بضمير نقي. والابتهالات تأتي عن حرارة الحب. والتشكرات تتولد عن التأمل في بركات الله وعظمته وصلاحه.
نحن نعلم أنه غالبًا ما تصدر هذه الأنواع من الصلوات التي نتحدث عنها بغيرة واتقاد. وبهذا فهي نافعة ولازمة لكل البشر. فبالنسبة لأي إنسان تقدم مشاعره المتغيرة صلوات مملوءة لطفًا وطهارة واتقادًا باستخدام الطلبات مَرّة، والصلوات مَرّة أخرى والابتهالات ثالثة… ومع هذا يبدو كما لو أن الأولى (الطلبات) تناسب بالأكثر المبتدئين، الذين لا يزالون مضطربين بوخزات خطاياهم وتذكرها. والثانية (الصلوات) تناسب الذين تمتعوا فعلاً بشيء من السموّ الذهني في تقدمهم الروحي وطلب الفضيلة. والثالثة (الابتهالات) تناسب الذين حققوا كمال نذورهم بأعمالهم، وهؤلاء لهم غيرة للصلاة من أجل الآخرين خلال ضعفهم مع غيرة حبهم. والرابعة (التشكرات) تناسب الذين ينزعون من قلوبهم أشواك الضمير المذنبة، متحرّرين من الهمّ، وبهذا يقدرون بذهن نقي أن يتأملوا في بركات الله وتعطفاته، سواء بالنسبة لما وهبه لنا في الماضي، أو يمنحه في الحاضر، أو يعدّه لنا للمستقبل، فيُحملون إلى الأمام قلوبًا متقدة بصلاة حارة لا تُحد ولا تستطيع أفواه البشر أن تعبِّر عنها.
إلا أنه أحيانًا كيفما كان حال الذهن، إذ هو يتقدم نحو كمال النقاوة وقد بدأ فعلاً في التقدم، يصلّي بهذه الأنواع الأربعة جميعها في وقت واحد، ويكون كلهيب لا يُوصف، مقدمًا لله صلوات غير موصوفة عظيمة النقاوة، والروح نفسه يشفع بأنات لا يُنطق بها، بينما نحن أنفسنا لا نفهم، فيتقدم لله في تلك الساعة منسكبًا بطريقة لا يُعبر عنها، طالبًا أمورًا عظيمة لا ينطق بها فَمْ، بل ولا يقدر الذهن أن يسترجعها في وقت آخر.
بهذا يحدث أنه في أية درجة يكون فيها الإنسان، يجد نفسه أحيانًا يقدم صلوات نقية مقدسة…
16- نوع الصلاة التي نوجِّه إليها أنفسنا
مع ذلك يلزمنا في تقدمنا في الحياة ونوالنا الفضيلة أن نهدف بالأحرى إلى تلك الأنواع من الصلاة التي تُسكَب، إما متأملة في الأمور المقبلة الصالحة، أو في غيرة الحب، أو على الأقل أن ينطق الإنسان بأكثر اتضاع ومتبعًا المقاييس الخاصة بالمبتدئين، ليرتفع لطلب الفضيلة أو لينزع خطأ ما، وإلا فإنه لا يمكننا أن نبلغ تلك الدرجات السامية للصلاة التي نتحدث عنها، مالم ترتفع أذهاننا قليلاً بدرجات منتظمة حتى تصل إلى “الابتهالات”.
17- الرب يضع أساس الأنواع الأربعة من الصلاة
وهب لنا الرب نفسه مثالاً في تأسيس هذه الأنواع الأربعة من الصلاة. بهذا يتحقق ما قيل عنه “ما ابتدأَ يسوع يفعلهُ ويعلّم بهِ” (أع1:1).
1- لقد استخدم النوع الأول أي “الطلبات” بقوله: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” (مت39:26)، وما رتل به النبي في المزمور على لسانه قائلاً: “إلهي إلهي لماذا تركتني” (مز1:22).
2- استخدم أيضًا “الصلاة” عندما قال: “أنا مجَّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتهُ” (يو4:17)، وأيضًا: “لأجلهم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحق” (يو19:17).
3- استخدم “الابتهالات” عندما قال: “أيُّها الآب أريد أن هؤُلاءِ الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني” (يو24:17). أو عندما قال: “يا أبتاهُ اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23).
4- استخدم “التشكرات” بقوله: “أحمدك أيها الآب ربَّ السماءِ والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماءِ والفهماءِ وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك” (مت25:11،26)، أو على الأقل عندما قال: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كلّ حينٍ تسمع لي” (يو41:11،42).
مع أن ربنا قد ميّز بين الأنواع الأربعة من الصلاة، مقدمًا كل نوع على انفراد، إلا أنه يمكننا أن نستخدم الأنواع الأربعة في صلاة واحدة في وقت واحد، وهذا أيضًا أعلنه كمثال في الصلاة التي وردت في خاتمة إنجيل يوحنا… فالباحث المدقق في كلمات هذه الصلاة يقدر أن يكتشف أنها اشتملت الأربعة أصناف… وقد عبّر الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي بنفس المعنى، بذكره الأربعة أصناف من الصلاة مع اختلاف بسيط في الترتيب، مظهرًا ضرورة تقديمها بغيرة في صلاة واحدة إذ يقول: “بل في كل شيءٍ بالصلوة والدعاءِ مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله” (في6:4). بهذا رغب منا أن نفهم أنه يلزم في الصلاة والدعاء (الابتهالات) أن نقدم الشكر ممتزجًا بطلباتنا.
18- الصلاة الربانية
هذه الأنواع المختلفة من الصلاة يليها حالة سامية وممتازة نقدمها بالتأمل في الله وحده بواسطة الحب الممتلئ غيرة، إذ به ينتقل الذهن ملقيًا بنفسه في الحب لله، مخاطبًا الله بأعظم دالة أنه أبوه الخاص به، مع طاعته لله وتكريمه. ويعلمنا نموذج “الصلاة الربانية” ضرورة البحث عن هذه الحالة قائلين “أبانا”.
عندما ننطق بأفواهنا أن الله رب كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعينا من العبودية إلى التبني كأبناء. وإذ نردف قائلين “الذي في السموات” نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء في هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم في رحلة. فنسرع مشتاقين إلى المدينة التي نعترف بأن أبانا يقطنها. ولا نسمح لأي شيء يفقدنا الاستحقاق لموطننا الأبدي ولشرف التبني، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا، وبه يحل بنا غضب عدله وصرامته.
فإذ نتقدم إلى هذه الحالة من “البنوة”، نشتعل بالتقوى كما يليق بأبناء صالحين، فننحني بكل طاقاتنا، ليس ابتغاءً لنفع خاص، إنما لأجل مجد الله، قائلين له: “ليتقدَّس اسمك”. وبهذا نشهد أن رغبتنا وفرحنا هو مجده، مقتدين بالذي قال: “مَنْ يتكلم من نفسهِ يطلب مجد نفسهِ، وأمَّا مَنْ يطلب مجد الذي أَرسلهُ فهو صادق وليس فيه ظلم” (يو18:7).
أخيرًا إذ امتلأ الإناء المختار بهذه المشاعر (عدم الأنانية) رغب أن يكون محرومًا من المسيح (رو3:7) من أجل شعبه… ويقول أيضًا: “لأننا نفرح حينما نكون نحن ضعفاءَ وأنتم تكونون أقوياءَ” (2كو9:13). لنعبر أيضًا إلي مستلم الشريعة الذي لم يرفض أن يموت مع اخوته الذين حُكم عليهم بالموت قائلاً: “والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحُني من كتابك الذي كتبت” (خر32:32).
حين نقول “ليتقدس اسمك” يليق بنا جدًا أن نفهمه بهذا المعنى “تقديس الله هو كمالنا”، أي اجعلنا أيها الآب قادرين أن نفهم ونسلك بما فيه تقديس اسمك، أي نشهد لك يا الله بسلوكنا كروحيين بتغيّرنا الروحي، إذ يرى الناس أعمالنا ويُمجدوا أبانا الذي في السموات (مت16:5)…
19- ليأْتِ ملكوتك
الطلبة الثانية هي أن يرغب القلب النقي في مجيء ملكوت أبيه للحال، بمعنى أن يملك السيد المسيح يومًا فيومًا في القديسين، ويتأتى ذلك بطرد سلطان الشياطين من قلوبنا، وإبادة وسخ الخطية، ويبرأ بمُلك الله علينا خلال حلاوة عبير الفضائل، فينهزم الزنا وتملك الطهارة على قلوبنا. ويملك الهدوء بتقهقر الغضب، والاتضاع بوطء الكبرياء تحت الأقدام.
يعني (بالملكوت) ما قد وُعد به كل الكاملين وأبناء الله حين يقول لهم السيد المسيح: “تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم” (مت34:25).
فالقلب يشتاق إلى الملكوت بنظرة ثابتة قوية ويحنّ إليه مخاطبًا الله: “ليأت ملكوتك”، لأنه يعلم بشهادة ضميره أنه عندما يأتي الرب سيشاركه في الميراث. فلا يقدر إنسان خاطئ أن ينطق بهذا، ولا يرغب فيه، لأنه لا يريد أن يواجه كرسي قضاء الديان وهو يعلم أن في مجيئه لا ينال مكافأة بل عقابًا…
20- لتكن مشيئَتك
الطلبة الثالثة للأبناء هي “لتكن مشيئَتك كما في السماءَ كذلك على الأرض”.
لا يمكن أن توجد صلاة أعظم من الاشتياق أن تكون الأمور الأرضية مساوية للسمائية. لأنه ماذا يعني القول: “لتكن مشيئَتك كما في السماءِ كذلك على الأرض” سوى السؤال من أجل البشر ليكونوا مثل الملائكة؟ فكما تمّت مشيئة الله بواسطتهم في السماء، هكذا ليت الذين على الأرض لا يفعلون مشيئتهم الذاتية بل مشيئة الله!
هذه الطلبة لا يمكن أن ينطق بها من القلب إلا الذي آمن أن الله يدبر كل الأمور المنظورة لخيرنا، سواء الأمور المبهجة أو المؤلمة، وأنه مهتم بما لخيرنا وخلاصنا أكثر من اهتمامنا نحن بأنفسنا.
على أي الأحوال يمكن أن تؤخذ بهذا المعنى: إرادة الله هي خلاص كل البشر وذلك كقول الرسول: “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون” (1تى4:2)… فعندما نقول: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” نصلّي أن يخْلص جميع الذين يسكنون في الأرض وذلك مثل أولئك الذين سبقونا إلى السماء (الكنيسة المنتصرة)، إذ عرفوك أيها الآب.
21- الخبز اليومي
“أعطنا الخبز اليومي الذي هو Supersubstantial”[5] والذي يدعوه إنجيل آخر “خبزنا اليومي”. الأولى تشير إلى سموّ هذا الخبز من حيث أنه فوق كل المواد، ويشير إلى عُلو جلاله وقداسته الذي يفوق كل المخلوقات. أما الثانية فتشير إلى غاية استخدامه وقيمته. فإذ يقول أنه “يومي” يظهر ضرورة استخدامه يوميًا غير مكتفين بأننا اقتنيناه بالأمس…
حاجتنا اليومية إليه تُلزمنا أن نقدم هذه الصلاة في كل الأوقات، لأنه لا يوجد وقت لا تكون فيه حاجة إليه ليتقوّى قلب إنساننا الداخلي بأكله وتقبله. هذا بالرغم من أن كلمة “اليومي” تستخدم بمعنى “الحياة الحاضرة” بمعنى هب لنا في هذه الحياة الحاضرة أن نقتات الخبز. فنحن عالمين بأنك ستهبه فيما بعد لمن يستحقونه، لكننا نسأل أن تعطينا إيّاه الآن، لأنه مالم يوهب الإنسان في هذه الحياة لا يمكن أن تكون له شركة فيما بعد.
22- اغفر لنا ما علينا
“اغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن ما عليهم”. تهبنا المراحم الإلهية غير المنطوق بها شكل الصلاة وتعلمنا نظام الحياة المقبولة عند الله، إذ عن طريق الطلبات الواردة في نموذج الصلاة المُقدم لنا أوصانا أن نصلّي على الدوام أن ينزع عنا جذور الغضب والغمْ. كذلك تُعلن المراحم الإلهية للمصلّين الطريق الذي به ينعمون بحكم الله المملوء رحمة وشفقة، إذ تهب لنا قوة لتلطيف حكم دياننا، مغتصبين حكمه بغفران خطايانا على مثال عفونا نحن للآخرين، وذلك عندما نقول: “اغفر لنا كما نغفر نحن”.
هكذا بغير قلق، في ثقة بهذه الصلاة، يمكن للإنسان أن يطلب عفوًا عن معاصيه، إن غفر للذين يسيئون إليه…
على أي الأحوال من لا يغفر من قلبه لأخيه الذي أساء إليه لا يجلب لنفسه بهذه الصلاة غفرانًا بل دينونة. وبعمله هذا يطلب لنفسه السقوط تحت الحكم بأكثر قسوة فهو يقول: “اغفر لي كما أغفر أنا أيضًا”، وإذ لا يحقق ما جاء في طلبته، ماذا يستحق سوى أن يُعاقب بغضب غير محتمل وحكم لا يُستأنف كما يفعل هو بعدم عفوه للغير؟!
فإن أردنا أن نُحاكم بالرحمة يلزم أن نكون رحماء تجاه من يسيئون إلينا، لأننا سننال العفو عندما نعفو للذي يضرنا مهما كان مؤذيًا.
عندما يتغنى كل الشعب بهذه الصلاة في الكنيسة يخشى البعض هذه العبارة فيصمتون حاذفين إياها حتى لا يربطوا أنفسهم بدلاً من أن يحلوها وهم في هذا لا يعلمون أنهم باطلاً يحاولون مراوغة ديان كل البشرية الذي يشاء أن يكشف لنا سلفًا كيف يدين المتوسلين إليه. لأنه لا يريد أن يكون مضايقًا لهم، بل يشير إلى طريقة إدانته، حتى نحكم على اخوتنا متى أخطأوا في حقنا بالحكم الذي نرغبه بالنسبة لأنفسنا، لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يستعمل الرحمة.
23- لا تدخلنا في تجربةٍ
هنا يثور سؤال ليس بتافه، وهو إن كنا نصلّي ألا نعاني من التجربة فكيف تتزكى قوة احتمالنا كالقول: “طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة” (يع12:1)؟
العبارة “لا تدخلنا في تجربةٍ” لا تعني “لا تسمح لنا بتجربة”، لأن أيوب جُرِّب لكنه لم يدخل في تجربة إذ لم يصف الله بأيّ تجديف ولا استسلم بفم شرير كرغبة المجرب نفسه.
إبراهيم جُرِّب ويوسف جُرِّب، لكن لم يدخل أحدهما في تجربة لأنهما لم يستسلما مرضيين للمجرب.
جاء بعد ذلك “لكن نَجِنّا من الشّرِّير”، أي لا تسمح لنا أن يجربنا الشيطان فوق ما نحتمل بل تجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل (1كو13:10).
24- لنصل بما ورد في الصلاة الربانية
ها أنتم ترون نموذج الصلاة المقترح علينا بواسطة الديان نفسه، الذي نصلّي إليه. فالصلاة لا تحوي طلبات من أجل الغنى، ولا فكرًا تجاه الكرامة، ولا سؤالاً من أجل القوة والعظمة، ولا إشارة إلى القوة الجسدية والحياة الزمنية. هكذا يقدم الإنسان إهانة شديدة لعظمة الله وجوده إذا ما ترك الطلبات الأبدية واختار أن يسأله أمرًا تافهًا غير ثابت. وأيضًا بدناءة صلاته يجلب لنفسه غضبًا عِوض استعطاف الديان.
25- بركات الصلاة الربانية
هذه الصلاة إن بدت شاملة لكل ملء الكمال، إذ مؤسسها ومرتبها سلطان الرب نفسه، إلا أنها ترتفع بمن يستخدمها إلى حالة علوية سبق أن تحدثنا عنها، وتحملهم إلى صلاة مملوءة حرارة… هذه التي بالحقيقة نعجز أن ننطق بها، إذ تفوق كل أفكار البشر، ولا يميزها صوت أو حركة لسان…! فإذ يستنير الذهن بانسكاب نور سماوي لا يصفه لسان بشر محدود، بل ينسكب بغنى كما من ينبوع غزير في أذهاننا، وتتحدث مع الله بطريقة لا تُوصف، وتُعبِّر في أقصر زمن ممكن عن أمور عظيمة لا يقدر الذهن أن يعبِّر عنها أو يرويها بسهولة بحسب قدرته البشرية المجردة (أو المحدودة).
26- العوامل التي تساعد على الصلوات المنسكبة
لكن من له القدرة – مهما بلغت خبرته – أن يعدد الأسباب التي تثير القلب (بالندامة) فيلتهب مشتعلاً بالنار وتحثه للصلوات الورعة العظيمة الغيرة؟! لكننا نذكر أمثلة قليلة…
– أحيانًا التسبيح بمقطع من المزامير يبعث فينا صلاة حارة.
– وأحيانًا انسجام التلحين لصوت أحد الاخوة يثير الأذهان الخاملة إلى ابتهالات كثيرة.
– كذلك طريقة النطق والوقار الذي للمرنم (بالتسبيح) يلهب غيرة من هم معه.
– أضف إلى هذا نصائح الإنسان الكامل والحديث الروحي غالبًا ما يرفع مشاعر الحاضرين إلى صلاة غنية.
– كذلك يمكننا بواسطة موت أخ أو عزيز لدينا أن نُحمل إلى ندامة كاملة. وأيضًا عندما نتذكر برودنا وإهمالنا تشتعل فينا حرارة الروح.
بهذا لا يقدر أحد أن يشك بأن فرصًا لا حصر لها – في أيدينا – تنزع عن أذهاننا برودنا ونومها.
27- أنواع الندامة المختلفة
أما عن كيف أو بأي طريق تنتج هذه الندامة من مخبأ النفس العميق فهذا ليس بالأمر السهل حتى نتبعه.
1-غالبًا خلال البهجة التي لا يعبّر عنها والحذاقة الرفيعة تظهر ثمرة الندامة الجليلة المقدار، حتى تظهر بالفعل صرخات تُعبّر عن الفرح الذي لا يُوصف ولا يُعبر عنه، وتسمع بهجة القلب وبهجة التهليل في قلاية الأخ المجاور.
2- أحيانًا يخفي العقل نفسه في صمت كامل في هدوء عميق، حتى أنه من دهشته من الاستنارة المفاجئة تتوقف الكلمات وتبهر الروح في مهابتها، فتحتفظ بمشاعرها داخلها، أو تنفك وتسكب رغباتها لله بتنهدات لا يُنطق بها.
3- أحيانًا إذ تمتلئ بندامة شديدة وحزن لا تقدر أن تترجم هذا الشعور إلا بالدموع.
28- سؤال بخصوص الدموع
جرمانيوس: إنني بضعفي لا أجهل هذه المشاعر الخاصة بالندامة جهلاً تامًا، لأنه أحيانًا تنسكب الدموع عند تذكري خطاياي. فإنني بواسطة الافتقاد الإلهي أنتعش بفرح لا يوصف، الذي تتحدث عنه، وشدة هذا الفرح تؤكد لي ألا أيأس من غفران خطاياي. أظن أنه لا توجد أسمى من هذه الحالة الذهنية، فقط لو كان للإنسان إمكانية أن يستدعيها متى أراد. لكن يحدث أنني أحيانًا اشتاق إلى هذه الندامة وتلك الدموع، وأضع أخطائي وخطاياي قدام عيناي، ومع ذلك اعجز عن استعادة الدموع الغزيرة، بل تجف عيناي وتقسو مثل حجر صوان صلد، لا تقطران دمعة واحدة. هكذا قدر ما أنتعش بالدموع الغزيرة، لكنني أحزن بسبب عجزي عن استعادتها مرة أخرى عندما أريد.
29- اسحق: ليست كل الدموع تنبع من مشاعر متشابهة، أو عن فضيلة واحدة.
1- فالبكاء المتسبب عن وخزات خطايانا التي تنخس قلوبنا كما قيل: “تعبت في تنهُّدي. أعوّم في كل ليلة سريري وبدموعي أذوّب فراشي” (مز6:6)، وأيضًا: “اسكبي الدموع كنهر نهارًا وليلاً. لا تعطي ذاتكِ راحةً. لا تكفَّ حدقةُ عينكِ” (مرا 18:2)، هذه الدموع تصدر بطريقة معينة.
2- بطريقة أخرى تأتي الدموع الصادرة عن التأمل في الأمور الصالحة والاشتياق إلى المجد المقبل، إذ تتدفق دموع غزيرة نابعة عن فرح لا يمكن كتمانه وتهليل بلا حدود. فإذ تتعطش أنفسنا إلى الله الحي القدير تقول: “متى أجيءُ وأتراءَى قدام الله. صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز 2:42، 3)، معلنة ذلك ببكاء يومي ونحيب قائلة: “ويل لي فإن غربتي قد طالت” (مز 5:120).
3- بطريق ثالث تتدفق الدموع، لا عن إحساس بالخطية المهلكة إنما بسبب الخوف من الجحيم وتتذكر يوم الدينونة المرهب، وذلك مثل رعب النبي القائل: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك فإنه لن يتبرر قدامك حي” (مز 2:143).
4- يوجد أيضًا نوع آخر من الدموع، لا ينسكب بسبب معرفة الإنسان لنفسه إنما بسبب قسوة الآخرين وخطاياهم، فصموئيل كان يبكي لأجل شاول. وجاء في الإنجيل عن الرب أنه بكى من أجل مدينة أورشليم كما فعل إرميا في الأيام السابقة. إذ يقول الأخير: “يا ليت رأسي ماء وعينيَّ ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قَتلَى بنت شعبي” (إر1:9).
5- بالتأكيد الدموع المذكورة في المزمور المائة واثنين “إني قد أكلتُ الرماد مثل الخبز ومزجتُ شرابي بدموعٍ” (مز 9:102)، صادرة عن مشاعر تختلف عن تلك التي وردت في المزمور السادس الخاصة بالإنسان التائب، فهي ناشئة عن متاعب هذه الحياة وضيقتها وخسائرها، التي تضغط على الأبرار العائشين في العالم…
30- لا تسكب الدموع قسرًا
توجد دموع مختلفة تمام الاختلاف عما سبق ذكره، تلك التي تأتي قسرًا من عيون جافة وقلب قاس.
بالرغم من أننا لا نقدر أن نعتقد أنها عقيمة تمامًا (لأنهم يحاولون سكبها بنية حسنة، خاصة الذين لم ينالوا بعد المعرفة الكاملة أو التنقية من آثار الخطايا الماضية والحاضرة) لكن بالتأكيد لا يتأتى سكب الدموع بالقوة بالنسبة للذين تقدموا في محبة الفضيلة، ولا نحاول أن نتعب أنفسنا في إبكاء الإنسان الخارجي بمحاولات عنيفة… فإنه بهذا تطرح الدموع نفس المصلي وتفسد جهادها وتهينها وتربكها في أعمال بشرية وتنزعها من الأمور العالية السماوية… إذ يسترخي ذهن المصلي ويصير مريضًا بسبب الدموع العقيمة النابعة عن العنف…
32- الثقة في استجابة الصلاة
يجدر بنا ونحن نصلي ألا نرتاب بنوع من اليأس أو تتزعزع ثقتنا من جهة استجابة طلباتنا.
عندما نسكب صلاتنا نثق بأننا ننال ما نسأله، إذ لا نشك في وصولها إلى الله… لأنه هكذا تُستجاب صلاة الإنسان عندما يؤمن أن الله مهتم به، وقادر أن يعطيه سؤاله، إذ لا يخيب قول الرب: “كلّ ما تطلبونهُ حينما تصلَّون فآمنوا أن تنالوهُ فيكون لكم” (مر24:11).
33- اعتراض بخصوص استجابة الصلاة
جرمانيوس: إننا بالتأكيد نؤمن أن هذه الثقة من جهة استجابة صلاتنا تكون حسب نقاوة الضمير. أما بالنسبة لنا نحن الذين لايزال قلبنا مضروبًا بأشواك الخطايا، كيف نقدر أن نقتني هذه الثقة ونحن ليس لنا أي استحقاق؟!…
34- اسحق: يعلمنا الإنجيل والأنبياء الأسباب المتنوعة لاستجابة الصلاة حسب حالة النفوس.
(ا) فقد أشار الرب عن ثمار الاستجابة في حالة اتفاق اثنين معًا إذ يقول: “إن اتَّفق اثنان منكم على الأرض في أيّ شيءٍ يطلبانهِ فإنهُ يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات” (مت19:18).
(ب) كذلك في حالة كمال الإيمان، الذي يشبه حبة خردل، إذ يقول: “لو كان لكم إيمان مثل حبَّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقِلْ من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكنٍ لديكم” (مت20:17).
(ج) وأيضًا في حالة الاستمرار في الصلاة، إذ طلب الرب أن نستمر مثابرين بلجاجة بغير قلق، إذ يقول: “أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيهِ لكونهِ صديقهُ، فإنهُ من أجل لجاجتهِ يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج” (لو8:11).
(د) وأيضًا الاستجابة للصلاة تكون ثمرة من ثمار العطاء “اغلق على الصدقة في أخاديرك فهي تنقذك من كل شر” (ابن سيراخ15:29).
(ه) وتكون الاستجابة في نقاوة الحياة وأعمال الرحمة، إذ قيل منتهرًا الصوم العقيم: “حَلَّ قيود الشر. فَكَّ عُقَد النير… حينئذٍ تدعو فيجيب الرب. تستغيث فيقول هأنذا” (إش6:58،9).
(و) وكثرة الضيقات تجعل الصلاة مستجابة. “إلى الرب في ضيقي صرخت فاستجاب لي” (مز 1:120). وأيضًا: “لا تضطهد الغريب ولا تضايقهُ… فيكون إذا صرخ إليَّ إني أسمع، لأني رءوف” (خر 21:22، 27).
لقد رأيتم أنه كيف بطرق كثيرة ننال عطية الاستجابة للصلاة، لكي لا يصطدم أحد باليأس من جهة ضميره، ضمانًا لتلك الأمور الأبدية العظيمة المقدار.
(ز) وإن كنا بالتأمل في بؤسنا قد نجد أنفسنا مفتقرين تمامًا إلى كل هذه الفضائل السابقة… فإنه بالتأكيد لا يمكن أن يحرم أحد من تلك الفرصة التي يقدمها الله لكل المشتاقين إلى استجابة الصلاة، وهى وعده بأن كل ما يسأله في الصلاة يعطيه لنا. فيجدر بنا أن نثابر بغير ارتياب، ولا يكون لنا أدنى شك في أنه بالمداومة على الصلاة ننال كل ما نطلبه حسب فكر الله. لأن الله في اشتياقه أن يهبنا السماويات والأبديات يحثنا أن نضغط عليه بلجاجتنا. إنه لا يحتقر اللجاجة أو يستخف بها، بل يُسر فعلاً بها ويمدحها، ويعد بلطف عظيم أن يهب المثابرين ما يطلبونه، قائلاً: “اسأَلوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتَح لكم. لأنَّ كلَّ مَنْ يسأَل يأْخذ. ومَنْ يطلب يجد. ومَنْ يقرع يُفتَح لهُ” (لو9:11،10). وأيضًا: “وكلّ ما تطلبونهُ في الصلاة مؤْمنين تنالونهُ” (مت22:21)، “ولا يكون شيء غير ممكنٍ لديكم” (مت20:17).
لكن ليتأكد ذاك الذي يرتاب في استجابة صلاته، أنه لن يُستجاب له!
يلزمنا ألا نسأل الله بقلق، وذلك كما يعلمنا دانيال الطوباوي، إذ سمع الله له من اليوم الأول الذي بدأ فيه يقدم الصلاة، لكنه نال ثمرة صلاته بعد 21 يومًا (دا12:10). وهكذا ليتنا لا نفتر في غيرة صلواتنا التي بدأنا فيها، إن تصورنا أن الاستجابة قد أبطأت، لئلا تتأجل الاستجابة التي تهبها لنا العناية الإلهية… هذا ما كان يمكن أن يحدث في حالة النبي المذكور لو لم يوجد مثابرًا على الدوام بثبات في صلواته خلال الـ21 يومًا (رغم أن الاستجابة صدرت من اليوم الأول)…
من المفيد لنا أن نأخذ في اعتبارنا ما قاله الإنجيلي الطوباوي يوحنا… “وهذه هي الثقة التي لنا عنده انهُ إن طلبنا شيئًا حسب مشيئَتهِ يسمع لنا” (1يو14:5). إنه يأمرنا أن تكون لنا ثقة كاملة بغير ارتياب من جهة استجابة الطلبات التي ليست من أجل نفعنا (الأرضي) أو راحتنا الزمنية، إنما تطابق مشيئة الرب. وتعلمنا الصلاة الربانية أن يكون لنا هذا في صلواتنا، إذ نقول “لتكن مشيئَتك”، لا مشيئتنا. فإن تذكرنا كلمات الرسول: “لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي” (رو26:8)، ندرك أننا أحيانًا نسأل أمورًا تضاد خلاصنا. وبواسطة عنايته الإلهية يرفض طلباتنا، لأنه يرى ما هو لصالحنا بحق أعظم مما نستطيع نحن.
هذا حدث مع معلم الأمم عندما صلى أن ينزع منه ملاك الشيطان الذي سمح به الرب لأجل نفعه. “من جهة هذا تضرَّعت إلي الرب ثلاث مراتٍ أن يفارقني. فقال لي: تكفيك نعمتي لأن قوَّتي في الضعف تُكَمل” (2كو8:12،9).
35- الصلاة السرية
قبل كل شيء يجب أن نلاحظ بكل اعتناء الوصية الإنجيلية التي تأمرنا أن ندخل مخدعنا ونغلق بابنا ونصلّي لأبينا. وهذا يتحقق كالآتي:
– نصلّي داخل مخدعنا عندما ننزع من قلوبنا الداخلية الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب.
– نصلّي بأبواب مغلقة، عندما نصلّي بشفاه مغلقة في هدوء وصمت كامل لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات.
– نصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة بحيث لا نكشفها إلا لله وحده، فلا تستطيع القوات المضادة (الشياطين) أن تكتشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكي نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصية: “احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك” (مي 5:7)[6].
36- قيمة الصلاة القصيرة والصامتة
يليق بنا أن نكثر من الصلاة ولكن باختصار، فإننا إذ نطيل الصلاة ينجح عدونا الماكر في زرع شيء ما في قلبنا.
هذه (الصلوات القصيرة المتعددة) هي ذبائح حقيقية، “فالذبيحة لله روح منسحق” (مز 17:51). هذه هي تقدمات نافعة، تقدمات نقية، أي “ذبيحة البر”، “ذبيحة الحمد” (مز 22:50)، محرقات جوهرية، تقدمها قلوب متواضعة منسحقة؛ والذين يختبرون هذا الروح المنضبط والملتهب (للصلاة) الذي تحدثنا عنه بقوة فعاله يمكنهم أن يسبحوا: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية” (مز2:141). لكن اقتراب الساعة المناسبة (للصلاة) وحلول المساء يحثنا على ممارسة هذا الأمر نفسه بتكريس لائق حسبما نستطيع…
لقد صرنا مبهورين بكلمات القديس إسحق أكثر منا مكتفين. وبعد خدمة العشية استرحنا قليلاً، ومع الهزيع الأول عدنا ثانية حسب وعده أن يقدم لنا حديثًا كاملاً، متهللين بحصولنا على هذه الوصايا…
لقد شعرنا بأن سمو الصلاة صار واضحًا لنا، غير أننا لم نفهم من مناظرته طبيعة الصلاة والقوة التي ننالها ونحتفظ بها بمداومتنا عليها.
_____________________________________
[1] هذا الأب تلميذ للقديس أنطونيوس، وقد أشار إليه القديس بلاديوس.
[2] المؤسسات 9:2.
[3] أي العبادة أو الممارسات الخاصة بالعبادة.
[4] خاصة بالرهبان ويمكن لأي مؤمن الاستفادة من ذلك، إذ يلزمه أن يعطى لنفسه فترات ينسى فيها كل شئونه، ليس استهتارا بعمله، بل لأجل نفعه الروحي والجسدي والنفسي، وهذا لا يقلل من أمانته وحبه لعمله كوزنة إلهية.
[5] ذكر الأسقف Lightfoot في كتاب On a Fresh Revision “New Tesement” ص219 بأن كاسيان اعتمد على ترجمة جيروم في النص اللاتيني مترجمًا الكلمة اليوناني “Supersubstantialis” في مت 11:6 ونفس الكلمة في لو3:11 ترجمها ب”Quatidianum” وهكذا من المدهش أن كاسيان يخطئ بهذا في معرفته باليونانية. (من مجموعة آباء نيقية).
[6] تحدث بعد ذلك عن عظمة الصلاة القصيرة الصامتة أنها ذبيحة مقبولة أمام الله
المناظرة العاشرة
الصلاة -عظة ثانية- للأب إسحق
مقدمة
بدأ القديس يوحنا كاسيان مناظرته بذكر العادة التي كانت سائدة بين بطاركة الإسكندرية، وهي أن يبعثوا برسالة عيد القيامة المجيد في يوم عيد الغطاس إلى كل مدينة وقرية ودير. وقد وصلت الرسالة من الأنبا ثاؤفيلس إلى الدير، وتعرضت الرسالة إلى بدعة سادت بين بعض الرهبان، تتلخص في تشبيه الله بالإنسان، وأن اللاهوت له جسد ووجه وذراع… معتمدين في ذلك على ما ورد في العهد القديم مع تفسيره حرفيًا.
أُثير هذا الأمر مع الأب إسحق، وكانت فرصة للربط بين موضوع “إعلان الله عن ذاته” وبين “الصلاة”، وفيما يلي حديث الأب إسحق:
6- أهمية الخلوة الروحية
كما قلت في المناظرة السابقة أن كل عقل يرتفع ويتشكل في الصلاة حسب نقاوته. فإن كان مهتمًا بالأمور المادية الأرضية يحمل هذه النظرة أمامه، وتبقى هذه النظرة قدام عينيْ نفسه الداخليتين في رؤيته للرب يسوع، سواء عندما جاء في اتضاعه في الجسد، أو عند مجيئه في عظمته. أمثال هؤلاء لا يقدرون أن يروا الرب يسوع آتيًا في ملكوته، إذ هم مُمسكون بنوع من الضعف اليهودي (أي النظرة المادية)، ولا يستطيعون القول مع الرسول: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفهُ بعدُ” (2كو16:5).
أما الذين يرتفعون فوق الأعمال والأفكار الأرضية السفلية، ويصعدون في جبل الانعزال (الانفراد) المرتفع، متحرّرين من الاضطراب بكل المتاعب والأفكار الأرضية، في أمان من تدخل الخطايا، ممجّدين بإيمان قوي، هؤلاء يمكنهم أن يتطلعوا بعيون نقية إلى لاهوته، وفي أعالي الفضيلة يكتشفون مجده وصورة سموه…
يُعلن يسوع للموجودين في المدن والقرى والمزارع، أي الذين لهم أعمال يقومون بها، لكن ليس بالبهاء الذي يظهر به لمن يصعدون معه على جبل الفضائل السابق ذكره… ففي الوحدة (العزلة) ظهر الله لموسى وتحدث مع إيليا.
وقد رغب ربنا في أن يؤسس هذه (الخلوة الروحية)، تاركًا لنا مثالاً… فإذ هو ينبوع القداسة الذي لا يُنتهك، وليس محتاجًا إلى عون خارجي، ولا إلى مساعدة الوحدة (الخلوة)، لأن كمال نقاوته لا يمكن أن تتأثر بالجماهير، ولا تتلوث من مخالطته للبشر، بل هو الذي يقدس ويطهر الأمور الدنسة، ومع ذلك نجده يعتزل في الجبل وحده للصلاة.
باعتزاله يعلمنا أننا إن رغبنا في الاقتراب من الله بمحبة صادرة عن قلب نقي بلا دنس، يلزمنا أن ننسحب من كل اضطرابات الجموع، حتى تتدرب نفوسنا – ونحن بعد في الجسد – على تذوق السعادة الموعود بها للقديسين، وهي أن “يكون الله هو الكل في الكل” (1كو28:15).
7- تذوقنا عربون السعادة الأبدية
صلى مخلصنا إلى الآب من أجل تلاميذه قائلاً: “ليكون فيهم الحبُّ الذي أحببتني بهِ” (يو26:17)، وأيضًا: “ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (يو21:17).
عندما تحقق فينا صلاة مخلصنا تحقيقًا كاملاً، أي تلتهب مشاعر قلوبنا بكمال محبة الله الذي أحبنا أولاً (1يو16:4)، ونؤمن أن هذه الصلاة لا يمكن أن تخيب، عندئذ يكون الله هو كل حبنا واشتياقنا ورغبتنا وطاقتنا وكل فكر فينا وكل حياتنا وكل كلمة ننطق بها وكل نسمة حياتنا… حينئذ أيضًا ينسكب في قلوبنا وأذهاننا رابطة سرية… إذ نرتبط بالله في حب دائم لا ينقطع، كما أحبنا هو حبًا نقيًا غير واهن لا ينحل. هكذا نتحد به حتى يكون الله هو كل نسمة حياتنا…
هذا هو غاية الانعزال (الخلوة)… حيث يوهب للراهب أن يملك في جسده عربون السعادة المقبلة، ويبدأ في هذا العالم يتذوق شيئًا من غيرة الحياة السماوية والمجد العلوي.
أقول، أن هذا هو نهاية كل الكمال: إن الذهن بتحرره من كل شهوات الجسد يرتفع نحو الأمور الروحية لتصير كل حياته وأفكار قلبه صلاة دائمة!
8- سؤال بخصوص الصلاة الدائمة
جرمانيوس: بهذا عدنا مرة أخرى إلى الحيرة الشديدة التي كنا فيها أثناء المناظرة السابقة، بل وبصورة أشد. لأن هذا التعليم يلهب فينا الرغبة نحو السعادة الكاملة، وإذ لا نعرف كيف نطلب هذه الأمور شاهقة العلو أو كيف ننالها نعود إلى يأس عظيم. لهذا نرجوك في طول أناة أن تسمح وتوضح لنا كيف ننشغل على الدوام في تأمل طويل؟
[بدأ جرمانيوس يطلب منه أن يحدثه على قدر ضعفه قائلاً له إنه كطفلٍ صغيرٍ يريد أن يتعلم الحروف الأولية للـعمل الروحي والتدريب على الصلاة الدائمة، وقد اعترف للأب إسحق بمعرفته البسيطة عن الأسس الأولية التي يستخدمها الإنسان ليعيش في حياة تذكر لله على الدوام.]
9- يُشير سؤالك الدقيق إلى النقاوة التي تقترب منها جدًا. لأنه لا يقدر أحد أن يعرض أسئلة في هذه الأمور ما لم يكن لديه باعث نحو اختبار هذه الأمور بذهنٍ متقدٍ مثابرٍ في اهتمام بالغ، ولا يقدمها إلا من كان هدفه الدائم موجه نحو الحياة الصالحة المضبوطة، متعلمًا بالتجربة العملية محاولة الدخول إلى هذه النقاوة وقرع أبوابها…
10- الصلاة الدائمة
بخصوص هذا التدبير (نظام الصلاة الدائمة)، إذا قارنته بتعليم الأطفال (الذين ليس لهم القدرة أن يتلقنوا الدروس الأولية الخاصة بالحروف الهجائية، لكنهم يتعرفون على شكلها، ويتدربون على رسمها قدر ما يستطيعون، حيث تقدم لهم نماذج منها على الشمع…) هكذا يلزمني أن أقدم لك شكل التأمل الروحي لتضعه نصب عينيك على الدوام… وتتدرب على التأمل فيه باستمرار لأجل نفعك… حتى تصعد إلى نظرة أعلى.
سنعرض عليك طريقة خاصة لبلوغ هذا التدبير الذي ترغب فيه، وتلك الصلاة التي يجدر بكل أحد أن ينفذها لأجل تقدمه الروحي في تذكر الله، متذكرًا هذا التدبير في قلبه بغير انقطاع، طاردًا كل أنواع الأفكار الأخرى. لأنه لا يقدر القلب أن يتمسك به ما لم يتحرر من كل اهتمامٍ خاص بالجسد.
لقد سُلمت إلينا هذه الطريقة بواسطة قليلين تسلّموها عن آباء شيوخ حاذقين… فلكي تحتفظ بتذكر الله الدائم ضع قدام عينيك هذه الصلاة الورعة: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني” (مز 1:70).
اُختيرت هذه الآية من الكتاب المقدس كله ليس جزافًا، إنما تحمل كل المشاعر التي يمكن أن توجد في الطبيعة البشرية، وتتفق مع كل الظروف والأخطار التي تحلّ بنا. فهي تحمل تضرعًا إلى الله من أجل كل الأخطار، وتحمل اعترافًا ورعًا مملوء انسحاقًا واهتمامًا يقظًا ومخافة دائمة.
إنها تحمل إحساس الإنسان بضعفه، مع ثقة في الاستجابة، وتؤكد بأن المعونة حاضرة وسريعة، لأن الإنسان إنما يدعو الله الحاضر معنا على الدوام لكي يعينه.
إنها تحمل تأجج حب ومحبة، وتحمل فهمًا بخصوص مؤامرات الأعداء (الشياطين) ومهالكهم. فمن يرى نفسه محوطًا بهم ليلاً ونهارًا يعترف بعجزه عن التحرر منهم بغير مساعدة معينة.
هذه الآية حصن منيع للذين يتعبون من هجمات الشياطين، ودرع حصين، فهي لا تسمح للذين يسقطون في اكتئاب وقلق فكري أو المتضايقين بالحزن أو المهمومين بالقنوط وكل أنواع الأفكار المشابهة، أن ييأسوا من وجود علاجٍ شافٍ، إذ تُعلن أن الله الذي نتضرع إليه ناظر إلى صراعنا على الدوام، وليس ببعيد عن سائليه.
إنها تنذرنا نحن الذين نصيبنا هو النجاح الروحي وبهجة القلب، فلا ننتفخ قط لسعادتنا، إذ تؤكد لنا أنه لا يمكننا أن نعيش بدون الله حافظنا…
هذه الآية هي معين، ونافعة لكل واحد منا مهما كانت أحواله، لأن الإنسان يحتاج في كل أموره إلى معونة. محتاج إلى مساعدة الله، ليس فقط في الأحزان والضيقات، بل وأيضًا في النجاح والأفراح، حتى يُنقذْ من الأولى ويستمر في الثانية. لأن الضعف البشري يعجز عن أن يحتمل كليهما بغير معونة الله.
فإذا ما ثارت فيّ شهوة النهم، وطلبت الطعام الذي ليس في البرية، وسبحت في رائحة الولائم الفاخرة، ووجدت نفسي منسحبًا بغير إرادتي، أسرع قائلاً: “يا الله التفت إلى معونتي. يا رب أسرع وأعني”. وإذا ما طلبت الطعام في غير ميعاده، وحاولت في مرارة شديدة صادرة من القلب أن أحفظ حدودًا ملائمة ومنتظمة خاصة بالقوت الزمني، يلزمني أن أصرخ متنهدًا: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”. وإذا ما بدأ الخِوار يدب في أعضائي ليعوقني عن الاستمرار في قانون صيامي، ويثور جسدي محتجًا، ويجف جوفي، وتهدد طبيعتي بالإمساك المخيف، فلكي ما تنطفئ رغبات الجسد… أصرخ: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
عندما أجيء إلى العشاء في الساعة المناسبة حسب النظام الموضوع، واشمئز من الطعام وأمتنع عن أكل أي شيء لأجل الاحتياجات الضرورية لطبيعة الجسد، أصرخ متأوهًا: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
حينما يطير النوم من عيني وأقضي الليل تباعًا وأنا مسهدًا وقد دبّ فيّ الهزال من الأرق بفعل الشيطان، حارمًا أجفاني من الهدوء والراحة الليلية، عندئذ يجب عليّ أن أصلي متنهدًا: “يا الله التفت إلى معونتي. يا رب أسرع وأعني”
عندما أكون في جهادي ضد الخطية، وقد التهب جسدي بالشهوة، وسرى في أعضائي إحساس باللذة، جاذبة إيّاي إلى مراضاتها أثناء نومي، فلكي لا تحرق النار الثائرة من الخارج زهور العفة الذكية الرائحة يجدر بي أن أصرخ: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
عندما أشعر بأن دافع الشهوة قد نُزع عني، ولهيب الخطية في أعضائي قد مات، فلكي ما تبقى هذه الحالة الحسنة المكتسبة أو بالأحرى لكي ما تستمر هذه النعمة الإلهية يجب علىّ أن أقول بغيرة: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
حينما تسري فيّ لدغات الغضب والطمع والكآبة، وأجد نفسي قد فقدت سلامي المحبب إليّ، فلكي لا يحملني الغضب إلى مرارة الحقد، يلزمني أن أعلن بأنات عميقة: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
وإذا ما تآمرت عليَّ نفسي ومجدت ذاتي وطلبت المديح والمجد الباطل والكبرياء، وتملقني ذهني بأفكار مراوغة بأن الآخرين باردون ومهملون، فلكي لا تتسلط عليّ هذه الأفكار التي يقترحها العدو، يلزمني أن أصلي بكل انسحاق قلب قائلاً: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
وإذا ما أشرقت عليّ نعمة الاتضاع والبساطة، وتتحرر نفسي من نفخة الكبرياء … فلكي “لا تأْتِني رِجلُ الكبرياءِ، ويد الأشرار لا تزحزحني” (مز11:36)، وحتى لا أهلك هلاكًا خطيرًا بالزهو في نجاحي، يجدر بي الصراخ بكل طاقتي: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
وعندما تحرقني أفكار طائشة بلا عدد، ويتوه قلبي، وتتشتت أفكاري، ولا أستطيع ضبطها، ولا أقدر أن أجمع نفسي للصلاة بغير اضطراب أو تصورات باطلة، أو أمتنع عن تذكر الأحاديث والأحداث أثناء الصلاة، وأشعر بأن نفسي قد أُثقلت بالجفاف والعقم، ولا أستطيع أن أنجب أي فكر روحي، فلكي ما يوهب لي التحرر من حال فكري البائس هذا… يجب عليّ أن أصرخ: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
مرة أخرى إذا شعرت بفاعلية الروح القدس، وصار لنفسي هدف وثبات في الفكر، وحذاقة قلب، مع فرح غير موصوف، وتغيير في الذهن وفي غزارة المشاعر الروحية، أدركت بإنارة ربانية مفاجئة تعلن لي أفكارًا مقدسة وفيرة كانت مخفاة عني، ولكي ما يوهب لي أن استمر على هذه الحال طويلاً يلزمني أن ألح على الدوام قائلاً: “يا الله التفت إلى معونتي، يارب أسرع وأعني”.
وإذا ما داهمني رعب الليل… فاضطربت، وأفزعتني خيالات الأرواح النجسة حتى تطغيني بخوفها وتفقدني رجائي وخلاصي، فإنني أطير إلى الملجأ الآمن لهذه الآية وأصرخ بكل قوتي: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
مرة أخرى حينما أكون منتعشًا بتعزيات الرب، ومبتهجًا بمجيئه، شاعرًا كما لو كنت محاطًا بربوات الملائكة غير المحصيّين، وأجد في نفسي شجاعة وغيرة لكي أقتحم حرب (الشياطين) وأدخل المعركة مع الذين كنت منذ قليل أخافهم أكثر من الموت، وكنت أرتجف ذهنيًا وبدنيًا لمجرد الاقتراب منهم، ولكي ما تستمر معي هذه الجرأة بنعمة الرب أصرخ بكل طاقاتي: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني”.
إذن يجب علينا أن نصلي بهذه الصلاة بغير انقطاع، سواء في شدة بلوانا حتى تزول، أو في نصرتنا لكي تدوم علينا ونحفظ من سقطة الكبرياء. ليكن فكر هذه الآية موجهًا دفة صدوركم بلا انقطاع. أيَّا كان العمل الذي في أيدينا، أو المهمة الملقاة علينا، وفي أي موضع تسير إليه، لا تكف عن التغني به. فكر فيها وأنت على سريرك لتنام، وفي أثناء الأكل، وفي كل الأعمال الضرورية.
ليكن هذا الفكر في قلبك لينقذك ويحفظك من أذية هجمات الشياطين، بل ويقيمك من كل الأخطاء والوصمات الأرضية، ويقودك إلى التأمل السماوي غير المنظور، ويحملك إلى حرارة الصلاة القوية التي لا يختبرها إلا القليلون.
ليته يأتيك النوم وأنت مشغول بها، فتنطبع في قلبك من كثرة استخدامها، حتى أنه من كثرة تكرارها ترددها حتى في أثناء نعاسك. وعندما تستيقظ، لتكن هي أول ما تفكر فيه، فتسبق جميع أفكارك. وعندما تقوم من سريرك تدعوك للركوع، وتشع في عملك، وترافقك طوال اليوم.
يلزمك كما أوصى المُشرع (تث7،6) أن تفكر فيها في بيتك وفي رحيلك، في نومك ويقظتك. تكتبها على مدخل فمك وبابه، تنقشها على حوائط منزلك وفي داخل قلبك، حتى متى ركعت للصلاة تتغنى بها، وإذ تقوم بالأعمال الضرورية في الحياة تكون صلاتك الدائمة أينما كنت.
11- يجدر بالذهن أن يلتصق بهذه العبارة على الدوام، فيتقوى باستخدامها الدائم والتأمل المستمر فيها، وبهذا يطرد عنه كل الأفكار الأخرى الغنية مستهينًا بها… مكتفيًا بفقر هذه العبارة الوحيدة. وهكذا يبلغ بأقصى سرعة إلى التطويب الوارد في الإنجيل، محتلاً مكان الصدارة بين التطويبات، إذ يقول: “طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات” (مت 3:5).
وإذ يصير الإنسان مسكينًا للغاية بفقرٍ كهذا يتحقق فيه قول النبي: “الفقير والبائس ليسبحا اسمك” (مز 21:74). حقًا أيّ فقر أشد من أن يعرف إنسان عن نفسه إنه بلا قوة ليدافع بها عن نفسه، طالبًا العون اليومي من جود غيره. وهكذا يعلم أن كل لحظة من لحظات حياته تعتمد على العناية الإلهية… فيصرخ إلى الرب يوميًا: “أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتمُّ بي” (مز 17:40).
هكذا يصعد بواسطة الاستنارة الروحية إلى معرفة الله من جوانب متعددة، ويتقوّت بأسرار عالية مقدسة كقول النبي: “الجبال العالية للوعول، الصخور ملجأ للوبار (للقنفذ)” (مز 18:104).
هذا ينطبق تمامًا على المعنى الذي نقدمه، لأن من يسلك في بساطة وبراءة لا يؤذي أحدًا، مكتفيًا بالجهاد لحماية نفسه من أذية أعدائه. ويكون مثل قنفذ روحي يتدرع دائمًا متحصنًا في صخرة الإنجيل، أي محتميًا بتذكر آلام الرب… ولقد جاء في سفر الأمثال عن هذا القنفذ الروحي “الوبار (القنفذ) طائفة ضعيفة، ولكنها تضع بيوتها في الصخر” (أم 26:30)…
قوة صلاة المزامير
من يتقدم في هذه الحالة لا يضمن بساطة البراءة فحسب، بل و يتدرع بفضيلة التمييز، ويكون ذهنه المتقد مثل أيل عاقل يتغذى على جبال الأنبياء والرسل، أي يرعى على قمم الأسرار العليا. إنه يتغذى من هذا المرعى على الدوام، مقتاتًا بأفكار المزامير، مسبحًا بها هكذا، أي ينطق بها بأحاسيس قلبية عميقة للغاية، لا كأمور من وضع المرتل، بل كأن هذه المزامير من نطقه هو وأنها صلاته هو. يأخذ المزامير على نفسه، فلا يرى كلماتها على أنها تخص النبي ومِنْ نُطقه، بل يجدها في حياته هو في كل يوم.
وعندئذ ينفتح أمامنا الكتاب المقدس في وضوح أعظم، ويظهر ما بداخله من أوردة ونخاع خفي، ونختبر معانيه ونشعر بها مقدمًا، وندرك مغزى كلماته لا بتفسير كلامي إنما ببرهان اختباري.
عندما نختبر بأنفسنا الحالة التي كان عليها المرتل عندما كان يسبح بالمزامير ويكتبها، نصير كأننا نحن المرتلون بها، ونتلمس معانيها مقدمًا ونجمع قوة كلماتها… فعندما نقرأها نتذكر ما قد حدث معنا وما يحدث معنا في صراعنا اليومي، وعندئذ تأتينا أفكار المزامير.
ففي تسبيحنا بالمزامير نتذكر إهمالنا نحن أو غيرتنا الناقصة ونتذكر العناية الإلهية الممنوحة لنا أو مثيرات العدو (الشيطان) ضدنا، ونسياننا المملوء دهاء أو ضعفنا البشري أو الجهل الذي يغشنا. كل هذه المشاعر عبّرت عنها المزامير، وإذ ننظر ما يحدث معنا في مرآة ناصعة للغاية نفهمها بأكثر وضوح.
فلا نعرف المعنى بمجرد قراءة النص، إنما نختبره وندركه مقدمًا. وهكذا يبلغ ذهننا إلى تلك الصلاة غير الفاسدة التي تحدثنا عنها في المناظرة السابقة…
أهم المبادئ
(المناظرتين 9، 10)
– الصلاة تاج الفضائل وغايتها، والفضائل سند للصلاة الهادئة.
– ما يحدث في الفترة التي تسبق الصلاة من ضحك أو أحاديث أو قلق تتراقص في مخيلتنا أثناء الصلاة… لذلك يجدر أن نهتم بهذه الفترة عن طريق الألحان أو القراءة.
– أنواع الصلاة:
(أ) الطلبات، حيث نسأل الله الغفران عن خطايانا والنمو في حياة الفضيلة.
(ب) الصلوات، أي أن نفي نذرنا وهو أننا ملك لله، أبناء الملكوت…
(ج) الابتهالات، أي أن نصلي من أجل اخوتنا ومن أجل العالم كله.
(د) التشكرات، أي نشكر الله ونسبحه ونمجده كما يفعل السمائيون.
– الصلاة الربانية نموذج للحديث السري بين النفس البشرية والآب السماوي… وهي تحوي كل ما يلزم أن تكون عليه أفكارنا أثناء الصلاة.
– بالصلاة الربانية ينتقل المصلي الواعي إلى صلاة سرية صامتة عميقة، فيها يبتهج القلب بربنا يسوع، ويعجز اللسان عن التعبير عن المشاعر… وعندئذ:
(أ) قد تخرج بعض صرخات حب تعبّر عن فرح مجيد لا ينطق به.
(ب) بالأكثر تقف النفس مبهورة أمام عريسها في هدوء كامل!
(ج) أحيانًا تعبّر النفس عن فرحتها خلال الدموع.
– يلزما ألا نقحم أنفسنا ونلزمها بالدموع، لئلا تخرج نتيجة عوامل خارجية مع بقاء القلب متحجرًا والعينين الداخليتين جافتين… وهنا ينخدع الإنسان ويسقط في الكبرياء… بل وتُفسد الدموع حياة الإنسان وعبادته.
– ردّد صلاة: “يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني” في كل مناسبة… في بيتك وفي عملك، أثناء أكلك وشربك، في يقظتك وفي نومك، في حزنك وفي فرحك، أثناء غيرتك الروحية أو فتورك في العبادة… فإنها خير معين لك.
– يسمى القديس أغسطينوس هذه الصلاة القصيرة بالصلاة السهمية، لأنها تضرب كالسهم في قلب الشيطان، حيث لا يقدر أثناءها أن يشتت أفكارنا…
المناظرة الحادية عشر
الكمال [1] – الإيمان – الرجاء – المحبة للأب شيريمون
1- وصف لمدينة Thennesus
إذ كنا ونحن في طفولة إيماننا مقيمين في دير بسوريا، وقد تقدمنا روحيا إلى حد ما، اشتقنا بالأكثر إلى نعمة الكمال، فعزمنا للحال أن نذهب إلى مصر ونتوغل في صحراء طيبة Thebaid، لكي نزور كثير من القديسين، هؤلاء الذين انتشرت سيرتهم ومجدهم في كل بقاع العالم. وقصدنا من هذا أن نقتدي بهم أو على الأقل أن نتعرف عليهم.
قمنا بهذه الرحلة الطويلة إلى مدينة في مصر تدعى Thennesus[2]، يحيطها البحر أو البحيرات المالحة من كل جانب، ويشتغل أهلها بالأعمال البحرية، حيث يفتقرون إلى أرض حتى لأجل البناء، فعندما كانوا يرغبون في بناء بيت كانوا يحضرون ترابًا بالقوارب للردم.
2- بخصوص الأسقف أرشيبوس Archebius
عندما وصلنا إلى هناك، حقق الله أمانينا عن طريق ذلك الرجل العظيم المبارك الأسقف أرشيبوس[3]، هذا الذي أُخذ من مجمع النساك ورُسم أسقفًا على مدينة Panephsis[4]. وقد قضى عمره مشتاقًا إلى حياة الوحدة بتدقيق شديد، حتى أنه لم ينحرف قط عن اتضاعه السابق، ولا كان يفتر بسبب المركز الذي ناله (إنما كان يدعى بأنه أستبعد من النظام الديري لعدم استحقاقه، قائلاً بأنه لم يقدر أن يبلغ النقاوة السامية التي للإيمان رغم بقائه سبعة وثلاثين عامًا في الدير).
استقبلنا بلطف زائد وكرم عظيم في مدينة Thennesus سالفة الذكر، حيث يقوم بأعمال اسقفيته. وإذ عرف غرضنا واشتياقنا أننا نبحث عن الآباء القديسين الذين في مصر القائمين حتى في الأماكن النائية، قال: “تعالوا لنرى الآباء الشيوخ الكبار الذين يعيشون ليس بعيدًا عن ديرنا، هؤلاء الذين يظهر طول جهادهم من أجسادهم المنحنية، وتشرق قداستهم على ملامحهم، حتى أن مجرد التطلع إليهم يعطينا درسًا عظيمًا. فإنكم سوف لا تتعلمون من كلماتهم كثيرًا قدر ما تتعلمون من حياتهم المقدسة الأمر الذي أحزن على فقدانه، وفاقد الشيء لا يقدر أن يهبه لكم. وإن افتقاري هذا سيقل نوعًا ما بهذه الغيرة التي لكما إذ وأنتما تطلبان لؤلؤة الإنجيل التي ليست معي، فأنني على الأقل أتمتع بها معكما وأنتما تنالانها.
3- وصف الصحراء التي يقطنها شيريمون Chaeremon
هكذا أخذ عكازه ومزوده كعادة الرهبان، وبدأ معنا الرحلة، مرشدًا إيانا الطريق إلى مدينته أي Penephysis، الأرض التي هي أعظم جزء في المنطقة المجاورة (إذ كانت قبلاً أغنى منطقة، وكما يُقال أن مائدة الملك كانت تُعد من منتجاتها). هذه الأرض طغى عليها البحر وصارت خرابًا، وتحولت إلى مستنقعات مالحة، حتى أن من يراها يظن أنها هي التي قيل عنها في المزامير: “يجعل الأنهار قفارًا، ومجارى المياه مَعطشةً، والأرض المثمرة سبخةً من شرّ الساكنين فيها” (مز 33:107، 34).
في هذه البقاع دُمرت مدن كثيرة وهجرها سكانها، وتحولت إلى جزائر، وصارت مسكنًا لراغبي الوحدة النساك القديسين، من بينهم ثلاثة متقدمين في السن هم: شيرمون ونسطوروس Nesteros ويوسف Joseph حيث قطنوا فيها زمانًا طويلاً.
4- بخصوص الأب Chaeremon
هكذا رأى الأب المبارك أرشيبوس أنه من الأفضل أن يأخذنا أولاً إلى الأب شيريمون[5]، لأنه كان أقربهم إلى ديره وأكبرهم سنًا، جاوز المائة من عمره، نشيطًا في الروح، (أما من جهة جسده) فقد انحنى ظهره بعامل الزمن مع الصلاة الدائمة، وكأنه قد رجع مرة أخرى إلى الطفولة يزحف بيديه المتدليتين اللتين تلمسان الأرض.
بالتطلع إلى وجه هذا الرجل العجيب وطريقة سيره… سألناه بانسحاق أن يقول لنا كلمة ويعطينا تعليمًا. وإذ أخبرناه أن غاية مجيئنا الوحيدة هي اشتياقنا إلى التعليم الروحي، تنهد تنهدًا عميقًا وقال:
“أي تعاليم يمكنني أن أعلمكم بها، وأنا قد وهن بي ضعف السن، وتراخيت في تدقيقي السابق، واُنتزعت ثقتي مني في أن أعلِّم، لأنه كيف يمكنني أن أعلم ما لا أعمله؟ إذ كيف أرشد آخر فيما أعلم أنني أمارسه الآن في ضعف وفتور؟!
من أجل هذا لا أسمح لأي راهب شاب أن يسكن معي وأنا في هذا السن المتقدم، لئلا تفتر غيرته متمثلاً بي، لأن سلطان المعلم لن يكون قويًا ما لم يثبته في قلوب سامعيه عن طريق التنفيذ العملي.”
5- عند هذا ارتبكنا ليس بقليل، وأجبناه قائلين: “بالرغم من أن قسوة المكان وحياة العزلة نفسها التي بالكاد يمكن للشاب القوى أن يحتملها هي بنفسها تعلمنا كل شئ (من غير أن تحدثنا بشيء، لأنها تؤثر فينا تأثيرًا عظيمًا) إلا أننا لانزال نسألك أن تترك صمتك قليلاً، وتزرع فينا المبادئ التي يمكننا أن نعتنقها، فيصير لنا الصلاح الذي نراه فيك، ليس فقط بالاقتداء بك وإنما عن طريق اشتياقنا بتعليمك.
إننا نعلم فتورنا وعدم استحقاقنا أن ننال ما نسألك إياه، لكن على الأقل من أجل مشقة الرحلة الطويلة إذ أسرعنا باشتياق للمجيء هنا من ديارنا في بيت لحم لأجل الاستماع إلى تعاليمك والانتفاع بها.
6- الإيمان والرجاء والمحبة
عندئذ قال المبارك شيريمون:
هناك ثلاثة أمور تمكن الإنسان أن يقمع أخطاءه:
(أ) إما الخوف من جهنم أو خشية القوانين المفروضة.
(ب) أو الرجاء في ملكوت الله والرغبة فيه.
(ج) أو محبة الصلاح أو حب الفضيلة.
لأننا نقرأ أن الخوف من الشر يجعلنا نشمئز من التدنس. “مخافة الربّ بغض الشر” (أم 13:8).
وأيضًا الرجاء يصد هجوم كل الأخطاء لأن “كل من اتكل عليهِ لا يُعاقَب” (مز 22:34).
والمحبة أيضًا لا تخاف من هلاك الأشرار. “المحبَّة لا تسقط أبدًا” (1كو8:13)، وأيضًا “المحبَّة تستر كثرةً من الخطايا” (1 بط 8:4).
ويجمل الرسول الطوباوي مجموع الخلاص وبلوغ هذه الفضائل الثلاثة قائلاً: “أمَّا الآن فيثبت الإيمان والرجاءُ والمحبَّة” (1كو13:13). فالإيمان هو الذي يجعلنا نتحاشى وصمات الخطية خوفًا من الدينونة المقبلة. والرجاء هو الذي ينزع عن عقولنا محبة الأمور الزمنية، محتقرين كل الملذات الجسدية مقابل ما ننتظره من البركات السماوية. والمحبة تشعل فينا حب السيد المسيح وحب ثمار الروح، كارهين بقلب ثابت كل ما يتعارض مع ذلك.
هذه الأمور الثلاثة، ولو أن ظاهرها يشير إلى هدف واحد ونهاية واحدة (لأنها تحثنا على الابتعاد عن الأمور غير اللائقة) إلا أنها تختلف فيما بينها في السمو. لأن الإيمان والرجاء يليقان بالأكثر للذين لم يكتسبوا بعد محبة الفضيلة أثناء هدفهم نحو الصلاح. أما المحبة فتتعلق بالله، وبالذين نالوا في داخلهم أن يكونوا على صورة الله ومثاله. لأن الله وحده هو الذي لا يصنع الصلاح خوفًا ولا ابتغاء كلمة شكر أو نوال جزاء، إنما يصنع الصلاح ببساطة من أجل محبة الصلاح. وذلك كقول سليمان: “الرب صنع الكل لغرضهِ” (أم 4:16). فبصلاحه يغدق بالخير على المستحقين وغير المستحقين، لأنه لا ينفعل غضبًا بسبب الأخطاء، ولا يتأثر بانفعالات خطايا البشر، إذ هو على الدوام كلى الصلاح غير متغير.
7- ارتباط الإيمان والرجاء والمحبة بالعبودية والأجرة والبنوة
متى رغب إنسان في الكمال، يلتزم أن يتقدم من المرحلة الأولى التي للخوف والتي دعيت بحق “عبودية”، إذ قيل عنها: “متى فعلتم كلَّ ما أُمِرتم بهِ فقولوا أننا عبيد بطَّالون” (لو10:17)، متقدمًا خطوة تالية، صاعدًا إلى طريق الرجاء المرتفع، حيث لا يُدعى بعد عبدًا بل أجيرًا ينتظر المكافأة، متحررًا من الاهتمام بخصوص التبرئة من خطاياه أو الخوف من العقوبة، متيقظًا للأعمال الصالحة.
وإذ يظهر الإنسان في هذه المرحلة كأجير ينتظر الأجرة الموعود بها، لا يقدر أن يدرك حب الابن الواثق من محبة أبيه وسخائه وعدم شكه في أن كل ما للأب هو له. لهذا فإن ذاك الضال الذي خسر اسم “الابن” (رغم بنوته لأبيه) لم يقدر أن يتجاسر ويطمع في أن يطلب ما للبنوة عندما قال: “لست مستحقًّا بعد أن أُدعَى لك ابنًا”، لأنه بعدما أكل خرنوب الخنازير… إذ “رجع إلى نفسهِ” غلب عليه خوف مفيد، مشمئزًا من قذارة الخنازير، خائفًا من عقوبة الجوع القارس. كما لو كان يعمل عبدًا اشتاق أن يكون أجيرًا، وفكر في الأجرة: “كم من أجيرٍ لأبي يفضل عنهُ الخبز وأنا أهلك جوعًا؟! أقوم وأذهب إلى أبى وأقول لهُ يا أبي أخطأْت إلى السماءِ وقُدَّامك ولست مستحقًّا بعد أن أُدعَى لكي ابنًا. اجعلي كأحد أَجْراك” (لو17:15-19).
مع كلمات التوبة المملوءة انسحاقًا ركض إليه أبوه وقابله بعطف عظيم أكثر مما طلب الابن، قاطعاً حديثه لكي لا ينطق بما هو أقل (إذ لا يريد أن يجعله أجيرًا).
إذ قطع الضال المرحلتين الأوليتين بغير توان (أي مرحلة العبد والأجير أو الإيمان والرجاء)، أعاده الأب إلى كرامة بنوته السابقة.
نحن أيضًا يجدر بنا أن نسرع هكذا بغير توانٍ بواسطة نعمة الحب الثابتة لنصعد إلى المرحلة الثالثة التي للبنوة، حيث نؤمن أن كل ما للأب هو لنا، ويمكننا أن نقتدي بالابن في قوله: “كلُّ ما للآب فهو لي” (يو15:16).
هذا ما يعلنه الرسول الطوباوي قائلاً: “فإن كل شيءٍ لكم. أَبولس أم أَبُلُّوس أم صفا أم العالم أم الحياة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة كلُّ شيءٍ لكم” (1كو21:3، 22). وتحثنا وصايا مخلصنا بما يشبه ذلك إذ يقول: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت48:5).
يجدر بنا أن نبذل كل طاقتنا لكي نرتقي في اشتياق كامل من الخوف إلى الرجاء، ومن الرجاء إلى محبة الله ومحبة الفضائل نفسها، وهكذا إذ نعبر بثبات إلى محبة الصلاح ذاته، نثبت في الصلاح قدر ما تستطيع الطبيعة البشرية.
8- يا لعظمة المحبة!
يوجد فرق شاسع بين من يخمد نيران الخطية في داخله خوفًا من جهنم أو مترجيًا الجزاء المقبل، وبين من يبغض الخطية ذاتها ودنسها بدافع الحب الإلهي. فبالحب يحافظ على فضيلة النقاوة ببساطة غير منتظرٍ أي جزاء مقبل، إنما يبتهج بمعرفة الصلاح الحاضر، صانعًا الخير ليس عن خوف من العقاب، بل ابتهاجًا بالفضيلة.
مثل هذا لا يمكن أن ينتهز أي فرصة ليخطئ في غياب شهود بشريين، ولا ينزعج بإغراءات الفكر الخفية، إنما يحتفظ في أعماقه بمحبة الفضيلة ذاتها، ولا يسمح لأي شيء مضاد أن يدخل إلى قلبه، إنما يكره ذلك فعلاً كراهية شديدة.
هناك فارق بين من يكره وصمات الخطية وشهوات الجسد ابتغاء التمتع ببركات زمنية، أو يمتنع عنها رغبة في الجزاء السماوي. وأيضًا بين من يصنع هذا خشية فقدان الأرضيات، أو خوفًا من العقاب الأبدي.
أخيرًا أنه لأمر عظيم أن يرغب الإنسان في ألا يهمل الصلاح لأجل الصلاح ذاته، عن أن يمتنع عن الشر خوفًا من الشر، لأنه في الحالة الأولى يكون الصلاح اختياريًا، أما الثانية فيكون فيها اضطراريًا. لأن من يمتنع عن إغراءات الخطية بسبب الخوف يعود إليها متى نزع عنه حائل الخوف، وبهذا لا يكتسب أي ثبات في الصلاح، ولا يستريح من الهجمات، لأنه لا يتحصن بفضيلة السلام الدائم. أما من جهة قهر هجوم الخطايا، فيتمتع بحالة ثابتة من الأمن، ويبلغ إلى محبة الفضيلة نفسها، وبهذا يحتفظ بالصلاح بصفة مستمرة، إذ يعكف على المداومة عليها، ويؤمن بأنه لا يوجد شئ أسوأ من أن يفقد الطهارة “النقاوة” الداخلية، ويرى أنه لا يوجد أعز وأثمن من الطهارة الحاضرة، معتبرًا فقدانهاعقابًا محزنًا…
مثل هذا الإنسان يحمل في الداخل ضميره كقاضٍ يحكم على أعماله بل وأفكاره، محاولاً أن يرضيه على الدوام، إذ يعلم أنه لا يستطيع أن يغش ضميره أو يخدعه أو يهرب منه.
9- بالمحبة نصير على صورة الله ومثاله
من يتكل على معونة الله وليس على مجهوده الذاتي، يوهب له أن يبلغ هذه الحالة، فينتقل من حالة العبودية التي يسودها الخوف، ومن حالة الطمع “الأجراء” حيث لا يطلب كثيرًا مجد الواهب كجزاء، عابرًا إلى حالة التبني حيث لا يعود هناك خوف ولا طمع، بل يكون الحب الذي لا يسقط أبدًا. هذا الخوف أو الحب اللذين من أجلهما يوبخنا الله، كل واحد حسب ما يتناسب معه، قائلاً: “الابن يكرم أباهُ والعبد يكرم سيدهُ، فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟ وإن كنت سيّدًا فأين هيبتي؟” (مل 6:1). فالعبد يلزمه أن يخاف: “وأمَّا ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيدهِ ولا يستعدُّ ولا يفعل بحسب إرادتهِ فيُضرَب كثيرًا” (لو 47:12).
ومن يصير بالمحبة على صورة الله ومثاله، يبتهج في الصلاح من أجل الصلاح ذاته، ويكون له مثل هذا الشعور من جهة الصبر والوداعة. فلا يغضب بسبب أخطاء الخطاة، إنما في حنو وترفق يطلب لهم الصفح لأجل ضعفهم، متذكرًا أنه هو نفسه إلى وقت طويل كان مجربًا بأشواك شهوات مشابهة حتى افتقدته مراحم الله. وإذ أُنقذ من الهجوم الجسداني بواسطة عناية الله وليس بمجهوده الذاتي، لهذا لا يظهر بغضًا على الذين ضلوا بل رحمة، مترنمًا بكل سلام عقلي قائلاً: “حللتَ قيودي. فلك أذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 16:116، 17). “لولا أن الرب معيني لسكنت نفسيْ سريعًا أرض السكوت” (مز 17:94). وإذ يكون عقله دائم التواضع، يستطيع أن ينفذ الوصية الإنجيلية بكمالها: “أَحِبُّوا أعداءَكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغِضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئُون إليكم ويطردونكم” (مت 44:5). بالتالي ننال الجزاء الذي يلحق بهذه الوصية، إذ لا نكون فقط على صورة الله ومثاله، بل وندعى أبناء الله، إذ يقول الرب: “لكي تكونوا أبناءَ أبيكم الذي في السماوات. فإنهُ يشرق شمسهُ على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (مت 45:5). بهذا الإحساس عرف يوحنا المبارك ما ناله إذ قال: “أن يكون لنا ثقة في يوم الدين لأنهُ كما هو في هذا العالم هكذا نحن أيضًا” (1يو17:4).
فيم يمكن للطبيعة البشرية أن تتشبه بالله سوى أن تظهر محبة هادئة في الداخل نحو الصالحين والطالحين، الأبرار والأشرار متمثلة بالله الذي يفعل الصلاح حبًا في الصلاح ذاته، فتبلغ إلى التبني الحقيقي الذي لأولاد الله، الذي يتكلم عنه الرسول الطوباوي، قائلاً: “كل مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطيَّة لأن زرعهُ يثبت فيهِ ولا يستطيع أن يخطئَ لأنهُ مولود من الله” (1يو9:3)، وأيضًا: “نعلم أن كلَّ من وُلِد من الله لا يخطئُ بل المولود من الله يحفظ نفسهُ والشرير لا يمسُّهُ” (1يو18:5)؟! ويجدر بنا ألا نفهم هذا عن كل أنواع الخطايا، إنما الخطايا التي للموت فقط (1يو16:5).
فمن لم يتخلص من هذه الخطايا “التي للموت”، ولا تطهر منها، فان الرسول المذكور يعلمنا في موضع آخر ألا نصلى لأجلهم قائلاً: “إن رأَى أحد أخاهُ يخطئُ خطيةً ليست للموت يطلب فيعطيهِ حيوةً للذين يخطئُون ليس للموت. تُوجَد خطية للموت. ليس لأجل هذه أقول أن يطلب” (1يو16:5).
أما عن الخطايا التي ليست للموت، فانه لا يستطيع أحد أن يتجنبها أو يخلو منها حتى أولئك الذين يخدمون السيد المسيح بأمانة. “إن قلنا أنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا” (1يو8:1)، وأيضًا: “إن قلنا أننا لم نخطئْ نجعلهُ كاذبًا وكلمتهُ ليست فينا” (1يو10:1).
فيستحيل على أي قديس ألا يخطئ بكلمة أو فكر أو عن جهل أو نسيان أو عن ضرورة أو عن إرادة أو تعجب… وهذه تختلف كلية عن الخطية التي للموت، لكنها لا تعنى أنها تخلو من الخطأ أو الملامة.
10- الصلاة من أجل الأعداء هو كمال المحبة
عندما يكتسب أي إنسان محبة الصلاح التي تكلمنا عنها، والتي بها نتشبه بالله، حينئذ يوهب له قلب الله الحنون، فيصلي من أجل المسيئين إليه، قائلاً على نفس المثال: “يا أبتاهُ أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 34:23).
هناك علامة واضحة تكشف النفس التي لم تتطهر بعد كلية من رواسب الخطية، وهى عدم حزنها من أجل أخطاء الآخرين في حنو، إنما تحكم عليهم كديان في لوم عنيف.
لكن، كيف يقدر أن ينال كمال نقاوة القلب من لا ينفذ الوصايا التي يظهرها الرسول “احملوا بعضكم أثقال بعضٍ وهكذا تّمموا ناموس المسيح” (غل 2:6)، ومن ليس لديه فضيلة المحبة التي هي: “لا تُقبِح… ولا تحتدُّ… ولا تظنُّ السوءَ… وتحتمل كلَّ شيءٍ… وتصبر على كل شيءٍ” (1 كو 4:13-7)؟! لأن “الصدّيق يراعى نفسه بهيمتهِ، أما مراحم الأشرار فقاسية” (أم 10:12).
هكذا يسقط الإنسان (الراهب) في نفس الأخطاء التي يدين فيها غيره بقسوة بغير ترفق، لأن “الرسول الشرير يقع في الشر” (أم 17:13)، و”مَن يسدُّ أذنيهِ عن صراخ المسكين فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجَاب” (أم 13:21).
11- سؤال: كيف تقول أن المحبة كاملة، والخوف من الله والرجاء في الجزاء المقبل غير كاملين؟
جرمانيوس: إنك تحدثت بوضوح عن محبة الله الكاملة، ولكن هذه الحقيقة لازالت تؤرقنا، وهي أنك إذ مدحتها قلت بأن الخوف من الله والرجاء في الجزاء السماوي أمران غير كاملين، مع أن النبي يقول: “خافوا الربَّ يا قديسيهِ لأنهُ ليس عوز لخائفيهِ” (مز9:34). وأيضًا يعلن لنا أن نصنع أعمال الله الصالحة من أجل رجاء المكافأة، إذ يقول: “عطفت قلبي لأصنع فرائضك إلى الدهر لأجل المجازاة” (مز112:119). ويقول الرسول: “بالإيمان موسى لمَّا كبر أَبَى أن يُدعَى ابن ابنة فرعون، مفضّلاً بالأحرى أن يُذلَّ مع شعب الله على أن يكون لهُ تمتُّع وقتيّ بالخطيَّة، حاسبًا عار المسيح غنًى أعظم من خزائن مصر لأنهُ كان ينظر إلى المجازاة” (يقول الشعب24:11-26).
إذن كيف يمكننا أن نفكر فيهما أنهما غير كاملين، بينما يفتخر داود بأنه يعمل أعمال الله الصالحة من أجل المجازاة، وقيل عن مستلم الشريعة أنه كان ينظر إلى المجازاة المقبلة، مستغنياً عن شرف التبني الملوكي مفضلاً الذل المريع عن كنوز المصريين؟![6]
12- شيريمون: يلخص لنا الكتاب المقدس رغباتنا الحرة في درجات مختلفة من الكمال، حسب حالة كل ذهن وقياسه، لأنه لا يُتوج كل البشر بتاج موحد من الكمال، إذ ليس للكل نفس الفضيلة ولا نفس الهدف أو الغيرة. هكذا أشارت الكلمة الإلهية بطريق ما إلى درجات الكمال المختلفة وقياساته المتنوعة.
الدليل على هذا تنوع التطويبات (مت 5). فقد طوب الذين سيرثون ملكوت السماوات، وطوبى الوارثين الأرض (طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض)، كذلك الذين يرحمون، والذين يشبعون… ومع هذا فإننا نؤمن بأن هناك فارق شاسع بين وارثي ملكوت السماوات ووارثي الأرض، وبين الذين يرحمون والذين يشبعون من البر وبين الذين يعاينون الله (طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله). و”مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر، لأن نجمًا يمتاز عن نجمٍ في المجد، هكذا أيضًا قيامة الأموات” (1 كو 41:15، 42).
طبقًا لهذا المبدأ يمدح الكتاب المقدس من يخاف الله قائلاً: “طوبى لكل مَن يتَّقى (يخاف) الرب، ويسلك في طرقهِ” (مز 1:128)، واعدًا إياهم بسعادة سماوية. ومع هذا يرجع فيقول: “لا خوفَ في المحبَّة، بل المحبَّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يتكمَّل في المحبَّة” (1 يو 18:4).
مرة أخرى بالرغم من أن عبادة الله بخوف شيء عظيم وقد قيل: “اعبدوا الربَّ بخوفٍ” مز11:2، و “طوبى لذلك العبد الذي إذا جاءَ سيّدهُ يجدهُ يفعل هكذا” (مت46:24)، إلا أنه قيل للرسل: “لا أعود أسمّيكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيدهُ، لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ، لأني أَعلمتكم بكلّ ما سمعتهُ من أبى” (يو15:15). مرة أخرى يقول: “أنتم أحبَّائي إن فعلتم ما أوصيكم بهِ” (يو14:15).
ترون إذن أن هناك درجات مختلفة من الكمال، وأن الرب يدعونا من الأشياء السامية إلى الأسمى بطريقة تجعل ذاك الذي صار مطوبًا وكاملاً في مخافة الله يسير كما هو مكتوب من قوَّة إلى قوَّة (مز7:84)، أي من كمال إلى آخر. بمعنى أن يصعد بغيرة الروح من الخوف إلى الرجاء، وأخيرًا إلى المحبة التي هي آخر مرحلة. فهذا الذي كان “العبد الأمين الحكيم” (مت45:24)، يبلغ إلى مرحلة الصداقة ثم التبني كابن.
من ثم يمكن فهم كلامنا بالمعنى التالي: إننا لا نقول أن الخوف من العقوبة المنتظرة أو رجاء الجزاء المبارك الذي وعد به القديسين ليس بذي قيمة، لكن وإن كان هذا نافعاً، إذ يدفع أولئك الذين يتبعونها للتقدم خطوة مباركة، إلا أنه في المحبة ثقة كاملة وفرح دائم، تبعدهم عن خوف العبيد ورجاء الأجير إلى محبة الله، وتجعلهم أبناء وتنقلهم من كمال إلى كمال أعظم.
يقول المخلص إن في بيت أبيه منازل كثيرة (يو2:14) ومع أن الكواكب تظهر في السماء، لكن مجد الشمس شيء ومجد القمر شيء آخر، وهكذا بقية الكواكب. لهذا لا يفضل الرسول المبارك المحبة عن الخوف والرجاء فحسب بل وفوق كل العطايا التي تحسب عظيمة ومدهشة… فبعد ما عدد مواهب الروح من الفضائل أراد أن يصف عناصرها فبدأ يقول “وأيضًا أريكم طريقًا أفضل. إن كنت أتكلَّم بأَلسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبَّة فقد صرت نحاسًا يطنُّ أو صنجًا يرن. وإن كانت لي نبَّوة وأعلم جميع الأسرار وكلَّ علمٍ وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئًا. وإن أطعمت كلَّ أموالي وإن سلَّمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا” (1كو31:12، 1:13-3). أترون إذن كيف أنه لا يوجد شئ أقيم أو أكمل أو أشرف منها!!
إن أمكنني أن أقول، إنه لا يوجد شيء أبقى من المحبة. لأنه “أما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل” ولكن “المحبَّة لا تسقط أبدًا” (1 كو 8:13). بدونها لا تنجح معظم أنواع المواهب الثمينة بل ويفقد الاستشهاد عظمته.
13- الخوف الكامل
من يثبت في هذا الحب الكامل، بالتأكيد يتدرج إلى درجة أعلى وهي الخوف النابع من الحب، الذي هو ليس الخوف من العقوبة أو فقدان المجازاة، إنما الخوف من الحب العظيم. فأي ابن في محبته للأب اللطيف لا يهابه، أو الأخ لا يخاف أخاه، أو الصديق صديقه أو الزوجة زوجها، ولكن ليس خوفًا من الضرب، بل حرصًا على مشاعر الحب لكي لا تجرح. فيحرص في كل كلمة وكل تصرف لئلا تفتر محبته تجاهه.
يصف أحد الأنبياء عظمة هذا الخوف بدقة قائلاً: “حكمة ومعرفة هما عن الخلاص، مخافة الرب هي كنزه”[7]، فلم يستطع أن يصف قيمة الخوف بوضوح أكثر من أن يقول إنه غنى خلاصنا الذي يتكون من حكمة الله ومعرفته الحقيقية اللتين لا يمكن حفظهما إلا بواسطة مخافة الرب.
تدعو الكلمة الإلهية على لسان النبي في المزامير، ليس فقط الخطاة، بل والقديسين أيضًا قائلة لهم: “اتَّقوا (خافوا) الربّ يا قديسيهِ لأنهُ ليس عوز لمتَّقيهِ (خائفيهِ)” (مز 9:34). فمن يخاف الله بهذا الخوف بالتأكيد لا يعتاز شيئًا قط من الكمال.
واضح أن ما تحدث عنه الرسول يوحنا هو الخوف من العقوبة إذ قال: “الذي يخاف لم يكمل بعد في المحبة”، لأن الخوف له عذاب[8].
يوجد فرق بين الخوف الذي لا ينقصه شيء، والذي هو كنز الحكمة والمعرفة (إش 6:33) والذي هو رأس الحكمة (مز 10:111)، وبين الخوف من العقوبة، هذا الذي يُستبعد عن قلوب الكاملين بملء المحبة. لأنه “لا خوف في المحبَّة، بل المحبَّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج” (1 يو 18:4).
لذلك يوجد خوف مزدوج:
1- أحدهما للمبتدئين، أي الذين لازالوا تحت العبودية المرعبة، التي نقرأ عنها: “العبد يكرم سيدهُ” (مل 6:1)، وفي الإنجيل يقول: “لا أعود أسمّيكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيدهُ” (يو 15:15). “والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أمَّا الابن فيبقى إلى الأبد” (يو 35:8). لذلك يعلمنا الله أن ننتقل من الخوف من القصاص إلى ملء حرية المحبة وثقة الأحباء أبناء الله.
أخيرًا فإن الرسول المبارك بقوة حب الله عبر مرحلة عبودية الخوف، لكي يحتقر الأشياء الأرضية، ويعلن أنه فد اغتني بأمور الله الصالحة إذ يقول: “لأن الله لم يُعطنا روح الفَشَل، بل روح القوَّة والمحبَّةِ والنصحِ” (2تي7:1).
هؤلاء أيضًا الذين التهبوا بحب كامل نحو أبيهم السماوي، والذين بالتبني الإلهي صاروا أبناءً لا عبيدًا، يخاطبهم الرسول: “إذ لم تأْخذوا روح العبوديَّة أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبنّي الذي بهِ نصرخ يا أَبا الآب” (رو 15:8).
2- أما عن الخوف الآخر فيتكلم النبي عن الروح ذو السبع جوانب، الذي بحسب سرّ التجسد يحل بكمالٍ على الإله المتجسد: “ويحلُّ عليهِ روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (إش 2:11). بل ويضيف على وجه الخصوص: “ولذَّتهُ تكون في مخافة الرب” (إش3:11). نلاحظ أنه لم يكمل قائلاً، “يحلَّ عليك روح الخوف”، بل “لذَّتهُ تكون في مخافة الرب”. لأن هذا هو عظمة غنى هذا الخوف أنه إذ يستقر على أحد بقوته لا يستحوذ على جزء من عقله بل كل عقله. وليس ذلك بغير إدراك، لأنه مرتبط ارتباطا وثيقًا بالحب الذي “لا يسقط أبدًا”.
إنه ليس فقط يملأ الإنسان، بل ويبقى على الدوام ويستمر في الإنسان الذي بدأ فيه، فلا تؤثر فيه إغراءات الفرح العالمي كما في حالة الخوف المنبوذ (الأول).
هذا هو الخوف الذي ينتمي للكمال، إذ الإله المتجسد الذي جاء ليس فقط ليخلص البشرية، وإنما لكي يرسم لنا أيضًا صورة الكمال ومثال الصلاح، لأنه ابن الله الحقيقي “الذي لم يفعل خطيَّةً ولا وُجِد في فمهِ مكر” (1بط22:2) لا يشعر بخوف العقوبة المرعب[9]…
ملخص المبادئ
– هناك ثلاثة أمور تساعد الإنسان للسلوك في طريق الرب:
(أ) الخوف من العقاب الأبدي… أي الإيمان بيوم الدينونة ومجازاة الأبرار والأشرار.
(ب) الرجاء في ملكوت الله والاشتياق إليه.
(ج) محبة الصلاح نفسه أو حب الفضيلة من أجل الله ليس خوفًا من عقاب ولا ابتغاء مكافأة.
– ليصعد الإنسان مبتدأ بالخوف، خوف العبد الذي يخشى سيده، ثم ينطلق إلى الرجاء، رجاء الأجير الذي ينتظر مكافأة صاحب العمل في آخر يومه، ليبلغ إلى قمم الحب كابن لا يطلب من أبيه شيئًا سوى أن يكون في حضنه.
– الحب هو غاية إيماننا، بدونه تفقد العبادة كيانها، بل تصير حجر عثرة وحجابًا يفصلنا عن الله، الحب المطلق.
– المحبة الكاملة تطرد الخوف خارجًا… لتحمل في طياتها روح مخافة الرب الكاملة… خوف من صنف آخر هو خوف الابن الذي يحب أباه ويخشى لئلا تجرح مشاعر الحب التي تربطه بالأب.
______________________________________
[1] ترجمة: نادية أمين.
[2] هذه المدينة بجوار بحيرة المنزلة.
[3] لم يعرف شيئًا عن هذا الأسقف سوى في كتابات كاسيان (مناظرة 26:7، وكتاب المؤسسات 37:5،38).
[4] وهى في الدلتا وحقق شامبليون أنها “المنزلة الحديثة”.
[5] ربما يكون نفس الأب الذي ذكره بلاديوس في تاريخه (92:100).
[6] هنا إشارة إلى رفض الإنسان لغنى العالم وكراماته الزمنية حاملاً عار الصليب لأجل الأبدية.
[7] الترجمة الحرفية لما ورد في النص (إش6:23).
[8] الترجمة الحرفية لما ورد في النص (1يو18:4).
[9] سأل القديس جرمانيوس بخصوص إمكان دوام الإنسان في حياة الهدوء بغير اضطراب شهواني… وأجابه الأب عن قوة المحبة التي بها نلتصق بالله، تاركًا إجابة السؤال إلى المناظرة التالية الخاصة بـ (الطهارة)
المناظرة الثانية عشر
الطهارة [1] للأب شيريمون
4- الطهارة هبة من الله
يجدر بنا أن نتأكد أن أقسى درجات الاحتمال من وطأة الجوع والعطش والسهر والعمل المتواصل والمثابرة في القراءة… كل هذه التداريب وحدها لا تثبتنا في طهارة دائمة ما لم نقتنع عمليًا وسط تدربنا هذا أن نعمة الله وحدها تستطيع أن تهبنا هذه الطهارة غير الفاسدة.
لنتيقن أنه يلزم على كل أحد أن يثابر بصبرٍ بلا ملل، حتى ينال بإذلال الجسد رحمة الرب، ويستحق أن تنقذه نعمة الله من هجمات الجسد وعبودية الشهوات العنيفة، وألا يظن أنه بهذه الأعمال وحدها يقدر أن يقتني الطهارة الدائمة التي يبتغيها.
لنفرح بالرب أثناء التداريب اليومية
إن أردنا طرد الشهوات من قلوبنا، فلنفسح المجال لكي تدخل الأفراح الروحية بلا حدود.
وإذ ترتبط روحنا بهذا الفرح على الدوام، ترى من الآن (في هذه الحياة) أين تثبت، طاردة عنها جاذبية أفراح العالم والسعادة الزائلة.
وإذ تقودها التداريب اليومية إلى هذه الحالة، تختبر الروح مشاعر الفرح التي لا يُعبر عنها وهي هنا، وترتل أمام الحق بالتسبيح العادي[2] الذي لا يقدر أن يختبره إلا القليلون الذين تذوقوه، مخترقين أعماق معنى هذا القول: “جعلتُ الربَّ أمامي في كل حين، لأنهُ عن يميني فلا أتزعزع” (مز8:16).
7- درجات الطهارة
للطهارة درجات كثيرة، بها نرتفع لنبلغ الطهارة الدائمة.
وبالرغم من عجزي عن معرفة جميع درجاتها والحديث عنها كما ينبغي، غير أن تسلسل المناظرة يحصرني، فأخبركم قدر خبرتي الضعيفة، تاركًا للكاملين أن يتحدثوا عنها بصورة أكمل.
وما أنطق به الآن لا تأخذونه قضية مسلم بها، فإن الذين يتمتعون بهذه الفضيلة في درجة أعلى، هؤلاء يُكشف لهم نور أسطع فيختبروا ويخبروا الآخرين عنها.
وأنني سأميز بين الدرجات الست التي لهذه الطهارة العظيمة، ولو أنه يوجد بُعد شاسع بين كل درجة وأخرى، وكان يمكن أن يوضع بينهم درجات وسطى… وإذ هذه الدرجات أمر غير محسوس وغاية في الدقة، لهذا بالكاد يقدر الذهن أن يدركها أو الكلام يُعبر عنها.
هذه الدرجات الست التي أتوقف عندها تقود الإنسان يومًا فيوما إلى الطهارة الكاملة. لأنه كما أن الجسد ينمو يومًا فيوما لاشعوريًا ويسير نحو الكمال (أي النضوج الجسدي) الذي نبتغيه، هكذا تثبت الروح في قوة الطهارة وكمالها رويدًا رويدًا.
درجات الطهارة الست
1- الأولى: عدم سقوط الإنسان تحت ثقل هجمات الجسد.
2- الثانية: أن يوقف فكره عن الأفكار الدنسة.
3- الثالثة: ألا تؤثر فيه رؤيته للمرأة أدنى تأثير.
4- الرابعة: ألا يشعر خلال يومه بأي حركة من حركات الجسد.
5- الخامسة: ألا يتأثر فكره بأي لذة متى ألزمته الضرورة أن يتحدث عن الزواج أو التناسل البشري، إنما في طهارة قلبه الهادئ يرى في ذلك مجرد مسئولية ملقاة على كاهل الجنس البشري، ولا يتطلع إلى هذا الأمر على أنه أمر تافه.
6- السادسة: ألا يتعرض في أثناء نومه للمناظر النسائية الجذابة، لأنه وإن كان في هذا عدم خطية، لكن لها علاقة بالشهوة الكامنة في عمق القلب.
________________________________________
[1] ترجمة: عايدة حنا عن كتاب: M. J. Rouet de Journel: Textes Ascétiques des Pères de L’Eglise, 1947.
[2] أي التسابيح الكنسية العادية، إذ يتذوقها كل إنسان قدر قامته الروحية.
المناظرة الثالثة عشر
حماية الله للأب شيريمون
1- مقدمة
بعد فترة قصيرة من النوم عدنا إلى خدمة الصباح، وكنا ننتظر الرجل الشيخ، وكان يبدو على الأب جرمانيوس حيرة عظيمة، لأن المناظرة السابقة حملت قوة توحي إلينا بشوق عظيم نحو تلك الطهارة التي لم تكن معروفة لنا بعد. وقد أضاف الشيخ الطوباوي عبارة فريدة نزع فيها كل دعوانا من جهة جهاد الإنسان الذاتي، مضيفًا أنه وإن جاهد الإنسان بكل طاقته من أجل الثمرة الصالحة، لكنه لا يقدر أن يسيطر على ما هو صالح ما لم يطلبه ببساطة من جود الله وكرمه، وليس بجهاده الذاتي.
وإذ كنا متحيرين من جهة هذا الأمر، إذ الطوباوي شيريمون يصل إلى القلاية، فرآنا نتهامس معًا، فقلل من خدمة الصلاة والمزامير شيئًا يسيرًا عن المعتاد وسألنا عن الأمر.
2- سؤال: لماذا لا ننسب الطهارة إلى جهاد الإنسان؟
جرمانيوس: إذ نحن صامتون من جهة عظمة تلك الفضيلة التي وصفتها لنا الليلة الماضية، مؤمنين بفاعليتها، لكني أستسمحك القول بأنه يبدو لي أنه من العبث أن نقول عن الطهارة الكاملة التي تُقتنى بغيرة الإنسان المجاهد كمكافأة للجهاد، أنها لا تنسب رئيسيًا إلى جهاده. لأنه من الغباوة أن نرى مثلاً مزارعًا يحتمل آلامًا كثيرة في زراعة أرضه ولا تنسب الثمار إلى جهاده!
3- شيريمون: يمكننا بنفس المثال الذي قدمته أن نبرهن بالأكثر أن جهود الإنسان العامل لا تفيد شيئًا بغير معونة الله. لأن الزارع حين يحتمل أتعابًا كثيرة في زراعة الأرض لا يقدر أن ينسب كثرة المحصول ووفرة الثمار إلى مجهوده الذاتي. فقد يضيع كل تعبه هباء لو لم تأته الأمطار أو يساعده الجو. وقد نرى الثمار ناضجة فعلاً بل ويحصدها الفلاح ويجنيها ومع هذا فإن مجهود العاملين يمكن أن يكون بلا نفع ما لم تسنده عناية الله. كذلك الصلاح الإلهي لا يأتي بالإنتاج الوفير للمزارعين الكسالى الذين لا يحرثون حقولهم على الدوام، كما أنهم قد يتعبون الليل كله بلا جدوى ما لم تُنجح مراحم الرب أعمالهم.
لكن كبرياء البشرية يجعلها ترفض أن تضع نعمة الله مع جهادها على قدم المساواة ولا أن يختلطا معًا، إنما تظن أنه بمجهودها الذاتي تنال جود الله وكرمه، أو أن الثمار هي ثمرة جهادها وحده.
ليتأمل الإنسان جيدًا وليتفحص بعناية فائقة وازنًا هذه الحقيقة كما ينبغي، وهي أنه لا يقدر الإنسان حتى أن يستخدم نفس تلك الجهود التي له بغيرة ما لم تهبه عناية الله وترافقه قوة لتنفيذها، وإن إرادته ذاتها وقوته يخوران ما لم يمده الحنو الإلهي بالوسائل لأجل تتميمهما. فقد يفشل الإنسان بسبب كثرة المطر الزائد أو لانعدامه.
فعندما يهب الرب للثور نشاطًا وقوة جسدية للعمل ونجاحًا في مشروعه، يجدر بالإنسان أن يصلي لئلا يسقط عليه ما قيل في الكتاب المقدس: “وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا والأرض التي تحتك حديدًا”، و”فضلة القَمَص أكلها الزحَّاف، وفضلة الزحَّاف أكلها الغَوغَاءُ، وفضلة الغوغاءِ أكلها الطيَّار[1]” (يؤ4:1).
ولا يحتاج المزارع إلى عناية الله لتعينه في مجهوداته أثناء عمله فحسب، بل وأيضًا لكي يتفادى الكوارث غير المنظورة التي يمكن أن تحل به، والتي أحيانًا تصيب الحقل وهو غني بالمحصول المتوقع… بل وأحيانًا يفقد ما قد جمعه فعلاً وخزنه في البيدر للدرس أو في المخزن.
من هذا نخلص بوضوح إلى أن البداية لا تتأتى من جهة أعمالنا نحن بل حتى أفكارنا الصالحة تأتي من الله، الذي يوحي إلينا بإرادة صالحة نبدأ بها العمل ويمدنا بفرص لتنفيذ هذه الإرادة الصالحة “كلُّ عطيَّةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة هي من فوق نازلةً من عند أبي الأنوار” (يع17:1).
إنه يبدأ معنا بما هو صالح ويستمر معنا فيه ويكمله معنا، وذلك كقول الرسول: “والذي يقدّم بذارًا للزارع وخبزًا للأَكل سيقدّم ويكثّر بذاركم وينمي غلاَّت برّكم” (2كو10:9). هذا كله من أجلنا نحن، لكن باتضاع نتبع يومًا فيوما نعمة الله التي تجذبنا، أما إذا قاومنا نعمته برقبة غليظة وآذان غير مختونة (أع51:7) فإننا نستحق كلمات النبي ارميا القائل: “هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتدُّ أحد ولا يرجع؟! فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا؟!” (إر4:8،5).
4- اعتراض
جرمانيوس: إننا نرى الكثير من الوثنيين الذين لم يوهب لهم نعمة الله سامين لا في فضائل التدبير والصبر فحسب، بل (وبصورة واضحة) في الطهارة. فكيف يمكننا أن نحسب أن حرية إرادتهم قد أُسرت، وأن فضائلهم وهبت لهم بواسطة نعمة الله، خاصة وأنهم يتبعون حكمة العالم وينكرون نعمة الله، بل وينكرون وجود الله ذاته؟ فهم ليسوا مثلنا نحن الذين خلال القراءة وعن طريق الآخرين عرفنا نعمة الله، أما هم فيقولون أنهم ينالون طهارتهم الفائقة السمو بجهادهم وتعبهم الزائد؟
5- شيريمون: إنني مسرور لأنك قد التهبت بالشوق العظيم لمعرفة الحق، إلا أنك تقدم بعض النقط، وبإثارتك لهذه الاعتراضات تؤكد بالأكثر سمو إيمان الكنيسة الجامعة… فبالتأكيد أنت تقدم هذه الاعتراضات رغبة في معرفة الحق لذلك فلتأخذ في اعتبارك هذه الأمور:
يلزمنا أولاً ألا نفكر بأن الفلاسفة قد نالوا طهارة النفس كتلك التي ننالها نحن، والتي لا تتوقف عند مجرد عدم الزنا، إنما لا يدعى بيننا شئ دنس قط، إنما هم لديهم نوع خاص من الطهارة بمعنى ضبط الجسد، الذي به يقمعون شهواتهم لكي لا ينفذوا اتصالاً جسديًا. لكنهم لا ينالون طهارة الذهن الداخلية ونقاوة الجسد الدائمة، لا من جهة العمل، إنما أيضًا من جهة الفكر. أخيرًا فإن سقراط – الذي يعتبرونه – أشهر جميع الفلاسفة يعترف عن نفسه بهذا…
إنهم لا يعرفون فضيلة الطهارة التي نبتغيها نحن، لذلك فإن ختاننا الروحي لا يمكن أن يُطلب إلا بنعمة الله، ولا يخص إلا الذين يخدمون الله بقلب منسحق.
6- لا يمكننا الجهاد بغير نعمة الله
إن كان في أمور كثيرة، بل بالحق في كل شئ، يظهر أن البشر على الدوام محتاجون إلى معونة الله، وإن كان الضعف البشري يعجز عن أن يتمم شيئًا لخلاصه بذاته وحده بغير مساعدة الله، فإنه يكون ذلك بالأكثر بالنسبة لنوالنا الطهارة والمحافظة عليها.
إن كان الحديث عن صعوبة كمال الطهارة قد طال كثيرًا، فلنناقش باختصار أدواتها. إنني أسأل: أي إنسان مهما بلغت حرارته في الروح، هل يقدر بقوته الذاتية أن يحتمل قسوة البرية، لا أقول يحتمل نقصًا في الضروريات اليومية بل في مؤونة الخبز الجاف؟ من يستطيع بغير تعزية الله أن يحتمل الظمأ الدائم، أو يحرم عينيه من نوم الصباح اللذيذ، لتصبح كل أوقات راحته ونومه في حدود أربعة ساعات؟! من يشعر بالاكتفاء والشبع خلال مثابرته على القراءة والسهر الدائم في العمل وعدم اهتمامه بالربح الزمني ما لم تعينه نعمة الله؟!
إذ لا نقدر أن نشتاق إلى مثل هذه الأمور بغير وحي إلهي، فإننا نعجز بأي وسيلة أن ننفذها بغير معونة الله. وإذ نتأكد من هذا الأمر ليس بحسب ما تمليه علينا خبرتنا بل وتؤكده الأدلة والبراهين الثابتة، ففي أمور كثيرة لا نشعر بالضعف ولا تنقصنا المهارة الكاملة ولا تنقصنا الإرادة ومع هذا ما لم يوهب لنا بمراحم الرب قوة التنفيذ ننحرف بعيدًا عن هدفنا.
ليس في طاقتنا أن ننال سكون العزلة ونمارس الأصوام الصعبة والدراسة المسهبة حتى عندما توجد الفرص المناسبة. غير أنه كثيرًا ما تحدث حوادث غالبًا ما تكون ضد إرادتنا على طول الخط مما يجعلنا نعجز عن تنفيذ قوانينا التي نحترمها. لهذا نحن نصلي إلى الرب لكي يهيئ لنا المكان والوقت حتى نمارس قوانينا. ولا يكفي هذا، ما لم يهبنا الله فرصًا لتنفيذ ما يمكننا صنعه، وذلك كقول الرسول أيضًا: “لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرَّةً ومرَّتين. وإنما عاقنا الشيطان” (1تس18:2).
أحيانًا يكون من المفيد لنا أن نُحرم من التداريب الروحية حتى أننا بغير رضانا نكسر القوانين المعتادة خاضعين لضعف الجسد، وبهذا فإننا بغير إرادتنا نتعلم صبرًا نافعًا…
7- غاية الله منا وعنايته بنا
لأن غاية الله من خلقته لا أن يهلك الإنسان بل يحيا إلى الأبد، وهذه الغاية لا تزال كما هي، وإذ يرى أن يشع فينا صلاحه ولو بشرارة خفيفة من الإرادة الصالحة، فإنه يضرمها كما لو كانت خارجة من الحجر الصوان الصلد الذي لقلوبنا. انه يثيرها ويتعهدها ويقويها بنسمته “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1تي4:2). لأنه “هكذا ليست مشيئَةً أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤُلاءِ الصغار” (مت14:18)…
الله صادق ولا يكذب إذ يقسم قائلاً: “حيّ أنا يقول السيد الرب أني لا أُسَرُّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقهِ ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة. فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟!” (حز11:33) إنه لا يريد ان يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر أن يخلصوا بل بعضهم؟!
فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته، وهو يشهد ضد كل واحد منهم يومًا فيوما قائلاً: “ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة، فلماذا تموتون” (حز11:33). وأيضًا: “كم مرَّةٍ أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت37:23)، “فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا” (إر 5:8).
إذن نعمة المسيح حاضرة بين أيدينا في كل يوم، وإذ هي تريد أن “جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” تدعو الجميع بغير استثناء قائلة: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11).
فلو لم يدعُ الجميع بل البعض فقط، لكانت النتيجة أن يكون الكل مثقلاً بالخطايا الأصلية (الجدية) والخطايا الفعلية، وإلا صار القول التالي غير صادق: “إذ الجميع أخطأُوا وأعوزهم مجد الله” (رو23:3)، وما كنا نصدق أن الموت قد عبر إلى جمع الناس (رو12:5).
وإذ الهالكون يهلكون بغير إرادة الله، لهذا يمكننا أن نقول بأن الله ليس بصانع الموت وذلك كشهادة الكتاب المقدس القائل: “إذًا ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرَّه” (حك13:1).
عناية الله في عدم استجابة بعض طلباتنا
لما كانت أغلب صلواتنا ترتفع ليس لأجل صالحنا بل نسأل العكس، لهذا تتأخر الاستجابة وأحيانًا تُرفض طلباتنا. كذلك يهبنا الرب – كطبيب غاية في الحنو – أن يجلب لنا بغير إرادتنا ما هو لصالحنا ونحن نظنه عكس هذا. وأحيانًا يعوق إشتياقاتنا المؤذية ومحاولاتنا المميتة، وبينما نندفع تجاه الموت يردنا إلى الخلاص، وينقذنا بغير معرفتنا من مخالب الجحيم.
8- الله المحب والإنسان قاسي القلب!
وصفت الكلمة الإلهية اهتمام الله وعنايته بنا على لسان هوشع النبي تحت رمز أورشليم كزانية، التي انحرفت في غيرة مملوءة جحودًا عندما قالت: “أذهبُ وراءَ محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربتي”، فتجيبها التعزية الإلهية لا لأجل تحقيق شهواتها إنما رغبة في خلاصها فتقول: “لذلك هاأنذا أسيّج طريقكِ بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها. فتتبع محبّيها ولا تدركهم وتفتش عليهم ولا تجدهم. فتقول أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذٍ كان خير لي من الآن” (هو5:2-7).
وقد وصف عنادنا واستهتارنا إذ نزدري به بروح متمردة عندما يحثنا إلى الرجوع المفيد – وذلك في المقارنة التالية: يقول الله: “قلت تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين، حقًّا إنهُ كما تخون المرأَة قرينها هكذا خنتموني” (إر19:3،20). فهو يقارن أورشليم (النفس البشرية) بامرأة زانية تطلب رجلاً. ويقارن محبته لنا برجل يموت في محبة عروسه.
فصلاح الله ومحبته التي يعلنها على الدوام لكل البشر، لا تُغلب إلا بكفنا عن الاهتمام بخلاصنا، وهروبنا من اهتمام الله بنا، كما لو أنها قُهرت بشرورنا، لذلك فإنها لا تُقارن إلا برجل محترق بنيران الحب من أجل امرأته، إذ يذوب من أجل محبته لها قدر ما يراها تستخف مستهينة به. إذن الحماية الإلهية حالة معنا على الدوام بغير انفصال.
عظيم هو حنو الخالق تجاه خليقته، الذي لا يرافقها حنوه فحسب، بل ويتقدمها!… عندما يرى فينا طيفًا خفيفًا من بداية الإرادة الصالحة، للحال يلهبه ويقويه ويتعهده لأجل خلاصنا، فينمي ما قد غرسه فينا أو ما يراه قد نشأ عن جهادنا، إذ يقول: “قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعدُ أنا أسمع” (إش24:65). وأيضًا “يتراءَف عليك عند صوت صراخك” (إش19:30). وفي صلاحه لا يلهمنا بالرغبات المقدسة فحسب، وإنما يخلق لنا فرصًا للحياة وللنتائج الصالحة، ويكشف اتجاه طريق الخلاص للذين ضلوا.
9- بين إرادتنا الصالحة ونعمة الله
لا يستطيع العقل البشري أن يدرك بسهولة كيف يعطي الرب الذين يسألونه، وكيف يُوجد للذين يطلبون منه ويفتح للقارعين، بينما من الجانب الآخر يعطي من لم يسألوه ويبسط يديه لغير المؤمنين والمجدفين، مناديًا ومقدمًا الدعوة للذين يقاومونه والمبتعدين عنه، جاذبًا البشر نحو خلاصهم، حاملاً الذين يرغبون في الخطية إلى ما هو على خلاف رغبتهم، إذ بصلاحه يقف في طريق المندفعين نحو الشر.
من يقدر بسهولة أن يرى كيف أن تمام خلاصنا يتم بإرادتنا إذ قيل: “إن شئْتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم تُؤْكَلون بالسيف لأن فم الرب تكلم” (إش19:1،20)، وفي نفس الوقت “ليس لمن يشاءُ ولا لِمَنْ يسعى بل لله الذي يرحم” (رو16:9)؟!
كيف يكون هذا، أن الله “سيجازي كلَّ واحدٍ حسب أعمالهِ” (رو6:2)، وفي نفس الوقت “لأن الله العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2)، و”لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد” (أف8:2،9)؟!
ما هذا أيضًا، إذ قيل: “اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. نقُّوا أيديكم أيها الخطاة وطهّروا قلوبكم يا ذوي الرأيين” (يع8:4)، وفي موضع آخر يقول: “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو44:6)؟
ما هذا الذي نجده، “مَهّدْ سبيل رجلك فتثبت كل طرقك” (أم26:4)، بينما نقول في صلواتنا: “سهّل قدامي طريقك” (مز 8:5)، و“تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك فما زلَّت قدمايَ” (مز5:17)؟
وما هذا الذي يدهشنا إذ يقول: “اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها واعملوا لأنفسكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدة، فلماذا تموتون؟” (حز31:18) وهو الذي وعدنا بهذا إذ يقول: “وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحمٍ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها” (حز19:11،20)؟!
ما هذا الذي يأمرنا به الرب قائلاً: “اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تُخلَّصي. إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!” (إر14:4)، بينما يسأله النبي قائلاً: “قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله اغسلني فأبيضَّ أكثر من الثلج” (مز51)؟!
ما هذا الذي قيل: “ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة”[2] (هو 12:10)، وقد قيل عن الله: “المعلم الإنسان معرفةً” (مز 10:94)، “الرب يفتح أعين العمي” (مز8:146)، أو ما نقوله في صلواتنا بالنبي: “أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت” (مز 3:13)؟!
في هذا كله إعلان عن نعمة الله وحرية الإرادة، حتى متى رغب إنسان في السلوك في طريق الفضيلة، يقف سائلاً مساعدة الرب. فلا يقدر أن يتمتع بالصحة الجيدة بإرادته، وبرغبته يتحرر من الضعف. لكن الأمر الصالح الذي نتوق إليه من جهة الصحة لا أناله ما لم يهبه الله الذي يمنحنا متعة الحياة ذاتها ويقدم لنا الصحة المملوءة نشاطًا.
من الواضح أنه خلال سمو الطبيعة التي وهبها لنا صلاح الخالق أحيانًا تثور فينا بداية الإرادة الصالحة، والتي لا نقدر أن نحققها عمليًا أو نتممها بغير قيادة الرب. ويشهد بذلك الرسول القائل: “فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحُسنَى فلست أجد” (رو 18:7).
10- بين حرية الإرادة وضعفها
يسند الكتاب المقدس حرية الإرادة فيقول: “فوق كل تحفظٍ احفظ قلبك لأن منهُ مخارج الحياة” (أم23:4)، ويشير الرسول أيضًا إلى ضعفها فيقول: “وسلام الله الذي يفوق كلَّ عقلٍ يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع” (في7:4).
يؤكد داود قوة الإرادة الحرة فيقول: “عطفت قلبي لأصنع فرائضك” (مز112:119)، وهو نفسه يعلمنا عن ضعفها بصلاته قائلاً: “أَمِلْ قلبي إلى شهاداتك لا إلى المكسب (الطمع)” (مز36:119)، وسليمان يقول: “ليميل بقلوبنا إليهِ لكي نسير في جميع طرقهِ، ونحفظ وصاياهُ وفرائضهُ وأحكامهُ التي أوصي بها آباءَنا” (1مل58:8). ويشير المرتل إلى قوة إرادتنا في قوله: “حِدْ عن الشرّ واصنع الخير، اطلب السلامة واسعَ وراءها” (مز14:34)، وتشهد صلواتنا عن ضعفها بقولنا: “اجعل يارب حارسًا لفمي. احفظ باب شفتيَّ” (مز3:141).
تظهر أهمية الإرادة من قول الرب: “انحلّي من رُبُط عنقكِ أيتها المسبية ابنة صهيون” (أش2:52)، ويتغنى النبي بضعفها قائلاً: “الرب يطلق الأسرى” (مز 7:146)، “حللتَ قيودي. فلك أذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 16:116، 17).
إننا نسمع في الإنجيل الرب ينصحنا أن نأتي إليه سريعًا بحرية إرادتنا: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11)، ويشهد الرب نفسه عن ضعفها بقوله: “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني” (يو44:6).
يشير الرسول إلى حرية إرادتنا بالقول: “هكذا اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9)، ويشهد يوحنا المعمدان عن ضعفها بقوله: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطِي من السماءِ” (يو27:3).
لقد أوصانا أن نحفظ نفوسنا بكل عناية، إذ يقول النبي: “احفظوا نفوسكم”، وبنفس الروح يشهد نبي آخر: “إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس” (مز1:127).
ويكتب الرسول إلى أهل فيلبي مظهرًا لهم حرية إرادتهم “تمّموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ”، ويردف مظهرًا ضعفها: “لأن الله العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة (مسرته)” (في12:2،13).
11- تلازم النعمة مع الإرادة البشرية
هكذا فإن مثل هذه الأمور تتشابك معًا بلا تمييز… حتى أن كثيرين ينشغلون بمثل هذه الاستفسارات الصعبة: هل الله يظهر حنوه لنا لأننا نظهر بداية إرادتنا الصالحة، أم أن الإرادة الصالحة تبدأ لأن الله يحنو علينا؟
كثيرون يعتقدون بأحد هذين الرأيين ويؤكدانه أكثر مما يجب فيسقطون في أخطاء مضادة. فإن قلنا أن بداية الإرادة الصالحة هي في سلطاننا، فماذا نقول عن بولس المضطهد؟ وماذا نقول عن متى العشار؟ إذ سُحب أحدهما إلى الخلاص وهو تواق إلى سفك الدم ومعاقبة البريء، والآخر سُحب وهو محب للعنف والنهب. وإن قلنا أن بداية إرادتنا تأتي دائمًا كنتيجة لوحي النعمة الإلهية، فماذا نقول عن إيمان زكا، وصلاح اللص الذي على الصليب، هذين اللذين بإرادتهما اغتصبا ملكوت السموات، ونالا قيادة خاصة بالدعوة؟
حقًا يبدو أن هاتين الاثنتين: أي نعمة الله وحرية الإرادة معارضتين لبعضهما، لكن في الحقيقة هما متفقتان معًا، ونحن نستنتج من نظام الصلاح أنه يلزمنا أن تكون لنا الاثنتان معًا متشابهتين، فإن نزعنا إحداهما نكون قد كسرنا نظام قانون الكنيسة. فعندما يشاهدنا الله مائلين نحو الخير، يلتقي بنا ويقودنا ويقوينا… إذ يقول: “يتراءَف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لك” (إش19:30)، “وادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني” (مز15:50). وإذا وجدنا غير راغبين في الخير أو أننا ننمو في البرود (الروحي)، يثير قلوبنا بنصائح مفيدة لكي ما تتجدد فينا الإرادة الصالحة أو تتكون فينا.
12- يجدر بنا ألا نتطلع إلى الله أنه خلق الإنسان بلا إرادة، أو أنه عاجز عن الصلاح، فلو كان قد سمح له بالإرادة الشريرة والقدرة على الشر دون الخير يكون بذلك قد حرمه من الإرادة الحرة، وعندئذ ماذا تعني العبارة التي نطق بها الرب مباشرة بعد سقوطه: “هوذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفًا الخير والشرَّ” (تك22:3)؟ لأننا لا نقدر أن نظن أنه كان قبلاً جاهلاً للخير تمامًا، وألا بهذا يكون الإنسان مخلوقًا غير عاقل كالحيوانات العجم، وهذا القول غريب تمامًا عن الكنيسة الجامعة.
علاوة على هذا فإن سليمان الحكيم يقول: “الله صنع الإنسان مستقيمًا” (جا29:7). بمعنى أنه على الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، “أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا29:7). إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما كان من قبل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه.
أخيرًا تكشف كلمات الرسول بوضوح أن البشرية لم تفقد معرفة الخير بعد سقوط آدم، إذ يقول: “لأَنهُ الأممُ الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤُلاءِ إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة، في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس” (رو14:2-16).
بنفس المعنى ينتهر الرب على لسان النبي غير الطبيعيين، الذين اختاروا بإرادتهم عمى اليهود، وخلال عنادهم جلبوا ذلك على أنفسهم “أيها الصمُّ اسمعوا، أيها العمي انظروا لتبصروا، مَنْ هو أعمى إلاَّ عبدي وأصمُّ كرسولي الذي أُرسِلهُ؟!” (إش18:42،19).
وحتى لا ينسبوا عماهم هذا إلى الطبيعة وليس إلى إرادتهم يقول: “أَخرِج الشعب الأعمى ولهُ عيون والأصمَّ ولهُ آذان” (إش8:43)، وأيضًا “الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون” (إر21:5)، والرب نفسه يقول في الإنجيل: “لأنهم مبصرين ولا يبصرون وسامعين ولا يسمعون ولا يفهمون” (مت13:13).
بهذا تتحقق نبوة إشعياء النبي القائل: “اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وابصروا إبصارًا ولا تعرفوا، غَلِّظ قلب هذا الشعب وثَقِّل أذنيهِ وأطمس عينيهِ لئَلاَّ يبصر بعينيهِ ويسمع بأذنيهِ ويفهم بقلبهِ ويرجع فيُشفَى” (إش9:6،10).
أخيرًا لكي تدرك أن إمكانية الصلاح كانت موجودة فيهم يوبخ الفريسيين قائلاً: “ولماذا لا تحكمون بالحقّ من قِبَل نفوسكم؟” (لو57:12) وهكذا ما كان يقول الرب هذا لو لم يعلم أنهم بحكمهم الطبيعي قادرون على تمييز ما هو صالح.
لهذا يلزمنا مراعاة عدم إشارة كل استحقاقات القديسين إلى الرب بطريقة لا ننسب فيها للإنسانية إلا ما هو شر وعناد. وهذا ما ندحضه بشهادة سليمان الحكيم، بل وبشهادة الرب نفسه. لأنه بعد الانتهاء من بناء الهيكل، وفي أثناء الصلاة نطق سليمان بهذا: “وكان في قلب داود أبي أن يبني بيتًا لاسم الرب إله اسرائيل. فقال الربُّ لداود أبي: من أجل أنهُ كان في قلبك أن تبني بيتًا لاسمي قد أحسنت بكونهِ في قلبك. إلاَّ أنك أنت لا تبني البيت بل ابنك الخارج من صلبك هو يبني البيت لاسمي” (1مل17:8-19). فهل هذا الفكر أو هذه الرغبة التي للملك داود ندعوه فكرًا صالحًا من الله، أم شريرًا من الإنسان؟! فلو كان صالحًا ومن الله، ما كان الله يوحي له بهذا الفكر المرفوض؟ ولو أنه فكر شرير من الإنسان، فلماذا مدحه الرب؟ إذن بقي أن هذا الفكر صالح ومن الإنسان.
هكذا يمكننا أن نتكلم بخصوص أفكارنا اليومية، فإنه لم يُوهب لداود وحده أن يفكر فيما هو صالح، إذ لا نُحرم نحن طبيعيًا أن نفكر ونتصور أمورًا صالحة. إذ لا نشك أنه بالطبيعة توجد فينا بعض بذور الصلاح، أوجدها حنو الخالق في كل نفس. لكن هذه البذور لا يمكن أن تنمو ما لم يرعها العون الإلهي، وكما يقول الرسول الطوباوي: “إذًا ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي يُنمِي” (1كو7:3)…
تبقى حرية الإرادة على الدوام في الإنسان، لا نهملها ولا نغالي فيها… لأنه ما كان للرسول أن يوصي قائلاً: “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” لو لم يعلم أنه يمكن للإنسان أن يتقدم في الخلاص أو يهمله. لكن لا يتصور البشر أنهم غير محتاجين للعون الإلهي في عمل الخلاص، إذ يكمل: “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2). وأيضًا، “لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوَّة مع وضع أيدي المشيخة” (1تي14:4)، “أذكّرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ” (2تي6:1).
لهذا فإنه في كتابته إلى أهل كورنثوس ينصحهم ويحذرهم لئلا بعدم إثمارهم يظهروا غير مستحقين لنعمة الله، قائلاً: “نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً” (2كو1:6). لأن قبول النعمة المخلصة لم يفقد سيمون شيئًا لأنه قبلها باطلاً، إذ لم يطع وصية بطرس المبارك الذي قال له: “فتُبْ من شرّك هذا واطلب إلى الله عسى أن يُغَفر لك فكر قلبك، لأني أراك في مرارة المرّ ورباط الظلم” (أع22:8،23).
فالنعمة تتقدم إرادة الإنسان، إذ قيل: “إلهي رحمتهُ تتقدمني” (مز 10:59). وأيضًا يتأخر الله لأجل صالحنا حتى يختبر رغباتنا، عندئذ إرادتنا هي التي تتقدم، إذ قيل: “في الغداة (الصباح) صلاتي تتقدمك” (مز 13:88)…
وهو يدعونا عندما يقول: “طول النهار بسطت يدَيَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاوم” (رو21:10). ونحن ندعوه إلينا عندما نقول: “كلَّ يوم بسطت إليك يدَيَّ” (مز 9:88 ).
وهو ينتظرنا كقول النبي: “ولذلك ينتظر الرب ليتراءَف عليكم” (إش 18:30). ونحن ننتظره عندما نقول له: “انتظارًا انتظرت الرب فمال إليَّ” (مز 1:40)، و”رجوت خلاصك يا رب ووصاياك عملت” (مز 166:119).
هو يقوينا عندما يقول: “وأنا أنذرتهم وشدَّدت أذرعهم وهم يفكرون عليَّ بالشر” (هو 15:7). ويحثنا أن نقوي أنفسنا بقوله: “شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبّتوها” (إش 3:35). ويصرخ الرب يسوع: “إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب” (يو37:7). كما يصرخ النبي إليه: “تعبتُ من صراخي، يبس حلقي. كلَّت عينايَ من انتظار إلهي” (مز 3:69).
الرب يطلبنا عندما يقول: “طلبتهُ فما وجدتهُ دعوتهُ فما أجابني” (نش 6:5). والعروس أيضًا تطلبه، إذ تبكي بدموع قائلة: “في الليل على فراشي طلبت من تحبهُ نفسي، طلبتهُ” (نش 1:3).
13- الجهاد لا يفقد النعمة مجانيتها
هكذا تتعاون النعمة على الدوام مع إرادتنا لأجل نفعها، وتساعدها في كل شيء وتحميها وتدافع عنها، وذلك بطريقة يظهر فيها أنها تبحث عن بعض الجهاد الذي للإرادة الصالحة، حتى لا تبدو أنها تهب عطاياها للإنسان الخامل المتراخي. وهي تبحث عن فرص لكي تكشف للإنسان الخامل أنه باستكانته يفقد جود النعمة. مع هذا تُحسب النعمة مجانية، لأنه من أجل جهاد تافه تُمنح بغنى أمجاد الخلود التي لا تُقدر وبركات الأبدية.
ليس لأن إيمان اللص جاء أولاً يقول أحد أن عطية السكنى في الفردوس لم تمنح له مجانًا. ولا يمكننا أن نقول أنه بسبب كلمات الملك داود التي نطق بها تائبًا قائلاً: “أخطأْت إلى الرب” أنه بغير مراحم الله (المجانية) قد وهب له الغفران من خطيتين خطيرتين، إذ وهب له أن يسمع من النبي ناثان: “الربُّ أيضًا قد نقل عنك خطيتك” (2صم13:12). حقيقة إنه أضاف القتل إلى الزنا وهذا بالتأكيد بإرادته الحرة، لكن انتهار النبي له هو من حنو نعمة الله. كذلك انسحاقه واعترافه بالخطأ هذا من عمله هو، أما المغفرة عن هذه الخطايا في لحظة من الزمن فهذا عطية من الرب الرحيم.
ماذا نقول عن هذا الاعتراف المختصر الذي نطق به داود وعن المكافأة الإلهية السرمدية منقطعة النظير، إذ نرى الرسول المبارك يثبت أنظاره بسهولة إلى عظمة المكافأة العتيدة مستهينًا باضطهاداته غير المحصية، قائلاً: “لأن خفَّة ضيقتنا الوقتيَّة تنشئُ لنا أكثر فأكثر ثقلَ مجدٍ أبديًّا” (2 كو17:4). هذا ما يؤكده في موضع آخر قائلاً: “فإني أحسب آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا” (رو18:8). هكذا مهما بلغ جهاد الضعف الإنساني، لن يبلغ (بذاته) إلى المكافأة المقبلة. ووجود جهاده لا ينفي عن النعمة الإلهية كونها مجانية.
لذلك فإن معلم الأمم قد بلغ درجة الرسولية بنعمة الله إذ يقول: “بنعمة الله أنا ما أنا”، وفي نفس الوقت يعلن أنه قد وافق النعمة الإلهية قائلاً: “ونعمتهُ المعطاة لي لم تكن باطلةً بل أنا تعبت أكثر من جميعهم” (1كو10:15). فعندما يقول: “أنا تعبت” يظهر جهاد إرادته، وعندما يقول: “ولكن لا أنا بل نعمة الله” يشير إلى قيمة الحماية الإلهية. وعندما يقول: “التي معي” يؤكد تعاون النعمة معه عندما لا يكون في كسل أو إهمال بل عاملاً ومجاهدًا.
14- كيف يختبر الله قوة إرادة الإنسان عن طريق التجربة؟[3]
ا. هذا أيضًا ما نقرأ عنه، أن البرّ الإلهي قد أعان أيوب الأمين بحق في مصارعته، عندما ناهضه الشيطان في معركة فريدة. لكن لو تقدم أيوب ضد عدوه، ليس بقوته إنما بحماية نعمة الله مسنودًا بالعون الإلهي من غير أي احتمال من جانبه، فانه في خضوعه لهذه التجارب المتعددة… كم يكون للشيطان أن ينطق بعدلٍ مفتريًا بما سبق أن قاله قبلاً: “هل مجانًا يتقي أيوب الله؟! أَليس أنك سيَّجت حولهُ… حول كل ما لهُ من كل ناحية؟! ولكن ابسط يدك الآن” أي اسمح لي أن أحاربه هو “فإنهُ في وجهك يجدّف” (أي 9:1-11).
لكن إذ لم يستطع العدو المفتري أن يحتج بهذا بعد المعركة، لأنه انهزم بقوة أيوب وليس بقوة الله[4]، لا بمعنى أن نعمة الله فارقت أيوب، لأنها هي التي أعطت للمجرب سلطانًا أن يجرب في الحدود التي كانت ترى فيها أن أيوب يقدر أن يقاومها، وفي نفس الوقت لم تحميه النعمة من هجمات العدو بطريقة تنزع فيها فضيلته وجهاده، إنما فقط هي تعينه. بمعنى أنها لا تسمح لذلك العدو الذي هو في غاية القسوة أن ينزع عنه عقله أو يغرقه أثناء ضعفه ببث أفكار فوق طاقته أو النزول معه في نزاع غير متساوٍ معه.
ب. أحيانًا يرغب الرب أن يمتحن إيماننا لكي يتقوى ويتمجد أكثر، وذلك كما في مثال قائد المئة الوارد في الإنجيل، إذ علم الرب أنه سيشفى خادمه بنطقه كلمة، ومع هذا اختار الرب أن يقدم له هذه الوسيلة وهي ذهابه إليه بالجسد، قائلاً: “أنا آتي وأشفيهِ” (مت7:8). وإذ غُلب قائد المائة من هذا العرض الذي قدمه الرب، قال بإيمان مملوء غيرة وحرارة: “يا سيّد لَستُ مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي، لكن قُلْ كلمًة فيبرأَ غُلامي (عبدي)” (مت8:8)، فتعجب الرب منه ومدحه… فما كان يمكن أن يوجد له أساس للمديح والاستحقاق لو أن السيد المسيح قد ميزه هكذا عن الذين آمنوا بما قد وهبه هو به (أي لو لم يكن لقائد المئة نصيب في الجهاد من جانبه).
ج. نقرأ عن التجربة التي بقصد اختبار الإيمان التي جلبها البر الإلهي على العظيم في الآباء، إذ قيل: “وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم” (تك1:22)، لأن البر الإلهي أراد أن يمتحن ليس فقط الإيمان الذي أوحاه الله إليه… بل وليظهر حرية إرادته. لذلك فإن ثبات إيمانه لم يتزكى عبثًا، وقد جاءت نعمة الله التي فارقته إلى لحظة لتزكيته، جاءت تعينه إذ قيل له: “لا تمدَّ يدك إلى الغلام ولا تفعل بهِ شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك وحيدك عني” (تك12:22).
د. هذا النوع من التجربة الذي يمكن أن يحل بنا لأجل تزكيتنا أخبرنا عنه معطي الشريعة في سفر التثنية. “إذا قام في وسطك نبيّ أو حالم حلمًا وأعطاك آيةً أو أعجوبةً ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلَّمك عنها قائلاً: لنذهب وراءَ آلهةٍ أخرى لم تعرفها ونعبدَها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الربَّ إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم” (تث1:13-3). هل عندما يسمح الله بأن يقوم مثل ذلك النبي أو يحدث ذلك الحلم، نقول بأنه سيحمي هؤلاء الذين يُختبرون في إيمانهم بطريقة لا يكون لهم فيها حرية إرادة، حيث يحاربون المجرب بقوتهم؟ وما الحاجة لتجريبهم إن كان الله يعلم أنهم هكذا ضعفاء وواهنين حتى أنهم لا يقدرون بقوتهم أن يقاوموا المجرب؟ بالتأكيد ما كان للبر الإلهي أن يسمح لهم أن يُجربوا ما لم يعلم أن فيهم قوة معادلة للمقاومة، بها يمكن أن يحكم عليهم حكمًا عادلاً إن وجدوا مستحقين للعقاب أو التكريم.
يتكلم الرسول أيضًا عن نفس النتيجة قائلاً: “إذًا مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط. لم تُصِبكْم تجربة إلاَّ بشريَّة. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو12:10، 13). لأنه عندما قال “مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط” أعطى إرادة حرة من جانبه، إذ يعلم بالتأكيد أنه بعد ما نال النعمة يمكن أن يثبت بالجهاد أو يسقط خلال الإهمال. لكن عندما أضاف: “لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون” يوبخ ضعفهم وخوار قلبهم الذي لم يتقوَ بعد، إذ لم يستطيعوا بعد أن يقاوموا هجمات قوات الشر الروحية، تلك القوات التي يحارب ضدها هو وغيره من الكاملين كل يوم، إذ يقول لأهل أفسس: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحية في السماويَّات” (أف12:6). وعندما أضاف: “ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون” بالتأكيد لا يعني أنه لا يدعهم يجربون، إنما لا يُجربوا فوق طاقتهم. فالعبارة الأولى تشير إلى إرادة الإنسان الحرة والأخرى إلى نعمة الله الذي يلطف من عنف التجارب.
إذن في كل هذه العبارات توجد براهين أن النعمة الإلهية تعمل في إرادة الإنسان لا لكي تحميها وتدافع عنها في كل الأمور بطريقة تجعلها لا تدافع عن نفسها بجهادها ضد الأعداء الروحيين، فينسب النصر إلى نعمة الله والهزيمة إلى ضعف الإرادة…
مثال توضيحي
إن أردنا أن نوضح مراحم خالقنا التي لا نظير لها من أمور أرضية، ليست مساوية لها في الحنو بل لمجرد التوضيح، فإنها تشبه مربية غاية في الاهتمام تحمل طفلاً في حضنها لمدة طويلة فلكي، تعلمه المشي عوض الحبو، تساعده بمد يدها اليمنى لكي يستند عليها أثناء تبديل قدميه، وفي لحظة تتركه قليلاً، فإذا ما رأته يتطوح بشدة تمسك به بسرعة، وإذ تراه يسقط تخطفه وترفعه وتحميه من السقوط أو تسمح له أن يسقط سقطة خفيفة لترفعه بعدما يكبو. لكن عندما تربيه حتى إلى الصبوة أو قوة الشباب أو الرجولة المبكرة فإنها تعطيه بعض الأحمال والأثقال لا لكي تهلكه إنما لتمرنه، وتسمح له أن يتنافس مع من هم في عمره.
كم بالأكثر الأب السماوي الذي هو أب الجميع يعرف كيف يحمل الإنسان في حضن نعمته لكي ما يدربه على الفضيلة أمام نظره بواسطة تدريب إرادته الحرة، ومع ذلك يساعده في جهاده ويسمع له عندما يدعوه، وأحيانًا ينتشله من المخاطر حتى بغير معرفته.
15- أنواع دعوة النعمة للبشرية
بهذا يتضح بوضوح أن الله بواسطة أحكامه التي لا تُستقصى وطرقه البعيدة عن الفحص (رو33:11) يجذب البشرية إلى الخلاص. ويمكننا أن نبرهن على هذا بأمثلة من الدعوات الواردة في الأناجيل.
– اختار الرب أندراوس وبطرس وبقية التلاميذ بواسطة حنو نعمته المجانية، بينما كانوا لا يفكرون في شفائهم وخلاصهم.
– حينما سعى زكا – قبل إيمانه – ليرى الرب معالجًا قصر قامته بإعتلائه الجميزة، فلم يستقبله الرب فحسب، بل وكرمه وشرفه بالذهاب معه إلى مسكنه.
– بولس أيضًا بغير إرادته وفي مقاومته جذبه الرب إليه.
– وآخر أمره الرب أن يتبعه ويلتصق به تمامًا، حتى عندما سأله أن يؤجل ذلك قليلاً ليدفن والده لم يسمح له بذلك.
– بالنسبة لكرنيليوس إذ كان على الدوام يثابر على الصلوات والصدقات أظهر له طريق الخلاص كمكافأة له، وبواسطة زيارة الملاك له أمره أن يستدعي بطرس ويتعلم منه كلمات الخلاص التي بها يمكن أن يخلص هو وكل بيته.
هكذا تهب حكمة الله من جوانب متعددة الخلاص للبشر بطرق متنوعة وحنوه الذي لا يستقصى، ويعلن لكل واحد حسب طاقته نعمة جوده، حتى أنه يريد أن يهب شفاءه ليس حسب مقياس محدد لقوة جلاله، إنما حسب مقاييس الإيمان التي يجدها في كل واحد، أو حسبما يعطي هو بنفسه كل واحد. لأنه عندما آمن شخص أنه لأجل برئه من البرص تكفيه إرادة المسيح وحدها لشفائه قال الرب: “أريد فاطهر” (مت3:8). وعندما توسل آخر أن يأتي الرب ويقيم ابنته الميتة عن طريق أن يمسكها بيده، دخل الرب منزله كما ترجى ذاك ووهب له ما قد سأله. وآخر آمن أن ما هو رئيسي لخلاصه يتوقف على مجرد أمر (كلمة) من فم الرب وأجاب: “قُلْ كلمًة فيبرأَ غُلامي (خادمي)” (مت8:8). قال له: “اذهب وكما آمنت ليكن لك” (مت13:8). وآخرون إذ ترجوا الشفاء من لمس هدب ثوبه وهبهم عطية الشفاء العظيمة.
البعض عندما سألوه وهبهم الشفاء من أمراضهم. وآخرون قدم لهم الشفاء من غير أن يسألوه، وآخرون حثهم لكي يطلبوا ذلك قائلاً: “أَتريد أن تبرأَ؟” (يو6:5)، وآخرون عندما كانوا بلا رجاء أعانهم من تلقاء نفسه. إنه يطلب إرادة البعض قبل أن يشبع احتياجاتهم قائلاً: “ماذا تريدان أن أفعل بكما” (مت32:20). وبالنسبة لأخرى لم تكن تعرف الطريق لتحقق ما ترغب فيه، أظهر لها الطريق في حنو قائلاً: “إن آمنتِ ترين مجد الله” (يو40:11).
سكب أعماله الشفائية علي البعض كقول الإنجيلي: “وشفى مرضاهم” (مت14:14). لكن بالنسبة لآخرين توقفت عطايا الله التي لا تحد إذ قيل: “ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوةً واحدة… وتعجب من عدم إيمانهم” (مر5:6،6). وهكذا يظهر أن جود الله فعلاً يتوقف على طاقة الإيمان حتى أنه قيل: “بحسب إيمانكما ليكن لكما” (مت29:9)، ولآخر قيل: “اذهب وكما آمنت ليكن لك” (مت13:8)، ولآخر: “ليكن لكِ كما تريدين” (مت28:15)، وأيضًا: “إيمانك قد شفاك” (لو42:18).
16- النعمة الإلهية تسمو بالحدود الضيقة التي للإيمان البشري
ليته لا يتصور أحد أننا قدمنا هذه الأمثلة لكي ننسب النصيب الأكبر من خلاصنا على إيماننا نحن وذلك كما يظن البعض بتصورات أرضية، هؤلاء الذين ينسبون كل شئ لحرية الإرادة، قائلين أن نعمة الله توزع حسب استحقاقات كل إنسان. وإنما نؤكد بوضوح رأينا الذي يعلن بجلاء بغير لبس أن نعمة الله غاية في السمو والوفرة وأحيانًا توسع الحدود الضيقة لنقص الإيمان البشري.
نذكر ما حدث في حالة الحاكم الوارد في الإنجيل، الذي إذ آمن أنه من الأسهل أن يشفي له ابنه من مرضه عن أن يقيمه من الموت مستعجلاً الرب ليذهب إليه في الحال قائلاً: “يا سيّد انزل قبل أن يموت ابني” (يو48:4)، ولو أن الرب وبخه لقلة إيمانه بهذه الكلمات: “لا تؤْمنون إن لم تروا آياتٍ وعجائب” إلا أنه لم يعلن نعمة لاهوته قدر ضعف إيمان الرجل، ولا نزع مرض الحمى المميت بحضور الرب بالجسد كما أراد الرجل، إنما بكلمة قوته قال له: “اذهب. ابنك حيّ” (يو50:4).
نقرأ أيضًا أن الرب سكب من غنى نعمته الغنية في حالة شفاء المفلوج، الذي وإن كان قد سأل من أجل شفاء جسده إلا أنه وهبه شفاء النفس أولاً بقوله: “ثِقْ يا بُنَيَّ. مغفورة لك خطاياك” (مت2:9). وإذ لم يصدقه الكتبة أنه يقدر أن يغفر خطايا البشر، شفى أعضاء الرجل بقوة كلمته نازعًا مرض الفالج بالقول: “لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟ ايُما أيسر أن يقال مغفورة لكي خطاياك. أو أن يقال قُمْ وأمشِ. ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذٍ قال للمفلوج: قُم أحمل فراشك واذهب إلى بيتك” (مت4:9-6).
بنفس الطريقة في حالة الإنسان الذي كان ملقيًا 38 سنة بجوار حافة البركة، مترجيًا الشفاء من حركة الماء، فقد أظهر غنى جوده له من غير أن يسأله. فعندما رغب أن يقيمه قال له: “أَتريد أن تبرأَ” (يو6:5). وعندما أشتكى من عجز المعونة البشرية قائلاً: “ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرَّك الماءُ” (يو7:5)، وهبه الرب في حنوه العفو عن عدم إيمانه وجهله وأبرأه وأعاده إلى صحته الأولى، ليس كما كان يتوقع، بل كما يريد الرب نفسه قائلاً له: “قُمْ. احمل سريرك وأمشِ” (يو8:5)[5].
ملخص المبادئ
– الطهارة الداخلية عطية مجانية تهبها النعمة الإلهية، وهي لا تُعطى إلا للمجاهدين المثابرين بقلب منسحق.
– نعمة السيد المسيح حاضرة بين أيدينا كل يوم… غايتها وعملها أن تجتذب كل الناس لكي يخلصوا.
– الجهاد والنعمة طريق واحد… فهما متلازمان لا يمكن فصلهما، لأن الجهاد الحقيقي لا يمكن القيام به بغير النعمة، ولا النعمة تعمل في المتراخين… فلا عجب إن رأينا الله يأمرنا بوصايا معينة لتنفيذها… وفي نفس الوقت نطلب نحن في جهادنا أن ينفذ الله ما أمرنا به في حياتنا. ونذكر في ذلك الأمثلة التالية:
1- الله يأمرنا: “اقتربوا إلى الله” (يع8:4)، و “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين” (مت28:11)، وفي نفس الوقت لا يقدر أحد أن يأتي إليه ما لم يجتذبهُ الآب (يو44:6).
2- الوصية تقول: “مَهّدْ سبيل رجليك” (أم26:4)، ونحن نطلب من الله أن يسهل لنا الطريق (مز8:5).
3- الوصية تأمر: “اطرحوا عنكم كل معاصيكم” (حز31:18) ونحن نطلب عمل الله القادر وحده أن ينزع عنا القلب الحجري (حز19:11،20)
4- الرب يأمر: “اغسلي من الشر قلبكِ” (إر14:4)، ونحن نصرخ إليه: “طهّرْني بالزوفا فأطهر” (مز7:51).
5- الوصية تقول: “ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة” (هو12:10)، والكتاب يعلمنا أن الله هو “المعلم الإنسان معرفةً” (مز10:94).
6- الوصية تطلب: “فوق كل تحفظٍ احفظ قلبك” (أم23:4)، مع أن “سلام الله الذي يفوق كلَّ عقلٍ يحفظ قلوبكم” (في7:4).
7- الوصية تنادي: “انحلّي من رُبُط عنقكِ” (إش2:52)، مع أن “الرب يطلق الأسرى” (مز7:146).
8- باختصار يطالبنا الرب على لسان رسوله: “اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9)، وفي نفس الوقت يقول: “لا يقدر أحد أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطي من السماء”.
– على كل فإن عمل الله لا يقيّد، بعيد عن الفحص وفوق كل استقصاء، ولا يمكننا أن نقول أيهما يبدأ أولاً الجهاد أم النعمة، ولا تتوقف نعمة الله في سخائها على طريقة واحدة فهناك طرق كثيرة منها:
1- اختيار الله – بحنو نعمته المجانية – أندراوس وبطرس.. من غير أن يفكروا في شفائهم وخلاصهم.
2- اختار زكا لأنه كان يناهض ويبحث ليرى يسوع من هو.
3- جذب بولس بغير إرادته وهو مقاوم للرب.
4- جذب آخر ليتبعه مانعًا إياه أن يذهب ويدفن أباه.
5- أعلن ذاته ورسالته لكرنيليوس من أجل مثابرته على الصلوات والصدقات.
– النعمة الإلهية تهب الإنسان حسب طاقة إيمانه.
1- فمن كان يكتفي أن يريد الرب له الشفاء ليُشفى كان يقول له: “أريد فأطهر”.
2- ومن كان يطلب كلمة من فم الله يقول له: “كما آمنت يكون لك”.
3- ومن يؤمن بلمس هدب ثوبه يشفى، هكذا حسب إيمانه هذا يشفى.
4- ومن يطلب أن يأتي الرب إلى بيته ويمسك بيد مريضه… هكذا قدر إيمانه يهبه.
– أحيانًا توسع النعمة حدود إيماننا الضيقة:
1- فالرجل الذي طلب من الرب أن يسرع إلى بيته لئلا يموت ابنه… أعطاه شفاء ابنه من غير أن يذهب معه.
2- ومرثا التي قالت له: “لو كنت ههنا لم يَمُتْ أخي” (يو21:11)، أقام لها لعازر أخيها بعدما أوضح لها إمكانياته أنه هو القيامة.
– أحيانًا يهب الرب نعمته من غير أن نسأله… كما فعل مع مريض بيت حسدا الذي ذهب إليه بنفسه وسأله: “أتريد أن تبرأ؟”.
وأحيانًا يمتنع عن تقديم نعمته بسبب عدم الإيمان.
– أخيرًا فإن نعمة الله تعمل في المجاهدين وتعينهم، دون أن تفقدهم حرية إرادتهم حتى يتكللوا، هذا الجهاد مهما بلغ قدره لا ينفي عن النعمة مجانيتها.
_______________________________________
[1] القَمَص هو الجراد في أول خروجه من البيضة، وبعدما يبدأ يزحف يسمى “الزحَّاف”، وبعد ما ينبت له أجنحة يسمى “الغوغاء”، وإذ يصير في كامل نضجه يسمى “الطيار”.
[2] النص البيروتي: “ازرعوا لأنفسكم بالبر”.
[3] حملت بعض العبارات مغالاة من جهة إرادة الإنسان وعلاقتها بنعمة اللّه.
[4] هذا النص من ضمن النصوص التي جعلت البعض يتهمونه بالـ Semi – pelagianism غير أنه يظهر من المقال في مجمله أنه لا يقصد تجاهل نعمة اللّه وقوته. لكن خاف البعض لئلا يقتطف البيلاجيون بعض عباراته منفردة عن المقال ويعتمدون عليها في تأكيد اتكالهم على أعمال الإنسان فقط.
[5] تحدث بعد ذلك عن عناية اللّه التي لا تستقصي وكيف أنه بطرق متنوعة وأحكام لا تفحص يبحث عن الإنسان ويطلبه ويدافع عنه. ويعتبر ذلك ملخص للمناظرة كلها لهذا لم أترجمها منعًا للإطالة والتك
المناظرة الرابعة عشر
المعرفة الروحية للأب نسطور
1- مقدمة
يقتضي طريقنا منا أن نتبع تعاليم الأب نسطور، رجل ممتاز في كل شيء وخاصة في المعرفة العظيمة. هذا الأب لما رآنا قد استظهرنا غيبًا بعض أجزاء من الكتاب المقدس، ورغبنا في أن يشرحها لنا، خاطبنا بهذه الكلمات:
يوجد في هذا العالم عدة أنواع من المعرفة تختلف اختلافًا شاسعًا فيما بينها، كما هو في مختلف الفنون والعلوم. فكل الفنون أو العلوم الضارة منها أو النافعة في هذه الحياة الزمنية لا يوجد واحد منها ليس له نظام أو وسيلة بها يتفهمها الذين يرغبون في تعلمها. فإن كان لهذه الفنون وسائل معينة يلزم إتباعها لأجل انتشارها، فكم بالأحرى يكون الأمر بالنسبة لانتشار ديانتنا والتعبير عنها، التي تقوم على التأمل في الأسرار الخفية غير المنظورة، ولا تطلب نفعًا زمنيًا، بل مكافأة أبدية، أن تعتمد على نظام ثابت ونسق معين. والمعرفة الخاصة بها لها جانبان:
الجانب الأول: المعرفة العملية التي ننالها بتقدمنا في الفضيلة والتنقي من الأخطاء.
الجانب الثاني: المعرفة التي تحوي التأمل في الإلهيات، ومعرفة الأفكار التي هي غاية في القداسة.
2- بلوغ المعرفة الروحية
من يبغي الوصول إلي هذه المعرفة النظرية (التأمل في الإلهيات)، يلزمه أولاً أن يتبع المعرفة العملية (الإختبارية) بأقصى ما يمكن، لأن هذه المعرفة العملية يمكن أن تُطلب دون النظرية، أما النظرية فيستحيل اقتنائها بدون العملية. إذ يوجد مراحل معينة محددة ومرتبة يصعد بها تواضع الإنسان إلي العلي… فلا يقدر أن يطير الإنسان إلي المرحلة الثانية ما لم يبدأ بالأولى. باطلاً يجاهد الإنسان من أجل رؤية الله، ما لم تزول عنه آثار الخطية، لأن “الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة. لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم” (حك 4:1، 5).
3- الكمال العملي يعتمد على نظام مزدوج
الكمال العملي يعتمد على نسق مزدوج:
الوسيلة الأولى: هي أن نتعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها.
الوسيلة الثانية: هي أن نكتشف تدبير الفضائل، ونُشكل أذهاننا بكمال الفضائل، حتى تطيعها أذهاننا، ليس كمن هي مجبرة على هذا، ولا كمن يخضع لنفوذ قاسٍ، إنما تبتهج بطبيعتها الصالحة وتنجح فيها، وتصعد ذلك الطريق الضيق الصعب الذي للفرح الحقيقي. لأنه كيف يمكن للإنسان الذي لا ينجح في فهم طبيعة أخطائه ولا يحاول أن يقطع دابرها أن يقتني فهم الفضائل، التي هي المرحلة الثانية من الاختبار العملي، أو يتفهم الأسرار الروحية والأمور السماوية التي هي المرحلة العالية الخاصة بالمعرفة النظرية؟
من الضروري لنا أن نؤكد أنه لا يستطيع الإنسان أن يتقدم إلي العلا ما لم يرتفع بعد إلي الأمور التي هي أقل، وبالتالي يعجز عن إدراك الأمور التي هي من خارج (أي التي تفوق إدراكه الحالي) ما لم ينجح أولاً في فهم ما هو في متناول فهمه.
يجدر بنا أن نعرف أن نبذل جهدًا بغرض مزدوج: لأجل سحق الرذيلة، ولأجل نوال الفضيلة. هذا القول ليس من تخميننا، وإنما نتعلمه من كلمات الله التي وحدها تعرف قوة عمله ووسيلته، إذ يقول: “لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” (إر10:1). إنه يشير إلي أن التخلص من الأمور المهلكة يتطلب منا أربعة أمور: تقلع، وتهدم، وتهلك، وتنقض. أما تنفيذ ما هو صالح ونوال نصيب في البر فيحتاج فقط إلي أن “تبني وتغرس”. هذا يشير بشهادة كاملة أن تمزيق الشهوات المتأصلة التي للجسد والروح ونزوعها أصعب من إدخال الفضائل الروحية وزرعها.
4- أنواع طرق المعرفة العملية
هذه الحياة العملية، التي قيل عنها أنها تتأسس على تدبير مزدوج (أي هدم الأخطار وبناء الفضيلة) تتوزع بين أعمال واهتمامات كثيرة. فالبعض يركزون كل غرضهم في التمتع بحياة النسك الخفية ونقاوة القلب، وذلك مثل إيليا وإليشع في القديم، وأنطونيوس وآخرون اقتدوا به في أيامنا هذه. هؤلاء التصقوا بالله تماماً خلال سكون الوحدة. والبعض بذلوا كل جهدهم واهتمامهم في نظام الاخوة وحرصوا على حياة الشركة. وذلك مثل الأب يوحنا[1] الذي ظهر حديثاً، والذي رأس ديرًا كبيرًا بجوار مدينة Thmuis. وآخرون مشابهون في الاستحقاقات كانوا بارزين مثل الرسل. والبعض يفرحون بخدمة إضافة الغرباء والزائرين، المملوءة كرمًا ورحمة، الأمر الذي به أرضى إبراهيم ولوط الرب. وفي وقتنا هذا يوجد مقاريوس المبارك، رجل فريد من جهة كرمه واحتماله، هذا الذي كان يقوم بخدمة بيت الضيوف الذي في الإسكندرية بطريقة جعلته لا يقل عن أولئك الذين انسحبوا إلي البرية. والبعض اختاروا الاهتمام بالمرضي. والبعض كرسوا حياتهم للتشفع عن الآخرين، حيث يقدمون صلواتهم من أجل المتضايقين والحزانى. والبعض كرسوا حياتهم للتعليم أو لإعالة المساكين وهكذا ظهروا بين الرجال الممتازين بسبب حبهم وصلاحهم.
5- المثابرة فيما اختاره الإنسان
من الأفضل والنافع للإنسان أن يجاهد بكل طاقته لينال كمالا في العمل الذي بدأ فيه واختاره حسب النعمة التي نالها. وإذ يمدح فضائل الآخرين ويُعجب بها لا ينحرف عن الطريق الذي اختاره من بين الطرق. وكما يقول الرسول بأن جسد الكنيسة واحد، لكن الأعضاء كثيرة “ولكن ليس جميع الأعضاءِ لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعضٍ كلَّ واحدٍ للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أَنبوَّة فبالنسبة إلي الإيمان أم خدمة ففي الخدمة. أم المعلّم ففي التعليم. أم الواعظ ففي الوعظ. المُعطِي فبسخاءٍ. المدبّر فباجتهادٍ. الراحم فبسرورٍ” (رو4:12-8).
لأنه لا يقدر عضو أن يقوم بعمل الأعضاء الأخرى، فالعين لا تقدر أن تقوم بعمل اليد، ولا الأنف بعمل الأذن. هكذا ليس الكل رسلاً، ولا الكل أنبياء، ولا الكل معلّمين، وليس للكل مواهب شفاء، ولا الكل يتكلم بألسنة، ولا الكل يفسر (1كو28:12).
6- مضار التشتت في طريق الحياة الروحية
أما أولئك الذين لم يستقروا بعد على الطريق الذي يسلكونه، هؤلاء متي سمعوا أحدًا يمدح فضائل معينة يثيرهم هذا المديح محاولين تنفيذها. وفي هذا الضعف البشرى يشتتون جهودهم بلا هدف. لأنه توجد استحالة أن يتفوق الإنسان في كل الأعمال الصالحة التي سبق أن عددتها. فإذا ما اشتاق إنسان إلي اقتنائها جميعًا بدرجة متساوية، يصل بالتأكيد إلي هذه النتيجة: بينما هو مجتهد في كل عمل، لا ينجح في أي واحد منها، بل يخسر بدلا من أن يكسب وذلك بسبب التغيير والتبديل بينها. ففي طرق كثيرة يتقدم البشر تجاه الله، وهكذا يلزم على كل إنسان أن يكمل ما ثبّت أنظاره تجاهه من غير أن يغير طريقه، حتى يصير كاملاً في طريقة الحياة التي له.
7- … ففي بعض الأمور التي يصنعها البعض بحق يكون من الخطأ أن يقلدها الآخرون، فما قد يفيد البعض قد يضر الغير. ولكي ما نعطي مثالاً نذكر الأعمال الصالحة التي اعتاد الأب يوحنا أن يذكرها لا للاقتداء بها بل لإعجابه بها… فقد جاء إليه رجل علماني وقدم له بكور محصوله. وفي أثناء حضوره كان عند الأب رجل متسلط عليه شيطان في منتهى العنف. هذا الشخص ازدرى بأوامر الأب يوحنا ورفض الشيطان أن يترك الجسد الذي سكن فيه، ولكن بمجيء الرجل العلماني خاف الشيطان للحال وهرب في خزي عظيم… تعجب الشيخ (الأب يوحنا) كثيرًا من أجل النعمة الواضحة التي لهذا الرجل، ومما زاد من دهشته أنه رآه علمانيًا. فبدأ يسأله بتدقيق عن طريقة سلوكه وحياته. وإذ أجابه أنه يعيش في العالم ومرتبط برباط الزوجية، تأمل يوحنا الطوباوي عظمة فضيلته ونعمته، وسأله بالأكثر مستفسرًا عن طريقة سلوكه في الحياة. فأعلن له الرجل أنه فلاح يجد طعامه بالتعب اليومي بصعوبة وليس له أي عمل صالح يقوم به سوى أنه لا يذهب قط في الصباح إلي الحقل ولا يعود إلي بيته ما لم يقدم الشكر للّه الذي يهبه طعامه اليومي. ولا يمد يده إلي المحصول ما لم يقدم البكور والعشور، ولا يجر ثوره خارج حدود حقله ما لم يكممه حتى لا يلحق جاره أية خسارة بسبب إهماله… وتحت الإلحاح في الاستفسار اعترف الرجل أنه كان يرغب في حياة الرهبنة، وقد أجبراه والداه على الزواج منذ اثنتي عشر عامًا… فحفظ زوجته بتولاً في بيت العذارى. ولما سمع الشيخ اندهش، وعرف أنه ليس عبثاً أن الشيطان لم يحتمل حضوره.
بالرغم من أن الأب يوحنا كان يريد أن يخبر بهذه القصة متعجبًا منه بشدة، لكنه لم ينصح أي أحد أن يصنع هذا. لأنه ما هو حق بالنسبة لإنسان قد يكون خطأ بالنسبة لغيره ويعرضه للخطر. كما لا يمكن للجميع أن ينفذوا ما قد وهبه الله لقليلين كهبة خاصة.
8- عن المعرفة الروحية
لنعد إلي شرح “المعرفة” موضوع هذه المناظرة. كما قلنا قبلا أن المعرفة العملية توزع بين مواضيع واهتمامات كثيرة. أما المعرفة النظرية فتنقسم إلي قسمين: التفسير التاريخي والتفسير الروحي…
المعرفة (أو التفسير) الروحية ثلاثة أنواع:
أ – التفسير المجازي أو استخدام الاستعارة tropological.
ب- التفسير الرمزي allegorical.
ج- التفسير التشبيهي anagogical…
يحتضن التفسير التاريخي معرفة الأمور المنظورة (كما هي)، وذلك كما ورد في أقوال الرسول بصورة متكررة مثل قوله: “فإنهُ مكتوب أنهُ كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرَّة. لكن الذي من الجارية وُلِد حسب الجسد وأما الذي من الحرَّة فبالموعد” (غلا22:4،23).
التفسير الرمزي هو ما يختص بالمستقبل، فما يحدث حاليًا هو رمز للمستقبل بشكل سري ، إذ يقول الرسول: “وكل ذلك رمز، لأن هاتَين هما العهدان أحدهما من جبل سيناءَ الوالد للعبودية الذي هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناءَ في العربية، ولكنهُ يقابل أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها” (غلا24:4،25).
أما التفسير التشبيهي فيستنبط من الأسرار الروحية أسرارًا سماوية مقدسة عالية. إذ يكمل الرسول قوله بهذه الكلمات: “وأما أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة. لأنهُ مكتوب افرحي أيتها العاقر التي لم تلد. اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخَّض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج” (غلا26:4- 27).
أما التفسير المجازي أو الاستعاري فهو التفسير الأخلاقي الذي يختص بالتعليم العملي، كما لو كنا نفهم العهدين (المذكورين في النص السابق غلا26:4-27) على أنهما التعليم العملي والنظري. أو كأن نفسر أورشليم أو صهيون على أنها النفس البشرية، وذلك كما جاء: “سبّحي يا أورشليم الربَّ. سبّحي إلهكِ يا صهيون” (مز 12:147).
ويمكن تطبيق هذه الأنواع الأربعة من التفسير السابق ذكرها في موضع آخر. فتؤخذ أورشليم الواردة في الآية السابقة في أربعة معان:
(أ) المعنى التاريخي: وهي مدينة أورشليم ذاتها…
(ب) المعنى الرمزي: أي كنيسة المسيح.
(ج) المعنى التشبيهي: أي مدينة الله السماوية، التي هي أمنا جميعًا.
(د) المعنى المجازي (الاستعاري): أي النفس البشرية.
يتحدث الرسول المبارك عن هذه الأنواع الأربعة من التفسير هكذا: “فالآن أيُّها الاخوة إن جئْت إليكم متكلّمًا بألسِنَةٍ فماذا أنفعكم إن لم أكلّمكم إما بإعلانٍ أو بعلمٍ أو بنبوَّةٍ أو بتعليمٍ؟!” (1كو6:14).
(أ) الإعلان: ينتمي إلي التفسير الرمزي، لأن ما قد تم في الحدث التاريخي يعلن في داخله تفسيرًا روحيًا، مثال ذلك ما جاء شارحًا كيف أن “آباءَنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرةٍ روحيَّة تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (1كو1:10-4). هذا الشرح رمزي، إذ فيه يقارن ما قد حدث بما يخص جسد المسيح ودمه اللذين تناولهما يوميًا.
(ب) أما “العلم” فيشير به الرسول إلي التفسير المجازي (الاستعاري) بنفس الطريقة، هذا الذي به نستطيع خلال الدراسة باهتمام أن نرى كل الأمور التي تحدث بإدراك (تمييز) عملي متى كانت هذه الأمور مفيدة وصالحة. مثال ذلك عندما يطلب منا أن نحكم في أنفسنا: “هل يليق بالمرأَة أن تصلّي إلي الله وهي غير مغطَّاة؟!” (1كو13:11)، وهذا الأمر يحوي فيه معنى أخلاقي.
(ج) كذلك “النبوة” التي وضعها الرسول في المكان الثالث، مشيرًا إلي التفسير التشبيهي anagogical، حيث تطبق الكلمات الواردة علي أمور مقبلة غير منظورة. وذلك كما قيل: “ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاءَ لهم. لأنهُ إن كنا نؤْمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معهُ. فإننا نقول لكم هذا بكلمة الربّ أننا نحن الأحياءَ الباقين إلي مجيءِ الربّ لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسهُ بهُتَافٍ بصوت رئيس ملائكةٍ وبوق الله سوف ينزل من السماءِ والأموات في المسيح سيقومون أوَّلاً” (1تس13:4-16).
(د) وأما “التعليم” فيحوي العرض التاريخي البسيط، حيث لا يكمن فيه أي معنى سري، إنما يتحدث بكلمات واضحة، كما في العبارة: “فإنني سلَّمت إليكم في الأَّول ما قبلتهُ أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنهُ دُفِن وأنهُ قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنهُ ظهر لصفا ثم للإثني عشر” (1كو3:15- 5). و “أرسل الله ابنهُ مولودًا من امرأَةٍ مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس” (غلا4:4،5).
9- كيف نقتني المعرفة الروحية من العملية؟
أولاُ: إن كنتم مشتاقين إلي الحصول على نور المعرفة الروحية، معرفة ليست خاطئة لأجل كبرياء فارغ لتكونوا رجالاً فارغين. يجدر بكم أولاً أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه: “طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله” (مت 8:5). بهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال: “والفاهمون يضيئُون كضياءِ الجلد، والذين ردُّوا كثيرين إلي البر كالكواكب إلي أبد الدهور” (دا3:12). ويقول نبي آخر: “ازرعوا لأنفسكم بالبر (حيث يوجد وقت)” (هو12:10).
هكذا يلزمنا المثابرة بجهاد في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولاً، أي المعرفة الأخلاقية. لأنه بغيرها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: “من وصاياك تفهمت” (مز 104:119). وإذ يقهرون كل شهواتهم يقولون بكل ثقة: “لك يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كامل” (مز 1:101، 2). فمن يجاهد في طريق كامل بقلب نقي يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها.
إن أردتم أن تعدوا قلوبكم هيكلاً للمعرفة الروحية، فنقوا أنفسكم من آثار كل الخطايا وتخلصوا من اهتمامات هذا العالم لأن هناك استحالة على النفس التي ترتبك باهتمامات العالم – ولو إلي درجة بسيطة – أن تقتني عطية المعرفة، أو تصير مصدرًا للتفسير الروحي وتجاهد في قراءة الأمور المقدسة.
ويجدر بكم أن تهتموا في المكان الأول، وخاصة بالنسبة لك يا يوحنا الأصغر سنًا، أن تطلبوا الحرص فيما أكلمكم به، وان ترتبطوا بالسكون المطلق، مقتنين أول كل شيء تواضع القلب الثابت لكي يحملكم إلي كمال الحب، لا إلي المعرفة التي تنفخ بل التي تنير.
إنه يستحيل على الذهن غير النقي أن يقتني هبة المعرفة الروحية. لذلك تجنبوا هذا بكل حرص ممكن لئلا خلال غيرتكم في القراءة لا يرتفع فيكم نور المعرفة ولا المجد الدائم الموعود به خلال النور النابع عن القراءة، بل ترتفع أدوات تدميركم خلال الزهو الفارغ.
ثانيًا: يلزمكم أن تجاهدوا بكل وسيلة ممكنة أن تتخلصوا من كل الأفكار العالمية المقلقة، وتسلموا أنفسكم للقراءة المقدسة بمثابرة بغير انقطاع حتى يمتلئ قلبكم بالتأمل الدائم، وتشكلكم القراءة لتتكلموا على شبهها. بهذا تجعل القراءة قلبك أشبه بتابوت العهد يحمل في داخله لوحين حجريين هما الثقة الكاملة في العهدين (القديم والجديد). وفيه القسط الذهبي أي ذاكرة نقية غير دنسة، تحفظها صلابة دائمة للمن المحفوظ فيها، أي الاحتمال والعذوبة السماوية التي للتفسير الروحي وخبز الملائكة. كذلك يوجد فيه عصا هارون، أي الخشبة المنقذة التي لربنا يسوع المسيح رئيس الكهنة الحقيقي، والتي تفرخ على الدوام ذاكرة حية غير مائتة. لأن هذا هو القضيب الذي خرج من أصل يسى ومات وقام في حياة قوية. هذا كله تحت حراسة الكاروبين: أي كمال المعرفة التاريخية والروحية. لأن الكاروبيم يعني مجموعة من المعرفة (إذ هو مملوء أعيننا)، وهذه المعرفة تحمي عرش الله الرحوم أي سلام القلب. فهي تظلله ضد كل هجمات الشر الروحية. وبهذا تُحمل نفوسكم لا إلي تابوت العهد الإلهي فحسب، بل وإلي الملكوت الكهنوتي، حاملة فيها محبة النقاوة غير المنكسرة، وذلك بتنفيذها الوصايا المعطاة للكهنة خلال الدراسات الروحية، وترتبط بواهب الشريعة كما قيل “لا يخرج من المقدس لئَلاَّ يدنّس مقدس إلههِ” (لا12:21)، بمعنى لا يخرج من قلبه، هذا الذي وعد الرب أن يسكن فيه إلي الأبد قائلاً “إني سأَسكن فيهم وأسير بينهم” (2كو16:6).
لهذا يجدر بنا أن نستوعب في ذاكرتنا كل ما ورد في الكتاب المقدس باجتهاد، ونكرره بغير انقطاع، لأن هذا التأمل الدائم يهبنا ثمرة مزدوجة:
أولاً: إذ يُمتص انتباه الذهن في القراءة والاستعداد للدروس، لا يمكن أسره بسهولة في أي فخ من فخاخ الأفكار الشريرة.
ثانيًا: الأمور التي ننشغل بها… والتي نحاول تكرارها، إن كنا لا نفهمها وقت قراءتها لكننا سنفهمها بعد ذلك بوضوح… فعندما نكون في راحة (ليلاً)، تكون نفوسنا كما لو أنها قد غطت في سبات عميق، وينكشف لنا فهم الكثير من المعاني السرية التي لم ندركها أثناء عملنا خلال ساعات النهار.
11- فهم الكتاب المقدس بصور متعددة
إذ تنمو نفوسنا بواسطة هذه الطرق الخاصة بالدراسة، يلبس الكتاب المقدس وجهًا جديدًا بالنسبة لنا. وبنمونا نحن نجد نموًا في تذوق جمال معانيه المقدسة، لأن الإنسان يطبق معانيه حسب قدرة فهمه، فبالنسبة للجسدانيين تظهر لهم معانيه أرضية، ويجدونها الروحانيون إلهية.
لكي ما نوضح قصدنا هذا بأكثر جلاء بمثال، نكتفي بأن نأخذ عبارة واحدة من الشريعة كمثال نبرهن به على أن جميع الوصايا يطبقها البشر حسب قياس حالهم. فقد جاء في الشريعة “لا تزنِ” (خر14:20).
(أ) هذه يمكن أن تُلاحظ بحق حسب المعنى الحرفي للعبارة، وذلك بالنسبة للذين لا يزالون في عبودية الشهوات الدنسة.
(ب) أما الإنسان الذي ترك بالفعل مثل هذه الأفعال القذرة والانفعالات الدنسة، فإنه ينظر إلي الوصية في الروح. يراها تطالبه بترك العبادة الوثنية وشكوك الأوثان وخرافتها، رافضًا العرافة والتفاؤل والتشاؤم… على أي الأحوال لا يرتبك بأي خزعبلات تفسد بساطة الإيمان… فنحن نقرأ عن أورشليم أنها قد تدنست بزنا من هذا النوع على الجبال العالية وتحت كل شجرة خضراء (إر6:3)، ويوبخها الرب بالنبي قائلاً: “قد ضعفتِ من كثرة مشوراتكِ. ليقفْ قاسموا السماءِ الراصدون النجوم المعرّفون عند رؤُوس الشهور ويخلصوكِ مما يأتي عليكِ” (إش13:47). وتحدث عن هذا الزنا في موضع آخر موبخًا إياهم قائلاً: “شعبي يسأَل خشبهُ وعصاهُ تخبرهُ، لأن روح الزنى قد أضلَّهم فزنوا من تحت إلههم” (هو12:4).
(ج) أما من ترك مثل هذين النوعين من الزنا، فسيجد نوعًا ثالثًا من الزنا يجب تجنبه، وهو الارتداد إلي الأمور اليهودية[2] التي يقول عنها الرسول: “أَتحفظون أيامًا وشهورًا وأوقاتًا وسنين” و”لا تمسَّ ولا تَذُقْ ولا تجسَّ؟!” (غل10:4، كو21:2) وبلا شك من يسقط في هذا يزني وراء السيد المسيح (مرتدًا إلي اليهودية مرة أخرى في شكلها الخارجي، رافضًا الدخول إلي العمق الذي أعلنه الرب يسوع)، فلا يستحق أن يسمع من الرسول القول التالي: “فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأُقدّم عذراءَ عفيفةً للمسيح” (2كو2:11)، وإنما توجه إليه هذه الكلمات: “ولكنني أخاف أنهُ كما خدعت الحيَّة حوَّاءَ بمكرها هكذا تُفسَد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (2كو3:11).
(د) ومتى هرب الإنسان من دنس مثل هذا الزنا، يبقى نوع رابع، هذا الذي يُرتكب خلال الاتصالات الشريرة الناجمة عن التعليم الهرطوقي. ويتحدث الرسول المبارك عن هذا قائلاً: “لأني أعلم هذا أنهُ بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئَاب خاطفْة لا تشفق على الرعيَّة. ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلَّمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءَهم” (أع29:20،30).
(ه) لكن إن نجح الإنسان في تجنب مثل هذا النوع أيضًا، فليحذر لئلا يسقط في خطية معثرة وهي الزنا. أقصد بذلك الأفكار الهائمة، لأن كل فكر باطل (خامل) يفصلنا عن الله – ولو إلي درجة بسيطة – هذا ينظر إليه الإنسان الكامل أنه في غاية الدنس.
12- كيف يمكننا الحصول على “عدم الاهتمام بهذا العالم”؟
عند ذلك بدأت أتحرك بدافع خفي، ثم تنهدت تنهدا عميقاً وقلت: هذه الأمور التي أوضحتها لنا أخيرًا ربما تجعلني أسقط في اليأس أكثر من ذي قبل، إذ أنه بجانب تلك الأمور العامة التي تأسر النفس (وتعوقها عن المعرفة الحقيقية)… فإن عائقًا خاصًا يعطلني عن الخلاص وهو معرفتي للأدب. هذه المعرفة التي كما أظن إنني بالفعل نلت منها نصيبًا بسيطًا بفضل جهود معلمي أو بفعل دراستي المستمرة، وقد شُحن ذهني بالشعر حتى إنني أفكر فيه أثناء الصلاة، فأتذكر الأمور التافهة وقصص الملوك والمعارك التي سمعتها في طفولتي المبكرة… وفي أثناء التسبيح بالمزامير أو طلب غفران الخطايا، يتطفل الشعر المحفوظ على ذاكرتي بغير إرادتي، وتستعرض صور الحروب والمعارك المذكورة في الشعر أمام عيني، وتتراقص الخيالات قدامي وتثيرني ولا تسمح لنفسي أن تصفو متأملة في الأمور العليا، حتى إنني لا أستطيع أن أتخلص من هذه الأمور بنحيبي اليومي.
13- الإجابة
هذه الحقيقة التي تراها ينبوعًا لليأس الشديد من جهة تنقيتك، هي بذاتها تحمل علاجًا سريعًا وفعالاً، وذلك إن وجهت قراءتك وتأملاتك إلي الكتابات الروحية، وذلك بنفس الجهاد والشغف اللذين تقول إنك أظهرتهما في الدراسات الزمنية. لأنه بالتأكيد سيبقي ذهنك منشغلاً بذلك الشعر إلي أن تقتني بنفس الغيرة والمثابرة التأمل في الأمور الأخرى، فتنشغل بالأمور الروحية الإلهية بدلاً من الأمور الأرضية غير النافعة.
عندما نفهم هذه الأمور الروحية فهمًا كاملاً وتنتعش فينا، تُستبعد عنا الأمور الثانية (الأرضية) بالتدريج إلي أن تُنزع عنا بالتمام. فذهن الإنسان لا يمكن أن يبقى بغير تفكير، وبقدر ما لا ينشغل بالأفكار الروحية، حتماً يمتلئ بالأفكار التي سبق أن تعلمها منذ زمن بعيد. فإذ لا يجد ما يشغله ويتدرب عليه الآن حتمًا يرتد إلي ما قد تعلمه في طفولته، ويعود إلي ما قد سبق أن استخدمه أو تأمل فيه منذ زمن بعيد.
لكي ما تتقوى فيك المعرفة الروحية بثبات قويم، ولا تتمتع بها فقط إلي حين مثل أولئك الذين يتلمسونها لا بجهادهم إنما يعتمدون على مجرد سماعهم ما يسرده الآخرون… ولكي ما تبقى في قلبك وتدركها بعمق وتعاينها وتمسكها بصورة كاملة يحسن بك أن تتمسك بها بحرصٍ شديدٍ، أي حتى إن فرضنا أنك سمعت في مناظرة ما أمورًا تعرفها معرفة جيدة، لا تتطلع إليها باستخفافٍ وتراخٍ بسبب معرفتك السابقة، بل ضعها في قلبك بنفس الغيرة التي لك نحو كلمات الخلاص التي تتوق إليها، فتنفتح لها آذاننا وننطق بها على شفاهنا.
لأنه وإن كان كثيرًا ما يتكرر سرد الأمور المقدسة، لكن الذهن الذي يشعر بعطش إلى المعرفة الحقيقية، فإن شبعه لا يخلق قط نوع من الاشمئزاز، بل في كل يوم يتقبل الكلمة كشيءٍ جديدٍ يحتاج إليه. وعلى أي الأحوال غالبًا ما ينصت إليها بشغف شديد ويتحدث بها. والتكرار بالنسبة له يثبته في المعرفة التي له من قبل دون ضجر.
هذه هي العلامة التي بها يُعرف الذهن أنه بارد ومتعجرف، أنه يتقبل أدوية كلمات الخلاص بازدراء واستهتار، بالرغم من أنها مُقدمة بغيرة ولجاجة زائدة، وذلك لأن “النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مرٍّ حلو” (أم 7:27).
هكذا أن أُخذت هذه الأمور بعناية، وخُزنت في داخل النفس وختمت بخاتم السكون، فإنها تصير مثل الخمر حلوة المذاق، تُبهج قلب الإنسان، وتُعتَق بتخزينها كثيرًا في الفكر مع الصبر الثابت، فتخرج من آنية القلب رائحة لذيذة، ويصير ينبوعًا دائمًا يفيض أعماق الخبرة بغزارة، وتكون كمجارى مروية. تسكب الفضيلة تيارات غزيرة كما من بئر قلبك العميق.
يصف سفر الأمثال من ينفذ هذا، فيقول: “اشرب مياهًا من جبَّك، ومياهًا جارية من بئْرك” (أم 15:5). ويقول النبي إشعياء: “ويقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك، فتصير كجنَّة ريَّا، وكنبع مياهٍ لا تنقطع مياههُ. ومنك تُبنَى الخِرَب القديمة. تقيم أساسات دور فدور فيسمونك مرمم الثغرة، مرجع المسالك للسكنى” (إش11:58،12). ويحل بك التطويب الذي وعد به النبي نفسه قائلاً: “ويعطيكم السيد خبزًا في الضيق، وماءً في الشدَّة. لا يختبئُ معلموك بعدُ، بل تكون عيناك ترَيان معلميك. وأذناك تسمعان كلمةً خلفك قائلةً: هذه هي الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار” (إش20:30، 21). ولا يكون هذا كل غرض قلبك، إنما تصير كل الأفكار التي تدور في مخيلتك مقدسة، متأملاً في الشريعة الإلهية بغير انقطاع.
14- عجز النفس الدنسة عن تقبلها المعرفة الروحية
كما قلت أنه مستحيل على المبتدئ أن يفهم المعرفة الروحية، فكيف يقدر أن يقدمها للغير؟! لكن إن كانت لديه لياقة للتعليم بخصوص هذه الأمور، بالتأكيد تكون كلماته عقيمة بلا نفع، وتحمل كلماته كسلاً واضحًا، وزهوًا عقيمًا، لأنهم لا يخرجونها من كنز ضمائرهم الصالحة، إنما تنبع عن زهو فارغ مملوء سفاهة.
يستحيل على النفس غير النقية – مهما بلغت أشواقها نحو القراءة – أن تحصل على معرفة روحية. لأنه لا يقدر أحد أن يسكب دهنًا طيبًا أو عسلاً جيدًا أو أي سائل قيم في إناء قذر كريه الرائحة. لأن الإناء الممتلئ بروائح كريهة يُفسد ما يوضع فيه أكثر مما يتأثر هو من الشيء الصالح، لأن ما هو نقي يفسد بسرعة أكثر من تأثير النقي على الفاسد.
هكذا ما لم يتنقَ إناء صدرنا من وصمات الخطية الفاسدة، لا يستحق أن يتقبل الدهن المبارك الذي تحدث عنه النبي قائلاً: “مثل الدهن الطيب على الرأس النازل على اللحية، لحية هارون النازل إلي طرف ثيابهِ” (مز 2:133). “لأنهُ أيَّة خلطةٍ للبرّ والإثم؟! وأيَّة شركةٍ للنور مع الظلمة؟! وأيُّ اتفاقٍ للمسيح مع بليعال؟! وأيُّ نصيبٍ للمؤْمن مع غير المؤْمن؟!” (2 كو 14:6، 15).
15- اعتراض
جرمانيوس: هذا بالتأكيد يبدو لنا غير صحيح أو غير مؤسس على سبب قوي. لأنه إن كان من الواضح أن كل الذين لم يتقبلوا الإيمان بالسيد المسيح أو الذين فسدوا بتعاليم الهراطقة الشريرة قلوبهم غير نقية، فكيف نجد أن كثير من اليهود والهراطقة وبعض المؤمنين[3] الذين لهم خطايا واضحة، لهم معرفة بالكتاب المقدس، ويفخرون بعظمة تعليمهم الروحي، بينما نجد من الجانب الآخر حشود لا حصر لها من القديسين الذين تنقت قلوبهم من كل وصمات الخطية، قانعين بالتقوى الذي للإيمان البسيط دون أن تكون لهم معرفة بأسرار المعرفة الحقيقية؟! كيف تستقيم هذه الفكرة التي تنادي بها ناسبًا المعرفة الروحية لأنقياء القلب وحدهم؟
16- نسطور: لا يقدر أن يكتشف قيمة ما أكدته إلا الذين يزنون كل كلمة ننطق بها بميزان دقيق. فقد بدأنا الحديث عن أناس ماهرين في النقاش لكنهم عاجزين عن الدخول إلي عمق الكتاب المقدس واكتشاف معانيه الروحية. لأن المعرفة الروحية يطلبها عابدو الله وحدهم، ولا ينالها الذين قيل عنهم: “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون” (إر 21:5). وأيضاً: “قد هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة، أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو 6:4).
فكما قيل أنه في السيد المسيح تكمن كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 3:2)، فكيف يمكننا أن نقول بأن الذي يحتقر التعرف على السيد المسيح، أو عندما يجده يجدف عليه بشفتيه المدنستين، أو على الأقل يدنس بأفعاله الشريرة إيمانه الذي حسب الكنيسة الجامعة، كيف يقدر أن ينال معرفة روحية؟!
“إن الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر، ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة، لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة، وينهزم إذا حضر الإثم” (حك 4:1، 5).
إذن لا يوجد طريق لبلوغ المعرفة الروحية غير ذلك الطريق الذي وصفه النبي بدقة قائلاً: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلّمكمْ البرّ” (هو 12:10). يلزمنا أولاً أن نزرع بالبرّ، أي بأفعال البرّ نوسع الكمال العملي. بعد ذلك يجدر بنا أن نحصد رجاء الحياة، أي عن طريق نزع الخطايا الجسدية نجمع ثمار الفضائل الروحية. وهكذا سوف ننجح في إضاءة أنفسنا بنور المعرفة.
يرى المرتل بالمزامير أيضًا أن هذا النظام يلزمنا إتباعه إذ يقول “طوباهم الذين بلا عيب في الطريق، طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته” (مز1:119،2). فإنه لا يقول في الأول “طوبى للذين يفحصون عن شهاداته” وبعد ذلك “طوباهم الذين هم بلا عيب”، إنما يبدأ بالقول “طوباهم الذين هم بلا عيب”، مظهرًا أنه لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فحص شهادات الله بلياقة ما لم يسلك في طريق المسيح بلا عيب بحياته العملية.
فأولئك الذين تشير إليهم لا يملكون المعرفة التي لا يملكها غير الأنقياء، إنما يقتنون معرفة باطلة يتحدث عنها الرسول قائلاً: “معرضًا عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم” (1تي20:6). هؤلاء الذين يظهرون أنهم ينالون نوعًا ما من المعرفة، أو أولئك الذين يكرسون نفوسهم لقراءة المجلدات المقدسة، واستذكار الكتب المقدسة غير متخلين عن الخطايا الجسدية، هؤلاء قيل عنهم في سفر الأمثال: “خزامة ذهب في فِنطِيسة خنزيرةٍ، المرأَة الجميلة العديمة العقل” (أم 22:11). لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن اقتنى الزينة السماوية التي للبلاغة، والجمال الكثير الثمن الذي للكتاب المقدس، إن كان يفسد هذا الالتصاق بالأفعال القذرة والأفكار الشريرة، دافعًا إياها في أرض دنسة، أو ينجسها بالتمرغ في قذارة شهواته؟! النتيجة هي أن ما هو حلي بالنسبة للذين يستعملونه استعمالاً حسنًا، يصير بالنسبة لهم ليس عاجزا عن تزينهم فحسب بل قذارة ووحل متزايد، لأنه “لا يجمل الحمد في فم الخاطئ” (ابن سيراخ9:15). إذ يقال له بالنبي. “مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟!” (مز 16:50). مثل تلك النفوس لا تملك مخافة الرب بأي شكل من الأشكال إذ قيل: “مخافة الرب أدبُ حكمةٍ” (أم 33:15). ومع هذا فإنها تحاول أن تستخلص معاني الكتاب المقدس بالتأمل المستمر فيه، وبلياقة يسألون في سفر الأمثال: “لماذا في يد الجاهل ثمن؟ الاقتناءِ الحكمة وليس لهُ فهم؟ ” (أم 16:17).
ليس للمعرفة الحقيقية الروحية فصاحة زمنية، تلك التي هي مدنسة بوصمات الخطايا الجسدية، فإننا نعرف أنه أحيانًا ينالها بصورة عظيمة من هم بلا فصاحة لسان بل والأميين. هذا يظهر بوضوح في حالة الرسل وكثير من القديسين الذين لهم مظهر الأوراق الكثيرة لكنهم منحنون بفعل ثقل ثمار المعرفة الروحية الحقيقية. عن هؤلاء جاء في أعمال الرسل: “فلما رأَوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعامّيَّان تعجَّبوا، فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع” (أع13:4).
فإن كنتم شغوفين لنوال تلك الرائحة الذكية التي لا تزول، يلزمكم أولاً أن تجاهدوا بكل طاقتكم للحصول على نقاوة الطهارة من الرب. لأنه لا يقدر أحد من الذين فيهم محبة الشهوات الجسدية أن ينال المعرفة الروحية، خاصة الذين لا يزالون يترنحون بالزنا…
يعلمنا الرسول الطوباوي ضرورة الحصول على المعرفة الروحية التي تحدثنا عنها، لأنه عندما رغب في تسجيل قائمة فضائله جميعها وصف ترتيبها مظهرًا أيهما الأولى وأيهما التالية، وما هي الفضيلة التي تتبع سابقتها وتتولد منها… قائلاً “في ضرباتٍ في سجونٍ في اضطراباتٍ في أتعابٍ في أسهارٍ في أصوامٍ في طهارةٍ في علمٍ في أناةٍ في لطفٍ في الروح القدس في محبةٍ بلا رياءٍ” (2كو5:6، 6). بهذا الإحصاء يعلمنا بوضوح أن نبدأ بالسهر والصوم إلى الطهارة، ومن الطهارة إلى العلم (المعرفة)، ومن المعرفة إلى طول الأناة، ومن طول الأناة إلى اللطف، ومن اللطف إلى الروح القدس، ومن الروح القدس إلى مكافأة الحب غير الواهن. بهذا النظام وهذا التدبير، إذ تأتي إلى المعرفة الروحية، لا تكون معرفتك عقيمة مملوءة كسلاً، بل معرفة حية مثمرة. وترتوي بذرة كلمة الخلاص التي تبذرها في قلوب السامعين بأمطار الروح القدس الغزيرة. لهذا وعد النبي قائلاً: “ثم يعطي مطر زرعك الذي تزرع الأرض بهِ، وخبز غلة الأرض، فيكون دسمًا وسمينًا، وترعى ماشيتك في ذلك اليوم في مرعى واسع” (إش23:30).
17- لا تحدث المستهترين بأسرار الكتاب
احذر لئلا تنقاد إلى التعليم وأنت في شبابك، فتضل بالمجد الفارغ، ولا تعلم ما قد تعلمته بالاختبار أكثر مما بالقراءة أولئك الذين قد تدنسوا إلى النهاية (أي المستهترين)، فيتم ما قد أعلنه الرجل الحكيم سليمان القائل: “في أذنَي جاهلٍ لا تتكلم لأنهُ يحتقر حكمة كلامك” (أم 9:23). و”لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير، لئَلاَّ تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم” (مت6:7). يليق بنا أن نخفي أسرار المعاني الروحية عن البشر الذين هم من هذا النوع حتى نتغنى بحق: “خبأْتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئَ إليك” (مز 11:119).
يخبرك أحكم رجل، أي سليمان، قائلاً: “أعطوا مسكرًا لهالكٍ وخمرًا لمرّي النفس، يشرب وينسى فقرهُ ولا يذكر تعبهُ بعدُ” (أم 6:31-7). بمعنى أن أولئك الذين قد صاروا في ضيق الحزن والأسى بسبب أعمالهم الماضية، أسندهم بأفراح المعرفة الروحية بوفرة وذلك مثل “خمرٍ تفرّح قلب الإنسان لإلماع وجههِ أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان” (مز 15:104). هؤلاء أصلحهم بالشرب القوي لكلمة الخلاص، لئلا يغرقوا في الحزن المستمر، ويسقطوا في اليأس الذي للموت، لئلا يبتلعوا من الحزن المفرط (2 كو 7:2). أما الذين لا يزالون في برود واستهتار، غير مضروبين بالحزن القلبي، هؤلاء نقرأ عنهم “كلام الشفتين إنما هو إلى الفقر” (أم 23:14).
هكذا نتجنب بكل حرص ممكن الانتفاخ بالمجد الباطل، وبهذا نصير شركاء مع ذاك الذي يمدحه النبي القائل: “فضتهُ لا يعطيها بالربا” (مز 5:15). لأن كل من يوزع كلمات الله بدافع محبة مديح الناس… يكون كمن يعطي أمواله بالربا، ويستحق ليس فقط عدم مكافأة بل عقابًا شديدًا..
18- أسباب عقم التعليم الروحي
بالتأكيد هناك سببان يجعلان التعليم الخاص بالأمور الروحية غير فعال:
أ- أن المعلم يمدح أمورًا ليس له خبرة بها، فيعلِّم سامعيه كلمات جوفاء فارغة.
ب- أن السامع إنسان شرير مملوء بالخطايا، ولا يريد أن يتقبل في قلبه القاسي تعاليم الرجل الروحاني المقدسة والمخلصة. وقد قال النبي عن مثل هذا: “غَلِّظ قلب هذا الشعب وثَقِّل أذنيهِ… لئَلاَّ يبصر بعينيهِ ويسمع بأذنيهِ ويفهم بقلبهِ ويرجع فيُشفَى” (إش10:6).
19 – ولكن أحيانًا من أجل كرم اللّه السخي في عنايته بنا… يهب للإنسان غير المستحق للتعليم نعمة التعليم الروحي من أجل خير الكثيرين..
ملخص المبادئ
– المعرفة الروحية السليمة هي التي تُبني على معرفة اختبارية عملية.
– للمعرفة العملية جانبان:
1- التعرف على الخطأ وطرق علاجه.
2- التعرف على الفضائل والتدريب عليها.
– المعرفة الروحية أو التفسير الروحي ينقسم إلى:
1- التفسير التاريخي، وهو يتحدث عن الأمور والوقائع بأسلوب بسيط لا يرمي إلى معنى سري.
2- التفسير المجازي واستخدام الاستعارة.
3- التفسير الرمزي (استخدام الرموز).
4- التفسير التشبيهي، وهو الذي يحوي في التشبيهات أسرارًا سماوية مقدسة عالية.
– كل إنسان يفهم الكتاب المقدس قدر قامته الروحية…
– كيف نقتني المعرفة الروحية؟
1- التخلص من اهتمامات هذا العالم.
2- السلوك بلا عيب في طريق وصايا الرب. لأن النفس المتدنسة والتي تصر على التمسك باللذة لا تقدر أن تتفهم الكتاب المقدس.
– أسباب عقم التعليم الروحي:
أ- أن المعلم يتكلم في أمور لم يختبرها.
ب- أن السامع قد أعمى عينيه بالخطية ولا يريد أن يرى الوصية.
________________________________________
[1] يشك فيما إذا كان هو نفسه الأب يوحنا المذكور في كتاب المؤسسات 28:5، والذي تُنسب إليه المناظرة 19.
[2] ظهر منذ بدء المسيحية بدعة قام بها اليهود الذين صاروا مسيحيين، وهي المناداة بكل طقوس اليهودية وأعيادها كما هي بحرفيتها.
[3] النص الإنجليزي “التابعين للكنيسة الجامعة”
المناظرة الخامسة عشر
المواهب الإلهية للأب نسطور
1- مقدمة
بعد خدمة المساء جلسنا معًا على الحصر كالعادة لنسمع الحديث الذي وعدنا به. وإذ بقينا صامتين إلي حين احترامًا للشيخ قطع سكوتنا بمثل هذه الكلمات:
تدفعنا مناظرتنا السابقة لنتحدث عن “تدبير المواهب الإلهية”، هذا الذي كما تعلمناه من تقاليد الآباء الشيوخ أنه ذو ثلاث جوانب:
الجانب الأول: مواهب الشفاء، حيث تلازم الآيات أناس مختارون وأبرار وذلك من أجل استحقاقات قداستهم، وهذا يظهر بوضوح في حالة الرسل وكثير من القديسين، إذ تتم على أيديهم الآيات والعجائب بسلطان الرب القائل “اشفوا مَرْضَي، طهّروا برصًا، أقيموا موتي، أًخرِجوا شياطين، مجَّانًا أخذتم مجَّانًا أعطوا” (مت8:10).
والثاني من أجل تعليم الكنيسة: أو من أجل إيمان الذين أحضروا مرضاهم أو إيمان الذين يشفون أنفسهم. ويتم الشفاء حتى على أيدي الخطاة وغير المستحقين لها. هؤلاء يتحدث عنهم المخلص في الإنجيل قائلاً: “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أَليس باسمك تنبَّأْنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوَّاتٍ كثيرة؟! فحينئذٍ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت22:7،23).
من الناحية الأخرى، أحيانًا يعوق عدم إيمان المرضى أو الذين أحضروهم عن إتمام الشفاء… ويقول الإنجيلي “لم يقدر أن يصنع هناك ولا قوةً واحدة غير أنهُ وضع يديهِ على مرضي قليلين فشفاهم، وتعجب من عدم إيمانهم” (مر5:6،6). ويقول الرب نفسه: “وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل… لم يطهر واحد منهم (لعدم إيمانهم) إلاَّ نعمان السرياني” (لو27:4).
الطريقة الثالثة في الشفاء: تتم بخداع الشياطين وحيلهم. وذلك عندما يُستعبد الإنسان لخطايا واضحة، ولكن إذ يندهش الناس من المعجزات التي يصنعها ينظرون إليه كقديس وخادم اللَّه، فيقتفون آثاره ويتمثلون بخطاياه. وهكذا ينفتح باب المكابرة وتُهان قداسة الدين، وينتفخ ذاك الذي يظن أنه يملك موهبة الشفاء بكبرياء قلب، ويسقط سقوطًا خطيرًا. ويقول الإنجيل: “لأنهُ سيقوم مسحاءُ كَذَبَة وأنبياءُ كذَبة ويعطون آياتٍ عظيمة وعجائب حتى يُضِلُّوا لو أمكن المختارين أيضًا” (مت24:24).
2- لا تكرم الإنسان من أجل صنعه المعجزات إنما من أجل محبته
يجدر بنا ألا نندهش قط من الذين يصنعون هذه الأمور، من أجل سلطانهم هذا، إنما بالأحرى يلزمنا أن ننظر إن كانوا كاملين من جهة تخلصهم من كل الخطايا وإصلاح طرقهم… هذه هي المعرفة العملية التي عبر عنها الرسول باسم آخر وهو “الحب”. فبسلطان فضل الرسول الحب فوق كل ألسنة الناس والملائكة، وأكثر من كل الإيمان الأكيد الذي ينقل الجبال، وعن كل معرفة ونبوة، وعن توزيع كل الأموال، وعن مجد الاستشهاد ذاته، لأنه عندما عدد كل أنواع المواهب وقال: “فإنهُ لواحدٍ يُعطَي بالروح كلام حكمةٍ. ولآخر كلام علمٍ بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب الشفاءٍ بالروح الواحد، ولآخر عمل قوَّاتٍ، ولآخر نبوَّة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع أَلسِنَةٍ، ولآخر ترجمة أَلسِنَةٍ” (1كو8:12-10)، وإذ كان آخذًا في التحدث عن المحبة جعلها قبل كل المواهب، إذ يقول بكلمات قليلة “ولكن جدُّوا للمواهب الحسنى، وأيضًا أريكم طريقًا أفضل” (1كو31:12). بهذا يظهر بوضوح أن علو الكمال والتطويب لا يكمن في تنفيذ مثل هذه الأعمال المدهشة بل في نقاوة الحب. وهذا ليس بغير سبب، لأن كل هذه الأمور ستنتهي، وأما الحب فيبقى إلي الأبد.
هكذا فإن هذه الأعمال والعلامات (عمل المعجزات) لم تكن تشغل آباؤنا، إنما بالأحرى عندما كانوا يملكونها بنعمة الروح القدس، لم يريدوا أن يستخدمونها إلا في حالة الضرورة الملحة للغاية والتي لا يمكن فيها الامتناع عنها.
3- مثال لصنع المعجزة من أجل رد البسطاء
إننا نذكر الميت الذي أقامه الأب مقاريوس[1] الذي هو أول ساكني صحراء الإسقيط، وذلك عندما ظهرت هرطقة معينة تبعت خطأ إنوميوس[2] الذي بجدله المملوء خبثًا حاول أن يهدم بساطة الإيمان العام، وقد خدع الكثيرين.
سُئل مقاريوس الطوباوي بواسطة مجموعة من المؤمنين الذين اضطربوا خائفين مما حدث، راجين أن يحرر القطيع البسيط في مصر من مخاطر الكفر. فذهب الأب إليهم، فأراد الهرطوقي أن يستخدم معه الجدال… لكن الطوباوي مقاريوس وضع حدًا لثرثرته بواسطة القول الرسولي المختصر قائلاً: “ملكوت اللَّه ليس بكلامٍ بل بقوةٍ” (1كو20:4). لنذهب إذن إلي المدافن ونستخدم اسم الرب على أول ميت نجده، وكما هو مكتوب أن نظهر إيماننا بأعمالنا (يع14:2)، مظهرين البراهين الواضحة للإيمان الحقيقي بشهادة اللَّه، وبهذا يظهر الحق الواضح لا بمناقشة الكلمات إنما بقوة العجائب، فلا يكون في الحكم خداعًا.
عندما سمع الهرطوقي هذا الكلام غلب عليه الأمر وصار في خزي أمام الحاضرين، فتظاهر بالموافقة، ووعد أنه سيأتي في الغد. وفي اليوم التالي إذ اجتمع الكل بشغف عظيم منتظرين في المكان المحدد، راغبين أن يروا المشهد، إذ به يهرب خارج مصر مرتابًا في عدم الإيمان… وإذ انتظر الطوباوي مقاريوس مع الشعب حتى الساعة التاسعة، أخذ الشعب وذهب به إلى المدافن المعينة… (وأقام ميتًا متحدثًا عن الإيمان السليم ثم نام مرة أخرى).
4- معجزة بدافع الحنان والشفقة
ما الحاجة إلى أن أشير إلي أعمال الأب إبراهيم[3] الذي يدعي بـ “البسيط” وذلك بسبب بساطة حياته وبراءته. هذا الرجل عندما نزل من البرية إلي مصر لأجل الحصاد في الأحد السابق للصوم الكبير أزعجته امرأة بدموعها وتوسلاتها إذ جاءت إليه بطفلها الذي كاد أن يموت بسبب نقص اللبن، فأعطاها كوب ماء رسم عليه علامة الصليب، ولما شربت منه للحال صار صدرها مملوء باللبن الغزير.
5- معجزة من أجل تمجيد اسم الرب يسوع
ذهب نفس الرجل إلى قرية فأحاط به جماعة من الساخرين الذين جاءوا إليه بإنسان فقد قدرته على المشي منذ سنين طويلة وقد انحنت ركبتيه وكان يزحف، وقد ضعفت رجليه من الجلوس الدائم. جربوه قائلين: “أيها الأب إبراهيم إن كنت خادم اللَّه تعيد هذا الإنسان إلى صحته السابقة، فنؤمن أن اسم يسوع الذي تؤمن به ليس باطلاً”. للحال استخدم اسم السيد المسيح، وانحنى وأمسك بقدم الرجل ثم جذبها وإذ لمسها صارت الركبة اليابسة المنحنية مستقيمة، وعادت إليه قدماه كما كانتا، ورجع المقعد فرحًا…
6- لا تحكم على استحقاق إنسان بمعجزاته
كان هؤلاء الرجال لا ينسبون شيئًا لأنفسهم بسبب قدرتهم على صنع مثل هذه الأعاجيب، معترفين بأنهم لم يصنعوا هذا عن استحقاقاتهم بل بحنو الرب. ورفض الرسل الكرامة البشرية المقدمة لهم بسبب الاندهاش من معجزاتهم قائلين: “ما بالكم تتعجَّبون من هذا، ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوَّتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشى؟!” (أع12:3). ولم يفكر أحد أن يتمجد من أجل المواهب الإلهية والأعاجيب، بل بالأحرى بثمار الأعمال الصالحة، لأنه كما قلنا قبلاً، إن أصحاب الأذهان الفاسدة ينبذون الحق بإخراج الشياطين وصنع المعجزات العظيمة باسم الرب وقد اشتكاهم التلاميذ قائلين: “يا معلّم رأَينا واحدًا يُخرِج الشياطين باسمك فمنعناهُ لأنهُ ليس يتبع معنا”. فأجابهم الرب من جهة الزمن الحاضر قائلاً: “لا تمنعوه لأن مَنْ ليس علينا فهو معنا” (لو49:9،50)، ولكن في النهاية إذ يقولون له “يا رب يا رب أَليس باسمك تنبَّأْنا وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوَّاتٍ كثيرة”، يشهد أنه سيجيبهم قائلاً: “إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت22:7،23).
لهذا يحذر من وهبهم بنفسه هذا السلطان لصنع المعجزات والأعمال العجيبة بسبب قداستهم ألا ينتفخوا قائلاً: “ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءَكم كُتِبَت في السموات” (لو20:10).
7- عظمة المواهب تكمن لا في المعجزات بل في الاتضاع
أخيرًا فإن الرب ينبوع كل المعجزات والأعمال القديرة هو بنفسه عندما دعا تلاميذه أن يتعلموا منه، أظهر لهم بوضوح ما ينبغي عليهم بحق أن يتعلموه بصفة رئيسية: “تعلموا مني”، ليس بصفة رئيسية أن تخرجوا الشياطين بقوة سماوية، ولا أن تطهروا البرص، ولا أن تشفوا العمي، ولا أن تقيموا الموتى، فإنه هذه الأمور أفعلها خلال خدامي، لكن لا يمكن بهذه الأمور أن يكون الإنسان ممدوحًا من اللَّه، ولا يقدر أن يكون بها تلميذًا أو خادمًا له… وإنما يقول: “تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب” (مت29:11)، فإن هذا ممكن لدي البشر عامة. إذ يمكنهم أن يتعلموه ويختبروه. أما صنع المعجزات والعلامات فهذا ليس بضروري على الدوام، ولا هو مفيد للجميع، ولا يوهب للكل.
الاتضاع هو سيد كل الفضائل، والأساس الأكيد للبناء السماوي، وعطية المخلص الخاصة السامية. فالإنسان يقدر أن يتمم المعجزات التي صنعها السيد المسيح “باسم الرب” من غير خطر السقوط في الكبرياء، حينما يقتفي أثر الرب الوديع، لا في سمو معجزاته بل في فضيلتي الصبر والاتضاع. وأما الذي يهدف إلي أن يأمر الأرواح النجسة أو ينال مواهب الشفاء، أو إظهار بعض معجزات الباهرة أمام الشعب، فإنه حتى وإن أظهرها تحت اسم المسيح، إلا أنه بعيد عن السيد المسيح، لأنه بكبرياء قلبه لا يتبع معلمه المتضع.
في عودته إلي الآب، تهيأ هكذا ليتحدث بإرادته تاركًا لتلاميذه “وصية جديدة” وهي: “أن تحبُّوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا”، وللحال أضاف: “بهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعض لبعض” (يو34:13،35). إنه لم يقل “إن كان لكم أن تصنعوا علامات ومعجزات”، بل “إن كان لكم حبّ بعضًا لبعض”. هذه الوصية بالتأكيد لا يقدر أن يحفظها إلا الإنسان الوديع والمتواضع.
لذلك فإن آباءنا السابقين لم يحسبوا رهبان صالحين أو متحررين من خطأ المجد الباطل لأنهم يخرجون الشياطين، ولا يتباهون بزهو أمام الجماهير المعجبة من النعمة التي نالوها أو ادعوها، وهكذا فإن من يصنع شيئًا من هذه الأمور (العجيبة) في حضورنا، يلزم أن نمدحه ليس إعجابًا بالمعجزات، بل لجمال سيرته، ولا نطلب أن تخضع لنا الشياطين بل بالأحرى أن نحمل ملامح الحب التي يصفها الرسول.
8- إخراج الخطأ من حياة الإنسان أعظم من إخراج الشياطين من الآخرين
في الحقيقة إنها لمعجزة أعظم أن يقتلع الإنسان من جسده دوافع الدنس عن أن يطرد الشياطين من جسد غيره. وهي علامة أعظم أن يقاوم شهوات الغضب المفترسة لفضيلة الصبر عن أن يأمر قوات الشر. وأمر أعظم وأسمى أن ينتزع مخالب الظلمة المهلكة من قلبه عن أن يطرد المرض من غيره وينزع الحمى من بدنه. أخيرًا فإنه بطرق كثيرة، يُحسب شفاء النفس فضيلة عظمي أكثر سموًا من شفاء جسد الغير. كما أن النفس أعظم من الجسد، هكذا فان إنقاذها أهم. وكما أن طبيعتها أثمن وأقيم، فإن هلاكها يكون أخطر.
9-كيف تكون الحياة المستقيمة أفضل من صنع المعجزات؟
قيل للرسل الطوباويين بخصوص تلك الأشفية: “ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءَكم كُتِبَت في السموات” (لو20:10). لأن هذا لا يحدث بقوتهم إنما بقوة الاسم الذي يستخدمونه. لذلك حذرهم لئلا ينسبوا لأنفسهم أي تطويب أو مجد من هذه الجهة، إذ هي تتم بسلطان اللَّه وقدرته. أما النقاوة الداخلية التي لحياتهم وقلبهم، فبسببها يُوهب لهم أن تُكتب أسماءهم في السماء…
________________________________________
[1] مقاريوس المصري وليس الاسكندري، وقد ذكر كل من روفنيوس وسوزومين هذه المعجزة.
[2] إنوميوس Eunomuis (مات عام 394): قائد للأريوسية الجديدة ومدافع عنها، كان أسقفا على Cyzicus في مسيا Mysia. من عائلة ريفية بكبادوكية ذهب إلى الإسكندرية، وتتلمذ على يديْ Aetius، وذهب معه إلى كبادوكية حيث حضر مجمع أريوسي عقده Eudoxius. إذ صار أودكسيوس أسقفًا على القسطنطينية سام إنوميوس شماسًا عام 360م، وقدمه أسقفًا على Cuzicus. وقد أدهشهم ببلاغته الفائقة، لكن حدثت متاعب كثيرة وشعر الكثيرون بفراغه الداخلي وطرده من المدينة. ذهب إلى القسطنطينية وسكن مع Eudoxius. نال شهرة ودُعي تلاميذه الإنوميوسيين. عاد إلى دولته، وفي عام 383 حضر مجمعًا في القسطنطينية، وبعد قليل نُفي بواسطة الإمبراطور ثيؤدوسيوس. عاش حتى عام 394 في Halmyris في Moesia بقيصرية كبادوكية، بالقرب من داكورا Dacora. قام بتفنيذ آراءه القديسين باسيليوس الكبير وغريغوريوس أسقف نيصص، وأيضًا ابوليناريوس وثيؤددور أسقف الميصة.
[3] يحتمل أن يكون صاحب المناظرة (24).
المناظرة السادسة عشر
الصداقة للأب يوسف
1- مقدمة
الطوباوي يوسف الذي نقدم لكم الآن تعاليمه ووصاياه هو أحد الثلاثة الذين أشرنا إليكم عنهم في المناظرة الأولى[1]، وهو ينتسب إلى عائلة عريقة جدًا. وكان رئيسًا لمدينة تميس Thmuis في مصر، وقد تعلم فصاحة اليونان وبلاغة المصريين، حتى إنه كان يحدثنا بطلاقه تثير دهشتنا، الأمر الذي يجهله المصريون، وما كان يحدثنا عن طريق مترجم، إنما يحدثنا بلغتنا مباشرة.
إذ رآنا شغوفين للتعليم منه، سألنا أولاً عما إذا كنا أخوين، ولما سمع منا أننا مرتبطان بوحدة روحية لا جسدية، وأننا منذ بداية زهدنا العالم ونحن مرتبطان برباط لا ينفصم، كذلك في أسفارنا التي نقوم بها من أجل العبادة الروحية، وفي سلوكنا في الدير أيضًا، عندئذ بدأ الآب مناظرته كما يلي:
2- أنواع الصداقات
توجد أنواع كثيرة من الصداقات والمصاحبات بين البشر، بطرق مختلفة من جهة رباطات الحب. فالبعض يدخلون في تكوين علاقة تعارف يليها علاقة صداقة خلال معرفة سابقة. وآخرون يرتبطون برباط حب بعد الدخول في صفقات أو اتفاقات تجارية. والبعض يتحدون معًا في صداقة بسبب التشابه ووحدة العمل أو العلم أو الفن أو الدراسة، الأمر الذي يجعل حتى النفوس الشرسة تشفق على بعضها البعض. فنرى الذين في الغابات والجبال يتلذذون باللصوصية ويشغفون بسفك الدم، يحتضنون شركاءهم في الجرائم ويهتمون ببعضهم البعض.
لكن هناك نوع آخر من الحب، فيه يكون الاتحاد نابعًا عن دوافع طبيعية وبسبب رابطة الدم، مثل الرباط الذي بين أفراد القبيلة الواحدة، أو الرباط بالزوجات والآباء والاخوة والأبناء، إذ لهؤلاء تمييز خاص عند الإنسان عن غيرهم. وهذا الأمر لا نجده في البشرية فقط، بل وبين كل الطيور والحيوانات. فعند الخطر تدافع (الطيور والحيوانات) عن صغارها بدافع طبيعي، حتى إنهم لا يخشون التعرض للخطر والموت من أجلها. حقًا حتى هذه الأنواع من الحيوانات والحيات والطيور التي تنعزل بعيدًا عن غيرها بسبب شراستها المهلكة أو سمها المميت مثل الأفاعي والثور الوحشي والنسور، بالرغم من إنه حتى نظراتها يقال عنها إنها خطيرة على كل إنسان، لكنها لا تضر بعضها البعض بل يوجد فيما بينها سلام ومشاعر صداقة بسبب وحدة أصلهم.
غير أن هذه الأنواع كلها من الحب التي نتحدث عنها هي عامة، توجد بين الصالحين والأشرار، وبين الحيوانات المفترسة والثعابين، وهى لا تبقى إلى الأبد! غالبًا ما تفسد وحدتهم وتنكسر بسبب البعد المكاني، أو بسبب عامل النسيان بحكم الزمن، أو بسبب المضايقات في التعامل والاحتداد في الكلام. فإذ تقوم هذه الأنواع على أساس النفع الخاص أو الرغبات أو بسبب القرابة أو التشابه في العمل، لذلك متى انتهت هذه الظروف بطلت الألفة.
3- كيف يمكن للصداقة أن تبقى على الدوام؟
بين هذه الأنواع جميعها يوجد نوع واحد من الحب لا ينحل، حيث يقوم فيه الاتحاد لا على التعارف أو بغية نوال شفقة أو ربح أو بسبب نوع من العلاقات التجارية أو بحكم ضرورة الطبيعة، إنما ببساطة لأجل التشابه في الفضيلة. هذا الحب، أقول، لا تهزه الظروف، ولا يؤثر فيه أو يفسده عامل الزمن أو المكان، بل ولا يقدر الموت أن ينزعه. هذا هو الحب الحقيقي الذي لا ينكسر، والذي لا تنفصم رباطاته بسبب اختلاف الميول أو أي اضطراب من جهة الرغبات المتضاربة.
لكننا نعرف كثيرين نُزع عنهم هدفهم، هؤلاء الذين ارتبطوا معًا برباط الزمالة خارجًا عن حبهم للسيد المسيح الملتهب، فلم يقدروا أن يبقوا على هذه الزمالة على الدوام دون أن تنكسر، لأنهم وإن اعتمدوا على بداية حسنة لصداقتهم، لكنهم لم يثبتوا بنفس الغيرة في غرضهم الذي بدأوا به. لهذا فإن حبهم يكون إلى حين، لأنه لم يُدعم بصلاح مشترك مشابه، بل يمارسه طرف واحد فقط بشجاعة لا تكل، بينما ينكسر بسبب دناءة الطرف الثاني. لأن ضعفات الباردين يحتملها الأقوياء بصبر، أما الضعفاء فلا يحتملون أنفسهم، لأنهم يزرعون في داخلهم أسباب الاضطراب التي لا تسمح لهم بالراحة. وهم في هذا يشبهون الذين يعانون من مرض جسدي، فينسبون تعب معدتهم وتوعك صحتهم إلى إهمال الطباخين ومساعديهم الذين يخدمونهم، أي الذين هم في صحة جيدة، دون أن يدركوا أن السبب هو ضعفهم هم.
لذلك كما سبق أن قلت إن اتحاد الصداقة الأكيد الذي لا ينحل هو الذي يكمن بين المتشابهين في الصلاح وحده… بهذا يكون الحب غير مغشوش بين من لهم هدف واحد وفكر واحد ليشاءوا أو يرفضوا نفس الأمور معًا.
إن أردتم أن تحفظوا هذا الحب غير المنكسر يجدر بكم أن تكونوا حريصين أولاً أن تتخلصوا من أخطائكم وتميتوا شهواتكم بغيرة مشتركة وهدف متحد، مجاهدين في تحقيق ما يُبهج النبي على وجه الخصوص القائل: “هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الأخوة معًا” (مز 1:133). لأنه أي شيء يُظهر وحدة الروح مثل السكنى معًا في مكان واحد؟! غير أن مختلفي الشخصية والهدف عبثًا يحاولون السكنى معًا في سكنٍ واحدٍ، ولا يعوق البعد المكاني الوحدة بين المتأسسين على صلاحٍ متساوٍ. لأن الاتحاد يتم بالله وليس بالمكان… ولا يمكن للسلام الثابت أن يبقى متى اختلفت الإرادة بين الناس.
4- سؤال
جرمانيوس: هل لو رأي إنسان أن أمرًا ما – حسب فكر الله – مفيدًا ونافعًا، يتممه حتى ولو كان ضد إرادة الطرف الثاني أم يترك الأمر؟!
5- الأب يوسف
قلنا أن الصداقة التامة الكاملة لا يمكن أن تبقى إلا بين الكاملين والمتشابهين في الصلاح، الذين بسبب تشابه الفكر واشتراكهم في الهدف لا يختلفوا قط في أي أمر من الأمور الخاصة بتقدمهم في الحياة الروحية مهما كان السبب، أما إذا وجدت بينهم نزاعات فهذا دليل على عدم استيفائهم الشرط السابق ذكره. وحيث إنه لا يقدر أحد أن ينطلق إلى الكمال ما لم يبدأ من الأساس، وسؤالك ليس عن عظمة هذا الاتحاد إنما كيف يُمكن اقتنائه، لهذا أرى إنه يحسن بي أن أشرح لكم، في كلمات قليلة، القانون الذي يحكمه، والطريق الذي ينبغي أن توجه إليه خطواتك حتى يمكنك بسهولة أن تضمن بركة الصبر والسلام.
6- الوسائل التي تحفظ الاتحاد
أولاً: الأساس الأول للصداقة الحقيقية يكمن في الازدراء بالأمور الزمنية واحتقار كل ما نملكه لأنه من الخطأ تمامًا أن نهتم بأباطيل العالم وكل الأمور المزدراة أكثر مما نهتم بالأمور الأعظم ألا وهي محبة القريب…
ثانيًا: يجدر بكل إنسان أن يقطع رغباته، فلا يظن في نفسه إنه حكيم مُختبر، فلا يفضل آرائه عن آراء قريبه.
ثالثًا: يلزمه أيضًا أن يعرف أن كل شيء، حتى ما يبدو مفيدًا وضروريًا، يحتل المركز الثاني بعد بركة الحب والسلام.
رابعًا: عليه أن يتحقق إنه لا يجوز له أن يغضب قط بسببٍ حسن أو رديء.
خامسًا: يجدر به أن يحاول شفاء كل غضبٍ عند أخيه تجاهه، ولو كان بغير سبب، بنفس الطريقة التي بها يرغب في أن يتخلص هو من غضبه ضد أخيه. وليعلم أن غضب أخيه ضده هو أمر شرير مثل غضبه ضد أخيه، فيبذل كل طاقته أن يستبعد عن ذهن أخيه الغضب تمامًا.
أخيرًا: الأمر الذي بلا شك حاسم ويجب عليه أن يتحققه كل يوم إنه راحل عن هذا العالم. وبهذا ليس فقط لا يسمح للغضب أن يبقى في قلبه، بل ويضبط كل حركات الشهوات والخطايا من كل الصنوف.
فمن يقتنى هذه الأمور، لا يسمح للغضب وعدم الاتفاق أن يوجدا ولا يجد سببًا لهما. أما من يفشل في هذه الأمور، فإنه وإن كان غيورًا بالحب لكنه يتشرب سم الانفعال ضد الأصدقاء شيئًا فشيئًا، وإذ تحدث منازعات متكررة يبرد الحب فيه شيئًا فشيئًا وفي وقت أو آخر، يفارق الحب قلوب المحبين، إلى أن يُنتزع تمامًا.
لأنه من كان في الطريق السابق شرحه كيف يمكنه أن يختلف مع صديقه، مادام لا يطلب لنفسه شيئًا؟! بهذا يبتر بداية أي نزاع بترًا تامًا (ذلك الذي غالبًا ما يحدث بسبب أمور تافهة غير ضرورية بالمرة)، إذ يلاحظ ما لفائدته كما جاء في سفر الأعمال: “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أموالهِ لهُ بل كان عندهم كل شيءٍ مشتركًا” (أع32:4).
كيف إذن يمكن أن تحدث أي بذار للنقاش (المثير) ممن لا يطلب ما لنفسه بل ما لقريبه؟! بهذا يصير تابعًا لربه وسيده القائل عن نفسه: “لأني قد نزلت من السماءِ ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني” (يو38:6). كيف يمكن أن يثير نزاعًا لسببٍ ما، ذاك الذي صمم أن يأخذ برأي قريبه وليس حسب إرادته الذاتيه، محققًا بقلبٍ ورعٍ متضعٍ ما جاء في الإنجيل: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعض لبعض” (يو35:13)؟ لأنه بهذا- كما بعلامة خاصة – أراد السيد المسيح أن يميز قطيعه في هذا العالم، فارزًا إياهم عن غيرهم، مختومين بالختم الذي نتكلم عنه! على أي أساس يقبل أية ضغينة تتسرب إلى نفسه أو تبقى في نفس أخيه؟! فإن قراره ثابت وهو أنه لا يمكن أن يترك أساسًا للغضب لأنه أمر خطير وخاطئ، وإذا ما كان أخوه غاضبًا معه لا يقدر أن يصلي كما لو كان نفسه غاضبًا، حافظًا كلمات ربنا ومخلصنا يسوع في قلبه باتضاع: “فان قدَّمت قُربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قُربانك قُدّّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك” (مت23:5،24).
باطلا تقررون ألا تغضبوا وأنتم تظنون أنكم بهذا تنفذون الوصية القائلة: “اغضبوا ولا تخطئُوا، لا تغرب الشمس على غيظكم”، “وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم” (أف26:4، مت22:5)، إذا كنتم تهملون غضب الآخرين نحوكم بقلب عنيد ولا تبالون بتلطيفه بحنوكم. لأنكم بهذا تعاقبون بسبب تعديكم الوصية. الذي قال ألا تغضب على الغير، قال أيضًا ألا تتجاهل غضب الغير عليك، وكلاهما وصيتان متشابهتان في نظر الله “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1تى4:2)، سواء بكونك تهلك نفسك أو نفس أخيك. فموت الواحد مشابه لموت الآخر في نظر الله، وفي نفس الوقت كلاهما ربح متساوٍ في نظر (الشيطان) الذي يبتهج بكل دمار…
أخيرًا كيف يمكنك أن تستبقى أي إغاظة مع أخيك يا من تتحقق كل يوم أنك راحل عن هذا العالم؟!
7- عظمة الحب وخطورة الغضب
لا يوجد شيء يفوق الحب، وبالتالي لا يوجد شيء أدنى من الغضب. يلزمنا ألا نهتم بشيء مهما بدى نافعًا وضروريًا حتى نتجنب الغضب الذي يسبب اضطرابًا، ولا نرتبك بالأمور حتى التي نحسبها ليست كمالية حتى نحفظ هدوء الحب والسلام بغير نقص، لأنه يلزمنا أن ندرك أن لا شيء مهلك مثل الغضب والتكدر، وليس شيئ مفيدًا مثل الحب.
8- كيف ينشأ النزاع بين الروحانيين؟
كما أن عدونا (إبليس) يشتت الاخوة الذين لا يزالون ضعفاء وجسدانيين خلال انفجار غضب مفاجئ بسبب أمور تافهة زمنية، يلقى بذار الخلاف حتى بين الروحانيين على أساس اختلاف الأفكار، مما يؤدى إلى نزاع واختلاف في الكلام. هذا يذمه الرسول، إذ يبذره عدونا الحقود الخبيث بين الاخوة الذين لهم فكر واحد، وذلك كقول سليمان الحكيم “البغضة تهيج خصومات والمحبة تستر كل الذنوب” (القديس أمبروسيوس12:10).
9- كيف نتخلص من أسباب النزاع بين الروحانيين؟
لكي نحفظ الحب باقيًا بغير انكسار، لا يكفي نزع الأساس الأول لعدم الاتفاق والذي يظهر بصورة عامة بسبب محبة الأمور الأرضية التافهة مزدرين بكل الأمور الجسدية، واهبين اخوتنا احتياجاتهم المطلوبة بلا حدود؛ وإنما يجب أن نقطع بنفس الطريقة الأساس الفاني لعدم الاتفاق الذي ينشأ متسترًا تحت مشاعر الروحانية، ونقتني أيضًا الاتضاع في كل شيء والإرادة المتفقة معًا.
10- اختبار عملي
إنني أذكر، أنني في صبوتي اقترحت عليّ أفكاري أن ألتصق بشريك معي وكانت أفكارنا من جهة التداريب الروحية ودراسة الكتاب المقدسة تربكنا (نحن الاثنين)… لكن إذ اجتمعنا معًا وبدأنا نظهر أفكارنا في نقاش عام، ظهر بعضها باتفاق عام إنها مضرة، مع أنها كانت تبدو قبلاً مضيئة كالنور وذلك بخداع شيطاني حتى يسبب نزاعًا بيننا بسهولة… بهذا نُزع عنا كل مشاجرة، وقد سن لنا الآباء الشيوخ ما هو في قوة القانون: إنه لا يجوز لأحدنا أن يعتمد على حكمه الخاص متجاهلاً رأي أخيه، وذلك إن أردنا التحفظ من خداع مكر الشيطان.
11- من يعتمد على رأيه الشخصي لا يسلم من خداع الشيطان
لقد تأكد قول الرسول حقيقة “الشيطان نفسهُ يغيّر شكلهُ إلى شبه ملاك نورٍ” (2كو14:11)، إذ يبث بخداع أفكار الظلمة المشوشة بوفرة بدلاً من نور المعرفة الحقيقة.
فإن لم نتقبل الأفكار بقلب متواضع وديع، ونأخذ في اعتبارنا رأي المختبرين والآباء الشيوخ، فاحصين إياها حسب حكمهم فننبذها أو نقبلها، بالتأكيد نقبل في أفكارنا ملاك الظلمة بدل ملاك النور ونُصاب بخراب خطير.
من يعتمد على حكمه الخاص يصيبه ضرر لا يمكن تجنبه ما لم يصر محبًا وتابعًا الاتضاع الحقيقي، متممًا بانسحاق قلب ما يصلى من أجله الرسول كأمر رئيسي قائلاً: “فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبَّة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كانت أحشاء ورافة فتّمموا فرحى حتى تفتكروا فكرًا واحدًا، ولكم محبة واحدة، بنفسٍ واحدة، مفتكرين شيئًا واحدًا لا شيئًا بتحزُّبٍ أو بعُجبٍ، بل بتواضعٍ، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم”، “وادّين بعضكم بعضًا بالمحبَّة الأخويَّة. مقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (في1:2-3، رو10:12)، حتى يهتم كل واحد بالأكثر بمعرفة أخيه وقداسته، ويرى أن النصيب الأفضل للتمييز الحقيقي هو أن يهتم الإنسان بحكم الغير وليس بحكمه هو.
12- لا تحتقر الأصاغر أثناء المناقشات
يحدث أحيانًا بتصورٍ شيطاني أو نتيجة خطأ بشري أن يخطئ إنسان حاذق في الفهم ومتعلم. بينما يتقبل من هو قليل الفهم والأقل في الاستحقاق أمورًا بصورة أكثر صدقًا وبطريقة أفضل. لذا لا يليق بإنسان، مهما كان متعلمًا، أن يندفع في مجده الباطل، ظانًا أنه غير محتاج للمناظرة مع غيره. فإنه وإن لم يخدعه الشيطان فيعمي حكمه إلا أنه لا يقدر أن يتجنب شباك الكبرياء والغرور المهلكة. لأنه من يقدر أن يدعى لنفسه هذا من غير أن يصيبه خطر عظيم، بينما نجد الإناء المختار نفسه، الذي كما أكد أن فيه يتكلم المسيح نفسه، يعلن أنه في بساطة ذهب إلى أورشليم من أجل هذا السبب، مناقشًا مع زملائه الرسل بخصوص الإنجيل الذي بشر به للأمم حسب إعلان الرب له ومعونته؟!
بهذا يظهر إنه يلزمنا أن نحفظ الوفاق والاتحاد ليس فقط من أجل هذه الوصايا (السابق ذكرها)، وإنما لئلا ننخدع بحيل الشيطان ونسقط في شباكه المنصوبة لنا.
13- الحب ليس فقط صفة للّه إنما هو الله
سامية هي فضيلة الحب المبجلة، إذ يعلن الرسول الطوباوي يوحنا أنها ليس فقط تُنسب لله بل هي الله: “الله محبَّة ومَن يثبت في المحبَّة يثبت في الله والله فيهِ” (1يو16:4).
هكذا نرى المحبة إلهية، حتى أننا نجد ما قاله الرسول حق حي وواضح فينا، “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5:5). وكأنه يقول أن الله قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا، هذا الذي إذ لا نعرف ما نصلي لأجله “يعين ضعفاتنا… ولكن الروح نفسهُ يشفع فينا بأَنَّاتٍ لا يُنطَق بها، ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنهُ بحسب مشيئَة الله يشفع في القديسين” (رو26:8، 27).
14- درجات الحب
يمكن إظهار الحب الذي يتكلم عنه الرسول قائلاً: “فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيَّما لأهل الإيمان” (غلا10:6). إننا نحب آباءنا بطريقة، وزوجاتنا بطريقة، وأولادنا بطريقة ثالثة. فهناك فارق شاسع بين مشاعر المودة وبعضها البعض. بل نجد أن حب الآباء نحو أولادهم ليس متساوٍ على الدوام. ويظهر ذلك في حالة الأب[2] يعقوب، الذي كان أبًا لأثني عشر ابنًا، أحبهم جميعًا بحب أبوي، غير أن مودته ليوسف كانت أعمق كما جاء في الكتاب المقدس: “فلما رأَي اخوتهُ أن أباهم أحبَّهُ أكثر من جميع اخوتهِ أبغضوهُ..” (تك4:37). واضح أن ذلك الرجل لم يفشل في تقديم حب عظيم لبقية أولاده، إنما مودته التصقت بالأكثر بهذا الابن في حنو ولطف أعظم، وذلك بكونه رمزًا للرب.
هذا الأمر نجده أيضًا بوضوح بالنسبة ليوحنا الإنجيلي الذي يُقال عنه: “كان يسوع يحبُّهُ” (يو23:13). فبالرغم من أن الرب قد احتضن الإحدى عشر الآخرين الذين اختارهم بنفس الطريقة التي اختاره بها، وقد وهبهم حبه الخاص كما جاء بشهادة الإنجيل: “وصيَّة جديدة أنا أعطيكم أن تحبُّوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم أنا تحبُّون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا” (يو34:13). “إذ كان قد أحبَّ خاصَّتهُ الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى” (يو1:13)، فحبه لشخص معين بطريقة خاصة لا يعني عدم محبته لبقية التلاميذ، وإنما أظهر حبًا تامًا غزيرًا تجاه هذا الواحد، بسبب امتيازه بالبتولية ونقاوة جسده التي وهبت له. لهذا رعاه بمعاملة استثنائية كما لو كان له سمو خاص، ليس لأن هناك كراهية تجاه الآخرين، بل لوجود نعمة غنية أوفر للحب المميز.
نجد أيضًا شيئًا من هذا القبيل في شخصية العروس في نشيد الأناشيد، حيث تقول: “عَلَمُهُ فوقي محبة” (نش4:2).
15- عدم تهدئة الضمير بالابتعاد عمن يغضبون عليهم
إننا نعلم – وليتنا ما كنا نعلم – أن بعض الإخوة قساة وعنيدين. هؤلاء إذ يعرفون أن مشاعرهم قد ثارت ضد اخوتهم، أو أن اخوتهم ثارت مشاعرهم ضدهم، يعالجون هذا التكدير الذهني بالابتعاد عنهم، مع أنه كان يلزم أن يلاطفوهم ويتحدثون معهم باتضاع… وإذ يظنون إنهم يلطفون الأفكار المرة التي ثارت في قلوبهم، يزيدونها خلال هذا السلوك المملوء سفاهة، الأمر الذي كان يمكنهم التخلص منه للحال لو أظهروا اهتمامًا أكثر باخوتهم، واتضاعًا أمامهم. لأن التعبير عن الأسف المناسب في حينه يشفي مشاعرهم ويلطف قلوب اخوتهم.
إنهم بهذا السلوك ينعشون خطية الدناءة، ويتممون خطية الكبرياء بدلاً من سحق كل بواعث النزاع، متجاهلين وصية الرب القائل: “وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ رَقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنَّم. فإن قدَّمت قُربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فأترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح واذهب أولاً أصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك” (مت22:5-24).
16- لا تتجاهل تكدر أخيك تجاهك
هكذا ربنا غيور جدًا ألا نتجاهل تكدر الغير علينا، حتى إنه لا يقبل تقدمتنا متى كان أخونا لديه شيء ضدنا، بمعنى إنه لا يسمح لنا أن نقدم له صلواتنا ما لم يتم إصلاح سريع بنزع التكدر الذي في ذهن أخينا تجاهنا، سواء كان على حق أو باطلا.
لأن الرب لم يقل: “أن لأخيك أساس سليم لشكواه ضدك”، بل قال: “وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فأترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك”، بمعنى إنه إن كان يوجد شيء – مهما كان صغيرًا أو تافهًا – يغضب أخيك عليك، وهذا تذكرته فجأة، يلزمك ألا تقدم قربان صلواتك الروحي إلا بإصلاح مملوء حنوًا، بنزع الكدر من قلب أخيك مهما كان سببه.
فإن كانت كلمات الإنجيل تأمرنا أن نهدئ أولئك الذين هم غاضبين علينا لأسباب قديمة ولأمور تافهة… فماذا يكون شقاؤنا نحن الذين بنفاق عنيد نهمل الغضب القائم حاليًا، وقائم بسبب أمور خطيرة، ويرجع سببه إلى أخطائنا نحن؟ لكن إذ نحن متعجرفون بكبرياء الشيطان نتحرج من أن نتواضع، متذكرين أننا نحن السبب في تكدر أخينا. هكذا بروح متمردة نستهين بالخضوع لوصايا الرب، متذمرين عليها ظانين أنها مستحيلة التنفيذ. وإذ نضع في ذهننا أن الرب أوصانا بأمور مستحيلة غير مناسبة نصير كقول الرسول لسنا عاملين بالناموس بل ديانين له (يع11:4).
17- احتمل أخاك كما تحتمل أهل العالم
يلزمنا أن ننتحب هذا الأمر بمرارة، وهو أن بعض الاخوة عندما يغضب عليهم أحد وينطق ضدهم بكلمات مخزية، فإذ يستسمحهم… يقولون للحال إنه لو كان إنسانًا وثنيًا أو يحيا حياة عالمية لاحتملوه، كما لو كان الاحتمال من جانبنا يكون بالنسبة لغير المؤمنين والمجدفين فقط ولا نحتمل الجميع. أو كأن الغضب يحسب شريرًا متى كان ضد إنسان وثني، وصالحًا لو كان ضد أحد الإخوة (المؤمنين)، مع أن الغضب المملوء عنادًا يجلب بالتأكيد ضررًا للنفس الغضوبة أيا كان الشخص الذي نغضب عليه.
يا له من عناد مرعب! نعم وفيه جمود! لأنه بسبب غباوة أصحاب الأذهان البليدة لا يقدرون على تمييز تلك الكلمات، إذ لم يقل: “كل من يغضب على غريب باطلاً يكون مستوجب الحُكم”، بل قال: “كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم”.
هكذا إن كنا نرى إنه بحسب قانون الحق أن كل إنسان هو أخ، إلا أنه في هذه العبارة تحمل كلمة “أخ” معنى الإنسان المؤمن والشريك معه في طريق الحياة أكثر مما تعنيها بخصوص الوثني.
18- لا تثر أخاك بالصمت
لكن ما هذا؟! فإننا نظن أحيانًا أننا صابرون، وذلك لأنه عندما نُثار نحتقر الغير بعدم إجابتنا عليه. بصمتنا الكئيب أو خلال حركات السخرية وبالإيماءات نهزأ باخوتنا الغاضبين، حتى نثيرهم بنظراتنا الصامتة أكثر مما لو كنا قد غضبنا معهم ثائرين. في هذا نظن أننا غير مخطئين أمام اللّه لأننا لم نسمح لكلمة أن تخرج من شفاهنا، هذه التي توصمنا بوصمة العار أمام الناس وتديننا، كأن الله لا يهتم إلا بالكلمات غير مبالٍ بإرادتنا الخاطئة. وكأنه ينظر إلى تصرفنا الخارجي لعمل الخطية لا إلى رغبتنا ونيتنا المخطئتين. أو كأننا نُسأل في يوم الدينونة فقط على ما نفعله دون أن نُسأل عن نية الفعل…
في هذا كأنه يكفي للإنسان أن يحتج بأنه لم يدفع الأعمى بيديه ليسقط، مع أن الجريمة متساوية حينما يزدرى بإنقاذه متى رآه في طريقه للسقوط في هوة وفي إمكانه أن يرشده ولم يفعل! أو كأن المجرم هو من يُمسك مرتكبًا الجريمة، ولا يُحاسب من دبر الجريمة وخططها!
إذن باطلاً نلجم ألسنتنا إن كان صمتنا يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الصراخ. وبواسطة إيماءاتنا الكاذبة نجعل ذاك الذي نشفيه في حالة أكثر غضبًا، بينما يمتدحنا الناس من أجل هذا… وبهذا يكون الإنسان أكثر إجراما، لأنه يحاول أن يمجد نفسه على حساب سقوط أخيه…
غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب بأكثر حذاقة مما يثيره الكلام. وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتمل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: “ليأسر رؤَساءهُ حسب إرادتهِ” (مز 22:105). وفي موضع آخر قيل: “كلام النَّمام مثل لُقَم حلوة فينزل إلى مخادع البطن” (أم 22:26). هنا ينطبق القول: “لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش. بفمهِ يكلم صاحبهُ بسلام وفي قلبهِ يضع لهُ كمينًا” (إر 8:9). وعلى أي الأحوال هو يخدع الغير إذ “الرجل الذي يطري صاحبهُ يبسط شبكة لرجليهِ” (أم 5:29).
أخيرًا عندما جاءت جموع كثيرة بسيوف وعصي للقبض على الرب، لم يكن أحد من المجرمين في حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذي تقدم باحترام مملوء خداعًا وتكريمًا فاسدًا مقدمًا قبلة حب غاش، هذا الذي قال له الرب: “يا يهوذا أَبقُبلةٍ تسلّم ابن الإنسان؟!” (لو48:22).
19- لا تُضرب عن الطعام بغضب
يوجد نوع آخر من التكدر الشرير، الذي ما كان يستحق الإشارة إليه لولا معرفتنا أن بعض الاخوة يسمحون لأنفسهم به. هؤلاء الذين عندما يتكدرون يضربون عن الطعام حتى أننا (للأسف الأمر الذي لا يمكنني أن أذكره بغير خجل) نجد أولئك الذين في وقت هدوئهم يعلنون عجزهم عن الصوم أكثر من الساعة السادسة أو التاسعة، إذ بهم في وقت غضبهم لا يشعرون بالجوع لمدة يومين أو أكثر، فيزدادون زهدًا بواسطة تخمة الغضب.
هؤلاء بلا شك يدنسون الأمور المقدسة (الأصوام) كما لو كانت خارجة عن غضب شيطاني، محتملين أصوامًا كان ينبغي أن تقدم لله وحده بتواضع قلب ونقاوة من الخطية، لكنهم يقدمون الصلوات والتقدمات للشياطين. وبهذا يكونون مستحقين لتوبيخات موسى القائل: “ذبحوا لأوثان ليست الله، لآلهةٍ لم يعرفوها أحداثٍ قد جاءَت من قريب لم يرهبها آباؤُكم” (تث17:32).
20- لا تقدم الخد الآخر بخد مزيف
إننا لا نجهل نوعًا آخر من انحراف العقل الذي نجده في بعض الاخوة تحت لون من الصبر المزيف. هؤلاء لا يكتفون بإثارة المنازعات حتى يثيرون الآخرين لكي يضربونهم، لكنهم إذا ما ضُربوا بضربات خفيفة يقدمون أجزاء أخرى من جسمهم للضرب ليثيروا من هم حولهم، وهم يحسبون إنهم بهذا يحققون الكمال المأمور به في القول: “مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا” (مت39:5)، هؤلاء يجهلون معنى الآية وغايتها، ظانين إنهم ينفذون الصبر الوارد في الإنجيل أن لا نقاوم الشر بالشر ولا التهيج بمثله، وإنما قُدمت لنا الوصية لكي نسّكن غضب الضارب باحتمالنا ضعفه (وليس بإثارتنا له لكي يضربنا).
21- جرمانيوس: كيف يمكننا أن نلوم إنسانًا ينفذ وصية الإنجيل ولم يقابل الشر بمثله بل استعد لاحتمال خطأ مضاعف؟
22- يوسف: كما سبق أن قلنا منذ قليل إنه يلزمنا ألا ننظر إلى الأمر من جهة العمل ذاته بل نية الفاعل وطريقة تفكيره فإذا ما وُزنت فعل الإنسان، فاحصًا قلبه بتدقيق ومشاعره التي نبع عنها الفعل، فسترى إنه لا يمكن أن تتم فضيلة الاحتمال واللطف في الروح المضاد أي خلال عدم الاحتمال والغضب (الخفي).
لهذا عندما أعطانا ربنا ومخلصنا درسًا كاملاً بخصوص فضيلة الاحتمال واللطف (أي يعلمنا لا أن نعترف بها بلساننا إنما نخزنها في أعماق نفوسنا الداخلية) وهبنا ملخصًا للكمال الإنجيلي قائلاً: “وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ. بل مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا” (مت39:5). (وإذ أشار إلى الخد الأيمن، فهذا لا يمكن أن يحدث إلا في وجه الإنسان الداخلي)[3]، ولهذا يرغب الرب أن ينزع عنا كل مثيرات الغضب من أعماق النفس الداخلية نزعًا تامًا. بمعنى إن كان خدك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب، فليقبل الإنسان الداخلي باتضاع أن يتقبل الضربة على خده الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضطرب الإنسان الداخلي…
لقد رأيت كيف أن هذا بعيد كل البعد عن الكمال الإنجيلي الذي ينادى بالثبات في الصبر، لا بالكلام بل في هدوء القلب الداخلي. ويأمرنا أن نحفظ هذا مهما أصابنا من شرور، حتى أننا ليس نحفظ أنفسنا على الدوام بغير غضب مقلق، بل وبخضوعنا لأذيتهم نجبرهم أن يهدأوا عن اضطرابهم بتتميمهم اللطم الثاني، وهكذا بلطفنا نقهر غضبهم… هكذا أيضًا تتحقق كلمات الرسول: “لا يغلبنَّك الشرُّ بل اغلب الشرَّ بالخير” (رو21:12).
واضح أن هذا لا يقدر أن ينفذه من ينطق بكلمات اللطف والاتضاع بروح كهذه مملوءة غضبًا، حتى إنهم ليس فقط يفشلون في إطفاء نار الغضب الملتهبة، بل بالأحرى يشعلونها بأكثر قسوة، سواء في مشاعرهم أو مشاعر أخيهم الثائر.
هؤلاء حتى وإن حفظوا هدوءً لأنفسهم لكنهم لا يحملون أي ثمر للبر. وبينما هم يدّعون الصبر من جانبهم على حساب هلاك قريبهم، يستبعدون المحبة الرسولية التي: “لا تطلب ما لنفسها” (1كو5:13)، لأن المحبة لا تطلب هذا الغنى لنفعها الخاص على حساب هلاك القريب، ولا ترغب في ربح شيء على حساب خسارة الغير.
23- قوة الإنسان وشهامته تكمن في خضوعه لإرادة غيره
يلزمك بالتأكيد أن تعرف بصورة عامة أن من يخضع لإرادة أخيه يكون أقوى من الذي يتمسك متشبثًا بعنادٍ مدافعًا عن آرائه الخاصة. الأول باحتماله أخيه ومساعدته يربح صفة القوة والحيوية، أما الثاني فيقتني الضعف والمرض…
لا يظن الأول أنه فقد شيئًا من كماله بالرغم من خضوعه وتركه شيئًا من دقته التي يهتم بها، بل ليتأكد أنه ربح ما هو أعظم: فضيلة الصبر وطول الأناة. هذه هي وصية الرسول: “فيجب علينا نحن الأقوياءَ أن نحتمل أضعاف الضعفاءِ ولا نُرضِى أنفسنا” (رو1:15) و”احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تّمموا ناموس المسيح” (غلا2:6). لأن الإنسان الضعيف لا يقدر أن يعين الضعيف، ولا من يعاني من أمر يقدر أن يشفي عليلاُ مثله. أما من كان غير خاضعٍ للضعف فهذا يستطيع أن يقدم علاجًا للضعيف، إذ قيل: “أيُّها الطبيب اشفِ نفسك” (لو23:4).
24- عجز الضعيف عن احتمال غيره
يجدر بنا أن نلاحظ هذه الحقيقة أيضًا، وهى أن طبيعة الضعفاء إنهم متسرعون ومستعدون على الدوام أن ينتهروا ويبذروا بذار المنازعات، بينما هم أنفسهم لا يقدرون أن يحتملوا أن يمسهم أحد بأقل ضرر بسيط. وبينما هم لا يبالون بالغير، ينشرون بتسرع وصايا يعجزون عن احتمال أخفها.
لهذا حسب فكر الآباء الشيوخ السابقين أن الحب لا يمكن أن يبقى ثابتًا غير منكسر إلا بين أشخاص متشابهين في الهدف والصلاح، لأنه سينكسر حتمًا، في وقت أو آخر، مهما بذل طرف واحد فقط من عناية.
25- سؤال
جرمانيوس: إذن كيف يمكن مدح الصبر الذي للرجل الكامل إن كان لا يحتمله الضعفاء على الدوام؟
26- يوسف:
إنني لم أقل أن فضيلة الإنسان وصبره سيُقهران، لكن بؤس الإنسان الضعيف يزداد بواسطة طول أناة الرجل الكامل، وبزيادته في شره لا يقدر هو أن يحتمل شيئًا… غير أن الذي يرغب في حفظ مودة زملائه دون أن تنحل، بمعنى إنه عندما يُثار بأي خطأ (من الغير)، يلزمه أن يحفظ شفتيه، بل ويحفظ أعماق صدره بغير اضطراب. وإن وجد أنهم (شفتيه وصدره الداخلي) يضطربون اضطرابًا خفيفًا، يحفظ نفسه في صمتٍ كاملٍ ويلاحظ باجتهاد ما يقوله المرتل: “صَمتُّ صمتًا، سكَتُّ عن الخير، فتحرَّك وجعي. حمي قلبي في جوفي. عند لهجي اشتعلت النار. تكلمت بلساني” (مز 2:39، 3).
يلزمه أيضًا ألا ينظر إلى حالته الحالية ولا يعطى بالاً لما يقترحه عليه غضبه العنيف وذهنه الثائر… إنما يجدر به أن يعيش في نعمة الحب الماضية، أو يتطلع بذهنه إلى المستقبل، إلى السلام الذي سيعود، بتأمله في ساعة غضبه ذاتها، كما لو كان قد عاد السلام بينهما فعلاُ. وبينما يحفظ نفسه ببهجة الاتفاق الآتي لا يشعر بمرارة النزاع الحاضر، وبسهولة يمكنه أن يقدم مثل تلك الإجابات (اللطيفة)…
27- كيف يمكن قمع الغضب؟
يجدر بنا أن نقمع كل حركة من حركات الغضب ونلطفها تحت إرشاد التمييز (الحكمة)، حتى لا نتهور بالغيظ الأعمى، الأمر الذي قال عنه سليمان: “الجاهل يظهر كل غيظهِ، والحكيم يسكنهُ أخيرًا” (أم 11:29). بمعنى أن الإنسان الجاهل يلتهب بانفعال الغضب لينتقم لنفسه، أما الحكيم فبسبب نضوج مشورته ولطفه يطفئ الغضب شيئًا فشيئًا ويتخلص منه.
يقول الرسول أمرًا مشابهًا: “لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحباءُ، بل أعطوا مكانًا للغضب. لأنهُ مكتوب لي النقمة أنا أجازى يقول الربُّ” (رو 19:12). بمعنى لا تسمحوا لقلوبكم أن تُحبس في مضايق عدم الصبر والجُبن، حتى متى ثارت أية عاصفة عنيفة للغضب لا تقدر أن تحتملها، لكن لتكن قلوبكم متسعة تتقبل موجات كلمات الغضب في تيارات الحب المتسعة التي “تحتمل كلَّ شيءٍ… وتصبر على كل شيءٍ” (1 كو 7:13). وهكذا تتسع أذهانكم بطول الأناة والصبر ويكون فيه أعماق المشورة الأمينة التي تستقبل دخان الغضب وتبيده.
يمكن أن تفهم العبارة بالمعنى التالي: إننا نضع مكانًا للغضب وذلك بقدر ما نخضع بذهنٍ متواضعٍ هادئ لانفعال الآخرين، وننحني لعدم صبر الثائرين، كما لو كنا نستحق كل صنوف الخطأ (كتأديب لنا).
أما الذين يشوهون معنى الكمال الذي يتحدث عنه الرسول مفسرين “وضع مكان الغضب” بأنه الابتعاد عن الإنسان في وقت غضبه، يبدو لي إنهم بهذا لا يقطعون أسباب الغضب بل يهيجون بواعث النزاع. لأنه ما لم نصلح غضب القريب في الحال بإصلاحٍ مملوء تواضعًا فإن الابتعاد يثير القريب أكثر…
يتكلم سليمان عن أمرٍ كهذا قائلاً: “لا تسرع بروحك إلى الغضب، لأن الغضب يستقر في حضن الجهال” (جا 9:7). و”لا تبرز عاجلاً إلى الخصام لئَلاَّ تفعل شيئًا في الآخر حين يخزيك قريبك” (أم 8:25). وهو بهذا لا يلوم التسرع في النزاع بمعنى أنه يمدح النزاع المتأخر.
بنفس الطريقة يجب أن نفهم القول: “غضب الجاهل يُعرَف في يومهِ. أما ساتر الهوان فهو ذكيّ” (أم 16:12)، لأنه لا يعنى أن الحكيم يخزن انفجار الغضب خفية، إنما يلوم انفجار الغضب المتهور… يلزمه أن يخفي الانفجار بهذا السبب، وهو إنه بينما يتركه إلى حين يهدأ روح الغضب إلى الأبد. لأن هذه هي طبيعة الغضب، عندما يترك له مكان (أي لا نتسرع به) يضعف ويبيد أمـا إذا عُرض الغضب في حالة الثورة فإنه يحرق أكثر فأكثر.
يجب على القلوب أن تتسع وتنفتح حتى لا تنحصر في مضيقات الجُبن وتمتلئ بالغضب المتزايد، وتصير قادرة أن تتقبل وصايا الله بما يدعوه النبي “(اتساع القلب) أو الاتساع الفائق”. إذ يقول النبي: “في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي” (مز 32:119).
لأن بطء الغضب هو حكمة، نتعلمها بواسطة أقوال الكتاب المقدس الواضحة لأن “بطيء الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّي الحمق” (أم 29:14). لذلك يقول الكتاب المقدس عن الشخص الذي طلب من الرب عطية الحكمة: “وأعطى اللّه سليمان حكمةً وفهمًا كثيرًا جدًّا ورحبة قلب كالرمل الذي على شاطئِ البحر” (1 مل 29:4).
28- خاتمة
هذا أيضًا ما تبرهنه لنا الخبرات الكثيرة أن الذين دخلوا في رباطات الصداقة خلال رباط شرير، لا يمكنهم أن يحفظوا اتفاقهم بغير انحلال، إما لأنهم حاولوا حفظه بعيدًا عن رغبتهم في الكمال، أو لعدم تأسيسه على الحب الرسولي بل على حب أرضي… أو لأن عدونا (الشيطان) المملوء دهاء يعجلهم بالتهور في كسر سلاسل صداقتهم حتى يجعلهم حانثين لوعدهم.
هذا الفكر تأسس بأكثر تأكيد بواسطة أعظم الرجال حنكة، وهو أن الاتفاق الحقيقي والوحدة غير المنحلة يمكن أن توجد فقط بين الذين يحيون حياة نقية ومتشابهين في الصلاح والهدف.
هكذا تحدث يوسف الطوباوي بحديث روحي بخصوص الصداقة، وقد ألهب الاشتياق بالأكثر نحو حفظ الحب الذي لزمالتنا لكي يبقى على الدوام.
ملخص المبادئ
– الصداقة الدائمة هي التي يرتبط فيها الأعضاء مع بعضهم البعض في شخص الرب يسوع.
– لا يمكن أن تدوم الصداقة ما لم تكن الأطراف متشابهة في الهدف ومتساوية في الصلاح والفضيلة.
– أسباب فشل الصداقة بين الجسدانيين هو محبة الأمور الزمنية، وأسباب فشل الصداقة بين بعض الروحانيين هو ما يبثّه العدو من اختلاف الفكر.
لهذا يلزمنا :
1- أن نرفض محبة العالم وكل ما فيه.
2- ألا نعتمد على حكمنا الخاص وإرادتنا ولا نتشبث بآرائنا.
– الإنسان المتشبث بآرائه لا يسلم من خداعات العدو، والإنسان الذي يخضع لرأي أخيه وينصت لمن هم أقل منه إنسان قوى.
– صور مستترة للغضب وعدم محبة الغير:
1- الابتعاد عن الذين بيننا وبينهم نزاع بقصد إثارتهم.
-
مع أن الله ينظر إلى القلب لا إلى مجرد النزاع الخارجي.
-
تأمرنا الوصية أن نهتم بأخينا الذي يحمل غضبًا تجاهنا، حتى ولو كان بغير سبب.
Discussion about this post