السَّنة المِئَة
رسالة عامَّة
للحبر الأعظم
يوحَنَّا بولس الثَّاني
إلى إخوته في الأسقفية وإلى الإكليروس والأُسر
الرّهبانية ومُؤمني الكنيسة الكاثوليكية
وجميع ذوي النوايا الصّالحة
في الذكرى المئويَّة للرّسالة العامّة
“الشؤون الحَديثة”
إخوتي الأجلاء
بنيَّ وبناتي
تحية وبركة رسولية
مقدَّمة
1- الذكرى المئوية لإعلان الرسالة العامة لسلفي الطيب الذكر لاون الثالث عشر، المصدرة بكلمتي ” الشؤون الحديثة ” (1) ، تسجل حدثاً جليل الأهمية في الحقبة الراهنة من تاريخ الكنيسة وفي عهد ولايتي أيضاً. فلقد امتازت هذه الرسالة بما أولاها الأحبار العظام، من يوبيلها الأربعين، حتى يوبيلها التسعين، بوثائق رسمية خلّدت ذكراها. ويسوغ القول إن ثمة وثائق أخرى تخللت مسيرتها التاريخية، لافتة إليها النظر وواضعة إياها موضع التطبيق (2).
بمناسبة الذكرى المئوية لصدور هذه الرسالة، أوّد أن أجري على ذات المنوال، نزولاً على طلب الكثير من الأساقفة والمؤسسات الكنسية والمراكز الجامعية وأرباب العمل والعمال، بصفتهم الفردية، أو بصفتهم أعضاء جمعيات. وإنما بغيتي في ذلك أن أسدّد ما تدين به الكنيسة كلها من شكر للبابا العظيم ” ولوثيقته الخالدة (3) “. ومنيتي أيضاً أن أبيّن أن الماوية الدافقة من هذا الجذع لم تنضب مع الأيام، بل أصبحت، بالعكس، أكثر غزارة. والدليل على ذلك المبادرات المتنوعة التي سبقت هذا الاحتفال وتواكبه وسوف تعقبه، بهمّة المجالس الأسقفية، ومنظّمات دولية وجامعات ومؤسسات أكاديمية وجمعيات مهنية ومؤسسات أخرى أو أفراد في مناطق كثيرة من العالم.
2- هذه الرسالة تنتظم في سلك هذه الحفلات، شكراً لله الذي منه ” كل عطية صالحة وكلّ هبة كاملة ” ( يع 1/ 17)، والذي استعان بوثيقة صدرت عن كرسيّ بطرس، قبل مئة عام، ليحقق خيراً عميماً وينشر نوراً كثيراً في الكنيسة وفي العالم. الذكرى التي نقيمها هنا تتوجّه إلى رسالة لاون الثالث عشر، وفي الوقت نفسه، إلى ما أصدره أسلافي من رسائل ووثائق أخرى ساعدت في جعلها حاضرة في الأذهان وفاعلة على مرّ الأزمان، فكوّنت ما سمّي ” بالعقيدة الاجتماعية ” أو ” التعليم الاجتماعي ” أو ” التفقيه الاجتماعي” في الكنيسة. لقد أصدرت حتى الآن، في غضون ولايتي، رسالتين تمتان إلى هذه العقيدة المستمدّة من السلطة: بممارسة العمل في “العمل البشري”، “والاهتمام بالشأن الاجتماعي” في المعضلات الراهنة المتصلة بنموّ الناس والشعوب (4).
3- أودّ أن أقترح الآن ” قراءة جديدة ” لرسالة لاون الثالث عشر، وأدعو إلى إلقاء نظرة ” إلى الوراء ” على نص الرسالة نفسه لاكتشاف ثروة المبادئ الأساسية المطروحة لحلّ المسألة العمّاليّة. ولكني أدعو أيضاً إلى إلقاء نظرة ” حالية ” على ” الشؤؤن الحديثة ” التي تميّز بها العقد الأخير من القرن الماضي. وأدعو أخيراً إلى إلقاء نظرة ” إلى الأمام “، وقد بدأت تلوح لنا، منذ الآن، تباشير الألف الثالث للعهد المسيحي، مثقلاً بالمجهول، ولكن حافلاً بالوعود أيضاً: مجهول ووعود تستدعي منا طاقات الذهن والإبداع، ولكنها تحفزنا أيضاً، نحن أتباع المسيح ” المعلم الأوحد ” ( متى 23/8 ) إلى أن نضطلع بمسؤولية إعلانه طريقاً نهدي إليه، وحقاً نجهر به وحياة نشرك الآخرين فيها ( يو 14/6 ).
بهذه الطريقة، نؤكد مرة أخرى، ما لهذا التعليم من قيمةٍ راسخة ونبرز أيضاً، علاوةً على ذلك، التقليد الكنسي في كنهه الصحيح، وهو تقليد حيّ وفاعل مبنيّ على الأسس التي وصفها آباؤنا في الإيمان، وبخاصة ” ما نقله الرسل إلى الكنيسة ” (5) باسم يسوع المسيح، وهو الأساس الذي ” لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غيره ” (1 قور 3/11 ).
هذه المسألة لم ينبر لها لاون الثالث عشر إلا بوعي لمهمته خليفةً لبطرس. وهذا الوعي نفسه هو الذي يحرّك اليوم خليفته. فعلى غراره الباباوات قبله وبعده، أستوحي الصورة الإنجيلية ” للكاتب المتتلمذ لملكوت السماوات ” الذي قال فيه الرب لإنه ” يشبه ربّ بيتٍ يخرج من كنزه كل جديد وقديم ” (متى 13/52 ).
فالكنز إنما هو تراث الكنيسة العظيم الذي يحتوي على ” العتق ” الموروثة والمنقولة بلا انقطاع، ويمكّننا من قراءة ” الجدد ” التي في وسطها تجري حياة الكنيسة والعالم.
في حيّز هذه ” الجدد” التي في تنضمّ إلى التراث فتصبح ” عتقاً ” وتوفّر الفرص والمادة لإغناء هذا التراث، ولإثراء حياة الإيمان، يدخل أيضاً النشاط المثمر لأناس لا يحصون بذلوا الجهد لتحقيق التزامهم في العالم في العالم، بوحيٍ وحفزٍ من التعليم الاجتماعي في الكنيسة. لقد نشطوا أفراداً أو متضافرين بطرق مختلفة ضمن جماعاتٍ أو جمعيات أو منظمات، فأطلقوا شبه تيّار كبير للدفاع عن الإنسان والذود عن كرامته، وساهموا، عبر تقلبات التاريخ المتنوّعة، في بناء مجتمع أكثر إنصافاً، أو أقله في لجم الظلم والحدّ من شرّه.
هذه الرسالة هدفها التنويه بخصب المبادئ التي طرحها لاون الثالث عشر والتي تمتّ إلى التراث العقائدي في الكنيسة وتلزم، من ثم، السلطة التعليمية فيها. بيد أن الهمّ الرعائي حملني، من جهة أخرى، على القيام بعرض تحليلي لبعض الأحداث الجديدة في التاريخ. وليس من حاجة إلى التنبيه إلى أنّ التبصّر في مجرى الأحداث بعينٍ يقظة، بغية الوقوف على مقتضيات التبشير الحديثة، هو من الواجبات المترتّبة على الرعاة. ولكنني عندما اتبسّط في هذه الاعتبارات، لا أنوي التعبير عن أحكام جازمة، لأنها في حدّ ذاتها، لا تدخل في نطاق التعليم الرسمي في الكنيسة.
الفصل الأول
” الشؤون الحديثة ” في ملامحها المميّزة
4- في أواخر القرن الفائت، واجهت الكنيسة تطوّراً تاريخيّاً كان قد ابتدأ منذ بعض الوقت، ولكنه بلغ آنذاك تخوم الأزمة. من جملة العوامل الحاسمة في هذا التطوّر، نجد مجموعةً من التحوّلات الجذريّة طرأت في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما في نطاق العلم والتقنية، نلهيك عن التيارات الفكرية السائدة ومؤثراتها المتعدّدة. في المجال السياسي، ولّدت هذه التحوّلات تصوّراً جديداً للمجتمع وللدولة وبالتالي، للسلطة، فإذا بنا أمام مجتمع تقليديّ أخذ يتقلّص ويحلّ محلّه مجتمع آخر، يحدوه الأمل بحرّيات جديدة، من جهة، ويحدق به، من جهة أخرى، خطر التعرّض لأشكال جديدة من الظلم والاستبداد.
في المجال الاقتصادي بدأت تصبّ اكتشافات العلوم وتطبيقاتها، وتتكوّن تدريجياً بنىً جديدة لإنتاج السلع المعدّة للاستهلاك. وأخذت تظهر، مع رأس المال، صيغة جديدة في التملّك، ومع نظام الأجور أسلوب جديد في العمل، تميّزه إنتاجية مرهفة لا تحفل بمستلزمات الجنس والسنّ والوضع العيلي، ولا تعبأ إلا بالفاعلية وزيادة الكسب.
هكذا أمسى العمل سلعة عرضةً للشراء والبيع في السوق الحرّة، بثمن لا يحكمه سوى قانون العرض والطلب، وبصرف النظر عمّا تتطلبه حياة الفرد وأسرته في حدّها الأدنى. هذا ولم يكن العامل ليضمن بيع ” سلعته “، بل كان دوماً مهدّداً بالبطالة، وعرضةً من ثمّ، لأن يهلك جوعاً، في غياب كل حصانة اجتماعية.
وكانت نتيجة هذا التحوّل ” انشطار المجتمع إلى طبقتين بينهما هوة عميقة “. وقد انضاف هذا الوضع إلى ما أشرنا إليه من تحولات سياسيّة، فأمست النظرة السياسية السائدة في تلك الحقبة ميّالة إلى تدعيم الحريّة الاقتصادية الكاملة بتشريعات ممالئة، أو –بالعكس_ بتعمّد عدم التدّخل. وفي الوقت نفسه بدأت تبرز، بشكل منظّم وبطريقة عنيفة في معظم الأحيان، نظرية جديدة في الملكية والحياة الاقتصادية، أفرزت بنيةً جديدة في السياسة والاجتماع.
في ذروة هذا التصادم، وإذ بدأت تبرز في وضح النهار فداحة الظلم الواقع على المجتمع في مناطق كثيرة، وخطر ثورة تدعمها الأفكار المدعوّة ” اجتماعية ” آنذاك، تدخّل لاون الثالث عشر، وأصدر وثيقة تعالج ” المسألة العماليّة ” بأسلوب منهجيّ. هذه الرسالة سبقتها وثائق أخرى معنيّة أكثر بالقضايا السياسية وتلاها أيضاّ غيرها من الوثائق (7). في هذا السياق، تجدر الإشارة، بنوع خاص، إلى الرسالة ” في الحريّة “، وفيها تذكير بالصلة الجوهرية بين الحرية البشريّة والحقيقة، وهي من المتانة بحيث إن الحريّة التي تأبى الالتحام بالحقيقة تهوي في المزاجية، ومصيرها الارتهان للأهواء المشينة والتعرّض للدمار الذاتي. فالرزايا التي تتصدّى لها ” الشؤون الحديثة ” أفليست كلها نتيجة حريّة حائدة عن حقيقة الإنسان، في مجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي؟
وقد استوحى الحبر الأعظم، من جهة أخرى، تعاليم أسلافه ووثائق أسقفية كثيرة وبحوثاً علمية قام بها عدد من العلمانيين، ونشاط بعض الحكات والجمعيات الكاثوليكية، وإنجازات ملموسة في المضمار الاجتماعي مهرت حياة الكنيسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
5- ” للشؤون الحديثة ” التي استمدّت منها عنوانها: ” في الزمن الذي أخذت تتنامى فيه الرغبة العارمة عند الشعوب، منذ زمن بعيد، في ” الشؤون الحديثة “، كان لابدّ لهذه الرغبة في التغيير من أن تنتقل من حيّز السياسة إلى جوار دائرة الاقتصاد. ولا غرو، تطوّرت وأساليبها تجدّدت كليّاً، والعلاقات بين أرباب العمل والعمّال تبدّلت، والثروات تراكمت عند قلّة من الناس بينما الجمهور في عوز. وتنامت ثقة العمّال بأنفسهم وأقاموا بينهم حلفاً أوثق. هذا كله، بالإضافة إلى انحلال الأخلاق، أدىّ إلى تفجير صراع “.لقد ألفى لاون ذاته بمعيّة الكنيسة والأسرة المدنيّة في مواجهة مجتمع مصدّع زاده شراسة وضراوة غياب كل قاعدة وكل قانون. هو الصراع بين رأس المال والعمل ، وهو ما تسمّيه الرسالة بالمسألة العمالية. في شأن هذا الصراع وفي الظروف العصيبة التي أحاطت به آنذاك، لم يتردّد البابا في إصدار حكمه.
هنا تتبادر إلى ذهننا أول عبرة مستوحاة من الرسالة لفائدة عصرنا. ففي مواجهة صراعٍ بين الناس، وكأنهم ذئاب يتجابهون، حتى على صعيد الأود المادي عند بعضهم، والإثراء الفاحش عند البعض الآخر، لم يحجم البابا عن التدخل، بداعي ” مهمته الرسولية ” (9)، أي بدافع الرسالة التي ائتمنه عليها يسوع المسيح نفسه، بأن يرعى ” الخراف والنعاج ” ( يو 21/15-17 )، و” يحل ويربط على الأرض ” لأجل ملكوت السماوات ( متى 16/19 ). لقد كانت بغيته، بلا مراء، إعادة السلام. ولم يكن قارئ في عصره إلأّ ليلحظ صراحة حكمه على الصراع الطبقي (10). لقد كان على يقين أن السلام يبنى على أساس العدالة، فجاءت رسالته، في جوهر مضمونها، إعلاناً للشروط الأساسية لإرساء العدالة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي آنذاك (11).
لقد وضع لاون الثالث عشر للكنيسة، في إثر أسلافه، شبه نموذج ثابت. فالكنيسة لها كلمتها في مواجهة أوضاع بشرية محددة، فرديّة كانت أم جماعية، قومية أم دولية، فتصوغ لها عقيدة راهنة، وشبه قاعدة تمكّنها من تحليل الوقائع الاجتماعية وإعلان رأيها فيها وإسداء توجيهات للعثور على حلٍّ صحيح للمعضلات الناجمة عنها.
في عهد لاون الثالث عشر، مثل هذا التصوّر لحقوق الكنيسة وواجباتها لم يكن ليحظى بموافقة شائعة. فقد كان ثمة نزعتان سائدتان: إحداهما ميّالة إلى هذه الدنيا وهذه الحياة ولا دخل فيها للإيمان والأخرى شاخصة إلى خلاص قائم فقط في العالم الآخر، ولا تملك أي ضوءٍ ولا أي توجيه للحياة الدنيا. فعندما أصدر البابا رسالته في ” الشؤون الحديثة ” أسدى إلى الكنيسة، نوعاً ما، ” حق المواطنية “في الحياة العامة ووقائعها المتقلّبة، وقد اتضح ذلك في ما بعد. ولا غرو، فتعليم العقيدة الاجتماعية ونشها هما من صلب الرسالة الإنجيليّة وجزء جوهري في البلاغ المسيحي، يعرض نتائجه المباشرة في حياة المجتمع، ويضع العمل اليومي والنضال لأجل العدالة في إطار الشهادة للمسيح المخلّص. وهو أيضاً مصدر وحدة وسلام، بإزاء الصراعات المتفجّرة، لا محالة، في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي. هكذا يغدو ممكناً أن نعيش الأوضاع الجديدة من غير انتقاص لكرامة الإنسان السامية لا في ذواتنا ولا عند خصومنا، ونجد السبيل إلى الحلول الصحيحة.
مثل هذا التوجيه، ونحن منه على مسافة مئة عام، يوليني سانحة للمساهمة في صياغة ” العقيدة الاجتماعية المسيحيّة “. “فالبشارة الجديدة ” التي يفتقر إليها العالم المعاصر افتقاراً ملّحاً، والتي أتيت على ذكرها مراراً يجب أن تتضمن، بين عناصرها الجوهرية، إعلان العقيدة الاجتماعية الكنسيّة، القادرة اليوم، كما في عهد لاون الثالث عشر، أن تهدينا الطريق السويّ لمواجهة التحدّيات الكبرى في الزمن الحاضر، وفي أوضاع أمست فيها الإيديولوجيات عرضة لريبةٍ متنامية. فكما فعل لاون في الأمس، علينا أن نردّد اليوم، أن ليس من حلٍّ شافٍ ” للمعضلة الاجتماعية” بمعزلٍ عن الانجيل، وأن ” الشؤون الحديثة ” تستطيع، في المقابل ، أن تصيب فيه مدى حقيقتها والمناقبية التي تناسبها.
6- لقد أكدّ لاون الثالث عشر، في استجلائه الصراع بين رأس المال والعمل، ما يعود إلى العمّال من حقوق أساسيّة. وبالتالي، فمفتاح قراءة النصّ الحبري هو كرامة العامل في ذاته، ومن ثمّ، كرامة العمل من حيث هو ” النشاط الإنساني المعنيّ بتلبية حاجات الحياة، والحفاظ عليها خصوصاً ” (12). لقد وصف البابا العمل بأنه ” شخصي ” لأن طاقة العمل هي من مقوّمات الشخص، وتعود بالتحديد إلى من يمارسها ويتميّز بها (13). وعليه فالعمل يمتّ إلى دعوة كل فرد، والإنسان بنشاطه وكدّه، يعبّر عن ذاته ويحقّقها.ولكنّ للعمل أيضاً بعداً ” اجتماعياً “، بما له من صلة وثيقة بالأسرة، بل بالخير العام أيضاً ” لأننا نستطيع أن نؤكّد، بلا شطط، أن ثروة الدول تنبع من عمل العمال ” (14). هذه الأفكار استعدتها وتوسعت فيها في رسالتي ” العمل البشري ” (15).
هناك أيضاً، بدون أي شك، مبدأ آخر على جانب من الأهمية، وهو الحق في ” الملكيّة الخاصة ” (16)، وقد تناولته الرسالة بمعالجة مسهبة تدل، في ذاتها، على أهميّته. ولكنّ البابا يدرك جيداً أن الملكيّة الخاصّة ليست قيمة مطلقة، فلا يني عن الجهر بأنّ ثمة مبادئ أخرى لا غنى عنها كمبدأ مشاعية أرزاق الأرض (17).
ولئن صحّ، من جهة أخرى، أن الملكيّة التي يخصّها البابا باهتمامه هي ملكيّة الأرض (18)، فمن الصحيح أيضاً أن الأسباب التي نعتمدها اليوم للذود عن الملكيّة الخاصّة لا تزال قائمة، أي المطالبة بحق امتلاك ما يلزم لنموّ الفرد وأسرته، أياً كان الشكل الواقعي الذي يرتديه هذا الحق. هذا الحق لا بدّ من تأكيده مرّة أخرى تجاه ما نشهده من التحوّلات التي طرأت على الأنظمة الخاضعة لمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وأيضاً تجاه أوضاع الفقر المتفاقمة أو – بتعبير أدقّ- تجاه ما هنالك من اعتراضات على الملكيّة الخاصة في كثير من أنحاء العالم ومن ضمنها البلدان التي تحكمها الأنظمة المرتكزة على اعتناق حق الملكيّة الخاصة. هذه التحوّلات واستمرار حالة الفقر توجب إذاً تحليلاً أعمق لهذه المعضلة سوف نقوم به لاحقاً.
7- بالإضافة إلى حقّ الملكيّة، وفي علاقة وثيقة به، يورد البابا لاون الثالث عشر، في رسالته، حقوقاً أخرى مؤكداً أنها من المقوّمات الشخصيّة التي لا يمكن التفريط بها. منها ” الحقّ الطبيعي لدى الإنسان ” في أن يؤلف جمعيات خاصّة، وقد أولاه البابا مكانة بارزة بما أفرد له من معالجة مستفيضة، وخصّه به من أهمية. إن له، قبل كل شيء، الحق في إقامة جمعيات مهنية لأرباب العمل والعمّال، أو للعمّال وحدهم (19). وندرك هنا لماذا تذود الكنيسة وترضى عن إقامة ما نسمّيه، تداولاً، بالنقابات، لا انطلاقاً من وهمٍ إيديولوجي، ولا مجاراةً لذهنية طبقيّة، بل لأن المشاركة حق طبيعي من حقوق الإنسان وهو بالتالي حق سابق لاعتراف المجتمع السياسي به. ومن ثم، ” لايسوغ للدولة أن تحرّمه ” لأن ” الدولة وجدت لتحمي الحق الطبيعي لا لتهدمه. فإذا منعت الدولة مثل هذه التجمعات، فهي تتعدّى على ذاتها ” (20).
إلى جانب هذا الحق الذي يقرّه البابا صراحة للعمال أو ” الكادحين ” –حسب تعبيره- يؤكد لاون الثالث عشر بذات الوضوح – وهذا يجدر التنويه به- الحقّ في ” تحديد ساعات العمل ” والراحة المشروعة، ونوعية أخرى في معاملة الأولاد والنساء، (21) من حيث شكل العمل ومدته.
إذا تذكّرنا ما يلقننا التاريخ في شأن الممارسات التي أقرّها القانون أو لم يقدم –أقلّه- على تحريمها، على صعيد العقود المبرمة بمعزلٍ عن كل ضمانة لتواقيت العمل وشروطه الصحيّة، وبلا مراعاة لسنّ طلاب العمل وجنسهم، فإننا نفهم جيداً قساوة التعابير الباباوية. فقد كتب: ” ليس حقاً ولا إنسانياً، أن نلزم الإنسان بعمل مرهق، يعطب ذهنه وينهك جسده “. وبطريقة أدقّ يشير البابا إلى صيغة العقد الذي يقرّ ” مثل هذه العلاقات في العمل “. ويقول: ” كل اتفاقية معقودة بين أرباب عمل وعمّال، يجب أن تحتوي شرطاً صريحاً أو ضمنياً “، بتوفير وقت مناسب للراحة بمقياس ” الطاقات المبذولة في العمل “. ثم ينتهي إلى القول: ” كل عقد بخلاف هذا يعدّ منافياً للأخلاق ” (22).
8- فوراً بعد هذا العرض، يأتي البابا على ذكر حق آخر من حقوق العامل، من حيث هو شخص بشري. إنه ” الحق في الأجر العادل “، وهو حق لا يمكن أن ” يترك لحريّة المتعاقدين، ومن ثم، لا يسوغ لربّ العمل، إذا سدّد الأجر المتفق عليه، أن يظن نفسه قد قام بتعهداته، وأصبح بحلٍّ من التزاماته ” (23). كان يقال آنذاك إن الدولة لا يمكنها التدخل في تحديد هذه العقود إلاّ لتسهر على تنفيذ ما اتفق عليه نصاً. مثل هذا التصوّر للعلاقات بين أرباب العمل والعمّال المرتكز على برغماتيّة بحتة، والنابع من فرديّة محضة، تندّد به الرسالة تنديداً شديداً، بصفته مناقضاً للعمل في طبيعته المزدوجة، من حيث طابعه الشخصيّ أولاً، وطابعه اللزومي ثانياً. فالعمل بطابعه الشخصي، هو جزء لا يتجزأ من الإمكانات والطاقات التي يحق لكل فرد أن يتصرّف بها كما يشاء. وأمّا من حيث الطابع الإلزامي، فالعمل محكوم بما يترتب على كل فردٍ من واجب ” المحافظة على حياته “؛ ” ومن هذا الواجب ينجم بالضرورة –على حدّ ما يخلص إليه البابا- الحق في التماس أود العيش الذي لا يستطيع الفقراء أن يحصّلوه إلا بأجر عملهم ” (24).
لا بدّ إذن من أن يجد العامل في أجرته ما يكفل معيشته ومعيشة أسرته. فاذا ما أذعن العامل، ” بدافع الضرورة أو اتقاءً لشرٍّ أعظم، لشروطٍ قاسية جداً ليس له، على كل حالٍ، قِبَلٌ برفضها لأنه مجبر عليها من قبل ربّ العمل أو من قبل صاحب العرض فهو ضحيّة عنفٍ تأباه العدالة ” (25).
كلماتٌ دونّت يوم بدأ يزحف ما سمّي ” بالرأسمالية المنفلتة “، ووقانا الله من أن نردّدها ونكرّرها اليوم بالقسوة ذاتها! ولكننا، لسوء الحظ، لا نزال حتى اليوم نقع على مثل هذه العقود المبرمة بين عمّال وأرباب عمل يجهلون أبسط مبادئ العدالة في شأن عمل القصَّر والنساء وساعات العمل وشروطه الصحيّة والأجور العادلة. كل هذا بالرغم من الإعلانات والمعاهدات الدولية في هذا الشأن (26)، بل بالرغم من القوانين المرعيّة في مختلف الدول.وقد أسند البابا إلى ” السلطة العامّة ” ” واجباً صارماً ” بأن تولي العمّال جل اهتمامها لتحسين أوضاعهم، وإلا فكل تخلّف في هذا المجال يُحسب انتهاكاً للعدالة. ولم يُحجم البابا هنا عن ذكر ” العدالة التوزيعيّة ” (27).
9- إلى هذه الحقوق، يضيف البابا حقاً آخر يمتّ، هو أيضاً، إلى الوضع العمّلي، وأودّ أن أعيده إلى الأذهان بسبب أهميته، ألا وهو الحق في الممارسة الدينية ممارسة حرّة. فالبابا ينادي به صراحة، في سياق الحديث عن حقوق العمّال وواجباتهم الأخرى، بالرغم مما أخذ يسود آنذاك، من اعتبار بعض المسائل محصورة قطعاً في نطاق الحياة الخاصة. ويؤكد البابا، في هذا المجال، ضرورة الراحة يوم الأحد، تذكيراً للإنسان بفكرة الخيرات السماويّة والعبادة الواجبة للعزّة الإلهية. هذا الحقّ المتأصل في وصيّة أساسية ليس لأحد أن ينتزعه من الإنسان: ” لا يسوغ لأحدٍٍ أن ينتهك، بلا قصاص، هذه الكرامة الإنسانيّة التي يحوطها الله نفسه بحرمةٍ كبيرةٍ “. فعلى الدولة، بالتالي، أن تضمن للعامل ممارسة هذه الحريّة (29).
بالإمكان أن نتوسّم، بلا خطأ، في هذه المقولة البيّنة، جذور المبدأ القائل بالحريّة الدينية، وقد أصبح، من بعد، موضوع إعلانات رسميّة ومعاهدات دوليّة كثيرة، (30)، ناهيك عن الوثيقة المجمعية الشهيرة وتعاليمي المتوترة في هذا الشأن (31). علينا أن نتساءل، ونحن في هذا الموضوع: هل التدابير الشرعية القائمة وممارسات المجتمعات الصناعية تكفل اليوم، بطريقة فاعلة، ممارسة هذا الحق البدائي في الراحة الأسبوعية يوم الأحد؟
10- هناك قضية خطيرة أخرى، حافلة بالعبر لزمننا الحاضر: إنها قضية العلاقات بين الدولة والموطنين. لقد نددت ” الشؤون الحديثة ” بكلا النظامين الاجتماعيين والاقتصاديين: الاشتراكية والليبرالية. فأفردت للأولى بداية النص مؤكدة حق الملكية الخاصة. وأما النظام الثاني فلم تفرد له بابا” خاصا”، بل وجهت إليه انتقادا” لافتا”في معرض الكلام عن واجبات الدولة. فالدولة لا يجوز لها أن تحصر همها في ” السهر على فئة من مواطنيها ” أي الفئة الثرية المزدهرة، و” تهمل الفئة الأخرى ” التي تمثل، بلا أدنى شك، الأغلبية الكبرى في الجسم المجتمعي؛ وإلاّ فثمة انتهاك للعدالة وما تفرضه من أن يعطى كل حقه. ” ولكن على الدولة، في حماية الحقوق الفردية ، أن تخص الصغار والضعفاء باهتمامها. فالفئة الثرية المقتدرة بأموالها أقل حاجة إلى رعاية الدولة، بينما الطبقة الفقيرة لا تملك ثروة تضمن لها الحماية، فتضع في عصمة الدولة جل اتكالها. ومن ثم، فعلى الدولة أن تحوّط العمال الكادحين بمخصوص عنايتها وحدبها ” (33).
هذه النصوص لا يزال لها وقعها حتى اليوم، وبخاصة في مواجهة الفقر المنشر في العالم بملامحه الجديدة، مع العلم إن مقولات بمثل هذه الخطورة غير منوطة، على الإطلاق، بتصور معين للدولة، بتصوّر معيّن للدولة، أو بنظرية سياسيّة محدّدة، فالبابا إنما استعاد مبدأ أوّلياً لكلّ تنظيم سياسي سليم: وهو أن المستضعفين في المجتمع هم أولى باهتمام الآخرين ورعايتهم، ويدعم السلطة خاصة.
وهكذا فإن مبدأ التضامن الذي يتحدثون عنه اليوم، وذكّرت بأهميته في رسالتي ” الاهتمام بالشأن الاجتماعي ” (24)، سواء في النظام الداخلي لكل دولة أم في النظام القائم بين الدول، يبدو من المقوّمات الأساسية في التنظيم السياسي والاجتماعي كما يراه المسيحيون. لقد ذكره لاون الثالث عشر، أكثر من مرة، مستعملاً لفظة الصداقة، التي اعتمدتها الفلسفة الإغريقية قديماً، ودلّ عليه بيوس الحادي عشر بعبارة لا تقلّ بلاغة، فسمّاه ” المحبة الاجتماعية “. وأما بولس السادس فقد تكلّم عن ” حضارة المحبة ” فوسّع بذلك مفهوم التضامن ليشمل المسألة الاجتماعية بمختلف أبعادها الحديثة (35).
11- إذا أعدنا قراءة الرسالة، في ضوء وضعنا المعاصر، اتضح لنا ما تتصف به الكنيسة من حدبٍ ودأبٍ في خدمة من خصّهم الرب يسوع بمحبته. فالنص، في مضمونه، شهادة رائعة لما يستمّر في الكنيسة من ” خيار أولويّ للفقراء ” على حدّ التعبير الشائع، وقد وصفناه، نحن أيضاً، بأنّه ” شكل خاص من أشكال الأولويّة في ممارسة المحبة المسيحية ” (26). فالرسالة في ” المسألة العماليّة ” تعالج إذن قضية الفقراء والوضع المخيف الذي انتهى إليه ألوف الناس، في إثر ما جرى من تطوّر صناعي حديث وأحيانا عنيف. واليوم أيضاً، وفي جزء كبير من العالم، نفس هذه التطوّرات في التحوّل الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ تولّد نفس الآفات.
عندما ناشد لاون الثالث عشر الدولة أن تهتم بوضع البؤساء بمقتضى العدل، فقد فعل ذلك عن اقتناع صوابي بأن على الدولة أن ترعى الخير العام، وتسعى لتوفّر لكل قطاع من قطاعات الحياة الاجتماعية، ومن ضمنها القطاع الاقتصادي، مساهمة في تعزيز هذا الخير، مع مراعاة ما يعود إلى كل قطاع من استقلالية صحيحة. ولكن يجب ألاّ نستنتج من ذلك أن حلّ المشكلة الاجتماعية، في نظر البابا لاون الثالث عشر، منوط، في كل الأحوال، بالدولة نفسها. بل هو، على عكس ذلك، يلح مراراً على ضرورة الحدّ من تدخل الدولة، بوصفها مجرّد وسيلة، ولأن وجود الفرد والأسرة والمجتمع سابق لها،ولأن الهدف من قيام الدولة حماية حقوقهم من غير إن تطغى البتة عليهم (37).
هذه الاعتبارات لها اليوم فائدة راهنة لا تخفى على أحد. ويحسن بنا أن نعود لاحقاً إلى هذا الموضوع الخطير في شأن الدولة ومحدودية دورها. وإنما يبقى أن القضايا المنوّه بها هنا، والتي لا تقتصر الرسالة على معالجتها، تنتظم في خط التعليم الاجتماعي الكنسي، وفي ضوء نظرة سليمة إلى قضايا الملكيّة والعمل والنمو الاقتصادي وطبيعة الدولة، وبخاصة طبيعة الإنسان نفسه. ثمة مسائل أخرى سنعرض لها لاحقاً عندما يحين الوقت للنظر في بعض وجوهٍ من الواقع المعاصر؛ وإنما ينبغي لنا، منذ الآن، ألاّ يفوتنا ما هو بمثابة اللُحمة، بل بمثابة الدليل، نوعاً ما، لهذه الرسالة وللتعليم الاجتماعي الكنسي برمته: إنه التصوّر الصحيح للإنسان ولقيمته الفريدة، ” وهو الخليقة الوحيدة في الأرض التي أرادها الله لذاتها ” (38). ففي الإنسان، نقش الله صورته على مثاله ( تك 1/26 )، وآتاه كرامة لا مثيل لهان تنوّه بها الرسالة مراراً. فعلاوة على الحقوق التي يحرزها الإنسان بعمله، ثمة حقوق أخرى ليس لها أي ارتباط بنشاطاته، بل تنبع من كرامته الجوهرية بصفته إنساناً.
الفصل الثاني
نحو ” نحو الشؤون الحديثة ” اليوم
12- يوبيل ” الشؤون الحديثة ” لا يصح الاحتفال به، ما لم ننظر أيضاً في الأوضاع الراهنة. وعلى كلٍّ، فمضمون الرسالة، يمهّد لمثل هذا التفكير: فالإطار التاريخي والتوقّعات المرسومة فيه ظهرت صحتها بطريقة مذهلة، في ضوء الأحداث اللاحقة.
فالأحداث التي جرت في الأشهر الأخيرة من سنة 1989 ومطلع 1990 أثبتت توقعات الرسالة بطريقة فريدة. فهذه الأحداث وما جرّته من تحوّلات جذريّة لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء الأحوال السابقة التي كانت قد بلورت وجسّدت، إلى حدّ ما، توقعات لاون الثالث عشر، والإنذارات المتفاقمة التي أوجسها خلفاؤه. والواقع أن لاون الثالث عشر كان قد توقّع النتائج السلبية -من كل وجوهها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة- الناجمة عن تنظيم المجتمع على الطريقة ” الاشتراكية “، وكانت آنذاك في طور فلسفة اجتماعية وحركة على كثير أو قليل من التنظيم. وقد نعجب من أن البابا قد اتخذ من ” الاشتراكية ” منطلقاً لنقد الحلول المقترحة ” للمسألة العمالية “، يوم لم تكن الاشتراكية قد اتخّذت بعد شكل دولة قويّة وقادرة بيدها الطاقات كلها، كما تمّ لها ذلك لاحقاً. ولكنه أصاب في تقدير الخطر المتربّص بالجماهير من جرى اعتماد صورة مغرية لحلّ مشكلة العمّال آنذاك، بطريقة ساذجة وجذريّة معاً. ويظهر ذلك بطريقة أوضحن في ضوء الظلم المريع الذي آلت إليه الجماهير الكادحة في الدول الحديثة التصنيع.
ثمة أمران لا بدّ من إبرازهما: من جهة، وضوح الرؤية في الوقوف على وضع الكادحين، في كل قسوته وحقيقته، ولدى جميع فئاته: الرجال والنساء والأولاد؛ وذات الوضوح، من جهة أخرى، في الإلمام بمساوئ حلّ بدا في الظاهر، انقلاباً لأوضاع الفقراء والأثرياء، وهو في الواقع ضربةٌ للموعودين بالمساعدة، فكان الدواء شرّاً من الداء. ومن ثمّ، فقد نفذ لاون الثالث عشر إلى صميم المشكلة عندما شخّص طبيعة الاشتراكية في عهده، وما توخّته من إلغاء الملكيّة الخاصة.
كلماته خليقة بأن نعيد قراءتها بانتباه: ” إن الاشتراكيين، رغبةً منهم في مداواة هذا الداء ( الإجحاف في توزيع الثروات وبؤس الكادحين )، يحرّضون الفقراء على الأثرياء، ويزعمون ضرورة القضاء على الممتلكات الخاصّة، وتأميم الأرزاق الفردية… ولكنّ مثل هذه النظرية، إذا نُفّذت، قد تلحق الأذى بالعامل نفسه من غير أن تضع حدّاّ للصراع. وهي، من جهة أخرى، جائرة إلى حدّ بعيد، لأنها تنكِّل بالمالكين الشرعيين وتشوه مهام الدولة وتقلب البنية الاجتماعية رأساً على عقب ” (39). ليس ثمة تشخيص أدق لهذا الضرب من الاشتراكية الذي فرض نظامه على الدولة، منتحلاً فيما بعد اسم ” الاشتراكية الواقعية “.
13- والآن، إذا أنعمنا النظر، وعدنا بالفكر إلى ما ورد في الرسالتين: ” العمل البشري ” و ” لاهتمام بالشأن الاجتماعي “، وجب أن نضيف أن الخطأ الأساسي في ” الاشتراكية ” له طابع أنتربولوجي. فالفرد، في نظرها، مجرّد عنصر وخلية في الجسم الاجتماعي، وخير الفرد مرهون كلّه بسَير الآلة الاقتصادية والاجتماعية؛ وفي نظرها أيضاً أن خير الفرد هذا يمكن تحقيقه بمعزلٍ عن كل خيار مستقل من قبله، وعن قراره الشخصي المسؤول وحده وبلا منازع تجاه الخير والشر. وهكذا يمسي الإنسان رهناً لمجموعةٍ من العلاقات الاجتماعية، ويذهب أدراج الرياح تصوّر الإنسان شخصاً مستقلاً في قراره الأدبي، وبانياً بقراره النظام الاجتماعي. هذا التصوّر الزائف لمفهوم الشخص يزعزع الحقّ في تحديد دائرة ممارسة الحريّة، ويفضي إلى إنكار الملكية الخاصة. ولا غرو، فالإنسان المجرّد من ” قنيته ” ومن إمكان كسب رزقه بعرق جبينه، يمسي رهين الآلة الاجتماعية والمشرفين عليها؛ وفي ذلك ما يعطّل عليه كثيراً الشعور بكرامته ويعرقل مسعاه لبناء أسرةٍ بشريّة صحيحة.
وبالعكس، فالتصوّر المسيحي لمفهوم الشخص، يولّد حتماً رؤية سليمةً للمجتمع. فالمزيّة الاجتماعية في الإنسان، في نظر ” الشؤون الحديثة ” والتعليم الاجتماعي الكنسي برمّته،لا تذوب في الدولة، بل تتحقق ضمن جماعات وسيطة،بدءاً من الأسرة ووصولاً إلى الوحدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وكلّها منبثقة من ذات الطبيعة البشرية، وتتمتع –ضمن حدود الخير العام- باستقلاليتها الذاتية. وهذا ما سمّته ” بالشخصية الاجتماعية “، وقد قضت عليها ” الاشتراكية الواقعية ” كما قضت على الشخصية الفردية (40).
وإذا تساءلنا، من بعد، من أين يتولّد هذا التصوّر الزائف لطبيعة الشخص البشري والشخصية الاجتماعية، وجب الجواب بأن السبب الأول هو الإلحاد. فالإنسان، بتلبيته نداء الله المكنون في طبيعة الأشياء، يعي كرامته السامية. وعلى كل إنسان أن يؤدّي هذا الجواب الذي يسمو به إلى ذروة إنسانيته، ولا يسوغ لأي آلةٍ اجتماعية أو أي جهازٍ جماعي أن يحلّا محله. نكران اللّه يقتلع الإنسان من جذوره، ويجرّ، بالتالي، إلى إعادة تنظيم المجتمع بصرف النظر عن كرامة الشخص ومسؤوليته.
الإلحاد الذي نتحدّث عنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقلانية التي تدين بها فلسفة الأنوار وتتصوّر الواقع البشري والاجتماعي على الطريقة الآلية. وهي، من ثم، تنكر على الإنسان شعوره السحيق بعظمته الحقّة، وسموّه على عالم الأشياء، وذاك التناقض القائم في قلبه بين حنينه إلى قمة الخير وعجزه عن بلوغها، وما يتفرّع عن ذلك، خصوصاً، من توقٍ إلى الخلاص.
14- من جذور هذا الإلحاد ينجم اختيار الوسائل العملية المتبعة في النظام الاشتراكي الذي تندّد به ” الشؤون الحديثة “. هناك، أولاً، الصراع الطبقي. لا شكّ أن البابا لا ينوي إنزال الحرم بكل صراعٍ اجتماعي من أي شكل كان. فالكنيسة تدرك جيداً أن صراع المصالح بين أطراف اجتماعية مختلفة ظاهرة حتميّة في التاريخ، وأن على المسيحي، غالباً، أن يقف منه موقفاً حازماً ومتماسكاً. ونعلم، على كلٍّ، أن الرسالة في ” العمل البشري ” قد اعترفت صراحة بشرعية الصراع، إذا اتخذ صفة ” الكفاح لأجل العدالة الاجتماعية ” (41). ونقرأ، قبل هذا، في ” السنة الأربعون “، الأسطر التالية: ” الصراع الطبقي، إذا لم تصحبه أعمال عنف وكراهية متبادلة، يتحوّل رويداً رويداً إلى نقاشٍ شريفٍ مبنيٍّ على البحث عن العدالة ” (42).
الذميم في الصراع الطبقي أن تسوده فكرة نزاع لا تخامره اعتبارات خلقية أو قانونية ويأبى احترام الكرامة الإنسانية عند الغير ( وبالتالي عند الذات )، وينفي، من ثّم، كل تسوية رشيدة، ويسعى لا إلى الخير العام في المجتمع، بل إلى مصلحة حزبيّة تحلّ محل الخير العام، ويسعى إلى تحطيم ما يتصدّى لها. نحن إذن –بوجيز الكلام- بإزاء عودةٍ، في نطاق النزاع الداخلي بين فئات اجتماعية، إلى نظرية ” الحرب الشاملة ” التي راحت تنادي بها، آنذاك، الميليتاريّة والامبرياليّة، على صعيد العلاقات الدولية. وكانت هذه النظرية، بدل البحث عن توازن عادل بين مصالح الدول المختلفة، تسعى إلى تعزيز الحزب وهيمنته المطلقة، بالعمل على تقويض قدرة الصمود لدى الحزب المناوئ، واللجوء إلى كل الوسائل، بما فيها التدجيل وإرهاب المدنيين، واستعمال الأسلحة الفتّاكة ( التي بدأ تصنيعها في تلك الحقبة بالضبط ). الصراع الطبقي في مفهومه الماركسي والميليتارية يتفرّعان إذن من أصل واحد: الإلحاد وامتهان الشخص البشري، وكلاهما يقدّمان مبدأ القوة على مبدأ العقل والحق.
15- ” الشؤون الحديثة ” تتصدّى –كما قلنا- لتأميم وسائل الإنتاج الذي يجعل من كل مواطن قطعةً في آلة الدولة. وتفنّد أيضاً، بذات الحزم، النظريّات القائلة بعزل الاقتصاد تماماً عن اهتمام الدولة ورعايتها. هناك، ولا شك، دائرة مشروعة من الاستقلالية الاقتصادية، على الدولة ألاّ تقتحمها. ولكن على الدولة أن تحدّد الإطار القانوني الذي تندرج فيه العلاقات الاقتصادية، وتكفل بذلك الشروط الأوليّة لاقتصاد يفترض شيئاً من التعاون بين الفرقاء، ويمنع فريقاً من أن يطغى على آخر ويستعبده عملياً (43).
في هذا الشأن، ترشدنا ” الشؤون الحديثة ” إلى طريق الإصلاحات الصحيحة، القادرة على أن تردّ إلى العمل كرامته، بصفته نشاطاً إنسانيّاً حرّاً. هذه الإصلاحات تفترض المجتمع والدولة واعيَين لمسؤولياتهما تجاه العامل خصوصاً ووقايته من كابوس البطالة. وقد تحقق ذلك، في التاريخ، بطريقتين متعاطفين: إمّا بطريق سياسات اقتصاديّة تهدف إلى تأمين تطوّر متوازن، وحالة استخدام كامل؛ وإمّا بطريق الضمانات الواقية من البطالة، وسياسات تأهيلٍ مهني تسهّل انتقال العمال من قطاعات سقيمة هشّة إلى قطاعات أخرى مزدهرة.
وعلى المجتمع والدولة، في ما عدا ذلك، أن يوفّرا للعامل وأفراد أسرته أجراً يقوم بأودهم، ويؤمّن لهم بعض الوفر. كل هذا يقتضي جهوداً لتجهيز العمّال بمعارف وكفاءات متطوّرة تحسِّن عملهم نوعية وإنتاجاً؛ ولكن هذا يقتضي أيضاً رقابة متواصلة وإجراءات قانونية مناسبة لوقف الاستغلال المشين بجميع وجوهه، وبخاصة في حق العمّال المستضعفين والغرباء والهامشيين. دور النقابات، في هذا المجال، حاسمٌ، وقد وُلِّيت حق التفاوض في الأجر الأدنى وسائر ظروف العمل.
ولا بدّ أخيراً من التقيّد ببرامج عمل ” إنسانية “، تلحظ مقتضيات العمل والراحة، وترعى حق الأمل في التعبير عن شخصيته في أماكن العمل، وتكفيه التعرّض لأي شكل من أشكال العنف في ضميره أو كرامته. ولا بدّ، هنا أيضاً، من التذكير بدور النقابات،من حيث هي وسائل تفاوض، من جهة، و” مواقع ” تعبير عن الشخصية، من جهة أخرى: فتساهم في تنمية صحيحة لثقافة العمل، وتساعد العمال في المشاركة، بطريقة إنسانية كاملة، في حياة المؤسسة (44).
على الدولة أن تؤدي قسطها، مباشرة أو مداورة، في تحقيق هذه الأهداف. مداورةً: بتطبيق مبدأ التدارك وخلق الظروف المؤاتية لممارسة النشاط الاقتصادي ممارسةً حرّة تفضي إلى تعزيز عروض العمل ومصادر الثروة؛ ومباشرةً: باعتماد مبدأ التضامن حمايةً للمستضعفين، وفرض حدودٍ لاستقلالية الأطراف المهيمنة على ظروف العمل، وتأمين حدٍّ معيشي أدنى لكل عامل عاطلٍ عن العمل (45).
هذه الرسالة وما تفرّع عنها من تعليم اجتماعي، تركت أثراً متعدّد الوجوه، في السنين الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. وقد بات هذا الأثر مصدراً إصلاحات كثيرة أُدخلت في مجالات الرعاية الاجتماعية والتقاعد والضمان الصحّي والوقاية من الحوادث، وذلك كله في إطار احترامٍ أعظم لحقوق العمّال (46).
16- هذه الإصلاحات، تمّ بعضها على يد الحكومات؛ بيد أن الحركة العمّالية بنضالها ساهمت فيها بقدر كبير. هذه الحركة، وليدة انتفاضة الضمير الأدبي على أوضاع ظالمة وغاشمة، قامت بنشاط نقابي وإصلاحيّ واسع النطاق، بعيدٍ عن الضبابية الإيديولوجية وأدنى إلى حاجات العمال اليومية، وكثيراً ما انضمّت جهودها، في هذا المضمار، إلى جهود المسيحيين لتحسين أوضاع العمًال الحياتية.
ولكن هذه الحركة خضعت، لاحقاً، إلى حدٍّ ما، لسيطرة الإيديولوجية الماركسيّة التي تصدّت لها ” الشؤون الحديثة “.
هذه الإصلاحات عينها جاءت أيضاً نتيجة تطوّر حرّ في تنظيم المجتمع لذاته، مع ما واكب ذلك من بلورة وسائل تضامن ناجعة، مؤهلةٍ لدعم نموٍ اقتصادي أكثر احتراماً لقيم الإنسان ولا بدّ هنا من التذكير بالمساعي الكثيرة التي كان فيها للمسيحيين سهمٌ ملحوظ، فأدّت إلى قيام تعاونيّات إنتاج واختبار أشكالٍ متنوّعة من المشاركة في حياة المؤسسة، وحياة المجتمع بوجه عام.
إذا التفتنا إذن إلى الماضي، ألفيناه حافلاً بدواعي شكر للّه أن الرسالة العظيمة لم تبق بلا صدىً في القلوب، بل دفعت إلى كثير من السخاء الناشط. ولكن لا بدّ من الإقرار أيضاً، مقابل ذلك، بأن البلاغ النبوي الذي حضنته لم يلقَ ملء القبول عند أبناء ذلك العصر، فنجم عن ذلك كوارث غاية في الخطورة.
17- عندما نقرأ الرسالة في ضوء مُجمل التعاليم الثرية للبابا لاون الثالث عشر (47)، يتبيّن لنا أنها تبرز نتائج خطأ فادح جداً في المجال الاقتصادي والاجتماعي. هذا الخطأ قوامُه –كما تقدّم القول- تصوّرٌ للحريّة البشرية يعزلها عن طاعة الحق، وبالتالي، عن واجب احترام حقوق الآخرين؛ فتمسي الحريّة والحالة هذه، حبّاً للذات حتى اللامبالاة باللّه وبالقريب، ومنادةً بمصلحة خاصّة لا يحدّها حدٌّ ولا يردعها أي التزامٍ بمقتضى العدالة (48).
هذا الخطأ نفسه برزت آثاره الفاجعة في سلسلة الحروب المأساوية التي خضَّ أوروبا والعالم بين سنة 1914 و1945 : منها ما أفرزته أشكالٌ من الميليتاريّة والقومية المغرقة، وضروبٌ من التوتالية المرتبطة بها، ومنها ما جاء وليد الصراع الطبقي والنزاعات الأهلية والإيديولوجية. ولولا هذا الزخم الرهيب من الحقد والكراهية الذي شحنته المظالم المتراكمة دولياً ومحلياً، لما تفجّرت حروب بمثل هذه الشراسة، تجنّدت لها دولٌ كبرى بطاقاتها الحيّة، ولم تتورّع فيها عن انتهاك أقوى حقوق الإنسان، وإبادة شعوبٍ وفئات اجتماعية برمتها، تخطيطاً وتنفيذاً. ونخصّ بالذكر هنا الشعب اليهودي، وقد أمسى قدره المريع رمزاً للانحراف الذي يمكن أن ينجرّ إليه الإنسان إذا تصدّى للّه.
بيد أن الحقد والظلم لا يستوليان على أممٍ برمتها ولا يجرّانها إلى العمل بوحيهما، ما لم تشرّعهما وتنظمهما إيديولوجيات ترتكز عليهما لا على حقيقة الإنسان (49).
إيديولوجيات الحقد هذه، تصدّت لها ” الشؤون الحديثة “، مبيّنة سبيل الحدّ من العنف والضغينة بالعدالة. عسى أن تكون ذكرى هذه الفظائع هدايةً لجميع الناس في تصرفاتهم، وبخاصة لحكام شعوب عصرنا، وقد بدأت مظالم جديدة تغذّي أحقاداً جديدةً، وأخذت تلوح في الأفق إيديولوجيات جديدة تُشيد بالعنف.
18- لا شك أن الأسلحة في القارّة الأوروبية تلازم الصمت منذ 1945. ولكن علينا أن نتذكر أن السلام لن يكون يوماً نتيجة انتصار عسكري، بل يفترض استئصال دواعي الحرب، والمصالحة الصادقة بين الشعوب. ولكن، في المقابل، ومدّةً طويلة، سادت أوروبا والعالم حالةُ لا حربٍ، لا حالة سلامٍ راهن. نصف هذه القارة وقع تحت حكم الديكتاتورية الشيوعية، بينما الشطر الآخر باي يتأهب لمواجهة هذا الخطر. ثمة شعوب كثيرة فقدت قدرة التصرّف بمصيرها، محتجزةً ضمن حدود هيمنة ضاغطة، ومعرّضةً لانتهاب ذاكرتها التاريخية واستئصال جذور حضارتها العريقة. مثل هذا الفرز العنيف يُلجئ الملايين من الناس إلى هجر أرضهم والنزوح قسراً عن موطنهم.
هناك سباق جامح إلى التسلّح يستنزف الطاقات الضرورية لتنمية الاقتصاد في الداخل ونجدة الدول المتخلّفة. وعوض أن يفيد الرقيّ العلميّ والتقني رفاهيّة الإنسان، يتحوّل، بالعكس، إلى وسيلة حرب؛ ويسخّر العلم والتقنية المزيدٍ من الأسلحة الفتّاكة، ويُطلَب من إيديولوجية هي نقيض الفلسفة الحقّة، أن تستنبط مبرّرات عقائدية لحربٍ جديدة. وليست الحرب مجرّد توقّع مهيّأ له، بل هي واقعٌ في غير منطقة من العالم، وسبب نزوفٍ دمويّة فادحة. ومن نتائج منطق الكتل والامبراطوريات -وقد ندّدت به الوثائق الكنسيّة، ومنها حديثاً ” الاهتمام بالشأن الاجتماعي ” (50)- أن الجدالات والنزاعات الناشئة في بلدان العالم الثالث، تضخّم وتُستغَلّ، بطريقة منظمّة، ليتورّط فيها الخصم.
الجهات المتطرّفة الساعية إلى حلّ هذه النزاعات عن طريق السلاح، تلقى بسهولة من يدعمها سياسيّاً وعسكريّاً، ويوفّر لها التسلّح والتدرب على الحرب، بينما الجادّون في البحث عن حلولٍ سلميّة ويراعون المصالح المشروعة لكلّ الأطراف، نجدهم معزولين، وغالباً معرّضين لنقمة خصومهم. الإقبال على التسلّح في كثير من بلدان العالم الثالث والنزاعات الدمويّة بين أبناء الوطن الواحد، وانتشار الإرهاب، ولركون إلى مزيد من البربريّة في أساليب الصراع السياسي – العسكري، هذا كلّه من أسبابه الرئيسيّة أيضاً هشاشة السلام الذي عقب الحرب العالمية الثانية، ونرى أخيراً أن العالم كلّه، يترصّده خطر حرب نوويّة بإمكانها أن تمحق البشرية عن بكرة أبيها.
العلم المسخر لأغراض عسكريّة يوفر للحقد المضخّم بالإيديولوجيات، السلاح المطلق. ولكن الحرب يمكن أن تنتهي، بلا غالب ولا مغلوب، في انتحارٍ بشريّ شامل، فلا بدّ إذن، والحالة هذه، من انتباذ المنطق المؤدي إليه، والإقلاع عن القول بأن الصراع لتقويض الخصم، واعتماد المنازعة، وحتى الركون إلى الحرب، هي من عوامل التقدّم والرقي في التاريخ (51).
فإذا سلّمنا بضرورة هذا الرفض، أمسى من الضروري أيضاً إعادة النظر في حتميّة ” الحرب الشاملة” ” ومنطق ” الصراع الطبقي “.
19- ولكن هذا المنطق، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا يزال يتطوّر في الأذهان. وممّا يلفت النظر، في تلك الحقبة امتداد التوتالية الشيوعيّة على أكثر من نصف أوروبا وعلى جزءٍ من العالم. والحرب التي كان عليها أن تعيد إلى الناس حريّاتهم وحقوقهم، فشلت في تحقيق أهدافها، لا بل ارتدّت على كثير من الشعوب بما يناقض صراحة تلك الأهداف، وبخاصة الشعوب التي عانت منها الأمرّين. وخلاصة القول أن الوضع الذي ولّدته الحرب أحدث ردّات مختلفة.
ففي بعض البلدان، ومن بعض النواحي، نشهد سعياً حميداً، بعد أنقاض الحرب، لترميم مجتمع ديمقراطي مبنيّ على العدالة الاجتماعية، يجرّد الشيوعيّة من الطاقة الثوريّة المخزونة في الجماهير الشعبيّة لما تعانيه من استغلال وقهر. هذه المحاولات تسعى، إجمالاً، إلى الاحتفاظ بآلية السوق الحرّة، بتثبيت النقد وضمان العلاقات الاجتماعية، تحقيقاً لشروط نموّ اقتصادي ثابت وسليم، يمكّن الناس من أن يبنوا بكدّهم لذواتهم ولأبنائهم، مستقبلاً أفضل. ويرافق ذلك سعيٌ آخر يحول دون أن تتحكّم السوق بمصير المجتمع، ويخضعها لرقابةٍ عامة تستوحي مبدأ المشاعية في الإفادة من خيور الأرض. فإذا توافرت، إلى حدٍّ ما، عروض العمل، وقام نظام متين للضمان الاجتماعي والتأهيل المهني، وأُتيحت حرية التجمع والعمل النقابي النشيط، وتأمنت الرعاية الاجتماعية في أحوال البطالة، ووسائل المشاركة الديمقراطية في الحياة الاجتماعية، أصبح بالإمكان، في مثل هذه القرائن، تحرير العمل من طابعه ” السلعوي ” وضمان تحقيقه بطريقة كريمة.
هناك، من جهة ثانية، قوىً اجتماعية أخرى، ومدارس فكرٍ أخرى تتصدّى للماركسية بإقامة أنظمة ” أمن قومي “، تتوخى الإشراف على المجتمع كله لمراقبته بطريقة دقيقة ووقايته من كلّ تسرّب ماركسي. هذه الأنظمة تعلي شأن الدولة وتوسّع نطاق سلطتها، اتقاءً للخطر الشيوعي على شعوبها، ولكنها تتعرض بذلك لخطر شديدٍ، خطر تقويض الحريّة والقيم الإنسانية التي باسمها تحارب الشيوعية.
هناك أخيراً موقف عملي آخر يمثله مجتمع الرخاء أو الاستهلاك، وينزع إلى التفوّق على الماركسيّة على صعيد المادّة البحتة؛ برهانه أن نظام السوق الحرّة قادر على أن يفوق الشيوعية في تلبية حاجات الإنسان الماديّة، مع استبعاده، مثلها، للقيم الروحية. الواقع أن هذا النموذج الاجتماعي يثبت، من جهة، عجز الماركسيّة عن بناء مجتمع جديد أفضل، ولكنه، من جهة أخرى، يجرّد الأخلاق والحق والثقافة والدين من لبّها وقيمتها، فينضمّ بذلك إلى الماركسيّة في إعادة بناء الإنسان كليّاً إلى الحيّز الاقتصادي، وحصر اهتماماته في تلبية الحاجات الماديّة.
20- في هذه الحقبة عينها، نشهد امتداد ثورة عارمة على الاستعمار، حقّقت لبلدان كثيرة استقلالها أو استعادة استقلالها الشكلي لسيادتها، لا تزال، غالباً، في بدء طريقها إلى الاستقلال الصحيح. والواقع أن ثمّة قطاعات اقتصادية حاسمة لا تزال في عهدة شركات أجنبية كبرى تأبى الالتزام الدائم بنموّ البلد المضيف. وحتى الحياة السياسية في تلك البلدان تخضع لرقابة قوىً غريبة، في حين تتعايش ضمن حدود البلد مجموعات إتنيّة، لم تنصهر بعد انصهاراً كلياً في جماعة قوميّة حقّة. وينضاف إلى ذلك خللٌ في عدد الموظفين الأكفاء، لإدارة شؤون الدولة إدارة نزيهة سليمة، كما أن هناك نقصاً في عدد المسؤولين عن إدارة الاقتصاد بوجه فعّال.
قد يبدو لكثيرين، والحالة هذه، أن الماركسيّة بإمكانها أن تقدّم طريقة مختصرة لبناء الأمة والدولة، وهذا ما يعلّل نشوء أشكال من الاشتراكية منوّعة، ممهورة بطابع قوميّ مميّز، تنضمّ إلى الإيديولوجيات الكثيرة بملامحها المختلفة باختلاف الظروف المحيطة بها: فهناك مقتضيات مشروعة يفرضها الإنقاذ القومي، وأشكال من القوميّة بل من الميليتاريّة، ومبادئ مستمدّة من خبرات شعبية عريقة، منسّقة أحياناً مع التعليم الاجتماعي المسيحي، ومع مقولات الماركسيّة اللينينية.
21- لا بدّ من التذكير أخيراً بما انتشر، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي شبه انتفاضة على أهوالها، من تحسّس أعمق لحقوق الإنسان، كرّسته وثائق دولية ( 52)، نال شبه اعتراف عبر الصيغة الجديدة ” لحق الشعوب ” الذي لم يتخلّف الكرسي الرسولي عن المساهمة فيه. هذا التطوّر كان محوره منظمّة الأمم المتحدة، ولم يتحقّق فقط على صعيد وعي حقوق الفرد، بل حقوق الشعوب أيضاً يواكبه إدراك عميق لضرورة العمل على معالجة الإختلالات الفادحة بين مختلف البقع الجغرافية في العالم وما نجم عنها، من انتقال نقطة الثقل في القضية الاجتماعية من إطارها القومي إلى مستواها الدولي (53).
هذا التطوّر الذي نلحظه باغتباط، لا يلهينا عن أن الرصيد العام لمختلف سياسات الدعم الانمائي لا يفي دائماً بالغرض المطلوب. هذا، عدا عن أن الأمم المتحدة لم تفلح، حتى الآن، في إحلال طرق ناجعة محل الحرب، لحل النزاعات الدولية. وتلك –على ما يبدو- هي المعضلة الألح التي يجب على الأسرة الدولية أن تلقى لها حلاّ.
الفصل الثالث
عام 1989
22– في ضوء الوضع العالمي الذي أتيتُ على وصفه، وأسهبتُ شرحه في الرسالة ” الاهتمام بالشأن الاجتماعي ” ندرك معنى الأحداث التي جرت في هذه السنين الأخيرة، ومدى وقعها المفاجئ والواعد. وقد بلغت، ولا شكّ، ذروتها في الأحداث التي طرأت، سنة 1989، على بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، مع أنها تمتدّ على حقبة ورقعة جغرافية أوسع. في غضون الثمانينات، نشهد انهيار بعض أنظمة الديكتاتورية والطغيان انهياراً متتالياً في غير بلد من بلدان أمريكا اللاتينية، بل أفريقيا وآسيا أيضاً. في مواقع أخرى، نلحظ انطلاقة مسيرة خصبة وإن صعبة، للعبور إلى أنظمة سياسيّة تفسح للمشاركة والعدالة مجالاً أوسع. وقد أسدت الكنيسة، في هذا الميدان، مساهمة كبيرة بل حاسمة، بالتزامها قضية الدفاع عن حقوق الإنسان وتدعيمها: ففي الأوساط المشحونة بالإيديولوجية، حيث باتت المواقف الراديكالية تطمس معنى الكرامة الإنسانية، أكدّت الكنيسة، ببساطة وقوّة، أن كل إنسان، أياً كانت معتقداته الشخصية، يحمل صورة اللّه في ذاته ويستحق، من ثم، الاحترام. وقد توسّم الشعب، بسواده الأعظم، في هذا القول، انعكاس تطلعاته، فاندفع يبحث عن أشكال كفاحٍ وحلولٍ سياسية أكثر احتراماً للكرامة الإنسانية.
من هذا التطوّر التاريخي، انبثقت أنماط جديدة من الديمقراطية تبعث الأمل بتبدّل البنى السياسية والاجتماعية الركيكة الرازحة تحت عبءٍ باهظ من المظالم والأحقاد الأليمة، بالإضافة إلى أوضاع اقتصادية فاجعة ونزاعات اجتماعية مضنية. وإني أشكر للّه، بالاتحاد مع الكنيسة جمعاء، الشهادة التي أدّاها، بصورة بطولية أحياناً، في هذه الظروف الصعبة، حشد من الرعاة، والجماعات المسيحية، وإلى جانبهم مؤمنون عاديّون وغيرهم من ذوي النوايا الطيّبة. وأسأله تعالى أن يكلأ جهود الجميع لبناء مستقبل أفضل. فهذه، ولا شك، مسؤولية تقع لا على أبناء تلك البلاد وحسب، بل على جميع المسيحيين وجميع ذوي النوايا الطيبة. وإنما المطلوب إقامة الدليل على أن المعضلات المعقّدة التي تواجهها تلك الشعوب، يمكن حلها عن طريق الحوار والتضامن، لا بالصراع لتدمير العدو، ولا بالحرب.
23- عوامل كثيرة أدّت إلى انهيار الأنظمة الطاغية، نخص بالذكر بعضاً منها: فالسبب الحاسم الذي انطلقت منه تلك التحوّلات هو، بلا شك، انتهاك حقوق العمل. ليس بالإمكان أن ننسى أن الأزمة السياسيّة في الأنظمة التي تدّعي تمثيل الحكومة وحتى الديكتاتورية العمالية، قد انطلقت من التحرّكات الكبرى في بولونيا باسم التضامن. فالجماهير العمالية هي التي نزعت الشرعية عن الإيديولوجية التي ادّعت التكلم باسمها، فوجدت بل اكتشفت ثانية، إلى حدٍّ ما، انطلاقاً من الخبرة الحياتية الصعبة النابعة من الكدّ والقهر، عبارات ومبادئ مستمدّة من التعليم الاجتماعي في الكنيسة.
هناك واقع آخر يلفت النظر: في كل مكان تقريباً، سقطت كتلٌ وانهارت امبراطوريات بفعل كفاحٍ سلمي لم يستعمل سوى أسلحة الحق والعدل. فبينما الماركسيّة تنادي بتأجيج المناقضات الاجتماعية للتمكن من حلّها في صدام عنيف، نرى الكفاحات التي أدّت إلى انهيار الماركسيّة، لا تزال تصّرُ على استعمال جميع وسائل التفاوض والحوار والشهادة للحق، مناشدة ضمير الخصم وساعية إلى أن توقظ فيه معنى الكرامة البشرية.
التركيبة الأوروبية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وكرّستها انفاقات يالطا، لم يكن في الظاهر شيءٌ ليزعزعها سوى حربٍ أخرى. ومع ذلك فقد تخطاها، عن طريق اللاعنف، قوم أبوا أن يذعنوا لسلطان القوّة، فعرفوا، في كل ظرف، أن يجدوا الطريقة الفعّالة ليشهدوا للحق. لقد استطاعوا، بذلك، أن يجرّدوا الخصم من سلاحه، لأن العنف بحاجة أبداً إلى أن يبرّر ذاته بالبهتان، وأن يظهر، ولو خداعاً، بمظهر المدافع عن حق، أو المتصدّي لتهديد الغير (54). نحمد اللّه، تارة أخرى، لأنه ساند قلب الناس في زمن المحنة العصيبة، وندعو ليغدو هذا المثل مفيداً في ديار أخرى وظروف أخرى. وعسى الناس يتعلّمون كيف يكافحون، بلا عنف، لإقامة العدل، عن الصراع الطبقي في النزاعات الداخلية، وعن الحرب في النزاعات الدولية.
24- ثمة سبب ثان من أسباب الأزمة وهو، بلا مراء، عقم النظام الاجتماعي. هذا الخلل يجب ألاّ نعتبره مجرّد مشكلة تقنيّة وحسب، بل نتيجة انتهاك حقوق الإنسان في المبادرة والملكيّة والحريّة في المجال الاقتصادي. إلى هذا الاعتبار ينبغي أن نضيف الناحية الثقافية والقومية: فإنه ليس من الممكن أن نفهم الإنسان من زاوية الاقتصاد فقط؛ وليس من الممكن أن نحدّد هويته استناداً إلى انتمائه الطبقي وحسب. نحن نحيط بالإنسان بطريقة أشمل إذا وضعناه في بيئته الحضاريّة، واعتبرنا لغته وتاريخه ومواقفه من جوهريات الوجود: الولادة والحب والعمل والموت. في قرارة كل حضارة، يكمن موقف الإنسان حيال السرّ الأعظم، سرّ اللّه. والحضارات، عند مختلف الشعوب ليست، في الصميم، سوى طرق متنوّعة لمواجهة السؤال عن معنى الوجود الشخصي: فإذا ألغي هذا السؤال، تفتّتت حضارة الشعوب وذهبت أخلاقها. ومن ثم، فقد ارتبط نضال العمّال عفوياً بالكفاح عن الحضارة والحقوق القومية.
بيد أن السبب الحقيقي لهذه المستجدّات إنما هو الفراغ الروحي الناجم عن الإلحاد، وقد ترك الأجيال الصاعدة ضائعة الأهداف، فدفعها غالباً إلى البحث الملّح عن هويّتها ومعنى وجودها، والعثور ثانية على الجذور الدينيّة لحضارة شعوبها، واكتشاف شخص المسيح نفسه جواباً وجودياً لما يكمن في قلب كل إنسان من عطش إلى الحقيقة وإلى الحياة.
هذا البحث حثّت عليه شهادة الذين لبثوا متمسّكين بأمانتهم للّه في الظروف العصيبة، ووسط الإضطهادات. لقد آلت الماركسيّة على ذاتها أن تستأصل من قلب الإنسان عطشه إلى اللّه، ولكنّ النتائج برهنت أن ذلك مستحيل ما لم يتضعضع قلب الإنسان.
25- أحداث سنة 1989 نموذج للنجاح الذي حقّقته إرادة التفاوض والروح الإنجيليّة في مواجهة عدوٍّ مصمّم على ألاّ تعترض طريقه مبادئ أخلاقية. وهي إذن إنذارٌ لكل الذين يريدون، بحجة تطبيق الواقعيّة السياسيّة أن يجردّوا السياسة من الحق ولأخلاق. لا شك أن النضال الذي أدىّ إلى تحوّلات سنة 1989، قد استلزم قدراً من التبصّر والاعتدال والآلام والتضحيات؛ لقد وُلد من الصلاة، وما كان ليتمّ لولا ثقة لا حدود لها باللّه سيّد التاريخ، وضابط قلب الإنسان بيده. وما لم يضمّ الإنسان عذابه لأجل الحق والحريّة إلى عذاب المسيح المصلوب، لا يستطيع أن يحقّق معجزة السلام ويكتشف الطريق الحرجة بين الجبانة المذعنة للشرّ، والعنف الذي يتوهّم التصدّي له فيزيده بلاءً.
ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل الظروف الكثيرة التي تعمل في وسطها حريّة الأفراد. إنها، ولا شكّ، تؤثر في الحريّة، ولكنها لا تجبرها؛ تعرقل نشاطها ولكنها لا تلغيها. لا يحق لنا، بل لا يمكننا عملياً، من الناحية الأخلاقيّة، أن نتجاهل طبيعة الإنسان المفطور على الحريّة. فعندما ينظّم المجتمع ذاته بحيث يقلّص، بطريقة اعتباطيّة، بل بحيث يلغي المجال الشرعي لممارسة الحريّة، ينجم عن ذلك تفكك الحياة الاجتماعية ودخولها البطيء في طريق الانحطاط. ثم إن الإنسان المفطور على الحريّة يحمل في ذاته جرح الخطيئة الأصلية فيجنح به أبداً نحو الشرّ، ويحوجه إلى فداء. هذه العقيدة، علاوة على أنها جزءٌ لا يتجزأ من الوحي المسيحي، تتضمن معنى تفسيرياً كبيراً يساعد في تفهّم الواقع البشري: فالإنسان ميّال إلى الخير، ولكنّه معرّض للشر؛ بإمكانه أن يتخطى مصلحته الآنية ولكنه يبقى مرتبطاً بها. ولا يترسخ النظام الاجتماعي إلاّ بمقدار ما يتنبّه لهذا الواقع، فيتحاشى التصادم بين المصلحة الفرديّة بالعنف، يحلُّ محلّها نظام باهظ من الرقابة البيروقراطيّة، تنضب منها منابع المبادرة والإبداع. عندما يتوهّم الناس أنهم يملكون سرّ تنظيم اجتماعي كامل يعصم من الشرّ، يعتقدون من حقهم أيضاً استعمال كل الوسائل لتحقيقه، حتى وسائل العنف والتدجيل؛ وتمسي السياسة عندئذٍ ” ديانة معلمنة ” تتوهم إقامة الجنّة في هذه الدنيا. ولكن ليس ثمة من مجتمع سياسي يملك استقلاليته الذاتيّة وقوانينه الخاصة (55)، يمكنه أن يتلبّس بلباس ملكوت اللّه. ويعلّمنا مثل الحنطة والزؤان في الإنجيل ( متى 13/24؛ 36-43 )، أن للّه وحده أن يفرز أبناء الشرّير، وأن هذا الحكم متروك لنهاية الأزمنة؛ فعندما يدّعي الإنسان إصدار هذا الحكم منذ الآن، فهو يقيم نفسه مقام اللّه ويتصدّى لطول أناته.
بفضل ذبيحة المسيح على الصليب، تحقق انتصار ملكوت اللّه دفعة واحدة. بيد أن الحالة المسيحيّة تفترض مكافحة التجارب وقوى الشرّ. وفي نهاية التاريخ فقط يرجع الربّ بمجده ليصدر الحكم الأخير ( متى 25/31 )، ويقيم السماوات الجديدة والأرض الجديدة ( 2بط 3/13؛ رؤ 21/1 ). ولكن ما دام الزمان، لا بدّ من أن يستمّر الصراع بين الخير والشرّ، حتى في داخل قلب الإنسان.
إن ما يعلّمناه الكتاب المقدّس عن مصير ملكوت اللّه لا يخلو من أثر في حياة المجتمعات الزمنيّة المرتبطة –على حدّ هذا التعبير- بأحوال الزمن مع ما يفترضه ذلك من تعرّض للخلل والزوال. ملكوت اللّه الماثل في العالم، وما هو من العالم، ينير نظام المجتمع البشري، في حين تتسرّب إليه قوى النعمة لتحييه. وهكذا تتضّح مقتضيات مجتمع يليق بالإنسان، وتتقوّم الانحرافات، وتتشدّد العزائم للسعي في سبيل الخير. هذه المهمّة الرامية إلى روحنة الشؤون البشريّة بروح الإنجيل، تقع على عاتق المسيحيين، وبخاصّة العلمانيين (56)، بالتعاون مع جميع ذوي النوايا الحسنة.
26- أحداث 1989 جرت خصوصاً في بلدان أوروبا الشرقيّة والوسطى. ولكن لها وقعاً شاملاً لما نجم عنها من نتائج إيجابية وسلبية تهم الأسرة البشريّة بأسرها. هذه النتائج ليس لها طابع آلي وحتمي، بل هي سوانح تغتنمها الحريّة البشريّة للتعاون مع قصد اللّه الرحيم العامل في التاريخ.
وكانت النتيجة الأولى، في بعض البلدان، اللقاء بين الكنيسة والحركة العماليّة التي نشأت وليدة انتفاضة أخلاقية ومحض مسيحيّة على وضع شامل ظالم. منذ قرن تقريباً كانت هذه الحركة قد وقعت سيطرة الماركسيّة، يقيناً منها أن الكادحين، إذا أرادوا مكافحة الطغيان بطريقة فعّالة، عليهم أن يتبنّوا النظريّات الماديّة والاقتصاديّة.
وسط الأزمة الماركسيّة، أخذت تظهر ثانيةً بوادر عفويّة للوعي العمّالي تعرب عن التماس لعدالة واعتراف بكرامة العمل وفقاً للتعليم الاجتماعي في الكنيسة (57). وأصبحت الحركة العمّاليّة حركةً أشمل تضم عمّالاً وأناساً من ذوي النوايا الحسن. يطالبون بتحرير الشخص البشري وإقرار حقوقه. وهي اليوم منتشرة في بلدان كثيرة، وعوض أن تتعرض للكنيسة الكاثوليكية، نراها، بالعكس، تتجّه إليها باهتمام.
بيد أن الأزمة الماركسيّة لم تلغِ من العالم أوضاع الظلم والطغيان التي كانت الماركسيّة نفسها تستغلّها وتستمدّ منها بأسها. وبالتالي، فالكنيسة تقدّم للباحثين اليوم عن نظريّة وممارسة جديدتين وصحيحتين للتحرير، لا عقيدتها الاجتماعية، وبوجه الإجمال، تعليمها في شأن الإنسان المفتدى بنعمة المسيح، وحسب، بل التزامها أيضاً ومساهمتها في مكافحة التهميش والعذاب.
من زمن غير بعيد، حاول عدد كبير من المؤمنين، بدافعٍ من صادق رغبتهم في مساندة المقهورين وعدم التخلّف عن مجرى التاريخ، أن يجدوا، بطرق شتّى، تسوية متعذّرة بين الماركسيّة والمسيحيّة، ولكنّ الأوضاع الراهنة قد تخطّت كل ما هو هشٌّ في هذه المساعي، وبعثت، في الوقت نفسه، على إعادة تأكيد الطابع الإيجابي في كل لاهوت صحيح ينادي بتحرير الإنسان تحريراً كاملاً (58). أحداث 1989، إذا نظرنا إليها من هذا الملحظ، تبرز أهميتها أيضاً لبلدان أوروبا الوسطى والشرقية.
27- النتيجة الثانية تهمّ شعوب أوروبا نفسها. ثمة مظالم كثيرة، على الصعيد الفردي والمجتمعي، الإقليمي والقومي، ارتكِبت، مدة السنين التي هيمنت فيها الشيوعية، ومن قبل أيضاً، فتراكمت، من جراء ذلك، الأحقاد والضغائن. هذه المشاعر يمكن أن تتفجّر تفجّراً عنيفاً، بعد انهيار الديكتاتورية، محدثة صراعات وآلاماً مبرّحة، إذا وهن العناد الأدبي والقدرة على أداء شهادة واعية للحق، اللذان نفحا الجهود السالفة. وعلينا أن نتمنّى ألاّ يتغلّب الحقد والعنف في القلوب، وبخاصة عند الذين يكافحون من أجل العدالة، وأن ينمو روح السلام والمسامحة لدى الجميع.
ولكن لا بدّ من القيام بمساعٍ ملموسة لاستحداث أو تدعيم بنىً دولية قادرة على التدخل بوجه لائق لفضّ النزاعات بين الدول، فتتمكّن كل منها أن تذود عن حقوقها، وتصل إلى اتفاق عادل وتسوية سلميّة ترعى حقوق الآخرين. هذا كلّه نرى له ضرورة خاصّة في الدول الأوروبية المرتبطة ما بينها ارتباطاً وثيقاً بعُرى حضارتها المشتركة وتاريخها العريق. ولا بدّ من بذل جهد كبير للبلدان التي تخلّت عن الشيوعيّة، لإعادة بنائها الأدبي والاقتصادي، ولا غرو، فقد فسدت، مدة طويلة جدّاً، أبسط العلائق الاقتصادية، وامتُهِنت فضائل أساسيّة، في التعاطي الاقتصادي، كالصدق والنزاهة والثقة المستحقّة والدأب في العمل. لا بدّ إذن من السعي، بأناةٍ، لإعادة بناءٍ ماديّة وأخلاقية، بينما الشعوب المرهقة بحقب طويلة من الحرمان، تطالب حكامها بنتائج ملموسة وفوريّة تضمن لهم الرخاء مع تلبية تطلعاتهم المشروعة.
انهيار الماركسيّة جرّ إلى نتائج خطيرة لجهة تقسيم الأرض إلى عوالم مغلقة بعضها على بعض، ومتصدية بعضها لبعض في تنافس وتحاسد. وقد أدّى ذلك، في المقابل، إلى بروز أوضح لواقع الترابط بين الشعوب، وأهلية العمل البشري في طبيعته، لتوحيد الشعوب لا لتقسيمها. فالسلام والازدهار هما من الخير الذي تعود فائدته على الجنس البشري برمته، فلا يسوغ التمتع بهما بطريقة نزيهة ودائمة، إذا تمّ امتلاكهما والحفاظ عليهما على حساب شعوب أخرى، بانتهاك حقوقها وعزلها عن مصادر رفاهها.
28- ثمة بلدان في أوروبا، بدأت فيها الآن، نوعاً ما، فترة ما بعد الحرب. فالترميم الفوري للبنى الاقتصادية المؤمّمة حتى ذاك، يولّد مشكلات ويفترض تضحيات يمكن مقارنتها بتلك التي اضطرت إلى مواجهتها بلدان غربي القارّة لإعادة بنائها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. من العدل إذن، في المصاعب الراهنة، أن تعوّل البلدان الخارجة من الشيوعية، على نصرة الدول الأخرى وجهودها الداعمة. من البديهي جداً أن تكون هذه البلاد في طليعة الساعين لتحقيق نموّها الذاتي، ولكن لا بدّ من أن يُفسح لها مجال معقول لتنفيذ هذا الهدف الذي يتعذر تنفيذه بدون مساعدة البلدان الأخرى، وعلى كلٍ، فالوضع الراهن، بمشاكله وفاقته، إنما هو عاقبة تطوّر تاريخي، باتت البلاد الخارجة من الشيوعية ضحيّته لا المسؤولة عنه. فإذا ألفيناها اليوم في مثل هذا الوضع، فما ذلك نتيجة خيارات حرّة ولا أخطاء مقترفة، بل لسبب أحداث تاريخيّة مأساوية مفروضة بالقوّة، حالت بينها وبين مواصلة نموّها الاقتصادي والمدني.
الدعم المطلوب من الدول الأخرى –وبخاصة من أوروبا- وقد شاركت في صوغ هذا التاريخ وتتحمل مسؤولياته، هو بمثابة دَينٍ يفرضه العدل. ولكنه أيضاً ممّا تستلزمه منفعة أوروبا وخيرها العام. فهذه القارة لن تتمكّن من العيش بسلام، ما دامت النزاعات المتنوّعة النابعة من الماضي، توتّرها حالةٌ من الفوضى الاقتصادية والتململ الروحي واليأس.
ولكن مثل هذا المقتضى يجب ألاّ يفضي إلى تقليص الجهود الرامية إلى دعم بلدان العالم الثالث ونجدتها، وهي –في الغالب- تعاني ظروفاً من الفاقة والفقر أخطر جداً (59) فالمطلوب إنما هو جهد استثنائي لتجنيد الطاقات التي لا يخلو منها الألم في مُجمله، لتحقيق أهداف نموّ اقتصادي ورقي عميم، بعد إعادةٍ لتحديد الأوليات وسلالم القيم التي تحكم الخيارات الاقتصادية والسياسيّة. ثمة طاقات لا حصر لها، يمكن استعمالها نتيجة لنزع السلاح من الأجهزة العسكريّة الهائلة المعدّة للصراع بين الشرق والغرب. وقد تزداد هذه الطاقات وفرة إذا وُضعت خططٌ فعّالة –غير خطط الحرب!- لفض النزاعات وتعميم مبدأ رقابة الأسلحة وتقليصها، في بلدان العالم الثالث أيضاً، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لقمع المتاجرة بها (60). ولكن لا بدّ خصوصاً من الإقلاع عن الذهنية التي تحسب الفقراء –أفراداً وشعوباً- شبه عبء ومجموعة من المزعجين الطامعين في استهلاك ما ينتجه الآخرون. إن الفقراء يطالبون بحقهم في المشاركة في الخيور الماديّة، وتوظيف ما لديهم من طاقة عمل، لتكوين عالمٍ أكثر عدالة وازدهاراً للجميع. رُقيُّ الفقراء حظٌّ كبير للنموّ الأدبي والحضاري وحتى الاقتصادي للبشرية بأسرها.
29- يجب، أخيراً، ألاّ ننظر إلى النموّ من زاويته الاقتصادية البحتة بل في مفهومه الإنساني الشامل (61). فلا يهمنا فقط أن ترقى الشعوب كلها إلى مستوى الإزدهار الذي تتمتع به اليوم البلدان الثريّة، بل أن نسعى، بالتضامن، إلى بناء حياة أكثر كرامة، ومساعدة كل فرد في إنماء كرامته وطاقته الإبداعيّة حقاً، وأهبته لتسديد مهمته وبالتالي، لتلبية نداء ربّه. في قمّة النموّ، يجب أن يفسح للإنسان مجال البحث عن اللّه، حقاً له وواجباً عليه، ومعرفته تعالى والعيش بمقتضى هذه المعرفة (62). لقد أغرقت الأنظمة التوتالية والسلطويّة في تطبيق المبدأ القاضي بتغليب القوّة على العقل، فأمسى الإنسان مضطراً إلى التسليم برؤية للواقع مفروضة بالقوّة لا مكتسبة بمجهود عقله وممارسة حريّته. لا بد إذن من أن نعكس هذا المبدأ ونسلّم بحقوق الضمير البشري أيضاً تسليماً ناجزاً، فلا يبقى مرتهناً إلاّ للحقيقة الطبيعيّة والحقيقة الموحاة. فالإقرار بهذه الحقوق هو الأساس الأول لكل نظام سياسي يتمتع بالحريّة الحقّة (63). هذا المبدأ يهمنا إثباته تكراراً لأسباب عدة:
1- لأن الأنماط السالفة للأنظمة التوتالية والسلطويّة لم تتلاش بعد كلياً، لا بل يبقى هناك خطر لأن تستعيد قوتها ونشاطها. وفي هذا ما يدعو إلى تجديد السعي لتحقيق التعاضد والتضامن بين جميع البلدان.
2- لأن البلاد المتطورة تولي القيم النفعيّة البحتة دعاية متطرّفة، حافزة الغرائز والنوازع إلى المتعة الفوريّة، مما يُعسّر الاعتراف والعمل بسلّم القيم الحقّة للوجود البشري.
3- لأن أشكالاً جديدة من الأصولية الدينيّة بدأت تظهر في بعض البلدان مُنكرَة، بطريقة مبطّنة بل سافرة أحياناً، على المواطنين الذين لا يدينون بدين الأكثريّة، الممارسة الكاملة لحقوقهم المدنيّة أو الدينيّة، وتحول دون اشتراكهم في الجدل الثقافي، وتحدّ من حقّ الكنيسة في المناداة بالانجيل، وحقّ الناس في تقبّل الكلام الذي تبلّغوه بالكرازة، والاهتداء، من ثم، إلى المسيح. فلن يكون هناك من تقدم صحيح، بدون احترام الحق الطبيعي والأساسي في معرفة الحقيقة والعيش بمقتضاها. هذا الحقّ الطبيعي يرتبط به، من حيث الممارسة والتقصّي، حقّ اكتشاف يسوع المسيح وتقبّله تقبّلاً حرّاً، وهو للإنسان خيره الحق (64).
الفصل الرابع
الملكيّة الخاصة ومشاعيّة الانتفاع بالأرزاق
30- لقد تصدّى لاون الثالث عشر بقوّة، في ” الشؤون الحديثة “، للاشتراكية السائدة في عهده، مؤكّداً الحقّ الطبيعي في الملكية الخاصة، ومستنداً، في ذلك، إلى أدلّة متنوّعة (65). هذا الحقّ الأساسي لضمانة استقلالية الشخص ونموّه، دافعت عنه الكنيسة دائماً وحتّى اليوم. ولكنّ الكنيسة تعلم أيضاً أن ملكيّة الخيرات ليست حقاً مطلقاً بل تفترض حدوداً ضمن طبيعتها كحقٍّ بشري.
لقد أ كدّ البابا، مع مناداته بالحق في الملكيّة الخاصة، وبنفس الوضوح، أن ” استعمال ” الخيرات المتروك للحريّة، يخضع للمقصد المشاعي الذي لأجله خُلِقت تلك الخيرات في الأصل، كما يخضع أيضاً لمشيئة يسوع المسيح، كما عبّر عنها في الإنجيل. وممّا كتبه البابا: ” لقد أُنذِر أثرياء هذا العالم بوجوب الإرتعاد من التهديدات اللامألوفة التي أطلقها يسوع في وجه الموسرين… وأنه لا بدّ من يوم يؤدّون فيه للّه قاضيهم حساباً عسيراً جداً عن طريقتهم في استعمال ثروتهم. ” وأضاف البابا مستشهداً بتوما الأكويني: ” إذا طُلِب من الكنيسة: كيف يتمّ استعمال الأرزاق، أجابت بلا تردّد: ” على الإنسان، في هذا المجال، ألاّ يحسب متاع الدنيا مِلكاً خاصّاً بل مشاعاً “. ” فوق أحكام الإنسان وشرائعه تستوي شريعة يسوع المسيح وحكمه ” (66).
هذه المقولة المزدوجة، ردّدها خلفاء لاون الثالث عشر، فقالوا –من جهة- بضرورة الملكيّة الخاصّة وشرعيتها، ومن جهة أخرى، بالحدود المفروضة على استعمالها (67). وعرض المجمع الفاتيكاني الثاني أيضاً هذا التعليم المتوارث، بعبارات جديرة بأن نوردها حرفياً: ط إن الإنسان، في استعماله لثرواته، يجب ألاّ يحسب أبداً أن ممتلكاته الشرعيّة تخصّه وحده، بل يجب أن يعدّها أيضاً مشتركة يعود نفعها لا لذاته فقط بل لغيره أيضاً “. ثم يقول بعَيد ذلك: ” الملكيّة الخاصّة أو بعض سُلطة على الأملاك الخارجيّة يضمنان لكلّ واحدٍ حيّزاً لا بدّ منه من الاستقلال الفردي والعيلي ويُعتبران امتداداً للحريّة البشريّة… إنه لمن طبيعة الملكيّة الخاصّة أن تتّسم بطابع اجتماعي مبنيّ على مبدأ مشاعيّة الأرزاق ” (68).هذه العقيدة ذاتها قد كرّرتُها في خطابي الافتتاحي أمام مجلس أساقفة أميركا اللاتينية في بُوبلا، ثم في رسالتيِّ العامتين ” العمل البشري ” و “الاهتمام بالشأن الاجتماعي ” (69).
31- عندما نقرأ، في قرائن زمننا، هذا التعليم في حقّ التملّك، من جهة، ومشاعيّة الأرزاق، من جهة أخرى، يمكن طرح السؤال: من أين مصدر هذه الممتلكات التي تدعم حياة الإنسان وتسدُّ حاجاته وتدخل في نطاق حقوقه؟
المصدر الأول لكل ملكٍ هو فعل اللّه بالذات الذي خلق الأرض والإنسان ووهب الإنسان الأرض ليتسلّط عليها بشغله وينعم بثمارها ( تك 1/ 28-29 ). وقد وهب اللّه الأرض لجميع أبناء البشر لتُعيلهم كلهم، بدون استثناء لأحد. هذا هو المصدر الأول لمشاعية أرزاق الأرض. فالأرض، بفضل خصبها وما لديها من إمكاناتٍ لتلبية حاجات الإنسان، هي هبة اللّه الأولى لإعالة الناس. ولكنّ الأرض لا تؤتي غلالها من دون جوابٍ إنسانيّ مميّز لهذه الموهبة الإلهية، وهذا الجواب هو العمل. بفضله يستطيع الإنسان المستعين بعقله وحريّته، أن يملك على الأرض ويتخذ له مسكناً لائقاً. وهكذا يتملّك من الأرض الجزء الذيأحرزه بعمله: وهذا هو مصدر الملكيّة الخاصة. ومن البديهي أن على الإنسان مسؤولية أخرى: ألاّ يمنع الآخرين من التمتّع بحصتهم من هبة اللّه، بل أن يتعاون وإياهم ليتسلطوا معاً على الأرض طرّاً.
هذان العنصران، أي العمل والأرض، نجدهما دائماً، عبر التاريخ، في منطلق كل مجتمع بشري، ولكنهما لا يلتقيان دائماً في ذات النسبة بينهما. ففي الزمن الغابر، كان الخصب الطبيعي للأرض في الظاهر بل في الواقع، هو العامل الأول للثروة، ولم يكن العمل سوى نوعٍ من الرفد والدعم لهذا الخصب. وأمّا اليوم، فقد غدا دور العمل البشري عنصراً متزايد الأهميّة لإنتاج الثروات اللاّماديّة والماديّة. هذا، ويبدو واضحاً أن عمل الفرد يندمج طبيعياً في عمل الآخرين. فقد أضحى العمل اليوم، أكثر من أي يومٍ مضى، هو العمل مع الغير ولأجل الغير: عمل شيء لأجل أحد. ويزداد العمل خصباً ونتاجاً بمقدار أهبة الإنسان للوقوف على الموارد الإنتاجية في الأرض، والتحسّس بالحاجات العميقة عند الذين يُبذَل العمل لأجلهم.
32- ولكننا نجد، في زمننا، نوعاً آخر من الملكية، لا تقلّ أهمية عن ملكيّة الأرض: إنها ملكية المعرفة والتقنيّة والعلم. ثروة البلاد الصناعيّة تعتمد هذا الصنف من المعرفة أكثر من اعتمادها الموارد الطبيعيّة.
لقد أشرنا إلى أن الإنسان يعمل مع غيره من الناس، مساهماً في ” نشاط اجتماعي ” يمتدّ إلى دوائر آخذة في الاتساع. من ينتج سلعة لا ينتجها، عادةً، لمنفعته الخاصّة فقط، بل لكي يتمكّن آخرون من الإفادة منها، بعد تسديد الثمن العادل المتفق عليه، من قبل الطرفين، في مساومة حرّة. ولكن إمكانية الوقوف، في الوقت المناسب، على حاجات الآخرين، وعلى مجموع عوامل الإنتاج القادرة على تلبيتها، تشكّل هي أيضاً مصدراً آخر قيّماً من مصادر الثروة في المجتمع المعاصر. وعلى كلٍّ، فإنّ ثمّة سلعاً كثيرة لا يمكن إنتاجها، بطريقة مناسبة، على يد فردٍ من الناس، بل تستلزم التفاف أشخاصٍ كثيرين حول الغرض الواحد. تنظيم مثل هذا الجهد الإنتاجي وتصميم مدتّه والسهر على أن يلبّي، بوجه فاعل، الحاجات القائمة، مع تحمّل المجازفات التي لا مفرّ منها، كل هذا يكوّن أيضاً مصدراً من مصادر الثروة في المجتمع الحالي. وهكذا يغدو، كلّ يوم أكثر وضوحاً وحسماً، دور العمل البشري المضبوط والخلاّق، ودور القدرة على المبادرة والتعهّد، من حيث هو جزءٌ أساسي في العمل (70).
يجب أن نلحظ بانتباه وارتضاء هذا المسار الذي يُبرز بشكل واقعيّ، حقيقة إنسانيّ لم تنِ المسيحيّة عن المناداة بها. فأولى ثروات الإنسان، مع الأرض، إنما هي الإنسان نفسه الذي يكتشف، بذهنه، الطاقات الإنتاجية المخزونة في الأرض، والطرق المتعدّدة التي تمكّن الناس من سدّ حاجاتهم. فالعمل المضبوط، في إطار من التعاون والتضامن، هو الذي يضمن إنشاء جماعات عمل، تزداد كل يوم امتداداً ورسوخاً لتحقيق التحوّل في المحيط الطبيعي كما في المحيط البشري ذاته. هذا النهج يستلزم صفات كبيرة كالاجتهاد والدأب في العمل، والفطنة في ركوب المجازفات المعقولة، والثقة المستحقّة، والأمانة في العلاقات المتبادلة، والحزم في تنفيذ القرارات الصعبة والأليمة الضروريّة للعمل الجماعي ضمن المؤسّسة، ولمواجهة ما يمكن أن يطرأ من تغيّرات في الأوضاع.
المنهجيّة العصريّة في المؤسّسة تتضمّن نواحي إيجابيّة مصدرها حريّة الشخص التي تنعكس في مجال الاقتصاد كما في مجالات أخرى كثيرة. فالاقتصاد شكل من الأشكال الكثيرة التي يتمّ فيها النشاط البشري، وفيه كما في أيّ مجال آخر، يمارس الحقّ في الحريّة وواجب استعماله بطريقة مسؤولة. ولكن لا بدّ من أن نلحظ قيام فروق بين هذه النزعات، في المجتمع المعاصر، وما سلف منها حتى في الماضي القريب. فلئن كان العنصر الإنتاجي الحاسم، فيما مضى، هو الأرض، وفيما بعد الرأسمال، أي مجموع الآلات ووسائل الإنتاج، فالعنصر الحاسم اليوم، وكل يومٍ أكثر، هو الإنسان نفسه، أي ما لديه من أهبة للمعرفة تظهر في الاطلاع العلمي والقدرة على التنظيم في إطار التضامن والوقوف على حاجات الآخرين وتلبيتها.
33- ولكننا لا نستطيع أن نغفل التنبيه على المحاذير والمشكلات المرتبطة بهذا النمط من التطوّر. ثمة أناس كثيرون، بل معظم الناس، ولا شك، لا يملكون اليوم وسائل للدخول، بطريقة فاعلة وخليقةٍ بالإنسان، ضمن مؤسسة صناعيّة يكون فيها للعمل مكانةٌ مرموقة حقاً. فهم عاجزون عن إحراز المعارف الأساسيّة التي تمكّنهم من ترجمة إبداعهم وتطوير طاقاتهم، وعن الدخول في شبكة التعارف والتواصل التي تدرّ عليهم تقدير الآخرين لكفاءاتهم والاستفادة منها. وخلاصة القول أنهم، على افتراض نجاتهم من الاستغلال، لن ينجوا من خطر التهميش الذريع، فيتوالى النموّ الاقتصادي فوق رؤوسهم، نوعاً ما، هذا إذا لم يصل إلى الحدّ من المجال الضامر الذي تندرج فيه اقتصادياتهم التليدة ويؤمّن لهم رزق يومهم. ولأن هؤلاء الناس قاصرون عن منافسة السلع الناتجة عن الأساليب العصريّة والملبيّة للحاجات التي كانوا يلبّونها قبلاً في إطار النظم التقليديّة، ولأنهم معرّضون، في الوقت نفسه، لإغراءات ثروة وضّاءة ممنوعة عليهم، ولأحكام ضرورة ملزمة، فهم يقطنون مدن العالم الثالث، حيث يجدون أنفسهم غالباً مقتلعين من تربيتهم الحضاريّة، ومرتهنين لأوضاعٍ هشّة تطغى عليهم ولا تدع لهم مجالاً للاندماج في بيئتهم. والواقع أن هناك أيضاً تجاهلاً لكرامتهم ولمؤهلاتهم البشريّة، بل هناك سعيٌ إلى إلغاء وجودهم من مجرى التاريخ، بما يُفرَض عليهم من ألوان الرقابة الديموغرافيّة المنافية للكرامة البشريّة.
هناك أقوام آخرون، وإن باتوا في مأمنٍ من العيش الهامشي، إلاّ أنهم خاضعون لظروف من الحياة تفرض عليهم ضرورة أوليّة: أن يكافحوا في سبيل البقاء، في حين لا تزال قامةً الممارسات الرأسماليّة الموروثة منذ القدم، وسط أوضاع ” قاسية ” لا تقلُّ ظلماً عن أحلك فترات المرحلة التصنيعيّة الأولى. في أحوال أخرى، نرى أن الأرض لا تزال هي العنصر الأساسي في الحركة الاقتصاديّة، ولكنّ الذين يستثمرونها لا يُمكّنون من امتلاكها فيضطرّون إلى العيش في ظروف تشبه العبوديّة (71). يمكننا، والحالة هذه، أن نتكلّم اليوم، كما في عهد ” الشؤون الحديثة “، عن استغلالٍ ينافي الإنسانيّة. فبالغم من التحوّلات الخطيرة التي طرأت على المجتمعات الأكثر تقدّماً، نرى أن الثغرات البشريّة الناجمة عن الرأسماليّة، لا تزال قائمة متأصّلة. ونتيجتها تفضيل المادّة على الإنسان. وقد انضاف إلى ذلك، عند الفقراء، وعلاوة على الفاقة الماديّة، فاقة العلم والمعارف، تحول دون انعتاقهم من حالة التبعيّة المُذلّة.
السواد الأعظم من سكان العالم الثالث لا يزال يعاني مثل هذه الأحوال، علماً بأن العالم الثالث لا يصح فهمه بمعناه الجغرافي البحت. فهناك مناطق وقطاعات اجتماعية ضمن هذا ” العالم ” بدأت تتحرك فيها انطلاقات إنمائية مركّزة على تقييم ” الموارد البشريّة ” أكثر منها على الطاقات الماديّة.
من فترة غير بعيدة جدّاً، ساد القول بأن النموّ يفترض استمرار البلاد المعوزة معزولةً عن السوق العالميّة، واتكالها على قواها الذاتيّة. وإلاّ أن خبرة هذه السنين الأخيرة بينّت أن البلدان المعزولة باءت بالجمود والتقهقر، في حين ازدهرت البلاد التي وُفّقت في الاندماج في شبكة المبادلات الاقتصادية الدوليّة. يبدو إذن أن المشكلة الأساسية هي مشكلة الانخراط المنصف في السوق الدوليّة، لا على أساس الاستغلال الأناني لمصادر الثروة الطبيعيّة، بل التقييم للثروات البشريّة(72).
إلاّ أن ثمة بعض ميزاتٍ للعالم الثالث تظهر حتى في البلدان المتطوّرة، حيث التبدّل الدائم في أساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك يخفّض من قيمة المعارف المكتسبة والكفاءات المهنية المقرّرة، ويقتضي، من ثمّ، جهداً متواصلاً للتحديث والتكييف. فالذين يخفقون في مواكبة الركب، يترّضون بسهولة للعزل الاجتماعي، كما هي حالة المُسنّين والشبّان العاجزين عن الانخراط في الحياة الاجتماعية انخراطاً جيّداً، وبعامّةٍ جميع المستضعفين ومن يُعرَفون ” بالعالم الرابع “. في هذه الأحوال، يتضح أن وضع المرأة أبعدُ من أن يكون وضعاً هيّناً.
34- يبدو أن السوق الحرّة، داخل كل بلد كما في العلاقات الدوليّة، هي الوسيلة الأضمن لتوزيع الثروات وسدّ الحاجات بوجه فعّال، ولكنّ ذلك لا يصح إلاّ في الحاجات الخاضعة ” للمتاجرة ” إذا توفّرت لها قدرة الشراء، وفي السلع ” الخاضعة للبيع “، إذا تأمّن لها الثمن العادل. إلاّ أن هناك حاجاتٍ بشريّة كثيرة، لا قِبَل للسوق بتلبيتها. وإنه لمن أثقل واجبات العدل والحق، ألاّ تظلّ ثمة حاجات بشريّة أساسيّة ملجومة، وألاّ يهلك الذين يعانون من هذه الفاقات. ولا بدّ أيضاً لذوي الفاقة هؤلاء من أن يحظوا بما يمكّنهم من تحصيل المعارف، والدخول في شبكة العلاقات المتبادلة وإنماء مؤهلاتهم لتعزيز طاقاتهم وثرواتهم الشخصيّة. فقبل الاهتمام بضرورة المبادلات المتوازنة، وما يجب أن يسودها من وجوه العدل، هناك مقتضىً للإنسان من حيث هو إنسان يتمتّع بكرامة سامية. هذا المقتضى يفترض، في آن واحد، القدرة على الاستمرار في الحياة، والمساهمة الفاعلة في الخير البشري العام.
الأهداف المنصوص عليها في ” الشؤون الحديثة ” لمنع العمل الإنساني، بل الإنسان نفسه، من أن يمسي مجرّد سلعة، لا تزال محتفظة بكل قيمتها في الظروف المحيطة بالعالم الثالث، ولا تزال –في بعض الأحوال- غايةً لا بدّ من إصابتها: فيتوفّر للناس أجر يكفي مؤونة الأسرة، وضمانات اجتماعية للشيخوخة والبطالة، ويقوم نظام لائقٌ يتناول ظروف العمل.
35- هذا كله يفسح مجال عمل واسع النطاق كثير الغلال للالتزام والكفاح، باسم العدالة، باسم النقابات والمنظّمات العماليّة الأخرى التي تذود عن حقوق العمال وتصون كرامتهم، وتضطلع، في الوقت نفسه، بمهمّة ثقافية جوهريّة لإشراكهم في حياة الأمة إشراكاً بكامل الحق والشرف، ومساعدتهم في التقدّم على طريق نموّهم.
في هذا المفهوم، يسوغ الحديث عن نضالٍ ضدّ نظام اقتصادي يُعتبر نهجاً لإقامة أولويّة مطلقة لرأس المال وملكيّة الإنتاج والأرض على حريّة العمل الإنساني وكرامته (73). مكافحة هذا النظام لا تقوم بأن نستبدل به النظام الاشتراكي، وهو –في الواقع- ضرب من الرأسمالية لحساب الدولة، بل بأن نعارضه بمجتمع ينادي بحريّة العمل والمبادرة والمشاركة. مثل هذا المجتمع لا يتنافى والسوق الحرّة، بل يقتضي أن تظلّ هذه السوق خاضعة للقوى الاجتماعية وللدولة خضوعاً مناسباً يكفل سدّ الحاجات الأساسيّة للمجتمع بأسره.
تقرّ الكنيسة للربح دوره الفاعل، بصفته دليلاً لحسن سير المؤسسة. فعندما تؤتي المؤسسة ربحاً، فذلك دلالة على أن العوامل الإنتاجية قد اعتُمدت بالطريقة المقتضاة، وان الحاجات البشريّة المقابلة لها قد أصابت مبتغاها، ولكن الربح ليس هو الدليل الأوحد لحالة المؤسسة. فقد يتفّق أن تكون الحسابات الاقتصادية مرضية، بينما البشر الذين يكوّنون التراث الأغلى في المؤسسة معرّضون، في كرامتهم، للذلّ والإهانة. مثل هذا الوضع لا يمكن القبول به أدبيّاً، بل لا يمكن، إلاّ أن يفضي، فيما بعد، إلى نتائج وخيمة، حتى على صعيد الفاعليّة الاقتصادية في المؤسسة. ولا غرو، فالمؤسسة لا تتوخّى فقط إنتاج الربح، بل وجود المؤسسة بالذات، بوصفها جماعة أشخاص يسعون، بطرق شتّى، إلى تلبية حاجاتهم الأساسية ويكوّنون خليّة خاصة في خدمة المجتمع بأسره. لا شك أن الربح هو ميزان حياة المؤسسة، ولكنه ليس الميزان الأوحد. ولا بدّ من أن نضيف إليه اعتبارات أخرى تراعي العوامل البشريّة والسلوكيّة. وهذه، في المدى البعيد، لا تقلّ أهميّة لحياة المؤسسة.
لا يمكن –كما رأينا- أن نسلّم بأن القول بأن فشل ما يسمّى ” بالاشتراكية الواقعية ” لا يفسح المجال إلاّ للنموذج الرأسمالي في التنظيم الاقتصادي. ولا بدّ، من ثمّ، أن تُحطّم الحواجز والامتيازات التي تفرض على شعوب كثيرة أن تظلّ في هامش التطوّر، وتؤمّن للجميع، أفراداً وشعوباً، الشروط الأساسيّة للاندماج في حركة التطوّر. مثل هذا الهدف يفرض على الأسرة الدوليّة جهوداً نسيقة وواعية. ويجدر بالبلدان القديرة أن توفّر للفقيرة إمكانات الانخراط في الحياة
الدوليّة، كما ينبغي للبلدان المعوزة أن تستفيد من هذه الإمكانات، باذلة ما لا بدّ منه من جهود وتضحيات، حريصةً على استقرار نظامها السياسي والنقدي، وسداد تطلعاتها المستقبلية، والنهوض بمستوى كفاءات عمّالها وتنشئة قادة للمؤسسات الاقتصادية، يتميّزون بنشاطهم ووعي مسؤولياتهم (74).
إن الجهود البنّاءة المبذولة في هذا المضمار، تنوء اليوم بمعضلة الدَّين الخارجي الذي تعاني منه البلاد الفقيرة والذي لا يزال، حتى اليوم، في معظمه، دون حلّ. المبدأ القائل بوجوب تسديد الديون، مبدأ صحيح، دون شك. ولكن لا يجوز أن نطالب بتسديد دين، إذا نجم عن ذلك، في الواقع، فرض خيارات سياسيّة من شأنها أن تدفع شعوباً برمّتها إلى الجوع واليأس. ولا يسوغ، بالتالي، أن ندّعي المطالبة بوفاء ديون معقودة، إذا اقتضى ذلك ثمن تضحيات باهظة. في هذه الأحوال، لا بدّ من أن نجد طرقاً أخرى –وهذا ما يجري اليوم جزئياً- للتخفيف من الدين أو لتأجيله، أو حتى لطيّه نهائياً، فيأتي ذلك على انسجام مع حقّ الشعوب في البقاء والتقدّم.
36- يجدر بنا الآن أن نلفت النظر إلى المشكلات الخاصّة والمحاذير الناشئة ضمن الأنظمة الاقتصادية الأكثر تطوّراً والمرتبطة بميّزاتها الفريدة. في المراحل السالفة للتقدّم، عاش الإنسان دوماً تحت وطأة الحاجة. وكانت حاجاته آنذاك قليلة ومحصورة، نوعاً ما، ضمن حدود بنيته الجسديّة، ونشاطه الاقتصادي موجّهاً لتلبيتها. وأمّا اليوم، فقد غدا واضحاً ليست في تزويده بما يكفيه من السلع، بل في تلبية مطلب نوعي: نوعية السلع المعدّة للإنتاج والاستهلاك؛ ونوعيّة الخدمات العامّة التي يجب أن ينعم بها الإنسان، ونوعيّة البيئة والحياة إجمالاً.
التطلع إلى حياة أرضى وأثرى مطلبٌ مشروع في ذاته. ولكن لا بدّ من أن نلفت النظر إلى المسؤوليات الجديدة والأخطار المرتبطة بهذه المرحلة من التاريخ. ففي الطريقة التي نشأ فيها الحاجات الجديدة ويتمّ تحديدها، تتدخل دائماً نظرةٌ إلى الإنسان وإلى منفعته الحقّة، قد تكون على كثير أو قليل من الصّحة. فمن خلال الخيارات التي تتناول الإنتاج والاستهلاك، تتجلّى ثقافة معيّنة وتصوّر شامل للحياة. من هنا تبرز ظاهرة الاستهلاك. فعندما تتحدّد حاجات جديدة ووسائل جديدة لتلبيتها، لا بدّ من أن نستوحي صورة للإنسان كاملة تراعي جميع مقوّمات كيانه وتخضع النواحي الطبيعيّة والغريزيّة للأبعاد الباطنة والروحيّة. وأمّا إذا رجعنا توّاً إلى غرائزه، وصرفنا النظر، بطريقة أو بأخرى، عمّا يميّز كيانه الشخصي من وعي وحريّة، فقد يجرّ ذلك إلى عادات في الاستهلاك وأنماط حياة محرّمة في ذاتها أو مؤذية للصحة الجسديّة لتلبية الحاجات البشريّة، والحاجات الجديدة الطارئة التي تحول دون بلوغ الشخصيّة طور نضجها. فثمّة إذن ضرورة ملحّة لعمل تربوي وثقافي واسع النطاق يؤهل المستهلكين لأن يستعملوا قدرتهم على الاختيار استعمالاً واعياً، والمنتجين لأن يعوا مسؤولياتهم وعياً ثاقباً، ولاسيما أصحاب الإعلام والاتصال الاجتماعي، والممسكين بزمام السلطات المدنيّة ليتدخّلوا عند اقتضاء الأمر.
الإدمان حالة واضحة من حالات الاستهلاك الاصطناعي، تسيء إلى الإنسان في صحته وكرامته، ومن الصعب إخضاعها للرقابة. انتشاره دليل خلل فادحٍ في البنية الاجتماعية يفترض ” فهماً ” ماديّاً وتأويلاً هدّاماً للحاجات البشريّة. وهكذا فإن طاقات التجديد في الاقتصاد الحرّ تؤدّي، في آخر المطاف، إلى استعمالها بطريقة أنانيّة ونابية.فالإدمان والبورنوغرافية وأشكال أخرى من الاستهلاك تستغلّ ضعف الضعفاء وتسعى إلى سدّ الفراغ الروحي الناجم عنها.
ليس من العيب أن نرغب في حياة أفضل، وإنّما العيب في نمط حياة يُحسب أفضل إذا ابتغى الإنسان القنية وأهمل القيمة، وإذا رام الاستزادة، لا لينمي كيانه بل لينفق الوجود في سبيل التنعّم للتنعّم (75). لا بدّ إذن من أن ندأب في صوغ نمط حياة يتوخّى الحق والجمال والصلاح والتعاون مع الغير في سبيل نموّ شامل، وينطلق منها لتحديد وجوه الاستهلاك والتوفير والتوظيف المالي. في هذا المجال، لا يمكنني أن أكتفي بالتذكير بواجب المحبة، أي بواجب العطاء من ” الفائض ” ، بل من ” الضروري ” أحياناً لنجدة المعوز في تأمين أوده. إني أفكّر أيضاً بأن خيار التوظيف في مكانٍ دون آخر، أو في قطاع إنتاجي دون آخر هو أيضاً خيار أدبي وحضاري، فإذا اجتمعت بعض الشروط الضروريّة في مجالات الاقتصاد والاستقرار السياسي، فقرار التوظيف، أي قرار منح شعبٍ فرصة استمرار عمله، يجب أن يكون هو أيضاً مشروطاً بموقفٍ تعاطفي واثق بالعناية الإلهية، يكشف الصفة الإنسانية عند صاحب القرار.
37- إلى جانب مشكلة الاستهلاك، تبرز مشكلة البيئة المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً، باعثةً ذات القلق في النفس. فالإنسان الذي تسيطر عليه رغبة التملّك والتمتّع، وتطغى عليه رغبة التكوّن والتطوّر، يستهلك، بطريقة متطرّفة وفوضويّة، ثروات الأرض، بل حياته ذاتها. فالإتلاف الغبي للبيئة الطبيعيّة هو نتيجة خطأ أنتروبولوجي منتشر في عصرنا، ويا للأسف! وذلك بأن الإنسان، عندما يكتشف ما لديه من قدرة على تحويل العالم، بل على خلقه نوعاً ما، بعمله، يغرب عن باله أن ذلك لا يتحقّق إلاّ انطلاقاً من الهبة الأولى والأصلية التي جاد بها اللّه علينا. يُخيّل إليه أنه يستطيع أن يتصرّف بالأرض على هواه، فيسخّرها لإرادته بلا حساب، وكأن اللّه لم يحدّد لها صورة وهدفاً سابقين يستطيع الإنسان أن يطوّرهما لا أن يتنكّر لهما. وعوض أن يضطلع الإنسان بدوره معاوناً للّه في عمل الخلق، نراه يغتصب محلّه تعالى. فيفضي بذلك إلى تفجير ثورة الطبيعة، وقد أمست خاضعة لتحكّمه لا لحكمه (76).
من خلال هذا، نستشفّ أولاً ضعف بصيرة الإنسان وهشاشتها، تحدوه الرغبة في امتلاك الأشياء، لا في النظر إليها بمنظار الحقيقة، فيفوته الموقف المتجرّد المطبوع بطابع المجانيّة والحسّ الجمالي، والمحفوز بحافز الدهشة إزاء الكون وروعته التي تمكّن الإنسان من أن يتوسّم في المنظورات آية خالقها غير المنظور. في هذا المجال، لا بدّ لبشريّة اليوم أن تعي واجباتها ومسؤولياتها تجاه الأجيال القادمة.
38- علاوة على ما يجري من إتلاف البيئة البشريّة وهو خطر أدهى لا يعيره الناس ما يستحقّ من التنبّه. ففيما نرى الناس يهتمّون اليوم بحقٍّ – وإن باتوا بعيدين عن الوفاء بالغرض المطلوب- بالمحافظة على المواطن الطبيعيّة لمختلف الأنواع الحيوانيّة المهدّدة بالزوال، وذلك بسبب ما يؤدّيه كل صنفٍ منها من مساهمة خاصّة في إقامة التوازن العامّ في الأرض، نراهم يلتزمون قليلاً جداً التقيّد بالشروط الأدبيّة لصيانة ” البيئة البشريّة ” صيانة صحيحة. فاللّه قد جاد بالأرض على الإنسان ليستخدمها مع مراعاة النيّة الأصليّة التي لأجلها أعطيت له رزقاً حسناً، ولكن اللّه قد وهب الإنسان لذاته أيضاً، وعليه بالتالي، أن يحترم ما جهّزه به من بنية طبيعيّة وأدبيّة. ولا بدّ، في هذا السياق، من الإشارة إلى المعضلات الخطيرة الناجمة عن التمدين العصري، وضرورة التنبه فيه لحياة الناس، كما ” للبيئة الاجتماعية ” التي يتمّ فيها العمل.
ينال الإنسان من اللّه كرامته الأساسيّة، ومن خلالها يفوز بالقدرة على تجاوز كل تنظيم مجتمعي في اتجاه الحق والخير. ولكنّ الإنسان مرهون أيضاً بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، بالتربية التي نالها وبمحيطه. هذه العناصر بإمكانها أن تيسّر أو تعسّر حياته بمقتضى الحق. القرارات التي بفضلها يقوم محيط بشري، يمكن أن تولّد أنماطاً معيّنة من بنى الخطيئة تعرقل على الذين تستبدّ بهم بشتّى أنواع القهر، مسيرتهم على طريق النموّ الكامل. وإنها لمهمّة تقتضي جرأة وصبراً أن تقوّض هذه البنى ويستعاض عنها بأشكال من التعايش أكثر أصالة (77).
39- الأسرة هي الخليّة الأساسيّة الأولى ” للبيئة البشريّة “، فيها يتلقّى الإنسان أولى المبادئ الحاسمة المتصلة بالحق والخير، ويتعلّم معنى الحب، حبّه للآخرين وحبّ الآخرين له، وبالتالي كيف يكون الإنسان في الواقع إنساناً. نفكّر هنا بالأسرة المبنية على الزواج، حيث تبادل العطاء بين الرجل والمرأة بخلق محيط حياة يستطيع الولد أن يولد فيه وينمّي طاقاته ويعي كرامته ويتأهب لمواجهة ما لا بديل له من مصير فريد. وبالعكس، فقد يتفق للإنسان أحياناً كثيرة أن يقنط من تحقيق الشروط السليمة للتوالد البشري، فينجرّ إلى أن يحسب ذاته وحياته مجموعة أحاسيس تُختبر، لا عملاً يُحقّق. وينجم عن ذلك خللٌ في الحريّة ينفّره عن واجب الارتباط الثابت بشخصٍ آخر، ولإنجاب بنين، أو يجرّه إلى اعتبار هؤلاء من جملة ” الأشياء ” التي يمكن اقتناؤها أو الاستغناء عنها تبعاً للأذواق، والتي تتنافس وغيرها من الإمكانات.
لا بدّ من العودة إلى اعتبار الأسرة قدس أقداس الحياة. إنها، في قدسيتها، مهبط الحياة، هبة اللّه، وحضنها اللائق، وحصنها دون الأخطار الكثيرة المحيطة بها، والمنبت الذي تستطيع أن تترعرع فيه طبقاً لمقتضيات نموٍّ بشريّ صحيح.
في هذا المجال، يبدو أن عبقرية الإنسان، بدلاً من السعي إلى حماية مقدرات الحياة وتعزيزها تسعى، بالعكس، إلى الحدّ من طاقاتها والعمل على إلغائها وملاشاتها، حتى باللجوء إلى الإجهاض نفسه، وقد أمسى –ويا للأسف!- كثير الانتشار في العالم. في رسالتنا ” الاهتمام بالشأن الاجتماعي ” ندّدنا بالحملات المنظمة ضد الإنجاب، المبنيّة على تصوّر زائف للمعضلة الديموغرافية، في جوّ من ” الانتهاك السافر لحريّة القرار لدى الأشخاص المعنيين “، فإذا بهم عرضةٌ، مراراً، ” لضغوط لا تطاق، تبغي إخضاعهم لهذا الشكل الجديد من الطغيان ” (78). إننا هنا بإزاء سياساتٍ توٍّع رقعة نشاطها عبر تقنيات حديثة تمكّنها، على شاكلة ” حرب كيماويّة “، من تسميم حياة الملايين من البشر العزّل.
هذه الانتقادات لا تتوجّه إلى نظام اقتصاديّ معين بل تتصدّى لنظام مسلكيّ حضاري. فليس الاقتصاد سوى وجهٍ وعنصرٍ في شبكة النشاطات البشريّة. فإذا أمسى الاقتصاد غاية مطلقة، والإنتاج والاستهلاك قطب الحياة الاجتماعية وقيمتها الفريدة المتحرّرة من كل قيمة أخرى، فيجب أن نبحث عن السبب لا وليس فقط في النظام الاقتصادي ذاته، بل في ما آل إليه النظام الاجتماعي الحضاري، لإعراضه عن القيم المسلكيّة والدينيّة، من تهافت واستغراق في الإنتاج السلعي والخدماتي (79).
هذا كله يمكن أن نلخّصه بقولنا، مرة أخرى، إن الحريّة الاقتصادية ليست سوى عنصر من عناصر الحريّة البشريّة. فإذا استقلّت هذه الحريّة واعتُبرِ الإنسان لا شخصاً ينتج ويستهلك ليعيش، بل مجرّد منتج ومستهلك سلع، التغت علاقتها الصحيحة بالشخص البشري، وأمست وسيلة لسلب إرادته وقهره (80).
40- على الدولة أن تؤمن للبيئة الطبيعية والبيئة البشريّة الحماية والصيانة وهما من الأملاك العامة، التي لا يمكن صونها بمجرّد آلية السوق. فكما كان على الدولة، في عهد الرأسماليّة الغابرة، أن تحمي الحقوق الأساسيّة للعمل، عليها الآن أيضاً، مع قيام الرأسماليّة الجديدة، وبالتعاون مع المجتمع، أن تحمي الأملاك العامّة التي تكوّن، إلى جانب مقوّمات أخرى، الإطار الذي يستطيع فيه كل إنسان أن يحقّق، بطريقة مشروعة، أهدافه الشخصيّة.
وإننا لنقع على حدّ آخر من حدود السوق: ثمة حاجات عامّة ونوعيّة، لا يمكن تلبيتها بالركون إلى آلية السوق. ثمة لوازم بشريّة هامّة تعصى على منطق السوق. ثمة خيور لا يمكن بل لا يجوز، بسبب طبيعتها، أن تخضع للبيع والشراء.آليّة السوق لها، ولا شك، فوائد متينة. فهي تساعد في استثمار الثروات، وتعزّز تبادل المنتجات، وتحرص خصوصاً على احترام إرادة الفرد وخياراته في التعامل مع أشخاص آخرين. إلاّ أنّها تعرّض لخطر ” صنمية ” السوق التي تتجاهل وجود خيور أخرى تأبى، من طبيعتها، أن تكون مجرّد سلع.
41- لقد انتقدت الماركسيّة المجتمعات الرأسمالية البورجوازيّة آخذة عليها التغريب الوجود البشريّ وتحويله إلى سلعة. هذه الملامة ترتكز، يقيناً على تصوّر زائف ومضطرب لمعنى التغريب، فتحصره في حيّز العلاقات المرتبطة بالإنتاج والامتلاك، أي أنها تقيمه على أساس ماديّ وتذهب إلى إنكار ما تتضمنه السوق، حتى على صعيدها الخاص، من نواحٍ شرعيّة وإيجابيّة. وهكذا تنتهي الماركسيّة إلى القول بأن التغريب لا يمكن استئصاله إلاّ ضمن مجتمع ذي طابع اشتراكي. بيد أن الخبرة التاريخيّة للبلاد الاشتراكية قد أدّت الدليل المؤسف على أن الجماعيّة، بدلاً من أن تلغي التغريب، تزيده تفاقماً، مضيفة إليه قحط السلع والعقم الاقتصادي.
وتدلّ الخبرة التاريخيّة في الغرب، من جهتها، أن التحليل الماركسيّ لمفهوم التغريب وركائزه، وإن تحقّق زيفه، فالتغريب المرفق بضياع المعنى الصحيح للوجود، هو أيضاً من صلب المجتمعات الغربيّة. هذا الواقع ملحوظ على صعيد الاستهلاك الذي يورّط الإنسان في أحبولة من المتع السطحيّة الزائفة، عوض أن تساعده في اختبار شخصيته اختباراً صحيحاً وواقعياً. ويتم التغريب أيضاّ على صعيد العمل، عندما يُنظّم بحيث لا يُحفل إلاّ بحصائله ومكاسبه، بدون اكتراث للعامل: هل يُصيب في عمله ما ينعشه كثيراً أو قليلاً، حسبما تنشط وتيرة اشتراكه في جماعة حقيقيّة متضامنة، أو تتفاقم عزلته ضمن شبكة من العلائق موسومة بطابع المنافسة المتشنجّة والعُزول المتبادلة، حيث يمسي الإنسان وسيلة لا غاية.
لا بدّ من أن نقارن بين مفهوم التغريب والرؤية المسيحيّة، فيتبيّن لنا أن هناك خلطاً بين الوسائل والأهداف: فما دام الإنسان ينفي قيمة الشخص وعظمته، في ذاته وفي غيره، فهو يحرّم على نفسه قدرة التمتّع بإنسانيته بوجه لائق، والاندماج في علاقات من التضامن والمشاركة، خلقه اللّه لأجلها. ولا غرو، فالإنسان إنما يحقق ذاته حقّاً (81) بتقدمة ذاته حراً، ولا يتم له ذلك إلاّ لأنّه، في جوهره، ” قادر على أن يتخطّى ذاته “. الإنسان لا يستطيع أن يبذل ذاته في سبيل قضية محض بشريّة أو هدف غامض، أو أوهام كاذبة. فمن حيث هو شخص، يستطيع أن يبذل ذاته في سبيل شخص آخر أو أشخاص آخرين، وفي آخر المطاف، في سبيل اللّه الذي أبدع كيانه ويستطيع وحده أن يتقبّل تماماً هذه الهبة (82). فالإنسان يُمسي ” مغرّباً ” عندما يأبى أن يتخطّى ذاته، ويعيش خبرة البذل الذاتي ويكوّن أسرة بشريّة حقّة ذاهبة شطر اللّه، مآلها الأخير، ويكون المجتمع ” مُغرّباً ” عندما يعسّر تحقيق هذه الهبة وقيام هذا التضامن بين الناس، بسبب ما يعتمده من أنماط في تنظيم المجتمع والإنتاج والاستهلاك.
في المجتمع الغربي، تمّ التغلّب على الاستغلال، أقلّه في الشكل الذي حلّله ووضعه كارل ماركس. بيد أن حالة ” التغريب ” لم يتمّ التغلّب عليها في مختلف أشكال الاستغلال، ما دام الناس يستغنمون بعضهم بعضاً ويمعنون في إشباع حاجاتهم الخاصّة والثانوية إشباعاً مترفاً، فيصمّون الآذان عن حاجاتهم الأساسية الحقّة التي يجب أن تحتّم أيضاً طرق الاستجابة للمتطلبات الأخرى (83). لا يستطيع الإنسان أن يكون حرّاً ما دام يحصر همّه في القنية والمتعة، إلى حدّ العجز عن السيطرة على غرائزه وأهوائه وتوحيدها ولجمها بطاعة الحق. الطاعة لحقيقة اللّه والإنسان هي الشرط الأول للحريّة، وهي التي تمكّن الإنسان من تنسيق حاجاته ورغباته وطرق تلبيتها في تراتبيّة صحيحة، فتصبح الملكيّة طريقاً إلى النموّ. هذا النموّ يمكن أن يعرقله التحكّم الإعلامي وما يفرضه، عبر تغطية لجوجة ومبرمجة، في مذاهب وتيارات فكريّة تنطلق من مقدّمات لا قبل للناس بتمحيصها والتمعّن فيها.
42- وبالعودة الآن إلى ما بدأنا به، هل يمكننا القول بأن الرأسمالية، بعد فشل الشيوعية، هي النظام الاجتماعي الراجح، وأنها القطب الذي يجبي إليه جهود البلدان الساعية إلى ترميم اقتصادها ومجتمعها؟ هل هي النموذج الذي يجب أن نطرحه على بلدان العالم الثالث في التماسها طريق النموّ الصحيح لاقتصادها ومجتمعها المدني؟
الجواب معقّد، بلا ريب. فإذا عنينا ” بالرأسمالية ” نهجاً اقتصادياً يعترف بالدور الأساسي والإيجابي للمؤسسة والسوق والملكيّة الخاصّة وما تفترضه من تحمّل مسؤولية وسائل الإنتاج، وللإبداعيّة الإنسانيّة الحرّة في النطاق الاقتصادي، فالجواب لإيجابيّ بلا مراء، وإن كان من الأصحّ التكلم عن ” الاقتصاد المؤسسي ” أو عن ” اقتصاد السوق ” أو، ببساطة عن ” الاقتصاد الحرّ “. ولكن إذا عنينا بالرأسمالية نظاماً حيث الحريّة في المجال الاقتصادي لا تسيّجها قرائن قانونية تجعلها في خدمة الحريّة البشريّة الكاملة، وتعتبرها مقوّماً خاصاً من مقوّمات هذه الحريّة المتمحورة حول الأخلاق والدين، فالجواب إذن سلبيّ واضح.
لقد فشل الحلّ الماركسيّ، وإنما هناك ظاهرات تهميش واستغلال لا تزال قائمة في العالم، وبخاصّة في العالم الثالث، كما أن هناك ظاهرات تغريب بشري، وبخاصّة في العالم الثالث، كما أن هناك ظاهرات تغريب بشري، وبخاصّة في البلدان الأكثر رقيّاً، يندّد بها صوت الكنيسة عالياً وحازماً. ثمة جماهير غفيرة لا تزال تعيش حتى اليوم في أحوال شديدة من البؤس الماديّ والمعنوي. لا شك أن انهيار النظام الشيوعي يلغي، في كثير من الأحيان، عائقاً يحول دون معالجة هذه المعضلات بطريقة مناسبة وواقعيّة، ولكن هذا لا يكفي لحلّها، لا بل هناك خطر انتشار لإيديولوجيّة راديكاليّة بطابع رأسمالي، ترفض حتى الاهتمام بمعالجة هذه المعضلات، معتقدة مسبقاً أن كل محاولة لمواجهتها مباشرة لا بدّ أن تبوء بالفشل، ومنتظرة مبدئياً، أن يأتي حلّها من مجرّد القوى في السوق الحرّة.
43- ليس للكنيسة نموذج تقترحه. النماذج الصحيحة والفاعلة حقّاً لا يمكن أن نتصوّرها إلاّ في إطار القرائن التاريخيّة المختلفة، وبمؤازرة جميع المسؤولين المعنيين بالمعضلات الواقعيّة من نواحيها الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة المتشابكة بعضها مع بعض (84). في مواجهة هذه المسؤوليات تقترح الكنيسة، في شكل توجيه عقلي لا بدّ منه، عقيدتها الاجتماعيّة التي تعترف –كما سبق القول- بإيجابيّة السوق والمؤسسة، ولكنها تبرز أيضاً ضرورة التوجّه بهما نحو الخير العام. هذه العقيدة تعترف أيضاً بشرعيّة جهود العمّال للفوز بالاحترام الكامل لكرامتهم واشتراك أوسع في حياة المؤسسة، فيتمكّنون، وهم يعملون مع آخرين وبإمرة آخرين، من أن يعملوا –نوعاً ما- ” لحسابهم الخاصّ ” (85) مجنّدين لذلك ذهنهم وحريّتهم.
النموّ الكامل الذي يحظى به الشخص البشريّ في عمله لا يناقض العمل بل يعزّزه ويحسّنه إنتاجاً وفاعلية، وإن أدّى ذلك إلى إضعاف مراكز السلطة القائمة. فالمؤسسة لا يمكن اعتبارها مجرّد ” مجتمع رأس مال ” بل هي، في الوقت نفسه، ” مجتمع أشخاص ” يؤلفه، بطرق متنوّعة، وبمسؤوليات نوعيّة، الذين يقدّمون رأس المال الضروري لسيرها والذين يشاركون فيها بعملهم. لبلوغ هذه الأهداف، لا بدّ أيضاً من حركة إضافيّة تضمّ شمل العمّال وتتوخّى تحرير الشخص ورقيّه المتكامل.
لقد قمنا بقراءة جديدة، في ضوء ” الشؤون الحديثة ” اليوم، للعلاقة القائمة بين الملكيّة الفرديّة أو الخاصّة ومشاعية الأملاك، فتبيّن لنا أن الإنسان يترعرع بذهنه وحريّنه، متخّذاً من عناصر العالم مادّةً ووسيلة يتملّكهما لهذا الهدف. أساس حق المبادرة والتملّك يقوم إذن على هذا المفهوم الذي يميّز عمله. فالإنسان، بشغله، يدأب ليس فقط لذاته بل لغيره أيضاً ومع غيره، فيشترك كل فرد في عمل الآخرين وفائدتهم. والإنسان إنما يعمل لسدّ حاجات عياله والجماعة التي ينتمي إليها والدولة والبشريّة جمعاء، في آخر المطاف (86).
وهو، إلى ذلك، ينضمُّ إلى عمل المموّلين ومساهمة المستهلكين، في سلسلة من التضامن تمتدّ شيئاً فشيئاً. ملكيّة وسائل الإنتاج، على صعيد الصناعة كما في مجال الزراعة، عادلة ومشروعة، إذا مكّنت من عمل مفيد. ولكنها تمسي منافيةً للشرع إذا لم تساعد في التقدّم أو إذا تصدّت لعمل الآخرين، بغية مكسبٍ لا ينجم من نموّ مجموع العمل والثروة الاجتماعية، بل، بالعكس، من انحسارهما، ومن الاستغلال الحرام والمضاربة وتصديع التضامن في عالم العمل (87). هذا الضرب من الملكيّة لا يبرّره شيءٌ وهو افتئاتٌ في نظر اللّه والناس.
كسب العيش بعرق الجبين واجبٌ يفترض حقّاً. فكلُّ مجتمع يتنكّر لهذا الحقّ بطريقة دائبة، ويعتمد في السياسة الاقتصادية إجراءات تمنع عن العمّال بلوغ مستوىً لائقٍ في الاستخدام، لا يمكنه أن يحظى بشرعية معتبرة ولا أن يقيم سلاماً اجتماعيّاً عادلاً (88). فكما يكتمل الشخص في العطاء الذاتيّ الحرّ، كذلك تجد الملكيّة مبرّرها الأدبي في خلق إمكانات استخدام ونموّ إنساني للجميع وفقاً للأنماط والأوقات المؤاتية.
الفصل الخامس
الدولة والثقافة
44- لم يكن لاون الثالث عشر ليجهل الضرورة القاضية بوضع نظرية في شأن الدولة، تكفل النموّ الطبيعي للنشاطات البشريّة، الروحيّة منها والماديّة، التي لا بدّ منها على كلا الصعيدين (89). في هذا المجال، وفي فقرة من ” الشؤون الحديثة “، يعرض البابا تنظيم المجتمع إلى سلطاتٍ ثلاث –التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائية- وكان ذلك، آنذاك، بدعاً في تعليم الكنيسة (90). هذه البنية تعكس تصوّراً واقعيّاً لطبيعة المجتمع البشري الذي يقتضي تشريعاً مؤاتياً يكفل الحريّة للجميع. من هذا الملحظ، من الأفضل أن يقوم بإزاء كل سلطة سلطات أخرى وصلاحيّات أخرى توازنها وتحفظها ضمن حدودٍ عادلة. تلك هي ” دولة الحق ” ومبدأها إناطة السيادة بالقانون لا بالإرادات البشرية المتعسّفة.
هذا التصوّر تصدّت له، في الزمن المعاصر، التوتاليّة في شكلها الماركسيّ –اللينيني، معتبرة بعض الناس معصومين عن الخطأ، وبإمكانهم، من ثمّ، انتحال سلطة مطلقة، بفضل ما يتصفون به من وقوفٍ أعمق على نواميس التطوّر المجتمعي، أو بسبب ما يتميّزون به من انتماء طبقي وقربٍ من المصادر الحيّة للوعي الجماعي. ولا بدّ من الإضافة أن التوتاليّة تتولّد من نفي الحقيقة في مفهومها الموضوعي: فإذا لم تكن هناك حقيقة عليا تُكسب الإنسان الآخذ بها ملء هويّته، فلن يكون هناك، والحالة هذه، أيّ مبدأ وثيق يضمن للبشر سلامة العلاقات بينهم، فتمسي مصالحهم الطبقيّة أو الفئوية، أو الوطنيّة بينهم سبب تنافر لا مفرّ منه. إذا لم نقرّ بالحقيقة العليا، تغلّبت قوة السلطة، وراح كل منّا يستنفذ ما لديه من وسائل إعلاء مصالحه وآرائه بصرف النظر عن حقوق الآخرين. عندئذٍ لا يبقى للإنسان من حرمةٍ إلاّ بمقدار ما يُستخدم لأهداف هيمنة أنانيّة. لا بدّ إذن من أن نعيد جذور التوتاليّة الحديثة إلى نكران الكرامة السامية للشخص البشري، الصورة المنظورة للإله اللامنظور، وهو بسبب ذلك، ومن ذات طبيعته، صاحب حقوق لا يستطيع إنسان أن يمسّها، لا الفرد ولا الجماعة ولا الطبقة ولا الأمة ولا الدولة نفسها. ولا يجوز كذلك للأغلبيّة في جسم اجتماعي أن تطغى على الأقليّة لتعزلها أو تضيّق عليها أو تستغلّها أو تسعى لإلغائها (91).
45- من مقوّمات التوتاليّة أيضاً، ثقافةً وممارسةً، إنكار الكنيسة. فالدولة أو الحزب الذي يدّعي القدرة على تحقيق الخير المطلق في التاريخ، ويجعل ذاته فوق القيم كلها، لا يُطيق أن يكون هناك من ينادي بمعيار موضوعي للخير والشر يخالف إرادة الحكام، ويمكن الاحتكام إليه، في بعض الأحوال، للحكم على تصرّفاتهم. وفي ذلك ما يعلّل لماذا تسعى التوتاليّة إلى تقويض الكنيسة أو، أقلّه، لإخضاعها وجعلها آلةً مسخّرة لنظامها الإيديولوجي (92).
وتنزع الدولة التوتاليّة، من جهة أخرى، إلى احتواء الأمّة والمجتمع والأسرة والجماعات الدينيّة والأفراد أنفسهم. فعندما تذود الكنيسة عن الحريّة فهي إنما تذود عن الإنسان الذي يجب أن يؤثر طاعة اللّه على طاعة الناس ( رسل 5/29 )، وتدافع عن الأسرة ومختلف المنظمات الاجتماعية والدول، وكلها تتمتّع بحيّز خاص من الاستقلال والسيادة.
46- الكنيسة تقدّر النظام الديمقراطي نهجاً يكفل للمواطنين المشاركة في الخيارات السياسيّة، ويضمن للمواطنين القدرة على انتخاب ساستهم ومراقبتهم أو استبدالهم بطريقة سلميّة إذا استنسب الأمر (93). ولكن الكنيسة لا تستطيع أن توافق على قيام زمرٍ صغيرة حاكمة تغتصب السلطة من الدولة لحساب مصالحها الخاصة أو لمآرب إيديولوجية.
لا يمكن أن تقوم ديمقراطية صحيحة إلاّ ضمن دولة شرعيّة وعلى أساس تصوّر سليم للشخص البشريّ، ويقتضي ذلك توّفر شروط ضروريّة لترقية الأشخاص بالتربية والتنشئة على هدف مثاليّ حقّ، كما يستلزم ازدهار ” شخصيّة ” المجتمع، بخلق بنى ” تمكّن من المشاركة والتضامن في المسؤولية ” ونجد اليوم نزعة إلى القول بأن اللاإداريّة والنسبيّة الريبيّة هما الفلسفة والعقيدة الأساسيّة الرائجتان في الأنظمة الديمقراطيّة، وأن الذين يوقنون معرفة الحقيقة ويتمسّكون بها تمسّكاً متيناً، ليسوا أهلاً للثقة، في نظر الديمقراطيّة، لا لشيء إلاّ لأنهم يأبون للحقيقة أن تحدّدها الأكثريّة أو أن تتبدّل وفقاً لمختلف التوازنات السياسيّة. في هذا السياق، لا بدّ من ملاحظة: إذا لم تكن ثمة أي حقيقة قصوى ترشد العمل السياسي وتوجّهه، يغدو من السهل على السلطة أن تستغلّ الأفكار والمعتقدات لمصلحتها. ديمقراطية بلا قيم تستحيل بسهولة إلى توتاليّة سافرة أو مدجّاة، على حدّ ما يتبيّن من مجرى التاريخ.
ولا يخفى على الكنيسة الخطر الناجم عن التعصّب أو عن الأصوليّة عند قومٍ يتوهمون أنفسهم قادرين، باسم إيديولوجيّة علميّة أو دينية مزعومة، أن يفرضوا على الآخرين تصوّرهم للحق والخير. الحقيقة المسيحيّة ليست من هذا القبيل. ولأن الإيمان المسيحيّ ليس ضرباً من ضروب الإيديولوجيّة فهو لا يسعى البتّة إلى أن يحصر في قالبٍ جامد الواقع الاجتماعي والسياسيّ المتقلّب، بل يرضى بأن تتحقق حياة الإنسان في التاريخ بطرق متنوّعة وناقصة. ولكنّ الكنيسة تُصرُّ على التنويه دائماً بكرامة الشخص السامية وتتبنّى احترام الحريّة قاعدةً لعملها (94).
ولكنّ الحريّة لا تبلغ شأوها إلاّ باحتضانها الحقيقة. ففي عالم بلا حقيقة، لا تقوم للحريّة قائمة، ويمسي الإنسان عرضةً لسطو الأهواء، ورهناً لظروف ظاهرة أو خفيّة.
المسيحيّ يعيش الحريّة ( يو 8/31-32 )، ويجنّد لها ذاته، وانطلاقاً من طبيعة دعوته الرساليّة، يعرض على الناس، بلا مللٍ، الحقيقة التي اكتشفها. وفي الحوار مع الغير، يظلّ متنبّهاً لكل شذرة حقيقة يلقاها لدى الأفراد والشعوب، في خبرة حياتهم وثقافتهم، من غير أن يُقلع عن المجاهرة بكل ما تلقّنه من إيمانه وسليم تفكيره (95).
47- بعد انهيار التوتاليّة الشيوعيّة وأنظمة توتاليّة أخرى كثيرة، وما يسمّونه بأنظمة ” الأمن الدولي “، نشهد الآن، مع ما هنالك من منازعات، فوز النموذج الديمقراطي في العالم، يواكبه اهتمام كبير وعناية متيقّظة بحقوق الإنسان. ولكن لكي نسير في هذا الاتجاه، لا بدّ للشعوب الآخذة بتجديد دساتيرها من أن تقيم الديمقراطية على أساس صحيح ومتين مبنيّ على الاعتراف الصريح بهذه الحقوق (96). من أهم هذه الحقوق، لا بدّ من التذكير بالحق على الحياة، ومن ضمنه حق النموّ في أحشاء الأم بعد الحبل. ثم حق العيش في أسرة مترابطة وفي مناخٍ أدبيّ مؤاتٍٍ لنموّ الشخصيّة؛ والحق في إنماء الذهن والحريّة بممارسة البحث ومعرفة الحقيقة؛ وحق المشاركة في العمل على تثمير خيور الأرض واتخاذها باباً لرزق الفرد وعياله؛ والحق في تأسيس أسرةٍ بطريقة حرّة مع إنجاب بنين وتربيتهم وممارسة الجنس بطريقة مسؤولة. هذه الحقوق تنبع وتتلخّص، نوعاً ما، في الحريّة الدينية بمعنى أنها حق الإنسان في أن يعيش ضمن حقيقة إيمانه ووفقاً لكرامته الشخصيّة السامية (97).
هذه الحقوق لا تلقى دائماً الحرمة الكاملة حتى في البلدان التي تمارس أشكالاً من الحكم الديمقراطي. ولا نفكّر فقط في فضيحة الإجهاض، بل في النواحي الأخرى من أزمة الأنظمة الديمقراطيّة، وقد تزعزعت أحياناً، على ما يبدو، قدرتها على اتخاذ قراراتٍ يمليها الخير العام. فالمطالب الصادرة من المجتمع لا تمحَّص دائماً وفقاً لمقاييس العدالة والأخلاق، بل تبعاً للنفوذ الانتخابي والتأثير المالي للزُمر التي تدعمهما. هذه الانحرافات في المسلكيّة السياسيّة مغبّتها، مع مرّ الزمن، خلق جوٍّ من الريبة واللامبالاة، وتخفيض نسبة المشاركة السياسيّة والحسّ المدني عند الشعب المتألّم من خيبته. وينجم عن ذلك عجز متفاقم عن وضع المصالح الخاصّة في إطار تصوّر متماسكٍ للخير العام، علماً بأن الخير العام ليس هو فقط حصيلة المصالح الفرديّة، بل يفترض تقسيمها وتنسيقها وفقاً لتراتبيّة متوازنة في القيم، ووفقاً في آخر المطاف- لتصوّر سليم لكرامة الإنسان وحقوقه (98).
الكنيسة تحترم الاستقلالية الشرعيّة للنظام الديمقراطي، وليس لها صفة للتعبير عن لإيثارها لأيّ من الأشكال القانونيّة أو الدستوريّة. ومساهمتها، في هذا المضمار، لا يعدو ما لديها من تصوّر لكرامة الإنسان، كما يبرز بملء كماله في سرّ الكلمة المتجسّد (99).
48- هذه الاعتبارات العامّة تنعكس أيضاً على دور الدولة في المجال الاقتصادي، فالنشاط الاقتصادي، وبخاصّة على صعيد السوق، لا يمكن أن يندرج في فراغٍ مؤسّسي أو قانوني أو سياسي، بل يفترض، بالعكس، أن تؤمَّن ضمانات للحريّات الفرديّة، وللملكيّة الخاصّة فضلاً عن استقرار العملة واستتباب الخدمات العامّة. بيد أن الواجب الأساسي للدولة أن تكفل هذه الضمانات، فيتاح للعمال أن ينعموا بثمرة عملهم، ويشعروا بحافز الاضطلاع بواجبهم اضطلاعاً فاعلاً ونزيهاً. من أهم عقبات النموّ والانتظام الاقتصادي هو انعدام الضمان وما يرافقه من فساد السلطات العامّة وتفاقم الأساليب الملتوية لجمع المال وتحقيق أرباحٍ سهلة عبر نشاطات لا قانونيّة ومضارباتٍ بحتة.
وعلى الدولة أيضاً، من جهة أخرى، أن تراقب وترعى تطبيق حقوق الإنسان في المجال الاقتصادي. ولكنّ المسؤوليّة الأولى، في هذا المجال، لا تقع على الدولة بل على الأفراد ومختلف الفئات والجمعيات التي يتألف منها المجتمع. فلن يكون بإمكان الدولة أن تؤمّن لجميع المواطنين، بطريقة مباشرة، ممارسة حقهم في العمل، من دون أن تهيمن على الحياة الاقتصادية كلها، وتعرقل حريّة المبادرات الفرديّة. ولكن ذلك لا يعني أن الدولة لا تملك أي صلاحيّة في هذا المضمار، على حدّ ما ينادي به القائلون بإسقاط كل القواعد في القطاع الاقتصادي؛ بل يجب، بالعكس، على الدولة أن تدعم نشاط المؤسسات الاقتصاديّة بخلق الظروف المؤاتية لتوفير فُرص الاستخدام، وتعزيز هذا النشاط في حالات التقصير، ودعمه في الأزمات.
وللدولة أيضاً حق التدخّل إذا طرأت أحوال احتكاريّة خاصّة تهدّد بشلّ النموّ أو عرقلته. ولكن فيما عدا هذه المهامّ المنسّقة والموجّهة للنموّ، يسوغ للدولة أن تضطلع بوظائف استنابة في حالات استثنائية إذا اتفق لفئات اجتماعية أو لمجموعات مؤسّسية ضعيفة أو في طور النشوء أن تقصّر في مهامّها. هذه التدخّلات الاستنابيّة التي تبرّرها ضرورة العمل للخير العام، يجب أن تبقى، قدر الإمكان، محدودةً في الزمن، لئلاّ تُنتزع من تلك الفئات والمؤسّسات، بطريقة دائمة، الصلاحيات التي تعود إليها، ولئلاّ تتوسع، فوق اللزوم، دائرة نفوذ الدولة، على حساب الحريّة الاقتصاديّة والمدنيّة.
لقد لوحظ، حديثاً، توسّع خطير في دائرة هذه التدخّلات أدّى، نوعاً ما، إلى قيام دولة بطابع جديد، هي ” دولة الرخاء “. هذه التطوّرات تمّت، في بعض البلدان، تلبيةً، بطريقة أفضل، لحاجات كثيرة، ومداواةً لأشكال من الفقر والحرمان لا تليق بالإنسان. ولكنّ هناك تجاوزات وتطرفات كثيرة، وبخاصّة في غضون هذه السنين الأخيرة، أثارت اعتراضات قاسية على ” دولة الرخاء ” وقد دُعيت ” دولة النجدة ” هذه، علاتّها وشوائبها ناجمة عن تصوّر منحرف لواجبات الدولة. في هذا الإطار، ينبغي أن يُحترم أيضاً مبدأ ط التدارك “: فإنه لا يسوغ لمجتمع أرقى أن يتدخّل في الشؤون الداخليّة لمجتمع أدنى، وتجريده من صلاحياته، بل عليه أن يدعمه، عند الاقتضاء، ويساعده في التنسيق بين نشاطه ونشاط العناصر الأخرى التي يتألف منها المجتمع، تحقيقاً للخير العام (100).
فإذا عمدت ” دولة النجدة ” إلى التدخّل المباشر وتجريد المجتمع من مسؤولياته، أفضى بها الأمر إلى استنزاف الطاقات البشريّة واستفحال الأجهزة العامّة المحفوزة لا بهمّ التجنّد لخدمة المواطنين،بل بالذهنيّة البيروقراطيّة، وما يرافقها من تضخّم في النفقات. وإنه ليبدو أن الأعرف بالحاجات وأصحابها، والأقدر على تلبيتها هم الأقرب منها. ونضيف أن بعض أشكال الحاجة يستدعي غالباً من التلبية، ما لا ينحصر في حيّز المادة، بل يلحظ التّلمس البشريّ الأعمق. وعلينا أن نفكّر أيضاً في أحوال اللاجئين والمستوطنين والمسنّين والمرضى، وفي غيرها من الأحوال التي تستدعي النجدة، كأحوال المدمنين وجميع الذين لا يمكنهم أن يلقوا المساعدة الفعّالة إلاّ عن طريق أناسٍ لا يبذلون لهم فقط العناية الضروريّة بل دعماً أخوياً خالصاً.
49- في هذا النطاق، لم تنفكّ الكنيسة وفيّة لوصيّة المسيح مؤسّسها، حاضرة لتؤدّي للمحتاج، عبر مبرّاتها، عوناً ماديّاً لا يُذلّه ولا يضعه في موضع ” المسعوف “، بل يساعده في التخلّص من أوضاعه الهشّة، ويرسّخه في كرامته الإنسانيّة. يجب أن نحمد اللّه حمداً كثيراً لما نلحظه من أن شعلة المحبّة لم تنطفئ يوماً في الكنيسة، بل نراها اليوم على تقدّم مبهجٍ ومتنوّع الوجوه. ولا بدّ، في هذا المجال، من أن نخصّ بالتنويه ظاهرة التطوّع المجاني التي تباركها الكنيسة وتعزّزها وتطلب من الجميع أن يتعاضدوا في دعمها وتشجيع مبادراتها.
لكي نتخطّى الذهنية الفردويّة الشائعة في أيامنا، لا بدّ من التزام واقعيّ بالتضامن والمحبّة، يبدأ ضمن الأسرة بالتعاضد بين الزوجين، ثم بتكافل الأجيال بعضها تجاه بعض، فتبرز الأسرة جماعةً مبنيّة على العمل والتضامن. ولكن قد يتّفق للأسرة أحياناً، إذا أزمعت الوفاء لدعوتها وفاءً تامّاً، ألاّ تجد لدى الدولة ما تحتاجه من دعم ضروري وإمدادات كافية. من الملحّ إذن أن تعمد الدولة ليس فقط إلى تعزيز شؤون الأسرة بل إلى تنمية الشؤون الاجتماعية الهادفة إلى دعم الأسرة نفسها أولاً، فتوفّر لها الإمدادات المناسبة وأساليب النجدة الفعّالة، سواء على صعيد تربية الأولاد أم على صعيد العناية بالمسنّين، فلا يضطر هؤلاء إلى الانفصال عن نواتهم العيليّة بل تتوثّق الوشائج بين الأجيال (101).
فيما عدا الأسرة، هناك فئات اجتماعية وسيطة تقوم بمهامّ أوّليّة، وتفعّل شبكات تضامن نوعيّة. هذه الفئات نجد لها من النضج ما يميّز الجماعات الإنسانيّة الحقّة، ويمكّنها من التغلغل في النسيج المجتمعي، فتحذّره من الوقوع في اللاشخصيّة واللاإسميّة الجماهيريّة وهما من الآفات المؤسفة الشائعة في مجتمعنا المعاصر. فالشخص لا يعيش، والمجتمع لا تترعرع ” شخصيته ” إلاّ ضمن شبكة من العلائق المتعدّدة. ولكن الواقع أن الفرد نراه اليوم، في كثير مكن الأحوال، مضغوطاً بين قطبين: الدولة والسوق، فيبدو أحياناً أنه لا يعيش إلاّ ليكون منتجاً أو مستهلكاً أو مأمور دولة؛ ويغيب عن الذهن أن العيش المشترك ليست الدولة غايته ولا السوق، بل يتمتّع في ذاته بقيمة فريدة، على الدولة وعلى السوق أن يتجنّدا لخدمتها. فالإنسان هو، قبل أي شيء آخر، كائن يبحث عن الحق ويسعى إلى أن يعيش بمقتضاه، ويتمعّنه في حوارٍ دائم تلتزم به الأجيال السابقة واللاحقة (102).
50- ثقافة الأمّة، تتميّز بالبحث المُشرع على الحقيقة، يتجدّد جيلاً بعد جيل. ولا غرو، فتراث القيم الموروثة والمكتسبة عُرضة دوماً لنقد الأجيال الصاعدة، مع العلم بأن المعارضة لا تعني حتماً الهدم أو الرفض المُسبق، بل تعني خصوصاً وضع هذه القيم موضع الاختبار في بوتقة الحياة الشخصيّة، فتصبح بفضل هذا التمحيص الحياتي، أكثر التصاقاً بالحياة والواقع والإنسان، ويُفرز الغثُّ من السمين في التراث، ويُستعاض عن الأشكال الهرمة بأشكال أخرى أكثر مماشاة للزمن الحاضر.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المناداة بالإنجيل تندرج في حضارة الشعوب، داعمة سعيها إلى الحقيقة، ومساندة جهدها لمزيد من التنقية والتعمّق (103). ولكن إذا انغلقت حضارة على ذاتها ودأبت في التمسّك بأنماطٍ معيشيّة بالية، ورفضت كل تبادل ومناظرة في شأن الحقيقة الإنسانيّة، أمست عقيمة وذهبت في طريق الانحطاط.
51- النشاط البشريّ كلّه يتحقّق ضمن حضارة معيّنة وفي إطارها يتفاعل. ولكي تتكوّن هذه الحضارة بطريقة مجدية، لا بدّ للإنسان كلّه من أن يساهم فيها وينمّي فيها إبداعه وعقله ومعرفته للعالم والبشر، ولا بدّله أيضاً من أن يسخّر لها ما لديه من طاقات السيطرة على ذاته والتفاني والتضامن والأهبة لتعزيز الخير العام. أوّل عمل وأهم عملٍ لبلوغ هذا الهدف يتحقق في قلب الإنسان؛ والطريقة التي يتوفّر فيها الإنسان على بناء مستقبله رهن بما لديه من تصوّر لذاته ولمصيره. وإنه على هذا الصعيد تتحقق مساهمة الكنيسة في بناء الحضارة الحقّة مساهمة مميّزة وحاسمة. فهي تعزّز نوعية المسلكيّات البشريّة للمساهمة في بناء حضارة السلام، خلافاً للنماذج الحضاريّة التي تستغرق الفرد في الجمهور، وتتجاهل دور المبادرة والحريّة لديه، ولا ترى له من عظمةٍ إلاّ في التقنيّات الصدامية والحبيّة. أمّا الكنيسة فهي تخدم الإنسان بإعلان الحقيقة في شأن الخليقة التي وكلها اللّه إلى البشر ليثمروها وينجزوها بعملهم، وفي شأن الفداء الذي به أنقذ ابن اللّه جميع الناس، وآتاهم، في الوقت نفسه، أن ينضمّوا بعضهم إلى بعض، ويكونوا مسؤولين بعضهم عن بعض. وإننا لنجد في الكتاب المقدّس كلاماً متواتراً عمّا يترتّب علينا من التزام ناشط تجاه الغير، وتضافر في المسؤوليّة تشمل الجميع.
هذا المقتضى لا ينحصر ضمن حدود العيلة ولا حتى ضمن حدود الشعب أو الدولة، بل يتناول شيئاً فشيئاً البشريّة برمّتها، فلا يبقى لإنسان في الدنيا يحسب ذاته غريباً لا مبالياً بمصير أي عضوٍ آخر في الأسرة البشريّة، فيسوغ له القول بأنه غير مسؤول عن مصير أخيه ( تك 4/9؛ لو10/29-37؛ متى 25/31-46 ). المحبّة الساهرة المتفانية للقريب في حاجته –وقد تيسّرت اليوم بفضل وسائل الاتصّال الحديثة وما حققته من تقريب الناس بعضهم من بعض- تكتسب أهميّة بارزة للبحث عن حلولٍ سلميّة للنزاعات الدوليّة. ولا يصعب القول بأن القدرة الرهيبة لوسائل التدمير، قد أمست حتى في متناول الشعوب الصغيرة والمتوسطة، والعلاقات الآخذة في التوثق بين شعوب الأرض كلّها، تجعل الحدّ من مغبّات الحرب أمراً عسيراً جدّاً، بل متعذّراً في الواقع.
52- هذا الخطر أدركه البابا بندكتس الخامس عشر وأخلافه إدراكاً جلياً (104). وقد عمدتُ أنا نفسي بمناسبة الحرب التي نُكب بها الخليج حديثاً إلى تكرار النداء: ” لن تكون حرب من بعد! ” لا، لن تكون حرب من بعد، تدمّر حياة الأبرياء وتلقّن فنّ القتل، وتزلزل أيضاً حياة السفّاحين، وتخّف وراءها ذيولاً من الأحقاد والضغائن تصعّب الحلّ العادل للمعضلات التي تسبّبت في اندلاعها. فكما حان الوقت أخيراً، داخل البلاد، لتحلّ سلطة القانون محل الثأر والاقتصاصات الفردية، لا بدّ أيضاً من أن يتحقّق مثل هذا التقدّم في الأسرة الدولية. ولا يمكن أن ننسى، من جهة أخرى، أن للحرب إجمالاً جذوراً وأسباباً حقيقيّة وخطيرة: منها المظالم الواقعة على الناس، والتطلعات المشروعة المسدودة في وجوههم، والبؤس واستغلال الجماهير البشريّة اليائسة من كل أملٍ واقعي بتحسين أوضاعهم الحياتية بالوسائل السلمية.
ومن ثمّ فالنموّ هو الاسم الآخر للسلام (105). فكما أن هناك مسؤوليّة جماعيّة لتجنّب الحرب، هناك أيضاً مسؤوليّة جماعيّة لتعزيز النموّ. على الصعيد الداخلي، يمكن بل يجب بناء اقتصاد اجتماعي يتوخّى الخير العام. كذلك على الصعيد الدولي، لا بدّ من أن تقوم مساعٍ تبغي نفس الهدف. ولا بدّ بالتالي، من أن تُبذل جهود عميمة في سبيل التفاهم بين الناس والتعارف وتوعية الضمائر. تلك هي الحضارة المنشودة التي تنمي الثقة بالفقير وما لديه من طاقات بشريّة وإمكاناتٍ لتحسين أوضاعه الحياتية بعمل يديه، والمساهمة الفعّالة في الازدهار الاقتصادي. ولكنّ الفقير –فرداً كان أم شعباً- بحاجة، ليتمكّن من بلوغ هذا الهدف، إلى أن تتوفّر له أوضاع حياتية مؤاتية وسهلة المنال عملياً. هذه الأوضاع لا يحققها سوى تضافر عالمي للتنمية يفترض التضحية بما تعتزّ به الاقتصاديّات المتطوّرة من مواقع مرموقة على صعيد الربح والاقتدار (106).
وقد يؤدي هذا إلى تحوّلات هامّة في طرائق العيش المألوفة، تتوخّى الحدّ من تبذير الموارد الطبيعيّة والطاقات البشريّة، وتمكين جميع الشعوب وجميع الناس على الأرض من الاستفادة منها بالقدر اللائق. ولا بدّ من أن نضيف إلى ذلك اعتبار الثروات الجديدة، الماديّة منها والروحيّة، التي تفرزها الشعوب المهمّشة اليوم، ثمرة جهدها وحضارتها، مساهِمةً في إثراء الأسرة الوليّة، إثراءً بشريّاً شاملاً.
الفصل السادس
الإنسان درب الكنيسة
53- قال لاون الثالث عشر، لاحظاً بؤس الكادحين: ” إننا بكل ثقة، وبملء حقّنا، نعرض لهذا الموضوع ( … ). ويمسي السكوت عنه في نظر الجميع، ضرباً من التخاذل في أداء واجبنا ” (107). في غضون المئة سنة المنصرمة، أفصحت الكنيسة، غير مرّة، عن رأيها، متتبّعةً عن كثب المسألة الاجتماعية في تطوّرها المستمرّ، ولم تفعل ذلك استرداداً لامتيازاتها الغابرة، أو فرضاً لوجهة نظرها، بل كان غرضها الأوحد أن تمارس حدبها ومسؤولياتها تجاه الإنسان، الذي وكله إليها المسيح نفسه، هذا الإنسان الذي هو –كما ذكّر بذلك المجمع الفاتيكاني الثاني- الخليقة الوحيدة التي في الأرض التي شاءها اللّه لذاتها وصمّم لها أن تحظى بالخلاص الأبدي. ولا نعني بالإنسان هنا الإنسان ” المجرّد ” بل الإنسان الحقيقي، الإنسان ” المحسوس “، الإنسان “التاريخي” . هي قضية كل إنسان، لأن كل إنسان أُدرج في سر الفداء، وعبر هذا السرّ تمّ اتحاد يسوع المسيح بكل فردٍ إلى الأبد (108). وينجم عن ذلك أن الكنيسة لا يحلّ لها أن تخذل الإنسان، ” لأن الإنسان هو أول درب تجتازه الكنيسة في حمل رسالتها ( … ) درب رسمه المسيح نفسه ويمرّ دوماً وأبداً بسريّ التجسّد والفداء ” (109).
ذاك هو المبدأ، بل المبدأ الوحيد الذي يُلهم العقيدة الاجتماعية في الكنيسة. فلئن كانت الكنيسة قد كوّنت شيئاً فشيئاً هذه العقيدة، بطريقة منهجيّة، وبخاصّة من بعد التاريخ الذي نقيم ذكراه، فذلك لأن كل ثروة الكنيسة العقائديّة، قد ارتسمت في أفق الإنسان في حقيقته الواقعيّة، ومزيج خطيئته وبرارته.
54- العقيدة الاجتماعية، وبخاصّة في زمننا، تُعنى بالإنسان مندرجاً في شبكة معقّدة من العلائق المجتمعيّة المعاصرة. المعارف البشريّة والفلسفة تساعدنا في أن ندرك جيدّاً أن الإنسان مقيم في قلب المجتمع، وتعدّه ليفهم، بطريقة أفضل، أنه ” كائن اجتماعي “. ولكن الإيمان وحده يكشف له تماماً هويّته الحقيقيّة، ومن هذا الإيمان بالضبط ينطلق التعليم الاجتماعي في الكنيسة، متّكئاً على كل ما توافيه به العلوم والفلسفة، ومتوخّياً نجدة الإنسان في طريق الخلاص.
الرسالة في ” الشؤون الحديثة ” يمكن اعتبارها رفداً هامّاً في تحليل ألأوضاع الاجتماعية- الاقتصادية في أواخر القرن التاسع عشر. ولكنّ قيمتها الخاصّة تنبع من أنها وثيقة تعليميّة تندرج في خطّ الرسالة البُشرويّة في الكنيسة إلى جانب الكثير من الوثائق الأخرى الممهورة بذات الطابع. ونستنتج من ذلك أن التعليم الاجتماعي يحمل في طيّاته الطابع البُشروي، ناقلاً إلى كل إنسان بشرى اللّه وسرّ الخلاص بالمسيح، وكاشفاً، بالتالي، الإنسان لذاته، للسبب عينه. في هذا الضوء، وفي هذا الضوء فقط، تعنى الكنيسة، عبر عقيدتها الاجتماعية، ببقيّة الشؤون: الحقوق البشريّة لكل فرد، للكادحين، وشؤون الأسرة والتربية، وواجبات الدولة، وتنظيم المجتمع الوطني والدولي، والحياة الاقتصادية، والثقافة، والحرب والسلام، واحترام الحياة من لحظة الحَمل حتى الموت.
55- ” معنى الإنسان ” تتلقّاه الكنيسة من الوحي الإلهي. قال بولس السادس: ” لكي نعرف الإنسان، الإنسان الحقيقي، الإنسان كلّه، يجب أن نعرف اللّه “، ثم أضاف حالاً قول القديسة كاترينا السّيناوية، معربة عن ذات المعنى، في صيغة صلاة: ” من خلال طبيعتك، أيها الإله الأبدي، أعرف طبيعتي ” (110).
الأنتروبولوجيّة المسيحيّة هي إذن، في الحقيقة، فصل من علم اللاهوت. ومن هذا المنطلق عينه، يسوغ القول: إن العقيدة الاجتماعية في الكنيسة، عندما تتناول الإنسان وتُعنى بأمره وبمسلكه في العالم “
تدخل في نطاق اللاهوت، وبخاصّة اللاهوت الأدبي ( 111). البعد اللاهوتي يبدو إذن ضروريّاً، لمواجهة معضلات العيش المشترك في عصرنا، سواءٌ لفهمها أم لحلّها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا القول يصحّ أيضاً في مواجهة الموقف ” الإلحادي ” الذي يجرّد الإنسان من العنصر الروحي، وهو من مقوّماته الأساسيّة، كما يصحّ أيضاً في مواجهة المواقف المبنيّة على التغاضي وروح الاستهلاك، والساعية، لدواعٍ وحججٍ متنوّعة، إلى إقناع الإنسان من استقلاليته عن اللّه وكل شريعة وحجره في سجن من الأنانيّة يجرّ الأذى، في النهاية، عليه وعلى غيره.
عندما تبشّر الكنيسة الإنسان بخلاص اللّه ، وتقدّم له الحياة الأبديّة وتشركه فيها بواسطة الأسرار، وتوجه حياته عبر الوصايا الآمرة بمحبّة اللّه والقريب، فهي إنما تساهم في تعزيز الكرامة الإنسانيّة إلى حدّ بعيد. هذه الرسالة السامية في خدمة الإنسان، لا تستطيع أبداً أن تتقاعس عنها، ولكنها تلحظ أيضاً أن رسالتها تواجه اليوم مصاعب وعقبات خاصّة. وبالتالي فهي تقف كل ما لديها من طاقات وأساليب متجدّدة لبثّ البشرى التي تكفل النموّ للإنسان كله. عند عتبة الألف الثالث، تبقى الكنيسة هي ” الآية والضمانة لما يتميز به الشخص البشري من سموّ “(112)، كما حاولت أن تكون منذ مطلع وجودها، مواكبةً مسيرة الإنسان على مدى تاريخه. وما ” الشؤون الحديثة ” سوى عبارة فذّة من تعابير هذه الرسالة.
56- في الذكرى المئوية لهذه الرسالة، بودّي أن أوجّه الشكر إلى كل الذين بذلوا الجهد في درس العقيدة الاجتماعية المسيحيّة واستقائها ونشرها: وتلك مهمّة يجب على الكنائس المحلية أن تتضافر لها؛ وأمنيتي أن تكون هذه الذكرى المئويّة سانحة اندفاع جديد لتدارس تلك العقيدة وبثها وتطبيقها في مختلف المجالات.
وأودّ خصوصاً أن يعرّف بها وتُطبّق في البلاد التي تبدو، في إثر انهيار الاشتراكيّة الواقعيّة، على كثير من التضعضع في مواجهة مهمّة الترميم. ومن جهة أخرى، نرى البلدان الغربيّة نفسها عرضة لأن تتوسّم في هذا الانهيار انتصاراً لنظامها الاقتصادي دون غيره، فلا تعود تعبأ بتزويده الآن بالتعديلات اللازمة. وأمّا بلدان العالم الثالث فتلفي ذاتها اليوم، أكثر من أي يوم مضى، في وضع من التخلّف الذريع، يستفحل يوماً بعد يوم.
من بعد أن أدلى لاون الثالث عشر بالمبادئ والتوجيهات لوضع حلّ للمسألة العمّالية، كتب هذا الشعار: ط على كلّ فرد أن يضطلع، بلا مماطلة، بالدور الذي يترتّب عليه، وإلاّ فكل تأجيل للدواء يجعل بلا شفاء داءً خطيراً مزمناً “. وأضاف: ” أمّا الكنيسة فلن تدّخر، في سبيل ذلك، جهداً من أي نوع كان ” (113).
57- في نظر الكنيسة، البلاغ الإنجيلي في الشأن الاجتماعي، يجب ألاّ يُعدّ نظريّةً بل، قبل كل شيء، أساساً وحافزاً للعمل. بدافع هذا البلاغ، قام بعض المسيحيين الأول بتوزيع أموالهم للمعوزين، مُقيمين الدليل على أن التناغم والتضامن في العيش المشترك أمرٌ ممكن، على ما هنالك من تفاوت بين الطبقات الاجتماعية. بقوّة الإنجيل،هبّ المتوحدون، عبر التاريخ، يزرعون الأرض، وأقام الرهبان والراهبات مصحّات ومآوي للفقراء، وانبت الأخويات، كما انبرى رجال ونساء من كل الأوساط لخدمة المعوزين والهامشيين، ويقينهم أن كلمات المسيح: ” ما صنعتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه ” (متى 25/40)، يجب ألاّ تبقى مجرّد أمنية تقوية، بل أن تغدو، في حياتهم، التزاماً محسوساً.
تعلم الكنيسة اليوم، أكثر من أي وقت آخر، أن بلاغها الاجتماعي لا تقوم مصداقيته على تناسقه ومنطقه الباطن بقدر ما يقوم على شهادة الأعمال. ومن هذا اليقين ينبع خيارها وإيثارها للفقراء، ولكن من دون أي استبعادٍ أو استثناء لفئات أخرى. فخيار الكنيسة لا يتناول فقط الفاقة الماديّة: فهناك، على ما نعلم، أشكالٌ كثيرة من الفقر، وبخاصّة في المجتمع المعاصر، تلمُّ بالثقافة والدين كما تلمّ بالاقتصاد. حبّ الكنيسة للفقراء، وهو من مزاياها الجوهرية ومن تقاليدها الراسخة، يهيب بها إلى حيث الفقر آخذ في التضخّم بشكلٍ ذريع، برغم التقدّم التقني والاقتصادي. ففي بلاد الغرب، نقع على البؤس بوجوهه المتعدّدة لدى الفئات الهامشيّة، ولدى المسنّين والمرضى وضحايا مدنيّة الاستهلاك، ناهيك عمّا هنالك من جماهير اللاجئين والمستوطنين. وأمّا البلدان النامية،فتلوح في أفقها أزمات على شفا الكارثة، إذا لم يُتّخذ لها، في الوقت المناسب، تدابير منسقّةٌ دولياً.
58- حبّ الناس، وفي طليعتهم الفقير الذي تتوسّم فيه الكنيسة وجه المسيح، يترجم واقعياً بالعمل على تعزيز العدالة. هذه العدالة لا سبيل البتّة إلى تحقيقها كاملة، ما دام الناس ينظرون إلى المحتاج المستجدي أوداً للعيش، نظرتهم إلى مُبرمٍ وثقيل، ولا يؤانسون فيه نداءً إلى القيام بالمعروف، وسانحةً لكسب ثروة أعظم.مثل هذا الوعي وحده يولي الجرأة لركوب المجازفة وقبول التغيّر الباطن الذي تفترضه كل محاولة جديّة لمساعدة الغير. فليس المطلوب أن نتصدّق فقط مما يفيض عنّا، بل أن نوفّر الدعم لشعوب برمّتها، معزولة ومهمّشة، لتتمكن من مواكبة ركب النموّ الاقتصادي والرقيّ البشريّ. هذا الهدف لا يتحقّق بمجرّد أن نغرف من فائضٍ أمسى من منتجات عصرنا الوفيرة، بل خصوصاً بتغيير أنماط الحياة وأساليب الإنتاج والاستهلاك، والبنيات السلطوية القائمة التي تسوس المجتمعات المعاصرة. وليس المطلوب أيضاً أن نقوّض أدوات التنظيم الاجتماعي التي برهنت، حتى الآن، عن نجاحها، بل أن نوجّهها في اتجاه تصوّر صحيح للخير العامّ للأسرة البشريّة بأجمعها. لقد أخذ يبرز اليوم ما يسمّى ” بالاقتصاد العالمي “، وهو ظاهرة يجب ألاّ نتصدّى لها، لما يمكن أن تعود به من سوانح خارقة لتعزيز الرخاء. ولكننا نوجس كل يوم أكثر أن هذا التدويل المتنامي لحركة الاقتصاد بحاجة إلى أجهزةٍ دوليّة صالحة تراقبه وتوّجهه نحو الخير العامّ، وهذا يتخطّى قدرة أيّ بلدٍ في العالم، مهما بلغ شأنه. لكي يتحقق مثل هذا الهدف، يجب أن يتنامى روح التعاضد بين كبريات الدول، وأن تتمثّل مصالح الأسرة البشريّة الكبرى، بطريقة منصفة، ضمن الأجهزة الدوليّة المختصّة. ولا بدّ أيضاً لتلك الدول الكبرى عندما تروز نتائج قراراتها، من أن تحسب دائماً وجديّاً حساب الشعوب والدول التي تزن ضئيلاً في ميزان السوق الدوليّة، ولكنها تختزن ألحّ الحاجات وأشدّها مضضاً، وتفتقر، من ثمّ، لنموّها، إلى دعمٍ كبير. من الثابت إذن أن أمامنا أموراً كثيرة نحقّقها في هذا المجال.
59- لكي تقوم العدالة، وتتكلّل بالنجاح المساعي البشريّة الهادفة إلى تفعيلها، لا بدّ لها من أن تكلأها النعمة من لدن اللّه. فبالنعمة، إذا تعاونت معها الحريّة البشريّة، يتحقّق حضور اللّه السريّ في التاريخ، أي العناية الإلهيّة.
إنّ الجدّة التي نختبرها في اتبّعنا للمسيح، يجب أن نشارك فيها الآخرين في صميم واقعهم ومصاعبهم وكفاحاتهم ومعضلاتهم وتحدّياتهم، فيستنير كل هذا ويتأنسن أكثر، في ضوء الإيمان. فالإيمان لا يساعد فقط في العثور على حلول، بل يمكّن الإنسان أيضاً من أن يتحمّل بشريّاً الأوضاع المؤلمة، لئلاّ يهلك فيها ويسلو عن كرامته ودعوته.
هذا، ويقوم بين العقيدة الاجتماعية المسيحيّة والمعارف الأخرى ترابط كثير الأهميّة. فلكي تتجسّد الحقيقة الواحدة في شأن الإنسان، في قرائن اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة ودائمة التقلّب، نرى هذه العقيدة في حوارٍ مع مختلف العلوم المعنيّة بالإنسان تستفيد من إمداداتها وتساعدها في التوجّه، بانفتاح أوسع، نحو خدمة الإنسان معروفاً ومحبوباً في ملء دعوته البشريّة. إلى جانب هذا الترابط مع العلوم الأخرى، لا بدّ من التذكير بما تتميّز به هذه العقيدة من طابع عملي وبُعدٍ اختباريّ، نوعاً ما. فهي تنتصب عند الملتقى بين حياة المسيحيين وضميرهم، من جهة، وأوضاع العالم من جهة أخرى، وتنعكس في الجهود التي يبذلها الأفراد والعِيَل والقيّمون على شؤون الثقافة والاجتماع، ورجال السياسة والحكم، ليفرغوا عليها شكلها وطريقة تطبيقها في التاريخ.
60- كتب لاون الثالث عشر، في سياق حديثه عن المبادئ التي يجب اعتمادها لحلّ المسألة العمّالية: ” إن مسألة بمثل هذه الخطورة تقتضي من فعّاليات أخرى حصتهم من النشاط والجهود ” (114). لقد كان البابا على يقين من أن المعضلات الخطيرة التي أفرزها المجتمع الصناعي لن تلقى حلاًّ إلاّ بتضافر الطاقات كلها. هذا القول أصبح عنصراً ثابتاً من عناصر العقيدة الاجتماعية في الكنيسة، وهذا ما يفسّر لماذا توجّه يوحنا الثالث والعشرون برسالته العامّة عن السلام، إلى جميع ذوي النوايا الصالحة.
بيد أن لاون الثالث عشر لاحظ، بأسفٍ، أن إيديولوجيات عصره، وبخاصّة الليبرالية والماركسيّة، أبت هذا التعاون. منذ ذاك التاريخ، أشياء كثيرة تغيّرت، ولا سيّما في هذه السنين الأخيرة. فلقد أخذ العالم يعي، أكثر فأكثر، أن حلّ المعضلات الشائكة الوطنيّة والدوليّة، لا يتعلّق بقضيّة إنتاجٍ اقتصادي، أو تنظيم تشريعي أو اجتماعي، بل يتطلّب الأخذ بقيمٍ واضحة، على صعيد المسلك والدين. كما يتطلّب أيضاً تحوّلاً في الذهنية والموقف والبنى، وتحسّ الكنيسة خصوصاً بواجب المساهمة في ذلك. وهناك –على حدّ ما كتبتُ في ” الاهتمام بالشأن الاجتماعي “- أملٌ وطيد بأن الكثيرين، حتى ممّن لا يدينون بدين معيّن، سيكون لهم يدٌ في إرساء المسألة الاجتماعية على الأسس الأخلاقيّة اللازمة (115).
في هذه الوثيقة نفسها،وجّهتُ أيضاً نداءً إلى الكنائس المسيحيّة، وإلى جميع الديانات الكبرى في العالم، ودعوتها إلى أداء شهادة بالإجماع لقناعاتها المشتركة في شأن كرامة الإنسان خليقة اللّه (116). وإني لمقتنعٌ بأن الأديان سوف تضطلع اليوم وغداً بدورٍ نافذٍ في حفظ السلام وبناء مجتمع خليق بالإنسان.
وإنه مطلوب، من جهة أخرى، من جميع ذوي النوايا الصالحة، أن يتأهبوا للحوار والتعاضد، وهذا يصحّ خصوصاً في الأفراد والجماعات الذين ينهضون بمسؤوليات خاصّة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، سواء على الصعيد الوطني أم على الصعيد الدولي.
61- إن ما دفع سلفي، في مطلع العهد الصناعي، إلى رفع الصوت ذوداً عن الإنسان، إنما هو ” النير شبه العبودي ” القائم آنذاك. وقد ظلّت الكنيسة أمينة لهذا الواجب في غضون المئة سنة التي انصرمت من بعد. لقد تدّخلت في الفترة الأولى التي احتدم فيها الصراع الطبقي، في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، لتدفع عن الناس غائلة الاستغلال وطغيان الأنظمة التوتاليّة. بعد الحرب العالميّة الثانية، ركّزت الكنيسة بلاغاتها الاجتماعيّة على كرامة الإنسان، ملحّة على مشاعيّة الأرزاق الماديّة، وقيام نظام اجتماعي بريء من الظلم ومبنيّ على روح التعاون والتضامن. ولم تنِ تُردّد أن الفرد والمجتمع بحاجةٍ لا إلى هذه الخيور فقط، بل إلى القيم الروحيّة والدينيّة أيضاً. وعندما أخذت تدرك، كلّ يوم أكثر، أنّ ثمّة ملايين من البشر ليس لها أي نصيب في العيش الرخيّ الذي ينعم به العالم الغربي، بل تعاني البؤس المنتشر في البلاد النامية، وتعيش في وضع لا يزال في حكم ” النير شبه العبودي “، أحسّت ولا تزال تحسّ ذاتها ملتزمةً بواجب التنديد بهذا الواقع، بمنتهى الوضوح والصراحة، مع علمها بأن نداءاتها لن تلقى دائماً، عند الجميع، آذاناً صاغية.
مئة سنة بعد إعلان ” شؤون الحديثة ” وتحدّيات جديدة. وبالتالي، لا بدّ لهذه الذكرى المئويّة من أن تدعم الجهود التي يبذلها جميع ذوي النوايا الصالحة، ولا سيّما المؤمنين.
62- رسالتي هذه، بغيتها النظر إلى الماضي، ولكن خصوصاً التطلّع إلى المستقبل. وهي، ” كالشؤون الحديثة ” في عهدها، تحتلّ تقريباً عتبة القرن الجديد، وتودّ، بعونه تعالى، أن تمهّد له الطريق.
” جِدّة الأشياء “، الجدّة الحقّة الدائمة، مصدرها، في كل حين، قدرة اللّه اللامتناهية، على حدّ قوله تعالى: ” ها إني أجعل كل شيء جديداً ” ( رؤ 21/5 ). هذه الكلمات تومئ إلى منتهى التاريخ، يوم ” يُعيد المسيح المُلك إلى اللّه الآب… فيصير اللّه كلاًّ في الكلّ ” ( 1قور 15/24-28 ). بيد أن المسيحي يعلم حقّ العلم أن الجدّة التي نترقبها كاملةً عند عودة الرب، هي ماثلة منذ خلق العالم، وبالتحديد منذ أن صار اللّه إنساناً في يسوع المسيح، وبه ومعه أبدع ” خلقاً جديداً ” ( 2قور 5/17؛ غلا 6/15 ).
قبل الختام، أرفع الشكر، تارة أخرى، إلى القدير الذي جاد على كنيسته بما تحتاجه من نور وقوّة لتواكب الإنسان في مسيرته الأرضية شطر غايته الأبديّة. في الألف الثالث أيضاً، ستظلّ الكنيسة وفيّة لعهدها بأن تجعل من درب الإنسان دربها، عالمة أنها لا تسير وحدها بل مع المسيح ربّها. فهو الذي جعل من درب الإنسان دربه، وهو الذي يقوده، وإن خفي عليه ذلك.
وعسى مريم، أم الفادي، القائمة بقرب المسيح في طريقه إلى الناس ومع الناس، والتي تتقدّم الكنيسة في حجّة إيمانها، عساها ترافق البشريّة بشفاعتها الوالديّة في طريقها إلى الألف المُقبل، في الأمانة لمن ” هو الباقي أمس واليوم وإلى الدهور ” ( عب 13/8)، يسوع المسيح ربّنا الذي باسمه، ومن صميم قلبي، أهدي الجميع بركتي.
أعطي في روما، بقرب القديس بطرس، في الأول من أيار سنة 1991، تذكار القديس يوسف العامل، في السنة الثالثة عشرة من ولايتي.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) “الشؤون الحديثة” رسالة عامة (15 / 5/ 1891) للبابا لاون الثالث عشر: أعمال لاون الثالث عشر، ج 11، 1892، ص 97 – 144. نظراً لخلو مقاطع النص الأصلي لهذه الرسالة العامة من أي ترقيم، اعتمدنا في هذه الترجمة الترقيم الوارد في مجموعة “الخطاب الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية”. Le discours social de l’Eglise Catholique ، في منشورات دار سانتوريون (centurion) ، باريس 1985 – 1990، تحقيق سيراس (CERAS).
2) “الذكرى الأربعون” رسالة عامة (15/5/1931)، للبابا بيوس الحادي عشر، أعمال الكرسي الرسولي 23 (1931) ص 177-228. رسالة إذاعية في 1/6/1941 للبابا بيوس الثاني عشر: أعمال الكرسي الرسولي 33 (1941) ص 195-205. “أم ومعلمة”، رسالة عامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين (15/5/1961): أعمال الكرسي الرسولي 53 (1961) ص 401-466. ” الذكرى الثمانون”(octogesimo adveniens) . (14/5/1971) للبابا بولس الادس أعمال الكرسي الرسولي 63 (1971) ص 401-441.
3) “الذكرى الأربعون”، المرجح السابق ذكره ص 228.
4) “العمل البشري”، رسالة عامة (14/9/1981) للبابا يوحنا بولس الثاني، أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981) ص 577-647 و”الاهتمام بالشأن الاجتماعي”،(30/12/1987)، أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 513-586.
5) “رد على الهراطقة” القديس ايرينوس، 1-10-1 و3-4-1.
6) “الشؤون الحديثة”، رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر، عدد 38، المرجع السابق ذكره.
7) مثال على ذلك في “أعمدة الحكمة الإلهية” (10/2/1880) رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر، أعمال لاون الثالث عشر، ج د روما 1882 ص 269-287، واالرسالة العامة “في الحرية البشرية” (libertas praestantissimum) (20/6/1888)، أعمال لاون الثالث عشر ج د روما 1889 ص 212-246، والرسالة العامة (graves de communi) (18/1/1901): أعمال لاون الثالث عشر 21 روما ص 3-20.
8) “الشؤون الحديثة” عدد 1 المرجع السابق ذكره ص 97
9) المرجع نفسه ص 98
10) المرجع نفسه عدد 15، 109-110.
11) المرجع نفسه عدد 16، عرض لشروط العمل عدد 44: الاتحادات العمالية المعادية للمسيحية، المرجع نفسه ص 110-111 و136-137.
12) المرجع نفسه عدد 34 ص 20، ص 130 ,114-115.
13) المرجع نفسه عدد 34 ص 130.
14) المرجع نفسه عدد 27، ص 123.
15) “العمل البشري” رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 1 ,2 ,6 المرجع نفسه ص 578-583 ,586-592.
16) “الشؤون الحديثة”، عدد 3-12، المرجع نفسه ص 99-107.
17) المرجع نفسه عدد 7 ص 102-103.
18) المرجع نفسه عدد 6-8 ص 101-104
19) المرجع نفسه عدد 37-38 ,41، ص 134-135 ,137-138
20) المرجع نفسه عدد 38، ص 135.
21) المرجع نفسه عدد 33 ص 128-129.
22) المرجع نفسه عدد 33 ص 129.
23) المرجع نفسه عدد 34 ص 129.
24) المرجع نفسه عدد 34، 3 ص 130-131.
25) المرجع نفسه عدد 34، 4 ص 131.
26) الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
27) “الشؤون الحديثة”، المرجع السابق ذكره عدد 27، المرجع نفسه ص 121-123.
28) المرجع نفسه عدد 32، ص 127.
29) المرجع نفسه عدد 32، ص 126-127.
30) الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، الإعلان عن إلغاء كل شكل من أشكال التمييز وعدم التسامح بسبب الدين والمعتقدات.
31) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، “بيان في الحرية الدينية”، رسالة إلى رؤساء الدول للبابا يوحنا بولس الثاني (1/9/1980) أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 1252-1260 الرسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 1988: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 278-286.
32) “الشؤون الحديثة”، المرجع السابق ذكره عدد 3 – 9 و 38 ص 99 – 105 و130 – 131 و 135.
33) المرجع نفسه عدد 29 ص 125.
34) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 38 – 40 المرجع نفسه ص 564 – 569 وأيضاً: “أم ومعلمة”، للبابا يوحنا الثالث والعشرين، المرجع نفسه ص 407.
35) الشؤون الحديثة”، المرجع السابق ذكره عدد 20 – 21 ص 114 – 116، “الذكرى الأربعون” ج 3 البابا بيوس الحادي عشر المرجع نفسه ص 208 – عظة ختام السنة المقدسة (25 – 12 / 1985) للبابا بولس السادس، أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976) ص 709.
36) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 42 المرجع نفسه ص 572.
37) “الشؤون الحديثة”، عدد 6 و 9 و34 و39 المرجع نفسه ص 101 – 102 و 104 – 105 و 130 – 131 و 136.
38) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “فرح ورجاء” دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم عدد 24.
39) “الشؤون الحديثة”، عدد 3، المرجع نفسه ص 99.
40) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 15 و 28 المرجع نفسه ص 530 و 548 – 549.
41) “العمل البشري”، عدد 11 – 14، المرجع نفسه ص 602 و 618.
42) “الذكرى الأربعون”، رسالة عامة للبابا بيوس الحادي عشر ج 3 المرجع نفسه ص 213.
43) “الشؤون الحديثة”، عدد 26 – 29، المرجع نفسه ص 121 – 125.
44) “العمل البشري”، عدد 20 المرجع نفسه ص 620 – 632 خطاب ألقي أمام المنظمة الدولية للعمل في جنيف في 15 / 6 /1982، تعاليم 5 /2 /1982 ص 2250 – 2266، وخطاب للبابا بولس السادس أمام المنظمة المذكورة بتاريخ 10 /6 / 1969، أعمال الكرسي الرسولي 61 (1969) ص 491 – 502.
45) “العمل البشري”، عدد 8 المرجع نفسه ص 594 – 598.
46) “الذكرى الأربعون”، رسالة عامة للبابا بيوس الحادي عشر، عدد 14 المرجع نفسه ص 178 – 181.
47) أعمدة الحكمة الإلهية، (1880) أعمال البابا لاون الثالث عشر ج 2، روما في 1882 ص 10 – 40، “ذلك الأزلي” رسالة عامة (20 /6 / 1881): أعمال البابا لاون الثالث عشر ج 2، روما 1882 ص 269 – 287، “الإله الخالد” رسالة عامة (1/ 11 /1885): أعمال البابا لاون الثالث عشر ج 5 روما في 1886 ص 118 – 150؛ “الحكمة المسيحية”، رسالة عامة (10/ 1 / 1890) أعمال البابا لاون الثالث عشر ج 10 ص 10 – 14 الرسالة العامة “quod Apstolici Muneris” (28 /12 /1878) أعمال البابا لاون الثالث عشر روما في 1881 ص 170 – 183، الرسالة العامة “Libertas praestantissium” في الحرية البشرية 20 /6 / 1888، أعمال لاون الثالث عشر ج 8 روما في 1889 ص 212 – 246.
48) “الحرية البشرية”، عدد 10 المرجع نفسه 224 – 226.
49) رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 1980، أعمال كرسي الرسولي 71 (1979) 1572 – 1580.
50) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 20 المرجع نفسه ص 537 – 538.
51) “السلام بين الأمم”، (Pacem in terris) رسالة عامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين (11 / 4/ 1963) ج 3: أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963) ص 296 – 289.
52) الشرعية العالمية لحقوق الإنسان، 1948، “السلام بين الأمم” ج4، المرجع نفسه ص 291 – 296 – البيان الختامي لؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، هلسنكي 1975.
53) “ترقي الشعوب”، رسالة عامة للبابا بولس السادس (26/ 3 /1967) عدد 61 – 75، أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967) ص 287 – 289.
54) رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام (1980) المرجع نفسه ص 1972 – 1580.
55) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم عدد 36 و 39.
56) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، إرشاد رسولي (30 / 12 / 1988) عدد 32 – 44، أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989) ص 431 – 481.
57) “العمل البشري”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني عدد 20 المرجع نفسه ص 629 – 632.
58) مذكرة في “الحرية المسيحية والتحرر” 22 / 3 / 1986، لجنة العقيدة والإيمان، أعمال الكرسي الرسولي 79 (1987) ص 554 – 599.
59) خطاب في مناسبة إحياء الذكرى العاشرة لـ “النداء لأجل الساحل”، في مقر مجلس اللجنة الاقتصادية لأفريقيا الغربي (أوغادوغو، بوركينا – فازو، 29/ 1/ 1990) أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990) ص 816 – 821.
60) “السلام بين الأمم، البابا يوحنا الثالث والعشرين ج 3، المرجع نفسه ص 286 – 288.
61) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 27 – 28، المرجع نفسه ص 547 – 550. “ترقي الشعوب” رسالة عامة للبابا بولس السادس عدد 43 – 44 المرجع نفسه ص 278 – 279.
62) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” عدد 28 – 31، المرجع نفسه ص 550 – 556.
63) البيان الختامي لمؤتمر هلسنكي واتفاقية فيينا؛ “الحرية البشرية” رسالة عامة للبابا لاوون الثالث عشر عدد 5، المرجع نفسه 215 – 217.
64) “رسالة الفادي”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، 7/ 12/ 1990 عدد 7، الرقيب الروماني في 23 / 1 / 1991.
65) “الشؤون الحديثة”، عدد 3 – 12، المرجع نفسه ص 00 – 107 و 131 – 133.
66) المرجع نفسه عدد 18 و 19، المرجع نفسه ص 111 – 114.
67) “الذكرى الأربعون”، رسالة عامة للبابا بيوس الحادي عشر، ج 2 المرجع نفسه ص 191، رسالة إذاعية في 1/ 6/ 1941 للبابا بيوس الثاني عشر؛ “أم ومعلمة” رسالة عامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين، المرجع نفسه ص 428 – 429، “ترقي الشعوب”، رسالة عامة للبابا بولس السادس عدد 22 – 24 المرجع نفسه ص 268 – 269.
68) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عدد 69 و 71.
69) خطاب في بويبلا أما أساقفة أميركا اللاتينية (28 /1 / 1979) ج 3، أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 199 – 201؛ “العمل البشري”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني عدد 14 المرجع نفسه ص 612 – 616، “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” عدد 42، المرجع نفسه ص 572 – 574.
70) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 15، المرجع نفسه ص 528 – 531.
71) “العمل البشري”، عدد 21، المرجع نفسه ص 632 – 634.
72) “ترقي الشعوب”، للبابا بولس السادس عدد 33 – 42 المرجع نفسه ص 273 – 278.
73) “العمل البشري”، عدد 7، المرجع نفسه ص 592 – 594.
74) المرجع نفسه عدد 8، ص 594 – 598.
75) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، عدد 35، “ترقي الشعوب”، للبابا بولس السادس عدد 19، المرجع نفسه ص 266 – 267.
76) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 34، المرجع نفسه ص 559 – 560 رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام (1990): أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990) ص 147 – 156.
77) في “المصالحة والتوبة”، 2 / 12 / 1984، إرشاد رسولي للبابا يوحنا بولس الثاني عدد 16، أعمال الكرسي الرسولي 77 (1985) ص 213 – 217، “الذكرى الأربعون” رسالة عامة للبابا بيوس الحادي عشر ج 3 المرجع نفسه ص 219.
78) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 25، المرجع نفسه ص 544.
79) المرجع نفسه، ص 559 – 560.
80) “فادي الإنسان”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، (4 / 3/ 1979) عدد 15، أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 286 – 289.
81) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، عدد 24.
82) المرجع نفسه عدد 41.
83) المرجع نفسه عدد 26.
84) المرجع نفسه عدد 36، “الذكرى الثمانون”، رسالة رسولية للبابا بولس السادس عدد 2 – 5، المرجع نفسه ص 402 – 405.
85) “العمل البشري”، عدد 15، المرجع نفسه ص 616 – 618.
86) المرجع نفسه عدد 10 ص 600 – 602.
87) المرجع نفسه عدد 14، ص 612 – 616.
88) المرجع نفسه عدد 18 ص 622 – 625.
89) “الشؤون الحديثة” عدد 32 – 33، المرجع نفسه ص 126 – 128.
90) المرجع نفسه عدد 27، ص 121 – 122.
91) “الحرية البشرية”، رسالة عامة للبابا لاون الثالث عشر عدد 10 المرجع نفسه ص 224 – 226.
92) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، المجمع الفاتيكاني الثاني عدد 76.
93) المرجع نفسه عدد 29، رسالة إذاعية بمناسبة عيد الميلاد، (24 / 12 / 1944)، أعمال الكرسي الرسولي 37 (1945) ص 10 – 20.
94) “بيان في الحرية الدينية”، المجمع الفاتيكاني الثاني.
95) “رسالة الفادي”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 11، الرقيب الروماني في 23 / 11/ 1991.
96) “فادي الإنسان”، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 17، المرجع نفسه ص 270 – 272.
97) رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام (1980) المرجع نفسه ص 1572 – 1580، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام (1990)، الرقيب الروماني، 19 / 12 / 1990، “بيان في الحرية الدينية” عدد 1 – 2 المجمع الفاتيكاني الثاني.
98) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، عدد 26 المجمع الفاتيكاني الثاني.
99) المرجع نفسه عدد 2.
100) “الذكرى الأربعون”، للبابا بيوس الحادي عشر ج 1، المرجع نفسه ص 184 – 186.
101) “وظائف العائلة المسيحية”، إرشاد رسولي، (22 / 11 / 1981)، عدد 45، أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982) ص 136 – 137.
102) خطاب في الأونيسكو، 2 / 6/ 1980: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 735 – 752.
103) “رسالة الفادي”، عدد 39 و 52، الرقيب الروماني في 23 / 1/ 1991.
104) الإرشاد الرسولي “UBI Primum” (8 / 9/ 1914) للبابا بندكتس الخامس عشر: أعمال الكرسي الرسولي 6 (1914) ص 501 -502؛ رسالة إذاعية للبابا بيوس الحادي عشر إلى جميع كاثوليك والعالم قاطبة في 29 / 9 / 1938: أعمال الكرسي الرسولي 30 (1938) ص 309 – 310؛ رسالة إذاعية للبابا بيوس الثاني عشر في 24 / 8 / 1939: أعمال الكرسي الرسولي 31 (1939) ص 333 – 335، “السلام بين الأمم”، رسالة عامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين ج 3 المرجع نفسه ص 285 – 289، خطاب في الأونيسكو للبابا بولس السادس، في 24 / 10/ 1965، أعمال الكرسي الرسولي 57 (1965) ص 877 – 885.
105) “ترقي الشعوب”، للبابا بولس السادس عدد 76 – 77، المرجع نفسه ص 294 – 295.
106) وظائف العائلة المسيحية”، إرشاد رسولي عدد 48 المرجع نفسه ص 139 – 140.
107) “الشؤون الحديثة”، عدد 13، المرجع نفسه ص 107.
108) “فادي الإنسان”، عدد 13، المرجع نفسه ص 283.
109) المرجع نفسه عدد 14، ص 284 – 285.
110) عظة للبابا بولس السادس، أثناء الدورة العامة للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في 7 / 112 / 1965: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص 58.
111) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 41، المرجع نفسه ص 571.
112) “فرح ورجاء”، دستور راعوي بشأن حياة الكنيسة في عالم اليوم، المجمع الفاتيكاني الثاني عدد 76؛ “فادي الإنسان”، للبابا يوحنا بولس الثاني عدد 13 المرجع نفسه ص 283.
113) “الشؤون الحديثة”، عدد 45، المرجع نفسه ص 143.
114) المرجع نفسه عدد 13 ص 107.
115) “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 38 ص 564 – 566.
المرجع نفسه عدد 47، ص 582.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post