كرامة المرأة
Mulieris dignitatem
رسالة رسُوليَّة
للِحبر الأعظَم
البَابا يوحَنّا بولسُ الثّاني
في مناسَبَة السَّنة المريَميَّة
في كرامَةِ المَرأةِ ودَعوَتهَا
أيها الأخوة المحترمون
والأبناء والبنات الأعزاء،
سلام وبركة رسولية!
القسم الأول
افتتاحية
علامة الأزمنة
1- إذا شغلت كرامة المرأة ودعوتها الفكر البشري والمسيحي بصفة مستمرّة، فإنهما احتلّتا في السنوات الأخيرة مكانة مرموقة. وهذا واضح في مجالاتٍ عدّة، منها ما صدر عن السلطة التعليمية الكنسيّة من أبحاث، تناولتها بدورها الوثائق المختلفة الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي أكّد في رسالته الختاميّة “أن الوقت قد أوشك بل حان لتؤدّي المرأة رسالتها كاملة. فقد أصبح لها في المجتمع نفوذ وإشعاع وسلطة لم تَرْق في يوم من الأيام إلى المستوى الذي بلغته اليوم. لذلك نرى، في هذا الزمن الذي عرفت فيه البشرية تحوّلات عميقة، أن النساء المتأئّرات بروح الإنجيل يستطعن الأضطلاع بدور كبير في مساعدة البشرية على وقف تدهورها” (1). إنّ مضمون رسالتنا هذه يوجز ما سبق أن عبّر عنه المجمع من تعاليم، لا سيّما في الوثيقة الراعوية “فرح ورجاء” (2) وفي المرسوم الخاص برسالة العلمانيين Apostoli- cam actuositatem (3).
لقد ظهرت مبادرات مشابهة في غضون الفترة التي سبقت المجمع، نذكر منها على سبيل المثال خُطباً عديدة للبابا بيوس الثاني عشر (4) والرسالة العامة الصادرة عن البابا يوحنا الثالث والعشرين (5) تحت عنوان “السلام في الأرض”. وقد شاء سلفنا البابا بولس السادس، بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، أن يركّز على معنى علامة الأزمنة هذه، فأنعم على القديسة تريزيا الطفل يسوع والقديسة كاترين دي سيينّ (6) بلقب ملفانة الكنيسة، كما أنّ قداسته استجاب لرغبة مجمع الأساقفة المنعقد في عام 1971، فأسّس لجنةً أناط بها دراسة القضايا المعاصرة المتعلّقة “بترقية النساء الفعلية لجهة الكرامة والإضطلاع بالمسؤولية” (7).
وممّا ورد في إحدى خُطب البابا بولس السادس قوله: “إنّ المرأة، في المسيحية أكثر منها في أي دينٍ آخر، قد حظيت منذ البدء بوضع خاص، من حيث الكرامة، تجلّت مظاهرة العديدة والمهمّة في كتب العهد الجديد، حيث يظهر بوضوح أنّ المرأة مدعوّة لأن تحتلّ، في بنية المسيحية الحيّة الفاعلة، مكاناًَ هو من الأهمية بحيث أننا لم نستوعب بعد كلّ ما ينطوي عليه من فعالية” (8).
ثمّ إن آباء مجمع الأساقفة المنعقد في شهر تشرين الأول من عام 1987، والمخصّص لموضوع “دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة وفي العالم، بعد مرور عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني” عكفوا على البحث مجدّداً في كرامة المرأة ودورها، وتمنّوا بنوع خاص أن تُبحث في العمق الأسس البشرية واللاهوتية الواجب اعتمادها في معالجة القضايا المتعلقة بهويّة الرجل والمرأة وكرامتهما. إنه يتوجّب علينا أن نتفهّم قصد الخالق حين قرّر أن يكون الكائن البشري، دائماً وحتماً، امرأة ورجلاً، وأن ندرك كذلك ما يترتّب على هذا القرار من نتائج. ولا يمكن الحديث عن حضور المرأة الفاعل في الكنيسة والمجتمع، إلاّ إنطلاقاً من هذه الأسس، التي تتيح لنا أن ننفذ إلى أعماق كرامة المرأة ودعوتها.
هذا هو الموضوع الذي نبغي علاجه في هذه الوثيقة. والإرشاد الذي صدر عنّا بعد اختتام مجمع الأساقفة، والذي سينشر بعد صدور هذه الوثيقة، يتضمّن طروحات راعوية بشأن مكانة المرأة في الكنيسة والمجتمع. وقد أولى آباء المجمع هذه الطروحات إهتمامهم، وعلّقوا عليها بملاحظات حصيفة، مستعينين بآراء المندوبين العلمانيين – من نساءٍ ورجال – الممثّلين للكنائس الخاصة، والوافدين من جميع القارّات.
السنة المريميّة
2- إن مجمع الأساقفة الأخير إنعقد في السنة المريمية. وهذا ما حرّك بصفة خاصة بحث قضية المرأة. وقد أشارت الرسالة العامة “أمّ الفادي” (9) هي أيضاً إلى ذلك. وهي تتوسّع في تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، الوارد في الفصل الثامن من الوثيقة العقائدية “نور الأمم” الخاصة بالكنيسة، وتتناول هذا التعليم في إطار الزمن الحاضر. ويحمل هذا الفصل من الوثيقة المجمعية عنواناً له دلالاته، وهو: “الطوباوية مريم العذراء، أم الله، في سرّ المسيح والكنيسة”. إن مريم – المرأة التي جاء ذكرها في الكتاب المقدس (سفر التكوين 3 : 15 ويوحنا 2 : 4 و 19 : 26) – تندرج في صميم سرّ المسيح الخلاصي. ولهذا نجدها حاضرةً حضوراً مميّزاً في سرّ الكنيسة. “بما أنّ الكنيسة هي في المسيح، على وجهٍ ما، سرّ الاتحاد الوثيق بالله، وسرّ وحدة الجنس البشري بأجمعه” (10) فإن حضور أم الله المميّز في سرّ الكنيسة يُفسح لنا في التفكير في العلاقة الإستثنائية القائمة بين هذه “المرأة” والأسرة البشرية جمعاء. والمقصود هنا بالأسرة البشرية، كلّ فردٍ من أبناء الجنس البشري وبناته، الذين يتفاعل فيهم، على مرّ الأجيال، التراث الأساسي للبشرية كلّها، ذاك التراث المرتبط بسرّ “البدء” والوارد ذكره في الكتب المقدسة، حيث يقول صاحب سفر التكوين (فصل 1 : 27): “خلق الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (11).
إن هذا الواقع الأزلي، الخاصّ بالكائن البشري، سواءً كان رجلاً أو أمرأة، والذي اندرج بصفة ثابتة في اختبار الجميع – يشكّل في ذات الوقت السرّ الذي “لا يتجلّى بوضوح إلاّ في الكلمة المتجسّد”. إن المسيح “يُظهر للإنسان، على أكمل وجه، حقيقة إنسانيته ويكشف له عن سموّ دعوته”، كما جاء في تعليم المجمع (12). وإذ يُظهر المسيح للإنسان حقيقة إنسانيّته، ألا يُستشفّ من هذا أن “للمرأة” التي هي أم المسيح، دوراً خاصّاً في هذا المجال؟ أفليست “رسالة” المسيح، كما وردت في الإنجيل والتي يشكّل الكتاب المقدس كلّه قماشتها الخلفية، بعهديه القديم والجديد، تُوحي للكنيسة وللبشرية بالكثير عن كرامة المرأة ودعوتها؟
هذا ما تتوخّى أن تكونه لحمة الوثيقة الحاضرة، التي تندرج في مضمون السنة المريمية الأوسع، في حين يشرف الألف الثاني لمولد السيد المسيح على نهايته، ويُطل علينا الألف الثالث. ويبدو لنا أنه من الأفضل إضفاء صيغة التأمّل وطابعه على هذه الوثيقة.
القسم الثاني
المرأة – أم الله (ثيوطوكوس)
الاتحاد بالله
3- “لمّا تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة”. بهذه الكلمات الواردة في الرسالة إلى الغَلاطيّين (4:4) يُجْمِلُ الرسول بولس الفترات الأساسية التي يتمّ فيها السرّ الذي “تحدّد سلفاً لدى الله” (أفسس 1 : 9). إنّ الابن المساوي للآب في الجوهر، يولد من امرأةٍ كإنسان، “عندما يتمّ الزمان”. وهذا الحدث يقودنا إلى قمّة تاريخ الإنسان على الأرض، بوصفه تاريخ الخلاص. وإذا أغفل الرسول ذكر اسم مريم، أمّ المسيح، واكتفى بذكرها كامرأة، فهذا أمر ذو مغزى، إذ ينسجم مع تعبير البشارة الأولى (Protévangile) الواردة في سفر التكوين (3 : 15). والواقع أن هذه “المرأة” حاضرةٌ في الحدث الرئيسي، الذي يحدّد “ملء الزمان” والذي يتحقّق فيها وبواسطتها.
هكذا يبتدئ الحدث الرئيسي والأساسي في تاريخ الخلاص، الذي هو فصح الرب. على أنه يجدر بنا أن نتأمّل في هذا الحدث من جديد، إنطلاقاً من تاريخ الإنسان الروحي بمعناه الأوسع، الذي يتجلّى من خلال ديانات العالم المختلفة. كما يجدر بنا أن نذكر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني بهذا الصدد: “إن الناس ينتظرون من مختلف الديانات توضيحاً لما يكمن في الوضع البشري من أسرارٍ، أقلقت بالأمس قلب البشر ولا تزال تُقلقه: من هو الإنسان؟ ما هو معنى حياته وما هي غايتها؟ ما هو الخير وما هي الخطيئة؟ ما هو مصدر الألم وما هي غايته؟ ما هو السبيل إلى السعادة الحقّة؟ ماذا عن الموت وما يعقبه من دينونةٍ وثواب؟ وأخيراً ما هو السرّ الأخير وغير المدرك الذي يحيط بوجودنا، والذي عنه نشأنا وإليه نرمي؟” (13) إننا، منذ أقدم العصور وإلى اليوم، نجد لدى مختلف الشعوب نوعاً من الإحساس بهذه القوّة الخفيّة، الكامنة في الأشياء وفي أحداث الحياة البشرية. ويتخلّل هذا الإحساس أحياناً إكتشاف الألوهية الأسمى، أو “الله الآب” (14).
إنطلاقاً من هذه النظرة الشاملة التي تُظهر طموحات العقل البشري، في بحثه عن الله “لعله يتحسّسه ويهتدي إليه” (أعمال 17 : 27)، نرى أنّ “تمام الزمان” الذي يتحدّث عنه الرسول في رسالته، يُبرز جواب الله نفسه “الذي لنا فيه الحياة والحركة والوجود” (أعمال 17 : 27) على هذه الأسئلة المطروحة. إنه الله، الذي “بعد أن كلّم آباءنا قديماً، مرّات كثيرة، بلسان الأنبياء، كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا في هذه الأيام، وهي آخر الأيّام، بلسان الابن”. (عبرانيين 1 : 1، 2). إنّ إرسال هذا الابن، المشارك للآب في الجوهر، في صورة إنسان “مولودٍ من امرأة” يشكّل المرحلة الأسمى والنهائية، من مراحل إعلان الله ذاته للبشرية. ويعلّمنا المجمع الفاتيكاني الثاني أنّ هذا الإعلان بنطوي، في ذات الوقت، على مضمون خلاصيّ، حين يقول: “لقد سرّ الله، في حكمته وجودته، بأن يُظهر لنا ذاته شخصياً وأن يُطلعنا على سرّ إرادته (1 : 9) الذي به يُقبل البشر إلى الآب في الروح القدس، ويشتركون في الطبيعة الإلهية بواسطة المسيح، كلمة الله المتجسّد” (15). (2 بطرس 1 : 4 وأفسس 2 : 18).
في قلب هذا الحدث الأساسي نجد المرأة. إذ إنّ إعلان الله ذاته، في وحدة ثالوثه التي لا تُدرك، تنطوي عليه في الأساس بشارة الناصرة: “ها إنك تحبلين وتلدين ابناً، تسمّينه يسوع، فيكون عظيماً وابن العلّي يُدعى”. – “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” – “إن الروح القدس يحلُّ بك، وقدرة العليّ تظلّلك، لذلك يكون المولود منك قدّوساً وابن العليّ يُدعى… لأنه ليس شيء. غير ممكن لدى الله” (16). (لوقا 1 : 31 – 37).
إن من اليسير فهم هذا الحدث، إذا نظرنا إليه عبر تاريخ إسرائيل، الشعب المختار، الذي منه خرجت مريم. ومن اليسير أيضاً فهمُه إذا نظرنا إليه من خلال جميع الطرق التي سلكتها البشرية في بحثها منذ البدء عن جوابٍ على الأسئلة الأساسية والحاسمة معاً، التي ما انفكّت تطرح نفسها عليها بإلحاح.
ألا نرى في بشارة الناصرة فاتحةً لمبادرة الله الحاسمة، الجديرة بأن تضع حداً للقلق الذي يساور القلب البشري (17)؟ إن الأمر لا يقتصر هنا على أقوالٍ لله ملهمةٍ نطق بها الأنبياء، بل إنّ الردّ الإلهيّ إقترن بتجسدّ حقيقي للكلمة (يوحنا 1 : 14). وقد بلغت مريم حداً من الاتحاد بالله، يفوق كلّ توقّعات إسرائيل كلّه، وخاصّة بنات هذا الشعب المختار، اللواتي كان في إستطاعتهنّ أن يأملن، بحسب الموعد، أن تصبح إحداهنّ يوماً أمّا للمسيح… ولكن هل كان يخطر ببال إحداهنَّ، أن المسيح الموعود به سيكون “ابناً للعليّ”؟ لقد كان من العسير توقّع هذا الأمر، انطلاقاً من الإيمان بوحدانيّة الله في العهد القديم. ولم تكن مريم تستطيع أن تقبل بما “ليس في استطاعة الناس، بل هو مستطاع عند الله” لولا “قوّة الروح القدس الذي حلّ عليها”.
والدة الإله
4- هكذا أظهر “تمام الزمان” ما للمرأة من كامة خارقة. إن هذه الكرامة تقوم، من جهةٍ، على ترفيعٍ للمرأة، فائق الطبيعة، إلى مستوى الاتحاد بالله بيسوع المسيح. وهذا الترفيع يحدّد القصد الإلهي العميق من وجود كلّ إنسان، سواء على الأرض أو في الأبديّة. ومن هذه الوجهة، تكون المرأة هي الممثّلة للجنس البشري ونموذجه المثالي، وفيها تتمثّل الطبيعة البشرية التي ينتمي إليها جميع البشر، من رجال ونساء. ومن جهة أخرى يُبرز حدث الناصرة حالةً من الاتحاد بالله فريدة، خصّ بها الله المرأة دون سواها، أعني مريم، التي اتّحدت بالله إتّحاد الأمّ بابنها، بحيث أصبحت عذراء الناصرة أمّا لله.
إنّ هذه الحقيقة التي أقرّها الإيمان المسيحي منذ البدء، عبّر عنها مجمع أفسس عام 431 بصفة رسمية (18)، ناقضاً بذلك رأي نسطوريوس القائل بأن مريم ليست سوى أمّ يسوع الإنسان، مؤكداً المعنى العميق لأمومة العذراء مريم. فإن مريم، حين واجهت بشارة الملاك بقولها: “ليكن لي بحسب قولك!” حبلت بإنسانٍ هو ابن الله، الذي هو واحد مع الآب في الجوهر. إنها إذن في الحقيقة أمّ الله، لأن الأمومة تشمل الشخص بكامله، ولا تقتصر على الجسد، بل ولا على الطبيعة البشرية وحدها. وهكذا أصبح لقب ثيوطوكوس – أي أمّ الله – اسم العلم للاتّحاد بالله الذي حظيت به العذراء مريم.
إنّ اتحاد الثيوطوكوس الخاصّ بالله، الذي يحقّق على الوجه الأسمى الدعوة الأزلية وفائقة الطبيعة الموجّهة إلى كل إنسان، لكي يتّحد بالآب ويكون “ابناً في الابن” إنما هو (أي هذا الاتحاد) مجرّد نعمةٍ، وهو، بهذه الصفة، هبة من الروح. وفي ذات الوقت عبّرت مريم، بجوابها المتّسم بالإيمان، عن إرادتها الحرّة، وبالتالي عن المشاركة الكاملة “للأنا” الشخصي والأنثوي في حدث اللتجسّد. وحين أجابت الملاك بالقبول أصبحت موضوع الاتّحاد الحقيقي بالله، ذلك الاتّحاد الذي تحقّق في سرّ تجسّد الكلمة، الذي هو واحد مع الآب في الجوهر. إنّ كل عملٍ يقوم به الله، في علاقته بالبشر، يحترم دائماً الإرادة الحرّة “للأنا” البشري، وقد احترمها في بشارة الناصرة.
“الخدمة تعني السيادة”
5- إن بشارة الناصرة تحمل طابع مواجهةٍ بين أشخاص، واضحاً جداً، أي أنها حوار. ولا نستطيع أن نستوعبها استيعاباً كاملاً ما لم نركز كل الحديث، الجاري بين الملاك ومريم، على سلام الملاك القائل: “يا ممتلئة نعمةً” (19). إنّ حوار البشارة بأكمله يكشف عن بُعد الحدث الأساسي، أي البُعد فائق الطبيعة، إلاّ أن النعمة لا تُهمل الطبيعة أبداً ولا تُلغيها، بل إنها، على عكس ذلك، تكمّلها وترفع من شأنها. إنّ ملء النعمة، الموهوب لعذراء الناصرة، والمنوط بصفتها أمّاً لله، يعني إذن، في ذات الوقت، ملء الكمال، في ما “تمتاز به المرأة” وما فيها من “أنوثة”. وهنا نجد، على وجهٍ ما، المرتكز الأساسي لكرامة المرأة الشخصية ونموذجها المثالي.
إنّ مريم، حين تستجيب لقول الموفد السماوي قائلةً: “هاءنذا” تشعر، وهي “الممتلئة نعمةً” بحاجة إلى التعبير عن صلتها الشخصية بالموهبة المعلنة لها، فتقول: “أنا أمة الرب” (لوقا 1 : 38). ولا يجوز تجريد هذه العبارة من معناها العميق، ولا الحدّ من مرماها، بعزلها المصطنع عن مجمل النصّ الذي ورد فيه الحدث وعن كلّ ما تتضمنه الحقيقة المعلنة عن الله والإنسان. إن عبارة “أمة الرب” تترجم وعي مريم الكامل بأنها ليست سوى خليقة بالنسبة إلى الله. على أنّ كلمة “أمة” الواردة في آخر حوار البشارة، تندرج في إطار البُعد التاريخي الذي يتناول الأمّ وابنها. وهذا الابن، بوصفه في الحقيقة “ابن العليّ”، ومشاركاً للآب في الطبيعة، سيقول مراراً، وهو يتحدث عن نفسه، لا سيّما وهو في ذروة رسالته: “إنّ ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدُم”. (مرقس 10 : 45).
إنّ المسيح كان يعي دائماً أنه “خادم الرب” طبقاً لما جاء في نبوءة أشعيا (أشعيا 42 : 1 و 49 : 3و 6 و 52 : 13) الذي يعبّر عن جوهر رسالة المسيح، كما كان المسيح يعي أنه فادي العالم. كذلك مريم، فإنها منذ اللحظة الأولى لأمومتها الإلهية واتحادها بابنها “الذي أرسله الآب إلى العالم ليخلّص به العالم” (يوحنا 3 : 17) شاركت في الخدمة “المأسويّة للمسيح” (20) وهذه الخدمة بالذات هي أساس الملكوت، “حيث الخدمة تعني السيادة” (21). والسيد المسيح “خادم الرب” سيُعلن للجميع ما للخدمة من كرامة ملكيّة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدعوة التي دُعي إليها كل إنسان.
وهكذا يكون التأمل في واقع المرأة – أمّ الله وسيلةً ممتازة ومدخلاً للتأمّل الحاضر في السنة المريمية. كما أن هذا الواقع يحدّد البعد الأساسي للتأمّل في كرامة المرأة ودعوتها. وإذا ما فكرنا في أي شأن يتعلق بكرامة المرأة ودعوتها، أو تحدّثنا عن هاتين الكرامة والدعوة، أو قمنا بأي عمل في سبيل تعزيزهما، فإنه يجب أن لا يغيب عن بالنا وقلبنا وعملنا هذا البُعد الأساسي. إن كرامة كل كائنٍ بشريّ، والدعوة المنوطة بهذه الكرامة، تكتملان في الاتحاد بالله. ومريم – المرأة التي تتحدّث عنها التوراة – هي الصورة الأوفر كمالاً لهذه الكرامة وهذه الدعوة. وكل كائن بشريّ، ذكراً كان أم أنثى، خلق على صورة الله ومثاله، لا يمكنه، في الواقع، أن يحقق ازدهاره إلاّ في اتّجاه هذه الصورة وهذا المثال.
القسم الثالث
صورة الله ومثاله
سفر التكوين
6- يجب أن نعود إلى النصّ الكامل لرواية “البدء” التي افُتتح بها الكتاب المقدس، والتي من خلالها تُشكل الحقيقة المعلنة عن الإنسان، المخلوق على صورة الله مثاله، الأساس الثابت لكل بحثٍ مسيحيّ يتعلق بالجنس البشري (22). “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خَلقهُ، ذكراً وأنثى خلقهم”. (تكوين 1 : 27). إن هذه الفقرة المقتضبة من الكتاب، تتضمّن الحقائق الأساسية لعلم أصول الجنس البشري. فالإنسان هو في قمة نظام الخلق كلّه، في العالم المنظور. والجنس البشري، الذي يبدأ في اللحظة التي دُعيَ فيها الرجل والمرأة إلى الوجود، يتوِّج عمل الخلق كلَّه. فكلاهما كائنان بشريّان، رجلٌ وامرأة متساويان، وكلاهما مخلوقان على صورة الله. وهذه الصورة – أي الشبه بالله – التي هي أساسيّة في تكوين الكائن البشري، تنتقل بواسطة الرجل والمرأة، كزوجين وأبوين، إلى ذرّيتهما: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها”. (تكوين 1 : 28). لقد وَكَلَ الخالق أمر التسلُّط على الأرض إلى الجنس البشري، أي إلى الأشخاص جميعاً، إلى جميع الرجال والنساء، الذين يستمدّون كرامتهم ودعوتهم من أصلهم المشترك.
وإننا نجد في سفر التكوين رواية أخرى لخلق الإنسان رجلاً وامرأة (تكوين 2 : 18 – 25) سنتطرّق إليها في ما بعد. إلاّ أنه يجدر بنا منذ الآن أن نوضح أنّ الطابع الشخصي للكائن البشري هو واقعٌ ينشأ عن النص الكتابي. فالإنسان هو شخص، وهذا ينطبق بالتساوي على الرجل والمرأة، لأنّ كليهما خُلقا على صورة الله الشخصيّ ومثاله ووجه الشبه بين الإنسان والله، هو أن الإنسان، كما الله، كائن عاقل، وهذا ما يميّزه عن عالم الخلائق الحيّة كلّه، بما فيها الكائنات ذات الحواسّ (23) (الحيوانات). وبفضل هذه الميزة يستطيع الرجل والمرأة أن “يُخضعا” سائر مخلوقات العالم المنظور (تكوين 1 : 28).
أمّا في الرواية الثانية لنشأة الإنسان (تكوين 2 : 18 – 25) فإن التعبير عن حقيقة خلق الإنسان، ولا سيّما المرأة، قد ورد في صيغةٍ مختلفة. إنّ هذا التعبير هو، على وجهٍ ما، أقل دقةً، ويمكن القول إنه وصفيّ ومجازيّ، وأقرب إلى لغة الأساطير، المعروفة في ذلك الزمن، على أنه لا يوجد تناقض أساسيّ بين النصّين. فالنص الوارد في سفر التكوين (2 : 18 – 25) يساعد على فهم الفقرة المقتضبة الواردة في ذات السفر (1 : 27 و 28). وفي ذات الوقت، إذا قرأنا النصّ الأول على ضوء النص الثاني، إستوعبنا، بصفةٍ أعمق، الحقيقة الأساسية الواردة فيه، وهي أن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، هو الرجل والمرأة على السواء.
فالنصّ الثاني يقول إن الله خلق المرأة من “ضلع” في الرجل، وإن المرأة هي “أنا” آخر، ومخاطب إلى جانب الرجل الذي كان، في عالم الكائنات الحية المحيطة به، يشعُرُ بالعزلة ولا يجد بينها “معيناً” يتآلف معه. ولم يلبث الرجل أ، تعرَّف على المرأة التي أوجدها الله إلى جانبه: كلحم من لحمه وعظم من عظامه” (تكوين 2 : 23) والتي لهذا دُعيت “امرأة”. إن هذا الاسم الذي أطلق على المرأة، يدل على أنها في هويتها الأساسية مشابهة للرجل: Ish-ishsha . وممّا يؤسف له أننا لا نجد في اللغات العصريّة، بصفة عامة، ما يقابل هذا التعبير. “إنها تُدعى امرأةً (Ishsha) لأنها من الرجل (Ish) أُخذت”. (تكوين 2 : 23).
إنّ النص الكتابي يقدّم لنا أسُساً كافية للتعرُف على المساواة الأساسية بين الرجل والمرأة، من حيث أنهما بشر (24). فمنذ البدء هما شخصان. وبهذا يختلفان عن سائر الكائنات الحيّة، الموجودة في العالم المحيط بهما. فالمرأة هي “أنا” آخر في إطار طبيعتها البشرية المشترك. إنهما يبدوان منذ البدء “كواحدٍ في اثنين”. وهذا يعني أن الرجل قد تجاوز حالة العزلة التي كان فيها، والتي لم يكن يجد معها “معينةً له على شِبْهِهِ”. (تكوين 2 : 20). فهل يعني هذا أنه وجد “معينة” تنحصر مهمّتُها في مساعدته على العمل وعلى “إخضاع الأرض”؟ (تكوين 1 : 28). كلاَّ! فإنّه ممّا لا شكّ فيه أن هذه المعينة هي شريكة حياة، يمكن للرجل أن يتّحد بها كزوجة له وأن يصير معها “جسداً واحداً”، تاركاً لهذه الغاية “أباه وأمّه”. (تكوين 1 : 24). فالنصّ الكتابي يتحدّث إذن عن إنشاء الله للزواج، في إطار خلقه للرجل والمرأة، وكأنه شرط، لا غنىً عنه، لنقل الحياة إلى الأجيال البشرية القادمة، مع العلم بأن الطبيعة قد ربطت الزواج والحبّ الزوجي بنقل هذه الحياة: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها” (تكوين 1 : 28).
الشخصي – الشركة – الموهبة
7- إذا أمعنّا التفكير في مجمل نصّ سفر التكوين (2 : 18 – 25) وفسّرناه على ضوء حقيقة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، (تكوين 1 : 26، 27) نستطيع أن ندرك، على وجه أكمل، ماهيّة الطابع الشخصي للكائن البشري، ذلك الطابع الذي يؤهّل كلاً من الرجل والمرأة لأن يكون شبيهاً بالله. إنّ كلّ إنسانٍ هو، في الواقع، على صورة الله، بوصفه خليقةً عاقلة وحرّة، مؤهّلةً لأن تعرف الله وتحبه. زِدْ على ذلك أنّ الإنسان – على حدّ قول الكتاب – لا يمكن أن يكون وحيداً (تكوين 2 : 18) ولا يمكن أن يوجد إلاّ في “وحدة الاثنين” وبالتالي على علاقةٍ بشخصٍ بشريّ آخر. والمقصود هنا علاقة متبادلة، هي علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل. وعليه فكون الإنسان شخصاً مخلوقاً على صورة الله ومثاله، يفترض أن يكون على علاقةٍ وارتباط “بالأنا” الآخر. وهذا يمهّد لما سيعلنه الله في “تمام الزمان” عن كونه إلهاً واحداً وثالوثاً معاً: أي وحدة حيّة في شركة الآب والابن والروح القدس.
إنّ الكتاب المقدس لم يعلن هذا مباشرةً في بدايته. فإنّ كتب العهد القديم تنطوي أولاً على إعلان حقيقة وحدانية الله ووحدته. وسيُدخل العهد الجديد على هذه الحقيقة الأساسية إعلان سرّ حياة الله الداخلي، المُغْلقة على البشر. فالله الذي أعلن ذاته للناس، عبر السيد المسيح، هو وحدة في ثالوث، أي وحدة في الشركة. وهذا يسلّط ضوءاً جديداً على مضمون صورة الله ومثاله، المتجليين في الإنسان، والوارد ذكرهما في سفر التكوين. فكوْنُ الإنسان المخلوق رجلاً وامرأة، على صورة الله، لا يعني فقط أن كلاً منهما بمفرده شبيه بالله، كخليقةٍ عاقلةٍ وحر!ة، بل إنه يعني أيضاً أن الرجل والمرأة، المخلوقين كوحدةٍ تؤلّف بين اثنين، في إطار طبيعتهما البشرية المشتركة، مدعوّان لأن يعيشا في شركة محبّة، وأن يعكسا هكذا في العالم شركة المحبة القائمة في الله، والتي بموجبها يتبادل الأقانيم الثلاثة الحبّ في سرّ الحياة الإلهية الواحد. فالآب والابن والروح القدس، وهم الإله الواحد في وحدة اللاهوت، هم أيضاً أقانيم ثلاثة بفعل العلاقات الإلهية القائمة بينهم، والتي لا يُسبر غورها. وفي هذا الإطار وحده، يمكننا أن ندرك حقيقة كون الله محبةً في ذاته. (رسالة يوحنا الأولى 4 : 16).
وعليه، فإن صورة الله ومثاله، في الإنسان المخلوق رجلاً وامرأة، يعبران كذلك عن وحدة الاثنين في طبيعتهما البشرية المشتركة (وذلك عن طريق التماثُل الذي يمكننا أن نفترض وجوده بين الخالق والمخلوق). إن “وحدة الاثنين” هذه، التي هي علامة الشركة بين الأشخاص، تُظهر أن الله، حين خلق الإنسان، أراده مشابهاً له في شركته الإلهية. وهذا التشابه اندرج كصفة ملازمة لشخصية الرجل والمرأة، وفي ذات الوقت كدعوةٍ إلى الوحدة وواجب.
إن جذور مسلكية الإنسان تتأصل في صورة الله ومثاله، الذين اتسم بهما الإنسان منذ البدء. وقد تبسط العهدان، القديم والجديد، في تحديد هذه المسلكية (L’éthos) التي تتبوأ قمتها وصية المحبة (25).
إن الرجل والمرأة مدعوان منذ البدء، في إطار “وحدة الاثنين” ليس فقط ليعيشا “الواحد إلى جانب الآخر” أو ليعيشا معاً، بل ليعيش كلُ منهما للآخر”.
وهذا يفسر لنا أيضاً معنى “المُعين” الذي يتحدث عنه سفر التكوين (تكوين 2 : 18 ـ 25) حيث قال الرب: “أصنع له عوناً على شبهه”. ومضمون نص الكتاب يتيح لنا أيضاً أن نستنتج من هذه الآية أن المرأة “تعين الرجل” كما أن الرجل يجب أن يعين المرأة، لأنها، قبل كل شيء، تحمل طابع “الشخص البشري”. وهذا يَحْدو كلاً منهما، على وجهٍ ما، على أن يجدد على الدوام اكتشافه لمضمون إنسانيته الكامل وأن يؤكد هذا المضمون. ومن اليسير أن ندرك، على هذا الصعيد الأساسي، أن التعاون واجب على الطرفين وأنه متبادل. فكَوْن الاثنين بشراً يعني الدعوة إلى المشاركة بين الشخصين. وما ورد في سفر التكوين (2 : 18 ـ 25) يُظهر أن الزواج هو البُعْدُ الأول، وعلى وجهٍ ما، الأساسي لهذه الدعوة. ولا نقول البُعد الأوحد، لأن حياة الإنسان ذاتها على الأرض وعلى مر الزمن، تتحقق في سياق هذه الدعوة. وإذا أخذنا بالمبدأ القاضي بأن يعيش كل إنسانٍ للآخر، ضمن الشركة القائمة بين الأشخاص، نرى، عبر تاريخ البشر، أن ما هو ذكرٌ وما هو انثى يندمجان تدريجياً في البشرية ذاتها كما أرادها الله أن تكون. والنصوص الكتابية، وفي طليعتها سفر التكوين، تتيح لنا أن نهتدي إلى التربية التي تتأصل فيها حقيقة الإنسان، تلك التربية التي تبقى صلبةً ومنيعةً في وجه التحولات الكثيرة الطارئة على الكيان إن لهذا الواقع علاقةً أيضاً بتاريخ الخلاص. وبهذا الصدد نجد في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني عبارة ذات مدلول خاص. ففي الفصل الذي يتناول “المجتمع البشري” والذي تتضمنه الوثيقة الراعوية “فرح ورجاء”، جاء ما يلي: “عندما يطلب الرب يسوع إلى الآب أن يكون الجميع واحداً… (يوحنا 17 : 21، 22) يفتح لنا آفاقاً يتعذر على العقل إدراكها، ويوحي إلينا بأن هناك نوعاً من التشابه بين اتحاد الأقانيم الإلهية واتحاد أبناء الله في الحق والحب. وهذا التشابه يُظهر بوضوح أن الإنسان، وهو الخليقة الوحيدة على الأرض التي أرادها الله لذاتها، لا يمكنه أن يحقق ذاته تماماً ما لم يهب نفسه مجاناً لغيره” (26).
إن هذا النص المجمعي، إذ يعبر عن هذه الحقيقة، يقدم لنا، بأسلوب إجمالي، واقع الرجل والمرأة في مُجْمله ـ هذا الواقع الذي تصوره الفصول الأولى من سفر التكوين ـ وكأنه الهيكلية التي يرتكز عليها التعليم الكتابي والمسيحي بشأن الجنس البشري. إن الإنسان ـ رجلاً وامرأة ـ هو الكائن الوحيد، بين مخلوقات العالم المنظور “الذي أراده الله الخالق لذاته”. فهو إذن شخص. وكَوْنُ الإنسان شخصاً يعني أنه يرمي إلى تحقيق ذاته (أي إلى أن يجد ذاته، على حد قول المجمع)، هذه الذات التي لا يمكن أن تكتمل إلا من خلال التضحية بالنفس مجاناً. والربط بين الشخص وتحقيق ذاته من خلال هذه التضحية، نجد له نموذجاً في الله نفسه، بوصفه ثالوثاً، أي شركة بين الأقانيم. فالقول بأن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله يعني أيضاً أنه مدعو لأن يحيا لغيره وأن يكون هو نفسه عطية.
ودعوة الإنسان لأن يحيا لغيره تنطبق على كل كائن بشري، على النساء والرجال، الذين يجب أن يعملوا على تحقيق هذه الدعوة، كلٌ بما أوتي من خصائص. وفي سياق تأملنا الحاضر في كرامة المرأة ودعوتها، يشكل واقع الكائن البشري هذا نقطة الانطلاق التي لا غنىً عنها. ويتيح لنا سفر التكوين أن نستشف الطابع الزوجي الذي تتسم به العلاقة بين الأشخاص، وكأنه مشروع أولي. وفي هذا الإطار ستتطور حقيقة الأمومة، وكذلك البتولية، كبُعدَين خاصيين لدعوة المرأة، على ضوء الوحي الإلهي. وسيتجسم هذان البُعْدان، على أكمل وجهٍ وحسب الكتب المقدسة، في صورة امرأة الناصرة، العذراء ـ الأم، عندما يحلُ “تمام الأزمنة” (غلاطيين 4:4).
لغة الكتب المقدسة تخلع الصفات البشرية على الله
8ـ إن وصف الإنسان كصورة الله ومثاله، إبتداءً من الصفحات الأولى من الكتاب المقدس، يرتدي معنى آخر. إنه المفتاح لفهم الوحي الكتابي على أنه حديث لله عن ذاته. إنه تعالى حين يتحدث عن نفسه “بفم الأنبياء” كما بفم ابنه” (عبرانيين 1 : 1، 2) الذي صار إنساناً، يستعين بلغةٍ بشرية ومعاني وصورٍ خاصة بالإنسان. وإذا كانت وسيلة التعبير هذه قد تميزت بخلع الصفات البشرية على الله، فلأن الإنسان شبيهٌ بالله ومخلوق على صورته ومثاله. وعليه، فإن الله هو أيضاً “شبيهٌ بالإنسان” إلى حدٍ ما، ولهذا يستطيع البشر أن يعرفوه إنطلاقاً من هذا الشبه. على أن لغة الكتاب هي في ذات الوقت من الدقة بحيث ترسم حدود هذا الشبه وحدود هذا التماثل. فالوحي الكتابي يؤكد فعلاً أنه إذا كان الشبه بين الإنسان والله صحيحاً، فإن بين الخالق والخليقة فوارق (27) هي في الأساس أصح وأعمق. فالله، فوق كل اعتبار، يبقى، بالنسبة إلى الإنسان المخلوق على مثاله، الكائن “الذي يسكن في النور الذي لا يُقترب منه”، (تيموثاوس الأولى 6 : 16) وهو يختلف في الجوهر عن كل ما في الوجود سواه.
يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الملاحظة، التي تحد من التشابه بين الإنسان والله، في لغة الكتاب. وإن وجدنا في الكتاب المقدس (لا سيما في العهد القديم) مقارناتٍ تنسب إلى الله صفاتٍ خاصةً بالذكور أو الإناث، جاز لنا أن نرى فيها تأكيداً غير مباشر لحقيقة خلق الرجل والمرأة، على السواء، على صورة الله ومثاله. وما دام هناك تشابه بين الخالق والمخلوقات، فليس مستغرباً أن يستخدم الكتاب المقدس عبارات تنسب إلى الله صفاتٍ خاصةً بالذكور والإناث.
لنذكر هنا بعض فقرات من سفر أشعيا النبي تندرج في هذا الإطار: “قالت صهيون: قد خذلني الرب ونسيني السيد. أتنسى المرأة مُرضعها، فلا ترحم ابن بطنها؟ لكن لو أن هؤلاء نسين، لا أنساك أنا”. (أشعيا 49 : 14، 15). وفي مكان آخر: “كما تُعزيه أمه، كذلك أُعزيكم أنا، وفي أورشليم تُعزون”. (أشعيا 66: 13). كذلك شُبَّه الله، في سفر المزامير، بالأم اليقظة: “إن كنت لم أخفض نفسي ولم أسكِّنها، فمثل مفطومٍ عند أمه، لتُفطم عندي نفسي. ليكن إسرائيل راجياً للربّ”. (مزمور 131 : 2، 3). وهناك فقراتٌ تقارن بين حبّ الله الساهر على شعبه وحبّ الأم لولدها: “فالآن أصيح كالتي تلد، وأنفخ وأزفر… اسمعوا لي يا آل يعقوب ويا بقيّة آل إسرائيل… أنا صنعتكم فأنا أحملكم”. (أشعيا 42 : 14 و 46 : 3 ، 4). وهناك آياتٌ كثيرة تشبّه حبّ الله بحبّ الرجل، زوجاً كان أو أباً (هوشع 11 : 1 ـ 4 وإرميا 3 : 4 : 19) وكذلك بحب المرأة كأم.
إن هذا الطابع في لغة الكتاب وأسلوبه في الحديث عن الله، وكأنه إنسان، يوضح أيضاً، بطريقة غير مباشرة، سر الولادة الأزلية، التي هي من مقومات حياة الله الداخلية. لكن هذه الولادة لا تتسم في ذاتها بأي طابع ذكريٍ أوأنثوي. إنها ذات طابعٍ إلهيٍ صرف. إنها روحية، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لأن “الله روح”، (يوحنا 4 : 24) وليست لها أية صفة تربطها بالجسد، سواء كان جسد أنثى أو ذكر. وبالتالي، فإن الأبوة في الله هي أيضاً إلهية كلياً، مستقلة عن الطابع الجسدي، الخاص بالذكر، و الذي هو من خصائص الأبوة البشرية. وفي هذا السياق، كان العهد القديم يتحدث عن الله ويخاطبه كأب وعندما ركز السيد المسيح على هذا الواقع في إنجيله، وجعل منه قاعدةً للصلاة المسيحية، وعندما كان يتوجه إلى الله، داعياً إياه، “أبا، أيها الآب” (مرقس 14 : 36) بصفته الابن الوحيد، المساوي له في الجوهر، كان يقصد بذلك الأبوة بهذا المعنى، الذي يتخطّى الجسد والطبيعة البشرية. إنّه كان يتحدث كابنٍ لله، يربطه بالآب سرّ الولادة الإلهيّة الأزليّ، وفي ذات الوقت، كابن بشريّ حقيقي لأمه العذراء.
ولمّا كان من غير المستطاع إسناد صفات بشريّة إلى ولادة كلمة الله الأزلية، ولمّا كانت الأبوّة الإلهية لا تملك ميزات الذكر بالمعنى الماديّ للكلمة، وجب علينا، على النقيض من ذلك، أن نبحث في الله عن النموذج المطلق لكلّ ولادة في دنيا الكائنات البشرية. ويبدو أنّ ما ورد في الرسالة إلى أهل أفسس، يأخذ هذا المنحى: “لهذا أجثو على ركبتيَّ للآب، فمنه كلّ أبوَّةٍ في السماء والأرض”. (أفسس 3 : 14، 15). إنّ كل ولادة على صعيد المخلوقات، تجد مثالها الأعلى في الولادة التي تتمّ في الله، على نحوٍ إلهي، أي روحيّ كامل. وكلّ “ولادة” في العالم المخلوق تتمثّل بهذا النموذج المطلق غير المخلوق. ولهذا نرى أن كلّ ما يختصّ بالرجل، وكذلك المرأة، من حيث التوالد البشري – أعني الأبوّة والأمومة البشريّتين – يحمل في ذاته التشابه، أي التماثل، مع الولادة الإلهية، ومع أبوّة الله، التي تختلف عنه تماماً، والتي هي، في الجوهر، كاملة في روحانيّتها وألوهتها. أمّا على المستوى البشريّ، فالتناسل، على نقيض ذلك، من خصائص “وحدة الاثنين”. فالرجل، وكذلك المرأة، يتناسلان.
القسم الرابع
حواء ومريم
البدء والخطيئة
9- “إن الإنسان الذي أبدعه الله في حالة البرارة، قد أغواه الشيطان منذ بدء التاريخ، فأساء استعمال حرّيته، منتصباً في وجه الله، وراغباً في تقرير مصيره خارجاً عنه” (28). بهذه الكلمات يذكرنا تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني بالعقيدة المعلنة عن الخطيئة، ولا سيّما الخطيئة الأولى، المسمّاة الأصليّة. إنّ “البدء” الكتابي – أي خلق العالم، والإنسان في العالم، يتضمّن الحقيقة بشأن الخطيئة، التي يمكن تسميتها خطيئة نشأة الإنسان في الأرض. وإذا كان ما جاء في سفر التكوين قد ورد في صورة رواية رمزيّة – وهذا هو الأسلوب المتّبع فعلاً في وصف خلق الإنسان ذكراً وأنثى (تكوين 2 : 18 – 25) – فإنّ هذا السفر يُعلن، في ذات الوقت، ما يجب تسميته “سرّ الخطيئة”، أو بصفةٍ أشمل “سرّ الشرّ”.
وليس في الإمكان قراءة “سرّ الخطيئة” دون الرجوع إلى مُجمل الحقيقة بشأن خلق الإنسان على صورة الله ومثاله. هذا هو أساس الأنتروبولوجيا، أي البحث في أصول الجنس البشري، كما وردت في الكتاب. إنّ هذه الحقيقة تخلع على خلق الإنسان صفة هبةٍ خاصّة من لدن الله، تلك الهبة التي تشمل، ليس فقط واقع الكرامة الأساسية التي ينعم بها الكائن البشريّ – رجلاً كان أو امرأة – في العالم المخلوق، ومصدر هذه الكرامة، بل تشمل كذلك مصدر دعوتهما، كليهما، للمشاركة في حياة الله الباطنة. وعلى ضوء الوحي الإلهي، نرى الخلق يقترن، في ذات الوقت، بنشأة تاريخ الخلاص. ففي بدء الخليقة بالذات إندرجت الخطيئة، تحت شعار المقاومة والرفض، وتجسدت فيهما.
ويمكن القول، على سبيل المفارقة، إن الخطيئة الوارد ذكرها في الفصل الثالث من سفر التكوين، تؤكّد حقيقة كون الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله، ما دامت هذه الحقيقة تعني الحرّية، أي إرادة الإنسان الحرّة، سواء استعملها في إختيار الخير، أو أساء استعمالها في اختيار الشر، مقاوماً بهذا إرادة الله. إنّ الخطيئة، في مضمونها العميق، هي رفض الإنسان لله كربٍ وخالق، كما أنها رفضٌ لما يريده الله للإنسان منذ البدء وعلى الدوام. إنه تعالى، حين خلق الرجل والمرأة على صورته ومثاله، أراد لهما ملء الخير، أعني السعادة فائقةَ الطبيعة، النابعة من مشاركتهما إيّاه في حياته ذاتها. وحين يرتكب الإنسان الخطيئة يرفض هذه العطية، وفي ذات الآن يريد أن يصبح، هو نفسه، “كإلهٍ يعرف أين هو الخير وأين هو الشر” (تكوين 3 : 5) أي يقرّر ما هو خير وما هو شرّ، بمعزلٍ عن الله خالقه. إنّ البعد البشري للخطيئة الأصلية ومقياسها الباطنيّ يكمنان في إرادة الإنسان الحرّة، كما أنهما يتّسمان، في ذات الوقت، بطابع شيطانيّ معيّن (29)، حسبما ورد بوضوح في سفر التكوين (3 : 1 – 5). إن الخطيئة تؤدّي إلى فصم رباط الوحدة الذاتية الأصليّة، التي كان الإنسان ينعم بها، في حالة البرارة الأصلية، كما أنها تبطل الاتحاد بالله، الذي هو مصدر وحدة الإنسان، سواءٌ في صميم “الأنا” الذاتي، أو في العلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة (شركة الأشخاص) أو في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي وبالطبيعة.
إن الوصف الكتابي للخطيئة الأصليّة، كما ورد في الفصل الثالث من سفر التكوين، يُوزّع الأدوار، على وجه ما، ويحدّد الدور الذي لعبه كلّ من المرأة والرجل. وستشير إلى هذا بعض فقرات من الكتاب المقدّس، في ما بعد. نذكر منها، على سبيل المثال، ما ورد في رسالة القديس بولس إلى تيموثاوس،: “إنّ آدم هو الذي جُبل أولاً، وبعده حواء. ولم يُغو آدم، بل المرأة هي التي أغويت، فوقعت في المعصية” (أولى تيموثاوس 2 : 13، 14). على أنه لا شكّ في أن الخطيئة الأولى، بصرف النظر عن هذا التوزيع للأدوار، في النصّ الكتابي، هي خطيئة الكائن البشري، الذي أبدعه الله ذكراً وأنثى. وهي أيضاً خطيئة الأبوين الأولين، المرتبطة بالطابع الوراثي، ولهذا نسمّيها الخطيئة الأصلية.
لا يسعنا، كما سبق القول، أن نستوعب مفهوم الخطيئة دون الرجوع إلى سر خلق الكائن البشري – رجلاً وامرأة – على صورة الله ومثاله. وعندما نرجع إلى سرّ الخلق هذا، نستطيع أن ندرك كذلك سرّ فقدان التشابه مع الله، الذي “هو وحده صالح” (متى 19 : 17) والذي هو ملء الخير. وفقدان التشابه معه، الذي هو الخطيئة بالذات، يتجلّى في الشرّ الملازم لتاريخ العالم. وإذا كانت خطيئة فقدان التشابه مع الله، الذي هو القداسة بالذات، تفترض أن نكون شبيهين به في مجال الحرية والإرادة الحرّة، يمكننا القول إنطلاقاً من هذه الازدواجية إنّ فقدان التشابه مع الله، الملازم للخطيئة، هو أكثر مأسويةً وأكثر إيلاماً. ويجب أن نسلّم بأننا بالخطيئة نسيء إلى الله، بصفته خالقاً وأباً، ونهينه بالطبع في صميم عطيّته، عبر سوء استعمالنا لموهبة الحرّية التي أعطانا إياها، والتي تندرج في إطار قصد الله الأزلي من خلقه الإنسان.
غير أن الكائن البشري ـ رجلاً كان أو امرأةً ـ يتأثر هو أيضاً بشر الخطيئة التي يرتكبها. وقد وردت في سفر التكوين (الفصل الثالث) أقوالٌ تصف بوضوح الوضع الجديد، الذي طرأ على الإنسان في العالم المخلوق. وهي تكشف عما ينتظر الإنسان من مشقةً، للحصول على قوته (تكوين 3 : 17 ـ 19). وما ستتحمله المرأة من آلام مُبرحة، حين تلد أولادها (تكوين 3 : 16). وكل هذا يحمل طابع الموت المحتم، الذي يضع حداً للحياة البشرية على الأرض. وهكذا “يعود الإنسان الترابيُ إلى الأرض التي منها أخذ”: “ترابٌ أنت وإلى التراب تعود”. (تكوين 3 : 19).
إن مفعول هذه الكلمات يتأكد على مر الأجيال. إنها لا تعني أن صورة الله ومثاله في الكائن البشري ـ امرأةً كان أو رجلاً ـ قد قضت عليهما الخطيئة، بل تعني أنهما قد غشتهما الظلمة (30) وتضاءلا، على وجهٍ ما.
إن الخطيئة، على حد قول المجمع الفاتيكاني الثاني (31)، تحطُ من قدر الإنسان. فإذا كان الإنسان، بطبيعته كشخص، هو صورة الله ومثاله، فإن عظمته وكرامته تزدهران بتحالفه مع الله والاتحاد به والعمل على ترسيخ الوحدة الأساسية، التي تندرج في المفهوم الباطني لسر الخلق بالذات.
إن هذه الوحدة تستجيب للواقع العميق لجميع المخلوقات العاقلة، لا سيما الإنسان، وهو الوحيد، بين خلاثق العالم المنظور، الذي رفعه الله من البدء، حين اختاره في يسوع منذ الأزل، على حد قول بولس الرسول: “لقد اختارنا قبل إنشاء العالم، لنكون عنده قديسين، بلا عيب، في المحبة. وقدر لنا أن يتبنانا بيسوع المسيح”. (أفسس 1 : 4 ـ ).
“إنه سيسود عليكِ”
10ـ إن النص الوارد في سفر التكوين يحدد عواقب خطيئة الإنسان، كما يُبرز اختلال التوازن في العلاقات الأصلية بين الرجل والمرأة، تلك العلاقات التي كانت تليق بكرامة كل منهما، بوصفه شخصاً بشرياً. إن الكائن البشري، رجلاً كان أو امرأة، هو شخص. وهذا يعني أنه، على الأرض، “الخليقة الوحيدة التي أبدعها الله لذاتها”، وهي الوحيدة على الإطلاق التي لا يمكنها “أن تحقق ذاتها إلا إذا بذلت نفسها بدون مقابل” (32). من هنا تنشأ علاقة “الشركة” التي تتجلى من خلالها “وحدة الاثنين” والكرامة الشخصية للرجل والمرأة. وعليه، فإننا حين نقرأ في الكتاب الكلام الموجه إلى المرأة: “إلى بعلك تنقاد أشواقك، وهو يسود عليك”، (تكوين 3 : 16) نجد فيه تصدعاً في “وحدة الاثنين” وتحدياً لهذه الوحدة التي تنفق وكرامة صورة الله ومثاله، المعطاة لهما. إلا أن هذا التحدي يبدو أكثر خطورة بالنسبة إلى المرأة. إن عنصر التسلط قد تسرب فعلاً إلى كيانٍ يجب أن يقوم على العطاء المجاني، وأن يبلغ حد العيش في سبيل الآخر: “سيسود عليكِ”. إن هذا التسلط يعني الإخلال بالمساواة الأساسية التي يتمتع بها الرجل والمرأة في “وحدة الاثنين” وعدم إستقرارها. وهذا يكون على حساب المرأة أولاً، فيما المساواة النابعة من كرامة الاثنين، بصفتهما شخصين، تستطيع وحدها أن تطبع علاقاتهما المتبادلة بطابع الشركة الحقيقية بين الأشخاص. وإذا كان انتهاك هذه المساواة، التي هي، في ذات الوقت، هبةٌ من الله الخالق وحقٌ ممنوحٌ منه، ينطوي على مضمونٍ يُسيء إلى المرأة، فإنه، بذات الفعل، ينتقص من كرامة الرجل الحقيقية. إننا نتعرض هنا لنقطة بالغة الدقة، في مجال المسلكية التي حددها الخالق منذ البدء حين خلق الاثنين على صورته ومثاله.
إن تصريح سفر التكوين هذا (تكوين 3 : 16) بعيد المرمى والمعنى. فهو يشير إلى العلاقة المتبادلة بين الرجل والمرأة كزوجين، ويتعلق بالشهوة الناشئة في نطاق الحب الزوجي، بحيث أن “هبة الذات المجانية” من قبل المرأة تنتظر بالمقابل أن تكتمل بهبةٍ ممائلةٍ من قبل الزوج. ولا يستطيع الزوجان، ولا سيما المرأة، أن يتواجدا في “وحدة الاثنين” االحقيقية، التي تقتضيها الكرامة الشخصية، إلا استناداً إلى هذا المبدأ. إن الاتحاد الزوجي يتطلب احترام الشخصية الحقيقية للزوجين كليهما وكمالها، ولا يجوز أن تصبح المرأة مادةً لسيطرة الرجل واستمتاعه. وإذا كان الكلام الوارد في الكتاب المقدس يندرج مباشرة في نطاق الخطيئة الأصلية وآثارها الدائمة في الرجل والمرأة، فعلى كليهما تقع تبعة الخطأ الموروث، وكلاهما يحملان في ذاتهما بلا انقطاع “سبب الخطيئة” أعني النزعة إلى إفساد النظام الأخلاقي، الذي يليق بطبيعة الإنسان العقلية ذاتها و بكرامته كشخص. وهذه النزعة تتجلى في الشهوات الثلاث التي يحددها الرسول، وهي شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى (يوحنا الأولى 2 : 16). ويتضح من كلام سفر التكوين الذي ذكرناه (تكوين 3 : 16) أن هذه الشهوات الثلاث، التي تدفع الإنسان إلى الخطيئة، تعرقل العلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة.
وإذا كان هذا الكلام يتعلق مباشرة بالزواج، فإنه يتناول أيضاً، بصفةٍ غير مباشرة، مجالات التعايش على اختلافها، وحالات الإجحاف والتفرقة التي تعاني منها المرأة، لمجرد كونها امرأة. والحقيقة المُعلنة عن خلق الإنسان رجلاً وامرأة، تشكل الحجة الأساسية، الرافضة لجميع الأوضاع الضارة، أي الجائرة، التي خلفتها الخطيئة الموروثة من البشر جميعاً. وتؤكد الكتب المقدسة، في مواضع مختلفةٍ منها، الوجود الفعلي لمثل هذه الأوضاع، كما تُعلن، في ذات الوقت، ضرورة التوبة، أي تطهير الذات من الشر، والتحرر من الخطيئة، ومما يسيء إلى الآخرين ويحط من قدر الإنسان، سواءٌ كان ضحية الإساءة أو فاعلها. هذا هو المضمون الثابت للكلمة المعلنة من الله، وهذا ما تعبر عنه المسلكية (L’éthos) الكتابيّة على الدوام (33).
لقد اتخذت قضيّة حقوق المرأة في أيامنا بُعداً جديداً، ضمن الإطار الواسع لحقوق الشخص البشري. وإذ يُلقي المضمون التوراتي والإنجيليُّ الضوء على هذا النهج، الذي يُعلن باستمرار ويُعاد التذكير به بكلّ الوسائل، فهو يصون مبدأ “وحدة الاثنين” أعني الكرامة والدعوة النابعتين من التباين الشخصي والنوعي بين الرجل والمرأة، ومن تفرّد كلٍ منهما بشخصيته. ولهذا، إذا جاز اعتراض المرأة على ما جاء في التوراة، عن تسلط الرجل عليها، فإنه لا يجوز للمرأة – تحت ستار التحرّر من تسلّط الرجل – أن تسعى إلى انتحال ميزات الرجولة، على حساب ما تتفرّد به من ميزات الأنوثة. وإنه لمن المؤكد أن المرأة، إن فعلت هذا، لن تزداد نموّاً، بل ستتعرّض، على عكس ذلك، لتشويه بل ولفقدان ما تمتاز به من ثروة أساسية. إنها لثروةٌ ضخمة والصيحة التي أطلقها الرجل الأول حين رأى المرأة التي أبدعها الله، هي، كما ورد ذكرها في التوراة، صيحة إعجابٍ وافتتان، طبعت الرجل مدى الحياة، وامتدت عبر الأجيال.
إن ثروات الأنوثة الشخصية لا تقلُّ عن ثروات الذكور، لكنها تختلف عنها فقط. وعلى المرأة أن تُقوِّم شخصيتها وكرامتها ودعوتها من خلال هذه الثروات المميّزة لأنوثتها، والتي حصلت عليها يوم خُلقَت، ولا تزال النساء يتوارثنها، باعتبارها الصيغة الخاصّة التي تتحقّق عبرها، في المرأة، صورة الله ومثاله.
ومن هنا يجب أن ننطلق لنتخطى كذلك الواقع الذي خلّفته لنا الخطيئة والذي تُعلنه كلمات التوراة: “إلى بَعْلِكِ تنقاد أشواقك، وهو يسود عليكِ”. وعلى كل كائنٍ بشريّ، رجلاً كان أو امرأةً، أن يتجاوز، على مرّ الأجيال، هذا الواقع الأليم الموروث. وكلّما أقدم الرجل على عمل يُسيء إلى كرامة المرأة الشخصية وإلى دعوتها، فإنّه يُسيء إلى كرامته الذاتية وإلى دعوته.
البشارة الأولى (Le Protévangile)
11- إنّ سفر التكوين يؤكّد وجود الخطيئة، وهي الشرّ الذي صنعه الإنسان في “البدء” كما يؤكّد عواقبها التي لا يزال الجنس البشري بأجمعه ينوء تحتها منذ ذلك الحين. كما أن هذا السفر ينطوي، في ذات الوقت، على البُشرى الأولى للانتصار على الشرّ وعلى الخطيئة، في الآية الخامسة عشرة من الفصل الثالث، التي جرت تسميتها بالبشارة الأولى، حيث يخاطب الله الحيّة قائلاً: “أجعل عداوةً بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، فهو يسحقُ رأسك، وأنتِ ترصُدين عقبه”. ولهذه الآية مدلولها ومغزاها، إذ إنّ البشرى بالفادي مخلّص العالم، التي تحملها هذه الكلمات، موجّهةٌ إلى المرأة، “وكأنّها من شأنها”. وقد ورد ذكر المرأة في الشطر الأول من البشارة الأولى، بصفتها السلف الذي سيخرج من نسله فادي الإنسان (34). وإذا وجب أن يتحقق الفداء عن طريق مكافحة الشرّ والعداوة بين نسل المرأة ونسل ذلك الذي كان، بوصفه “أبا الكذب” (يوحنا 8 : 44) المسبب الأول للخطيئة في تاريخ الإنسان، فإنّ هذه العداوة ستكون، في ذات الوقت، عداوةً بينه وبين المرأة.
من خلال هذه الكلمات، تنكشف أبعاد الوحي كلّه. فهو أولاً يمهّد للإنجيل، ثم إنه الإنجيل نفسه. وعبر هذه الأبعاد يتجلّى وجهان للمرأة، إذ تلتقي حواء ومريم حول تلك التي نسمّيها المرأة.
إن كلمات البشارة الأولى، الواردة في سرّ التكوين، إذا تلوناها على ضوء العهد الجديد، تعبّر تعبيراً كاملاً عن دور المرأة، ومشاركتها في كفاح الفادي الخلاصي ضدّ مسبّب الشرّ في تاريخ البشر.
إن المقارنة بني حواء ومريم تطرح ذاتها باستمرار، عندما نفكّر في وديعة الإيمان، الذي ينقله إلينا الوحيّ الإلهي. وهذا الموضوع هو من المواضيع التي كثيراً ما تناولها بالبحث آباء الكنيسة والكُتّاب الكنسيّون واللاهوتيّون (35). وهذه المقارنة تُفسِرُ عادةً عن اختلافٍ، بل عن تناقضٍ بين حوّاء ومريم. فحواء “أم جميع الأحياء” (تكوين 3 : 20) تشهد لما جاء في “بدء” التوراة، عن واقع خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، وعن واقع الخطيئة الأصليّة، فيما تشهد مريم “للبدء” الجديد و”للخليقة الجديدة” (كورنثوس الثانية 5 : 17) وهي نفسها، فضلاً عن ذلك، الخليقة الجديدة و”الممتلئة نعمة”. ومن العسير أن نفهم لماذا تُصرُّّ “البشارة الأولى” على إبراز وجه المرأة، إذا لم ندرك الدور الذي أنيط بها في بدء العهد الجديد والنهائي، المعقود بين الله والبشرية، وهو العهد الممهور بدم المسيح الفادي. إنّ هذا العهد الجديد بدأ مع امرأةٍ، مع “المرأة” في بشارة الناصرة. هذا هو الجديد، جديد الإنجيل على الإطلاق. صحيح أن الله، حين شاء التدخّل في تاريخ شعبه، في ظروفٍ أخرى من العهد القديم، استعان بنساءٍ، نذكر منهنَّ أم صموئيل وأمّ شمشون. إلاّ أنه لم يستعن إلاّ بالرجال وحدهم ليُبرم عهداً مع البشرية. وهؤلاء الرجال هم نوح وإبراهيم وموسى. لكنّا نجد المرأة، عذراء الناصرة، في طليعة العهد الجديد، الذي أراده الله أبديّا ولا رجوع فيه. وهذا هو الدليل على أنه “ليس في يسوع المسيح رجلٌ وامراة” (غلاطية 3 : 28) ففي المسيح يَبْطُلُ أساساً التعارض بين الرجل والمرأة، الذي ورثناه عن الخطيئة الأصلية، على حدّ قول الرسول: “إنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلاطية 3 : 28).
إنّ هذه الكلمات تشير إلى “وحدة الاثنين” في الأصل، تلك الوحدة المرتبطة بكون الله قد خلق الكائن البشريّ، رجلاً وامرأة، على صورته ومثاله، وهي تعكس الشركة الكليّة الكمال، القائمة بين الأقانيم، في ذات الله. وتعبير الرسول بولس ينمُّ عن كون سرّ فداء الإنسان بيسوع المسيح، ابن مريم، يكرّر ويجدّد ما ورد في سرّ الخلق، بشأن قصد الخالق الأزلي. ولهذا السبب نفسه نقرأ في الكتاب أنّ الله، يوم خلق الكائن البشريّ رجلاً وامرأة “رأى جميع ما صنع، فإذا هو حسنٌ جداً”. (تكوين 1 : 31). ويمكن القول إن الفداء أعاد جذريّاً الخير الذي قلّصته في الأساس الخطيئة وما خلّفته من آثار في تاريخ الإنسان.
إنّ المرأة، المذكورة في البشارة الأولى من سفر التكوين، تندرج في منظور الفداء. ويمكن المقارنة أيضاً بني حوّاء ومريم، باعتبار أنّ سرّ “المرأة” البادئ بحوّاء “أمّ جميع الأحياء” (تكوين 3 : 20) قد اضطلعت به مريم وأصبح شأناً من شؤونها، أوّلاً ضمن سرّ المسيح “آدم الآخر” (كورنثوس الأولى 15 : 54) الذي استوعب في شخصه طبيعة آدم الأول. ويكمن طابع العهد الجديد في كون ابن الله، الواحد مع الآب الأزلي في الجوهر، صار إنساناً، وأشرك الإنسانية في وحدة شخص الكلمة الإلهي. وبهذا يكون القائم بالفداء، في ذات الوقت، إنساناً حقيقياً. إنّ سرّ افتداء العالم يفترض أن الله الابن إستوعب الطبيعة الإنسانية الموروثة عن آدم، وأصبح شبيهاً به وبكلّّ إنسان “في كل شيء، ما عدا الخطيئة”. (عبرانيين 4 : 15) وهكذا كشف لنا، نحن البشر، عن هويّتنا بجلاء، وعن سموّ دعوتنا، على حدّ تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني (36). ويمكن القول إن سرّ إفتدائنا ساعدنا على أن نعي من جديد “من هو الإنسان” (مزمور 8 : 5).
وإنّ المقارنة بين آدم والمسيح، في عُرف جميع الأجيال، كثيراً ما تقترن بالمقارنة بين حوّاء ومريم. وإذا وُصِفَت مريم بأنها “حوّاء الجديدة” كما أنّ المسيح هو آدم الجديد، علام تدلّ هذه الممائلة؟ إن لها، بلا شك، دلالات عديدة. إلاّّ أنه يجدر بنا التوقّف، بنوع خاص، عند اعتبار مريم الإعلان الكامل لكلّ ما تنطوي عليه كلمة امرأة في التوراة من معنى، إعلاناً على مستوى سرّ الفداء. ويُثير اسم مريم، بطريقة ما، إلى تجاوز الحدود التي يتحدث عنها سفر التكوين (تكوين 3 : 16) والعودة إلى “البدء” حيث كانت المرأة، كما أراد الله لها أن تكون يوم خلقت، وبالتالي كما كانت في فكر الله الأزليّ وفي أحضان الثالوث الكليّ القداسة. إنّ مريم هي “البدء الجديد” لكرامة المرأة ودعوتها (37)، ونعني بالمرأة جميع النساء وكلّ واحدة منهنَّ.
أمّا المدخل لفهم ما سبق، فيمكننا أن نجده بنوع خاص في العبارة التي وضعها الإنجيليّ على شفتي مريم، لدى زيارتها لأليصابات عقب البشارة: “إنه صنع لي عظائم” (لوقا 1 : 49). إن هذه العبارة تشير بالطبع إلى حبلها بابنها، الذي هو “ابن الله العليّ” (لوقا 1 : 32)، قدوس الله. كما قد تشير، في ذات الوقت، إلى الطابع الأنثوي لإنسانيّتها. “إن القدير صنع بي عظائم”. لقد كشفت مريم بهذه الكلمات عن المواهب وعن جميع الثروات الخاصّة بالأنوثة، وعن أصالة المرأة الأزليّة، التي أرادها الله شخصاً بذاتها، جديرةً بأن تحقق ذاتها، في الوقت نفسه، عن طريق “هبة نفسها بلا مقابل”.
إن هذا الاكتشاف يقترن بوعي المرأة الواضح لعطيّة الله ولهباته السخيّة. لقد أضعفت الخطيئة، منذ “البدء”، هذا الوعي، ويمكن القول إنها خنقته. ويتّضح هذا من خلال رواية التجربة الأولى التي تعرّض لها الإنسان من قبل “أبي الكذب” (تكوين 3 : 1 – 5). فلمّا جاء “تمام الزمان” (غلاطية 4:4) وبدأ سرّ الفداء يتحقّق في تاريخ البشرية، برز هذا الوعي بكلّ أبعاده، في كلمات “امرأة” الناصرة، الوارد ذكرها في الكتاب. فاكتشفت حوّاء، من جديد، في شخص مريم، الكرامة الحقيقية للمرأة، أي للإناث من البشر. وعلى كل امرأة أن تفتح قلبها، على الدوام، لهذا الاكتشاف، الذي يُشعرها بما ينطوي عليه دعوتها وحياتها من قيم.
القسم الخامس
يسوع المسيح
“فعجبوا إذ رأوه يحادث امرأة”
12- إنّ ما ورد في البشارة الأولى، في سفر التكوين، يتيح لنا أن نرجع إلى الإنجيل. إن افتداء الإنسان، الذي تُعلنه هذه البشارة، يصبح هنا أمراً واقعاً في شخص يسوع المسيح، وفي رسالته، حيث نكتشف كذلك مضمون حقيقة الفداء بالنسبة إلى كرامة المرأة ودعوتها. وهذا المضمون يتجلّى بصورة خاصّة في حديث المسيح مع النساء وفي موقفه الدائم منهنَّ، هذا الموقف البسيط للغاية وغير المألوف في عُرْفِ ذلك الزمن. إنه موقف يتميّز بعمقٍ وصفاءٍ كبيرين. فقد لاقى يسوع الناصريّ، في أثناء قيامه برسالته، عدداً من النساء، وكان لقاؤه لكلٍ منهنَّ يؤكّد في الواقع هذا المنحى الإنجيلي الجديد، الذي ألمحنا إليه.
إنه لمن المسلّم به عموماّ – ولدى ناقدي الرسالة المسيحية أنفسهم – أنّ السيد المسيح نصَّب نفسه أمام مُعاصريه مدافعاً عن كرامة المرأة الحقيقيّة وعن دعوتها التي تستدعيها هذه الكرامة. وكان هذا أحياناً مثيراً للاستغراب والدهشة، وكثيراً ما كاد يثير الشكوك: “فعجبوا إذ رأوه يحادث امرأة” (يوحنا 4 : 27) لأنّ هذا التصرّف كان يتنافى مع العوائد المرعيّة لدى معاصريه. وتلاميذ المسيح أنفسهم كانوا يعجبون. وحين دخلت المرأة الخاطئة إلى بيت الفرّيسي، لتسكب الطيوب على قدمي يسوع، قال الفرّيسيُّ في نفسه: “لو كان هذا الرجل نبياً، لعلم من هي المرأة التي تلمُسه وما حالها: إنها خاطئة”. (لوقا 7 : 39). أما قول السيد المسيح: “إنّ العشّارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله” (متى 21 : 31) فقد أثار الذهول أكثر، لا بل أثار “السُخط المقدّس” لدى سامعيه المتغطرسين.
والذي كان يتفوّه بهذا الكلام، كان يؤكّد أنه على معرفة كاملة “بأسرار الملكوت” كما كان “يعرف ما في الإنسان” (يوحنا 2 : 25) وما يُضمر في باطنه وفي قلبه. وكان الشاهد لتدبير الله الأزليّ، في ما يتعلّق بالكائن البشريّ، الذي أبدعه، رجلاً وامرأةً، على صورته ومثاله. كما أنه كان يعي تماماً عواقب الخطيئة و”سرّ الإثم” الذي يعبث بقلب الإنسان ويحجب صورة الله التي فيه. وإنّ يسوع، في حديثه الهامّ عن الزواج، وعدم قبوله للفسخ، أحال إلى ما جرى في “البدء” مخاطبيه الكتبة، العارفين بالشريعة بحكم وظيفتهم. ولا يخفى ما لهذه الإحالة من مغزى. إنّ السؤال الذي طرحوه يتعلّق بحقّ “الرجل” في “تطليق زوجته لأجل كلّ علّة” (متى 19 : 3). وهو يتعرّض، بذات الفعل، لحقّ المرأة وموقعها الصحيح في الزواج وكرامتها (لأن الحدّ من حقّ الرجل يفترض أنّ للمرأة هي أيضاً حقاً يحدّه). لقد كان يُخيّل للمخاطبين أن التشريع الموسويّ، المعمول به في إسرائيل هو لصالحهم، إذ “أمر موسى أن تُعطى (المرأة) كتاب طلاقٍ وتُسرّح” (متى 19 : 7). أمّا يسوع فأجابهم: “إنه من أجل قساوة قلوبكم رخّص لكم موسى في طلاق نسائكم، ولم يكن الأمر منذ البدء هكذا” (متى 19 : 8). إنّ يسوع أحالهم إلى “البدء” أي إلى خلق الكائن البشري، رجلاً وامرأةً، وإلى قصد الله، المبنيّ على كون الاثنين مخلوقين “على صورته ومثاله”. وقول الكتاب، الذي يذكّرهم به يسوع، والذي يقضي بأن “يترك الرجل أباه وأمّه” ليلزم امرأته، بحيث يُصبح الاثنان “جسداً واحدلً” (إن هذا القول) يعني أن الشريعة، التي وضعها الله، سارية المفعول: “ما جمعه الله، لا يفرّقه الإنسان”. (متى 19 : 6).
إنّ مبدأ هذه المسلكيّة، المُدرج منذ “البدء” في واقع الخلق، يؤكّده الأن السيد المسيح، في مواجهة التقليد الذي يميّز بين المرأة والرجل. لقد كان الرجل هو المتسلط، بموجب هذا التقليد، دون أن يأخذ بعين الاعتبار، وبما فيه الكفاية، المرأة، وكرامتها التي وضعتها مسلكية الخلق في أساس العلاقات المتبادلة بين الشخصيّن، الذين يجمع بينهما رباط الزوجيّة. تلك هي مسلكيّة الإنجيل والفداء، التي تُذكر بها أقوال، السيد المسيح، وتؤكّدها.
النسوة في الإنجيل
13- إنّ من يتصفّح الإنجيل يستعرض عدداً كبيراً من النساء، يختلفن في سنَّهنَّ ووضعهنّ. يرى نساء مصابات بالمرض أو بالآلام الجسدية، كتلك المرأة التي “إستولى عليها روح فأمرضها منذ ثماني عشرة سنة، فجعلها قوساء الظهر، لا تستطيع أن تنتصب البتة” (لوقا 13 : 11) و”حماة سمعان التي كانت مُلقاةً على الفراش محمومة” (مرقس 1 : 30) وامرأة أخرى مصابة بنزيف دمٍ (مرقس 5 : 25 – 34) ولم يكن مصرّحاً لها بأن تلمس أحداً، لأن الإنسان الذي تلمسه كان يُعتبر نجساً. لقد شُفين جميعاً، فيما الأخيرة المصابة بالنزيف، والتي لمست ثوب يسوع “في وسط الجمع” (مرقس 5 : 27). أشاد السيّد بعظمة إيمانها قائلاً لها: “إيمانك خلّصك” (مرقس 5 : 34). وهناك إبنة يائير، التي أعادها يسوع إلى الحياة، قائلاً لها في حنان: “يا صبيّةُ، لك أقول قومي!” (مرقس 5 : 41) وأرملة نائين التي أعاد يسوع إلى ابنها الوحيد الحياة، وقرن بادرته بالتعبير عن شفقته الودودة، إذ “تحنّن عليها، وقال لها لا تبكي” (لوقا 7 : 13). وهناك أخيراً المرأة الكنعانيّة، التي طلبت إليه أن يشفي ابنتها، والتي وجّه إليها عبارات التقدير الخاص، بسبب إيمانها وتواضعها، والمروءة التي يتفرد بها قلب الأم: “يا امرأة! إنّ إيمانك لعظيم، فليكن لك ما تريدين”. (مت 15 : 28).
وكانت النساء اللواتي يقابلُهنَّ يسوع، ويُنعم عليهنَّ بنعم غزيرة، يُرافقنه أحياناً في تجواله عبر المدن والقرى، حيث كان يُبشر بإنجيل ملكوت الله، “وكنَّ يبذُلن من أموالهنَّ في خدمته”، وبينهنَّ من يذكر الإنجيل إسمهنَّ، أمثال حنّة، امرأة قوزى، خازن هيرودس، وسوسنة، و”غيرهنَّ كثيرات” (لوقا 8 : 1 – 3).
وكان يسوع الناصريّ يُدرج أحياناً شخصيات نسائية في الأمثال التي كان يُوضّح فيها لسامعيه حقيقة ملكوت الله. نذكر منها أمثال الدرهم الضائع (لوقا 15 : 8 – 10) والخميرة (متى 13 : 33) والعذارى الحكيمات، والعذارى الجاهلات (متى 52 : 1 – 13). ويمتاز الحديث عن فلس الأرملة ببلاغةٍ خاصّة. ففيما “كان الأغنياء يُلقون هباتهم في الخزانة، رأى أرملةً مسكينة تُلقي فيها فَلْسين، فقال: “إنّ هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر منهم جميعاً… لأنها، من حاجتها، ألقت جميع ما تملك لمعيشتها” (لوقا 21 : 1 – 4). لقد قدّم يسوع هذه المرأة قدوةً للجميع وتولّى الدفاع عنها، لأنّ الأرامل لم يكن لهنَّ من يدافع عنهنَّ، في ظلّ النظام الاجتماعي والقضائي السائد في ذلك العهد. (لوقا 18 : 1 – 7).
ولا نجد في تعليم يسوع كلّه، وفي تصرفاته، أيّ شيءٍ يعكس التفرقة القائمة في عصره بين المرأة العادّية والرجل. بل إنّ أقواله وأعماله كانت، على عكس ذلك، تنمّ دائماً عن الاحترام والتكريم، الواجب اعتمادهما في التعامل مع المرأة. فالمرأة قوساء الظهر سمّاها يسوع “إبنة إبراهيم” (لوقا 13 : 16) فيما، لم يُطلق هذا اللقب، في التوراة بأكملها، إلاّ على الرجال “أبناء إبراهيم”. وسيقول يسوع للنسوة اللواتي سيقابلهنَّ، وهو يجتاز درب الصليب، في طريقه إلى الجلجلة: “يا بنات أورشليم، لا تبكن علىَّ” (لوقا 23 : 28). إنّ هذا الأسلوب في التحدث عن النساء وإليهنَّ، كما في معاملتهنَّ، يشكلّ تجديداً واضح المعالم، إذا قورن بالعادات المتّبعة آنذاك.
وهذا التجديد يُصبح أكثر وضوحاً في حالة التعاطي مع النساء اللواتي كان الرأي العام يُلقِّبُهُنَّ عادةً، وباحتقار، بالخاطئات والبغايا والزواني. نذكر منهنَّ، على سبيل المثال، المرأة السامرية، التي صارحها يسوع بقوله: “لقد كان لك خمسة رجال والرجل الذي معك الآن ليس رجلك”. فلما شعرت بأنه على معرفةٍ بأسرار حياتها، اعترفت بأنه المسيح، وراحت تبشّر به بين مواطنيها، وقد كان الحوار، الذي سبق هذا الاعتراف، من أجمل ما ورد في الإنجيل من حوارات. (يوحنا 4 : 7 – 27).
وهناك بغيّة أخرى دخلت بيت الفرّيسيّ لتسكب الطيوب على قدميّ يسوع، على الرغم من استياء الرأي العامّ. وإذ أبدى ربّ البيت استنكاره لهذا التصرّف، قال يسوع: “إنّ خطاياها الكثيرة قد غُفرت لها، لأنها أحبّت كثيراً”. (لوقا 7 : 37 – 47).
وإليكم أخيراً هذا الحادث الذي قد يكون الأكثر إفحاماً. لقد جلبوا إلى يسوع امرأةً أُخذت في زنى، وطرحوا عليه هذا السؤال المتّسم بالتحديّ: “إنّ موسى قد أوصانا في الشريعة برجم أمثالها. فأنت ماذا تقول؟… أجاب يسوع: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدّم ويرمها بحجر!”. إنّ كثافة التحدّي في هذا الجواب بلغت حدّاً لم يستطيعوا معه سوى “الانصراف، الواحد بعد الآخر، يتقدّمهم كبارهم سناً. ولبث يسوع وحده، والمرأة في مكانها. فجلس يسوع وقال لها: “أين هم، أيتها المرأة؟ ألمّ يحكّم عليك أحد؟ فأجابت: لا، يا سيدي. فقال لها يسوع: وأنا لا أحكم عليك. إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة” (يوحنا 8 : 3 – 11).
إنّ مجموع هذه المشاهد يؤلّف لوحةً شاملة، مليئةً بالصفاء. فالمسيح هو الذي “يعرف ما في الإنسان” (يوحنا 2 : 25) سواءً في الرجل أو في المرأة، كما يعرف ما للإنسان من كرامةٍ وقدرٍ في نظر الله. وهو يُظهر إلى الأبد، في ذات كيانه، (هو الإله المتأنسّ قيمة الإنسان. وكلُّ ما يقوله وكل ما يفعله يَصُبُّ نهائياً في سرّ الفداء الفصحيّ. إنّ موقف يسوع من النسوة اللواتي مرّ بهنَّ، في غضون خدمته الماسويّة (Messianique) يعكس التدبير الأزليّ لله، الذي إذ خلق كلاً منهنَّ، إختارها وأحبّها في المسيح (أفسس 1 : 1 – 5). ولهذا تُعتبر كلّ واحدةٍ منهنّ (كما الرجل) “الخليقة الوحيدة على الأرض، التي أرادها الله لذاتها”. وكلّ واحدةٍ منهنَّ ترث منذ البدء كرامتها كشخص، بصفتها امرأةً. إن يسوع الناصريّ يؤكّد هذه الكرامة ويذكّر بها ويجدّدها، وقد جعلها من مقومات رسالة الإنجيل الفداء، التي لأجلها أرسل إلى العالم. فمن الواجب إذن أن نُدرج كلّ كلمةٍ من كلمات المسيح بشأن النساء، وكلّ تصرّفٍ من تصرّفاته إزاءهنَّ، في بعد السرّ الفصحي. وفي هذا الإطار، يصبح كل شيء واضحاً.
المرأة التي أُخذت في زنى
14- إنّ يسوع يتعاطى مع المرأة، إنطلاقاً من واقعها التاريخي الملموس، المثقّل بإرث الخطيئة. وهذا الإرث يحمل بصفة خاصة آفة التفرقة بين المرأة والرجل، لصالح الأخير. وقد طُبعت المرأة بطابع هذه التفرقة. ومن وجهة النظر هذه، تبدو حادثة المرأة التي “أُخذت في زنى” (يوحنا 8 : 3 – 11) ذات مضمونٍ خاصّ. لقد قال لها يسوع في خاتمة الحوار: “لا تعودي إلى الخطيئة”. لكنّه شاء، قبل هذا، أن يُوقظ الشعور بالخطيئة لدى الرجال الذين اتّهموها ليرجُموها، مظهراً، بفعله هذا، قدرته العميقة على استقصاء ما تنطوي عليه ضمائر البشر وأفعالهم، وكأنه يقول للمشتكين: أليست هذه المرأة، بكلّ ما ارتكبت من خطايا، تعكس، أيضاً وخصوصاً، مخالفاتكم وجوركم، أنتم الرجال، وتجاوزاتكم؟
إنّ هذا الواقع، واقع الخطيئة، ينطبق على الجنس البشريّ بكامله. والحادثة التي يرويها إنجيل يوحنا، تتكرّر في كلّ حقبات التاريخ، في حالات مشابهةٍ لا تُحصى. تُعزل امرأةٌ ويُشهَّر بإثمها أمام الرأي العام، ولا أحد يذكر أنّ وراء خطيئتها يتستّر رجلٌ خاطئ، مسؤول عن “خطيئة غيره” وغيره هذا هو المرأة التي يشاركها في تبعات خطيئتها، ومع هذا لا تسترعي خطيئته انتباه أحد، ويُضرب الصفح عنه، فيبدو وكأنه غير مسؤول عن “خطيئة غيره”. ويصل به الغيُّ أحياناً إلى حدّ انتحال دور المشتكي، كما جرى في الحادثة المذكورة، متغاضياً عن خطيئته الذاتيّة. كم من مرّةٍ تدفع المرأة هكذا ثمن خطيئتها؟ (قد تكون هي، في بعض الحالات، مسؤولةً عن خطيئة الرجل، أي “خطيئة غيرها” لكنّها هي التي تدفع الثمن، وتدفعه وحدها). وكم من مرّةٍ تبقى معزولةً، وقد أصبحت أمّاً، إذ يرفض الرجل، والد الطفل، الاعتراف بمسؤوليته عنه؟ وإلى جانب العديد من “الأمهات العازبات” الموجودات في مجتمعنا، يجب أن نذكر أيضاً جميع اللواتي “يتخلّصن” من الطفل قبل مولده، في كثير من الأحيان، تحت ضغوط مختلفةٍ يفتعلها الرجل المذنب نفسه. صحيح أنهنَّ يتخلَّصن من الطفل، ولكن كم يُكلفهنَّ هذا؟ إنّ الرأي العام يحاول اليوم، بأساليب مختلفة، أن “يمحو” آثار الشرّ الناجم عن هذه الخطيئة. ولكنّ ضمير المرأة لا يستطيع، بصفةٍ عامّة، أن ينسى أنها انتزعت حياة طفلها، لأنه ليس في وسعها أن تُزيل ما طُبعت عليه منذ “البدء” من انفتاح لقبول الحياة عن طريق الأمومة.
أنّ موقف يسوع، في الحادثة التي يرويها يوحنا الإنجيلي (يوحنا 8 : 3 – 11) له مغزاه. فالظرف مؤاتٍ، قلّ نظيره، ليتجلّى عبره سلطان يسوع – سلطان الحقّ – على الضمير البشريّ. لقد كان يسوع هادئاً، خاشعاً، متأملاً. ألم يكن وجدانه هنا، كما كان في حديثه مع الفرّيسييّن (مرقس 19 : 3 – 9) يواجه عن كثب سرّ “البدء” حيث خُلق الكائن البشريّ، رجلاً وامرأةً، وحيث جعل الله المرأة في عُهدة الرجل، مع ما تميّزت به أنوثتها، بما في ذلك قدرتها على أن تكون أمّاً؟ لقد جعل الله الرجل كذلك في عهدة المرأة. إنّه استودع كلاً منهما الآخر، كشخصين مخلوقين على صورة الله ومثاله. وبمعيار عطائهما المتبادل يُقاس الحبّ، أعني الحبّ! الزوجيّ. ولكي يكون الحبّ الزوجيّ هذا “العطاء المجّانيّ” المتبادّل، يجب أن يشعر كلّ من الزوجين أنه مسؤول عن هذا العطاء – لكنَّ قوّاتٍ مضادّة أصبحت، عقب الخطيئة الأصلية، تعبث بقلب الرجل والمرأة، إنطلاقاً من الشهوات الثلاث، التي هي “مصدر الخطيئة”. إنها تعمل في قرارة نفس الإنسان، وفي هذا يقول يسوع في عظته على الجبل: “من نظر إلى امرأة فاشتهاها، زنى بها في قلبه” (متى 5 : 28). إنّ هذا القول الموجّه رأساً إلى الرجل، يكشف عن العمق الحقيقي لمسؤوليته تجاه المرأة، تلك المسؤولية التي تقتضيها كرامتها وأمومتها ودعوتها. وقول يسوع هذا يعني المرأة أيضاً، وإن بطريقةٍ غير مباشرة. إنّ المسيح كان يبذل أقصى جهده ليعيد إلى النساء عبر تعليمه وتصرفاته، شخصيّتهنَّ وكرامتهنَّ، في إطار الأعراف المتّبعة في عصره، والعلاقات الاجتماعية القائمة إذ ذاك. وهذه الكرامة، إستناداً إلى “وحدة الاثنين” القائمة منذ “البدء” تتعلّق مباشرةً بالمرأة نفسها، بصفتها إنساناً كامل المسؤولية، وتفرض، في ذات الوقت، على الرجل كواجب. والمسيح يستحث منطقياً روح المسؤولية لدى الرجل.
إننا، إذ نتأمّل في كرامة المرأة ودعوتها، يتوجّب علينا اليوم الرجوع إلى أسلوب الإنجيل في طرح القضية. إن كرامة المرأة ودعوتها – ومثلهما كرامة الرجل ودعوته – تنبعان منذ الأزل من قلب الله. وهما، في الظروف التاريخية المحيطة بالكيان الإنساني، وثيقتا الارتباط “بوحدة الاثنين”. لذلك يتوجّب على كلّ رجل أن يسأل نفسه: هل المرأة التي جعلها الله في عُهدته، كأختٍ له في ذات الإنسانية، لم يعد لها في قلبه، متى تزوّجها، سوى مكانة مادّةٍ لإشباع شهواته؟ وهل المرأة التي تشاركه، بشتّى الطرق، في كيانه، في هذا العالم، قد أصبحت في نظره “متاعاً”، أي مادةً للمتعة والاستغلال؟
القيّمات على الرسالة الإنجيلية
15- إنّ أسلوب المسيح في تعاطيه مع المرأة، والإنجيل الذي يسجل أفعاله وأقواله، هما بمثابة احتجاج مترابطٍ على كل ما يتضمن إساءةً لكرامة المرأة. ولهذا فإن النسوة العائشات في كنف المسيح، يكتشفن أنفسهنَ من خلال النهج الذي “يعلمه” و”يمارسه” حتى ذلك الذي يتعلق بوضعهن كخاطئات”. إنهن يشعرن بأن هذا النهج “حررهن” وإعادهنَ إلى أصالتهنَ. إنهن موضع “حبٍ أزلي” يتجسد مباشرة في المسيح نفسه. إن وضعهن الاجتماعي يتبدل في مجال نشاط المسيح. وهن يشعُرن بأن يسوع يُحدثهن في قضايا لم تكن تعالج إذ ذاك بمشاركة النساء. وأبلغ مثلٍ في هذا الشأن، هو مثل المرأة السامرية، التي لاقاها يسوع على مقربة من بئر سيخارة. فإنه، على علمه بأنها خاطئة، وقد فاتحها في أمر خطيئتها، تحدث معها عن أعمق أسرار الله وعن عطية الحب الإلهي غير المتناهية، التي شبهها “بينبوع ماءٍ ينبع للحياة الأبدية” (يوحنا 4 : 14). لقد حدثها عن الله، الذي هو روح، وعن العبادة الحقيقية المتوجة للآب بالروح والحق (يوحنا 4 : 24). وأعلن لها أخيراً أنه هو المسيح الذي وعد الله به إسرائيل (يوحنا 4 : 26).
إنه لحدثٌ لم يسبق له مثيل: فهذه المرأة بالرغم من أنها خاطئة، أصبحت “تلميذةً” للمسيح. بل إنها، بعد أن عرفته، بشرت به أهل السامرة، بحيث أنهم، هم أيضاً، استقبلوه بإيمان (يوحنا 4 : 39 – 42). إنّه في الحقيقة لحدث فريد، إذا قورن بالأسلوب الذي جرى معلّموا إسرائيل على اتّباعه في تعاملهم مع النساء، فيما يبدو هذا الحدث عاديّاً في إطار النهج الذي تبنّاه يسوع الناصري. وفي هذا المجال، يجدر بنا أن نولي شقيقتي لعازر اهتماماً خاصّاً: “وكان يسوع يحبّ مرتا وأختها مريم ولعازر” (يوحنا 21 : 5). وكانت مريم “تُصغي إلى كلام” يسوع. وحين زارهم في بيتهم، وصف هو نفسه تصرّف مريم بأنه “النصيب الأفضل” إذا قيس بما أبدته مرتا من اهتمام بالشؤون البيتية (لوقا 10 : 38 – 42). إنّ مرتا دخلت في حوارٍ مع المسيح، في ظرفٍ آخر، وعلى أثر موت لعازر؛ “لو كنت هنا، لم يمت أخي”. أجابها يسوع: “سيقوم أخوك” – “أنا أعرف أنه سيقوم في اليوم الأخير”. – أجاب يسوع: “أنا القيامة والحياة. من يؤمن بي وإن مات سيحيا. ومن يحي مؤمناً بي لا يمت أبداً. أتؤمنين بهذا؟” – “نعم، يا رب، أنا أؤمن أنك أنت المسيح ابن الله الحيّ” الآتي إلى العالم”. (يوحنا 11 : 21 – 27). وعقب فعل الإيمان هذا أقام يسوع لعازر. إنّ هذا الحديث مع مرتا هو أيضاً من أهمّ ما ورد في الإنجيل من أحاديث.
إنّ المسيح يحدّث النساء في أمورٍ تتعلّق بالله، وهنَّ يفهمنها بذهن وقلبٍ منفتحين حقاً. وقد أبدى يسوع تقديره لهذا التجاوب المتَّسم بالأنوثة، وإعجابه به، كما فعل في لقائه مع المرأة الكنعانية (متى 15 : 28). وهو يقدّم أحياناً هذا الإيمان الكبير، المشبع بالمحبة، كقدوةٍ تُحتذى. وخلاصة القول، إنّ يسوع ينطلق من انفتاح الذهن والقلب لدى المرأة، ليُعطي درساً في الإيمان. وكان هذا شأنه مع المرأة “الخاطئة”. فإنّه، إنطلاقاً من تصرّفها في بيت الفرّيسي، أخذ يُفسر للموجودين معنى مغفرة الخطايا: “إنّ خطاياها الكثيرة غُفرت لها لأنها أحبّت كثيراً. ومن يُغفر له قليل يُحبُّ قليلاً” (لوقا 7 : 47). وقد اغتنم يسوع فرصة قيام امرأة أخرى بدهنه بالطيب، للدفاع عنها وعن بادرتها، أمام تلاميذه، ولاسيّما أمام يهوذا: “لماذا تزعجون هذه المرأة؟ فقد عملت لي عملاً صالحاً… وإذا كانت قد أفاضت هذا الطيب على جسدي، فلأجل دفني صنعت ذلك. الحقّ أقول لكم، حيثما تُعلن هذه البشارة في الأرض كلّها، يُحدّث بما صنعت، إحياءً لذكرها”. (متى 26 : 6 – 13).
ولم تكتف الأناجيل، في الواقع، بذكر ما فعلته هذه المرأة في بيت عنيا، في بيت سمعان الأبرص، بل أنها أبرزت كيف أنّ النساء كنَّ أوّل من وُجد على قدم الصليب، إبّان المحنة الأخيرة والحاسمة التي تعرّضت لها رسالة يسوع الناصريّ الماسويّة، في حين لم يبق على الوفاء له، بين الرسل، سوى يوحنّا. وقد بقي على الوفاء عدد كبير من النساء، لم يقتصر على أمّ المسيح، “وأخت أمّه مريم، امرأة كلاوبَّا، ومريم المجدلية” (يوحنا 19 : 25) بل تعدّاهنَّ إلى “نسوةٍ كثيرات كنَّ ينظرن عن بعد، وهنَّ اللواتي تبعن يسوع من الجليل ليخدُمنه” (متى 27 : 55). وعليه، نرى أنّ النساء كنَّ أكثر صموداً من الرسل في وجه أقسى تجربةٍ تعرّض لها الإيمان والوفاء. كما نرى أنّ اللواتي “أحببن كثيراً” تمكّنَّ من التغلّب على الخوف عند حلول الخطر. وقبل ذلك، كانت النساء، على طريق الجلجلة، “يقرعن صدورهنَّ وينحن عليه” (لوقا 23 : 27) وقبلهنَّ كانت امرأة بيلاطس قد أنذرت زوجها قائلةً: “لا تتدخّل في قضيّة هذا البار، لأني تألّمت في الحلم أشدّ الألم من أجله” (متى 27 : 19).
شهود القيامة الأوّلون
16- منذ بدأ السيد رسالته، تعاملت المرأة معه، ومع سرّ الخلاص، الذي جاء يبشرّ به، بشعورٍ مرهف، هو من ميزات أنوثتها. ويجدر بنا أن نشير، بالإضافة إلى ذلك، إلى أنّ هذا الواقع يتأكد، بصفةٍ خاصّة، في مواجهة السرّ الفصحي، ليس فقط في وقت الصلب، بل وفي فجر القيامة. إن النساء هنَّ أول من حضر إلى القبر، وأوّل من وجده فارغاً، وأوّل من سمع صوت الملاك يقول: “إنه ليس ههنا. لقد قام، كما سبق فقال” (متى 28 : 6). المرأة أول من عانق قدميه (متى 28 : 9) وأوّل من دُعي لتبشير الرسل بحقيقة قيامته (متى 28 : 1 – 10 ولوقا 24 : 8 – 11). وإنجيل يوحنا، فضلاً عن إنجيل مرقس (مرقس 16 : 9) يبرز الدور الخاصّ، الذي قامت به مريم المجدلية. فهي الأولى التي لاقت المسيح القائم. لقد ظنّت أولاً أنه البستاني، ولم تعرفه إلاّ حين دعاها باسمها: “قال لها يسوع: يا مريم!”. فالتفتت إليه وقالت له بالعبريّة: “رابوني، الذي تفسيره يا معلّم!” فأردف يسوع قائلاً: “لا تمسكيني، إنّي لم أصعد بعد إلى أبي. بل اذهبي إلى الإخوة وقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم. فرجعت مريم المجدليّة وبشّرت التلاميذ بأنها رأت الربّ وأنه قال لها ذاك الكلام”. (يوحنا 20 : 16 – 18). لهذا أقدم البعض على تلقيبها “برسولة الرسل” (38). لقد كانت مريم المجدلية فعلاً، قبل الرسل، شاهدة عيان للمسيح الناهض من القبر. ولهذا كانت أوّل من شهد له أمام الرسل. إنّ هذا الحدث يتوّج، على وجهٍ ما، كلّ ما قلناه سابقاً عن إعلان المسيح الحقيقة الإلهية للنساء، على قدم المساواة مع الرجال. وبهذا تحقّقت نبوءة النبي القائل: “إنّي أفيض روحي على كلّ بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم” (يوئيل 2 : 28). وستتأكّد هذه النبوءة من جديد عند حلول الروح القدس، المعزّي، على التلاميذ، في عليّة أورشليم (أعمال 2 : 17).
كلّ ما أوردناه هنا عن موقف المسيح من النساء يؤكّد، في الروح القدس، حقيقة المساواة بين الرجل والمرأة، ويوضحها. ويجب الإقرار بأننا أمام تعادلٍ أساسيّ، لأن كليهما – المرأة والرجل – خُلقا على صورة الله ومثاله، ولأنهما، بهذه الصفة ذاتها، منفتحان على الحقيقة الإلهية وعلى المحبة في الروح القدس، وجديران بالإفادة منهما. وكلاهما يستوعبان حضور الروح القدس الخلاصي والمبرّر.
إنّ كون الإنسان رجلاً أو امرأة لا يحدّ قطعياً من أهليّته، كما أنّ عمل الروح، الخلاصي والمبرّر، في الإنسان، لا يحدُّه البتّة كونه يهودياً أو يونانياً، عبداً أو حرّاً، على حدّ قول الرسول: “كلكم واحدٌ في المسيح يسوع” 0غلاطية 3 : 28). إلاّ أنّ هذه الوحدة لا تُلغي الفوراق. فإنّ الروح القدس الذي يصنع الوحدة على صعيد النعمة المبرّرة، الذي يفوق الطبيعة، يُسهم بذات القدر في تحقيق النبوءة، عن طريق الرجل أو المرأة: “فيتنبأ بنوكم وبناتكم”. والتنبؤ يعني إعلان “عجائب الله” (أعمال 2 : 11) عبر الكلمة والحياة، مع الحفاظ على واقع كلّ شخصٍ، رجلاً كان أو امرأةً، وعلى ما يتفرّد به من صفاتٍ. إنّ كرامة المرأة ودعوتها في الكنيسة والعالم، تقومان، بما لا يقبل الشكّ، على “المساواة” الإنجيلية بين المرأة والرجل، “وتعادلهما” في التعاطي مع “عجائب الله”. وقد تجلّت هذه المساواة وهذا التعادل بوضوح في أعمال يسوع الناصريّ وأقواله. إنّ لكلّ دعوةٍ بعداً شخصياً ونبوياً عميقاً. وشخصية المرأة تجد، في مفهوم الدعوة هذا، بعداً جديداً، هو بعد “عجائب الله” التي تصبح المرأة موضوعها الحيّ وشاهدها الذي ليس له بديل.
القسم السادس
الأمومة والبُتولة
بُعدان لدعوة المرأة
17- علينا أن نتأمل الآن في البتولة والأمومة، وهما البعدان الخاصّان اللذان تتحقّق عبرهما شخصية المرأة. إنّ مضمونهما وقيمتهما يبلغان ملئهما على ضوء الإنجيل، في مريم، وقد أصبحت، مع بقائها عذراء، أمّاً لابن الله. إن هذين البعدين للدعوة الأنثوية قد التقيا فيها، واتّحدا بطريقة استثنائية، بحيث أن كلاّ منهما، عوضاً عن أن يستبعد الآخر، يكمّله على نحوٍ عجيب. إنّ رواية البشارة، كما وردت في إنجيل لوقا، تُظهر بوضوح أنّ التوأمة بين البتولة والأمومة كانت تبدو لعذراء الناصرة مستحيلة. فما أن سمعت الملاك يخاطبها قائلاً: “ها إنّك تحملين وتلدين ابناً تسمّينه يسوع” حتى بادرته بالسؤال: “أنَّى يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” (لوقا 1 : 31، 34) إنّ العُرف الشائع يقضي بأن تكون الأمومة ثمرة “التعارف” المتبادل بين الرجل والمرأة، عن طريق المعاشرة الزوجية. ولمّا كانت مريم مصمّمةً على الحفاظ على بتوليّتها، طرحت هذا السؤال على الموفد الإلهي، فتلقّت التوضيح التالي: “إنّ الروح القدس يحلّ بك” أي أنّ أمومتك لن تكون نتيجة “تعارفٍ زوجي” بل ستكون من صنع الروح القدس، وستُظلل “قدرة العليّ” سرّ الحمل بابن الله ومولده. فهو، بوصفه ابن العلّي، سيُعطي لك من الله وحده وبالطريقة التي يعرفها. إنّ مريم قد حافظت إذن على بتوليّتها، التي عبّرت عنها بقولها: “إني لا أعرف رجلاً” (لوقا 1 : 34) وأصبحت، في ذات الوقت، أمّاً. والبتولية والأمومة تواجدتا معاً فيها، لا تستبعد إحداهما الأخرى ولا تفرض عليها حدوداً. بل إنّ أمّ الله، على عكس ذلك، تساعد شخصياً جميعنا – ولا سيّما النساء _ على أن نكتشف كيف أنّ هذين البُعدين وهذين الطريقين، اللذين تحقّق المرأة، كشخصٍِ، دعوتها عبرهما، يوضح كلّ منهما الآخر ويكمّله.
الأمومة
18- لا بدّ لنا، إن شئنا التعمّق في هذا الاكتشاف، من أن نتعمّق مرّةً أخرى في استقصاء طبيعة الشخص البشريّ الحقيقية، التي ذكّرنا بها المجمع الفاتيكاني الثاني. إنّ الكائن البشريّ – رجلاً كان أو امرأةً – هو الوحيد في العالم، الذي أراده الله لذاته: إنّه شخصُ، إنّه إنسانٌ، يملك أن يقرّر بنفسه. والكائن البشريّ “لا يستطيع، في ذات الوقت، أن يحقّق ذاته تماماً إلاّ عن طريق بذل ذاته بلا مقابل” (39). وقد قلنا آنفاً إنّ هذا الوصف، أو هذا التحديد للشخص ينسجم، على وجهٍ ما، مع الواقع الكتابيّ الأساسي، الذي يؤكّد أنّ الإنسان – رجلاً وامرأةً – قد خُلق على صورة الله ومثاله. وليس هذا مجرّد تأويلٍ نظريّ، أو تحديدٍ تجريديّ، إذ هو يوضح، في الأساس، مضمون كون الإنسان إنساناً، حين يُبرز قيمة بذل الشخص ذاته. إنّ هذا التصوّر للشخص ينطوي كذلك على جوهر المسلكية التي تتبسّط الكتب المنزلية، ولا سيّما الأناجيل، في بحثها، لأنّها مرتبطة بواقع الخلق.
إنّ هذا الوعي لحقيقة الشخص يمهّد كذلك السبيل لتفهّم كاملٍ لأمومة المرأة. إنّ الأمومة هي ثمرة المعاشرة الزوجية بين رجل وامرأة، وثمرة “التعارف” الوارد ذكره في الكتاب، والذي يعكس “اتّحاد الاثنين في الجسد” (تكوين 2 : 24) ويحقّق هكذا، من جانب المرأة، “هبة ذاتٍ” خاصّة، تعبّر عن الحبّ الزوجيّ، حيث يتّحد الزوجان اتحاداً هو من الوثوق بحيث يصبحان “جسداً واحداً”. وهذا “التعارف” يتحقّق على مستوى الشخص، ما دامت هبة الذات المتبادلة لم تنحرف بفعل رغبة الرجل في أن يكون “سيّد” زوجته: (إنّه يتسلّط عليك) ولا باكتفاء المرأة بإشباع غرائزها الخاصّة: (إلى بعلك تنقاد أشواقك) (تكوين 3 : 16).
إنّ تبادل الأشخاص هبة الذات عن طريق الزواج، يمهّد لهبة حياةٍ جديدة، وكائن بشريّ جديد، هو أيضاً شخصٌ كأبويه. والأمومة، منذ نشأتها تنطوي على انفتاحٍ خاصٍ على هذا الشخص الجديد: وهنا بالضبط يكمن دور المرأة. وبهذا الانفتاح، كما بالحمل والولادة “تحقّق المرأة ذاتها، عن طريق هبة ذاتها بلا مقابل”. والاستعداد النفسيّ لقبول الطفل وولادته هو هبة مرتبطة بالاتّحاد الزوجيّ، الذي يجب أن يشكل، كما قيل، اللحظة الحاسمة، التي تتمّ فيها هبة الذات المتبادلة، من جانب المرأة، كما من جانب الرجل. إنّ الحبل بكائنٍ بشريّ جديد، وولادته، يتزامنان، حسب التوراة، مع قول المرأة – الأمّ: “قد رُزقت رجلاً من عند الربّ” (تكوين 4 : 1). هذا ما قالته حوّاء، عندما ولدت قاين. وهتاف حوّاء “أمّ جميع الأحياء” يتكرّر كلّما ولد كائن بشريّ جديد، وهو يعبّر عن فرح المرأة، وشعورها بأنها تشارك في سرّ الولادة الأزليّة العظيم. ولا عجب، فإنّ الزوجين يشاركان الله في قدرته على الخلق.
ثم إنّ أمومة المرأة، في الفترة الممتدّة من الحمل إلى ولادة الطفل، هي عمليّة حيويّة، فيزيولوجيّة ونفسيّة، أصبحت، في أيامنا، معروفةً أكثر منها في الماضي. وهي موضوع دراساتٍ عديدةٍ وعميقة. وقد أثبت التحليل العلميّ تماماً أنّ بنية المرأة الطبيعية وجهازها العضوي يحملان في ذاتهما استعداداً طبيعياً للأمومة وللحبل ولحمل الطفل وولادته على أثر اتّحادها الزوجي بالرجل. وهذا يتناسب، في ذات الوقت، مع بنية المرأة النفسية – الفزيائية. إنّ ما توصّلت إليه فروع العلم المختلفة بهذا الصدد، هامٌ ومفيد، بشرط أن لا ن قتصر على تحليلٍ بيوفيزيائيّ للمرأة والأمومة. إنّ هذه الصورة المقلّصة تصبّ في اتّجاه المفهوم الماديّ للإنسان والعالم، وبها نفقد، للأسف، ما هو أساسيّ حقاً: وهو أنّ الأمومة، بوصفها حدثاً وظاهرةً بشريّة، لا تُفسّر تفسيراً كاملاً، إلاّ انطلاقاً من واقع الشخص. وهي مرتبطة بالبنية الشخصية للأنثى، وبالبعد الشخصيّ للهبة: “قد رزقت رجلاً من عند الربّ” (تكوين 4 : 1). فالخالق يهب الأبوين الطفل. وهذا الحدث، بالنسبة للمرأة، يتّصل اتّصالاً خاصاً “بهبة الذات بلا مقابل”. وإن قول مريم، ردّاً على البشارة: “ليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1 : 38) يعني قابليّة المرأة لهبة ذاتها ولاستقبال الحياة الجديد’.
إنّ أمومة المرأة، متّحدة مع أبوّة الرجل، تعكس سرّ الولادة الأزلي، الكائن في الله نفسه، أي في الله الواحد والثالوث (أفسس 3 : 14 و 15). والإيلاد البشريّ مشترك بين الرجل والمرأة. وإذا قالت المرأة لرجلها، بدافع محبّتها له: “إنّي أعطيتك ابناً” فإنّ قولها يعني في ذات الوقت: “هوذا ابننا” ومع هذا، وبالرغم من أنّ كليهما معاً أبوان لطفلهما، فإنّ لأمومة المرأة دوراً خاصّاً في إطار دورهما المشترك كأبوين، بل أنه الدور الأوفر تطلباً. وإن كان من شأن الرجل والمرأة معاً أن يكونا أبوين، إلاّ أنّ المرأة تسهم في هذا الشأن أكثر بكثير، لا سيّما في الحقبة السابقة للولادة. وهي التي تدفع مباشرة تكاليف هذا الإيلاد المشترك، الذي تستهلك فيه، بكل معنى الكلمة، طاقات جسدها ونفسها. ومن واجب الرجل أن يعي تماماً أنّه مدينٌ، بصفةٍ خاصّة، للمرأة، في نطاق مهمّتهما المشتركة كأبوين. ولا قيمة لمنهج عملٍ يتناول “التعادل في الحقوق” بين النساء والرجال، إذا لم يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار، ويركّز عليه.
إنّ الأمومة تنطوي على مشاركة خاصّة في سرّ الحياة، الذي ينضج في أحشاء المرأة. والمرأة تعجب بهذا السرّ، وتدرك بوجدانٍ فريد ما يجري في داخلها. وعلى ضوء رواية “البدء” تقبل الأم الطفل الذي تحمله في أحشائها؛ وتحبّه بوصفه شخصاً. وهذا النوع الفريد من الاتّصال بالكائن البشريّ الجديد، في فترة الحمل، يولّد بدوره، لدى المرأة موقفاً مميّزاً من الإنسان – سواءٌ كان طفلها أو أيّ إنسانٍ على العموم – من شأنه أن يطبع كلّ شخصيّة المرأة في العمق. وإنّه لمن المسلّم به عادةً أنّ المرأة أكثر قدرةً من الرجل على رعاية الشخص البشري بعينه، وأنّ الأمومة تنمي لديها هذه القدرة. أمّا الرجل، فإنّه – وإن قام بدوره كاملاً في إطار مهمّة الأبوين – يبقى خارج سياق عمليّة حمل الطفل وولادته، وعليه من أوجهٍ شتّى، أن يتعلّم من الأمّ كيف يكون أباً. ونستطيع القول إنّ هذا يندرج في الديناميّة البشريّة العاديّة، التي توجّه مهمّة الأبوين، حتى في المراحل التالية لولادة الطفل، لا سيّما في الحقبة الأولى. ويجب أن لا تغفل تربية الطفل، في مجملها، دور الأبوين المزدوج: دور الأب ودور الأمّ. إلاّ أنّ دور الأمّ حاسم في إرساء أسس الشخصية البشرية الجديدة.
الأمومة وعلاقتها بالزواج
19- إنّ مثال المرأة، كما أبرزته الكتب، والمستمدّ من البشارة الأولى، الواردة في سفر التكوين، يندرج من جديد في سياق هذا التأمل. إنّ للمرأة، كأمّ ومربّيةٍ أولى للكائن البشري، أسبقيّةً نوعيّةً بالنسبة إلى الرجل (مع العلم بأنّ التربية هي البعد الروحيّ لمهمّة الأبوين). وإذا كانت الأمومة، بمعناها البيوفيزيائي، منوطةً أولاً بالرجل، فإنها تسم بسمةٍ أساسيّة كلّ عملية التطوّر، التي تقوم على تنمية شخصية أبناء الجنس البشريّ الجدد وبناته. إنّ الأمومة، بمعناها البيوفيزيائي، تبدو في الظاهر وكأنّ دورها دور مطاوعةٍ واستسلام. وإذا كانت عملية تكوين حياةٍ جديدة تتمّ في داخلها وفي جسمها، إلاّ أنها تتمُّ بمشاركةٍ عميقةٍ من هذا الجسم. وللأمومة، بمعناها الشخصي والمعنوي، إلى جانب هذا، قردةٌ على الخلق، هامّة جدّاً، لدى المرأة، التي تشارك بنصيب أساسيّ في تكوين إنسانية الكائن البشريّ الجديد ذاتها. ومن هذه الناحية، تنطوي أمومة المرأة على استدعاءٍ وتحدٍّ خاصّين، موجّهين إلى الرجل وأبوته.
إنّ النموذج المثالي للمرأة، في الكتاب، يبلغ ذروته في أمومة أمّ الله. وما ورد في البشارة الأولى: “سأجعل عداوة بينك وبين المرأة” يتأكّد هنا من جديد. فإنّ الله قد افتتح عهداً جديداً مع البشرية في شخص مريم، وعبر قبولها الأمومة: “ليكن لي بحسب قولك”. هذا هو العهد الأبديّ والنهائيّ، الذي عقده الله مع البشر في المسيح، في جسده ودمه، وفي صليبه وقيامته. ولأنّ هذا العهد يجب أن يكتمل “في الجسد والدم” كان عليه أن يبدأ بالأمّ. وإذا استطاع “ابن العليّ” أن يقول للآب: “لقد أعطيتني جسداً، وهاءنذا آتٍ لأصنع مشيئتك” (عبرانيين 10 : 5 – 7) فذلك بفضل أمّ الله وحدها وبفضل القرار الصادر عنها، والذي رضيت بموجبه أن تكون بتولاً وأمّاً معاً: “ليكن لي بحسب قولك!”.
إنّ أمومة المرأة قد أدرجت في سياق العهد الجديد، الذي قطعه الله مع الإنسان في يسوع المسيح. ومنذئذٍ، كلما تجدّدت أمومة المرأة على الأرض، عبر تاريخ البشر، فإنها تكون على علاقةٍ بالعهد الذي قطعه الله مع الجنس البشري، بفضل أمومة أمّ الله.
ألا يدعم هذه الحقيقة الجواب الذي ردّ به يسوع على هتاف تلك المرأة التي كانت، في وسط الجمع، تُغبّط المرأة التي ولدته: “طوبى للأم التي حملتك في أحشائها، وغذّتك من لبنها!” فأجابها يسوع: “بل طوبى لمن يسمعون كلمة الله، ويحفظونها” (لوقا 11 : 27، 28). إن يسوع يؤكّد مضمون الأمومة بالنسبة إلى الجسد، لكنّه يوضح، في الوقت نفسه، معناها الأعمق، ذا الطابع الروحي: إن الأمومة سمة العهد المقطوع مع الله، الذي “هو روح” (يوحنا 4 : 24). تلك هي بنوع خاصّ أمومة أمّ الله. كذلك ليست أمومة أيّة امرأة، في مفهوم الإنجيل، قاصرةً على الجسد والدم، بل يتحقق عبرها “الإصغاء العميق لكلمة الله الحيّ” والاستعداد “للعمل بها” إذ هي “كلمة الحياة الأبدية” (يوحنا 6 : 68). وفي الواقع أنّ أبناء الجنس البشريّ وبناته، الذين يولدون من أمّهات أرضيات، هم الذين يستمدّون من ابن الله القدرة على أن يكونوا “أبناء الله” (يوحنا 1 : 12) وهكذا نفذ بعد العهد الجديد، الممهور بدم المسيح، إلى الإيلاد البشريّ، وجعل منه واقعاً ومهمّةً من مهام “الخلائق الجديدة” (كورنثوس الثانية 5 : 17) وإذا نظرنا إلى أمومة المرأة من زاوية سيرة كلّ إنسان، وجدنا أنها العتبة الأولى، التي لا بدّ من اجتيازها لإعلان أبناء الله (رومية 8 : 19).
“إنّ المرأة تحزن إذا أخذها المخاض، لأنّ ساعتها حانت. فإذا ولدت تنسى شدّتها لفرحها بأن قد ولد إنسانٌ في العالم” (يوحنا 16 : 21). إنّ كلمات المسيح هذه تُذكر “بآلام الولادة” التي خلّفتها الخطيئة الأصلية، لكنها تُظهر، في ذات الوقت، العلاقة القائمة بين أمومة المرأة وسرّ الفصح. مع العلم بأنّ هذا السرّ يشمل أيضاً ألم أمّ المسيح، الواقفة على قدم الصليب، تلك الأمّ التي تشارك بإيمانها في ذاك السرّ المثير، الذي أخلى ابنها الخاص بموجبه ذاته. تلك هي، بلا شكّ، في تاريخ البشرية، أعمق عملية إخلاء ذات، تولاّها الإيمان (40).
عندما يتأمّل الفكر في أمّ المسيح، التي “جاز سيفٌ في نفسها” (لوقا 2 : 35) يتّجه إلى جميع أولئك النساء، اللواتي يتألمّن في الجسد أو في الروح، في هذا العالم. وتلعب حساسية المرأة دورها في هذا العالم، وأن كانت، في غالب الأحيان، تعرف أكثر من الرجل كيف تقاوم الألم. ومن العسير أن نُحصي هذه الآلام وأن نسمّيها جميعاً. على أنه يمكننا أن نذكر، على سبيل المثال، قلق المرأة على أولادها – لا سيّما إذا مرضوا أو سلكوا طريق الشرّ – وكذلك وفاة أعزّ الناس إليها، فضلاً عن عزلة الأمهات، التي لا يشعر بها أولادها الراشدون، أو عزلة الأرامل، وآلام النساء اللواتي يجاهدن في سبيل بقائهنَّ، والنساء المغبونات أو المستغلاّت. وهناك أخيراً ما تعانيه ضمائر النساء من جرّاء الخطيئة التي تجرح كرامة المرأة في إنسانيّتها أو أمومتها. وكم من جروح في الضمائر ليس من اليسير التئامها. بهذه الآلام أيضاً يجب التوجّه إلى قدم صليب المسيح.
لكنّ كلمات الإنجيل في المرأة التي تشعر بالحزن حين تحين ساعة ولادة الطفل، لا تلبث أن تعبّر عن فرحها: “فرحها بأن قد ولد إنسان في العالم”. إنّ هذا الفرح يندرج كذلك في سرّ الفصح، أي أنه يرتبط بالفرح الذي كان من نصيب الرسل، يوم قيامة المسيح. ففي عشية الآلام، قال يسوع لتلاميذه: “كذلك أنتم تحزنون الآن، ولكني سأعود فأراكم، فتفرح قلوبكم، وما من أحدٍ يسلبكم هذا الفرح” (يوحنا 16 : 22).
البُتُولة في سبيل الملكوت
20- إنّ الأمومة في تعليم المسيح مشبّهة بالبتولية، لكنها تختلف عنها. وهنا تبقى أساسية العبارة التي تفوّه بها يسوع والتي تندرج في مضمون الحوار المباشر، بشأن عدم قابلية الزواج للانفصام… فإنّ التلاميذ، حين سمعوا جواب يسوع على سؤال الفرّيسيين، قالوا له: “إذا كانت حالة الرجل مع المرأة هكذا، فخيرٌ له أن لا يتزوج” (متى 19 : 10). وبمعزلٍ عن مفهوم العبارة “خيرٌ له” في ذهن التلاميذ، إنطلق يسوع من تصوّرهم الخاطئ، ليُلقي عليهم درساً في قيمة التبتُّل؛ مميّزاً بين التبتّل الناجم عن عجز طبيعيّ، وإن كان هذا العجز من جهة الرجل، و”التبتّل لأجل ملكوت السماوات”. قال المسيح: “من الخصيان من خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات”. (متى 19 : 12). وبهذا يشير إلى التبتّل الحرّ، الذي يختاره الإنسان لأجل ملكوت السماوات، أي بناءً على دعوة الإنسان الأخرويّة للاتحاد بالله. ويردف المسيح قائلاً: “من استطاع أن يفهم فليفهم!”، معيداً ما افتتح به خطابه بشأن التبتّل. (متى 19 : 11). وعليه، فإنّ التبتّل في سبيل ملكوت السماوات ليس ثمرة اختيار حرّ من قبل الإنسان فحسب، بل هو أيضاً ثمرة نعمةٍ خاصّة، يهبها الله لشخصٍ معيّن، يدعوه لأن يعيش في البتولية. فإذا كان التبتّل دليلاً خاصاً على مجيء ملكوت الله، فإنه يساعد، في ذات الوقت، على تكريس جميع قوى النفس والجسد، في الحياة الزمنية، للملكوت الأخرويّ دون غيره.
إن يسوع يجيب بكلماته هذه على سؤال التلاميذ. فهي موجّهة مباشرةً إلى الذين طرحوا السؤال، وكانوا في الواقع رجالاً. إلاّ أنّ جواب المسيح في ذاته يصلح للنساء، كما للرجال، وهو، بهذا المضمون، يعرض المثال الإنجيليّ الاعلى للتبتّل، الذي يُعتبر بحقٍ “شيئاً جديداً” إذا قورن بتقليد العهد القديم. وهذا التقليد كان، بلا شك، مرتبطاً، بطريقة ما، بانتظار إسرائيل، وبنوع خاصّ، بانتظار المرأة في إسرائيل، لمجيء المسيح، الذي كان يجب أن يأتي من “نسل المرأة”. صحيح أنّ مثال العزوبة والتبتل الأعلى، في سبيل تقرّب من الله أعظم، لم يكن غير مألوف في بعض الأوساط اليهودية، لا سيّما في الفترة التي سبقت مباشرة مجيء يسوع، لكن، ممّا لا يقبل الجدل، أنّ العزوبة في سبيل الملكوت، أعني التبتّل، هي تجديد يرتبط بالتجسد الإلهي.
منذ أن جاء المسيح، تتّجه أنظار شعب الله صوب الملكوت الأخرويّ الآتي، الذي أدرج المسيح نفسه، في إطاره، “إسرائيل الجديد”. ولتحقيق هذا التوجّه وهذا التبدّل في القيم، لا بدّ من وعي جديد للإيمان. ويشدّد المسيح على هذا مرّتين: “من استطاع أن يفهم فليفهم!” ولن يفهم “إلاّ الذين أعطي لهم” (متى 19 : 11)… وقد تجلّى هذا الوعي الجديد، أول ما تجلّى، في مريم. وذلك عندما سألت الملاك: “أنّى يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” (لوقا 1 : 34). ولقد كانت مصممّةً على الحفاظ على بتوليتها، “وإن كانت مخطوبة لرجل اسمه يوسف” (لوقا 1 : 27). أمّا أمومتها فقد تحقّقت بفعل “قوّة العليّ” وحدها، وهي ثمرة حلول الروح القدس عليها (لوقا 1 : 35) وعليه، فإنّ هذه الأمومة الإلهية قد لبّت، بطريقةٍ لم تكن في الحسبان، التوقعات البشرية للمرأة في إسرائيل. وقد تحقّقت فجأةً في مريم كعطيةٍ من الله نفسه. وقد أصبحت هذه العطية، بالنسبة لجميع الناس، بداية ونموذجاً لانتظارٍ جديد، يندرج في إطار العهد الأبديّ ووعد الله الجديد والنهائي. وهكذا أصبحت هذه العطية علامة الرجاء الأخرويّ.
إنّ مفهوم البتولية، المبني على الإنجيل، قد تطوّر كذلك وتعمّق، من حيث هو دعوةٌ للمرأة، تتأكّد عبرها كرامتها، على مثال عذراء الناصرة. ويطرح الإنجيل المثال الأعلى لتكريس الشخص، أعني تكريسه لله وحده، بناءً على المشورات الإنجيلية، لا سيّما المتعلّقة منها بالعفّة والفقر والطاعة. وقد تجسدت تماماً في يسوع المسيح نفسه. فمن رغب في اتّباعه إلى النهاية، يطبّق حياته باختياره على مشوراته التي تختلف عن الوصايا، وترشد المسيحي إلى الطريق، منذ بدئ المسيحية، رجال ونساء على السواء، لأنّ المثال الإنجيلي الأعلى يعني الكائن البشري بأجمعه، دون تمييز بين الجنسين.
وفي إطار هذا المضمون الأوسع، يجدر بنا أن ننظر إلى البتولية أيضاً كوسيلة تحقق عبرها المرأة تَفَتُح شخصيتها الأنثوية، بطريقة تختلف عنها في الزواج. ولنتفهم هذه الوسيلة، يجب اللجوء مرة أخرى إلى مبدأ الإناسة (Anthropologie) المسيحية الأساسية. فإن المرأة، عن طريق البتولية، التي تختارها بملء حريتها، تؤكد ذاتها كشخصٍ، أي ككائنٍ أبدعه الله لذاته منذ البدء (41). في ذات الوقت، تبرز المرأة ما لأنوثتها من قيمة شخصية، إذ إنها تصبح، هي نفسها، “هبةً بلا مقابل” لله الذي أعلن ذاته في المسيح، وهبةً للمسيح، فادي الإنسان وعريس النفوس. ولنقل هبةً زوجيةً. ولا يمكن أن نتفهم البتولية وتكريس المرأة من خلالها، تفهماً صحيحاً، ما لم نُدرجهما في إطار الحب الزوجي، لأن الشخص يصبح، في إطار هذا الحب، هبةً للآخر(42). وبطريقة مماثلة، يجب أن نتفهم تكريس الرجل عبر التبتل الكهنوتي والحياة الرهبانية.
إن نزعة الشخصية الأنثوية الغريزية إلى أن تصبح زوجةً، تجد ما يُشبعها في هذا المفهوم للبتولية. فالمرأة المدعوة منذ “البدء” لأن تكون محبوبةً ولأن تحب، إذا ما دعيت إلى البتولية، تلتقي أولاً المسيح والفادي، الذي “أحب إلى النهاية” حين بذل ذاته كلياً، فتبادله هذا البذل ببذل حياتها كلها بلا مقابل. إنها إذن تهب ذاتها للعريس الإلهي، وعبر هبة شخصها، تنزع إلى أن تتحد به اتحاداً روحياً صرفاً، وتصبح، بفعل الروح القدس، “روحاً واحدة” مع المسيح العريس (كورنثوس أولى 6 : 17).
هذا هو المثال الإنجيلي للبتولية، الذي تتحقق من خلاله كرامة المرأة ودعوتها معاً. ومن خلال البتولية، بمفهومها هذا، يتحقق ما يسمى بمطلقية الإنجيل: أن نترك كل شيء ونتبع المسيح (متى 19 : 17). ولا يمكن مقارنة هذا بمجرد البقاء على العزوبة، لأن البتولية لا تنحصر في أن نقول “لا” للزواج، بل إنها تنطوي على “نعم” عميق، على الصعيد الزوجي. أي “نعم!” لهبة الذات، من أجل أن نحب حباً كلياً، لا نُشرك فيه غير من نحب.
الأمومة الروحية
21ـ أن البتولية، بمعناها الإنجيلي، تقتضي التخلي عن الزواج، وبالتالي عن الأمومة الطبيعية. إلا أن التخلي عن هذا النوع من الأمومة، الذي قد يُحمل قلب المرأة تضحيةً كبرى، يُفسح في المجال لاختيار نوعٍ آخر من الأمومة، وهو الأمومة “بالروح” (رومانيين 8 : 4) والبتولية في الواقع لا تجرد المرأة من مزاياها الخاصة. إن للأمومة الروحية أشكالاً متعددة. ففي الحياة التي تعيشها النساء المكرسات، تبعاً للهبة اللدنية المعطاة لهنَ، وللأنظمة الخاصة المعمول بها في مختلف الجمعيات ذات الطابع الرسولي، يمكن أن تتجلى الأمومة الروحية في العناية بالبشر، لا سيما بالأكثر حرماناً منهم، كالمرضى والمعاقين والمهملين والأيتام والعجزة والأطفال والشباب والمسجونين، وبصفةٍ عامة، الأشخاص، العائشين على هامش المجتمع. فالمرأة المكرسة تلتقي هكذا العريس الإلهي الوحيد على اختلاف صوره، في جميع هؤلاء وفي كل واحد منهم، طبقاً لما قاله هو نفسه: “كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه” (متى 25 : 40). إن الحب الزوجي ينطوي على استعداد فريدٍ للاهتمام بأولئك الذين يوجدون في حقل نشاطه. بنوعٍ خاص، على حب الوالدين لأولادهما. أما في البتولية، فإن هذا الاستعداد يطال جميع الناس، لأنهم جميعاً موضوع حب المسيح العريس.
وبالنسية إلى المسيح، فادي الإنسان جميعاً وكل واحدٍ منهم، فإن الحب الزوجي، الذي تكمن طاقاته الأمومية في قلب المرأة، العروس البتول، مستعدٌ للانفتاح على جميع الناس وعلى كل فردٍ منهم. وهذا يتحقق في الجمعيات الرهبانية الملتزمة بالعمل الرسولي، كما يتحقق بطريقةٍ أخرى في الرهبانيات المتفرغة للتأمل والتصوف وتلك الملتزمة بالحصن الرهباني. وفضلاً عن هذا، فإنّ الدعوة إلى البتولية لأجل الملكوت، تتخذ أشكالاً أخرى، نذكر منها، على سبيل المثال، المؤسسّات الدينيّة ذات الطابع العلمانيّ، والجماعات التي تضمّ أناساً مكرّسين، والتي تنشأ في حضن حركات رسوليّة وجمعياتٍ ورابطات. إنّ الطبيعة الحقيقيّة للأمومة الروحيّة، لدى أشخاصٍ إلتزموا بالبتولية في حياتهم، تتجلّى بطرقٍ مختلفة في كلّ هذه المؤسسات. وعلى كلٍّ، فإنّ المقصود هنا ليس فقط المكرّسين الذين يعيشون عيشةً مشتركة، بل أيضاً أولئك الذين لم يلتزموا بالعيش المشترك. وخلاصة القول، إنّ البتوليّة بوصفها دعوةً للمرأة، هي دائماً دعوة شخص معيّن فردٍ. وعليه، فالأمومة الروحية، التي تُعاش وفقاً لهذه الدعوة، هي شخصية في العمق.
إنطلاقاً من ذلك، هناك تشابه نوعيّ بين بتولية المرأة العزباء ، وأمومة المرأة المتزوجة. وهذا التشابه قائم ليس فقط بين الأمومة والبتولية، كما قلنا آنفاً، بل هو قائم أيضاً بين البتولية والزواج، لأنّ الزواج وجهٌ من أوجه دعوة المرأة، تصبح بموجبه أمّا للأولاد المولودين منها. ونقطة الانطلاق في هذه المقارنة الأخيرة، هي تحديد مضمون العرس. فالمرأة فعلاً مزوّجةٌ، سواءٌ اقترنت بسرّ الزواج، أو اقترنت بالمسيح روحياً، بزواجها منه. وفي الحالتين، ينطوي الزواج على “هبة العروس ذاتها للعريس، بلا مقابل”. وعليه، يمكن القول بأنّ مضمون الزواج يتحقق روحيّاً في البتولية. ثم إنّ الأمومة الطبيعية، من جهتها، يجب أن تكون أيضاً روحيّة، لتتجاوب مع طبيعة الإنسان الحقيقيّة، التي تقوم على وحدة الجسد والروح. فهناك إذن بواعث عديدة تدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ بين هذين الطريقين المختلفين – أي هاتين الدعوتين اللتين تُوجّهان حياة المرأة – تكاملاً عميقاً، بل وحدةً داخلية متأصّلة في كيان الشخص البشري.
“يا أولادي الصغار، أنتم الذين أتمخّض بهم في الألم”
22- إن الإنجيل يكشف فعلاً عن صيغة كيان الشخص البشري هذه، ويفسح لنا في المجال، لفهمها. فهو يساعد كل امرأة وكل رجل على أن يعيشاها ويزدهرا من خلالها… وهناك، في الواقع، مساواةٌ تامّة بين المرأة والرجل بالنسبة إلى أهليّتهما للمشاركة في مواهب الروح القدس، و”عجائب الله” (أعمال 2 : 11). ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ,. فإنّ الرجل، بولس الرسول، يشعر أمام “عجائب الله” بالحاجة إلى الاستعانة بما هو أنثويّ بالطبيعة، ليُعبّر عن واقع خدمته الرسولية. وهذا ما فعله بولس الطرسوسي، عندما توجه إلى الغلاطيين قائلاً: “يا أولادي، أنتم الذين أتمخّض بهم” (غلاطية 4 : 19). وفي رسالته الأولى إلى الكورنثيين، نراه يُعلن سموّ البتوليّة على الزواج. وهذه عقيدة الكنيسة الثابتة، المستمدّة من روح كلمات المسيح، الواردة في إنجيل متّى (متى 19 : 10 – 12) والتي لا تنال قطعيّاً من أهمية الأمومة الطبيعية الروحية. فالرسول لا يجد وسيلةً أجدى من الاستشهاد بالأمومة، لتوضيح رسالة الكنيسة الأساسية.
وإنّا لنجد صدى هذه المقارنة – وهذه الحقيقة – في “الدستور العقائدي في الكنيسة: “إنّ مريم هي مثال الكنيسة” (43). “إن مريم تشغل فعلاً المقام الأول في سرّ الكنيسة، الملقّبة هي أيضاً، وبحقّ، أمّا وعذراء… وتبدو مثالاً للبتول والأم معاً، بطريقة ساميةٍ وفريدة… لقد ولدت ابنها الذي جعله الله البكر بين إخوةٍ كثيرين (رومية 8 : 29) أي بين المؤمنين الذين تشارك في ولادتهم وتربيتهم بحبّها كأمّ” (44)… “ولكنّ الكنيسة، إذ تتأمل في قداسة العذراء العجيبة، وتقتدي بمحبتّها، وتصنع مشيئة الآب بأمانة، تصبح بدورها أمّاً، بفضل كلمة الله التي تتلقاها عن طريق الإيمان. إنّها، بالكرازة وبالعماد، تلد، لحياةٍ جديدة ودائمة، أبناءً حُبل بهم من الروح القدس، “ومن الله ولدوا” (45). إنّ المقصود هنا هو أمومة الكنيسة “بالروح” لأبناء الجنس البشري وبناته. وهذه الأمومة، كما سبق القول، تمارسها المرأة أيضاً عن طريق البتولية… والكنيسة هي أيضاً عذراء، لأنها قدّمت لعريسها إيمانها، الذي تحفظه كاملاً، وغير مشوب (46). وهذا يتحقّق في مريم على أكمل وجه. “وإنّ الكنيسة، إذ تقتدي بأمّ سيّدها، تحافظ إذن، بقوّة الروح القدس، على إيمانٍ مستقيم ورجاء ثابت ومحبةٍ صادقة (47). وهذه الثلاثة، لا تشوب شائبةٌ نقاءها العذريّ”. وقد أكّد المجمع أنه ليس في الاستطاعة فهم سرّ الكنيسة وحقيقتها وحيويّتها الأساسية، بدون الاستعانة بأمّ الله. وإنّا لنجد هنا إشارةً غير مباشرة إلى المثال الكتابيّ للمرأة، كما ورد بوضوح في رواية “البدء” (تكوين 3 : 15) وخلال مسيرة البشرية الطويلة، إبتداءً من الخلق، ومروراً بالخطيئة وانتهاءً بالفداء. وهكذا تتحقق الوحدة العميقة، القائمة بين ما هو بشريّ وما يصبّ في التدبير الإلهي للخلاص، عبر تاريخ الإنسان. والواقع الذي ترشدنا إليه التوراة، هو أننا لا نستطيع تفسير نصوص الكتب المقدّسة، في ما يتعلّق بالإنسان، أي في ما هو “بشريّ” دون الاستعانة بما هو “أنثويّ”. وهذا ما نجده، بطريق القياس، في تدبير الله الخلاصي: فإذا شئنا أن نفهم هذا التدبير فهماً كاملاً، في ما يتعلّق بكامل تاريخ الإنسان، لا يجوز لنا أن نسقط من منظور إيماننا، سرّ المرأة، عذراء وعروساً معاً.
القسم السايع
الكنيسة عروسُ المسيح
السرُّ الكبير
23- إنّ للكلمات التي وردت في الرسالة إلى الأفسسيّين أهمية خاصة بهذا الصدد: “أيها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وضحّى بنفسه من أجلها، ليقدّسها ويطهّرها بماء الاستحمام وبما يتلى من الكلام، ويزفَّها إلى نفسه كنيسةً سنيّةً لا شائبة فيها ولا تغضّن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسةً بلا عيب. وكذلك يجب على الرجال أن يحبّوا نساءهم حبّهم لأجسادهم. من أحبّ امرأته أحبّ نفسه. فما من أحدٍ يبغض جسده، بل يغذيه ويعنى به، شأن المسيح بالكنيسة. فنحن أعضاء جسده. ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته، فيصير الاثنان جسداً واحداً. إنّ هذا السرّ لعظيم، وأعني به سرّ المسيح والكنيسة” (أفسس 5 : 25 – 32).
يعبّر كاتب هذه الرسالة عن واقع الكنيسة كعروسٍ للمسيح، كما يبيّن كيف أنّ هذا الواقع مبنيٌّ على ما ورد في الكتاب، بشأن خلق الكائن البشريّ، رجلاً وامرأة. فإنّ الاثنين، لكونهما مخلوقين على صورة الله ومثاله، ولكونهما “اثنين في واحد” مدعوّان كلاهما إلى حبٍّ متبادل، ذي طابع زوجيّ. ويمكن كذلك القول، إنطلاقاً ممّا جاء في سفر التكوين (تكوين 2 : 18 – 25) من وصفٍ للخلق، إنّ هذه الدعوة الأساسية تبرز إلى الوجود في ذات الوقت الذي خلقت فيه المرأة. وإنّ الخالق أدرجها في مؤسّسة الزواج، التي أولاها سفر التكوين، منذ البدء، طابع اتّحادٍ بين الأشخاص (شركة بين الأشخاص) (تكوين 2 : 24). وإنّ وصف “البدء” بهذا الأسلوب (تكوين 1 : 27) يظهر، وإن بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ كامل المسلكية التي تربط بين الرجل والمرأة يجب أن ينسجم مع طبيعة كيانهما الشخصية الأصلية.
كلّ هذا قد أخذناه آنفاً بعين الاعتبار. ونصّ الرسالة إلى الأفسسيّين يؤكّد مرةً أخرى الحقيقة ذاتها، ويقارن في آنٍ بين الطابع الزوجيّ للحبّ المتبادل بين الرجل والمرأة، من جهة، وسرّ المسيح والكنيسة، من جهةٍ أخرى. فالمسيح هو عريس الكنيسة، والكنيسة هي عروس المسيح. وليست هذه المقارنة بجديدة: إنّها تنقل إلى العهد الجديد ما تضمّنه العهد القديم بهذا الصدد، لا سيّما في أسفار الأنبياء هوشع وإرميا وحزقيال وأشعيا (48). ففي هذه الأسفار فقرات مختلفة تستحق تحليلاً خاصّاً، نذكر منها واحدةً على الأقّل. إليكم ما قاله الله لشعبه المختار على لسان أشعيا النبيّ: “لا تخافي (أيّتها العاقر التي لم تلد) فإنك لا تخزين، ولا تخجلي فإنك لا تفتضحين، لأنّك ستنسين خزي صبائك، ولا تذكرين عار إرمالك من بعد. لأنّ بعلك هو صانعك، الذي ربُّ الجنود اسمه، وفاديك هو قدّوس إسرائيل، الذي يدعى إله الأرض كلّها. وقد دعاك الربّ كامرأةٍ مهجورةٍ، مكروبة الروح، وكزوجة الصباء، إذا استُرذلت، قال الربّ. هنيهةً هجرتك، وبمراحم عظيمةٍ أضُمُّك. في سورة غضبٍ حجبت وجهي عنك لحظةٍ، وبرأفةٍ أبديةٍ أرحمك، قال فاديك الرب… إن الجبال تزول والتلال تتزعزع، أمّا رأفتي فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب” (أشعيا 54 – 8 ر 10).
إذا كان الكائن البشريّ، رجلاً كان أو امراةً، مخلوقاً على صورة الله ومثاله، فإنّ الله يستطيع أن يتحدّث عن نفسه على لسان النبيّ، مستعملاً لغةً هي بطبيعتها بشرية. ففي النصّ المذكور من سفر أشعيا، يعبرّ الله عن حبّه، الذي هو إلهي، بأسلوبٍ بشريّ. ولمّا كان هذا الحبّ صادراً عن الله، فإنّه يحمل طابعاً زوجياً. هو إلهيّ بكل معنى الكلمة، وإن تمّ التعبير عنه عن طريق مقارنته بحبّ الرجل للمرأة. إنّ هذه المرأة – العروس هي إسرائيل، بصفته شعباً مختاراً من الله. وهذا الاختيار ينبع من حلّ الله المجّانيّ وحده. وانطلاقاً من هذا الحبّ بالذات، يمكننا تبرير العهد المبرم، الذي غالباً ما يبرز في صورة عهدٍ زوجيّ، يعقده الله مع شعبه المختار بلا انقطاع. إنّ هذا العهد هو من قبل الله “التزام” ثابت. فالله يبقى أميناً لحبّه الزوجيّ، وإن نكثت العروس العهد في أحيانٍ كثيرة.
إنّ صورة الحبّ الزوجيّ هذه، المرتبطة بشخصيّة العريس الإلهي – والواضحة تماماً في النصوص النبويّة – يؤكدها ويتّوجها ما ورد في الرسالة إلى الأفسسيّين (أفسس 5 : 23 – 32). فيوحنا المعمدان رحّب بالمسيح كعريس (يوحنا 3 : 27 – 29) والمسيح نفسه كان يطلق على ذاته هذا اللقب، المقتبس من أقوال الأنبياء (مرقس 2 : 19 ر 20) وبولس الرسول، المتأثّر بكامل تراث العهد القديم، كتب إلى الكورنثّيين يقول: “إنّي أغار عليكم غيرة الله، لأنّي خطبتكم لزوجٍ واحد، وهو المسيح، لأزفّكم إليه زفّة عذراء طاهرة” (كورنثوس الثانية 11 : 2). لكنّ التعبير الأكثر بلاغةً عن حقيقة حبّ المسيح الفادي، من جهة تشابهه مع الحبّ الزوجيّ، نجده في الرسالة إلى الأفسسيّين: “أحبّ المسيح الكنيسة وضحّى بنفسه من أجلها” (أفسس 5 : 25). وبهذا يتأكّد تماماً واقع الكنيسة كعروسٍ للمسيح: “فاديك هو قدّوس إسرائيل” (أشعيا 54 : 5). والقياس المرتكز على العلاقة الزوجيّة، يأخذ في النصّ البولسيّ اتّجاهين يؤلّفان معاً “السرّ الكبير” (sacramentum magnum) في مجمله. فاتّحاد الزوجين، بحصر المعنى، يوضح الطابع الزوجي لاتّحاد المسيح والكنيسة. وهذا الاتّحاد بدوره، بوصفه “السرّ الكبير” يحتّم سريّة الزواج (أي كونه سرّاً من أسرار الكنيسة)، كعهدٍ مقدّس يربط بين الزوجين، الرجل والمرأة. وعندما نقرأ هذا النصّ الحافل بالمعاني والمتشعّب، والذي يشكّل في مجمله قياساً ضخماً، علينا أن نمّيز فيه بين ما يعبّر عن الواقع البشري للعلاقات بين الأشخاص، وما يعبر بلغةٍ رمزيّة عن السرّ الإلهيّ الكبير.
الجديدُ في الإنجيل
24- إنّ النصّ الذي سنورده الآن، موجّه إلى الأزواج، رجالاً ونساءً معيّنين. وهو يذكرهم بمسلكية الحبّ الزوجي، التي ترتبط بتأسيس الله للزواج في “البدء”. وإنّ طبيعة هذا التأسيس الحقيقية تلتقي مع حضّ الأزواج على محبّة زوجاتهم: “أيّها الرجال، أحبّوا نساءكم”. أحبّوهنَّ بسبب الرباط الخاصّ والفريد الذي يجعل من الرجل والمرأة المتزوجين “جسداً واحداً” (أفسس 5 : 31 وتكوين 2 : 24). وهذا الحبّ ينطوي على تأكيد أساسيّ لشخصيّة المرأة، يؤهّلها لأن تنمو تماماً وتتجمّل. وهذا يعكس بالضبط تصرّف المسيح كعريس للكنيسة. فهو يرغب في جعلها “سنيّةً، لا شائبة فيها ولا تغضّن” (أفسس 5 : 27). ويمكن القول أنّ النمط الذي يعتمده المسيح في تعامله مع المرأة، يتأكّد هنا تماماً. وعلى الزوج أن يتبنّى كل مقومّات هذا النمط في علاقته بزوجته. وهذا يسري بطريق القياس، وفي كل الأحوال، على كلّ رجلٍ، في تصرّفه تجاه المرأة، أيّة امرأة. وهكذا يعيش كلاهما، الرجل والمرأة، “بذل الذات بلا مقابل”.
ولا يرى كاتب الرسالة إلى الأفسسيّين أيّ تناقضٍ بين هذا التوجيه ووجوب “خضوع النساء لأزواجهنَّ خضوعهنَّ للرب لأنّ الرجل هو رأس المرأة” (أفسس 5 : 22 ر 23). ولا يخفي كاتب الرسالة أنّ واجب الخضوع هذا، المتأصّل في أعماق طبائع ذلك الزمن، وتقليده الدينيّ، يجب أن يفهم ويعاش بطريقةٍ جديدة، على أنه “خضوعٌ متبادل بتقوى المسيح” (أفسس 5 : 21). وهذا يؤكّده قول الرسول إنّ الزوج هو رأس المرأة “كما” أنّ المسيح هو رأس الكنيسة، أي أنه رأس المرأة لكي “يُضحيّ بنفسه لأجلها” (أفسس 5 : 25) ويبذل حياته ذاتها، إذا اقتضى الأمر، مع هذا الفارق، وهو أنّ العلاقة بين المسيح والكنيسة تفرض على الكنيسة وحدها أن تخضع للمسيح، فيما العلاقة بين الزوج وامرأته تفرض الخضوع المتبادل، لا الخضوع من جانبٍ واحد.
إنّ هذا بالطبع “جديد” بالنسبة إلى التقليد القديم، وهو الجديد الذي جاء به الإنجيل. وهناك نصوصٌ عديدة في ما كتبه الرسل، تعبّر عن هذا الشيء الجديد، الذي يعتبر جديداً حتّى بالنسبة إلى “القديم” المتأصّل في تقليد إسرائيل الديني نفسه، وفي أسلوبه في فهم النصوص المقدّسة وتفسيرها. هذا ما نلمسه مثلاً في الفصل الثاني من سفر التكوين (49).
إنّ رسائل الرسل موجّهة إلى أناسٍ يعيشون في بيئةٍ تفكّر وتعمل بحسب التقليد القديم… و”الجديد” الذي جاء به المسيح واقعٌ لا يمكن إنكاره: إنّه مضمون الرسالة الإنجيليّة، الذي لا لبس فيه، وهو ثمرة الفداء. والاعتقاد بأنّ الزواج بنطوي على “خضوع متبادلٍ بين الزوجين في تقوى المسيح” وليس فقط على خضوع المرأة للرجل، يجب أن ينفذ إلى القلوب والضمائر ويكيّف التصرّفات والطبائع. إنها دعوة إلى الأجيال المتعاقبة، لم تزل ملحّةً، أطلقها العهد الجديد. وعلى الرجال أن يستجيبوا لها بلا انقطاع. ولم يكتب الرسول فقط “إنه في المسيح… ليس رجلٌ ولا امرأة” بل أضاف “ليس عبدلٌ ولا حرّ”. ومع هذا، كم من الأجيال مرّت قبل أن يتأصّل هذا المبدأ في تاريخ البشريّة، عن طريق إلغاء نظام الرقّ! وماذا نقول عن أشكال العبوديّة المتعدّدة، التي تفرض على البشر والشعوب، والتي لم تغب بعد عن مسرح التاريخ؟
ومع هذا فإن مسلكية الفداء تتضمّن تحدّياً صريحاً وحاسماً. وكلّ المحاولات التي ترمي إلى تبرير “خضوع” المرأة للرجل، في حالة الزواج، يجب أن تصبّ في إطار الخضوع المتبادل بينهما، في “تقوى المسيح”. وبعد الحبّ الزوجي الحقيقي يجد مصدره الأعمق في المسيح، الذي هو عريس الكنيسة كما أنّها هي عروسه.
البُعدُ الرمزي للسرّ الكبير
25- إننا نجد في نصّ الرسالة إلى الأفسسيين بعداً ثانياً للمماثلة التي تساعد، في مجملها، على إعلان “السرّ الكبير”. إنّه بعدٌ رمزيّ. فإذا كان الأنبياء قد صوّروا حبّ الله للإنسان ولإسرائيل، الشعب المختار، على أنه حبّ العريس للعروس، فإنّ هذه المماثلة تعبّر عن الصفة “الزوجيّة” لحبّ الله، وطابعه الإلهي، لا البشريّ: “إنّ بعلك هو صانعك… ويُدعى إله الأرض كلّها” (أشعيا 54 : 5). والشيء ذاته ينطبق على الحبّ الزوجي للمسيح الفادي: “لأنّ الله بلغ من حبّه للعالم أنه بذل ابنه الوحيد” (يوحنا 3 : 16). إننا إذن بصدد حبّ الله المتجلّي في الفداء، الذي أنجزه المسيح. وهذا الحبّ، بحسب الرسالة البولسية “شبيهٌ” بالحبّ الزوجي، القائم بين الزوجين البشريّين. ولكنه يختلف عنه. فالمماثلة تفترض بالفعل تشابهاً، ولكنّ هذا التشابه يترك مكاناً لهامشٍ من التباين مناسباً.
ومن اليسير ملاحظة هذا الواقع، إذا تأمّلنا في ما ترمز إليه المرأة. إنّ العروس، بحسب الرسالة إلى الأفسسيّين، هي الكنيسة، كما أنّها كانت إسرائيل، بحسب الأنبياء. فالعروس إذن هنا جماعةٌ لا فردٌ. وهذه الجماعة هي شعب الله، أي أنها مجتمعٌ يتألف من أشخاصٍ كثيرين، رجالٍ ونساء. وقد أحبّ المسيح الكنيسة فعلاً بصفتها مجتمعاً وبصفتها شعب الله. وأحبّ في ذات الوقت كلاًّ من الأشخاص المنتمين إلى هذه الكنيسة، التي دعيت أيضاً “جسده” في ذات الفقرة من الرسالة (أفسس 5 : 23). والمسيح افتدى، في الواقع، كلّ رجلٍ وكلّ امرأة. إفتدى الجميع بلا استثناء. ويتجلّى حبّ الله هذا، بالضبط، في الفداء، الذي يحمل الطابع الزوجيّ لهذا الحبّ، عبر تاريخ البشريّة.
لقد دخل المسيح في هذا التاريخ واستمرّ فيه، بوصفه العريس الذي “ضحّى بذاته”. وإذ نقول “ضحّى بذاته” نعني أنّه أصبح “هبةً بلا مقابل”. وهذه الهبة تمّت على الوجه الأشمل والأفعل: “ما من حبّ أعظم من هذا” (يوحنا 15 : 13). وانطلاقاً من هذا المفهوم، يصبح كل البشر – الرجال والنساء – بفضل الكنيسة، مدعوّين لأن يكونوا “عروس” المسيح، فادي العالم. وهكذا يصبح لقب “العروس” بصيغة “المؤنّث” رمزاً “للبشريّ” ككلّ، طبقاً لقول بولس: “إنه ليس ذكرٌ ولا أنثى، لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع” (غلاطية 3 : 28).
يمكن القول، من الناحية اللغوية، إنّ قياس الحبّ الزوجي، الوارد ذكره في الرسالة إلى الأفسسيين، قد عزا ما هو “مذكّر” إلى ما هو “مؤنث” لأن الرجال، بوصفهم أعضاء في الكنيسة، يندرجون هم أيضاً في مفهوم “العروس”. ولا عجب في هذا، لأنّ الرسول حين شاء التعبير عن رسالته في المسيح وفي الكنيسة، لقّب المؤمنين بأولاده “الذين يتمخّض بهم” (غلاطية 4 : 19) وإذا اختلف ما هو ذكرٌ وما هو أنثى، في مجمل ما هو “بشريّ”، وما هو، في البشريّة، شخصيّ، فإنهما، في ذات الوقت، يتكاملان ويوضح كلّ منهما الآخر. وهذا يبدو جليّاً أيضاً من خلال قياس “العروس” الهامّ، الوارد في الرسالة إلى الأفسسّيين. فكلّ كائنٍ بشريّ في الكنيسة، رجلاً كان أو امرأة، هو “العروس” لأنه يتقبّل حبّ المسيح الفادي، المتمثّل في التضحية بذاته، ولأنّه يحاول أيضاً أن يستجيب لهذا الحبّ، عن طريق التضحية بشخصه.
إنّ المسيح هو العريس. وبهذا تتجلّى حقيقة حبّ الله، الذي “أحبنا هو أولاً” (رسالة يوحنا الأولى 4 : 19) وتجاوز كلّ توقعات البشر، بهبة ذاته، تلك الهبة التي ولّدها حبّه الزوجي للإنسان، “الذي بلغ أقصى حدوده” (يوحنا 13 : 1). والعريس – الابن الواحد مع الآب في الجوهر، بصفته إلهاً – صار ابن مريم، وابن الإنسان، رجلاً حقيقيّاً وذكراً. إنّ رمز العريس مذكّر. وهذا الرمز المذكّر يمثّل الطابع البشريّ، الذي عبّر الله من خلاله عن حبّه الإلهي لإسرائيل وللكنيسة وللبشر أجمعين. وإنّا، إذ نتأمّل في الأناجيل، في موقف المسيح من النساء، يمكننا أن نستنتج أنّه كإنسان، من نسل إسرائيل، قد كشف عن كرامة “بنات إبراهيم” (لوقا 13 : 16) تلك الكرامة التي تملكها المرأة بالمساواة مع الرجل، منذ “البدء”. وفي الوقت نفسه أبرز المسيح كلّ ما تفرّدت به المرأة، وامتازت به عن الرجل، وكلّ الثروة التي حظيت بها في سرّ الخلق. ومن خلال موقف المسيح من المرأة، يتحقّق بطريقة مثالية، مفهوم “العريس” كما ورد في الرسالة إلى الأفسسيّين. ولمّا كان حبّ المسيح الإلهي هو حبّ عريس لعروسه، أصبح هذا الحبّ مثالاً ونموذجاً لكل حبّ بشريّ، لا سيّما الحبّ الصادر عن الرجال.
الإفخارستيّا
26- إنّ دعوة الاثني عشر رسولاً يمكننا فهمها من خلال المضمون الواسع “للسرّ الكبير”، الذي يقوم على العلاقة الزوجيّة بين المسيح والكنيسة. لقد تصرّف السيد المسيح بحرّية تامة ومطلقة، حين قصر دعوته على الرجال ليكونوا رسلاً. ولهذه الحريّة ذاتها أبرز كرامة المرأة ودعوتها من خلال تصرّفه، مخالفاً بذلك الأعراف السائدة إذ ذاك والتقاليد التي أقرّها التشريع في زمانه. ولهذا فإنّ الافتراض بأنّ المسيح دعا الرجال وحدهم ليكونوا رسلاً، لمجرّد التجاوب مع الذهنيّة المنتشرة في عصره، أمرٌ لا يتّفق قطعيّاً مع أسلوبه في التصرّف: “يا معلم، عهدناك صادقاً، تهدي الناس سبيل الله هداية صدق ولا تنظر إلى وجوه الناس” (متى 22 : 16). إنّ هذا القول يوضح تماماً تصرّف يسوع الناصريّ. وإنّا نجد فيه تفسيراً لدعوة الاثني عشر رسولاً. إنّهم إلى جوار المسيح في العشاء السرّي، ولهم وحدهم أعطيت الوصيّة، التي تؤمّن استمرار سرّ الإفخارستيّا: “إصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22 : 19 وكورنثوس الأولى 11 : 24). وفي مساء يوم القيامة، نالوا الروح القدس وسلطة الحلّ من الخطايا: “خذوا الروح القدس. من غفرتم له خطاياه تغفر له ومن أمسكتم عليه الغفران، بمسك عليه” (يوحنا 20 : 23).
إننا في صميم السرّ الفصحيّ، الذي يكشف تماماً عن حبّ الله الزوجيّ. فالمسيح هو العريس “لأنه ضحى بذاته: بذل جسده وأهرق دمه (لوقا 22 : 19 ر 20). وهكذا “أحبّ إلى أقصى حدود الحبّ” (يوحنا 13 : 1). وإنّ “هبة ذاته بلا مقابل” عن طريق ذبيحة الصليب، تبرز، بطريقة حاسمة، المضمون الزوجي لحبّ الله. فالمسيح عريس الكنيسة بوصفه فادي العالم، والافخارستيا هي سرّ فدائنا. إنّها سرّ العريس والعروس، وهي تستحضر وتجدّد سرّياً العمل الفدائي للمسيح، مؤسّس الكنيسة التي هي جسده. والمسيح متّحدٌ بهذا الجسد اتحاد العريس بالعروس. كلّ هذا تتضمّنه الرسالة إلى الأفسسيّين. وفي سرّ المسيح والكنيسة العظيم تندرج “وحدة الاثنين” الأبدية، التي أنشأها الله منذ “البدء” بين الرجل والمرأة.
وإذا كان المسيح، عند تأسيس سرّ الإفخارستيا، قد ربط بهذا الوضوح بينه وبين خدمة الرسل الكهنوتيّة، فمن الجائز الاعتقاد بأنه أراد بهذه الطريقة إظهار العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، بين ما هو “أنثويّ” وما هو “ذكريّ”، تلك العلاقة التي أرادها الله، سواءٌ في سرّ الخلق أو في سرّ الفداء. ففي الإفخارستيا يتجلّى سرّيّاً، وقبل كلّ شيء، عمل المسيح – العريس الفدائي تجاه الكنيسة – العروس. ويصبح هذا واضحاً، ولا لبس فيه، عندما يقوم الرجل نفسه بخدمة سرّ الإفخارستيا، حيث يعمل الكاهن “في شخص المسيح”. وهذا التفسير يؤكّد التعليم الوارد في البيان Inter inisigniores الذي نُشر من البابا بولس السادس، للإجابة على الأسئلة التي أثارتها قضية قبول النساء في سلك كهنوت الخدمة (50).
هِبَةُ العروس
27- إنّ المجمع الفاتيكاني الثاني جدّد في الكنيسة الوعي لشموليّة الكهنوت. فلا يوجد في العهد الجديد سوى ذبيحة واحدة وكاهن واحد، هو المسيح. وجميع المعمّدين، رجالاً ونساءً، يشاركون في هذا الكهنوت الواحد، لأنّهم جميعاً مدعوّون “لأن يجعلوا من أنفسهم ذبيحةً حيّة، مقدّسةً، مرضيّةً عند الله” (رومية 12 : 1) وليشهدوا للمسيح على وجه الأرض كلّها، ويبّرروا رجاء الحياة الأبدية الذي فيهم، كلّما طلب منهم ذلك” (51). إنّ المشاركة العامة في ذبيحة المسيح، التي قدّم الفادي للآب بواسطتها العالم أجمع، ولا سيّما البشرية، تؤلّف من جميع أعضاء الكنيسة “مملكة كهنة” (بطرس 2 : 9 ورؤيا 5 : 10) أعني أنّهم يشاركون ليس في الرسالة الكهنوتية فحسب، بل في رسالة المسيح المخلّص النبويّة والملكية أيضاً. وهذه المشاركة تقود، فضلاً عن ذلك، إلى الاتّحاد العضويّ بين الكنيسة، بوصفها شعب الله، والمسيح. و”السرّ الكبير” المنصوص عنه في الرسالة إلى الأفسسيين، يتجلى، في الوقت ذاته، من خلال هذه المشاركة: فالعروس متّحدة بعريسها، لأنها تستمدّ حياتها من حياته، ولأنّها تشارك في رسالته المثلثة. وهي متّحدة به، بحيث أنّها إذ “تهب ذاتها بلا مقابل” تستجيب للهبة، فائقة الوصف، الصادرة عن حبّ العريس، فادي العالم. وهذا يعني الكنيسة بأجمعها، برجالها ونسائها، كما أنه يعني، بالطبع، المشاركين في “كهنوت الخدمة” (52). الذي هو بالطبيعة خدمة. والجميع مدعوّون، في إطار سرّ المسيح والكنيسة الكبير، لأن يستجيبوا – كعروس – للهبة، فائقة الوصف، الصادرة عن المسيح، الذي هو عريس الكنيسة الوحيد، بصفته فادي العالم. وذلك عن طريق هبة حياتهم. وتتجلّى هبة العروس، في ذات الوقت، “الكهنوت الملوكي: الذي يشمل الجميع.
إنّ هذا الواقع يرتدي أهمية أساسيّة، إذا شئنا أن ندرك كنه الكنيسة، متحاشين العودة إلى استعمال معايير تفسير وتقدير، لا علاقة لها بطبيعة الكنيسة، وإن كانت هذه مؤسّسة مؤلّفة من بشر، ومدرجة في التاريخ. وإن كانت الكنيسة ذات هيكليّة إيراركية (53)، فإنّ هذه الهيكليّة موجّهةٌ كليّاً إلى تقديس أعضاء المسيح. وتقويم القداسة منوط “بالسرّ الكبير” حيث تهب العروس حبّها مقابل ما وهبها العريس الإلهي. وهي تفعل هذا بالروح القدس “لأنّ حبّ الله أفيض في قلوبنا بالروح القدس الذي وهب لنا” (رومية 5:5) وإذ أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني التعليم التقليدي الثابت، فإنّه ذكرّنا بأن المرأة، مريم الناصرة، هي، بالضبط، في سلّم القداسة، “رمز” الكنيسة. إنّها تسبقنا جميعاً على درب القداسة. ففي شخصها تبلغ الكنيسة الكمال، الذي يقيها “من كلّ شائبةٍ وتغضّن” (54) (أفسس 5 : 27). وانطلاقاً من هذا المفهوم، يمكن القول إنّ الكنيسة “مريمّية” كما أنها “رسولية” و”بطرسيّة” (55).
ومنذ القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، كان، إلى جانب الرجال، نساءٌ كثيرات، كانت حياتهنَّ أبلغ تعبير عن استجابة العروس لحبّ العريس الفادي. فهناك أولاً النساء اللواتي لاقين المسيح شخصيّاً، وتبعنه، وبقين، بعد صعوده، مثابراتٍ على الصلاة مع الرسل، في علّية أورشليم، إلى يوم العنصرة، حيث تكلّم الروح القدس بلسان “أبناء وبنات” شعب الله، متمّماً ما سبق فأعلنه النبيّ يوئيل (أعمال 2 : 17).
إنّ أولئك النساء، وأخرياتٍ ممّن تلونهنَّ، إضطلعن بدور ناشطٍ وهامّ في حياة الكنيسة الناشئة، وفي بناء الجماعة المسيحية الأولى، من الأساس، والجماعات التالية، وذلك بفضل ما امتزن به من مواهب، ولتعدّد أوجه الخدمة، التي يمكن أن تناط بهنَّ. لقد حفظت النصوص الرسولية أسماءهنَّ، ومنهنّ فيبة، خادمة كنيسة قنخرية، (رومة 16 : 1) وبرسقة وزوجها أقيلا (تيموثاوس الثانية 4 : 19) وأوهودية وصنطيخة (فيلبّي 4 : 2) ومريم وطروفانية وبرسيس وطروفوسة (رومة 16 : 6 ر 12). ويتحدّث الرسول عن “أتعابهنّ” في سبيل المسيح. وهذه الأتعاب تتناول مختلف مجالات الخدمة الرسوليّة في الكنيسة، ابتداءً من “الكنيسة البيتية”. فالإيمان الذي “لا مواربة فيه” ينتقل فعلاً من الأمّ إلى الأولاد والأحفاد. وهذا ما حدث في بيت تيموثاوس (تيموثاوس الثانية 1 : 5).
ويشهد تاريخ الكنيسة بأنّ هذا الواقع يستمرّ على مرّ العصور، من جيلٍ إلى جيل. وإذ تدافع الكنيسة عن كرامة المرأة ودعوتها، فإنها تقرّ بفضل أولئك النساء، وتكرّمهنّ، لأنّ وفاءهنَّ للإنجيل حملهنَّ على المشاركة، في كل وقتٍ، في نشاطات كل شعب الله الرسولية. فمنهنَّ الشهيدات القدّيسات والعذارى وربّات العائلات، اللواتي شهدن لإيمانهنَّ ببسالة، ونقلن الإيمان وتقاليد الكنيسة عبر الأجيال، من خلال تنشئة أولادهنّ على روح الإنجيل.
وإنّا لنجد في كل الأزمنة، وكلّ البلاد، نساءً “فاضلات” (أمثال 31 : 10) شاركن في رسالة الكنيسة، بالرغم من الاضطهادات والعراقيل والتفرقات الاجتماعية، نكتفي هنا بذكر بعضهنَّ، كمونيك والدة أغسطينوس، ومكرينا وأولغا التي من كييف، وماتيلدا من توسكانا، وإدويج من سيليزيا وإدويج الأخرى من كراكوفيا وإليزابيت من تورانج وبريجيت من السويد وجان دارك وروز دي ليما واليزابيت سيتون وقد كان لشهادة النساء المسيحيّات، ولنشاطهنَّ، أثرّ بليغ في حياة الكنيسة، كما في حياة المجتمع. وقد عملت النساء القدّيسات “بحرّية” حتى في مواجهة التفرقات الاجتماعية، يشدّ أزرهنّ اتّحادهنّ بالمسيح. وهذا الاتحاد، وهذه الحريّة اللذان يدعمهما الله، يفسّران مثلاً الدور الهامّ الذي اضطلعت به القديسة كاترين دي سيينّ في حياة الكنيسة، والقديسة تريزيا الطفل يسوع في الحياة الرهبانيّة.
ولا تزال الكنيسة تزدهر، في أيامنا أيضاً، بفضل شهادة نساءٍ كثيرات، يُنمين دعوتهنَّ إلى القداسة. إنّ أولئك النساء القديسات يجسّدن المثال الأعلى للأنثى، بل انهنَّ أيضاً قدوة لجميع المسيحيين، ومثالٌ تقتدي به عروس المسيح في أسلوب مبادلتها حبّ العريس بحبّها.
القسم الثامن
وأعظمهُنَّ المحبّة
في مواجهة التغيّرات
28- “تؤمن الكنيسة بأنّ المسيح الذي مات وقام لأجلنا، يقدّم للإنسان، بواسطة الروح القدس، النور والطاقات التي تساعده على الاستجابة لدعوته السامية” (56). إن هذا الكلام، الوارد في الدستور المجمعي “فرح ورجاء” يمكننا أن نطبقه على الموضوع الذي نحن بصدد التأمّل فيه. فالتركيز الخاص على كرامة المرأة ودعوتها، الذي يميّز العصر الذي نعيش فيه، يمكن بل يجب أن نأخذه بعين الاعتبار. معتمدين على النور والطاقات التي يهبها روح المسيح للإنسان، في زمننا الحافل بالتغيّرات الكثيرة.
“إنّ الكنيسة تؤمن … بأن المدخل إلى الإنسان وإلى تاريخ البشرية بأكمله، ومحورهما وغايتهما، تكمن في سيّدها ومعلّمها” وهي “تؤكّد أنّ أشياء كثيرة وثابتة تبقى راسخةً تحت غطاء كلّ هذه التحوّلات، لأنها تقود بصفةٍ نهائية، على أساس المسيح، الذي هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد” (57).
إنّ دستور “الكنيسة في عالم اليوم” يرشدنا بهذا الكلام، إلى الطريق الواجب اتّباعها، للوفاء بالالتزامات المترتبة على كرامة المرأة ودعوتها، في إطار تغيرات عصرنا الهامّة، ولا يمكننا مواجهة هذه التغيّرات بطريقة صحيحة ومجدية إلاّ بالرجوع إلى الأسس الثابتة في المسيح، وإلى الحقائق والقيم “الدائمة” التي يبقى هو نفسه “الشاهد الأمين” لها وسيّدها. وكلّ أسلوب آخر في التعاطي مع هذه التغيّرات، يقودنا إلى نتائج مشكوكٍ فيها، إن لم يكن، قطعاً، خاطئة وخادعة.
كرامة المرأة ونظام الحبّ
29- إنّ الفقرة التي ذكرناها من الرسالة إلى الأفسسييّن (أفسس 5 : 21 – 33) والتي تشبّه العلاقة بين المسيح والكنيسة بتلك التي تربط بين العريس والعروس، تذكّرنا كذلك بمؤسّسة الزواج، كما ورد ذكرها في سفر التكوين (تكوين 2 : 24). وهي تقابل بين واقع الزواج، كسرّ أساسيّ، وخلق الرجل والمرأة على صورة الله ومثاله (تكوين 1 : 27 و 5 : 1). وبفضل هذه العلاقة ذات المغزى، التي تنطوي عليها الرسالة إلى الأفسسيين، يتوضّح تماماً الأساس الذي أرسيت عليه كرامة المرأة في نظر الله، الخالق والفادي، وفي نظر الإنسان، رجلاً كان أو امرأة. ففي المرأة، بحسب تدبير الله الأزلي، يجد نظام الحبّ المتبادل بين الأشخاص، في العالم المخلوق، مجال تأصّله الأول.إنّ الحبّ، كما رتّبه الله، منوط بحياة الله الخاصّة ذاتها، أي بحياة الثالوث الأقدس. فالروح القدس، هو في حياة الله الخاصّة، أقنوم الحبّ الشخصيّ. وبالروح القدس، الذي هو الهبة غير المخلوقة، يصبح الحبّ هبةً للأشخاص المخلوقين: “إنّ محبة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رومة 5:5).
إنّ دعوة المرأة إلى الوجود إلى جانب الرجل “عوناً بإزائه” (تكوين 2 : 18) في “وحدة الاثنين” تنشئ، في عالم الخلائق المنظور، أوضاعاً خاصة، تساعد على “إفاضة محبة الله في قلوب” من خُلقوا على مثاله. وإذا كان كاتب الرسالة إلى الأفسسييّن يدعو المسيح عريساً والكنيسة عروساً، فإنّه يؤكد بطريقة غير مباشرة، عبر هذا القياس، واقع المرأة كعروس. فالعريس هو الذي يحبّ، والعروس هي المحبوبة، التي تتلّقى الحبّ لتُحِبَّ بدورها.
وإذا قرأنا هذه الفقرة من كتاب التكوين، على ضوء التمثيل الزوجي، الوارد في الرسالة إلى الأفسسيين، أدركنا حقيقةً تتعلق بقضية كرامة المرأة، وبالتالي بقضيّة دعوتها. وهذه الحقيقة التي تبدو قاطعةً تماماً، هي أنّ كرامة المرأة تقاس بمقياس الحبّ، الذي هو، في الأساس، مقياس عدالةٍ وبرّ (58).
وحده الشخص يملك أن يُحبّ، ووحده يملك إن يُحَبّ. وهذا ثابت على مستوى علم الكائنات (الأنتولوجيا) وبالتبعية على مستوى علم الأخلاق. فالحبّ ضرورة كيانية وأخلاقية بالنسبة إلى الشخص، والشخص يجب أن يُحب، لأنّ الحبّ وحده ينسجم مع طبيعة الشخص. وهذا يبرّر وصيّة المحبّة، التي أقرّها في السابق العهد القديم (سفر تثنية الاشتراع 6 : 5 وسفر الأحبار 19 : 18) والتي وضعها المسيح في قلب المسلكية الإنجيلية (متى 22 : 36 – 40 ومرقس 12 : 28 – 34) وهذا يبرّر أيضاً أولوية المحبة، التي يعبرّ عنها بولس، في رسالته إلى الكورنثيّين: “فالإيمان والرجاء والمحبة هي الثلاثة الباقية، وأعظمهنَّ المحبّة” (كورنثوس الأولى 13: 13).
إنّ القضية المطروحة بشأن كرامة المرأة ودعوتها، لا يمكن أن نفيها حقها كاملاً، بدون أن نأخذ بعين الاعتبار هذا المستوى وهذه الأولوية. وحين نقول إن المرأة هي التي تتلقى الحب، لتُحبَ بدورها، لا نفكر أيضاً بما هو أهم وأوسع، لأن هذه الخليقة امرأة، لها مكانها في مجمل العلاقات المتبادلة بين الأشخاص، والتي تنظم، بأساليب متنوعة جداً، الحياة المشتركة والتعاون بين الأشخاص، رجالاً ونساءً. وللمرأة، في هذا المضمون الواسع والمتنوع، قيمة خاصة، بوصفها شخصاً بشرياً، وفي الوقت نفسه، شخصاً معيناً، من جراء أنوثتها. وهذا الواقع يشمل جميع النساء، وكل واحدة منهنَ، بصرف النظر عن مستواهنَ الثقافي، وميزاتهن الروحية والنفسية والجسدية، كالسن والعلم والصحة والعمل وحالة الزواج، أو العزوبة.
وانطلاقاً من الفقرة التي نحن بصددها، من الرسالة إلى الأفسسيين يمكننا الاعتقاد بأن المرأة تملك في أنوثتها نوعاً من التنبؤ الخاص بها. إن قياس العريس والعروس يذكرنا بالحب الذي يكنه الله، في المسيح، لكل رجلٍ ولكل امرأة. إلا أننا، إذا أخذنا بعين الاعتبار، مضمون القياس الوارد في الكتاب، والنص بمفهومه الخاص، أدركنا أن المرأة، أعني المرأة العروس، هي التي تُعلن للجميع هذا الواقع. وهذا الطابع “النبوي” الذي تتسم به أنوثة المرأة، يجد أسمى صورةٍ له في العذراء، أم الله. ومن خلال هذا الطابع، تبرز مباشرةً وعلى أكمل وجه، قيمة الرباط الوثيق الذي يجمع بين نظام الحب – الذي يندرج في عالم الأشخاص البشريين، عبر امرأة – والروح القدس. فقد سمعت مريم في البشارة هذه الكلمات: “إنّ الروح القدس يحلّ عليك” (لوقا 1 : 35).
وعي رسالة
30- إنّ كرامة المرأة ترتبط وثيقاً، من جهةٍ بالحبّ الذي تتلقّاه بسبب انوثتها بالذات، ومن جهة أخرى، بالحبّ الذي تعطيه بدورها. وهكذا يتأكّد واقع الشخص وواقع الحبّ. أمّا بالنسبة إلى واقع الشخص، فيجدر بنا أن نستمع مرّة أخرى إلى المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن الإنسان، وهو الخليقة الوحيدة على الأرض، التي أرادها الله لذاتها، لا يستطيع أن يحقق ذاته تماماً إلاّ عبر “هبة ذاته بلا مقابل” (59). وهذا ينطبق على كل كائن بشري، بصفته شخصاً مخلوقاً على صورة الله، رجلاً كان أو امرأة. وإنّ التأكيد الأنطولوجي، الذي تنطوي عليه هذه الحقيقة، يوحي بالبعد المسلكي لدعوة الشخص. فالمرأة لا يمكن أن تحقّق ذاتها إلاّ من خلال إعطاء حبّها للآخرين.
منذ “البدء” خلق الله المرأة – كما الرجل – وأدرجها في نظام الحبّ. ولم تبد الخطيئة الأصليّة هذا النظام، ولم تمحه بطريقة نهائية. هذا ما تؤكّده البشارة الأولى، الواردة في سفر التكوين (تكوين 3 : 15). وقد تحقّقنا، من مقام المرأة الفريد، الذي خصّها به هذا النصّ، الذي هو مفتاح الوحي. وبالإضافة إلى ذلك، يجدر بنا أن نسترعي الانتباه إلى أن المرأة ذاتها، التي أفضى بها علوّ شأنها إلى أن تكون “مثالاً” على حدّ قول الكتاب، إندرجت كذلك في البعد الأخرويّ (الإسخاتولوجي) للعالم وللإنسان، طبقاً لما جاء في سفر الرؤيا (60): “ثم ظهرت آية بيّنةٌ في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، على رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً” (رؤيا 12 : 1). ويمكن القول إنها امرأة في حجم الكون، وفي حجم عمليّة الخلق كلّها. وهي، في ذات الوقت، “حبلى تصرخ من ألم المخاض” (رؤيا 12 : 2) مثل حوّاء، “أمّ جميع الأحياء” (تكوين 3 : 20). إنها تتألم كذلك لأنّ “التنين العظيم، الحيّة القديمة” (رؤيا 12 : 9) المذكورة في البشارة الأولى، وإبليس “الكذّاب وأبا الكذب” والخطيئة (يوحنا 8 : 44) “تقف أمام المرأة الماخض” (رؤيا 12 : 4). وها هي “الحيّة القديمة” تحاول أن تبتلع “الطفل”. إننا إذا وجدنا في هذا النصّ صدًى لإنجيل الطفولة (متى 2 : 13 ، 16) يمكننا أن نتصوّر أنّ الصراع مع الشر والشرير، يندرج، منذ البدء، وإلى نهاية التاريخ، في إطار التقويم الكتابي للمرأة. إنه الصراع في سبيل الإنسان وخيره الحقيقي وخلاصه. ألا يرمي الكتاب المقدس، من وراء ذلك، إلى إفهامنا أن التاريخ سيسجّل، عبر المرأة بالذات، أي حوّاء – مريم، صراعاً مأسوياً في سبيل كلّ كائن بشريّ، الصراع الأساسيّ في سبيل “النعم” أو “اللا” الذين سيواجه الإنسان بهما الله وما دبّره للإنسان منذ الأزل؟
وإن كانت كرامة المرأة تشهد للحبّ الذي تتقبّله لتحبّ بدورها، فإنّ التقويم الكتابيّ للمرأة يبدو وكأنّه يرمي إلى إفهامنا أن دعوة المرأة نفسها تقاس بمقياس الحبّ الحقيقي. والمقصود هنا هو الدعوة بمعناها الأساسي، ونوعاً ما، الشامل، الذي سيتحقّق ويتوضّح من خلال المهمّات المتعدّدة التي دعيت المرأة للإضطلاع بها في الكنيسة والعالم.
إنّ طاقة المرأة المعنوية والروحية تتّصل بشعورها بأن الله قد وكل إليها، بصفةٍ نوعيّة، أمر الإنسان، الكائن البشريّ. صحيحٌ أنّ الله يكل أمر كلّ إنسانٍ إلى جميع الناس، وإلى كل فردٍ منهم، إلاّ أنّ هذا يعني المرأة بصفةٍ نوعيّة – وبالتحديد بسبب أنوثتها – وهذا يحدّد دعوتها بنوع خاصّ.
وانطلاقاً من هذا الشعور وممّا عهد به إلى المرأة من مهمّات، فإنّ طاقتها المعنوية تتوضّح عبر الرموز الأنثوية العديدة جداً، الوارد ذكرها في العهد القديم، وفي زمن المسيح والأزمنة التالية، إلى يومنا هذا. إنّ المرأة قويّةٌ بشعورها بأهمية ما وكل إليها، وقويّة لأنه الله “وكل إليها أمر الإنسان” دائماً وبكلّ الوسائل، حتى في حالات التفرقة الاجتماعية التي يمكن أن تتواجد فيها. إنّ هذا الشعور وهذه الدعوة الأساسية يعبّران للمرأة عن الكرامة التي تنالها من الله. وهذا ما “يقوّيها” ويدعم دعوتها. وعليه، فإن المرأة “الفاضلة (أمثال 31 : 10) تصبح سنداً لا بديل عنه ومصدر طاقةٍ روحية للآخرين، الذين يعون أهمية طاقتها الروحيّة. وكم هي مدينةٌ لألئك النسوة الفاضلات، أسرهنَّ وأحياناً أممٌ بأسرها.
إنّ ما حقّقه العلم والتقنيّة في عصرنا، أتاح لنا التمتّع برفاهية ماديّة، بلغت حدّاً لم يسبق له مثيل. وفيما توفّرت هذه الرفاهية لبعض الناس، جرّت بعضهم الآخر إلى العيش على هامش المجتمع. وفي هذه الحالة، يمكن لهذا التطوّر من جانب واحد، أن يُسفر عن زوال تدريجيّ للاهتمام بالإنسان، وبما هو، في الأساس، إنسانيّ. وأمام هذا الواقع، لا بدّ من الاعتماد، لا سيّما في أيامنا، على بروز عبقرّية المرأة، لتدعم الاهتمام بالإنسان، في كلّ الظروف، لمجرّد كونه إنساناً، لأنّ “أعظمهنَّ المحبة”. (كورنثوس الأولى 13:13).
ولهذا، فإنّ قراءةً واعية لما جاء في الكتاب عن مثال المرأة – من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا – توضّح لنا الأسس التي تقوم عليها كرامة المرأة ودعوتها، وما فيهما من ثوابت لا تفقد صلاحيتها للوقت الحاضر، لأنّ “أساسها النهائي هو في المسيح، الذي هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد (61). وإذا وكل الله إلى المرأة، بصفةٍ نوعيّة، أمر الإنسان، ألا يعني هذا أنّ المسيح يعتمد عليها ليكمّل “الكهنوت الملوكيّ” (بطرس الاولى 2 : 9) الذي يضفي الثراء على الهبة التي منَّ بها الله على البشر؟ إنّ المسيح، رئيس كهنة العهد الجديد، والأبدي، الأوحد، وعريس الكنيسة، لا يني يستودع الآب هذا التراث ذاته بالروح القدس، ليكون الله “كلاّ في الجميع” (كورنثوس الأولى 15 : 28).
وحينئذ تكتمل نهائياً الحقيقة الواردة في رسالة بولس إلى الكورنثيّين، والقائلة: “إنّ أعظمهنَّ هي المحبة” (كورنثوس الأولى 13:13).
القسم التاسع
الخاتمة
“لو كنت تعرفين عطية الله!”
31- “لو كنت تعرفين عطية الله!” (يوحنا 14 : 10). هذا ما قاله يسوع للسامريّة، أثناء واحد من تلك الحوارات الرائعة، التي تجلّى فيها تقديره لكرامة كلّ امرأة وللدعوة التي تؤهّلها للمشاركة في رسالة المسيح.
إن التأملات التي نحن بصددها، والتي أشرفت على نهايتها، ترمي إلى التعرّف على ما ائتمن عليه الخالق والفادي المرأة وكلّ امرأة. فهي تستطيع فعلاً، بروح المسيح، أن تكتشف كل ما تمتاز به أنوثتها. وتتأهب هكذا “لبذل ذاتها للآخرين بلا مقابل”، ومن خلال هذا البذل تحقّق ذاتها.
ولا يسع الكنيسة، في هذه السنة المريمية، إلاّ أن تشكر الثالوث الأقدس على “سرّ المرأة” وكلّ امرأة، وعلى ما ينطوي عليه البعد الأبدي لكرامتها الأنثوية، وعلى “عجائب الله” التي تتحقّق فيها وبواسطتها، عبر تاريخ الأجيال البشرية. وفي النهاية، ألم يتمّ فيها وعبرها أعظم حدثٍ في تاريخ الإنسان على الأرض، ألا وهو صيرورة الله نفسه إنساناً؟
لهذا تشكر الكنيسة الله من أجل جميع النساء وكلّ واحدة منهنَّ؛ من أجل الأمّهات والأخوات والشقيقات والزوجات، والنساء المكرّسات لله في البتوليّة، ومن أجل النساء المتفانيات في خدمة الكثيرين من البشر، الذين هم في حاجة إلى من يحبّهم مجاناًَ؛ ومن أجل النساء اللواتي يسهرن على الكائن البشري في نطاق الأسرة، التي هي الركيزة الأساسية للمجتمع البشري؛ ومن أجل النساء اللواتي يمارسن مهنةً من المهن، ويضطلعن أحياناً يمسؤولية اجتماعية كبرى… ومن أجل النساء “الفاضلات” والنساء المستضعفات، ومن أجل جميع النساء كما خرجن من قلب الله، بكل ما في أنوثتهنَّ من جمالٍ وثروة. ومشمولاتٍ بحبه الأبويّ، ومواكبات للرجل في مسيرته على هذه الأرض: “وطن” البشر الزمنيّ، الذي يتحوّل أحياناً إلى “وادٍ للدموع”. ونشكر الله من أجل النساء اللواتي يتحملّن مع الرجل المسؤولية المشتركة عن مصير البشرية، تبعاً للاحتياجات اليومية، وللمصير النهائي الذي ينتهي بالأسرة البشرية إلى الله، في احضان الثالوث الذي يفوق الوصف. وتشكر الكنيسة الله من أجل العبقريّة النسائية، التي تتجلّى بجميع مظاهرها عبر التاريخ، في جميع الشعوب وجميع الأمم. كما تشكره تعالى، على جميع المواهب التي زوّد بها الروح القدس النساء، عبر تاريخ شعب الله، وعلى جميع الانتصارات التي حققنها بفعل إيمانهنَّ ورجائهنَّ ومحبتهنَّ. كما تشكر الكنيسة الله على كلّ ما جادت به قداسة المرأة من ثمار.
وتطالب الكنيسة، في ذات الوقت، بأن يتلطّف الجميع ويعترفوا يتجلّيات الروح هذه (كورنثوس الأولى 12 : 4) التي وهبها الله بسخاء كبير “لبنات” أورشليم الأبدية، وأن يعملوا على تنميتها، لتُسهم في خير الكنيسة والبشرية العام، لا سيما في عصرنا هذا. وإن الكنيسة، إذ تتأمل في سرّ المرأة، كما ورد في الكتاب، تصليّ لكي تحقق كلّ النساء دواتهنَّ عبر هذا السرّ، ولكي يكتشفن “دعوتهنَّ السامية”.
وإنّا لنرجو من العذراء التي “سبقت الكنيسة كلّها في مجال الإيمان والمحبة والاتّحاد الكامل بالمسيح”، أن تنال لنا جميعاً من لدن الله، هذه الثمرة، لا سيما في هذه السنة التي كرّسناها لها، وقد أشرفنا على الألف الثالث لمجيء المسيح.
وإنّا، إذ نعبّر عن أمانينا هذه، نمنح جميع المؤمنين، ولا سيّما النساء أخواتنا في المسيح، البركة الرسولية.
أعطي في رومة، في جوار القديس بطرس، في الخامس عشر من آب، عام 1988، الموافق الاحتفال بعيد انتقال الطوباوية مريم العذراء، في السنة العاشرة لحبريّتنا.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) رسالة المجمع إلى النساء (8 كانون أول 1965): أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) صفحة 13 – 14.
2) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي: الكنيسة في عالم اليوم. “فرح ورجاء”، عدد 8 و 9 و60.
3) المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي: رسالة العلمانيين. Apostoli- cam actuositatem عدد 9.
4) بيوس الثاني عشر، إرشاد للنساء الإيطاليّات (21 تشرين أول 1945): أعمال الكرسي الرسولي 37 (1945) صفحة 284 – 295. خطاب إلى الاتحاد العالمي للمنظمات النسائية الكاثولكية (24 نيسان 1952): أعمال الكرسي الرسولي 44 (1952) صفحة 420 – 424. خطاب للمشاركين في المؤتمر الدولي الرابع عشر للاتحاد العالمي للمنظمات النسائية الكاثوليكية (29 أيلول 1957): أعمال الكرسي الرسولي 49 (1957) صفحة 906 – 922.
5) يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة “السلام في الأرض” (11 نيسان 1963): أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963) صفحة 267 – 278.
6) إعلان القديسة تريزيا للطفل يسوع “ملفانة الكنيسة الجامعة” (27 أيلول 1970): أعمال الكرسي الرسولي 62 (1970) صفحة 590 – 596. إعلان القديسة كاترين دي سيينّ “ملفانة الكنيسة الجامعة” (4 تشرين أول 1970): أعمال الكرسي الرسولي 62 (1970) صفحة 673 – 678.
7) أعمال الكرسي الرسولي 65 (1973) صفحة 284 – 285.
8) بولس السادس، خطاب للمشاركين في اللقاء الدولي للمركز النسائي الإيطالي (6 كانون أول 1976) تعاليم بولس السادس 14 (1976) 1017.
9) الرسالة العامة “أمّ الفادي” (25 أذار 1987) عدد 46: أعمال الكرسي الرسولي 79 (1987) صفحة 424 – 425.
10) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 1.
11) يمكن إيجاد تفسير للمضمون الأنثروبولوجي واللاهوتي “للبدء” في القسم الأول من خطب الأربعاء (اللقاءات العامة) المكرّسة “للاهوت الجسد” إبتداءً من 5 أيلول 1979. تعاليم II ، 2 (1979) 234 – 236.
12) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 22.
13) المجمع الفاتيكاني الثاني بيان عن علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية. “Nostra Aetate” عدد 1.
14) ذات المرجع. عدد2.
15) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عدد2.
16) كان آباء الكنيسة يرون أنّ أول إعلان للثالوث في العهد الجديد جاء في البشارة. ففي عظةٍ نُسبت إلى القديس غريغوريوس العجائبي، ورد ما يلي: “إنك تشعّين بالنور، يا مريم، في الملكوت الروحي السامي. فبك يمجد الآب، الذي لا بدء له، والذي ظلّلك بقدرته. وبك يُعبد الابن، الذي حملته بالجسد. وبك يُعظّم الروح القدس، الذي أنجز في أحشائك ميلاد الملك العظيم. إنّه بفضلك، يا ممتلئة نعمة، عرف في العالم الثالوث الأقدس والواحد في الجوهر (عظة 2 في “بشارة العذراء مريم”: الآباء اليونانيون 10 – 1169) – وكذلك القديس أندراوس الكريتي “في بشارة الطوباويّة مريم”: الآباء اليونانيون 97 و 909.
17) المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان عن علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية “Nostra aetate” عدد2.
18) إن العقيدة اللاهوتية بشأن أمّ الله (الثيوطوكوس) بحسب تعليم العديد من آباء الكنيسة، والتي أوضحها وحدّدها مجمع أفسس (251 D.S. ) ومجمع خلقيدونية (301 D.S. )استعرضها من جديد المجمع الفاتيكاني الثاني، في الفصل الثامن من الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 52 – 69. أنظر كذلك الرسالة العامة “أم الفادي” عدد 4 / 31 – 32 والحواشي 9 / 78 – 83: صفحة 365، 402 – 404.
19) الرسالة العامة “أم الفادي” عدد 7 – 11 وما تتضمنه من أقوال الآباء في الحاشية 21: صفحة 367 – 373.
20) ذات المرجع. عدد 39 – 41 صفحة 412 – 418.
21) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 36.
22) القديس إيرناوس، ضدّ الهراطقة V ، 6، 1 و V، 16، 2 – 3 s.Ch. 153، 72 – 81 و 216 – 221. والقديس غريغوريوس النيسي op. De hom. 16. الآباء اليونانيون 44، 180 Yn Cant. Cant. Hom. 2 الآباء اليونانيون 44، 805 – 808 والقديس أغسطينوس Un Ps. 4,8: CCL 38. 17.
23) “Persona est naturae rationalis individual substantia” M. Séverin Boèce, Liber de persona et duabus naturis,III: الآباء اللاتين 64، 1343. أنظر كذلك Saint Thomas d’Aquin, Somme Théologique la q. 29, a 1.
24) بين آباء الكنيسة الذين أكّدوا المساواة الأساسية بين الرجل والمرأة في نظر الله، أنظر أوريجانس: In Gesu nave IX, 9: pères Grecs 12,878 واكليمنضوس الاسكندري: Paed. I, 4: S,Ch. 70, 128 – 131 والقديس أغوسطينوس: sermo 51, II, 3: pères Latins 38, 334 ‘ 335
25) القديس غريغوريوس النيسي يقول: “وفوق هذا، إنّ الله محبّة وينبوع محبّة. هذا ما يقوله القديس يوحنا العظيم: “إنّ المحبّة من الله” و”الله محبّة” (رسالة يوحنا الأولى 4 : 7، 8) وقد طبعنا الخالق كذلك بهذا الطابع: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن أحببتم بعضكم بعضاً (يوحنا 13 : 35) فإذا أعوزكم هذا، تشوّهت الصورة كلّها” (De Hom. Op.5: P. G. 44, 137) .
26) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 24.
27) سفر العدد 23: 19 وهوشع 11 : 9 وأشعيا 40 : 18 و 46: 5 – أنظر كذلك المجمع اللاتراني الرابع (806).
28) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 13.
29) “الشيطاني” من اللغة اليونانية “dia-ballo” ومعناها: أقسّم، أفرّق، أفتري.
30) أوريجانس: In Gen. hom., 13, 4. pères Grecs 12, 234
القديس غريغوريوس النيسي De Virg. 12 S. Ch. 119, 404 – 419.
De beat. VI: pères Grecs 44, 1272.
31) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 13.
32) ذات المرجع عدد 24.
33) إنّ آباء القرن الرابع، بناءً على الشريعة الإلهية، قاوموا بشدّة التمييز بين الرجل والمرأة، الذي مازال في أيامهم يؤثّر في العادات وفي التشريع المدني
أنظر القديس غريغوريوس النازينزي Or. 37, 6. pères Grecs 36, 290
والقديس هيرونيموس Ad oceanum ep. 77, 3. pères Latins 22, 691
والقديس أمبروسيوس De instit. Virg. III, 16: pères Latins 16, 309
والقديس أغوسطينوس sermo 132, 2: pères Latins 38, 735
Sermo 394, 4. pères Latins 39, 1711.
34) القديس أيرناوس Adv. Haer. III, 23, 7: s. Ch. 211, 462 – 465;
V, 21, 1: S. Ch. 153, 260 – 265
القديس إبيفانيوس panar. III, 2, 78: pères Grecs 42, 728 ‘ 729
القديس أغوسطينوس Enarr. In Ps. 103, s. 4, 6: CCL 40, 1525
35) القديس يوستينوس Dial-cum Tryph. 100: pères Grexs 6, 709 ‘ 712
القديس ايرناوس Adv. Haer. III, 22, 4: S. Ch. 211, 438 – 445;
V 19, 1: S. Ch. 153,248 – 251.
القديس كرلّس الأورشليمي Catech. 12, 15: Pères Grecs 33, 741.
القديس يوحنا الذهبيّ الفم In Ps.44, 7:Pères Grecs 55, 193
القديس يوحنا الدمشقي Hom. 2 in Dorm. B.V. M. 3: S. Ch. 80, 130 – 135
هيزيكيوس SerMo 5 in Deiparam:Pères Grecs 93, 1464 ‘ 1465
ترتليانوس De Carne Christi 17: CCL 2, 904 – 905
القديس هيرونيموس Epist. 22, 21:Pères Latins 22, 408
القديس أغوسطينوس sermo 51, 2 – 3:Pères Latins 33, 335
Serm 232, 2: Pères Latins 38, 1108.
ج. هـ. نيومان A Letter to the rev. E. B. Pusey, Longmans, London 1865
م. ج. شيبين Handbuch der Katholischen dogmatic, (Scheeben)
V/I (Freiburg 1954) 243 – 266; V/ 2 (Freiburg 1954), 306 – 499
36) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء”.
37) القديس أمبروسيوس De instit. Virg. V, 33. Pères Latins 1, 313
38) Raban Maur. De Vita beatae Mariae Magdalenae, XXVII: إن المخلص، جعل مريم المجدلية “رسولة الرسل” (الآباء اللاتين 112 و 1474). “إنها جعلت رسولة الرسل لأنها كُلفت بأن تبلغ الرسل قيامة الأحد”. أنظر كذلك القديس توما الأكويني، في كتابه: In yoannem Evangelistam Expositio”
c.XX, L.III,6 (Sancti Thomae Aquinatis Comment in Matthaeum et Ionnem Evangelistas), Ed. Parmens, X, 629
39) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 24.
40) الرسالة العامة “أم الفادي”، عدد 18/ صفحة 383.
41) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 24.
42) خُطَب الأربعاء 7 و 21 نيسان سنة 1982: تعاليم V، (1982) 1126 – 1131 و 1175 – 1179ز
43) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 63.
– والقديس أمبروسيوس In Le II, 7: S. Ch> 45, 75, 74; De instit. Virg
XIV, 87’89: P.L. 16, 326 – 327
– والقديس كيرلّس الإسكندري عظة 4: الآباء اليونانيون 77، 996.
– والقديس أيزيدور دي سيفل Allegoriae 139: P. L. 83, 117
44) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 63.
45) ذات المرجع عدد 64.
46) ذات المرجع عدد 64ز
47) ذات المرجع عدد 64: بالنسبة إلى العلاقة بين مريم والكنيسة، التي يرد ذكرها باستمرار في تأملات آباء الكنيسة وفي التقليد المسيحي، أنظر الرسالة العامة “أم الفادي” عدد 42 – 44 والحواشي رقم 117 – 127 صفحة 418 – 422. أنظر كذلك كليمنضوس الإسكندري: Paed 1, 6: S. Ch. 70, 186 – 187.
– والقديس أمبروسيوس: InLe 11, 7: S. Ch. 45 – 74
– والقديس أغسطينوس: عظة 192، 2: الآباء اللاتين 38، 1012 وعظة 195 ، 2: الآباء اللاتين 38، 1018 وعظة 25، 8: الآباء اللاتين 46، 938.
– والقديس لاون الكبير: عظة 25، 5: الآباء اللاتين 54، 211 وعظة 26، 2: الآباء اللاتين 45، 213.
– والقديس: In Le I, 2: Pères Latins 92, 330: Bède le Vènèrable
“العذراء والكنيسة كلاهما إمُّ – على حدّ قول اسحق دي ليتوال، تلميذ القديس برنردس – كلّ منهما عذراء وكلّ منهما حبلت بالروح القدس… والواحدة ولدت رأساً للكنيسة والأخرى ولدت جسداً للرأس. إنّهما أمّان للمسيح، لكن لا تلده إحداهما كاملاً بدون الأخرى. ولهذا نستطيع أن نقول بحقّ إنّ كلّ ما يقال عموماً عن العذراء الأمّ، التي هي الكنيسة ينطبق خاصةً على العذراء مريم. وما يقال خاصّة عن العذراء الأمّ، التي هي مريم، يمكن أن ينطبق عموماً على العذراء الأم التي هي الكنيسة. وكلّ نصٍّ يتحدّث عن الواحدة أو الأخرى، يكاد ينطبق بدون تمييز على كلّ منهما على السواء” (عظة 51، 7 – 8: S. Ch. 339 و 202 – 205).
48) نذكر على سبيل المثال هوشع 1: 2 و 16 – 18 وإرميا 2:2 وحزقيال 16 : 8 وأشعيا 50 : 1 و 54 : 5 -..
49) أنظر كولسّي 3 : 18 وبطرس الأولى 3: 1 – 7 وتيطس 2 : 4 – 5 وأفسس 5 : 22 – 24 وكورنثوس الأولى 11 : 3 – 16 و 14 : 33 – 35 وتيموثاوس الأولى 2 : 11 – 15.
50) أنظر مجمع عقيدة الإيمان، بيان خاصّ بشأن قبول النساء في سلك كهنوت الخدمة “Inter insigniores” (15 تشرين أول 1976): أعمال الكرسي الرسولي 69 (1977) صفحة 98 – 116.
51) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عدد 10.
52) ذات المرجع عدد 10.
53) ذات المرجع عدد 18 – 29.
54) ذات المرجع عدد 65 وكذلك 63 وكذلك البراءة “أمّ الفادي” عدد 2 – 6 صفحة 362 – 367.
55) إن هذا المظهر المريمي هو أساسيّ ومميّز للكنيسة بقدر المظهر الرسولي والبطرسي الذي هو متّحد به في العمق، إن لم يكن أكثر… وبعد الكنيسة المريميّ هو سابق للبعد البطرسي، وإن كان متّحداً به اتحاداً وثيقاً ومكمّلاً له. فمريم الطاهرة تسبق كل إنسانٍ آخر، وبلا شك بطرس نفسه والرسل. وهذا ليس فقط لأنّ بطرس والرسل هم من سلالة عامة الجنس البشريّ المولود بالخطيئة وبالتالي يؤلّفون جزءاً من الكنيسة “المقدّسة رغم كونها مؤلفةً من خطأة” بل ولأن وظيفتهم الثلاثية لا تهدف إلاّ إلى تنشئة الكنيسة على مثل القداسة الأعلى الذي سبق تكوينه وتجسيده في مريم. ومريم، كما لقبّها بحقٍّ أحد اللاهوتييّن المعاصرين، هي “سلطانة الرسل” بدون أن يُخولها سلطاتٍ رسولية. فهي تملك غير هذا وأكثر منه بكثير”. (هـ. فون بلتازار Neue Klarstellungen): من إرشاد إلى الكرادلة وأحبار الكوريا الرومانية، (في 22 كانون الأول 1987)؛ أنظر الأوسر فاتوري رومانو في 23 كانون الأول 1987.
56) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 10.
57) ذات المرجع عدد 10.
58) القديس أغوسطينوس “في الثالوث”: L. VIII, VII, 10- X, 14: CCL 50, 284 – 291
59) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 24.
60) أنظر ملحق مؤلّفات القديس امبروسيوس، في سفر الرؤيا (IV 3 -4): الآباء اللاتين 17، 876. وكذلك De symb. Ad catech. Sermo IV: PL. 40, 661: Pseudo Augustin.
61) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عدد 10.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post