مناظرات القديس يوحنا كاسيان مع آباء البرية – ج1
مقدمة
بين يديك أيها العزيز مجموعة من اختبارات الكنيسة الأولي في شركتها مع ربنا يسوع.
هذه المجموعة، خاصة الجزء الأول والثاني من “مناظرات كاسيان”، اتسمت بالطابع الروحي الذي يمكن لكل مؤمن أن يختبره ويتذوقه ويحيا به.
كشفت لنا بحق عن مفهوم الرهبنة أنها ليست إلا سباق في الارتماء في أحضان ربنا يسوع المسيح بعمل روحه القدوس، واغتصاب لنعمة الله الواهبة عشقًا له، وشبعًا بالرب إلهنا، وهم في هذا:
– يمارسون الزهد كوسيلة لغاية أسمى هي التأمل الإلهي والانشغال بالله والانطلاق بالنفس نحو مخلصها.
– يمارسون الزهد في اعتدال، كل حسب قامته الروحية واحتياجاته حتى لا يُصابوا بضربة شمالية (الشهوات) أو ضربة يمينية (الكبرياء أو الرياء).
– الهروب إلى البراري ليس كراهية نحو الناس، ولا فتورًا في محبة الآخرين. فلا يخرج إلى الدير إلا من نجح أولاً في محبة الغير. ولا يخرج إلى الوحدة إلا من نجح في حياة الحب والطاعة والخضوع في نظام الشركة.
– الحياة الرهبانية هي في حقيقتها اختبار يلزم أن يمارسه كل مؤمن حسب قامته الروحية . فهي دعوة لاختبار الحياة المسيحية الحقيقية من حب وعفة وطاعة وصلاة الخ.،
قصة هذه المناظرات كما سبق فرأينا هي أن القديس يوحنا كاسيان جاء مع صديقه جرمانيوس من الدير في بيت لحم بسوريا، ليسجلا بعض تعاليم آباء مصر وتداريبهم ليعودا بها إلى رهبان الدير. وقد تعهدا أمام الآباء أن يعودا سريعًا، لكن الحياة الرهبانية جذبتهما فلم يستطيعا العودة، إذ رأيا أنه لا يُمكن أن تسجل على ورق، بل يتشربانها بالحياة العملية. لذا اضطرا إلى البقاء سبع سنوات يتتلمذان في أديرة مصر، رغم الرسائل التي أرسلها إليهما رهبان بيت لحم يستعجلانهما بإلحاح للعودة.
القمص تادرس يعقوب ملطي
الطبعة الأولى: الإسكندرية في 1968.
ظهور السيدة العذراء بالزيتون.
وإعادة جسد القديس مارمرقس إلى بلاده.
المناظرة الأولى
نقاوة القلب طريق الملكوت للأب موسى
1- إقامتنا بالإسقيط
في صحراء الإسقيط حيث يوجد أعاظم الآباء الرهبان، ويترعرع الكمال، كنت مصطحبًا الأب جرمانيوس هذا الذي كان ملازمًا لي منذ الأيام الأولي، ومنذ بداية الخدمة الروحية، سواء ونحن في نظام الشركة أو في البرية. وتستطيع أن تلتمس مقدار وفاق صداقتنا ووحدة هدفنا مما يقوله الكل عنا إننا قلب واحد وروح واحد في جسدين.
وإذ كنا في البرية بحثنا عن الأب موسى الذي يعتبر من أسمى تلك الزهور الرائعة في البرية، متفوقًا لا في حياة العمل فحسب بل وفي حياة التأمل أيضًا.
لقد كنت شغوفًا لسماع تعاليمه، فطلبنا إليه سويًا بدموع أن يحدثنا لأجل بنياننا وذلك لمعرفتنا عنه جيدًا أنه لا يفتح باب الحديث عن الكمال إلا مع الذين يبحثون عنه بإيمان بقلوب تائبة. فهو يخشى الحديث عن تلك الأمور الهامة، ولا يكشفها إلا للساعين نحو الكمال، غير متحدثٍ بها لغير المبالين أو الذين يتقبلون الكلام بغير إيمان كامل مستخفين بها وهم غير مستحقين لها، وذلك لكي لا يكون في حديثه عرضة للزهو الباطل أو بهذا يكون خائنًا لما قد أؤتمن عليه. أخيرًا غُلب بطلبتنا فبدأ يتحدث.
2- سؤال عن هدف المؤمن وغايته؟
قال: لكل العلوم والفنون أهداف وغايات يتطلع إليها المجاهدون في كل فن صابرين، محتملين كل أنواع المتاعب والأخطار والخسائر بفرح ورباطة جأش.
فالفلاح لا يعبأ بحرارة الشمس أو بالصقيع وبرودة الجو… فيقوم بتقسيم الأرض وحراثتها مرة فأخرى، متطلعًا إلى هدفه بلا ضجر. إنه يجاهد لتفتيت الأرض حتى تصير كالرمل الناعم منقيًا إيّاها من العليق والأعشاب، مؤمنًا بأنه ليس هناك طريق آخر يبلغ به هدفه اللامحدود إلا بحصوله على أفضل إنتاج وأكبر محصول، بهذا يمكنه أن يعيش وتتزايد ممتلكاته. فإذ يمتلئ مخزنه يستعد ليفرغه ويلقي البذار في الأرض المحروثة مرة أخرى… هذا كله من أجل المحصول المنتظر!
كذلك المنشغلون بالتجارة لا يبالون بعدم ضمان تحقيق الربح أو بمخاطر المحيطات، إنما تحفزهم أمانيهم نحو تحقيق الربح.
والطامحون في الحياة العسكرية يتطلعون إلى هدفهم، أي نحو الشرف أو القوة، غير مبالين بالأخطار والهلاك الذي يلاحقهم خلال عملهم… من أجل رغبتهم في نوال الشرف.
ونحن أيضًا لعملنا هدف أو غاية بسببه نحتمل كل صنوف الجهاد ليس بدون ضجر فحسب بل وبفرح. فحرماننا من الطعام أثناء الصوم لا نعتبره ضيقًا، وأتعاب السهر تتحول إلى بهجة، والقراءة والتأمل في الكتاب المقدس ليس فرضًا ثقيلاً. فلا يخيفنا الجهاد المتواصل وإنكار الذات والحرمان من أمور العالم ومتاعب هذه البرية القاحلة.
وأنتما أيضًا إذ تستخفا بمحبة الأقرباء، أي بالعاطفة تجاههم بتركهم سالكين طريق الرهبنة، تاركين مسقط رأسيكما ومباهج العالم، عابرين كل هذه المناطق لكي تأتيان إلينا نحن البسطاء العائشين في حالة مضنية في البرية، ما هو هدفكما من هذا؟ وما هي غايتكما التي دفعتكما لتتحملا كل هذه الأمور بفرح؟
3- وإذ أصر على كشف الفكرة من إجابتنا على سؤاله، أجبناه قائلين: لقد تحملنا هذا كله من أجل ملكوت السموات.
4- أجاب حسنًا! لقد تحدثتما عن الهدف غير المحدود. لكن ما هو الهدف القريب، الذي إذا ما عرفناه ووضعناه دائمًا نصب أعيننا نقدر أن نبلغ غايتنا؟
وإذ اعترفنا بجهلنا بصراحة أكمل حديثه قائلاً:
كما قلت أولاً أن لكل فن أو علم هدف يوضع أمام الذهن… فإذا لم يتمسك الإنسان به بجهاد ثابت لا يصل إلى الغاية النهائية.
فكما قلت أن الفلاح يهدف إلى الحياة السعيدة والرخاء وتحقيق محصول وفير، وأما هدفه الحالي فهو حفظ الحقل نظيفًا من الأحجار والأعشاب…
ونحن أيضًا نهاية طريقنا في الحياة هو بلوغ ملكوت الله، ولكن ما هو الهدف الحالي الذي يلزم أن نتساءل عنه؟ فإننا إن لم نعرفه نتعب أنفسنا دون جدوى، لأن من يسافر في اتجاه خاطئ تضيع أتعابه سدى ولا ينتفع شيئًا من سفره.
وإذ دهشنا من هذا الحديث أكمل الشيخ قائلاً: إن هدف عملنا كما قلت هو “ملكوت الله” أو “ملكوت السموات”. وأما الهدف الحالي فهو “نقاوة القلب”، الذي بدونه لا نقدر أن نحقق الهدف النهائي.
لنوجه أنظارنا بثبات نحو هذا الهدف كعلامة ثابتة. ولنوجه سلوكنا نحوه مباشرة حتى إذا ما انحرفت أفكارنا بعيدًا عنه نعيدها إليه ونضبطها نحوه بإتقان كما لو كان مقياسًا دقيقًا. وبهذا تتحول جهودنا إليه، وبالتالي نستطيع أن نكتشف عما إذا كان عقلنا قد انحرف ولو قليلاً عن الاتجاه المحدد له.
5- هدفنا الحالي: نقاوة القلب
قبل الحرب يختبر الجنود مهارتهم بإطلاقهم السهام والرماح تجاه أهداف صغيرة محددة… وهم يعلمون أنه بغير هذه الوسيلة لا يمكنهم نوال الجعالة التي يترجونها… وبغير هذا لا يوجد ما يكشف لهم عن قدرة مهارتهم أو ضعفها…
وبهذا فإن الهدف النهائي الموضوع أمامنا هو “الحياة الأبدية”، إذ يقول الرسول: “فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبديَّة” رو22:6. وأما الهدف الحالي فهو “نقاوة القلب” التي يعبر عنها الرسول بقوله: “ثمركم للقداسة” والتي بدونها لا يتحقق الهدف النهائي (والنهاية حياة أبدية)…
ويعلمنا الرسول عن نفس الهدف قائلاً: “أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدُّام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا…” (في13:3،14). بمعنى أنه بهذا الهدف الذي به ينسى ما هو وراء، أي خطايا الحياة الأولي (عدم نقاوة القلب)، يجتهد لبلوغ جعالة السماء.
إذن فلنهتم بالكشف عن هذه الفضيلة أي “نقاوة القلب” متجنبين كل معوقاتها، لأنها خطيرة وضارة. فمن أجل نقاوة القلب ينبغي أن نفعل كل شيء، ونصبر على كل شيء، ولا نتعلق بأقربائنا وأرضنا (ممتلكاتنا) وكرامتنا (الأرضية) وجاهنا ومباهج العالم وكل أنواع الملذات…
6- زهد بغير نقاوة قلب
إننا نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة، يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبوس أو ريشة، بينما لو وجهوا أنظارهم نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون بالغنى العظيم يتركون أيضًا كل شيء.
ويخاف البعض على كتبهم حتى أنهم لا يسمحون لأحد أن يحركها أو يلمسها… وهذا يكشف عن حاجتهم إلى الصبر والحب العميق. فإذ تركوا كل غناهم من أجل محبتهم للسيد المسيح إلا أنهم يحتفظون بطبيعتهم الأولي بالنسبة للأمور التافهة، فسرعان ما ينشغلون بها. وبهذا يصيرون عقيمين بلا ثمر كمن هم بلا حب. هؤلاء يتحدث عنهم الرسول الطوباوي متنبئًا بالروح قائلاً: “وإن أطعمت كلَّ أموالي وإن سلَّمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئًا” 1(كو3:13).
من هذا يظهر بوضوح أن الكمال لا يتأتى لمجرد إنكار الذات أو ترك كل شيء أو الهروب من الكرامة ما لم يصحبها المحبة التي وصفها الرسول بالتفصيل مظهرًا أنها ليست إلا “نقاوة القلب” وحدها. لأنه إذ المحبَّة “لا تحسد”، “لا تتفاخر”، “لا تُقبِح (تغضب)”، “لا تطلب ما لنفسها”، “لا تحتدُّ”، “لا تظنُّ السوءَ” 1(كو4:13،5)، هذا كله ماذا يعني سوى أن نقدم قلبًا نقيًا كاملاً محفوظًا من كل اضطراب؟!
7- أعمال صالحة بغير نقاوة قلب
ينبغي أن نصنع كل شيء أو نبحث عن أي شيء من أجل نقاوة القلب. فمن أجلها نطلب التوحد… ومن أجلها نصوم ونسهر ونحتمل الأتعاب والعري والدراسة ونقتني كل الفضائل الأخرى، لكي ما نهيئ قلوبنا ونحفظها من كل السموم الشريرة، وبهذا نصعد إلى كمال المحبة…
فالأمور التي تأتي في المرتبة الثانية في أهميتها كالصوم والسهر والزهد في العالم والتأمل في الكتاب المقدس، هذه يلزمنا أن نفعلها ناظرين إلى الهدف الرئيسي وهو “نقاوة القلب” التي هي “المحبة”. فعلينا ألا نفقد هذه الفضيلة الرئيسية بسبب تحقيق فضيلة أخرى.
فإذا لم ننفذ إحدى هذه الفضائل الأخرى لسبب قهري لا يصيبنا أذى، طالما وجدت الفضيلة الرئيسية. فلا يسوغ لنا أن ننفذ عملاً يكون من شأنه أن نفقد هذا الهدف موضوع حديثنا، بل نجاهد من أجله مهما كلفنا الأمر.
يشغف الإنسان بالحصول على أدوات العمل، لا لأجل امتلاكها بلا غاية لأن هذا في ذاته لا يحقق نفعًا… إنما باستخدامها يستطيع أن يضمن المعرفة العملية ويحقق هدفه المحدد، أي نوال الغنى الذي يرغبه. هكذا الصوم والسهر والتأمل في الكتاب المقدس وإنكار الذات وترك الممتلكات، هذه جميعها ليست كمالاً في ذاتها إنما تقود إلى الكمال. لأن هدف العلم (الروحاني) لا ينحصر في اقتناء هذه الأمور، إنما بها نبلغ إلى الغاية. فمن يكتفي بهذه الأمور على أنها الخير الأعظم يتممها بغير هدف، جاعلاً أُمنية قلبه تحقيق هذه الأمور، دون أن تمتد جهوده لبلوغ الهدف الذي لأجله يمارس هذه الفضائل. وهذا يكون مثله مثل من يمتلك أدوات ويجهل هدف فنه الذي يستخدمها فيه…
8- مثال من الكتاب المقدس
نقاوة القلب هي موضوع جهادنا الرئيسي وغاية قلبنا الدائم، وهي تعني التصاق الروح بالله وبالأمور السماوية. أما ما خلاف هذا، فإنه مهما بلغت قيمته يحتل المرتبة الثانية، بل ويصير بلا قيمة وأحيانًا يكون ضارًا. وقد أوضح الإنجيل تفسيرًا رائعًا لهذا الأمر في حالة مريم ومرثا. لقد كانت مرثا تخدم مقدمة عملاً مقدسًا بلا شك، وفيما هي تخدم الرب وتلاميذه كانت مريم تهتم بتعاليمه الروحية فقط، جالسة عند قدمَي السيد المسيح اللتين قبَّلتهما ودهنتهما بطيب الاعتراف الحسن. لقد التصقت بالرب الذي شهد لها أنها اختارت النصيب الصالح الذي لا يُنزع منها.
لأنه بينما كانت مرثا تعمل مجتهدة وقد ارتبكت في الخدمة حتى شعرت بعجزها عن القيام بالخدمة بمفردها طلبت من السيد المسيح أن تساعدها أختها قائلة: “يا ربّ أَما تبالي بأن اختي قد تركتني أخدم وحدي. فقُلْ لها أن تعينني” (لو40:10). لقد استدعت أختها لتعمل عملاً ليس تافهًا بل يستحق الثناء، ومع هذا بماذا أجابها الرب؟ “مرثا مرثا أنتِ تهتّمِين وتضطربين لاجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها” (لو41:10،42).
لقد رأيت كيف جعل الرب الخير الرئيسي ينصب في التأمل الإلهي…!
لقد رأيت كيف احتلت جميع الفضائل الأخرى المركز الثاني رغم تسليمنا بأهميتها وفائدتها وسموّها، لأن هذه جميعها إنما تُصنع لأجل هدف واحد. فعندما قال الرب: “أنتِ تهتّمِين وتضطربين لأجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ” جعل الخير الرئيسي لا يكون في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، بل في التأمل في الرب، الذي هو بالحقيقة الأمر الأول.
هذا القول يجب أن يكون موضع اهتمامنا جدًا، فقد قال لمريم إنها اختارت النصيب الصالح من غير أن يلُم مرثا. فإن مدح الواحدة أظهر أن الأخرى أقل منها فحسب. وقوله “الذي لن يُنزَع منها” كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن ينزع منها، لأن الخدمات الجسدية لا يمكن أن تبقى مع الإنسان إلى الأبد، أما اشتياق مريم فلن يكون له نهاية.
9- سؤال: كيف تزول الأعمال الصالحة؟
ما هذا ؟ هل الاجتهاد في الصوم والمثابرة في القراءة وأعمال الرحمة والبر والشفقة والسخاء تنزع منا ولا تبقى مع فاعليها؟ مع أن الرب نفسه وعد بملكوت السموات لأجل هذه الأعمال، إذ يقول: “تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم. لاني جُعْتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34:25،35). فكيف تُنزع الأعمال التي بها ينال صانعوها ملكوت السموات؟!
10- موسى: إنني لم أقل بأن جزاء العمل الصالح يزول، فالرب نفسه يقول: “من سقى أحد هؤلاءِ الصغار كأس ماءٍ بارد فقط باسم تلميذٍ، فالحق أقول لكم انه لا يُضِيع اجرَهُ” (مت42:10)، بل أؤكد أن فعل أي عمل سواء كان من ضروريات الجسد أو لضبطه… كل هذه الأعمال رغم ضروريتها والالتزام بها لكنها ستنتهي.
فالمثابرة على القراءة والزهد في الصوم لهما أهميتهما في تنقية القلب وقمع الجسد في هذه الحياة وحدها، طالما أن الجسد يشتهي ضد الروح (غل17:5)، بل وأحيانًا تنتهي في هذه الحياة وذلك كما في حالة إنهاك القوة بسبب التعب الشديد أو المرض الجسدي أو كبر السن حيث لا يقدر الإنسان على تنفيذها، وبالأكثر تنتهي هذه الأعمال عندما يلبس هذا الفاسد عدم فساد (1كو53:15)، ويُقام الجسد الحيواني جسدًا روحيًا (1كو 44:15)، ولا يعود الجسد يشتهي ضد الروح.
ويوضح الرسول بولس ذلك بجلاء بقوله “لأن الرياضة الجسديَّة نافعة لقليل، ولكن التقوى (وبالتأكيد يقصد بها المحبة) نافعة لكل شيءٍ، إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة” (1تى8:4). فما قيل عنه إنه نافع لقليل هو ما لا نفعله كل حين والذي لا يمكن به في ذاته الوصول إلى الكمال الأسمى، ففي قوله لقليل يقصد به أحد معنيين:
الأول: من جهة قصر الوقت، فالرياضة الجسدية لا يمكن القيام بها في هذه الحياة الأرضية والحياة العتيدة.
الثاني: قد يكون ذلك إشارة إلى أن الفائدة أقل من الثانية، فالرياضة الجسدية تؤدى بنوع ما إلى بداية التقدم، ولكنها ليست مثل كمال المحبة التي وعد بها في هذه الحياة والحياة العتيدة.
إذن الأعمال السابق ذكرها هامة، إذ بها نصعد إلى مرتفعات المحبة. فتكون الأعمال التي ندعوها أعمال عبادة ورحمة ضرورية في هذه الحياة، حيث يوجد الظلم والجور بين البشر… لكن لا وجود لها في الحياة العتيدة حيث يسود العدل، فيتحول البشر عن الأعمال الصالحة إلى حب الله، والتأمل في السماويات في نقاء قلب دائم. وهذا الأمر اختاره الذين كرسوا حياتهم للمعرفة ونقاوة القلب، باذلين كل جهدهم لكي يخضعوا له وهم بعد في الجسد، وتكمل نقاوة قلبهم حينما ينزع عنهم الفساد وينالون وعد الرب المخلص القائل: “طوبى للأَنْقِياء القلب، لأنهم يعاينون الله”.
11- خلود المحبة أو نقاوة القلب
لماذا نندهش من أن هذه الأعمال السابق ذكرها ستبطل بينما يخبرنا الرسول الطوباوي أنه حتى عطايا الروح القدس العظمى ستنتهي، مشيرًا إلى أن المحبة وحدها هي التي تبقى إلى الأبد، إذ يقول “..وأمَّا النبوَّات فستبطل والأَلسِنَة فستنتهي والعلم فسيُبطَل” (1كو8:13). أما عن المحبة فيقول “المحبَّة لا تسقط أبدًا..”.
فالعطايا توهَب إلى حين من أجل الحاجة إليها لاستخدامها، فإذا ما انتهى عملها زالت، أما المحبة فلا تسقط أبدًا، لأن المحبة لا يتوقف نفعها عند هذه الحياة بل يتعداها إلى الحياة العتيدة، فإذ تزول أثقال احتياجات الجسد تستمر المحبة في نشاط أعظم وسعادة أوفر، فلا تعود بعد تضعف بتأثيرٍ ما، بل بعدم فسادها الدائم تلتصق بالله بأكثر نشاط وغيرة.
12- أسئلة حول التأمل الدائم في الله
جرمانيوس: ومن يستطيع أن يبقى على الدوام في هذا التأمل وهو مثقل بالجسد الضعيف، دون أن يفكر قط في وصول أخ أو زيارة مريض أو في عمل يدوي، على الأقل يهتم بالغرباء والزائرين؟! ومن الذي لا يتعطل بإعالته جسده واعتنائه به؟ وبأي وسيلة يمكن للعقل أن يلتصق بالله غير المنظور وغير المدرك؟ هذا ما نود أن نتعلمه.
13- يستحيل على الإنسان وهو مازال في هذا الجسد الضعيف أن يلتصق بالله تمامًا ويلازم التأمل فيه على الدوام (بلا انقطاع). لكن يلزمنا أن نعرف الهدف الماثل أمام أعيننا والغرض الذي تسعى إليه نفوسنا، فنفرح قدر ما يتحقق، ونحزن ونتنهد عندما ننحرف عنه.
فإذا ما اكتشفت النفس فشلها في التأمل في الله، تكون بذلك قد سقطت عن الخير الأعظم، آخذة في اعتبارها أن ابتعادها عن التأمل في الرب يسوع ولو إلى حين يعتبر زنا، فإذا ما انحرف نظرنا عنه ولو قليلاً نعيد إليه أنظار أرواحنا ثانية، متذكرين موضوع تأملنا وشغلنا الشاغل.
كل شيء يتوقف على عقلنا الداخلي، فإذا ما طُرد منه الشيطان لا يصير للخطية سلطان علينا ويكون ملكوت السماوات فينا، إذ يقول الإنجيلي: “..لا يأْتي ملكوت الله بمراقبةٍ. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لان ها ملكوت الله داخلكم” (لو 20:17، 21).
ففي “داخلكم” إما معرفة الحق أو جهله، الابتهاج بالفضيلة أو الرذيلة، وبهذا نُعد قلوبنا لملكوت المسيح أو ملكوت الشيطان.
ويصف الرسول الملكوت قائلاً: “لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا. بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو17:14)، فإن كان ملكوت الله داخلنا وهو بر وسلام وفرح، فإن من يتمم هذه يكون في ملكوت الله. وعلى العكس من يعيش في الشر والنزاع والحزن الذي للموت يكون في ملكوت الشيطان وفي الجحيم والموت، بهذا يتميز ملكوت الله عن ملكوت الشيطان.
فإذا ارتفعنا بعقولنا إلى فوق لنتأمل القوات السمائية التي هي بالحقيقة في ملكوت السماوات، ماذا نتصورهم سوى انهم في فرح دائم أبدي؟! فأي شيء يليق بالسعادة الحقيقية مثل الهدوء الدائم والفرح الأبدي؟!
ينبغي علينا أن نؤكد أن ما قلته ليس من ذاتي، بل حسب حكم الله الذي كشف بوضوح عن ذلك بالقول: “لاني هانذا خالق سموات جديدة وأرضًا جديدة فلا تُذكَر الاولى ولا تخطر على بالٍ. بل افرحوا وابتهجوا إلى الابد في ما أنا خالق..” (إش17:65،18). مرة أخرى يقول: “..الفرح والابتهاج يوجدان فيها. الحمد وصوت الترنم” (إش3:51). ويقول: “..ابتهاج وفرح يدركانهم . ويهرب الحزن والتنهُّد” (إش10:35).
وإن أردت أن تعرف بأكثر وضوح عن الحياة التي في مدينة القديسين، أنصت إلى ما يعلنه صوت الله عن أورشليم السمائية قائلاً: “..واجعل وكلاءَكِ سلامًا وولاتكِ برًّا. لا يُسمَع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومكِ بل تسمّين أسوارك خلاصًا وأبوابكِ تسبيحًا. لا تكون لك بعد الشمس نورًا في النهار ولا القمر ينير لك مضيئًا بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زينتك” (إش17:60-19).
ولا يتحدث الرسول عن الفرح بغير تمييز… بل يوضح مؤكدًا نوعه أنه “..في الروح القدس” (رو17:14)، إذ يعرف تمامًا الفرح الممقوت الذي نسمع عنه “..العالم يفرح..” يو20:16، “..ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون” (لو25:6).
يلزمنا بالحق أن ننظر إلى ملكوت السموات من جوانب ثلاث:
ا – إما أنه سيملكه القديسون حيث تخضع لهم الأمور، وذلك كالقول: “..فليكن لك سلطان على عشر مدن… وكُنْ انت على خمس مدن” (لو17:19،19)، وما قيل للتلاميذ “..تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كُرسيًّا تدينون اسباط اسرائيل الاثنى عشر” (مت28:19).
ب – أو أن السموات تُملك بالسيد المسيح حيث كل الأشياء تخضع له “..يكون الله الكل في الكل” (1كو28:15).
ج – أو أن القديسين سيملكون مع الله في السموات.
14- أبناء الملكوت أحياء يتأملون ويسبحون الله حتى وإن ماتوا
من ثم ليأخذ كل إنسان في اعتباره أنه سيكون له نصيب في ذلك، فلا يشك في أنه سيشارك في الحياة الأبدية (الرب) الذي يخدمه… إذ يقول: “إن كان أحد يخدمني فليتبعني. وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي..” (يو26:12).
وكما أن ملكوت الشيطان يكون بقبول الخطية، فإن ملكوت الله يُنال بعمل الفضيلة في نقاوة قلب وبمعرفة روحية, وأينما وجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبدية بفرح، وحيثما وجد ملكوت الشيطان فبلا شك يوجد الموت والقبر. ومن يكون في ملكوت الشيطان لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرنا النبي قائلاً: “ليس الأموات يسبّحون الرب ولا مَن ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن (الأحياء الذين نعيش للَّه وليس للخطية أو للعالم) فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر، هللويا” (مز 17:115، 18). “لأنهُ ليس في الموت ذكرك. في الهاوية (الخطية) مَنْ يحمدك” (مز 5:6). فالإنسان ليس كيفما كان، بل ولو دعي نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا لا يقدر أن يعترف بالله إن كان يخطئ متمسكًا بخطيته.
من يسمح لنفسه أن يصنع ما يكرهه الله لا يقدر أن يعترف بالله، أو يدعي نفسه أنه خادم الله. لأن من يحتقر وصايا الله بحماقةٍ وطياشة يسقط في الموت الذي تسقط فيه الأرملة المتنعمة الذي يقول عنها الرسول: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1تي6:5).
على هذا يوجد كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله… وهناك كثيرون قد ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم. إذ يقال: “باركوا الرب يا أرواح ونفوس الصديقين..” (راجع دا 86:3 – الأسفار القانونية الثانية)، “كل نسمةٍ فلتسبح الرب” (مز 6:150)، وفي سفر الرؤيا نجد نفوس الذين قُتلوا ليس فقط تسبح الله بل وتطلب منه (رؤ 9:6، 10). وفي الإنجيل يقول الرب للصدوقيين في وضوح تام: “..أَفما قرأْتم ما قيل لكم من قِبَل الله القائل أنا إلهُ إبراهيم وإلهُ اسحق وإلهُ يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله أحياءٍ (لأن الكل يحيا فيه)” (مت 31:22-32). وعمن يتحدث الرسول قائلاً: “..لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعَى إلههم لأنه اعدَّ لهم مدينةً” (عب 16:11)؟! فانفصالهم عن الجسد لا يجعلهم بلا عمل ولا يفقدهم الإحساس والشعور…
وإذا تفهمنا بدقة الكلمات التي قيلت للص: “..اليوم تكون معي في الفردوس” (لو43:23)، لظهر بوضوح أن صفات النفس لا تلازمها فحسب بل ويصير للنفس في حالتها الجديدة (بعد انفصالها عن الجسد) صفات تتناسب مع عملها واستحقاقها. فما كان الرب يَعِد اللص بذلك لو أنه يعلم بأن نفسه تفقد تمييزها وإدراكها أو تتحلل بسبب انفصالها عن الجسد. فالداخل إلى الفردوس نفسه وليس جسده. لذا يلزمنا على الأقل أن نتجنب الأقوال التي توقف تمتع النفس بالميراث… ولقد كشف السيد المسيح أن النفوس المنفصلة عن الجسد ليس فقط تزول عنها متاعب الجسد، بل تشعر بالأمل والفرح ولا يصير بعد حزن أو خوف. إنها للحال تبتدئ تتذوق مما قد حفظ لها في يوم الدينونة العظيم، إنها لا تتحلل إلى العدم عند انفصالها من الجسد كما يظن غير المؤمنين، بل تحيَ الحياة الحقيقية ويزداد شغفها نحو التسبيح للَّه.
لنترك البراهين الكتابية قليلاً ولننظر بقدر المستطاع إلى طبيعة النفس ذاتها. فإننا لا نكون جهلاء بل متهورين ومملوءين حماقة إن كان لدينا شك في أن ذلك الجزء النبيل في الإنسان، والذي يقول عنه الرسول الطوباوي، أنه على صورة الله ومثاله[1] يصير عديمًا للحس عندما يُلقى عنه الجسد ويترك هذا العالم.
النفس التي تهب الجسد العديم الحس أن يكون عاقلاً بمشاركته لها، خاصة إن اتبعها. والأمر عينه من جهة العقل، الذي متى تأثر بثقل الجسد يهبط عملِه، لكن النفس تُعيد إليه قُواه أحسن مما كان عليه…
وقد نادى الرسول الطوباوي بذلك معلنًا صدق قولنا مشتاقًا إلى الانفصال عن الجسد حتى يتمكن من أن يفرح بالله بأكثر غيرة، قائلاً: “..لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح، ذاك افضل جدًّا” (في23:1). “..ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغرّبون عن الرب… فنثق ونسرُّ بالأَولى أن نتغرَّب عن الجسد ونستوطن عند الربّ. لذلك نحترس أيضًا مستوطنين كنا أو متغرّبين أن نكون مَرضيِيّن عندهُ” (2كو6:5-9). إنه يعلن أن بقاء النفس في الجسد هو تغرب عن الله وابتعاد عن المسيح، ويؤمن إيمانًا كاملاً أن الابتعاد والانفصال عن الجسد فيه وجود في حضرة المسيح (وجهًا لوجه).
مرة أخرى يكشف الرسول بوضوح أن هذه الأرواح أكثر حيوية بقوله: “بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوَّية والى ربواتٍ هم محفل ملائكةٍ وكنيسة أبكارٍ مكتوبين في السموات… وإلى أرواح أبرار مكمَّلين” (عب22:12،23). ويقول أيضًا عن هذه الأرواح: “ثم قد كان لنا آباءُ أجسادنا مؤَدّبين وكُنَّا نهابهم، أَفلا نخضع بالأَولَى جدًّا لأَبي الأرواح فنحيا” (عب9:12).
15- كيف نتأمل في الله؟
يمكننا التأمل في الله بطرق عدة. فلا نعرف الله فقط عن طريق اندهاشنا من جوهره المخفي غير المدرك… لكن يمكننا أن نراه أيضًا في عظمة أعماله في الخليقة، وفي التطلع إلى عدالته، والتأمل في معونة نعمته اليومية، وعندما نتأمل بعقل نقي في أعمال الله في قديسيه عبر كل الأجيال، ونتأمل بقلوب مرتجفة لقوته التي بها يحكم كل الأشياء ويوجهها وينظمها، أو نعجب من علو معرفته وعلمه لكل خفايا القلب. إن أخذنا في اعتبارنا معرفته لعدد رمال البحر وموجات البحر، وقطرات الأمطار، وأيام أعمارنا وساعاتها، وكل الأمور الماضية والمستقبلة هي حاضرة قدامه.
إننا نتطلع في دهش أمام محبته التي بلا حدود ولا يُنطق بها، وطول أناته اللانهائية، وغفرانه في كل لحظة لخطايانا التي نعترف له بها بلا حساب، ودعوته لنا رغم عدم استحقاقنا السالف بل بنعمته ورحمته. كذلك فرص الخلاص التي يقدمها لنا بغير حدود، واهبًا لنا التبني، متعهدًا إيانا منذ الطفولة بالنعمة ومعرفة نواميسه. ووهب لنا أن نغلب به العدو (الشيطان) خلال إرادته الصالحة فينا، مقدمًا لنا السعادة الأبدية والأكاليل الدائمة. كذلك تعهده بتدبير التجسد من أجل خلاصنا واتساع عجائب أسراره التي يقدمها للأمم جميعًا.
وهكذا تكون رؤيتنا للأمور العلوية بحسب صلاح حياتنا ونقاوة قلبنا، إذ يصير هذا القلب الذي كعينين نقيتين نعاين به الله ونحتضنه. هذه الرؤيا بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يحتفظ بها ما دامت ميوله الجسدية قائمة، إذ يقول الرب: “..لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر20:33)، أي من له ميول زمنية او أرضية يفقد البصيرة الداخلية.
16- سؤال: هل يمكن للإنسان أن يمنع الأفكار التي تشوش نقاء ذهنه، لينعم بالتأملات الإلهية؟
جرمانيوس: كيف تتسلل إلينا أفكار الكسل خفية رغم إرادتنا وعدم معرفتنا، حتى يصعب جدًا ليس فقط طردها بل أيضًا مجرد معرفتها؟ هل يستطيع العقل أن يتحرر منها ولا يحارب قط بمثل هذه الخداعات؟
17- موسى: يستحيل على العقل أن يمنع اقتراب الأفكار إليه، لكن في استطاعة الإنسان المجتهد أن يقبلها أو يرفضها. فظهور الفكر لا يعتمد على إرادتنا، لكن قبوله او رفضه في مقدورنا.
إن كنا قد قلنا بأننا لا نستطيع منع الأفكار من الاقتراب نحو العقل، فإنه ينبغي علينا ألا نحتج بهجومها… متجاهلين حرية إرادتنا، وإلا لا يكون إصلاحنا في أيدينا. لكنني أقول إلى حد كبير أنه في قدرتنا تمييز الأفكار التي تطرح علينا، هل هي أفكار مقدسة روحية أو أفكار أرضية، هل نقبلها لتنمو في داخل قلوبنا أم ننزعها سريعًا لئلا تفسدنا.
لهذا الغرض نستخدم القراءة المستمرة، والتأمل الدائم في الكتاب المقدس كفرصة لتهيئة القلب وانشغاله بالروحيات. وأيضًا التسبيح بالمزامير يقودنا للشعور بالندامة باستمرار. كما أنه بحياة السهر والصوم والصلاة باجتهاد نسمو بالعقل عن الأمور الأرضية متأملين في الأمور السماوية.
فإذا ما أُهملت هذه الأمور وتُركت، بالتأكيد ينحرف العقل نحو الميول الجسدية، ويسقط في دنس الخطية…
18- تشبيه العقل بطاحونة الهواء
يليق بنا مقارنة حركة القلب بعجلة طاحونة الهواء. فالمياه تندفع بسرعة… ولا يمكن إيقافها مادامت العجلة تعمل… لكن في استطاعة الإنسان أن يوجه المياه في زراعة الحنطة أو الشعير أو الزوان، وهذا يتوقف على اختيار الإنسان الموكل إليه العمل.
بالرغم من قوة تأثير تيارات الإغراءات في هذا العالم، التي تضغط على العقل من كل جانب، حتى أنه لا يقدر أن يكون متحررًا من تدفق الأفكار، إلا أن نوع الأفكار التي تتسلل إليه وتأتيه تتوقف على جهاده. فمتى كنا دائمي التأمل في الكتب المقدسة، موجهين أذهاننا إلى الأمور الروحية، راغبين في بلوغ الكمال، مترجين السعادة العتيدة، ترتفع أفكارنا الروحية، ويحي عقلنا فيما نتأمل فيه.
لكننا إن غُلبنا بالكسل والإهمال وأضعنا وقتنا في فلسفة الكلام أو عاقتنا اهتمامات هذا العالم ومباهجه الزائلة وغير النافعة، تظهر بعض أنواع الزوان وتضرّ قلوبنا، وكما يقول إلهنا ومخلصنا بأنه حيث يوجد كنز أعمالنا أو هدفنا هناك بالتأكيد تكون قلوبنا (مت21:6).
19- مصادر الفكر
يلزمنا قبل كل شيء أن نعرف على الأقل أن هناك ثلاثة مصادر للفكر: الله، والشيطان، وذواتنا.
يأتي الفكر من الله عندما يهبنا الله أن يفتقدنا بإنارة الروح القدس، رافعًا إيانا إلى تقدم عظيم… ويقوم الله بتأديبنا تأديبًا نافعًا متى تباطأنا في النمو أو غُلبنا بالكسل. إنه يكشف لنا أسرار السماوات، ويحوِّل أهدافنا إلى الأعمال الفضلى، وذلك كما فعل بأحشويرش الذي أدبه الله، والذي حثه أن يسترجع ما قد كتب في الأخبار بخصوص أعمال مردخاي العظيمة… كذلك يقول النبي: “أني اسمع ما يتكلم بهِ الله الرب..” (مز 8:85). ويخبرنا آخر: “فقال لي الملاك الذي كلمني..” (زك 14:1). ويقول الرب: “لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت20:10). ويقول الإناء المختار: “إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلّم فيَّ..” (2 كو 3:13).
كذلك تنبع سلسلة أفكار من الشيطان وذلك بسبب حسده لنا، راغبًا تدميرنا إما بمباهج الخطية او بهجماته السرية فهو يخدعنا بحِيَله الخبيثة، مظهرًا الشر كما لو كان خيرًا، ومعلنًا ذاته في صورة ملاك نوراني (كو 14:11). ويخبرنا الإنجيلي: “فحين كان العشاءُ وقد أَلقَى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلّمهُ” (يو2:13). ويقول بطرس لحنانيا: “..لماذا ملأَ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس..” (أع 3:5). وجاء في سفر الجامعة “إن صعدَتْ عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك..” (جا 4:10). وهذا أيضًا ما قيل ضد آخاب في الكتاب الثالث للملوك عن الروح غير المنظور “..اخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ..” (1 مل 22:22).
وتصدر الأفكار من ذواتنا إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك الطوباوي داود: “تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. اذكرُ ترنميْ في الليل. مع قلبي أناجي وروحي تبحث” (مز 5:77، 6). مرة أخرى يقول: “الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة” (مز 11:94)، “أفكار الصدّيقين عدل..” (أم 5:12). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: “لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟!” (مت 4:9).
20- تمييز الأفكار
يلزمنا أن نراعى بكل حرص هذا الأمر المثلث الجوانب، فلنختبر الأفكار التي تهاجمنا ببصيرة وحكمة، لندرك ما هو مصدر الفكر وأسبابه منذ بدايته. وبهذا يمكننا أن نأخذ في اعتبارنا هل نخضع له وذلك حسب نوع مقترحه، فنكون كالصيارفة الحكماء كما يعلمنا بذلك الرب. إذ هم بمهارتهم وخبرتهم يميزون الذهب النقي الخالص الذي تنقى بالنار كما ينبغي، وبمهارتهم لا ينخدعون بقِطع النحاس المغشاة بطبقة خفيفة من الذهب والتي تبدو ذات قيمة عظيمة… إنهم بذكائهم ومهارتهم يدركون تمامًا العملات المزيفة التي يصكها كبار المخادعون…
هكذا يلزمنا أولاً أن نختبر بكل حرص كل فكر يدخل إلى قلوبنا وكل تعليم نتلقنه لنرى ما إذا كان قد تنقى بنار الروح القدس الإلهي السماوي، أو ينتمي إلى ضلال الهراطقة، أو هو ثمرة كبرياء الفلسفة البشرية التي ليس لها إلا سطحيات التديّن.
نستطيع أن نعمل هذا إن سلكنا بنصيحة الرسول القائل “أيها الأحباءُ لا تصدّقوا كلَّ روحٍ بل امتحنوا الارواح هل هي من الله…” (1 يو1:4). ينخدع البعض بهذا النوع، فيغويهم حُسن التنسيق، والتعاليم الفلسفية التي تخدع لأول وهلة بما فيها من بعض المعاني الورعة التي تتفق مع الدين، وذلك كما يخدع بريق الذهب ناظريه. هؤلاء تجذبهم المظاهر، لكن سرعان ما يشعرون أنهم في الواقع قد خرجوا فارغي اليد، ويسقطون في اليأس ويكونون كمن قد انخدعوا بالنقود النحاسية المغشوشة.
هذه الأفكار أو التعاليم، إما أن تجذبهم إلى الانهماك في العالم، أو تسقطهم في أخطاء الهراطقة، وتنحدر بهم إلى الكبرياء الباطل…
ومن جهة أخرى يلزمنا أن نحرص لئلا يوضع أمامنا تفسير خاطئ للذهب النقي الذي هو الكتاب المقدس فننخدع… وقد استخدم الشيطان هذه الوسيلة لكي يخدع بها سيدنا ومخلصنا الذي بدا ربنا كأنه إنسان عادي، إذ بتفسيره (الشيطان) المضلل حاول أن يفسد ما يفهمه الصالحون (مت4). لقد حاول أن يثبت تفسيره… فلفت أنظارنا إلى الأقوال القيِّمة التي للكتاب المقدس محرفًا تفسيرها لنفهمها فهمًا خاطئًا يختلف كليةً عن المعنى الحقيقي…
كذلك يحاول أن يخدعنا بالتزييف، كأن يحثنا على الانشغال ببعض أعمال الرحمة (بطريقة غير سليمة). وهو بهذا يظهر كأنه يتكلم بفكر الآباء الحقيقي، فيقودنا إلى الرذيلة في شكل الفضيلة، فيخدعنا بالأصوام أو الأسهار الطويلة، أو الصلوات الزائدة عن الحد، أو القراءات الغير مناسبة، وبهذا يجذبنا إلى نهاية سيئة.
وأيضًا يغوينا بأن نسلم أنفسنا إلى الاعتناء بالآخرين والافتقاد الروحي، وهو بهذا ينتزعنا عن وجودنا الروحي في الدير، ولينزع عنا سر الهدوء الملازم لنا، ويقترح علينا أن نأخذ على عاتقنا الاهتمام بضيقات النساء المتدينات اللواتي في عوز وإشباع احتياجهن. فإذا ما ارتبك الراهب وسقط في أمر كهذا يجعله قلقًا بهذه الأعمال والاهتمامات الضارة.
كذلك عندما يحرص الراهب أن يشتاق إلى وظيفة كهنوتية مقدسة، بحجة تعليم الناس وحبه لربح النفوس، وهو بهذا يجذبنا بعيدًا عن التواضع والتدقيق في حياتنا.
هكذا يقدم لنا كل الأمور التي تعترض خلاصنا ولا تتناسب مع عملنا، غير أنه يخفيها بغطاء، أو يحجبها بحجاب من الشفقة والدين، لكي يخدع بسهولة من تنقصهم المهارة والحرص.
إنهم يقلدون عُملة الملك الحقيقي، إذ يظهرون هذه الأعمال مملوءة شفقة، لكن لم يصكها الذين لهم هذا الحق، أي لا تتفق مع فكر آباء الكنيسة الجامعة، ولا يحصلون عليها من المكتب العام المخصص بتسليمها، إنما تصك خلسة بخداع شيطاني ويدسونها لغير الماهرين والجهلاء…
وإذ تبدو في البداية نافعة ولازمة، إلا أنه بعد ذلك تبدأ تتغلغل داخل سلامة عملنا وتضعف كل كيان هدفنا بعدة أساليب. لذلك حسنٌ أن تقطع هذه الأفكار وتبعد عنا، وذلك كما لو كانت عضوًا فاسدًا، الذي وإن بدا لازمًا لكنه مضر لنا. فإنه من الأفضل أن نكون بدون هذا العضو من وصية ما، أي أننا لا ننفذها ونبقى في سلام وأمان وندخل ملكوت السماوات هكذا عن أن نخطئ في كل الوصايا عن طريق خداع الشيطان الذي يقدم لنا أن ننفذ وصية ما، وبواسطتها يحرمنا من نظامنا الدقيق وترتيبنا، وهكذا تصير لنا خسارة تفوق في أهميتها أي ضرر لاحق، وتدفع بكل جهادنا السابق وكل جسد أعمالنا إلى الحرق في نار جهنم (مت 8:18).
قيل عن هذه الأنواع من الخداع “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم 25:16). وأيضًا “ضررًا يُضَرُّ من يضمن غريبًا..” (أم 15:11). فالشيطان يخدعنا بأخذه مظهر القداسة…
21- مثال: انخداع الأب يوحنا
لقد سمعنا عن الأب يوحنا الذي كان يقطن في[2]Lycon، وقد انخدع منذ فترة قصيرة. فقد أنهك جسده وأعياه، وإذ صام يومين وفي اليوم الثالث بينما كان ذاهبًا ليأخذ بعض القوت ظهر له الشيطان في صورة سوداء قذرة وسقط تحت قدميه قائلاً: “عفوًا. فإني سأقوم لك بهذا العمل”. فانخدع الرجل العظيم بمكر الشيطان وحسب أن هذا العمل لا يتناسب معه بسبب زهده. فازداد في الصوم متظاهرًا بإنهاك قوى جسده وصار في حالة ملل كان في غنى عنها، وهكذا أضر الرجل روحه وانخدع بالعملة المزيفة…
كما سبق أن أشرنا أنه يلزم على الصراف الحكيم أن يختبر وزن العملة فيتحقق الفكر الذي يخطر علينا، ويضعه على ميزان قلبه ويزنه بميزان دقيق. فقد يكون العمل (الذي يبثه الفكر) مملوء بالخير للجميع أو مثقلاً بمخافة الله ونقيًا وكاملاً في ظاهره، لكن في باطنه تفاخر وزهو بشري أو غرور… يلزم وزن الفكر بالميزان العام أي اختباره بأعمال وبراهين الرسل الأنبياء النقية كاملة الوزن، نابذين بكل تدقيق وجهاد الأعمال غير الكاملة المزيفة ناقصة الوزن.
23- طرد الأفكار المزيفة
قوة التمييز هذه هامة لنا من جوانب أربعة من جهة موضوع حديثنا:
أولاً: أن ندرك إن كان معدنها ذهبًا نقيًا أم مجرد مغطاة بالذهب.
ثانيًا: يلزمنا أن نستبعد الأفكار التي تعهد إلينا بأعمال مزيفة خاصة بالدين، كما لو كانت عملة مزيفة، صكت بغير حق، وتحمل صورة مزيفة للملك.
ثالثًا: بنفس الطريقة يلزمنا أن تكون لدينا القدرة على تمييز تلك الأفكار التي تشرح ذهب الكتاب المقدس الخالص، شرحًا خاطئًا وهرطوقيًا، فتظهر صورة مخادعة لا صورة الملك الحقيقي.
رابعًا: يجب علينا أن نرفض أيضًا الأفكار التي استنفذت وزنها وفقدت قيمتها بسبب الغرور، فلم تعد بعد تصلح في ميزان الآباء بكونها عملات خفيفة جدًا وزائفة… لذلك يلزمنا أن نتجنب ما قد حذرتنا منه الشريعة الإلهية بكل قوتنا حتى لا نخسر جزاء كل أعمالنا. “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون” (مت19:6). فإن قمنا بعمل ما ناظرين إلى المجد البشرى، فإننا نعلم أنه كما يقول الرب نكنز لأنفسنا كنزًا على الأرض، وبالتالي نخفيه في الأرض وندفنه فيها، فيهلكه الشيطان، ويتلف بصدأ المجد الباطل أو يفسد بسوس الكبرياء فلا ننتفع منه بشيء.
يلزمنا أن نفتش باستمرار كل غُرفنا الداخلية في القلب، ونقتفي آثار كل ما يدخل فيها، وندقق في بحثها لئلا تدخل إحدى الحيوانات المفترسة. إنني أنطق بهذا خشية أن يدخل أسد أو تنين خلسة تاركًا آثارًا خطيرة وتكشف لغيرها طريق الدخول إلى مخابئ قلبنا، وذلك بسبب إهمالنا في تمييز أفكارنا.
لذا يجب أن نقلب أرض قلبنا بمحراث الإنجيل يوميًا، بل كل ساعة، أي أن نتذكر صليب المسيح على الدوام، فنحطم في قلوبنا كل عرين للحيوانات المفترسة المهلِكة ونزيل موضع اختباء الثعابين السامة.
23- وعده بأن يحدثنا عن “التمييز”
وإذ رأي الشيخ اندهاشنا والتهاب قلبنا بكلمات حديثه، وشوقنا المتزايد، توقف قليلاً عن الكلام… ثم أضاف قائلاً: “يا أولادي. أنه من أجل غيرتكم في سماع النقاش الطويل وبسبب شغفكم كانت تلك النار تمدكم باللذة والاشتياق نحو مناظرتنا. ومن هذا أتبين بوضوح تعطشكم نحو التعلم عن الكمال. إنني أود أن أحدثكم شيئًا عن عظمة “التمييز”، والنعمة التي تحكم الإنسان وتجعله يقتني كل الفضائل، غير مبرهن عليها بالأدلة اليومية إنما بتأملات الآباء وفكرهم.
وإنني أتذكر أنه عندما كان يسألني أحد بتنهد ودموع للحديث عن هذا الأمر، كنت أنا نفسي أجد شوقًا للحديث معه عن بعض التعاليم التي لم يكن في استطاعتي أن أنظمها… وبهذا رأينا بوضوح أن نعمة الله تلهم المتحدث بالكلام حسب احتياج السامعين وغيرتهم. والآن لا أستطيع إلا أن أنهي حديثي لأن الليل كاد ينتهي، تاركًا الحديث من أجل أن تستريح أجسادكم… ولنترك تكملة ترتيب المناظرة إلى النهار أو الليل المقبل…
ملخص المبادئ
1 نقاوة القلب تعني ملكية القلب للَّه وحده، أي حبنا للَّه وانشغالنا به وتأملنا فيه على الدوام. وهو الترمومتر الدقيق لقياس مدى إخلاص العبادة وتزييفها.
2 العبادة من صوم وصلاة وصدقة ونسك… غايتها نقاء القلب الذي هو طريق الملكوت. وكل وسيلة من وسائل العبادة – مهما بلغ قدرها – تفقد كيانها بل وتضلل الإنسان وتخدعه إذا لم يكن هدفها نقاوة القلب.
3 الإنسان في هذا الجسد الضعيف يبغي كمال النقاوة، يفرح روحيًا قدر ما يقترب منها، ويلزمه أن يحذر لئلا ينحرف عنها، وذلك بفضل عمل الروح القدس الساكن فيه والذي يهبه روح الحكمة أو التمييز (الإفراز) مع الجهاد في خطوات عملية منها:
ا- الاهتمام بحياة التسبيح للَّه والشكر لأن هذا هو عمل أبناء الملكوت.
ب- التأمل في عظمة الخالق ومحبته وعنايته بنا.
ج- التأمل في الصليب كينبوع لا ينضب نرى فيه حب الله اللانهائي واهتمامه بنا.
د- القراءة المستمرة والتأمل الدائم في الكتاب المقدس.
ه- السهر والصوم والصلاة بقصد رفع العقل عن الأرضيات.
و- التمييز بين مصادر كل فكر، لأن أفكارًا كثيرة تبدو مقدسة وهي مضللة، مثال ذلك: أفكار تحث الراهب على الخدمة في العالم وخاصة أثناء الصلاة، وتشوق الكاهن المتزوج للرهبنة، انشغال الإنسان بخطيته بصورة تفقده سلامه الداخلي وتجعله قانطًا كئيبًا مدفوعًا نحو اليأس، والتفكير في مراحم الله وحنانه أثناء استهتارنا وجعل ذلك ستارًا لعدم التوبة..
________________________________________
[1] راجع 1كو7:11، كو10:3
[2] Lycon أو Lycopolis ليكوبوليس وتدعى حاليًا أسيوط في الجنوب الشرقي لهرموبوليس (المنيا).
المناظرة الثانية
التمييز أو الإفراز للأب موسى
1- مقدمة
إذ تمتعنا بنوم الصباح وأشرق النور علينا بدأنا نسأله أن يحدثنا بما وعدنا به. فبدأ الطوباوي موسى يقول: إذ أرى شوقكم الملتهب هذا، فإنني لست أظن بأن ما كنت أرغبه في أن أترككم فترة هدوء قصيرة جدًا بعد المناظرة الروحية، لأجل راحتكم الجسدية، يهبكم راحة لأجسادكم، إنما إذ أتطلع إلى غيرتكم أشعر بالضرورة تلح عليّ لكي ما أفي بما قد وعدتكم به بكل عناية وإخلاص…
إنني سأتكلم عن “التمييز الحسن وخصائصه”، الموضوع الذي تطرقنا إليه في مناقشتنا الليلة الماضية. وإني أحسب أنكم تريدون أن أكشف لكم عن بركات “التمييز” حسب فكر الآباء… وأن أحدثكم عن هلاك بعض السابقين والمحدثين وسقوطهم في اليأس بسبب عدم اهتمامهم بالتمييز، ثم أتحدث عن بركات التمييز… هذا كله بعدما نناقش كيف يلزمنا أن نعرف جيدًا كيفية البحث عن التمييز وطريقة الانتفاع به عمليًا، آخذين في اعتبارنا أهميته وبركاته.
التمييز نعمة إلهية
لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشري ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى في الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد… ولآخر تمييز الأرواح”…
لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هي بالأمر الهيّن ، إنما هي عطية عظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسعى الإنسان[1] بكل حماس نحو التمييز… حتمًا يخطئ ويصير كمن هو في ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط في الأشراك والأهواء بل ويخطئ حتى في الأمور السهلة.
2- أهميته
أذكر لما كنت في منطقة طيبة Thebaid حيث يقطن الطوباوي أنطونيوس وأنا صبي جاءه جماعة من الآباء يسألونه عن “الكمال”. واستمرت المناقشة من المساء حتى الصباح، وأخذ هذا السؤال النصيب الأكبر من الليل. وقد نوقش: أيالفضائل أكمل وأقدر على حفظ الإنسان من مصائد الشيطان وحيله، وتحمله إلى الطريق الآمن الحقيقي، وترتفع به بدرجات ثابتة على قمم الكمال؟
تحدث كل واحد على حسب ميول عقله، فقال البعض بأن الجهاد في الصوم والسهر يقوّم الفكر وينقي القلب ويسهل للإنسان التقرب إلى الله. ومنهم من قال بأن المسكنة والزهد في الأمور الأرضية يُمكّنا العقل أن يكون هادئًا صافيًا خاليًا من هموم العالم، متجهًا بالكامل نحو الله، ولا تقتنصه أشراك العدو. وظن البعض أنه بالضرورة الانسحاب من العالم، أيضًا الوحدة والانعزال في حياة التوحد، حتى يُمكن للإنسان بالأكثر أن يتحدث مع الله ويلتصق به. وذكر البعض أعمال المحبة أيضًا فعل الرحمة، لأن الرب يقول لفاعليها كما وعدهم في الإنجيل: “تعالوا إليّ يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جُعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34:25،35).
بهذا أعلنوا أنه خلال فضائل متنوعة يمكن الاقتراب إلى الله. وهكذا انقضى النصيب الأكبر من الليل في هذه المناقشة، وأخيرًا تكلم الطوباوي أنطونيوس قائلاً:
[حقًا إن كل هذه الأمور التي ذكرتموها نافعة وضرورية، وتعين المتعطشين إلى الله والراغبين في الاقتراب منه. لكن هناك حوادث لا حصر لها واختبارات للبعض تؤكد لنا بأن هذه في (ذاتها) لا تهبنا العطايا العظمى.
فالبعض مارسوا الصوم والسهر، وانسحبوا بشجاعة إلى الوحدة بقصد ترك كل شيء تركًا كاملاً، حتى أنهم لم يسمحوا لأنفسهم بأن يكون لديهم أكلة يوم واحد، أو يكون في جيبهم فِلْس واحد مكرسين حياتهم لأعمال الرحمة، ومع هذا وجدناهم يسقطون فجأة ولا يستطيعون القيام بما كانوا يصنعون من قبل… بل تتحول غيرتهم وأعمالهم المُطوّبة إلى نهاية مؤسفة.
ويمكننا إذا ما تتبعنا بدقة أسباب انهيارهم وسقوطهم نعرف الأمر الرئيسي الذي يقودنا إلى الله فإذ تتزايد فيهم أعمال الفضائل المذكورة ينقصهم “التمييز”، وهذا منعهم من الاستمرار في الجهاد. وسبب سقوطهم الواضح هو عدم أخذهم بتعاليم آبائهم[2] الكافية التي بها يحصلون على الحكمة والتمييز، فتطرفوا في جانب من جوانب الفضيلة.]
يعلم التمييز أن يسير الإنسان في الطريق الملوكي، من غير أن يسمح له بالتطرف اليميني في الفضيلة، أي المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال في جسارة ووقاحة، كما لا يسمح له بالكسل…
هذا هو التمييز الذي يعبر عنه الكتاب المقدس بـ “العين” أو “نور الجسد”، وذلك كقول المخلص: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا..” (مت 22:6، 23). لأنها هي التي تميز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدث.
فإذا كانت عين الإنسان “شريرة” أي غير محصنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة)، فإنها تجعل جسدنا “كله يكون مظلمًا”. تظلم عقولنا وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الاضطرابات، وإذ يقول: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!” (مت 23:6).
فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم في الأمور” في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التي هي ثمرة التمييز والتأمل، في ظلام الخطية العظمى…
3- أمثلة من الكتاب المقدس
(أ) شاول الرجل الذي كان في نظر الله مستحقًا أن يكون ملكًا على شعبه سقط من ملكه بسبب افتقاره إلى “عين التمييز”، وبذلك صار الجسد كله مظلمًا… فظن أن تقدمته مقبولة أمام الله أكثر من طاعته لأوامر صموئيل، حاسبًا أنه بهذا يستعطف العظمة الإلهية… (أنظر 1صم15).
(ب) انقاد آخاب الملك لعدم التمييز بعد النصر الرائع الذي وُهب له بغيرة الله، إذ ظن أن عمل الرحمة من جانبه أفضل من تنفيذ وصية الله التي بدت أمرًا قاسيًا فلم ينفذها. بينما رغب في التلطيف من الانتصار الجسدي بصنع الرحمة…
4- التمييز كما جاء في الكتاب المقدس
هذا هو التمييز الذي لا يُدعى فقط “نور الجسد”، بل و”الشمس”، إذ يقول الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 26:4). وُيدعى أيضًا “سلطانًا”، إذ لا يسمح لنا الكتاب المقدس أن نصنع شيئًا بدونه “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه” (أم 28:25).
وبه تسكن الحكمة ويقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلي، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحي الذي لنا، فقد قيل: “بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة” (أم3:24، 4).
وهو “الغذاء الكامل” الذي يقتات به الكاملون في النمو والصحة، إذ قيل: “وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 14:5).
وتظهر أهميته وضرورته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 12:4).
من هذا يظهر بوضوح أنه لا يمكن أن تكون لفضيلة ما كمالها المطلوب، أو تدوم، بدون نعمة التمييز. وكما يقول الطوباوي أنطونيوس كغيره أيضًا من الآباء، بأن التمييز هو الذي يقود الإنسان الشجاع بخطوات ثابتة نحو الله، ويحفظ له دوام سلامة الفضائل المشار إليها بغير سأم، حتى تبلغ أقصى ذروة الكمال. وبدونه لا يمكن الوصول إلى مرتفعات الكمال مهما كان الجهاد بكل رغبة. فالتمييز هو أهم كل الفضائل، وحارسها، ومنظمها.
5- أمثلة: (1) موت الشيخ هيرون Heron
إنني أُعضد ما قاله الطوباوي أنطونيوس وغيره من الآباء بمثال حديث… تذكروا ما قد حدث عن قريب أمام أعينكم، أقصد ما حدث مع الشيخ هيرون الذي منذ أيام قليلة سقط بخدعة شيطانية من العلو إلى الهاوية. ذلك الرجل الذي نذكر أنه عاش خمسين عامًا في هذه البرية محتفظًا بزهده بكل دقة، راغبًا في حياة التوحد الخفية بغيرة عجيبة تفوق كل الساكنين هنا. بعد كل هذا الجهاد انظروا كيف خدعه الماكر مسقطًا إياه سقطة محزنة مهلكة، جعلت كل الساكنين في هذه البرية يبكونه بمرارة! أليس هذا بسبب عدم اقتنائه فضيلة التمييز كما ينبغي، مفضلاً أن يسير حسب حكمته الخاصة دون أن يطيع قوانين الاخوة وأقوال الآباء ونظمهم؟! لقد استمر في زهده، عنيفًا في صومه، مثابرًا في وحدته الخفيَّة وخلوته الرهبانية، حتى أنه لم يحضر مع الاخوة ليحتفل معهم عيد القيامة… خائفًا لئلا يأكل بعض البقول يدفع به إلى التكاسل عن هدفه شيئًا ما.
لقد خُدع بهذه الجسارة، إذ أستقبل ملاكًا بخدعة شيطانية بإكرام جزيل على أنه ملاك نوراني، وأطاع أمره في عبودية عمياء، ملقيًا بنفسه في بئر عميقة للغاية. وهو لم يشك في وعد الملاك له، الذي أكد أنه لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، وفي منتصف الليل خُدع، فألقى بنفسه في البئر المذكورة ليتحقق عظمة استحقاقه وفضائله… وفي اليوم الثالث مات، وكانت حالته رديئة، إذ كان ممسكًا بغروره العنيد حتى أن تجربة الموت لم تستطع أن تجذبه إلى معرفة أنه كان مخدوعًا بحيل شيطانية. فبالرغم من جهاده العظيم والسنوات الكثيرة التي قضاها في هذه البرية إلا أن الأب بفنوتيوس اعتبره ضمن المنتحرين الذين لا يستحقون أي ذكرى ولا تُقدم أية تقدمه لراحتهم.
6- (ب) هلاك أخوين
وماذا أقول عن هذين الأخوين اللذين كانا يعيشان في صحراء طيبة Thebaid التي كان يسكن فيها الطوباوي أنطونيوس، ولم يكن لهما روح التمييز الدقيق. فقد قررا ألا يأخذا معهما أي طعام عندما كانا يسيران في منطقة صحراوية بعيدة وواسعة، متكلان أن الله يمدهما بالقوت. وإذ تاها في الصحراء صارا على وشك الإغماء بسبب الجوع. ولما وجدهما الـ mazices[3] قدموا لهما طعامًا، على خلاف طبيعتهم الوحشية، فأخذ أحدهما الخبز بفرح وشكر كما لو أنه مرسل من الله، إذ رأى أنه من قبل السماء أن يقدم لهما سافكو الدم خبزًا وهما في حالة إغماء وعلى وشك الموت. أما الثاني فرفض الطعام لأنه مقدم من بشر ، فمات جوعًا. عرف الأول خطأه، وفهم ما كان قبلاً يفهمه فهمًا خاطئًا، أما الثاني فصمم على جهله بعنادٍ، جالبًا الموت لنفسه، وذلك بسبب نقص التمييز.
7- (ج) سقوط آخر
أتحدث عن آخر[4] تقبّل شيطانًا ظهر له في صورة ملاكٍ نوراني، فانخدع بإعلانات لا حصر لها، معتقدًا أنه رسول للبر. وإذ كان يتقبل هذه الإعلانات كانت قلايته تضيء بغير مصباح، وأخيرًا أمره الشيطان أن يقدم ابنه الذي يعيش معه في الدير ذبيحة لله، حتى يستحق ما استحقه إبراهيم. وقد انخدع حتى كاد أن يرتكب الجريمة، إلا أن ابنه لما رأى والده ومعه السكينة يسنها بطريقة غير عادية ورأى السلاسل التي يعدها لتقييده، شعر بالجريمة المتوقعة وهرب مرتعبًا.
8- (د) سقوط راهب من دير الميصة Mesopotamia
يطول بنا الحديث إن تكلمنا عن ذلك الراهب الذي من دير الميصة (ما بين النهرين)، هذا الذي كان متنسكًا بصورة لا نجد لها مثيل إلا بين القليلين من أهل تلك المنطقة. لقد عمل سنوات طويلة مختبئًا في قلايته، وأخيرًا خُدع بإعلانات وأحلام شيطانية. فبعد عمل كثير وجهاد حسن متخطيًا الكثيرين في هذا الأمر… ارتدّ يائسًا إلى اليهودية وختان الجسد. إذ كان الشيطان الذي عوّده على الرؤى لكي ما يجذبه إلى الضلال والتيه يظهر له في النهاية لمدد طويلة في صورة رسول الحق, أخيرًا أظهر له منظرًا وهو أن جماعة المسيحيين مجتمعين معًا مع قادة ديننا وعقيدتنا مثل الرسل والشهداء في الظلمة والأوساخ والنجاسة والقبح في صراخ وعويل. وفي الجانب الآخر أظهر له الشعب اليهودي مع موسى والآباء والأنبياء يرقصون طربًا منيرين بنور يُبهر العين، مقنعًا إياه بضرورة الاختتان، إن كان يرغب في أن يكون له نصيب في هذه الجعالة. وهكذا لو أنه سعى للحصول على قوة التمييز ما كان قد سقط في ذلك الخداع البائس. هذه المصائب والحيل التي سقط فيها الكثيرون، كشفت عن خطورة عدم وجود نعمة التمييز.
9- سؤال: كيف نقتني التمييز؟
جرمانيوس: لقد ظهر بوضوح وبطريقة قاطعة بالأمثلة الحديثة وأقوال الأولين كيف أن التمييز ينبوع للفهم وحارس لكل الفضائل. والآن نرغب في معرفة كيفية اقتنائه، وكيف نميز إن كان حقيقيًا من الله، أو كاذبًا من الشيطان؟! أو لو استخدمت التشبيه الوارد في الكتاب المقدس والذي ذكرته في مناقشاتك لنا في المرة الماضية وهو كيف نصير صرّافين حكماء نعرف إن كانت صورة الملك المختومة على العملة حقيقية أو مزيفة… لأنه ماذا ننتفع إن عرفنا قيمة هذه الفضيلة أو العطية ولا نعرف كيف نقتنيها؟!
10- موسى: التمييز الحقيقي لا يأتي إلا بالاتضاع الحقيقي. فالاتضاع هو البرهان الأول لصيانة كل شيء (ليس فقط كل ما تصنعه بل أيضًا كل ما تفكر فيه) ويكون ذلك بالاعتماد على الآباء. فلا تثق في حكمك على كل شيء، بل تذعن لقراراتهم في كل نقطة، وتتعرف على تمييز الصالح من الطالح بواسطة تقاليدهم. وهذه الطريقة تُعين الشاب لا لكي يسير في الجانب الأيمن من طريق التمييز الحقيقي فحسب، بل وتحفظه سالمًا من كل مكائد العدو وحيله. فإنه لا يمكن أن يُخدع من كان يسير لا حسب حكمه الخاص، بل مقتفيًا آثار الآباء. ويحاول عدوّنا الماكر أن ينتصر علينا حين نكتم أفكار الخطية في داخلنا، وذلك بحسب تعاليم الآباء القويمة. فالفكر الخاطئ يَضعف بمجرد اكتشافه كالأفعوان الدنس الذي ينسحب من كهفه المظلم المخفي ويهرب مفتضحًا… فالأفكار الشيطانية يكون لها تسلط علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا.
ولكي تدرك تأثير قوة هذا الحكم (بأن الاعتراف يكسر سلطان الفكر الشرير) أُخبرك بما حدث مع الأب سيرابيونSerapion، وما قد اعتاد أن يقوله للاخوة الحديثين لأجل بنيانهم وهو:
11- مثال: بينما كنت رفيقًا للأب ثيوناس Abbot Theonas كانت هذه العادة تلازمني بهجوم من العدو، وهي أنه بعدما كنت التحق بالشيخ في الساعة التاسعة، كنت أُخبئ يوميًا قطعة من الخبز الجاف في الخفاء حتى آكلها في وقت متأخر دون أن يعلم بها أحد. وعلى هذا كنت أُخطئ دائمًا بجريمة السرقة بإرادتي مع عجزي عن المقاومة. ولكنني كنت عندما أُشبع رغبتي غير المشروعة أعود إلى نفسي لائمًا إياها على السرقة التي ارتكبتها بطريقة تبدد اللذة التي أحصل عليها من الأكل. وإذا كنت مجبرًا يومًا فيومًا، رغم حزني، أن أقوم بهذا العمل المضني كما لو كنت مأمورًا من فرعون أن أصنع الطوب دون القدرة على الهروب من استبداده القاسي، فإنني كنت أخجل من أن أكشف تلك السرقة الخفيّة للشيخ (أب اعترافه).
ولقد شاءت العناية الإلهية أن تسمح لي بالعتق من عبودية هذا الأسر الاختياري عندما بحث بعض الاخوة عن قلاية الشيخ ليسترشدوا به. وبعد العشاء بدأ الحديث الروحي ، فكان يجيب على أسئلتهم التي طرحوها قدامه، محدثًا إياهم عن شيطان النهم (الشراهة) وسلطان الأفكار الخبيثة، مُظهرًا لهم طبيعتها وقوة ضررها كلما كُتمت. فغلبت من قوة المناظرة حتى تألم ضميري وارتجف وحسبت أن هذه الأمور أعلنها الشيخ لأن الرب قد كشف له أسرار صدري. فبدأت أتنهد في الخفاء ، لكن تأنيب القلب ازداد ، فانفجرت بالدموع ثم أخرجت من ردائي قطعة الخبز التي حملتها كعادتي الرديئة حتى آكلها في الخفاء، وألقيتها في وسطهم ، ثم سقطت على الأرض متوسلاً العفو، معترفًا كيف كنت آكل كل يوم في الخفاء. وبدموع غزيرة طلبت منهم أن يطلبوا من الله حتى يحررني من هذه العبودية المميتة.
عند ذلك أجاب الشيخ: “ليكن لك إيمان بذلك يا ابني. فإنه بدون أي إرشاد (كلام) مني إليك، إنما بمجرد اعترافك قد تحرّرتَ من هذه العبودية. لقد انتصرتَ اليوم على عدوك. باعترافك أسقطته أكثر من غلبته لك بسكوتك السابق… ولذلك فإن بعد افتضاحه هذا لن يستطيع ذلك الروح الشيطاني أن يدركك، ولا يستطيع ذلك الأفعوان النجس أن يجد له فيك مكانًا مظلمًا، فباعترافك قد انتقلت من الظلمة إلى النور…
وقال أيضًا: “إذ كشفتُ للشيخ… زال عني الاستبداد الشيطاني بقوة هذا الاعتراف، وبقيت هكذا… حتى أنه لم يعد يحاول الشيطان أن يقاومني حتى ولا بتذكر هذه الرغبة، ولم أعد بعد أشعر بضغط سم تلك السرقة التي استعبدتني طويلاً. ويعبِّر سفر الجامعة عن هذا المعنى تعبيرًا دقيقًا بمثال قائلاً: “إن لدغت الحيّة بلا رقية فلا منفعة للراقي” (جا11:10)، مظهرًا أن لدغة الحية بدون وجود راقٍ خطيرة، أي أن الخطورة في ألا يكشف أي اقتراح أو تفكير نابع عن الشيطان أمام الراقي بالاعتراف.
انني أقصد بالراقي جماعة الروحانيين الذين يعرفون كيف يُعالجون الجراحات بتعويذة الكتاب المقدس، ويجذبون سم الأفعى المميت من القلب…
بهذه الطريقة يمكننا أن نتوصل بسهولة إلى معرفة التمييز الحقيقي، وذلك باقتفائنا آثار آبائنا، وعدم صنع أي شيء أو تقرير أي أمر من عندياتنا، بل كما تعلمنا به تقليدهم واستقامة حياتهم…
والإنسان الذي يتقوى بهذه النظم، لا يصل فقط إلى إدراك الوسيلة الكاملة للتمييز، بل يبقى دائمًا في أمان من مكائد العدو. فليس هناك وسيلة أخرى يسقط بها الشيطان الإنسان بتهور ويقوده إلى الموت إلا عن طريق الاستخفاف بأقوال الآباء واعتماده على أفكاره الخاصة وأحكامه.
إن كانت كل الفنون والاختراعات المكتشفة ببراعة الإنسان، التي نفعها يخص حياتنا الزمنية فقط، لا نستطيع فهمها ما لم يعلمنا إياهم معلم، فكم غباوة نكون عليها إذا تخيلنا أننا لسنا محتاجين إلى معلم في تلك الأمور التي لا تراها العين بل القلب النقي، والخطأ فيها لا يؤدي إلى خسارة وقتية يمكن إصلاحها بسهولة بل تدفع إلى انهيار الروح والموت الأبدي؟! هذه التي نخوض فيها معارك نهارية وليلية، ليس أمام أعداء منظورين بل غير مرئيين وقاسين، معارك روحية ليس أمام واحد أو اثنين، بل أمام صنوف بلا حصر!
وللفشل في هذه المعارك خطورته الكبرى، لسبب كثرة العدو (إبليس وجنوده) وسرية الحرب. لهذا يلزمنا أن نقتفي آثار آبائنا وننزع حجاب الخجل كاشفين لآبائنا كل ما يخطر لفكرنا.
12- سؤال: أما يحتقر أب الاعتراف من يكشف له خطاياه؟
جرمانيوس: أساس العفة الضارة التي فيها نسعى إلى إخفاء أفكارنا الشريرة، يرجع إلى ما سمعناه عن بعض الآباء الحديثين في سوريا إذ يسود الاعتقاد بأنه إذا كشف أخ أفكاره بوضوح إلى أبيه في اعتراف صريح، يسخط الأب عليه ويوبخه بصرامة. لذلك نحن نحفظ الأفكار في داخل نفوسنا ونخجل من الاعتراف بها ولا نتمكن من الحصول على الأدوية اللازمة لعلاج هذه الأفكار.
13- الأنبا موسى: كما أنه ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم في الروح أو متساوين في تعلمهم التعاليم والآداب القويمة، كذلك أيضًا ليس كل الشيوخ متشابهين في الكمال والفضيلة. فالغنى (الروحي) الحقيقي لا يقاس بشيبة الرأس بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة… لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام ولا هي تقدر بعدد السنين. “ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب” (حك 9:4)… وعلى ذلك فليس لنا أن نقتدي بأي شيخ غطى الشيب رأسه.. بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدرّبوا حسب تقاليد الآباء وليس حسب ذواتهم.
عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبي قائلاً: “أكَلَ الغرباء ثروته وهو لا يعرف وقد رُشَّ على الشيب وهو لا يعرف” (هو 9:7)… هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، خادعًا من كان يلزم أن يجتهدوا في طريق الكمال بواسطة نصائحهم… مسقطًا إياهم (الشبان) في عدم الاكتراث أو اليأس المميت وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم.
مثال: إذ أود أن أضرب لكم مثالاً عن هذا أذكر لكم واقعة تمدّنا ببعض التعاليم من غير ذكر اسم الفاعل حتى لا أسقط في خطية التشهير بخطايا الآخرين. هذا الشخص الذي لم يكن متكاسلاً في صباه ذهب إلى أحد الشيوخ المعروفين لنا جيدًا واعترف له بصراحة باضطرابه بشهوات جسدية وبروح الزنا. لقد ظن أنه سيجد في كلمات هذا الشيخ تعزيات تُعينه وشفاء جرحه، لكن الشيخ هاجمه بتعييرات مُرة ودعاه بائسًا وأنه لا يستحق أن يُدعى راهبًا، مع أن الشيخ نفسه يمكن أن يسقط في هذه الخطية والشهوة. وهكذا أضرّه بدلاً من مساعدته ، إذ طرده من قلايته وهو في حالة يأس وقنوط مميت.
وإذ كان متضايقًا كئيبًا، غارقًا في فكر عميق: كيف يعالج آلامه بل كيف يرضي شهوته، إذ بالأب أبولس – وهو من أكثر الآباء حنكة – يراه مضطربًا فأدرك ما يدور في قلبه واستفسر منه عن سبب ذلك. وإذ لم يستطع أن يجيبه أدرك الشيخ الوديع في هدوء أنه ليس بغير سبب يخفي حزنه فلم يقدر أن يصمت بل بدأ يستفسر منه بأكثر حذاقة عن سبب الحزن الخفي. وإذ غلب على أمره اعترف بأنه في طريقه إلى العالم ليأخذ له زوجة تاركًا الدير، إذ كما قيل له أنه لا يستطيع أن يكون راهبًا ما دام يعجز عن التحكم في شهوات جسده وشفاء آلامه.
هدأه الأب بتعزيات رقيقة، مخبرًا إيّاه أنه هو أيضًا يجاهد يوميًا بسبب بعض أشواق الشهوة، وعليه ألا ييأس ولا يتعجب من قسوة الهجوم لأن هذا لخيره، معتمدًا بالأكثر على رحمة الله ونعمته كما على جهاده الغيور. ثم التمس منه أن يترك الاهتمام والقلق لمدة يوم ورجاه أن يرجع إلى قلايته.
ذهب الأب أبولس إلى الدير الذي به الشيخ المذكور، ثم بسط يديه مصليًا بدموع قائلاً: “يا الله، أنت وحدك الديان البار والطبيب غير المنظور تعالج ضعف البشر. فلتحوّل الهجوم من هذا الشاب إلى الشيخ ليتعلم أن يترفق بضعاف المجاهدين، وفي شيخوخته يشفق من أجل ضعف إرادة الشباب”.
ولما انتهي من صلاته بدموع إذ به يرى عبدًا أسودًا واقفًا أمام قلاية الشيخ يصوّب رمحًا ناريًا أصابه للحال، فخرج الشيخ من قلايته وأخذ يجري من هنا وهناك كإنسان معتوه أو سكران يدخل ويخرج من القلاية بغير توقف، وأخيرًا بدأ يسير في الطريق الذي سار فيه الشاب.
وإذ رآه أبلس كرجل مجنون… أدرك أن السهم الناري الشيطاني قد انغرس في قلبه، وأنه بفعله هذا (عنفه في الحكم، ذاق من ذات الكأس) فانحرف عن الحق وتبلبل فهمه، فذهب إليه يسأله: إلى أين تسرع؟ وما الذي جعلك تنسى هيبة شيخوختك حتى تضطرب بهذه الصورة الطفولية وتتحرك بسرعة؟
وبسبب شعوره بالذنب وارتباكه… حسب أن شهوة قلبه قد انكشفت، وأن الأب أبولس قد عرف خبايا قلبه، لهذا لم يتردد في الإجابة على أسئلته.
أجابه الأب أبولس: “عُد إلى قلايتك واعرف أن الشيطان يتجاهلك ويزدري بك، ولا تنظر هكذا إلى أولئك الذين يستفزهم العدو يوميًا ويناضلهم بسبب جهادهم ومهارتهم. ها أنت لم تحتمل سهمًا واحدًا وجهه إليك بعدما قضيت أعوامًا طويلة في هذا العمل… وقد سمح الله لك بالجرح حتى تعلم أنه يلزمك في شيخوختك أن تترفق بالضعفاء… ولكي تعرف وتختبر أن تشفق لضعف إرادة الحديثين. لأنه عندما لجأ إليك حدثًا مضطربًا بحرب شيطانية لم تشجعه بأية تعزية، بل دفعت به إلى اليأس المحزن المهلك، وألقيت به في أيدي العدو، وكنت كمن لا تبالي بالهلاك المحزن الذي يلحقه. مع أن (الشيطان) لم يهاجمك بنفس القوة التي هاجمه بها، لأنه يزدري أن يحاربك… وقد ناضل ضده لعلّه يجرده من محاسن الفضيلة التي وجدها في طبيعته، وأراد أن يخربها بسهامه النارية، إذ يعلم بلا شك أن هذا (الشاب) أقوى منك ، لذلك جدّ في محاربته بلا هوادة، حاسبًا أن غلبته على هذا الشاب شرفًا عظيمًا.
يلزمك إذن أن تتعلم العطف على الذين هم في ضيقة، ولا تُرعب المعرضين لخطر اليأس المهلك، ولا تثقل عليهم بالكلام القاسي، إنما أصلحهم بكلمات التعزية الهادئة العميقة. فإن سليمان الحكيم يقول: “أنقذ المنقادين إلى الموت والممدودين للقتل. لا تمتنع” (أم 11:24). ولتكن على مثال مخلصنا: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ…” (مت 20:12).
والآن فإن ما قد حدث هو للخير، إذ تحرر الشاب من شهواته المهلكة وأعلمك الله شيئًا عن قوة تلك الحرب وعن ضرورة الترفق، لهذا فلنتوسل معًا إلى الله لكي ينزع عنك ذلك التأديب الذي سمح لك به لأجل نفعك، “لأنه هو يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان” (أي 18:5). “الرب يُميت ويُحيي. يهبط إلى الهاوية ويصعد” (1صم 6:2). وهو يبيد بندى روحه السهام النارية التي للشيطان التي سمح بها ليجرحك كطلبي.
وإذ سمح الله برفع هذه التجربة من أول صلاة للشيخ بنفس السرعة التي بها سمح بمجيئها، فقد أوضح الله ببرهان جلي أنه حين يكشف إنسان أخطاءه ويعرّيها يلزم (لأب اعترافه) ليس فقط ألا يزجره، بل ولا يستهين بحزنه (من أجلها).
لذلك يلزمك ألا تترك الطريق الذي تكلمنا عنه سابقًا أو ترتد عن تقاليد الآباء لمجرد غلاظة شيخ ما أو بعض الشيوخ وسطحيتهم، لأن العدو المحتال يستخدم شيبتهم استخدامًا شريرًا.
فيجب عليك بدون أي خجل أن تكشف كل شيء للآباء، وتتسلم منهم علاج الجراحات بإيمان وتقتدي بحياتهم وأقوالهم. فإذا ما حاولنا ألا نفعل شيئًا حسب حكمنا الخاص (بل نستشيرهم) فإننا سننال بحق عونًا مثلهم ونبلغ إلى ما وصلوا إليه.
14- مثال (أ) صموئيل
أخيرًا فإن هذا الأمر واضح بأنه مقبول عند الله، حتى أنه ليس باطلاُ وُجد له مكان في الكتاب المقدس. فالله لم يكلم صموئيل الصبي بالحديث المباشر ولا بالحوار الإلهي، بل سمح له بالذهاب مرة أخرى إلى الشيخ (عالي الكاهن). لقد شاء أن يتدرب ذاك الذي استحق سماع صوت الله على يديْ (عالي) رغم أنه أغضب الله في شيخوخته… حتى يختبر ذاك الذي دُعي لوظيفة إلهية حياة الإتضاع، ويكون قدوة للشباب في ذلك.
15- (ب) بولس الرسول
عندما نادى السيد المسيح بولس ودعاه فتح له طريق الكمال، لكنه استحسن أن يوجهه إلى حنانيا، طالبًا منه أن يتعلم الحق عن طريقه، قائلاً: “…قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل” (أع6:9).
لقد أرسله إلى رجل شيخ، معتبرًا أن ذلك أفضل من أن يتسلم تعاليمه منه مباشرة. لئلا يصير بولس مثلاً سيئًا في الاعتماد على ذاته في التعليم، إذ يقنع كل أحد نفسه أنه هو أيضًا يتعلم أحكام الله وتعاليمه بنفسه دون حاجة إلى طريق تعاليم الآباء.
بل ويعلمنا الرسول نفسه عن عدم الاكتفاء الذاتي في التعليم قدر المستطاع، وذلك ليس بالكلام بل بالعمل، فيقول أنه ذهب بمفرده إلى أورشليم لهذا الهدف، أي ذهب إلى مجمع غير رسمي يعرض فيه على زملائه الرسل والسابقين عنه الإنجيل الذي يبشر به بين الأمم، ونعمة الروح القدس المصاحبة له بعلامات قوية وعجائب، إذ يقول “…وعرضت عليهم الإنجيل الذي اكرز به بين الأمم ولكن بالانفراد على المعتبرين لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلاً” (غلا 2:2).
فمن هو هذا المكتفي بذاته، الأعمى الذي يتجاسر فيثق في أحكامه الخاصة وتمييزه الشخصي، بينما الإناء المختار يعترف باحتياجه للاجتماع والتشاور مع زملائه الرسل؟!
إذن رأينا أن الله لم يكشف لأحد طريق الكمال، طالما كانت له فرص للتعلم من الآباء واختباراتهم، غير مكترثين بمشورة الآباء لذلك يقول: “اسأل أباك فيخبرك وشيوخك فيقولوا لك” (تث7:32).
16- أهمية التمييز في اقتناء الفضائل
يلزمنا أن نطلب فضيلة “التمييز” بكل طاقاتنا عن طريق الإتضاع، هذا الذي يحفظنا بدون أي ضرر في أي جانب من الجانبين… فالمغالاة في الصوم والنهم كلاهما يؤديان إلى نهاية واحدة. والمغالاة في السهر في الفضائل يوازي التراخي في نوم عميق من جهة ضررهما للراهب. وحينما يضعف الراهب بسبب التقشف الزائد يعود إلى الحالة التي يكون فيها الراهب مهملا ومقصرًا.
لذلك نرى أن أولئك الذين لم ينخدعوا بالنهم كثيرًا ما يهلكوا بالصوم الزائد. وتؤدى الفضائل غير المعتدلة والسهر ليلاً الزائد إلى نفس الهلاك الذي يسببه النوم. وفي ذلك يقول الرسول “…بسلاح البر لليمين ولليسار” 2كو7:6.
فلنتقدم باعتدال سليم، ونسير في الطريق الوُسطى بروح التمييز.
17- التمييز والاعتدال
فإنني أتذكر إنني كنت أقاوم شهوة الطعام حتى كنت امتنع عن أخذ أي شيء لمدة يومين أو ثلاثة أيام، ولم يكن ذهني يضطرب حتى بتذكر أي طعام ما. وأما عن النوم فإنه بخداع شيطاني نزع النوم من عيني لمدة عدة أيام وليالي، حتى أنني توسلت إلى الله أن يمنحني قليلاً من النوم. لقد شعرت أنني في خطر عظيم بسبب نقص الطعام والنوم أكثر مما في الجهاد ضد الاسترخاء والنهم.
فيلزمنا أن نحذر لئلا نسقط في التدليل عن طريق التنعم الجسدي والتساهل مع أنفسنا بالأكل قبل الميعاد المناسب، أو الأكل بشراهة، وفي نفس الوقت يلزمنا أن نقتات بالطعام والنوم كما يتناسب معنا حتى ولو لم نحب ذلك… لأن الزهد المغالى فيه أكثر ضررًا من الشبع بغير حرص، لأن الأخير يتدخل فيه تأنيب الضمير فيفيدنا ويدفعنا إلى المستوى الحقيقي بدقة، أما المغالاة فلا يحدث فيه تأنيب ضمير…
18- سؤال
جرمانيوس: إذن ما هو القياس الذي نحتفظ به في الزهد حتى ننجح في حياتنا سالمين معتدلين بين الحدين؟
19- موسى:
بالنسبة لهذا الأمر نحن نعلم أن هناك أحاديث كثيرة لآبائنا بشأنه. من جهة التقشف فبالنسبة لبعض (الرهبان) الذين يعتمدون في حياتهم على البقول أو الخضر والفاكهة فقط، فإن القياس المعتدل هو خبزتين يزنان بالكاد رطلاً.
20- اعتراض
لقد تقبلنا حديثه بسرور، وأجَبْناه أنه يصعب علينا أن نعتبر هذا القياس تقشفًا كما أنه ليس من الصعب الوصول إليه بالمرة.
21- موسى:
إن كنت ترغب في تذوق قوة هذه الحكمة فلتحتفظ بهذا القياس باستمرار ولا تكسره…
22- بل هذا هو الحد الطبيعي للتقشف، وهو أن يسمح كل شخص لنفسه بالطعام قدر احتياجات قوته أو حجم جسده وعمره، فنسمح بالكمية التي يحتاجها الجسد دون أن يشعر بامتلاء…
فإنه إذا لم يتحدد للإنسان قانون، فإنه تارة يضيق على معدته بقلة الطعام وكثرة الأصوام، وأخرى يملأها بالأكل الزائد.
فالعقل الذي يتعب بسبب قلة الطعام يخسر نشاطه في الصلاة فينهك العقل بسبب الضعف الزائد للجسد ويرغم على التراخي، ثم يعود ليتضايق بكثرة الطعام، وبالتالي لا يقدر أن ينسكب في الصلوات بانطلاق ونقاوة أمام الله، ولا ينجح في حفظ نقاوة عفته على الدوام. فإنه وإن أبدى أنه يطهّر الجسد بتقشفه العنيف إلا أنه يغذي شهوات الجسد بوقود الطعام الذي يأخذه.
24- وهذا الأمر يصعب جدًا تنظيمه، حتى أن أولئك الذين لم يدركوا بعد “التمييز الكامل” يفضلون امتداد صومهم إلى يومين محتفظين بطعام اليوم الأول إلى الغد، حتى إذا ما فطروا يقدرون أن يتمتعوا بطعام كثير حسب طلب شهوتهم.
وأنتم تعلمون ما حدث مع صديقكم بنيامين، الذي تمسك بعناد بخصوص هذا الأمر. فإنه لم يكن يأخذ الخبزتين ولا كميات الأكل القليلة الخاصة به، بل كان يفضل أن يمد صومه إلى يومين حتى إذا ما فطر يملأ معدته الشرهة بضعف الكمية المخصصة. فكان يتلذذ بالأربع خبزات بشهوة. ولعلكم تتذكرون بلا شك أي نهاية كانت لذلك الرجل الذي اعتمد على اختباراته الذاتية بعناد أكثر من اتكاله على تقاليد الآباء. فقد ترك الدير وعاد إلى الفلسفة الباطلة والغرور الأرضي.
ها هو بسقوطه يؤكد ضرورة التمسك بتعاليم الآباء السابق ذكرها، وبهلاكه يعطينا درسًا من جهة أنه لا يستطيع أحد أن يتسلق مرتفعات الكمال، ولا أن يبيد خداع الشيطان الخطيرة ما دام يتكل على تعاليمه وخبرته الخاصة.
25- سؤال: أما نكسر قانون الطعام بسبب مجيء زائر؟
جرمانيوس: وكيف يمكننا أن نحفظ هذا القياس دون أن نخالفه؟ فقد يحدث أحيانًا بعد الساعة التاسعة[5] حيث تنتهي فترة الصوم حضور بعض الاخوة لرؤيتنا، وعندئذ يلزمنا أن نأكل معهم فنزيد كمية طعامنا المحددة التي اعتدنا عليها وإلا لا نقدم هذا الإكرام الواجب.
26- موسى: يلزمنا أن نراعى كل الواجبات بنفس العناية، فعلينا بتأنيب داخلي نحفظ الكمية المناسبة المسموح لنا بها… وبنفس الطريقة يلزمنا أن نقدم الإكرام ونهتم بالأخ الذي يصل إلينا من أجل المحبة.
فإذا قدمت طعامًا لأخٍ لك أو حتى للسيد المسيح، بالضرورة يكون موجبًا للسخرية إن لم تشترك معه فيه، ممتنعًا عن الأكل. ويمكننا أن نحفظ أنفسنا دون أن نخطئ في الأمرين، فنأخذ قطعة واحدة من الخبز المسموح لنا بهما في الساعة التاسعة، ونحتفظ بالأخرى إلى المساء، محتاطين لئلا يأتي أحد. فإذا افتقدنا أحد الأخوة يمكننا أن نشترك معه بأن نأكلها وبهذا لا نكون قد زدنا عما اعتدنا عليه. ويكون حضور الأخ مبهجًا لنا وليس مصدر قلق، مظهرين له الإكرام واللطف من غير أن نتهاون في نسكنا. وإذا لم يحضر أحد يمكننا أن نأكل “الخبزة” الثانية في المساء حسب ما يسمح به لنا قانوننا.
وبحسن التدبير هذا إذ تأكل “خبزة” واحدة في الساعة التاسعة لا تتضخم المعدة بالمساء. وهذا غالبًا ما يتبعه المدققين في التقشف، مفضلين ذلك عن تأجيل كل غذائهم إلى المساء. لأنه بالحقيقة من يأكل طعامه (كله) بالليل متأخرًا، يمنع فكره من الاستنارة ويضايقه في الصلوات المسائية.
وأيضًا فإن الساعة التاسعة مناسبة للأكل ومريحة، حيث يتقوّت فيها الراهب، فيساعده في أن تكون معدته غير مثقلة خلال السهر الليلي، بل يصير مستعدًا بالتمام للصلوات المسائية إذ يكون الأكل قد هُضم[6]…
ملخص المبادئ
– “التمييز” هو عين القلب التي تفرز الأفكار والأعمال مميزة إيّاها. هو عطية إلهية يلزمنا أن نثابر في طلبها بلجاجة من الله “الحكمة” ذاته.
– التمييز يحفظ الإنسان من الضربات اليمينية كالمغالاة في السهر أو الصوم أو الزهد مما يسقط الإنسان في الكبرياء، كما يحفظه من الانحراف اليساري فلا يقبل التراخي والكسل وأفكار الشر.
– أولاد الله المتضعون في تمييزهم:
1- لا يعتمدون على فكرهم الذاتي بل يتمسكون بفكر الآباء الأولين وروحهم مقتدين بهم في الرب.
2- لا يخفون شيئًا من أفكارهم وأعمالهم عن أب اعترافهم، لأن الفكر الشرير ينكسر سلطانه متى خرج إلى النور، وأيضًا يظهر خداعه ويفضحه.
3- الشيبة ليست هي كل مؤهلات الراعي (أب الاعتراف)، إنما يلزم أن يكون مُحنكًا في الشركة مع الرب سالكًا بلا عيب.
________________________________________
[1] الحديث في المناظرات عن الرهبان وقد استبدلت كلمة “راهب” بـ “إنسان”.
[2] الآباء الشيوخ Elders.
[3] قبائل متوحشة وسافكة للدم.
[4] لم يذكر اسمه لأنه كان لا يزال حيًا.
[5] أي الساعة 3 بعد الظهر.
[6] وصف كاسيان بعد ذلك كيف أن الآب موسى قد طبق هذا عمليًا إذ قدم المائدة مرتين في اليوم (الساعة التاسعة والمساء)…
المناظرة الثالثة
مراحل الزهد الثلاث وعمل النعمة في جهادنا للأنبا بفنوتيوس [1]
1- سيرة الأنبا بفنوتيوس
في وسط تلك الجوقة من القديسين الذين يتلألأون في ليل هذا العالم كنجوم لامعة، رأينا الطوباوي بفنوتيوس مثل كوكب عظيم يضيء بنور المعرفة. يقطن هذا الشيخ في برية الإسقيط في قلاية سكن فيها منذ صباه، تبعد خمسة أميال عن الكنيسة، ولم يتركها. وبالرغم من شيخوخته إلا أنه لم يكف عن الذهاب إلى الكنيسة يومي السبت والأحد، بل ويعود إلى قلايته حاملاً علي كتفيه إناء مملوءً ماءً يستخدمه طول الأسبوع. ولم يكن يثقل علي الصغار بإحضار الماء له بالرغم من بلوغه التسعين من عمره.
سلك هذا الأب في الرهبنة منذ صباه المبكر بغيرة متقدة، واقتنى الاتضاع في فترة قصيرة، وصارت له معرفة بكل الفضائل الحميدة. وباتضاعه وطاعته أمات كل شهواته قامعًا أخطائه، متمتعًا بالفضائل التي يتطلبها النظام الرهباني وتعاليم الآباء الأولين، ملتهبًا بالغيرة علي مداومة النمو.
كان أيضًا تواقًا نحو الانسحاب في داخل البرية منفردًا من غير أي صحبة بشرية تقلقه وتعوق التصاقه بالله… وبغيرته المتزايدة فاق النساك في الفضيلة، كما برز في شوقه نحو حياة التأمل الإلهي المستمر، متجنبًا رؤية الاخوة. ولقد كان يختفي عن الاخوة فترات طويلة في مناطق قاحلة شديدة الوحشية والقسوة، حتى أن النساك أنفسهم كانوا يقتدون به من وقت إلى آخر بكل مشقة… وكان يسود الاعتقاد بأن هذا الأب يتمتع بالوجود في مجمع ملائكي يبتهج معهم يوميًا، لهذا لقبه البعض Bufflo.
2- حديثنا معه
وإذ كنا مشتاقين إلى الاستماع إلى تعاليمه جئنا باهتمام إلى قلايته مساءً. وبعد فترة وجيزة من السكون بدأ الشيخ يمدح اهتمامنا لأننا بسبب محبتنا لله تركنا منازلنا وقمنا بزيارة الكثير من المواضع، محاولين أن نحتمل بكل طاقتنا متاعب البرية، مقتدين بحياتهم القاسية التي يندر أن يقبلها حتى من بين أولئك الذين يولدون وينشأون في حالة من العوز والاحتياج.
لقد أحببنا المجيء بقصد الإنصات إلى التعاليم والإرشادات لنتعرف علي مبادئ رجل عظيم كهذا، وندرك الكمال الذي سمعناه عنه من شهود قائمين معه. فنحن لم نأتِ لنسمع مديحًا لا حق لنا فيه، أو لكي نزهو بغرور عقلي… من أجل هذا توسلنا إليه أن يقدم لنا تعليمًا نتعلم به الاتضاع والتوبة لا أن نسمع ثناء ينفخنا.
3- أنواع التكريس
قال الطوباوي بفنوتيوس: للتكريس ثلاثة أنواع، كما نعرف أن هناك ثلاثة أنواع للزهد (أو الترك) الذي هو لازم للراهب أيا كان تكريسه.
يلزمنا أولاً: أن نختبر باجتهاد أن السبب في قولنا بوجود ثلاثة أنواع من التكريس، هو أنه إذ نتأكد أننا قد دعينا لخدمة الله نتنبه ونحن في الدرجة الأولي من التكريس إن كانت حياتنا تسير مع العلو الشاهق الذي دعينا إليه، لأنه باطلاً أن نبدأ بدءً حسنًا ما لن نتطلع تجاه النهاية التي نُرسل إليها.
ثانيًا: علي أي الأحوال من المفيد لنا أن نتعرف علي الجوانب المثلثة للزهد. لأنه لا يمكننا بلوغ الكمال ما لم نتعرف عليها، أو إذا عرفناها ولم نعمل بها.
4- أنواع الدعوة
الفارق الرئيسي بين أنواع الدعوة الثلاثة هو أن النوع الأول مصدره الله، والثاني عن طريق إنسان، والثالث بطريق الإلزام.
الدعوة التي من الله تأتي خلال الوحي الذي يملك علي قلوبنا… إذ تتحرك فينا الرغبة في الحياة الأبدية والخلاص فتأمرنا أن نتبع الله ونلتصق بوصاياه بقلب منسحق في حياة مقدمة لله. ففي الكتاب المقدس نجد إبراهيم يدعوه صوت الله أن يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه (تك1:12). وسمعنا أيضًا عن الطوباوي أنطونيوس أنه دُعي بنفس الطريقة إذ سمع صوت الله وحده… لأنه عندما دخل إلى الكنيسة سمع الإنجيل فيه يقول الرب: “إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباهُ وأمَّهُ وامرأتهُ وأولادهُ واخوتهُ وأخواتهِ حتى نفسهُ أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو26:14)، “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ وتعال اتبعني” (مت21:19). لقد شعر في انسحاق قلبي أن هذا الحديث الإلهي موجه إليه هو شخصيًا، ففي الحال ترك كل شيء وتبع السيد المسيح من غير أن ينتظر نصيحة أو تعليم من إنسان.
والنوع الثاني من التكريس وهو الذي يحدث عن طريق إنسان، أي عندما نسير مقتادين بآثار بعض القديسين ونصائحهم فتلتهب فينا الرغبة في الخلاص. وإن كنا نثار بنصائح القديسين الطيبة ونقتدي بهم، إلا أنه يجب ألا ننسى أن نعمة الله هي التي تدعونا وتعمل فينا لنكرس نفوسنا ونقدمها للدعوة…
أما النوع الثالث من التكريس فهو الذي يأتى بطريق الإلزام. فبينما ننشغل بغنى هذه الحياة وأطايبها فجأة تلحق بنا تجربة فتهددنا بخسارة أو موت أحد أعزائنا… وهذا يدفع بنا إلى الاقتراب نحو الله الذي استهنّا بالسير معه خلال أيام ترفنا…
5- أهمية التطلع إلى الدرجة العالية من الزهد
وبالرغم مما يبدو أن النوعين الأولين للدعوى متأسسين علي مبادئ أعظم، إلا أننا نجد أن النوع الثالث (الذي مصدره الإلزام) ولو أنه أقل منهما لكن عن طريقه صار البعض كاملين ومجتهدين في الروح… بينما نجد البعض ممن هم من النوع الأعلى أصيبوا بالفتور وانتهت حياتهم بصورة محزنة…
مثال: فالأب موسى الذي كان يقطن في برية Calamus اضطر إلى الهرب إلى الدير خوفًا من الموت (الأبدي) بسبب جرائمه مقدمًا توبة إجبارية، لكنه باختياره تسلق أعلي مرتفعات الكمال.
ومن الجانب الآخر هناك كثيرون لا أستطيع أن أذكر أسماءهم دخلوا خدمة الله بأفضل بداية، لكن تسلل الكسل والقسوة إلى قلوبهم، وسقطوا في جمود خطير، وانحدروا إلى عمق هاوية الموت. ويظهر ذلك بوضوح في دعوة الرسل، لأنه أي نفع ناله يهوذا الذي احتضن بمحض اختياره نعمة الرسولية العظمى، بنفس الطريقة التي سار فيها بطرس وغيره من الرسل المدعوين، لكنه سمح لهذه البداية الرائعة لدعوته أن تُختم بنهاية مهلكة بسبب الجشع، وصار مجرمًا قاسيًا حتى اندفع نحو خيانة الرب.
وما الذي عاق بولس الذي صار أعمى فجأة، والذي كما لو كان قد سُحب بغير إرادته إلى الخلاص، إذ تبع الله بغيرة روحية كاملة؟! وهكذا ابتدأ مجبرًا وكمل تكريسه بحرية اختياره، بالغًا إلى نهاية مدهشة، متمتعًا بمجد أعمال مجيدة.
فالأمر إذن يتوقف علي النهاية، فقد يبدأ شخص بتقديم توبة فائقة، لكنه يفشل خلال إهماله. وآخر قد يسلك طريق الرهبنة جبرًا لكنه يبلغ الكمال خلال جهاده ومخافة الله.
6- دعوة إبراهيم وأنواع الزهد
والآن لنتحدث عن الزهد الذي أعلنه الكتاب المقدس والتقليد في أنواع ثلاثة. ليتأمله كل إنسان بدقة لكي يصير كاملاً.
النوع الأول هو الذي يختص بالجسد، فيزهد الإنسان الثروة والممتلكات التي في هذا العالم.
والنوع الثاني فيه ننبذ أساليب السلوك والرذائل القديمة الخاصة بالروح والجسد.
والنوع الثالث فيه تتحرر الروح من كل الحاضرات والمرئيات متأملة في الأبديات، فينشغل القلب بغير المنظورات.
لقد سمعنا أن الله طلب من إبراهيم أن ينفذ هذه الأنواع الثلاثة (من الزهد) دفعة واحدة إذ قال له: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك” (تك1:12). قال له أولاً: “اذهب من أرضك”، أي من ممتلكات هذا العالم وغناه الأرضي. ثانيًا: “من عشيرتك”، أي من حياتك السابقة بما فيها من عادات وخطايا تعلقت بك منذ الميلاد الأول وارتبطت بك كما لو كانت رباطة صداقة وقربى. ثالثاً: “من بيت أبيك”، أي من كل ما في العالم وتراه عينيك، فعن الأبوين[2] ينبغي ترك أحدهما والبحث عن الآخر. إذ يقول داود في شخص الرب: “اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنكِ وانسَي شعبكِ وبيت أبيكِ” (مز10:45)، فالذي يقول “اسمعي يا بنت” بالتأكيد هو أب… ذاك الذي يطلب منها أن تترك شعبها (عاداتها القديمة) وبيت أبيها، وهذا يحدث بالموت مع المسيح عن هذا العالم. وكما يقول الرسول: “ونحن غير ناظرين إلى الأشياءِ التي تُرَى بل إلى التي لا تُرَى، لأن التي تُرَى وقتيَّة وأما التي لا تُرَى فأبديَّة” (2كو18:4). محوّلين عيوننا عن هذا المسكن الزمني المنظور، رافعين عيون قلوبنا نحو الأمور الأبدية النافعة لنا. وهذا يُمكِّننا النجاح فيه عندما لا نضاد الله ونحن في هذه الحياة، معلنين بتصرفاتنا وأعمالنا عن طريق الحق الذي يقول عنه الرسول الطوباوي: “فإن سيرتنا نحن هي في السموات” (في20:3).
لقد وُضعت الأسفار الثلاثة (الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد) بطريقة متناسبة مع أنواع الزهد الثلاثة…
سفر الأمثال يتفق مع النوع الأول من الزهد، حيث فيه نضغط علي شهوات الأمور الجسدية والخطايا الأرضية.
وسفر الجامعة يتناسب مع النوع الثاني إذ يعلن أن كل شيء تحت الشمس باطل.
وسفر نشيد الأناشيد يناسب النوع الثالث حيث تسمو الروح عن كل المنظورات ملتصقة بكلمة الله عن طريق الـتأمل في السماويات.
7- خطورة التوقف عند الدرجة الأولي
إذا نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، فإننا لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع الثالث حيث نخرج من “بيت أبينا” القديم، إذ “كُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا” (أف3:2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات. ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم – التي احتقرت الله الأب الحقيقي- عن الأب القديم قائلاً “أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة” (حز2:16). وفي الإنجيل جاء: “أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا” (يو24:8).
فإذ نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: “لأننا نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبديّ” 2(كو1:5)، ونقول أيضًا: “فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ” (في20:3،21)، وننطق بما يقوله داود الطوباوي: “غريب أنا في الأرض” مز19:119…
يلزمنا أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: “ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم” (يو16:17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ أنفسهم قائلاً: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو19:15).
إذن يمكننا النجاح في بلوغ الكمال عن طريق النوع الثالث من الزهد حيث لا تتلطخ الروح بوَصمات أثقال الجسد، إنما تنفضها عنها بكل عناية، متحررة من كل رغبة أو أمر أرضي، فترتفع إلى غير المنظورات عن طريق التأمل المستمر في الأمور الإلهية.
وفي بحثها عن العلويات والروحيات لا تعود تشعر بانجذاب إلى ذلك الجسد الضعيف وهيئته، إنما تُمسك في “الذهن”، حتى أنه ليس فقط لا يسمع الإنسان بأذنيه الخارجتين، أو لا ينشغل بالأمور الحاضرة، إنما لا يرى حتى ما في يديه ولو كانت أمور ضخمة واضحة.
لا يقدر أحد أن يدرك قوة ما أقوله ما لم يختبر ويتعلم هذا بالتجربة. فلا تتطلع عينيّ روحه إلى الحاضرات، إنما ينظر إليها كأمور سريعة الزوال، بل ويراها أنها فعلاً قد انتهت وباطلة وتشبه البخار المعتم. وبهذا يكون كأخنوخ الذي “سارمع الله” (تك24:5)، ولم يوجد في الحياة البشرية وعاداتها، أيّ لم يعد بين أباطيل هذه الحياة.
هذا ما حدث بالفعل بصورة مادية لأخنوخ كما يعلمنا سفر التكوين “وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذهُ” (تك24:5). ويقول الرسول أيضًا “بالإيمان نُقِل أخنوخ لكي لا يرى الموت” ذاك الموت الذي تحدث عنه السيد المسيح في الإنجيل قائلاً: “وكلُّ مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو26:11).
فإن كنا نتوق إلى بلوغ الكمال الحقيقي، يلزمنا أن نتطلع إلى الأبديات. فإن كنَّا حسب الخارج لنا جسد، (لهذا ننشغل بآبائنا ومنازلنا وجاهنا ومباهج هذه الحياة)، لنترك بقلوبنا من الداخل هذه الأمور ولا نعود نشتاق إلى ما قد تركناه، فلا نصير كأولئك الذين قادهم موسى. لأن هؤلاء إن لم يرتدّوا بالجسد (حرفيًا)، غير أن قلوبهم قد ارتدت إلى مصر، وذلك بتركهم الله الذي قادهم بعلامات قوية، وعودتهم إلى عبادة تماثيل مصر التي حسبوا أنهم قد احتقروها. ويقول الكتاب: “ورجعوا بقلوبهم إلى مصر قائلين لهرون اعمل لنا آلهة تتقدَّم أمامنا” (أع39:7،40). وهكذا نسقط في نفس اللعنة التي سقطوا فيها في البرية بعدما أكلوا المَنْ النازل من السماء، مشتهين طعام الخطية النجس، أو بالأحرى راغبين في الانحطاط متذمرين معًا في نفس الطريق (عد5:11،18 ، خر3:16)…
ويحدث معنا نفس الأمر في سلوكنا وحياتنا، فالبعض بعدما يترك هذا العالم يعود مرة أخرى إلى شهواته الأولي، متحولاً إلى ميوله السابقة الكائنة في قلبه، صانعًا ما صنعه أولئك…
وإنني أخشى أن يتزايد عددهم ليبلغ ذلك العدد المتخلف وراء موسى[3] إذ كانوا ثلاثة آلاف وستمائة رجل مجنّد قد خرجوا من مصر ولم يدخل منهم إلى أرض الموعد سوى اثنين فقط.
ويلزمنا أن نكون حذرين في ضرب الأمثلة الخاصة بالصالحين لأنهم قليلون ونادرون، إذ يتحدث الإنجيل عن عددهم قائلاً: “لأنَّ كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتَخبون” مت 14:22.
فالترك المادي (الجسدي) ومجرد تغيير المكان… (أي الخروج من العالم إلى الدير) ليس له أي فائدة ما لم ننجح في أن يكون الترك من القلب، الأمر الأسمى والأقيم.
فعن الترك الجسدي المجرد – الذي تحدثنا عنه – يقول الرسول: “وإن أطعمت كلَّ أموالي، وإن سلَّمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا” (1كو3:13). فيتنبأ الرسول الطوباوي بأن بعضًا من الذين يقدمون كل أموالهم لأجل إطعام الفقراء لا يستطيعون بلوغ الكمال الإنجيلي ومرتفعات المحبة الشاهقة. لأنه بينما يحكم الكبرياء وعدم الصبر علي قلوبهم لا يحرصون علي نقاوة أنفسهم من جهة خطاياهم السابقة وعاداتهم غير المضبوطة. وبذلك لا يقدرون أن يحصلوا علي محبة الله التي لا تسقط. هؤلاء بفشلهم في بلوغ المرحلة الثانية من الترك لا يقدرون أن يصلوا إلى المرحلة الثالثة التي هي بالتأكيد أكثر علوًا.
لتأخذ في اعتبارك بحرص عظيم أنه لم يقل باطلاً: “إن أطعمت كلَّ أموالي”، لئلا يظن أحد أنه يتحدث عمن لا ينفذ وصايا الإنجيل محتفظًا لنفسه بنصيب كأولئك الذين يعرِّجون بين الفِرقتين. لذلك قال: “وإن أطعمت كلَّ أموالي”، بمعنى أن تركه للعالم تركًا كاملاً. ويضيف إلي هذا الزهد أمرًا في منتهى الأهمية وهو “وإن سلَّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا”. بمعنى إذا أطعمتُ كل أموالي للفقراء طبقًا لوصايا الإنجيل الذي يخبرنا: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ” (مت21:19). أيّ تترك كل شيء من غير أن تترك لنفسك شيئًا، وهذا التوزيع للأموال يضاف إليه الاستشهاد، باحتراق جسدي واعطائه للمسيح. فإنه إن كنت حاسدًا أو متكبرًا، أو منجذبًا بخطايا أخرى، أو أنانيًا، أو منغمسًا في الأفكار الشريرة، أو غير مستعد ولا صابر على ما يحلّ بي، فإن هذا الترك أو الاحتراق الخاص بالإنسان الخارجي لا ينفع شيئًا، لأن الإنسان الداخلي لا يزال مشغولاً بالخطايا السابقة.
لأنه خلال غيرتك التي في الأيام الأولي للتوبة اهتميت بترك المادة (أي الخروج إلى الدير والعطاء المادي)… هذه الغيرة ليست خيِّرة ولا شريرة في ذاتها، وهذا أمر ليس بذي أهمية (ما لم يتبعه ترك داخلي في القلب). أي ما لم أهتم بطرد القوة الشريرة التي للقلب الرديء بنفس الاهتمام (الخاص بالترك المادي)، وأهتم أن أنال محبة الله، وهي أن أصبر وأترفق، ولا أحسد، ولا أتفاخر، ولا أنتفخ، ولا أطلب ما لنفسي، ولا أظن السوء، وأحتمل كل شيء وأصبر علي كل شيء… (1كو4:13-7)، وأخيرًا فإن المحبة لا تترك من يتبعها لئلا يسقط في خداعات الخطية.
8- ضرورة ممارسة الدرجة الثانية من الزهد
يجب علينا أن نحرص تمام الحرص أن نطرد كل تلك الممتلكات التي للخطية في إنساننا الداخلي ونقتلعها، تلك التي كانت مرتبطة بحياتنا المادية وملتصقة علي الدوام بالجسد والروح. فإن لم ننبذها ونحن بعد في هذا الجسد، فإنها لا تكف عن الالتصاق بنا حتى الموت.
فكما أن الفضائل الجميلة والمحبة التي هي مصدر هذه الفضائل يمكننا أن نقتنيها في هذه الحياة، فإنها تبقى مع من اقتناها بعد هذه الحياة وتجعله محبًا وممجدًا، هكذا أيضًا أخطاؤنا تنتقل إلى حياتنا فتظلم عقلنا وتلطخه بصنوف القاذورات.
فجمال الروح أو قبحها هو نتيجة فضائلها أو رذائلها. فباللون الذي تصطبغ به تصير ممجدة حتى تسمع من النبي: “فيشتهي الملك حسنكِ” (مز11:45)، أو يجعلها سوداء وقبيحة وقذرة، وتتأكد من نتانة عارها قائلة: “قد أنتنت قاحت حُبُر ضربي من جهة حماقتي” (مز5:38). ويحدثها الله ذاته قائلاً: “فلماذا لم تُعصَب بنت شعبي؟” (إر22:8).
وبهذا تبقى معنا ممتلكاتنا في روحنا علي الدوام، هذه التي لا يستطيع أن يغتصبها منا أي ملك أو عدو.
هذه هي الممتلكات التي لا يستطيع حتى الموت أن ينزعها عن أرواحنا…
9- أنواع الممتلكات والغنى
يذكر الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الغنى أو الممتلكات ما هو صالح، وما هو رديء، وما هو ليس بالصالح ولا الرديء.
فالممتلكاتالرديئة تلك التي قيل عنها: “الأشبال احتاجت وجاعت” (مز 10:34)، “ولكن ويل لكم أيُّها الأغنياءُ، لأنكم قد نلتم عزاءَكم” (لو24:6). انتزاع هذا الغنى فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء (الذين ليس لهم هذا الغنى): “طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” (مت3:5)، وجاء في المزمور: “هذا المسكين صرخ والربُّ استمعهُ” (مز 6:34)، وأيضًا “الفقير والبائس ليسبحا اسمك” (مز 21:74).
والغنى (الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتنى الفضائل… صانع البر الذي يمدحه النبي داود قائلاً: “نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارَك. رغد وغنًى في بيتهِ وبُّرهُ قائِم إلى الأبد” (مز 2:112، 3). وأيضًا “فدية نفس رجلٍ غناهُ” (أم 8:13). ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدم من هذا الغنى قائلاً: “أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيءٍ ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفًّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك” (رؤ 16:3-18).
هناك أيضًا الغنى الذي ليس بصالح ولا رديء، فيمكن أن يكون صالحًا أو رديئًا حسب رغبة مُستخدمه وشخصيته. وفي ذلك يقول الرسول الطوباوي: “أَوصِ الأغنياءَ في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يُلقوا رجاءَهم علي غير يقينيَّة الغنى بل علي الله الحي الذي يمنحنا كلَّ شيءٍ بغنًى للتمتُّع. وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة وأن يكونوا أسخياءَ في العطاءِ كرماءَ في التوزيع. مدَّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1 تى 17:6-19). هذا الغنى احتفظ به الغني المذكور في الإنجيل ولم يقبل أن يُعطي للفقراء، بينما كان لعازر المسكين ملقيًا عند بابه يرغب أن يقتات بالفتات الساقط من مائدته، لذلك عوقب بالنيران غير المحتملة ولهب جهنم الأبدية.
10- حاجتنا لله كمعين في الترك
في ترك الأشياء المنظورة التي في هذا العالم لا نترك ما هو ليس لنا بالرغم من أننا استحوزنا عليه بمجهودنا أو ورثناه عن أجدادنا. وكما أقول أنه ليس هناك شيء مِلك لنا فيما عدا ما يملكه قلبنا وما تلتصق به روحنا، الأمر الذي لا يقدر أحد أن ينزعه عنا.
لقد نطق السيد المسيح بعبارات اللوم بالنسبة للأغنياء، الذين يتمسكون بالغنى المنظور، كأنه مِلك لهم، رافضين أن يساهموا بنصيب منه للمحتاجين، فيقول: “وإن لم تكونوا أمناءَ في ما هو للغير فَمنْ يعطيكم ما هو لكم؟!” (لو12:16). واضح إذن أنه ليس فقط خبرتنا اليومية، تعلمنا بأن هذا الغنى ليس مِلكًا لنا، بل هذا ما ينطق به إلهنا أيضًا…
ويقول بطرس للرب عن هذا الغنى المنظور: “ها نحن قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك. فماذا يكون لنا؟” (مت27:19)، مع أنهم لم يتركوا شيئًا سوى الشباك البالية. لذلك فإن عبارة: “تركنا كل شيء” يفهم منها ترك الخطايا التي هي بالحقيقة أهم وأخطر. فإن ترْك التلاميذ لممتلكاتهم الأرضية المنظورة تركًا تامًا، ليس سببًا كافيًا لينعموا بالمحبة الرسولية، ويتسلقوا بشوق واجتهاد المرحلة الثالثة من الترك، التي هي شاهقة وتخص قليلين.
كم بالأحرى يلزم أن يفكر في أنفسهم أولئك الذين لم يستطيعوا أن يسيروا في الخطوة الأولي السهلة بطريقة كاملة، محتفظين بضعف إيمانهم بجانب غناهم السابق الدنيء، ظانّين في أنفسهم أنهم يفتخرون لمجرد تسميتهم رهبانًا؟!
فالنوع الأول من الترك، هو ترك ما هو ليس لنا (أيضًا الممتلكات الأرضية)، وهذا لا يكفي لمنحنا الكمال ما لم نسمو إلى النوع الثاني الذي فيه ترك الأمور التي تخصنا (أيضًا العادات والرذائل الملتصقة بالنفس). وإذ ننبذ كل أخطائنا نصعد إلى مرتفعات النوع الثالث أيضًا حيث نسمو لا علي مجرد الأشياء التي في هذا العالم أو التي تخص البشر، بل نسمو علي العالم كله الذي هو حولنا والذي يبدو مجيدًا، ناظرين إليه بقلبنا وروحنا أنه باطل وسريع الزوال، فنتطلع إليه كقول الرسول: “ونحن غير ناظرين إلى الأشياءِ التي تُرَى بل إلى التي لا تُرَى. لأن التي تُرَى وقتيَّة وأما التي لا تُرَى فأبديَّة” (2 كو18:4).
يلزمنا أن ننصت إلى النصيحة العظمى التي قُدِّمت لإبراهيم: “اذهب إلى الأرض التي أُريك” (تك1:12). وهذه تعلن بأنه ما لم ينفذ الإنسان الأنواع الثلاثة من الزهد بكل شوق لا يقدر أن يصل إلى هذه المرحلة الرابعة التي توهب كإكليل وحق من أجل ما نزهده بالكامل. فيصير الإنسان مستحقًا أن يدخل أرض الموعد (السماويات) التي من أجلها يحتمل شوك الخطية وحسكها. فعندما تزول الآلام (الخطية) بواسطة نقاوة القلب حتى وهو في الجسد حينئذ يربح أرض الموعد، لا من أجل أعماله الفاضلة ومجهوداته البشرية، بل كوعد الله نفسه أن يرينا إياها قائلاً لنا: “اذهب إلى الأرض التي أُريك”. مُظهرًا بهذا أن بداية ثمار الخلاص تأتي من وعد الله القائل: “اذهب من أرضك” وأيضًا هي عطية منه حيث يتم الكمال والنقاوة ويتحقق القول: “اذهب إلى الأرض التي أُريك” (تك1:12). فهي أرض لا تقدر أن تعرفها أو تكتشفها بمجهودك الذاتي بل الأرض التي “أُريك إياها” أي التي تجهلها ولم ترها.
بهذا يتضح أننا نسرع في طريق الخلاص، خلال تفاعلنا بوحي الله، حتى أنه بواسطة إرشاد توجيهاته وعمله فينا ننال كمال البركة العظمى.
11- سؤال: عن حرية الإرادة
جرمانيوس: إذن أين هي حرية الإرادة؟ وكيف يمكن أن نكون مستحقين للكرازة كثمرة للجهاد ما دام الله هو الذي يبتدئ وهو الذي يختم كل شيء فينا بخصوص خلاصنا؟
12- بفنوتيوس: …نحن نعرف أن الله يخلق لنا فرصًا للخلاص بشتى الطرق، لكن يمكننا أن نستخدم هذه الفرص باجتهاد أعظم أو أقل. فالله يقدم فرصة كقوله: “اذهب من أرضك”، لكن الطاعة من اختصاص إبراهيم الذي أطاع وذهب منها. ففي القول: “اذهب إلى الأرض” تحمل معنى العمل، عمل ذاك الذي أطاع، وفي القول: “التي أُريك ” تحمل نعمة الله الذي أوصاه أو وعده.
من المفيد لنا أن نتأكد أنه بالرغم من أننا نجاهد في كل الفضائل جهادًا غير باطل، لكننا لا نستطيع بلوغ الكمال بجهدنا وغيرتنا، فلا يكفي نشاط الإنسان وجهاده المجرد للبلوغ إلى عطية النعمة الغنية ما لم يصن جهاده بالتعاون مع الله، وتوجيهات الله لقلبه نحو الحق.
لهذا ينبغي علينا أن نصلي في كل حين قائلين مع داود: “تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك فما زلَّت قدمايَ” (مز 5:17)، “وأقام علي صخرةٍ رجليَّ. ثبَّت خطواتي” (مز 2:40). الله هو المدبر لقلوبنا غير المنظورة، والذي يقدر أن يوجه رغباتنا نحو الفضيلة، لأن لديها الاستعداد للانحراف نحو الرذيلة، إما بسبب نقص معرفتها للخير أو للذتها بالألم (الشهوة). ويظهر ذلك بوضوح في قول النبي: “دحرْتني دحورًا لأسقط”، معلنًا ضعف إرادتنا الحرة. ثم يقول: “وأما الرب فعضدني” (مز 13:118)، معلنًا عون الله لإرادتنا.
هكذا نحن لا نهلك إذ لضعف حرية إرادتنا، لأن الله يعضدنا ويعيننا باسطًا يديه لنا. فبالقول: “إذا قلت قد زلّت قدمي” يقصد زلّت إرادتي، وبالقول: “فرحمتك يا رب تعضدني” (مز18:94) يظهر عون الله لضعفنا، معترفًا أنه ليس بمجهودنا الذاتي بل برحمة الله لنا لا تزل أقدام إيماننا.
كذلك “عند كثرة همومي في داخلي” تلك الهموم التي تنبع بالتأكيد من إرادتي الحرة، “تعزياتك تلذذ نفسي” (مز19:94)، بدخول التعزيات في قلبي عن طريق الوحي، معلنة صورة البركات العتيدة التي أعدها الله للذين يعملون في اسمه، هذه التعزيات ليس فقط تنزع الهموم من القلب بل، وتنعم عليه بالابتهاج العظيم.
وأيضًا “لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت” (مز17:94). هنا يعلن أنه بسبب ضعف إرادتنا الحرة نسكن في الجحيم (أرض السكوت) لو لم ينقذنا عون الله وحمايته…
هذا أيضًا يقال بخصوص النقاوة الكاملة، فإنه لا يقدر أحد بذاته أن يطلب البر، ما لم تمد الرحمة الإلهية يدها، وتعينه عند تعثره وسقوطه في كل لحظة، وإلا سقط وهلك وذلك عندما يزلّ بسبب ضعف إرادته الحرة.
13- الله هو المعين في حياة الفضيلة
بالحق إن القديسين لا يقولون قط بأنهم قد بلغوا ذلك الطريق، الذي يسلكونه بتقدم وكمال في الفضيلة، بجهادهم الذاتي، إنما بفضل الله قائلين: “درّبني في حقك” (مز5:25).
14- الله هو المعين في معرفة الناموس
حتى في السعي للوصول إلى معرفة الناموس ذاته لا يتأتى من مجرد النشاط في القراءة بل بإرشاد الله لنا واستنارتنا به، إذ يقول المرتل: “طرقك يا ربُّ عرّفني. سُبُلك علمني” (مز 4:25). و”اكشف عن عينَّي فأرى عجائب من شريعتك” (مز 18:119). و”علمني أن أعمل رضاك لأنك أنت إلهي” (مز 10:143). وأيضًا “المعلم الإنسان معرفًة” (مز 10:94).
15- الله هو المعين في فهم الناموس
وأكثر من هذا يسأل داود الله طالبًا الفهم حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته معرفة تامة أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: “عبدك أنا. فهّمني فأعرف شهاداتك” (مز 125:119).
بالتأكيد كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه الشريعة بإتقان …فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم ينر الله علي فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.
كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة” (في 13:2). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا “لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله”، وهنا يعلن بأن توبتنا وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله.
يعلم داود أيضًا بذلك فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلاً: “أيّد يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا” (مز 28:68)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر.
لأن ليس بإرادتنا الحرة، إنما “الرب يطلق الأسرى”، ليس بقوتنا، لكن “الرب يُقوّم المُنحنين”، ليس بالنشاط في القراءة، بل “الرب يفتح أعين العُمْي”، ليس نحن الذين نعتني بل “الرب يحفظ الغرباءَ”، ليس نحن الذين نُعضد، إنما الله “يُعضد اليتيم والأرملة” (مز7:146-9).
ما أقوله هذا لا يعني أننا نستهين بغيرتنا وجهودنا ونشاطنا كأنها غير ضرورية، أو نستخدم الحماقة، بل ينبغي علينا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نجاهد بدون معونة الله، ولا يصير لجهادنا أي نفع للحصول علي عطية النقاوة العظمى، ما لم توهب لنا بواسطة المعونة والرحمة الإلهية، لأن “الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أما النُصرة فمن الرب” (أم 31:21)، “لأنهُ ليس بالقوَّة يغلبُ إنسان” (1 صم 9:2).
يلزمنا أن نسبَح مع الطوباوي داود قائلين: “قوتي وترنمي” ليس بإرادتي الحرة ذاتها. ولكن “الرب وقد صار لي خلاصًا”.
لم يكن معلم الأمم جاهلاً بهذا عندما أعلن أنه قد صار كُفء ليكون خادمًا للعهد الجديد، ليس بحسب استحقاقه وجهاده بل برحمة الله، “ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنهُ من أنفسنا بل كفايتنا من الله الذي جعلنا كفاةً لأن نكون خدام عهد جديد” (2كو 5:3، 6).
16- الله هو المعين في نوال الإيمان
قد تحقق الرسل تمامًا أن كل ما يخص الخلاص يُعطى من الله حتى أنهم سألوا الإيمان نفسه كهبة من الله قائلين: “زِدْ إيماننا” (لو5:17)، إذ لم يستطيعوا أن يتصوروا أنه يمكن الحصول عليه بإرادتهم الحرة ذاتها بل آمنوا أنها منحة من الله.
وأخيرًا فإن واهب الخلاص يعلمنا عن ضعف كفاية إيماننا وعدمها ما لم تدعم بالعناية الإلهية، وذلك عندما قال لبطرس: “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو31:22،32).
وآخر أيضًا وجد أن إيمانه قد أنتزع بموجات الشك وسُحب علي الصخور فهلك هلاكًا مريعًا، لذلك صرخ إلى الرب ذاته طالبًا عونًا لإيمانه قائلاً: “أُومن يا سيّد، فأَعِنْ عدم إيماني” (مر24:9).
إن كنا قد وجدنا بطرس محتاجًا إلى عناية الله لحفظه من السقوط، لذلك فمن يظن أنه غير محتاج إلى معونة الله الدائمة لحفظ إيمانه يكون متجاسرًا وأعمى، خاصة وأن الرب نفسه أوضح في الإنجيل قائلاً: “كما أن الغصن لا يقدر أن يأْتي بثمرٍ من ذاتهِ إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا فيَّ” (يو4:15)، وأيضًا “لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو5:15). فكم غباوة وشر أن ننسب الأعمال الصالحة إلى جهادنا الذاتي وليس إلى نعمة الله وعنايته، وهذا ما وضح بجلاء في قول الرب حيث أعلن بأنه لا يقدر أحد أن يُظهر ثمار الروح بدون وحيِه وعونه. لأن “كلَّ عطَّيةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة هي من فوق نازلةً من عند أبي الأنوار” (يع17:1)… ويوافق الرسول الطوباوي قائلاً: “وأيُّ شيءٍ لك لم تأخذهُ؟! وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ” (1كو7:4).
17- الله هو المعين في احتمال التجارب
ما نحتمله من تجارب تحل بنا لا يعتمد علي قوتنا قدر ما هو علي مراحم الله وإرشاده، إذ يعلن الرسول الطوباوي قائلاً: “لم تُصِبكْم تجربة إلاَّ بشريَّة. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجَّربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو13:10).
يُعدّ الله أرواحنا ويقويها لكل عمل صالح، ويعمل فينا كل ما يسره. ويعلمنا بذلك الرسول قائلاً: “وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم ربَّنا يسوع المسيح بدم العهد الأبدي ليكمّلكم في كل عملٍ صالح لتصنعوا مشيئَتهُ عاملاً فيكم ما يُرضِي أمامه” (عب20:13،21). وقد توسل من أجل أهل تسالونيكي ليتم معهم نفس الأمر، قائلاً: “وربنا نفسهُ يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبَّنا وأعطانا عزاءً أبديًّا ورجاءً صالحًا بالنعمة يعزّي قلوبكم ويثبتّكم في كل كلام وعملٍ صالحٍ” (2تس16:2،17).
18- الله هو المعين في نوال المخافة الإلهية
وأخيرًا فإن إرميا النبي يتحدث علي لسان الله مقررًا بوضوح أن مخافة الله التي بها نثبت فيه تنسكب علينا منه، فيقول: “وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا ليخافوني كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم من بعدهم. وأقطع لهم عهدًا أبديًّا أني لا أرجع عنهم لأحسن إليهم وأجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني” (إر39:32،40). ويقول حزقيال أيضًا “وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحمٍ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها ويكونوا لي شعبًا فأنا أكون لهم إلهًا” (حز19:11،20).
19- الله هو المعين في الإرادة الصالحة
تنفيذ الأعمال الصالحة هو هبة من الله في نفس الطريق… ومع ذلك فنحن نستحق الجعالة أو العقاب، لأنه يمكننا أن نجتهد أو نهمل في تفاعلانا مع عمل الله وترتيب العناية الإلهية الموضوعة من أجلنا باهتمام عظيم. وقد وصف هذا بوضوح في سفر التثنية (بصورة رمزية) قائلاً: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وتطرد شعوبًا كثيرة من أمامك الحثّيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزّيين والحويّين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرّمهم. لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم” (تث1:7-3).
لقد أعلن الكتاب بأن العطية الإلهية الخاصة بالحرية ليست إجبارية وهي أن يأتي بهم إلى أرض الميعاد… لكن في مقدورهم أن يخالفوا ذلك. من هذا نستطيع أن نرى بوضوح ما ننسبه لإرادتنا الحرة، وما ننسبه لمواعيد وعلامات العناية الإلهية الدائمة. ففرص الخلاص والتدابير الناجحة والنصرة تخص النعمة الإلهية، ونحن علينا إما أن نطيع بشغف أو نهمل البركات الممنوحة لنا من قبل الله…
20- الله هو الذي يريد أو يسمح بالأمور أن تحدث
يليق بنا أن نقول بإيمان مستقيم أنه لا يحدث شيء في هذا العالم بدون سماح الله. وعلينا أن نعرف أن كل شيء يحدث إما بإرادته أو بسماح منه، فكل ما هو خيّر يحدث بإرادة الله وعنايته، وكل ما هو ضدّ ذلك يحدث بسماح منه، متى نزعت حماية الله عنا بسبب خطايانا أو قسوة قلوبنا، أو سماحنا للشيطان أو الأهواء الجسدية المخجلة أن تتسلط علينا.
يعلمنا الرسول بذلك مؤكدًا “لذلك أسلمهم الله إلى أهواءِ الهوان” (رو26:1).
وأيضًا “كما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق” رو28:1.
ويقول الله بالنبي: “فلم يسمع شعبي لصوتي وإسرائيل لم يرضَ بي. فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم. ليسلكوا في مؤَامرات أنفسهم” (مز11:81، 12[4])...
ملخص المبادئ
– تأتي الدعوة لتكريس القلب لله بطرق ثلاث:
-
من الله مباشرة، كأن يكون ذلك بالتفاعل مع وصية من وصايا الكتاب المقدس، فيتوب الإنسان ويسلم قلبه للرب، وقد يشتاق إلى حياة التكريس الكامل للعبادة فيترك العالم ليحيا راهبًا.
-
عن طريق الاقتداء بالغير، وهنا يرجع الفضل أيضًا إلى عمل النعمة الإلهية فينا.
-
عن طريق الأحزان والتجارب، إذ ينزعنا الله من حياة الترف، لكي ما نعرف حقيقة الحياة الزائلة ونطلب الحياة الباقية – وهنا أيضًا بدون نعمة الله يسقط الإنسان في الكفر واليأس بدلاً من أن تدفعه التجربة للحياة مع الله.
– الطريق الثالث يبدو أنه أدنى الطرق، لكن كثيرين بدءوا به وارتفعوا إلى قمم كمال الحب والعشق الإلهي خلال الجهاد والمثابرة بفضل النعمة الإلهية. وعلي العكس كثيرون بدءوا الحياة مع الله بالحب لكنهم خلال التراخي والكسل انحرفت حياتهم.
– يأخذ الزهد مراحل ثلاث أو درجات ثلاث:
-
الترك المادي كأن يترك الإنسان بعض أو كل ممتلكاته الأرضية وهنا يترك الإنسان ما ليس له.
-
ترك السلوك القديم، أي مما في داخله.
-
ترك الأرضيات وارتفاع القلب في السماويات.
– التوقف عند أي درجة معناه جمود حياة الإنسان، لذا لا يكفي أن نترك الماديات حتى إن وزعنا كل شيء وخرجنا إلى الدير، إنما لنجاهد في ترك عاداتنا بنعمة الرب، وهذا أيضًا لا يكفي، إنما لتتحرر أذهاننا وترتفع قلوبنا لتعيش متأملة في السماويات.
– يحتاج هذا الترك في أي صورة من صوره إلى جهاد الإنسان المستند علي قوة عمل النعمة والعناية الإلهية. فالله هو الذي يعين الإنسان في التعرف علي الفضيلة تعرفًا عمليًا إختباريًا. وهو الذي يكشف الناموس وينير فهمنا لندركه إدراكًا سريًا روحيًا تتذوقه النفس وتختبر قوته. وهو المعين في التجارب. وهو الذي يسمِّر خوفه فينا فلا نحيد عنه.
______________________________________
[1] موجهة للذين يظنون أن حياة النسك (الترك) تعتمد على جهادهم الذاتي ونشاطهم وغيرتهم متناسين عمل نعمة اللُّه وعنايته، لهذا يركز الأب في حديثه على النعمة من غير أن يتجاهل ضرورة الجهاد والمثابرة.
[2] يقصد الأب الأرضي والأب السماوي.
[3] يظهر دائمًا في كتابات الكنيسة الأولى كيف أن ما جاء في العهد القديم بصورة مادية إنما هو رمز لما تم بصورة روحية بعد مجيء المسيح.
[4] تحدث بعد ذلك في نفس الموضوع كيف أن الإنسان حر الإرادة له أن يقبل الوصايا أو يرفضها، ولكن قبوله لها يحتاج إلى نعمة اللَّه وعنايته لكي تسنده. ثم اختتم الحديث بأنه انتهى في منتصف الليل وهم مشتاقين إلى الزهد في مراحله الثلاثة
المناظرة الرابعة
الفتور الروحي والحرب الروحية للأب دانيال
1- مقدمة
من بين فلاسفة المسيحيين الجهابذة نعرف الأب دانيال، الذي لم يتمثل بقاطني برية الإسقيط في كل فضائلهم فحسب، بل وامتاز على وجه الخصوص بنعمة الاتضاع.
وبالرغم من صغر سنه إلا أنه بسبب نقاوته وقداسته قدّمه الطوباوي بفنوتيوس رئيس الكنيسة في البرية شماسًا… وكان يتوق أن يراه شريكًا معه في الكهنوت وأن يصير خليفة له من بعده… وإذ نال دانيال رتبة أعلى في الكهنوت لم يتخلَ عن اتضاعه، فلم يكن يشترك مع الأب بفنوتيوس في خدمة الذبيحة ككاهن بل كان يخدم معه كشماس…
2- سؤال عن سبب الفتور الروحي
لقد سألنا الطوباوي دانيال: لماذا يحدث أحيانًا حين نكون في القلاية ونحن مغمورين بالسعادة القلبية الكاملة، وفرح لا ينطق به، ومشاعر مقدسة غزيرة، لا يستطيع النطق أن يعبر عنها، إنما حتى المشاعر لا تقدر أن تدركها، فتخرج صلوات نقية ويمتلئ العقل ثمارًا روحية، ونصلى حتى في أثناء النوم، ونشعر بأن الطلبات تخرج بنشاط وقوة، يحدث بغير سبب أن نمتلئ فجأة بالحزن العميق ونسقط في الغم بلا سبب، حتى أنه ليس فقط تغلبنا المشاعر، بل وتصير القلالي بالنسبة لنا مرعبة، والقراءات تهرب من أمامنا، نعم وصلواتنا تصير بغير استقامة وغموض، وإذ نتنهد ساعين للعودة إلى حياتنا الأولى يعجز عقلنا عن ذلك، ويضل شغفنا الذي به نود أن نثبت أمام الله، وتنحرف عقولنا إلى الأفكار المضللة، وتنسحب ثمار الروح تمامًا، ونصير عاجزين عن طريق الاشتياق إلى الملكوت أو الخوف من الجحيم؟!
3- لقد ذكر الآباء ثلاثة أسباب للفتور (الجفاف) الروحي الذي نتحدث عنه:
ا. إما لسبب الإهمال من جانبنا.
ب. أو بسبب هجوم شيطاني.
ج. أو بسماح من الله.
فيأتي الفتور عن طريق إهمالنا، بسبب أخطائنا أو تراخينا سالكين بإهمال أو طيش. عندما نكون في حالة كسل نتغذى بالأفكار الرديئة، وبالتالي تثمر أرض قلبنا شوكًا وحسكًا… ويجعلنا مجدبين وبلا ثمر أو تأمل روحي.
ويأتي عن طريق الهجوم الشيطاني، وذلك عندما نجتهد نحو الرغبات الصالحة. فإن عدونا ماكر، يدخل إلى قلبنا بغير معرفتنا وضد رغبتنا ويسحب منا عزمنا الحسن.
4- الفتور بسماح من الله
أما عن الفتور الذي بسماح من الله فهناك سببان…
أولاً: يتركنا الله فترة قصيرة لكي ننتبه إلى ضعف قلوبنا، عندئذ لا ننكر أن نقاوة قلوبنا السابقة هي هبة من قِبل الافتقاد الإلهي. فبسقوطنا في التجربة عن طريق ترك الله لنا وعجزنا عن العودة إلى حالة النقاء والبهجة السابقة عن طريق التنهدات أو الجهود التي نبذلها، نتعلم أن سعادة قلبنا السابقة ليست نتيجة لنشاطنا الذاتي، بل هي عطية من الله، وأنه يجب أن نطلبها من نعمة الله واستنارته.
ثانيًا: وأما السبب الثاني فهو لأجل امتحاننا من جهة المثابرة والرسوخ العقلي والغيرة الحقيقية. فعندما يتركنا ينكشف فينا بأي هدف قلبي ونشاط في صلاتنا نبحث عن الروح القدس. ولكي نعرف كيف يلزمنا أن نجاهد باحثين عن السعادة الروحية… ونتعلم أن نحافظ على بهجة النقاوة بأكثر حرص وصيانة ونتمسك بها بأكثر ثبات. فالبشر عامة لا يحرصون على المحافظة على ما يظنون أنه يمكنهم بسهولة الحصول عليه.
5- فضل النعمة علينا
بهذا يتكشف بجلاء أن نعمة الله ورحمته يعملان دومًا لأجل خيرنا، فإذا تركتنا نعمة الله فإن كل الجهود العاملة لا تنفع شيئًا. فمهما جاهد إنسان بكل نشاط لا يقدر أن يصل إلى حالته الأولى بغير معونة الله، وهذا يظهره القول: “فإذًا ليس لمن يشاءُ ولا لِمَنْ يسعى بل لله الذي يرحم” (رو16:9).
هذا التخلي من الناحية الأخرى لا يمنع الافتقاد الإلهي المقدس الذي نتكلم عنه… إذ يحث غير المستحقين ويعظ النائمين، وينير عيني العُمي بالجهل، وبرحمته يبكتنا ويؤدبنا، ويسكب في قلوبنا ما يؤنبنا ويدفعنا إلى الاستيقاظ من نوم الكسل.
وأخيرًا غالبًا ما نمتلئ بافتقاد إلهي مفاجئ برائحته الطيبة بقوة فائقة… حتى أن الروح تختطف بهذه الابتهاجات، وتُمسك كما لو كانت في حالة دهش روحي حتى تنسى تلك الحقيقة أنها لا زالت في الجسد.
6- داود يختبر حالة الفتور كفرصة للجهاد
يعرف داود الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله تجاهنا أحيانًا يكون لصالحنا، وفي صلاته طلب أن لا يكون ذلك على الدوام (لأنه يعلم أن ترك الله للإنسان فيه ضرر حيث تعجز الطبيعة البشرية عن السلوك نحو الكمال)، لذلك توسّل بأن يكون ذلك في حدود معينة قائلاً: “لا تتركني إلى الغاية” (مز 8:119). بمعنى آخر يقول: إنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم وذلك لامتحانهم… لذلك فأنا لست أسأل ألا تتركني، لأنه ليس من المفيد لي ألا أشعر بضعفي (لذلك قال “خيرٌ لي أني تذللت” مز 71:119)، ولا من النافع لي ألا تتاح لي فرصة للحرب. وهذه الفرصة لن تتاح لي بالتأكيد مادمت أمتلئ بحماية اللّه الدائمة. فالشيطان لا يتجاسر ويحاربني مادمت مستندًا على حمايتك، فيتقدم معترضًا ومشتكيًا ضدي وضدك: “هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أَليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته وحول كل ما لهُ من كل ناحية؟” (أي 1: 9-10). فأنا ألتمس منك أن تتركني لكن “ليس للغاية” (اللفظ اليوناني “ليس كثيرًا”) وذلك لأنه مفيد لي أن تتركني قليلاً حتى يمتحن ثبات حبّي.
من الخطر عليّ أن تتركني كثيرًا لخطاياي واستحقاقاتي، لأنه إن تَركتْ عنايتك الإنسان في البرية طويلاً لا يقدر أن يحتمل فيستسلم للعدو. فأنت عالم بقوة الإنسان واحتماله، فلا تدعنا نجرَّب فوق ما نستطيع بل ستجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لنستطيع أن نحتمل (1كو13:10).
ونقرأ أيضًا في سفر القضاة عن أمر كهذا في صورة رمزية (قض1:3،4)… فقد ترك الأمم ليس ليمنع سلامة الشعب (اليهودي)، ولا لضررهم، إنما لأنه يعلم أن ذلك فيه خيرهم. فإذ يضايقهم الأمم بالهجوم يشعرون باحتياجهم إلى العناية الإلهية. لهذا يستمرون متطلعين إلى الله طالبين معونته ولا يتهاونون في كسل، ولا يفقدون فضيلة الاحتمال والعمل، مجاهدين في الفضيلة.
7- النزاع بين الجسد والروح لخيرنا
نقرأ عن معركة كهذه قائمة في أعضائنا لأجل خيرنا، إذ يقول الرسول: “لأن الجسد يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غلا17:5). هنا أيضًا نجد صراعًا رسخ في أجسادنا بترتيب من الله.
وحيث يوجد شيء مشترك بين كل البشر بغير استثناء، فماذا نظن إلاّ أن هذا يخص الطبيعة البشرية ذاتها منذ سقوط الإنسان الأول… وإذ نجد هذا الأمر المشترك ينمو مع نمو الإنسان، فإننا نعتقد بأن هذا السماح من الله لا لضرر الإنسان بل لأجل معونته…
وُجد هذا النزاع فينا بترتيب من الخالق بطريقة تفيدنا وقد دعانا وحثّنا على السمو. فلو لم يكن يوجد نزاع لنشأ سلام، لكنه مملوء خطرًا (لأننا ما كنا نجاهد ونطلب السمو).
8- سؤال
جرمانيوس: بالرغم من أن البعض قد ألمح عن المعنى الذي وُضِّحَ لنا إلا أننا لم نستطع أن ندرك المعنى الرسولي تمامًا، لذلك نرغب منك أن تشرحه لنا بأكثر وضوح. ويبدو أن الرسول أشار إلى ثلاثة أمور:
أولاً: نزاع الجسد ضد الروح.
ثانيًا: شهوة الروح ضد الجسد.
ثالثًا: إرادتنا الحرة التي تبدو أنها تقف بين الاثنين، وقد قيل عنها أنهم لا يقدروا أن يفعلوا ما يريدونه…
9- دانيال
لكي نفهم الأمر يهمنا أن نوضح الأسئلة… فبالرغم من أن الذي يسأل الأسئلة يجهل الإجابة عليها، لكن متى سأل بحكمة وتعلم ما لم يعرفه فهذا يحسب له حكمة.
فبحسب التقسيم الذي أوضحته يبدو أن الرسول يشير في العبارة إلى ثلاثة أمور: شهوة الجسد ضد الروح، وشهوة الروح ضد الجسد، والنزاع المتبادل بين بعضهما البعض حتى يظهر القول أنهم لا يقدروا أن يفعلوا ما يريدونه كما لو كان ذلك سببًا باعثًا للنزاع.
يوجد أيضًا أمر رابع قد تغاضيت عنه وهو “أننا نفعل ما لا نريد”.
والآن يلزمنا أولاً أن نعرف ما هما هاتين الرغبتين أي رغبة الجسد ورغبة الروح ثم نناقش بعد ذلك إرادتنا الحرة التي تقف بين الاثنتين، وأخيرًا نعرف بنفس الطريقة ما لا يمكن أن ننسبه لإرادتنا الحرة.
10- مفهوم كلمة “الجسد”
استخدمت كلمة “الجسد” في الكتاب المقدس بمعان كثيرة.
1- فأحيانًا يقصد بها “الإنسان”، أي ما يشمله من جسد وروح، مثال ذلك “والكَلِمَة صار جسدًا” يو14:1، “ويبصر كلُّ بشرٍ (جسد flesh) خلاص الله” لو6:3.
2- وأحيانًا يقصد بها الإنسان الخاطئ الشهواني مثل “لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيَغانه هو بشر (جسدflesh )” تك3:6.
3- وأحيانًا تستخدم للتعبير عن الخطايا ذاتها، مثال ذلك “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح” رو9:8، وأيضًا “إن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله” 1كو50:15، ويليها “ولا يرث الفاسد عدم فساد” 1كو50:15.
4- وأحيانًا يعني بها القرابة والنسب، مثال ذلك “هوذا عظمك ولحمك نحن” 2صم 1:5، ويقول الرسول “لعلّي أُغِير أنسبائي (جسدي my flesh) وأخلّص أناسًا منهم” رو14:11.
فيلزمنا أن نعرف أي معنى يقصد به كلمة “الجسد” من هذه المعاني الأربع. فإنه بلا شك لا يكون المعنى المقصود هو ما جاء في العبارة “والكَلِمَة صار جسدًا”، ولا ما جاء في العبارة “لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيَغانه هو بشر (جسد)”، حيث أن كلمة “جسد” في القول “الجسد يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ الجسد” لا تستخدم بمعنى إنسان شرير كما جاء في الآية السابقة (معنى2)، ولم يكن يتكلم الرسول عن أمور محسوسة بل عن أمور في داخله تقوم من وقت لآخر بمقاومته.
11-يلزمنا ألا نأخذ كلمة “الجسد” هنا بمعنى الإنسان أو المادة الملموسة، إنما يقصد الإرادة الشهوانية والرغبة الشهوانية.
كذلك كلمة “الروح” لا يقصد بها شيئًا ماديًا بل صلاحًا ورغبات روحية للروح.
هذا المعنى سبق أن أعلنه الرسول الطوباوي في بداية حديثه “وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكمّلوا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون”. فإذ توجد الاثنتان، أي الرغبات الجسدية والرغبات الروحية وهما في نفس الإنسان معًا، لذلك تقومان بقتال داخلي يومي.
فالشهوة الجسدية تدفع بنا بطيش نحو الخطية، لنمرح في تلك الأطايب التي تتجمع بالاستكانة الحاضرة. ومن الجانب الآخر تعارضها الشهوة الروحية، راغبة في الانهماك في الجهاد الروحي، حتى أنها تتوق أن تتخلص حتى من الاحتياجات الضرورية للجسد، راغبة في السمو بهذه الأمور دون أن تنشغل بضعفات الجسد.
يسر الجسد بالخلاعة والشهوات بينما لا تريد الروح حتى الرغبات الطبيعية.
– أحدهما يطلب أن يغطَّ في النوم ويشبع من الطعام، والآخر ينتعش بالسهر والصوم، حتى يودّ لو لم يحصل حتى على النوم والطعام الضروريان للحياة.
– أحدهما يشتاق إلى الاغتناء بامتلاك كل شيء بكثرة، والآخر يكتفي بالحصول على القوت اليومي الزهيد.
– أحدهما يطلب الترفيه والإحاطة بالمنافقين حوله كل يوم، بينما الآخر لا يريد الترفيه ويطلب الانفراد في الصحراء القاسية ويتجنب الناس.
– أحدهما يعيش على الكرامات البشرية والمديح البشري، والثاني يتمجد بالاضطهادات والمضايقات التي تُقدم ضده.
12- فائدة وجود النزاع بين الرغبات الروحية والجسدية
موقف الإرادة الحرة التي للروح موقفًا وسطًا بين هذين النوعين من الرغبات يستحق اللوم إلى حد ما، فهي لا تسر بكثرة الخطايا، ولا تجتهد في قمع ذاتها من أهواء الجسد، غير راغبة في احتمال المتاعب اللازمة.
إنها تودّ المحافظة على عفة الجسد بدون أي تعب للجسد. وتطلب نقاوة القلب من غير أن تسعى مجاهدة.
وترغب في الالتصاق بالفضائل الروحية مع حفظها للمباهج الجسدية. وتودّ الحصول على عطية الصبر من غير أن يحدث ضيق. وتطلب أن يكون لها اتضاع المسيح دون أن تفقد الأمجاد الأرضية. وتشتاق إلى بساطة الإيمان مع حبها لشهرة العالم. وترغب في خدمة المسيح مع الرغبة في مديح الناس…
وباختصار إنها تشغف بالتمتع بالبركات العتيدة من غير أن تفقد البركات الحاضرة.
هذه الإرادة الحرة لن تقودنا إلى بلوغ الكمال الحقيقي، بل تنحدر بنا في حالة يائسة من الفتور. وتجعلنا كأولئك الذين انتهرهم الله في سفر الرؤيا قائلاً: “أنا عارف أعمالك أنك لست باردًا ولا حارًا، ليتك كنت باردًا أو حارًا. هكذا لأنك فاتر ولست باردًا ولا حارًا أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي” (رؤ15:3،16).
في هذه الحالة نقف بين الجانبين فتضطرب أحوالنا ونهلك بالفتور. فإذ نترك العمل لإرادتنا الحرة، ونرغب في قيادتها في هذا الاتجاه من الكسل، تظهر الشهوات الجسدية وتضايقنا بأهوائها الشريرة، وتجعلنا غير محتملين أن نبقى في حالة النقاوة التي كنا نتمتع بها، وتغوينا بالفتور ووسائل اللذة الشائكة التي تدفع بنا إلى الخوف.
كذلك إذا ما التهبنا بنشاط الروح، نرغب في اقتلاع أعمال الجسد، ومن غير أن تلتفت (الروح) إلى الضعف البشري تحاول أن تسمو بنا في الجهاد الزائد فوق حدود الفضيلة، لكن ضعف إرادتنا البشرية يسحبنا ويردّنا عن الحد الزائد الذي يريده الروح والذي يضرنا.
وعلى هذا فإن النتيجة هي أن التناقض بين النوعين من الرغبات يصير في نزاع من هذا النوع… وهذا يؤدي إلى نوع من التوازن في ميزان الجسد، حيث تنكشف حدود الجسد وحدود الروح بأكثر دقة. فلا ُيسمح للعقل أن يلتهب بجهاد الروح ليتسلط من الناحية اليمينية (أي يجاهد فوق الحدود متناسيًا ضروريات الجسد)، ولا يسمح للجسد أن يميل إلى أشواك الخطية من الناحية الشمالية (أي لا يندفع نحو رغبات الجسد متجاهلاً رغبات الروح).
وبينما يعمل هذا الصراع يومًا فيوم لفائدتنا، فإننا ننسحب إلى المرحلة الرابعة… فنكتسب نقاوة القلب لا بالكسل بل بالجهاد المستمر وانسحاق الروح. فنستعيد عفة جسدنا بالأصوام والجوع والعطش والسهر المستمر، ونحصل على هدف قلوبنا بالقراءات والسهر والصلوات الدائمة وأتعاب الوحدة. وننال الصبر باحتمال الضيقات، ونخدم خالقنا في وسط احتمال الإهانات، ونتبع الحق ولو أبغضنا العالم وصار معاديًا لنا…
هذا النزاع يُحدث تعادلاً، فاتحًا لنا طريقًا سليمًا مضمونًا للفضيلة معتدلاً بين الطريقين، مُعلمًا جنود المسيح أن يسيروا في الطريق الملوكي (الإلهي).
وعلى هذا فإنه إذا ما ظهر الفتور في الإرادة البليدة التي تحدثنا عنها، ينشغل العقل بالشهوات الجسدية، وعندئذ يصطدم بالميول الروحية التي لا تقبل الخطايا الأرضية بأي وسيلة.
كذلك رغبات الروح الزائدة تسمو بروحنا إلى النشاط الزائد، وتتجه لكي تسمو إلى رفعة مستحيلة بلا حدود، لكن ضعفات الجسد تجعله يذعن إلى الاعتبارات الصحيحة لإرادتنا الحرة مع الحصول على نصيب مناسب في طريق الكمال…
13- هكذا فإن هذا الصراع (الذي بين رغبات الروح والجسد) يسبب لنا فائدة كبرى… ففي أثناء مقاومة الجسد نتحصن من تلك الأمور الشريرة التي يفكر فيها عقلنا، ونعود إلى حال أفضل عن طريق التوبة…
14- فائدة النضال مع شهوة الجسد
الروح التي لا ترتبط بمادة جسدية[1]، لا تجد غفرانًا عن الخطية التي تسقط فيها… لأنها لا تصطدم ببواعث جسدية مثلنا، إنما تخطئ بفساد الإرادة. لذلك فإن خطيتها بلا غفران وضعفها بلا علاج. فإنها إذ تسقط من غير ضعفات أرضية، لا تجد مكانًا للتوبة ولا للغفران. وعلى هذا فإنالصراع بين الجسد والروح ليس فقط غير مضر، بل وبالحقيقة مفيد لنا.
15- أولاً: لأنه عن طريقها (شهوة الجسد) نلوم أنفسنا على كسلنا وإهمالنا، فهي تشبه ضابطًا نشيطًا لا يسمح لنا أن نحيد عن الطريق الصحيح للنظام… فإذا ما أهملنا ولو قليلاً، تثور فينا بباعث الشهوة، وبالتالي يحدث تأنيبًا يعيدنا إلى الاعتدال الصحيح.
ثانيًا: لأنه في حالة العفة والنقاوة الكاملة التي تهبنا إيّاها النعمة الإلهية، نجد أنفسنا محفوظين من الزنا الجسدي، حتى أننا نظن أننا لا نعود نضطرب بأي أهواء جسدية، وبهذا نخطئ وننتفخ في داخل قلوبنا، كأننا لا نحمل فساد الجسد. لكن بأشواك الشهوات نخضع ونتذكر أننا لسنا إلا بشر…
16- الكبرياء مع العفة أشر من شهوات الجسد
بالحقيقة أن الكبرياء الذي يتبع النقاء أكثر خطرًا من كل الخطايا والشرور. وعلى هذا فإنه لن ينال أي مكافأة في بلوغ مرتفعات العفة… التي فيها يظن الإنسان إنه لن يخضع لأي شهوة جسدية، فيسقط من سموه وروحانياته إلى هلاك أبدي بسبب كبرياء قلبه.
لهذا ما كان يبقى لنا أمل لو لم يوجد فينا منذر للكسل من جانبنا في جسدنا أو عقلنا (وهي الشهوات الجسدية)، ولا كنا نجاهد في الوصول إلى مجد الكمال ونحتفظ بالتدبير الصحيح والزهد لو لم تعمل فينا المثيرات الجسدية فتعطينا اتضاعًا وتجعلنا ماهرين ومشتاقين إلى تنقية نفوسنا من الخطايا الروحية.
17- جرمانيوس: ما هو الفرق بين الإنسان الجسداني والإنسان الطبيعي وكيف أن الطبيعي أشر من الجسداني؟
18- دانيال: يتحدث الكتاب المقدس عن ثلاثة أنواع من الأرواح: الجسداني، والطبيعي، والروحاني.
فيقول الرسول عن الجسداني “سقيتكم لبنًا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعدُ تستطيعون بل الآن أيضًا لا تستطيعون لأنكم بعدُ جسديُّون..” 1(كو2:3،3). وأيضًا “إذ فيكم حسد وخصام وانشقاْق أَلستم جسديّين؟”
أما عن الطبيعي فيقول: “لكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنهُ عندهُ جهالة” 1(كو14:2).
أما عن الروحاني فيقول: “وأمَّا الروحيُّ فيَحكم في كلّ شيءٍ وهو لا يُحكَم فيهِ من أحدٍ” (1كو15:2). وأيضًا “فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة” (غلا1:6).
بالزهد نترك ما هو جسدي، أي نبدأ بالانفصال عما يتصل بأمور هذا العالم، ولا نصنع شيئًا خاصًا بنجاسة الجسد. وبالرغم من ذلك يجب أن نجاهد بحرص بكل قوتنا للحصول على الروحانية خشية أن نخدع أنفسنا بالسعادة، حيث يبدو أن إنساننا الخارجي قد ترك هذا العالم وتخلص من أدناس الزنا الجسدي، وأننا قد وصلنا إلى مرتفعات الكمال، فنهمل ولا نبالي بنقاوة نفوسنا من التأثيرات الأخرى. بهذا التخلف نصير غير قادرين على الوصول إلى مرحلة التقدم الروحي، إذ نظن أنه يكفي لكمالنا أن نعزل إنساننا الخارجي عما يتصل بهذا العالم ومسراته… وبهذا نجد أنفسنا في حالة من الفتور تعتبر أشر من أية حالة. وبذلك نجد الله يريد أن يتقيأنا إذ يقول: “هكذا لأنك فاتر ولست باردًا ولا حارًا أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي” (رؤ16:3).
وليس باطلاً يعلن الله عن أولئك الذين سبق أن قبلهم في أحشاء محبته، وقد صاروا للأسف فاترين. إنه سيتقيأهم وينزعهم من أحشائه… إنه يريد أن ينزعهم من قلبه، وبهذا يصيرون أشرّ من أولئك الذين لم يسيروا قط كطعام في أحشاء الله، إذ يردهم ثانيةً متقيئًا إياهم.
فما هو بارد يصير دافئًا عندما يدخل في الفم فيُقبل، وتكون له نتائج مرضية وحسنة. أما ما يرتد بسبب فتوره البائس فإنني لا أقول إنه لا تستطعمه الشفاه، بل ونشمئز جدًا من النظر إليه من بعيد. حقًا إنه أردأ من الإنسان الجسداني، أي العلماني أو الأممي. لأن هذا الأخير أكثر استعدادًا للتوبة والوصول إلى المرتفعات عن ذاك الذي يعمل بفتور من غير أن يسير في طريق الكمال حسب ما ترشده القوانين، مرتدًا في لحظة عن نيران النشاط الروحي.
فالأول (الجسداني) إذ ينهزم من الخطايا الجسدية يعرف دنسه، وعن طريق تأنيب ضميره يسرع من الدنس الجسدي إلى ينبوع الطهارة الحقيقية ومرتفعات الكمال. وفي حزنه من حاله التي يجد نفسه فيها، يلتهب بنيران الروح ويسمو بأكثر استعداد للكمال.
لكن إذ يبتدئ الإنسان بفتور (الإنسان الطبيعي) فإنه يسئ إلى اسمه كراهب ولا يسير في هذه المهنة بالاتضاع والنشاط اللازمين. وبإصابته بهذا الداء البائس لا يقدر أن يميز ما هو حق، ولا يتعلم من أقوال الآخرين. إنه يقول في نفسه: “إني أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء”، فينطبق عليه تكملة القول “ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان” (رؤ17:3). وبهذا تكون حالته أشر من الرجل العالمي (محب العالم)، لأنه غير مدرك لحقيقة نفسه إنه شقي وأعمى وعريان ومحتاج إلى تطهير وإلى التعلم من الآخرين. لهذا فهو لا يستمع إلى أية نصيحة، لأنه لا يدرى إنه وإن كان قد أخذ اسم راهب إلا إنه أقل من الجميع. فبينما يتطلع إليه الجميع إنه قديس وخادم لله إلا إنه سيخضع لدينونة أعظم وعقاب أشد.
19- وإنني أخجل أن أقول بأننا وجدنا عددًا كبيرًا بنوا تركهم (زهدهم) بطريقة لم يتركوا فيها شيئًا من خطاياهم ولا تخلوا عن عاداتهم القديمة، وإنما اكتفوا بتغيير طريقة المعيشة والزي… وبينما نجدهم مشتاقين أن يكونوا أفضل من اخوتهم إلا أنهم لا يخضعون لآبائهم…
وبالرغم من أن كبرياءهم نوع واحد لكنه في شكلين:
الأول صورة الجدية و(الاجتهاد)، والثاني صورة التحرر التام بشكل هزلي مضحك (وفي كليهما لا يريد أن يخضع لنظام الدير ولأبيه الروحي).
الأول صورة الصمت، والثاني ليس لديه مانع من أن يتحدث بحرية عن الأمور غير اللائقة المملؤة حماقة، حاسبًا إنه من الصعب أن يحتفظ بالصمت.
الأول بالكبرياء يبحث عن وظيفة (في الدير أو في الكهنوت) تتناسب معه، والآخر يغض النظر عنها.
وعلى أي الأحوال فإن عدم الطاعة في كلا الحالتين يجعل الإنسان يكسر تعاليم الآباء سواء برغبته في العمل أو بحبه للتراخي.
إنه يصر على مخالفة قوانين الدير، سواء من أجل النوم أو السهر، وتعدى أوامر الآباء سواء من أجل القراءة أو الكسل.
وما نقوله بخصوص الكبرياء يحدث أيضًا من جهة كراهية الإنسان لأخيه سواء من أجل صومه أو إفطاره (أي يثور على أخيه لأنه صائم أو لأنه فاطر).
غير أن الذين يخطئون ولهم مظهر الفضيلة في ثوب روحاني هؤلاء أردأ وعلاجهم أصعب من الذين يخطئون بوضوح بسبب الملذات الجسدية. فالحالة الأخيرة تشبه المرض الظاهر الذي يعالج بسهولة، أما الحالة السابقة فهي مكتسية بزي الفضيلة لذلك تبقى بغير شفاء، ويصير ضحاياها في حالة مميتة وخطيرة.
20- أناس يتركون الكثير لكن القلب منشغل بالتفاهات
كيف نقدر أن نكشف عن مقدار السخف الذي نراه من جهة البعض، الذين كانوا متحمسين في زهدهم، تاركين خدمة هذا العالم وممتلكاتهم وغناهم العظيم ذاهبين إلى الأديرة، ومع هذا لا يزالون يشغفون بأمور لا تنقطع منه تمامًا، وحياتهم مرتبطة بها تمامًا، مهما كانت هذه الأمور صغيرة وتافهة، حتى نجد في هذه الحالات أن اهتمامهم بالتفاهات يكون أكثر بكثير من حبهم لكل ممتلكاتهم، وبذلك لا ينتفعون شيئًا إذ حولوا اهتمامهم من ممتلكاتهم وغناهم العظيم إلى الأمور البسيطة التافهة. فإذ لا يخطئون في خطية الطمع والبخل في الأمور الكبيرة يخطئون بها في الأمور التافهة، وبهذا فهم لم يتخلصوا من الطمع، إنما غيروا مادة الخطية.
فإذا ما انشغلوا كثيرًا بحصيرتهم أو سلاسلهم أو غطائهم (البطانية) أو كتبهم أو أي أمر تافه، فإن الأهواء نفسها تأسرهم وتردهم إلى حالتهم السابقة , بذلك فإن مجرد ترك أمور هذا العالم لا يجلب لنا كمال القلب، لأنه وإن كان يجعلنا فقراء إلا إنه يلزمنا أن نحتفظ بالغنى العقلي.
ملخص المبادئ
– تمر بالمؤمن فترات فتور يشعر بالعجز عن الحديث مع الله أو الشعور بحبه أو بتجاوبه معه… وعلاج الفتور يستلزم التعرف على نوعه.
النوع الأول: فتور سببه الإهمال والتراخي من جانبنا كأن يتراخى الإنسان في صلاة الأجبية شيئًا فشيئًا، ولا يدرك الإنسان إلا بعد فترة زمنية إذ يجد نفسه لا يصلى بها، وإن حاول ذلك يستثقلها ويجدها كروتين ممل جاف، ولا يشعر بحلاوة المزامير وقوتها…
وما نقوله عن المزامير يحدث بالنسبة للتأمل والدراسة في الكتاب المقدس أو الصوم أو التمتع بالشركة في القداس الإلهي الخ.
ويحدث بصورة عكسية بالنسبة للرذائل، فإن التهاون مهما صغر حجمه فباستدامته يسقط الإنسان في دوامة الخطية ويجعل الإنسان متحسرًا على ما فقده من حياة العفة أو نقاوة القلب الخ.
النوع الثاني: فتور سببه حرب الشيطان. هنا يلزم أن يكون لنا روح التمييز لنعرف ما هو منا وما هو حرب من العدو الشيطان. لأنه كثيرًا ما يبث العدو أفكارًا نجسة للغاية أو أفكار تجديف، أحيانًا في أقدس لحظات الصلاة… وبعد ذلك يسقط الإنسان في اليأس قائلاً لنفسه كيف أفكر هكذا؟! مع إنه في الحقيقة هو يكرهها ويمقتها ولا يريد أن يقبلها قط.
النوع الثالث: فتور بسماح من الله، وذلك لأحد أمرين:
1- بالنسبة للمتكلين على برهم الذاتي، أن يتعلموا بأن غيرتهم الأولى ونقاوتهم السابقة ليست منهم إنما بفضل عناية الله ونعمته علينا.
2- بالنسبة للمتراخين والمستهترين تحت ستار حب الله ونعمته، هؤلاء يسمح الله بالتخلي عنهم وفتورهم إلى حين ليتعلموا حياة الجهاد والمثابرة في فترات الفتور، ولو لم يشعروا بتعزيات داخلية أو فرح… لأنه يلزم أن نجاهد من أجل الله ذاته.
– سمح الله بوجود شهوة الجسد التي هي ضد الروح لخيرنا.
1-عندما نضعف روحيًا تثور فينا شهوة الجسد، عندئذ نشعر بالضعف فيكون باعثًا للتوبة. وهذا ما لا يتمتع به الشيطان لأنه بلا جسد.
2- حتى في لحظات النمو الروحي تحاربنا شهوات الجسد (لكن بغير سلطان علينا)، وهذا يدفع بنا إلى الانسحاق و الاتضاع والشعور بالحاجة إلى عمل الله.
3- تمنع رغبات الجسد الإنسان من المغالاة، فبدون الجسد تشتاق النفس ألا نطلب حتى الاحتياجات الضرورية اللازمة للجسد، كالأكل والشرب والنوم… وهذا يدفع إلى المغالاة وعدم الاعتدال.
– الإنسان الروحي هو الشخص الحار في العبادة والمشتعل بحب الله. والجسداني هو الذي له ضعفات واضحة في حياته.
والطبيعي هو الشخص الفاتر الذي يظن في نفسه إنه غير محتاج. وهو إنسان تخدعه شكليات معينة، كأن يكون حافظًا للكتاب المقدس أو واعظًا مؤثرًا يهز قلوب كثيرين أو مكتفيًا بكونه راهبًا… أو له صور معينة من العبادة أو الخدمة، دون أن يعيش كإنسان تائب منسحق القلب متمتع بعشرة الرب. وهذا الصنف خطير لأن خارجه يخدع الناس بل ويخدع الإنسان نفسه.
_______________________________________
[1] مثل الملائكة الذين سقطـوا (إبليس وجنوده).
المناظرة الخامسة
الأخطاء الثمانية للأب سرابيون
1- مقدمة
في مجمع الآباء الموقرين كان إنسان يدعى “سرابيون” اختص بنعمة “التمييز”، تستحق كلماته أن تُدون. هذا طلبنا منه أن يكشف لنا عن طريق النصرة على خطايانا حيث يلزمنا أن نعرف مصدرها وأسبابها، فبدأ يتحدث قائلاً:
2- أهم الخطايا
إن أهم الخطايا التي تواجه البشر هي ثمانية:
1- النهم. 2- الزنا.
3- البُخل أو محبة المال. 4- الغضب.
5- الحزن (الغم). 6- التواني أو الفتور.
7- حب الظهور. 8- الكبرياء.
3- أصنافها وأشكالها
هذه الخطايا صنفان:
(ا) إما أن تكون طبيعية كالنهم. (ب) أو تأتي من الخارج كالطمع.
أما عن أسلوب الخطية فينا فإنه يأخذ أربعة أشكال:
(أ) فالبعض لا يتم ما لم يقوم الجسد بدور فيه، مثل النهم والزنا.
(ب) والآخر يتم بدون أن يقوم الجسد بأي عمل، مثل حب الظهور والكبرياء.
(ج) والبعض بواعثه من الخارج، مثل الطمع والغضب.
(د) والآخر ينبع من مشاعر داخلية، كالفتور والغّم.
4- الخطايا الجسدية والخطايا الروحية
إنني لا أتكلم من نفسي حسب ضعفي، إنما ببرهان الكتاب المقدس يظهر أن النهم والزنا وإن كانا يوجدان فينا طبيعيًا، إذ ينبعان منّا دون حاجة إلى بواعث ذهنية، بل حسب عواطف الجسد وإغراءاته، إلا أنهما لكي يتمّان فينا، يلزم أن توجد مادة خارجية تثير الجسد. “ولكن كلُّ واحدٍ يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوتهِ. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيَّةً والخطية إذا كملت تُنتج موتًا” (يع 14:1، 15).
فآدم الأول ما كان يسقط في النهم لو لم يجد الطعام في يده مستخدمًا إيّاه بطريقة خاطئة، ولا جُرب آدم الثاني بغير مادة مغرية بل قيل له: “إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا” (مت3:4).
ومن الواضح أيضًا للجميع أن الزنا لا يتم إلا بعمل جسدي، إذ يقول الله عن هذا الزوج الطوباوي أيوب: “ها هي قوتهُ في مَتْنَيهِ وشدَّتهُ في عضل بطنهِ” (أي16:40).
وبذلك فإذ هاتين الخطيتين بالذات تُثارا بمساعدة الجسد، فهما يحتاجان إلى زهدًا جسديًا بجوار الاهتمام الروحي، حيث تصميم العقل وحده لا يكفي لمقاومة تلك الحروب.
هناك أخطاء مثل الغضب والغم وغيرهما يمكن التغلب عليها بقوة العقل بغير تقشف جسدي.
ويستخدم الزهد الجسدي عن طريق: الصوم والسهر، وأعمال التوبة. أضف إلى ذلك ترك مكان الخطية، لأنه حيث أن الخطية تنتج عن تضافر أخطاء الجسد مع العقل، لذا يلزم أن تتضافر قواهما معًا للتغلب عليها.
ومع أن الرسول الطوباوي يتكلم عن الخطايا عامة بأنها جسدية، إلا أنه يحصي العداوة والغضب والهرطقات أنها أعمال أخرى للجسد. لذا في معالجة الخطايا يلزم أن نكشف عن طبيعتها بدقة مميّزين بين الصنفين، فندعو البعض جسدي والآخر خطايا روحية.
الخطايا الجسدية هي التي تعمل على إشباع الشهوات الجسدية وتلذّذه. وهذه تهيِّج العقل أحيانًا ليقبل رغباتها بغير إرادته. وعن هذا يقول الرسول الطوباوي: “الذين نحن أيضًا جميعًا تصرَّفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا عاملين مشيئات الجسد والأفكار، وكُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا” (أف3:2).
أما الخطايا الروحية فهي التي تنبع فقط من باعث عقلي، فليس فقط لا تهب للجسد لذّة، بل أحيانًا تجلب له ضعفًا وتضرّه. إنها تغذي العقل السقيم بطعام اللذّة البائسة. لذلك فهي تحتاج إلى علاج واحد وليس كالخطايا الجسدية التي تشفي بعلاج مزدوج…
5، 6- آدم الثاني واهب النصرة
إن كان الرسول قد أوضح بكلماته أن ربنا يسوع المسيح قد جُرِّب في كل شيء مثلنا إلا أنه قيل عنه أنه: “بلا خطيَّةٍ” (عب15:4)، أي لم تنتقل إليه عدوى الشهوات، لأنه لا يعرف إغراءات الشهوات الجسدية التي بها نضطرب ضد إرادتنا وبغير معرفتنا. وقد وصف رئيس الملائكة حالة الحبل به قائلاً: “الروح القدس يحلُّ عليكِ وقوَّة العليّ تظلّلكِ فلذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يُدعَى ابن الله” (لو35:1).
وكان يلزم بحق لربنا أن يجرَّب بنفس الأهواء التي جرِّب بها آدم حين كان في صورة الله قبل إفسادها، والتي هي: النهم، الافتخار، الطمع، الكبرياء، والتي تشابكت وأفرخت بعدما تعدَّى الوصية وأفسد صورة الله وشبهه.
لقد جرِّب آدم بالنهم حين أخذ الفاكهة من الشجرة الممنوعة، والطمع (الافتخار) حين قيل له: “تنفتح أعينكما”، والكبرياء حيث قيل: “وتكونان كالله عارفين الخير والشر”، وأيضًا جِّرب مخلصنا بالخطايا الثلاث: بالنهم حين قال له الشيطان: “قلْ أن تصير هذه الحجارة خبزًا” (مت3:4). والكبرياء حين قيل له: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل” (مت6:4). والطمع حين أراه جميع ممالك الأرض ومجدها قائلاً “أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي” (مت9:4).
لقد أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر، كما انتصر هو حين جرِّب.
لقد لُقِّب كلاهما بـ “آدم”. أحدهما كان الأول في الخراب والموت، أما الثاني فكان الأول في القيامة والحياة. بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثاني تحررت البشرية.
لقد جربه الشيطان بنفس الخطايا التي بها انخدع آدم الأول، ظانًا أنه كما خدع الأول يخدع الثاني مثله، فوجد نفسه قد انهزم بالتجارب التي هزم بها آدم الأول. وإذ انتصر الرب في تجربة النهم لم يجسر الشيطان أن يجربه بتجربة الزنا بل عبر به إلى تجربة الطمع الذي هو مصدر الشرور (1تي10:6). وعندما انتصر على الطمع لم يجسر أن يحاربه بالتجارب الأخرى التابعة لها والتي مصدرها وينبوعها هو الطمع، لكنه عبر به إلى آخر الخطايا وهي الكبرياء، لأنه يعرف أن الكاملين الذين غَلبوا كل الخطايا يمكن أن يتأثروا بالكبرياء، ولعلمه أنه هو نفسه لوسيفور ومن معه قد سقطوا بسبب الكبرياء من غير أن يسقطوا في أي خطية من الخطايا السابقة…
بهذا الترتيب الذي ذكرناه حسب الإنجيلي لوقا نجد توافقًا وترتيبًا دقيقًا بين الإغراءات وأشكال التجارب التي هاجمهم بها العدو الماكر آدم الأول وآدم الثاني[1]…
10- محاربة الخطايا الست الأولى
وبالرغم من أن الخطايا الثمانية مختلفة عن بعضها البعض من جهة أصلها وطريقة تأثيرها علينا إلا أن الخطايا الست الأولى: أي النهم والزنا والطمع والغضب والغّم (الكآبة) والفتور لها ارتباط بين بعضها البعض. فإثارة أحداها تكون بداية للتي بعدها.
فالزيادة في النهم يتبعه الزنا، والزنا يتبعه الطمع، والطمع يثير الغضب، والغضب يولد الغم (الكآبة)، والغم يُنشئ الفتور… ويجب أن نراعي هذا في محاربتنا الخطايا. فالشجرة الطويلة كثيرة الأغصان تجف متى تعرَّت جذورها أو قُطعت، وبركة الماء لا يمكن تجفيفها ما لم توقف القناة التي تمدها بالماء.
فإن أردت الغلبة على الفتور يلزمك النصرة على الكآبة. ولكي ما تتخلص من الكآبة يلزم طرد الغضب. ولتهدئة روح الغضب يلزم أن نطأ بأقدامنا على الطمع، ولأجل اقتلاع الطمع يلزم الامتناع عن الزنا، ولكي ما نهلك الزنا فلننتهر خطية النهم.
أما الخطيتان الباقيتان أي الافتخار والكبرياء، فإنهما مرتبطان معًا بنفس الطريقة إلى حد ما… ونلاحظ أننا نكون في خطر من هاتين الخطيتين متى صار لنا الغلبة والنصرة الرائعة على الخطايا الست السابقة…
13- اختلاف الهجوم من إنسان لآخر
وإن كانت هذه الخطايا الثمانية تهاجم البشر جميعًا، إلا أنها لا تهاجم الكل بطريقة واحدة. فقد يحتل الزنا مركز الصدارة عند البعض، بينما يحتل الغضب المركز الأول عند آخرين…
14- صراعنا ضد الخطايا
يجب علينا أن نتطلع إلى جميع الخطايا بطريقة تسمح لكل واحد منّا أن يتعرف على الخطية التي تربكه هو بالذات. بهذا يوجِّه هجماته الأساسية ضدّها معطيًا إيّاها عناية خاصة، ساهرًا من أجلها، وموجهًا ضدها سيوف الصوم اليومي، قاذفًا عليها رِماح التنهدات والتأوهات القلبية على الدوام، مجاهدًا في أعمال السهر والتأملات القلبية منسكبًا بدموع وصلوات أمام الله، طالبًا على الدوام أن يحفظه من هجماتها…
ويكون في ذلك مِثلُه مثل ذاك الذي يصارع مع مجموعة من الحيوانات المفترسة في حضرة ملوك أرضيين، فإنه دون اعتبار إلى المكافأة التي يأخذها في ذلك المشهد الذي يدعى pancarpus ، يوجِّه هجومه الأول ضد الحيوان الأقوى والأشد افتراسًا، فإذا ما قتله يستطيع بسهولة أن يتغلب على بقية الحيوانات الأضعف غير المُخيفة…
إلا أنه يلزمنا ألا نظن أنه إذا هاجم إنسان خطية معينة واحدة يهمل في الهجوم على بقية الخطايا الأخرى، فإنه لن ينتصر بسهولة بسبب الهجمات المفاجئة التي تثيرها الخطايا الأخرى…[2]
ويعلِّمنا المُشرِّع نفسه أن نسلك هكذا، غير معتمدين في ذلك على جهادنا الذاتي، إذ يقول: “لا ترهب وجوههم لأن الرب إلهك في وسطك إله عظيم ومخوف. ولكن الرب إلهك يطرد هؤلاءِ الشعوب (رمز للخطايا) من أمامك قليلاً قليلاً. لا تستطيع أن تفنيهم سريعًا لئَلاَّ تكثر عليك وحوش البرية ويدفعهم الرب إلهك أمامك ويوقع بهم اضطرابًا عظيمًا حتى يفنوا” (تث21:7-23).
15- حاجتنا إلى العناية الإلهية في الجهاد ضد الخطية
يلزما ألاّ ننتفخ بانتصارنا، لهذا يحذرنا قائلاً “لِئَلاَّ إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جيّدة وسكنت وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل مالك يرتفع قلبك وتنسى الربَّ إلهك الذي أخرجك… من بيت العبودية (الخطية)” (تث 12:8-14). كذلك يقول سليمان في الأمثال: “لا تفرح بسقوط عدوك (أي بغلبتك على الخطية والشيطان) ولا يبتهج قلبك إذا عثر لئَلاَّ يرى الرب ويسوءَ ذلك في عينهِ فيردَّ عنهُ غضبه” (أم17:24، 18)، أي خشية أن يرى الله كبرياء قلبك فلا يعود يهاجمه (يدافع عنك ضد الخطية)، بذلك يتخلى عنك فتغلبك الشهوة التي كنت بنعمة الله منتصرًا عليها من قبل…
إنه من الأفضل لنا أن نتعظ بالخبرة ونتعلم بما جاء في الكتاب المقدس بأننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننتصر على مثل هؤلاء الأعداء (الخطايا) الأشداء بقوتنا الذاتية ما لم تسندنا العناية الإلهية[3]…
ملخص المبادئ
– الخطايا الجسدية التي يشبع فيها الجسد أو يتلذذ تحتاج إلى تضافر قوى الجسد (الصوم والزهد والسهر) مع قوى العقل (صلاة وتنهدات) في يدي النعمة الإلهية للنصرة عليها.
– الخطايا سلسلة كل منها تسلم الإنسان إلى غيرها، لذا يلزم محاربة الأصل…
– لكل إنسان خطية معينة، يلزمه أن يركز عليها ضربات السهام من صوم وصلاة وسهر وتنهدات ودموع، وتتطلب النصرة عليها الاهتمام بالخطايا الأخرى أيضًا.
– قد جرب الرب وانتصر، لكي نعلم أنه لا نصرة لنا بجهودنا الذاتية بل بالرب يسوع المنتصر.
– تتطلب النصرة حياة الشكر لله، لأنه لا خلاص لنا من خطية بغير نعمة الله وعنايته وحمايته لنا.
________________________________________
[1] تحدث بعد ذلك عن أن الافتخار والكبرياء يمكن أن يتحققا بدون أي مساعدة من جهة الجسد.
[2] تحدَّث عن الطمع والغضب أنه يمكن التغلب عليهما بسهولة حتى أن الآلاف تركوا ممتلكاتهم وسكنوا البراري. كذلك عن الغمّ والفتور وهما يظهران بدون حاجة إلى مؤثر خارجي، لذلك فإنهما كثيرًا ما يهاجمان المتوحدين.
[3] تحدث بعد ذلك بإفاضة كيف أن إهلاك الأمم الوثنية في العهد القديم يشير رمزيًا إلى إبادة الخطية في حياة الإنسان.
المناظرة السادسة
لماذا يسمح الله بالضيقات للقديسين؟![1] للأب ثيؤدور (تادرس)
1- مقدمة
في مقاطعة فلسطين التي تقرب من قرية تيقوع التي تشرفت بظهور النبي عاموس منها، توجد صحراء شاسعة تمتد من العربية حتى البحر الميت حيث يجري فيها نهر الأردن. يقطن هناك كثير من الرهبان الطوباويين، هؤلاء الذين قتلهم الـ Sarcens المجرمين. ولقد كرّم الأساقفة المجاورين للمنطقة أجساد هؤلاء القديسين وكانت بينهم غيرة ورعة، إذ كان يرى كل منهم الحق في أخذ الأجساد ودفنها والاحتفاظ بها.
تساءل البعض: لماذا يُذبح هؤلاء الرجال ذوو الاستحقاق العظيم والفضائل الجمَّة بواسطة هؤلاء اللصوص؟! لماذا يسمح الله أن تحدث جرائم لعبيده فيسقطوا تحت أيدي الأشرار؟!
وإذ كنا في حزننا أتينا إلى القديس ثيؤدور الذي برز في (نعمة) التمييز. كان هذا الأب يقطن في منطقة القلاليCalle بين نتريا والإسقيط، تبعد خمسة أميال عن نتريا وثمانية عن برية الإسقيط التي كنّا مقيمين فيها. وإذ تقدمنا إليه ونحن في ضيق بسبب موتهم، مظهرين دهشتنا لطول أناة الله العظيمة حتى يسمح بقتل هؤلاء بهذه الكيفية، أولئك الذين كانوا قادرين على حفظ غيرهم من مثل هذه التجارب بسبب قداستهم، هم أنفسهم لم يقدروا أن يخلصوا من السقوط في أيدي الأشرار. لذلك سألناه: لماذا يسمح الله بحدوث مثل هذه الجرائم ضد خدامه؟!
أجابنا الطوباوي ثيؤدور قائلاً:
2- هذا السؤال غالبًا ما يتردد في أذهان من ليس لهم إيمان عظيم ومعرفة، حاسبين أن مكافأة القديسين التي لا توهب في هذا العالم بل في الحياة العتيدة، تُمنح لهم في هذه الفترة القصيرة من الحياة الزائلة، أما نحن فقد وضعنا رجاءنا في المسيح، لا في هذه الحياة، لئلا نصير كقول الرسول أشقى جميع الناس (1كو 19:15).
فالله لا يمنع التجارب عن المستقيمين، ولا يكافئ في هذا العالم الصالحين بأمورٍ نافعةٍ، والأشرار بأمورٍ شريرةٍ. فإن قلنا بغير هذا نسقط في العقاب مع من ذكرهم صفنيا النبي: “القائلين في قلوبهم إن الرب لا يحسن ولا يسيءُ” (صف 12:1)، أو على الأقل نصير بين المجدفين على الله القائلين: “كل مَن يفعل الشرَّ فهو صالح في عيني الرب، وهو يُسَرُّ بهم. أو أين إله العدل؟” (مل 17:2)، ونسقط في التجديف الذي وصفه (النبي) هكذا: “عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائرهُ وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود. والآن نحن مطوِّبون المستكبرين، وأيضًا فاعلوا الشرّ يُبنَون بل جرَّبوا الله ونجوا” (مل 4:3، 15).
يجدر بنا أن نتجنب هذا الجهل الذي هو أصل هذا الخطأ المهلك. كذلك يلزمنا أن نتعرف على ما هي الأمور الصالحة والأمور الشريرة، حسب المفهوم الوارد في الكتاب المقدس، وليس حسب الفهم العام لهذين التعبيرين، بهذا نهرب من الخداع الذي يسقط فيه غير المؤمنين.
3- الأمور الصالحة والأمور الشريرة
تنقسم الأمور التي في العالم إلى ثلاثة أنواع: أمور صالحة، وأمور شريرة، وأمور ليست صالحة ولا شريرة.
يلزمنا أن نعرف أن في الأمور البشرية لا يوجد صلاح حقيقي إلا فضيلة الروح وحدها التي تقودنا بإيمان حقيقي إلى الأمور السماوية، وتجعلنا على الدوام متمسكين بالأمور الباقية.
ومن هذه الناحية الأخرى ينبغي علينا ألا ندعو شيئًا ما شريرًا إلا الخطية وحدها التي تفصلنا عن الله وتربطنا بالشيطان الشرير.
أما دون هذا فهو ليس بصالح ولا شرير، بل يمكن أن يكون هكذا أو كذلك، وذلك حسب تفكيرنا أو رغبتنا مثل الغنى والقوة والشرف والقوة الجسدية والصحة والجمال والحياة والموت والفقر والضعفات الجسدية والآلام وما إلى ذلك من مثل هذه الأمور التي تمدنا بالصلاح أو الشر حسب شخصية الإنسان واتجاه تفكيره.
فالغنى كثيرًا ما يكون لصالحنا كقول الرسول بولس طالبًا من الأغنياء: “أن يكونوا أسخياءَ في العطاءِ، كرماءَ في التوزيع، مدَّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1تي18:6،19). وكما يقول الإنجيل بأن هذا الغنى يكون للخير لمن يصنع لنفسه “أصدقاءَ بمال الظلم” (لو9:16). ويمكن أن يوجه الغنى إلى الشر عندما نحشده للتخزين أو التنعم به، غير مبالين باحتياج الفقراء.
كذلك القوة والشرف والصحة السليمة ليست صالحة ولا شريرة، إنما يمكن أن تكون هكذا أو كذلك. ويظهر ذلك بوضوح مما جاء عن كثير من القديسين الواردين في العهد القديم، إذ كانوا في غنى وفير وشرف عظيم ولهم قوة جسدية، ومع هذا كانوا مقبولين لدى الله. وبالعكس نجد الذين أساءوا استخدام هذه الأمور، مفسدين إياها لتحقيق أغراضهم الذاتية يعاقبون ويهلكون ويظهر ذلك بوضوح مما ورد في سفر الملوك.
أيضًا الحياة والموت ليسا في ذاتهما صالحين أو شريرين، ويؤكد هذا ميلاد يوحنا ويهوذا. أحدهما كانت حياته نافعة له، ويظهر ذلك مما قيل عنه، “وكثيرون سيفرحون بولادتهِ” لو14:1. والآخر قيل عنه: “كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولَد” (مت24:26).
كذلك المرض الجسدي أحيانًا يكون نافعًا كما في حالة الطوباوي لعازر، ذلك الشحاذ المملوء بالقروح. إذ لا يشير الكتاب المقدس إلى فضائل له سوى احتماله العوز والمرض الجسدي بصبرٍ عظيمٍ، فاستحق أن يكون له نصيب مبارك في حضن إبراهيم.
كم تكون نافعة لنا تلك التجارب والآلام التي يحسبها البعض شريرة، فلا يحاول القديسون تجنبها، بل بحق يطلبونها بكل قوتهم، محتملين إيّاها بشجاعة، وبهذا يصيرون أحباء الله، ويحصلون على جعالة الحياة الأبدية، ويتغنى الرسول الطوباوي قائلاً: “أسرُّ بالضعفات والشتائِم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ” (2كو10:12).
4- هل يُفرض الشر على أحد؟
الاحتفاظ بهذا التمييز الواضح الثابت وتلك المعرفة، بأنه ليس شيئًا خيّرًا إلا الفضيلة وحدها، ولا يحسب شيء شريرًا سوى الخطية وحدها والانفصال عن الله، هذا يجعلنا ندرك بكل حرص: هل الله يسمح للشر أن يُفرض على قديسيه مباشرة، أو عن طريق آخرين؟ بالتأكيد لا يمكن أن يحدث هذا. إذ لا يفرض أحد شر الخطية على آخر قهرًا. إنما يحدث هذا خلال تراخيه أو شهوات قلبه الفاسدة.
لقد استخدم الشيطان كل حيله الشريرة ضد أيوب الطوباوي محاولاً أن يفرض عليه شر الخطية، فلم يقطع عنه فقط الاحتياجات الزمنية، بل وحاول أن يُرعبه بكل مصائب الحرمان التي لم تكن متوقعة، كموت أولاده السبعة، وإصابته بقروح مميتة، وعذابات لا تطاق من رأسه حتى أخمص قدميْه، لكن أيوب بقيَ في هذا كله ثابتًا غير مجدِّف.
5-كيف يُقال أن الله يخلق الشر؟
جرمانيوس: كثيرًا ما نقرأ في الكتاب المقدس أن الله خلق الشر وجلبه على البشر، كما جاء في هذه العبارة: “ليس غيري. أنا الرب وليس آخر. مصوّر النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشرّ” (إش 6:45،7). وأيضًا: “هل تحدث بليَّة في مدينةٍ والرب لم يصنعها؟” (عا 6:3).
6- ثيودور: اعتاد الكتاب المقدس أن يستخدم بعض التعبيرات في غير معناها الأصلي. فيستخدم كلمة “الشرور” عن “الأحزان والضيقات” ليس لأنها “شر” أو طبيعتها شريرة، بل لأن من تحلّ بهم هذه الأمور لأجل صالحهم يعتبرونها شرًا.
فحينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر، يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية. فالطبيب يقوم بقطع أو كيّ الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحتهم، ومع هذا يراه من لا يقدرون على احتماله أنه شر. والمنخاس أو السوط يكون مفيدًا للحصان الجموح. والتأديب يُعتبر مرًا بالنسبة للمؤدبين، إذ يقول الرسول: “ولكن كلُّ تأديبٍ في الحاضر لا يُرَى أنهُ للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدرَّبون بهِ ثمر بٍرّ للسلام” (عب11:12)، “الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابنٍ يقبلهُ فأيُّ ابنٍ لا يؤَدبهُ أبوهُ؟!” (عب6:12،7).
لذلك فقد أُعتاد أن تُقال كلمة “شرور” عوض “الحزن”، ذلك كما نقرأ: “فلما رأَي الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئَة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعهُ فلم يصنعهُ” (يون10:3)، وأيضًا: “لأنه رؤُوف رحيم بطيءُ الغضب وكثير الرأْفة ويندم على الشر” (يؤ13:2)، أي يندم على الضيقات والخسائر التي يسمح بها من أجل خطايانا.
إننا لا نستطيع أن نزعم بأن هذه الأمور شريرة في ذاتها، لأنها تعمل في كثيرين للخير، مقدمة لهم فرصًا للبركة الأبدية.
وبذلك فنحن نعود إلى السؤال الذي وجه إليّ: فأقول بأن كل هذه الأشياء التي قد جلبها علينا أعداؤنا ويظن أنها شر لا يمكن اعتبارها شرًا، بل هي في ذاتها ليست شرًا ولا خيرًا.
في النهاية نقول بأننا لا ننظر إلى هذه الأشياء حسبما يريد من صنعها أثناء ثورته وغضبه، إنما ننظر بالنسبة للذين يحتملونها. فإذا ما لحق قديس قتلاً، ينبغي علينا ألا نظن أنه قد لحقه شر، بل ما هو ليس بخيرٍ أو شرٍ، فيُعتبر شرًا بالنسبة للرجل الشرير، وراحة وتحريرًا من الشرور بالنسبة للصالحين.
7- سؤال لماذا يعتبر مجرمًا من يقتل إنسانًا ينتفع بالموت؟
جرمانيوس: حسنًا. إذا كان الرجل الصالح لا يحدث له شر بقتله، بل ينتفع من ذلك بحق، فكيف نستطيع أن نتهم الرجل الذي لم يصنع له ضررًا بل خيرًا بقتله؟!
8- ثيودور:
لا يجوز عدم معاقبة الشرير لأن فعله الشرير لم يستطع أن يؤذي الإنسان الصالح. فصبر الرجل الصالح واستقامته لا يفيدان من قام بقتله، إنما يفيده هو فقط إذ تحمل بصبر ما قد حل به. فبعدل يُعاقب الشرير عن قسوته ووحشيته من أجل نيته الشريرة، بينما لا يصيب الآخر شرًا لأجل قلبه إذ احتمل التجربة والألم بصبر، محولاً ما قد وقع عليه من شر ليكون لنفعه مساعدًا إياه في بركة الحياة الأبدية.
9-أمثلة:
إن صبر أيوب وانتفاعه بالتجارب التي بها ازداد صلاحًا لم ينتفع به الشيطان بل أيوب وحده لأنه احتمل بصبر. كذلك يهوذا لم يعفَ من العقاب الأبدي بسبب خيانته التي بها عاون على خلاص البشرية. يلزمنا ألا ننظر إلى نتيجة العمل بل هدف الفاعل.
لنتمسك بهذا متأكدين أنه لن يصيب أحد غيره شرًا، ما لم يتقبله الغير بالكسل والفتور. يؤكد الرسول الطوباوي هذا بقوله: “ونحن نعلم أن كل الأشياءِ تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو28:8). بقوله “كل الأشياءِ تعمل معًا للخير” تشمل كل الأمور على قدم المساواة، سواء الأمور المبهجة أو الأمور التي تبدو كأنها مصائب. ويخبرنا الرسول في موضع آخر أنه قد اختبر هذا وذلك بقوله: “بسلاح البرّ لليمين ولليسار” أي “بمجدٍ وهوانٍ بصيتٍ ردي وصيتٍ حسن. كمُضِلّين ونحن صادقون. كحزانى ونحن دائمًا فَرِحون. كفقراءَ ونحن نُغنِي كثيرين” (2كو7:6-10). دعى كل الأمور المبهجة “لليمين”، هذا ما أوضحه الرسول من عبارات “بمجد وبصيت حسن”، والأمور التي تبدو كمصائب أوضحها بقوله: “وهوانٍ وبصيتٍ ردي” هذه التي “لليسار”، كل هذه الأمور بالنسبة للرجل الكامل “سلاح برّ” وذلك لأنه متى حلت به وتحملها بشجاعة يكون كما كان مستخدماً إياه كسلاح قوي ولا يكون هو المُهاجم بها. يحتمي بها كسلاح وسيف وترس قوي ضد الذين يستخدمونها (لهلاكه) فيضمن فوائد صبره وصلاحه، نائلاً صبرًا عظيمًا لثباته، مستخدمًا نفس الأسلحة التي رشقه بها أعداؤه (الشياطين) لقتله.
إذا لم ينتفخ بنجاحه ولا ييأس بفشله، يكون بهذا سائرًا على الدوام باستقامة في الطريق الملوكي من غير أن ينحرف عن الهدوء، لا يمينًا حيث يشمله الفرح (منتفخاً)، ولا يسارًا حيث تكتنفه المصائب وتغمره الكآبة. بالنسبة للكاملين والحكماء يقال: “كل الأشياءِ تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو28:8). أما بالنسبة للضعفاء الأغبياء فقد قيل أن كل شيء ضد الشخص الغبي، فلا ينتفع من النجاح ولا ينصلح شأنه من المصائب. إذ ينهزم الإنسان بأكثر سهولة بالنجاح أكثر من الفشل، لأن الفشل يجعل الإنسان أحيانًا يقف ضد إرادته، وينال اتضاعًا، وخلال حزنه المفيد يقلّل من خطيته وينصلح شأنه. أما النجاح فقد يدفع بالإنسان إلى الكبرياء العقلي والعظمة الكاذبة.
10 – تشبيه الإنسان الكامل بالأشول
يشَّبه (الرجل الكامل) في الكتاب المقدس بالأشول، إذ وُصف أهود في سفر القضاة (15:3) بأنه يستخدم يده اليسرى كما لو كانت يمنى. ويمكننا أن ننال هذه القوة (أي تكون يدنا اليسرى قوية كاليمنى) باستخدامنا الأشياء السارة استخدامًا سليمًا ومفيدًا هذه التي هي “لليمين”، واستخدامنا الأشياء المؤلمة التي هي “لليسار” استخدامًا حسنًا “سلاحًا للبرّ” كقول الرسول.
الإنسان الداخلي له جانبان، أو بمعنى آخر “يدان”. فلا يستطيع أي قديس أن يعمل من غير أن يستعمل يده اليسرى، وبهذا يظهر كمال الفضيلة. الإنسان الماهر يستطيع أن يحوّل كلا يديه إلى “يدين يمينيتين”. ولكي نوضح ذلك نقول بأن القديس له يد يمينية للأعمال الروحية، وذلك بحصوله على الرغبات الصالحة والأهواء الحسنة بغيرة روحية، متحررًا من هجمات الشيطان بدون أي مجهود أو صعوبة في بغضه وقطعه للخطايا الجسدية، وعندما يكون مبتهجًا على الأرض، ناظرًا إلى الأمور الزمنية والأرضية كبخارٍ وظلٍ باطلٍ، مزدريًا بها كأمور زائلة. وبقلبه الفياض لا يشتاق بغيرة زائدة نحو الأمور العتيدة فحسب، بل بالحق يراها بوضوح، مقتادًا بالتأمل الروحي، مدركًا الأسرار بوضوح، ومقدمًا صلواته أمام الله بنقاوة واستعداد، ملتهبًا بغيرة روحية نحو العبور إلى الأمور غير المنظورة الأبدية، حتى يصعب الاعتقاد بأنه لا يزال باقيًا في الجسد.
ويكون للإنسان يد يسارية عندما يسقط في أشراك التجربة ويحترق بنيران الشهوة ويكون كما لو كان جالسًا على نيران بسبب التهيج والغضب، مغلوبًا من الكبرياء والافتخار، متضايقًا من الحزن العامل للموت، متزعزعًا نحو قطع الرجاء، مُهاجمًا بالفتور، فاقدًا كل دفء روحي، ناميًا في نوع من الفتور والغمّ الذي بلا سبب، حتى أنه ليس فقط تتركه الأفكار الصالحة، بل والترنم بالمزامير والصلاة والقراءة وينهزم من النوم، وتبدو كأن جميع التداريب قد فقدت طعمها بكراهية مريعة لا تطاق، فإذا ما اضطرب (الراهب) بهذه الناحية فليعلم أنه مهاجم من الجانب اليساري.
فإذ لا ينتفخ الإنسان بالكبرياء بسبب ما بلغه من الجانب الأيمن مما سبق ذكره، ويقاوم ببسالة الهجمات التي تأتيه من الجانب الأيسر من غير أن يترك مجالاً لليأس، ممسكًا بأسلحة الصبر متدربًا على الفضيلة، فإن هذا الرجل يكون مستخدمًا كلا يديه كيدين يمينيتين. فينال نصرة في كل عمل ويحصل على الجعالة بسبب الجانب الأيسر كما من الجانب الأيمن.
فإننا نقرأ عن المكافأة التي نالها الطوباوي أيوب والذي توج بالنصرة من الناحية اليمينية، لأنه إذ كان أبًا لسبعة بنين وكان غنيًا وصاحب ثروة طائلة كان يقدم كل يوم ذبائح لله لأجل تطهيرهم، وذلك لشغفه أن يكونوا مقبولين وأعزاء لدى الله أكثر منه. وكان يفتح بابه لكل غريب إذ كان: “عيونًا للعمي وأرجلاً للعُرج” (أي 15:29)، وكسى أكتاف التعابى بصوف غنمه. وكان أبًا للأيتام وزوجًا للأرامل، ولم يكن يفرح قط لسقوط عدوٍ له.
وقد بقي نفس الرجل في حياة الفضيلة بصورة أعظم عندما انتصر على المصائب من الناحية اليسارية، عندما أُخِذ منه أولاده السبعة في لحظة، فإنه كأب لم يتغلب عليه الحزن المرّ، بل كخادم حقيقي لله ابتهج بإرادة خالقه. وإذ صار فقيرًا بعدما كان صاحب ثروة، ومُعدمًا بعد أن كان غنيًا، وهزيلاً بعدما كان قويًا، ومؤدبًا ومرذولاً بعدما كان مشهورًا وصاحب شرف، في كل هذا احتفظ بثبات عقلة من غير أي اضطراب. وأخيرًا إذ تجرد من كل شيء جلس وسط الرماد وكان يحُك جسده بسبب ما أصابه، زافرًا بتنهدات حارة، ومع هذا لم يسقط في اليأس ولا جدف أو تذمر على خالقه.
أستطيع أيضًا أن أقول بأن يوسف كان أشولاً. ففي أفراحه كان عزيزًا جدًا عند والديه، محبًا لاخوته، مقبولاً لدى الله. وفى ضيقاته كان عفيفًا، مؤمناً بالله. في سجنه كان أكثر شفقة على المسجونين، متسامحًا مع المخطئين، صافحًا عن أعدائه (امرأة فوطيفار). وبالنسبة لاخوته الحاسدين له، فإنه بمقدار ما سقطوا تحت سلطانه إذ كان في إمكانه أن يقتلهم أثبت محبته لهم بل وسخاءه الحقيقي تجاههم.
إن هؤلاء الرجال وأمثالهم بحق يدعى كل منهم “أشولاً” إذ يقدرون أن يستخدموا كلا يديهم كأيد يمينية قائلين بحق: “بسلاح البرّ لليمين ولليسار. بمجدٍ وهوانٍ، بصيتٍ رديء وصيتٍ حسن الخ.” (2كو 7:6،8).
يتحدث سليمان في سفر نشيد الأناشيد عن اليد اليمنى واليد اليسرى في شخص العروس قائلاً: “شمالهُ تحت رأسي ويمينهُ تعانقني” (نش6:2). وبينما يظهر أن كليهما مفيد، إلا أنها تضع إحداهما تحت الرأس، لأنه ينبغي أن تخضع الضيقات لمراقبة القلب، فتصير نافعة لأنها تهذّبنا إلى حين، وتؤدبنا لأجل خلاصنا، وتهبنا الكمال في الصبر. أما اليمنى فتأمل أن تلتصق بها لكي ما تلاطفها، فتنال المعانقة المباركة التي للعريس، وفى النهاية تضمها إليه.
وهكذا يحسب كل منا أشولاً عندما لا يؤثر فينا الرخاء ولا العوز. فلا يغوينا الرخاء، ولا يدفع بنا نحو الإهمال الخطير، كذلك لا يجذبنا العوز إلى اليأس والشكوى (التذمر)، بل نقدم الشكر لله في كل شيء.
وقد أظهر الرجل الأشول، معلم الأمم، أنه هو نفسه كان هكذا بقوله: “فإني قد تعلَّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيهِ. أعرف أن أتَّضع وأعرف أيضًا أن استفضل. في كل شيءٍ وفى جميع الأشياءِ قد تدرَّبت أن أشبع وأن أجوع وأن استفضل وأن أنقص. أستطيع كل شيءٍ في المسيح يسوع الذي يقوّيني” (في11:4-13).
11- لماذا يسمح الله بالتجربة؟
ينبغي علينا أن نعرف أن البشر جميعًا يجرّبون لأسباب ثلاثة:
(أ) غالبًا لأجل اختبارهم (تزكيتهم).
(ب) وأحيانًا لأجل إصلاحهم.
(ج) وفى بعض الحالات بسبب خطاياهم.
1- فمن أجل اختبارهم، كما نقرأ عن الطوباويين إبراهيم وأيوب وكثير من القديسين الذين تحملوا تجارب بلا حصر.
2- ومن أجل الإصلاح، وذلك عندما يؤدب أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، ولكي ما يسمو بهم إلى حال أعظم من النقاء، منقيًا إياهم من الأفكار الدنسة، وذلك كالقول: “كثيرة هي بلايا الصديق” (مز19:34)، “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولاتَخُرْ إذا وبَّخك. لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابنٍ يقبلهُ فأيُّ ابنٍ لا يؤَدبهُ أبوهُ. ولكن إن كنتم بلا تأْديبٍ قد صار الجميع شركاءَ فيهِ فأنتم نغول (أي أولاد زنا) لا بنون” (عب5:12-8). وفى سفر الرؤيا: “إني كلُّ من أحبهُ أوبّخهُ وأؤَدّبهُ” (رؤ19:3). ويصلي داود من أجل عطية التطهير هذه قائلاً: “جرّبني يا ربُّ وامتحنّي. صفِّ كليتيَّ وقلبي” (مز2:26). وإذ يعلم النبي قيمة هذه التجارب يقول: “أدِّبنْي يا رب ولكن بالحق لا بغضبك” (إر24:10)، وأيضًا “أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليّ ارتد غضبك فتعزيني” (إش1:12).
3- كعقاب من أجل الخطية وذلك كما هدّد الله بأن يُرسل أوبئة على بني إسرائيل (لشرهم) “أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَة زواحف الأرض” (تث24:32). وأيضًا في المزامير: “كثيرة هي نكبات الشرير” (مز10:32)، وفي الإنجيل جاء: “ها أنت قد بَرِئْت. فلا تخطئْ أيضًا لئَلاَّ يكون لك أَشَرُّ” (يو14:5).
4-بالحقيقة أيضًا نجد سببًا رابعًا ذكره الكتاب المقدس، وهي أن الأتعاب تُجلب علينا ببساطة من أجل إظهار مجد الله وأعماله، وذلك كقول الإنجيل: “لا هذا أخطأَ ولا أبواهُ لكن لتظهر أعمال الله فيهِ” (يو3:9). وأيضًا “هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله بهِ” (يو4:11).
5- وهناك أنواع أخرى للنقمات التي يُبتلي بها الذين تجاوزوا رباطات الشر في حياتهم (وبالغوا فيه)، إذ نقرأ عن داثان وأبيرام وقورح الذين عوقبوا، وعن الذين يقول عنهم الرسول: “أسلمهم إلى أهواءِ الهوان إلى ذهنٍ مرفوض” (رو 26:1، 28). وهذه تعتبر أمرّ كل عقاب لأنهم صاروا غير مستأهلين لأن يشفوا بالافتقاد الإلهي واهب الحياة، إذ “هم قد فقدوا الحسَّ أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسةٍ في الطمع” (أف19:4). وبسبب قسوة قلوبهم والتمادي في عادتهم وفعلهم للشر قد صار لهم عقاب في هذا العالم من غير تطهير. وتعيّرهم الكلمة المقدسة التي نطق بها النبي قائلاً: “قلبتُ بعضكم كما قلب الله سدوم وعمورة فصرتم كشعلةٍ مُنتَشَلة من الحريق فلم ترجعوا إليَّ يقول الرب” (عا 11:4). ويقول ارميا: “أثكل وأبيد شعبي. ولم يرجعوا عن طرقهم” (إر 7:15). وأيضًا “ضربتهم فلم يتوجعوا. أفنيتهم وأبوا قبول التأديب. صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر. أبوا الرجوع” (إر3:5). فيرى النبي أن كل أدوية هذه الحياة لم تُجدِ نفعًا لشفائهم، معلنًا أنه قد يئس من حياتهم، قائلاً: “احترق المِنفاخ من النار، فني الرصاص. باطلاً صاغ الصائغ والأشرار لا يُفرَزون. فضةً مرفوضةً يُدعَون. لأن الرب قد رفضهم” (إر 29:6، 30).
ينوح الله عليهم لأنه قدّم لهم التطهير بالنار فلم ينتفعوا، متصلبين في خطاياهم. فيبكيهم في شخص أورشليم التي تغلفت بالصدأ إذ يقول: “ضعها فارغةً على الجمر ليحمي نحاسها ويُحرَق، فيذوب قذرها فيها، ويفنى زنجارها. بمشقَّاتٍ تعبت، ولم تخرج منها كثرة زنجارها. في النار زنجارها. في نجاستكِ رذيلة لأني طهَّرتكِ فلم تطهري ولن تطهري بعدُ من نجاستكِ” (حز11:24 –13).
إنه يشبه الطبيب الحاذق الذي استخدم كل وسائل الشفاء ولم يعد بعد هناك علاج يمكن أن يُستخدم. لقد غُلب اللّه من ظلمهم، ويُجبر على الكف عن تأديباته الرقيقة، فاضحًا إياهم قائلاً: “وأُحِلَّ غضبي بكِ فتنصرف غيرتي عنكِ فأسكن ولا أغضب بعدُ” (حز42:16).
12-ثبات الإنسان المستقيم
ينبغي للإنسان المستقيم ألا يكون عقله مثل الشمع أو أي مادة رخوة فيسهل تشكيله بما يُضغط عليه، فيُختم آخذًا شكل الختم إلى أن يأخذ شكلاً آخر عندما يُختم بختم آخر. وبهذا لا يبقى ثابتًا على شكله، بل يتغير ويتشكل متأثرًا بما يُضغط عليه. إنما يلزم أن يكون كالختم الحديدي الصلب، فيحتفظ العقل على الدوام بصلاحه وطهارته، خاتمًا شكله على كل شيء، مظهرًا علاماته عليها. وبهذا فإنه مهما حدث من الأمور لا تنزع عنه علاماته.
13-جرمانيوس: ولكن هل يستطيع عقلنا أن يحتفظ بحاله على الدوام بدون تغيير؟
14- ثيؤدور: إننا نحتاج إلى ما يقوله الرسول: “وتتجدَّدوا بروح ذهنكم” (أف 23:4)، إلي التقدم الروحي فـ “أنسى ما هو وراءُ” (في 13:3). فإن تغاضى الإنسان عن فعل ذلك تكون النتيجة الحتمية هي النكوص والتقهقر من سيئ إلى أسوأ.
لا يمكن للعقل أن يبقى على حالٍ واحدٍ. فكما أن الإنسان الذي يجدف بقوة يحاول أن يقاوم بسفينته ضد العاصفة القوية، مقتحمًا التيار بقوة ذراعيه، وبهذا يمتد إلى ما هو قدام، أما إذا تراخى بيديه فإن سفينته تدور بسرعة تحت قوة العاصفة، هكذا يصير فشلنا واضحًا إن كنا لا نكتسب شيئًا إضافيًا، لأنه بغير شكٍ نتراجع إلى الوراء عندما نكون غير متقدمين إلى الأمام. وكما قلت إن العقل البشري لا يستطيع أن يبقى على حاله، إذ لا يستطيع أي قديس أن يصل إلى مرتفعات كل الفضائل مادام باقيًا في الجسد حتى يبقى بدون تغيير. فإما أن يضيف شيئًا أو يفقد شيئًا. إننا نعترف بأن الله وحده هو غير المتغير، فيصلي إليه النبي الطوباوي قائلاً: “ولكن أنت، أنت، وسنوك لن تفنى”(عب 12:1). ويقول الله عن نفسه: “أنا الرب لا أتغيَّر” (مل 6:3). لأنه هو وحده الذي بطبيعته صالح على الدوام وكلي الصلاح ولا يمكن أن يُضاف أو ينقص منه شيء.
لهذا يلزمنا أن نخضع لمطالب الفضيلة بعناية فائقة وشوق، وأن نشغل أنفسنا بعملها، لأنه كما قلنا أن العقل لا يقدر أن يبقى على حال واحد، أي لا يمكن أن يبقى من غير أن يُضاف أو تقل منه صفاته الحسنة. فالفشل في اقتناء صفات جديدة يعني وجود خسارة. وإذ تبطل الرغبة في التقدم يوجد خطر التقهقر إلى الوراء.
15- القوات السمائية يمكن أن تتغير
حتى القوات العلوية كما قلنا تخضع للتغير، ويظهر هذا من الذين سقطوا من رتبتهم بسبب خطأ إرادتهم الفاسدة. لذلك ينبغي علينا ألا نظن أن طبيعتهم غير قابلة للتغير هؤلاء الذين بقوا في حالة مباركة كما خلقوا عليها ببساطة.
فبالأولى يلزمنا نحن أن نحفظ بحرص ما يمكن أن نفقده بالإهمال، إذ مكتوب: “لا تغبط (لا تمدح) أحدًا قبل موته” (يشوع بن سيراخ30:11). فإنه طالما الإنسان في حالة جهاد يبقى في موقف مصارع. ليست فضيلة ما يمكن للإنسان أن ينالها بدون احتمال التغيير، فإذا ما نالها يجب عليه أن يحافظ عليها دائما ويراعيها بنفس العناية والسهر اللذين طلبها بهما.
16- لا يحدث السقوط فجأة
ينبغي ألا نظن بأن إنسانًا ما يزل وينزل إلى الغم بسقطة مفاجئة، إنما ينحدر إلى سقطة ميئوس منها، إما عن طريق خداعه منذ البداية أثناء تدربه ببداية خاطئة، أو يزل من حالته الروحية الحسنة تدريجيًا خلال فترة طويلة بسبب الإهمال العقلي، فتزداد الأخطاء قليلاً. لأن “قبل الكسر الكبرياءُ، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم 18:16). ذلك كالمنزل الذي لا يسقط فجأة دفعة واحدة بل يحدث بعض الخلل في الأساس لفترة طويلة، أو يحدث نتيجة إهمال ساكنيه لمدة طويلة، فيحدث بعض (الرشح أو الخلل) وبعد هذا تنهار الحوائط المحصّنة تدريجيًا. لأنه “بالكسل الكثير يهبط السقف وبتدلّي اليدين يَكِفُ البيت” (جا 18:10)، هذا أيضًا ما يحدث للروح.
إذ سمعنا ذلك تنعمنا بوليمة روحية، حتى فاق السرور الذي ملأَنا بهذه المناظرة الحزن الذي كنا فيه بسبب موت القديسين. فإننا لم نتعلم فقط بخصوص الأمور التي كنا في حيرة من جهتها بل وتعلمنا من سؤالنا هذا أمورًا أخرى لم نكن قد سألنا عنها.
ملخص المبادئ
– لا يجازي الله الأبرار بالبركات الزمنية، ولا يعاقب الأشرار بالضيقات هنا، إنما نصيبنا هو الرب ورجاؤنا هو الحياة الأبدية.
– ما يصيب الأبرار هنا من شر هو في الحقيقة ليس شرًا، لأن الشر هو الخطية التي تفصلنا عن الله، والخير هو الفضيلة التي تقربنا الله.
– بالنسبة للمؤمن الحقيقي، جميع الأمور تعمل معًا للخير، فهو الرجل الأشول الذي يستخدم يده اليسرى كأنها يمنى.
(أ) يستخدم الأفراح وتمتعه بالبركات الزمنية كيد يمنى بها يشكر الله ويسبحه، ويستخدم الأحزان والضيقات كيد يسرى بها يحتمل بصبر شاكرًا الله.
(ب) في حالة التعزية الروحية والفرح – كيدٍّ يمنى – يتعبد لله بغيرة واشتياق. وفى حالة الفتور الروحي – كيد يسرى – لا يكف عن المثابرة والجهاد من أجل محبته للرب.
– يخسر الإنسان الغبي في الرخاء والتمتع بالبركات الزمنية أكثر مما يخسره في حالة الأحزان والآلام.
– يسمح الله لأولاده فترات فتور روحي لكي يتعبدوا ويثابروا رغم فتورهم، فينالوا النصرة من الناحية اليسارية.
– يسمح الله بالتجارب إما لتزكية المؤمن، أو لأجل تنقيته، أو كتأديب، أو لأجل تمجيد الله. وأحيانًا يسمح بها نتيجة تخليه عن الإنسان الشرير بسبب إصراره على الشر.
– الله وحده غير متغير، لأن صلاحه لا عن جهاد أو مكتسب، بل هو كلي الصلاح بطبعه، أما الإنسان فهو دائم التغير، لأنه مهما بلغت قداسته وصلاحه لا يصل إلى كمال الصلاح غير المحدود، لهذا لا يبقى في حالة ثابتة. بهذا إن لم يتقدم في حياة الفضيلة حتمًا يتقهقر.
_____________________________________
[1] العنوان الأصلي: “موت القديسين”.
المناظرة السابعة
تشتيت الفكر وضبطه وهل للشيطان سلطان علينا؟ – للأب سيرينوس
1- مقدمة
إذ نرغب في تقديم الأب سيرينوس لأصحاب العقول الغيورة للغاية، هذا الرجل العظيم في قداسته وعفته، إجابته هي مرآة لاسمه. إننا نعجب منه في أمور كثيرة… فبجانب كل الفضائل التي تتلألأ فيه، لا من جهة أعماله وأخلاقه الظاهرة فحسب، بل ونعمة الله الظاهرة في هيئته أيضًا، فقد وهبت له نعمة خاصة هي عطية “العفة”، فلم يكن يشعر قط باضطراب حتى بالنسبة للانفعالات الطبيعية أثناء النوم.
ينبغي لي أولاً أن أشرح كيف حصل علي نقاوة الجسد العجيبة بمساعدة النعمة الإلهية بطريقة تبدو أسمى من الحالة الطبيعية التي للبشرية.
2- عفة سيرينوس
كان ذلك الرجل في صلواته النهارية والليلية وأصوامه وسهره يطلب بدون كلل العفة الداخلية التي للقلب والروح. وقد نال ما كان يشتهيه ويصلي من أجله، فماتت أهواء الشهوة الجسدية في قلبه. هذا مع شعوره بلذة النقاوة، واشتياقه الحار للعفة…
باختباره للعطية التي حصل عليها أدرك أنه قد صارت له حصانة، لا باستحقاقات أعماله، بل حسب النعمة الإلهية، فصار يطلب العفة بأكثر غيرة، مجاهدًا… إذ كان يعتقد بأن الله قادر أن يقتلع بسهولة جذور الشهوات الجسدية… لأن نقاوة الروح، التي هي أعظم شيء، تُعطى هبة من قبل الله حسب إرادته.
إذ كان يصلي ملتمسًا بدموع، مثابرًا من أجل طلبته الأولى، ظهر له ملاك في رؤيا الليل، وكأنه قد فتح بطنه ونزع عنه الانفعالات الجسدية النارية، وقذف بها خارجًا، وأعادها كما كانت، ثم قال له: “هوذا قد أزيلت عنك انفعالات جسدك، ويلزمك اليوم أن تتأكد بأنك قد نلت نقاوة الجسد الكاملة التي سألت من أجلها بإيمان”.
يكفي أن أخبركم بإيجاز عن هذه النعمة الإلهية التي وُهبت لهذا الرجل بهذه الطريقة الخاصة. وأظن إنه ليس هناك حاجة أن أتحدث عن بقية فضائله…
إذ كنا مشتاقين بغيرة قوية لمناقشته والتعلّم منه زرناه في الصوم الكبير، وسألناه بهدوء عن أحوال أفكارنا وعن إنساننا الداخلي، وعما قمنا به خلال الفترة الطويلة التي قضيناها في البرية من أجل نقاوة إنساننا الداخلي، حينئذ قدمنا له هذه الشكوى.
3- سؤال بخصوص ضبط الفكر
إنك تظن أننا نلنا كمال إنساننا الداخلي في هذه الفترة الذي قضيناها هنا في الوحدة والتأمل، لكن حدث الآتي: لقد تعلمنا الأمور التي لا نستطيع أن نفعلها لا ما ينبغي أن نحاول فعله. بهذه المعرفة لم نشعر أننا حصلنا علي أي ثبات في النقاوة التي نشتاق إليها، أو أية قوة وحزم، بل صار فينا خوف… بالرغم من تأملنا في أهداف نظامنا خلال دراستنا اليومية، واجتهادنا في الوصول من البداية إلى النقاوة الثابتة الأكيدة… وبدأنا نعرف بعض الأمور التي كنا نفهمها بمفاهيم خاطئة أو نجهلها تمامًا، وتقدمنا بخطوات ثابتة نحو ذلك النظام، متدربين عليه بكمال بدون أية صعوبة.
بالرغم من جهادي في هذه الرغبة نحو النقاوة لم أعرف بعد ما أستطيع أن أكون عليه… لهذا أشعر باضطراب، حتى أن دموعي لم تتوقف قط، ومع هذا لم أكف عن ما لا ينبغي أن أكون عليه.
ما الفائدة من تعلم ما هو الأفضل مادمت لا أقدر أن أناله حتى إن عرفته؟
إننا إذ نشعر بأن هدف قلبنا قد انحرف عن الغرض. تمر بنا الأفكار العجيبة السابقة لاشعوريًا وتندفع بأكثر شدة ويصير الذهن في ذهول دائم، أسيرًا لأمور كثيرة، حتى أننا غالبًا ما نيأس من الإصلاح الذي نتوق إليه، وكأن كل هذا الاهتمام بلا جدوى. وإذ نستيقظ ونكتشف تيه الذهن عن غرضه الموضوع أمامه، ونرغب في استعادته إلى التأمل الروحي الذي ضل عنه، ونربطه بسرعة بالغرض القلبي الثابت، سرعان ما ينسحب من مخادع القلب أسرع من الحيّة.
إذ نلتهب بالتداريب اليومية لا نرى أننا كسبنا أية قوة أو ثبات قلبي فنُغلب باليأس، ونضل بهذه الفكرة، وهي الاعتقاد بأن الخطأ ليس منا بل من طبيعتنا وأن الضلال هو من الطبيعة البشرية.
4- لا نلم الطبع البشري في ذاته
سيرينوس: من الخطر أن نسرع إلى هذه النتيجة، ملقين اللوم علي الطبيعة (البشرية) دون أن نناقش الموضوع بإتقان… فيلزمك ألا تحكم حسب ضعفك، إنما بناء علي قيمة التداريب ومنهجها واختبار الآخرين لها. فإن أي إنسان يجهل السباحة إذ يعلم أن وزن الجسد لا يمكن أن يحمله الماء ويرغب في البرهان علي ما قدمته له خبرته الخاصة قائلاً بأنه لا يمكن لأي جسم صلب أن يُحمل بسهولة علي سائل، فلا نصدق رأيه المبني علي خبرته الشخصية.
هكذا بحسب الطبيعة لا يمكن للعقل أن يكون خاملاً… بل لديه علي الدوام ما يشغله، وبسبب ثقله يضل ويتوه في أمور كثيرة ما لم يمارس التداريب اليومية الطويلة، هذه التي تقول عنها أنك تعبت فيها بلا جدوى. هذا يتطلب الجهاد بمثابرة لضبط الفكر، محاولاً ومتعلمًا أن تقدم للذاكرة القوت الضروري (أي الأفكار الصالحة عوض الأخرى)، ويمكننا بسهولة طرد أفكار العدو (الشيطان) المُعادية التي تشتت فكرنا، وبالتالي نبلغ الحياة التي نشتاق إليها.
يلزمنا ألا ننسب الانحراف في تيه القلب إلى الطبيعة البشرية أو خالقها، فإنه بالحق يقول الكتاب المقدس “إن الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا 29:7). اختلاف الأفكار يتوقف علينا نحن، لأن الفكر الصالح يقترب من الذين يعرفونه والإنسان العاقل يجده. فأي أمر يخضع لتمييزنا وعملنا يمكننا أن نصل إليه، فإذا لم نبلغه يرجع هذا إلى كسلنا وإهمالنا لا إلى خطأ في طبيعتنا.
لو لم يكن هذا الأمر في قدرتنا لما وبّخ الرب الفرّيسيّين قائلاً: “لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم؟” (مت 4:9). ولمَا كلف النبي ليقول: “اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ” (إش 16:1)، “إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!” (إر 14:4)، ولما كان لنوع أفكارنا اعتبار في يوم الدينونة إذ يهدد الله بواسطة إشعياء قائلاً: “وأنا أجازي أعمالهم وأفكارهم” (إش66: 18). فما كان من الصواب أن نجازي أو نعاقب حسب شهادة أفكارنا في ذلك الامتحان الرهيب المميت، إذ يقول الرسول المبارك: “شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي” (رو 15:2،16).
5- سلطاننا على الفكر
ورد في الإنجيل مثال ممتاز بخصوص الكمال العقلي وذلك في حالة قائد المائة، هذا الذي لم تكن فضيلته بفكر مندفع (إلزامي) إنما بإرادته كان يقبل الفكر الصالح أو يطرد الفكر الشرير بسهولة. وقد جاء ذلك في الصورة التالية: “لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطانٍ. لي جند تحت يدي. أقول لهذا اذهب فيذهب، ولآخر إئْتِ فيأَتي ولعبدي افعل هذا فيفعل” (مت9:8).
إذا ما جاهدنا كبشر ضد الاضطرابات والخطايا، تصير هذه تحت سلطاننا وِفق إرادتنا، فنحارب أهواء جسدنا ونهلكها ونأسرها تحت سلطاننا، ونطرد من صدرنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المائة روحيًا.
يُرمز (سلطاننا علي الفكر) بموسى في سفر الخروج إذ قيل: “وتقيمهم عليهم رؤَساءَ ألوفٍ ورؤَساءَ مئَاتٍ ورؤَساءَ خماسين ورؤَساءَ عشرات” (خر21:18). ونحن أيضًا إذ نبلغ إلى مرتفعات هذا الجهاد يكون لنا نفس الحق والسلطان، فلا تحملنا الأفكار بغير إرادتنا، بل في استطاعتنا أن نستمر في الارتفاع ونمسك بتلك الأفكار التي تبهجنا روحيًا، آمرين الأفكار الشيطانية أن ترحل عنّا فترحل. فنقول للأفكار الصالحة إئْتِِ فتأتي، وأيضا لعبدي هذا أي الجسد الذي لنا أن ينتمي إلى العفة والطهارة فيخدمنا بغير مقاومة، من غير أن تثور فينا انفعالات الشهوة، بل يظهر كل ما يوافق الروح.
أما ما هي أنواع الأسلحة التي لقائد المائة هذا؟ وفي أي حرب نستخدمها؟ فلنسمع ما يقوله الرسول الطوباوي: “إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية (روحية وليست ضعيفة) بل قادرة بالله على هدم حصونٍ” (2كو4:10). وأما بالنسبة للحروب التي نستخدمها فيها فيقول: “هادمين ظنونًا وكلَّ علوٍ يرتفع ضدَّ معرفة الله، ومستأْسرين كل فكرِ إلى طاعة المسيح، ومستعدين لأن ننتقم علي كلّ عصيان متى كملت طاعتكُم ” (2كو5:10،6).
إنني أريدك أن ترى أنواع الأسلحة المختلفة وصفاتها، إذ ينبغي علينا إن أردنا أن نحارب في المعركة الإلهية ضد الشيطان ونُحسب بين قوّاد المئات (الروحيين) الذين للإنجيل أن نتمنطق بها علي الدوام.
يقول الإنجيل: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف6: 16). الإيمان هو الذي يوقف سهام الشهوة الشريرة ويهلكها بالخوف من الدينونة والإيمان بملكوت السموات.
ويقول أيضًا: “درع الإيمان والمحبَّة” (1تس5: 8). المحبة في الواقع هي التي تحيط بالمناطق الحيوية للصدر فتحميه من تعرضه لجراحات الأفكار المتزايدة المهلكة وتحفظه من الضربات الموجهة ضده ولا تسمح لسهام الشرير أن تتعمق إلى الإنسان الداخلي، لأن المحبة “تحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر علي كل شيء” (1كو13: 7).
“وخُوذةً هي رجاءُ الخلاص” (1تس5: 8). والخوذة هي ما تحمي الرأس. المسيح هو رأسنا لذلك ينبغي علينا في التجارب أن نحمي رأسنا برجاء الأمور الصالحة المقبلة، وعلي وجه الخصوص أن نحفظ الإيمان كاملاً وطاهرًا. فمتى فُقد أيّ أحد جزء من الجسد يصير ضعيفًا، لكنه يمكن أن يعيش، إنما لا يستطيع أن يحيا ولا فترة قصيرة بغير الرأس.
“وسيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف17:6) لأنه “أَمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونيَّاتهِ” (عب12:4). هكذا نقطع ما فينا مما هو أرضي وجسدي بواسطة هذه الأسلحة التي نستخدمها في دفاعنا ضد أسلحة العدو (الشيطان والخطية) وإتلافه، بهذا لا يصير أحد منّا مربوطًا بسلاسل مضايقته، أسيرًا ومسجونًا في أرض الأفكار الباطلة، ولا يسمع كلمات النبي: “لماذا يا إسرائيل لماذا أنت في أرض الأعداء” (با10:3). إنما يبقى كمُحارب منتصر في أرض الأفكار التي اختارها.
هل فهمتم أيضًا قوة قائد المائة وشجاعته إذ يحمل هذه الأسلحة التي تحدثنا عنها بأنها ليست جسدية بل روحية قادرة بالله؟ اسمع ما يقوله الملك (الله) نفسه مستصوبًا الرجال الشجعان، مستدعيًا إيّاهم إلى الحرب الروحية (ضد الخطية) قائلاً: “ليقل الضعيف إني قوي”. فلا يحارب في المعركة الإلهية إلا الضعفاء “لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ” (2كو10:12). وأيضًا: “لأن قوَّتي في الضعف تُكَمل” (2كو9:12). فالمجاهد الصبور سيحارب بالصبر الذي قيل عنه: “لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئَة الله تنالون الوعد” (عب36:10).
6- لنثابر مقتربين من الله ومجاهدين
بحسب خبرتنا نستطيع بالتمسك بالله إماتة إرادتنا وقطع شهوات هذا العالم، ونتعلم من أولئك الذين في علاقتهم بالله يقولون بكل إيمان: “التصقت نفسي بك” (مز 8:63)، “لصقتُ بشهادتك. يا رب لا تخزِني” (مز 31:119)، “أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي” (مز 28:73)، فعلينا ألا نكل بسبب تشتت العقل والتراخي لأن “المشتغل بأرضهِ يشبع خبزًا وتابع البطالين يشبع فقرًا” (أم 19:28).
يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير لأن “الآن ملكوت الله يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ” (مت 12:11). فلا يمكن نوال فضيلة بغير جهاد، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن “الإنسان مولود للمشقَّة” (أي 7:5). ومن أجل الوصول “إلى إنسانٍ كامل. إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف 13:4) يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لانهائية.
لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى ملء هذا القياس إنما من يأخذ هذا القياس في اعتباره مقدمًا ويتدرب عليه من الآن، ويتذوقه هنا في العالم، تكون له علامة العضوية الثمينة للمسيح، ويملك وهو في هذا الجسد على عربون هذا الاتحاد الكامل بجسد المسيح ويكون له اشتياق وعطش إلى أمر واحد جاعلاً ليس فقط أعماله بل وأفكاره متجهة إلى أمر واحد وهو أن يحفظ الآن وعلى الدوام عربون الحياة المقبلة الطوباوية التي للقديسين أي أن “يكون الله الكل في الكل” (1 كو 28:15).
7- سؤال بخصوص شدة هجوم الأفكار الشريرة
جرمانيوس: لنفرض إنه قد أحاط بنا طوفان ذلك الميل العقلي أما يحيط بنا حشد عظيم من الأعداء فيتوجهون إلينا بقوة لا نهائية تُضاد رغبتنا، أو بالأحرى بسبب جولان هذه الأفكار ينسحب عقلنا نحوها؟ وحيث أن عددًا لا نهائيًا من الأعداء (الأفكار الشريرة) المخيفين يحيطون بالعقل ألا نظن إنه من الممكن لهم أن يقاوموا عقلنا وخاصة بسبب ضعف جسدنا؟!
8- سيرينوس:
لا يقدر أحد ممن اختبر صراع إنسانه الداخلي أن يشك في سهر أعدائنا (الأفكار الشريرة) علي الدوام ضدّنا وهم يعارضون تقدّمنا. إذ يحثّوننا علي صنع الشر، لكنهم لا يجبروننا عليه، فنظن أنه لا يقدر الإنسان أن يتجنب الخطية التي يحرّضوننا عليها بل يطيعها في قلبه متى كان الحافز قويًا، فيجبروننا على الخطية وليس فقط يقترحونها علينا. لكن إذ لديهم قوة كبيرة في الإثارة، فنحن أيضًا لدينا معونة من النعمة الإلهية، وحرية في عدم القبول. فإن كنّا نخشى قوتهم وهجومهم يمكننا أيضًا أن نطلب الحماية والعناية الإلهية ضدهم، لأن الذي فينا أعظم من الذي في العالم (ا يو 4:4).
عناية الله تحارب في صفِّنا بقوة أعظم من حرب النزلاء ضدّنا لأن الله ليس فقط يقترح علينا الخير بل هو يعضّد عقولنا ويسندها، حتى أنه في بعض الأحيان يجذب قلوبنا نحو الخلاص رغم إرادتنا (إذا طلبناه) وبغير معرفتنا.
لا ينخدع أحد من الشيطان إلا الذي أراد أن يستسلم له برضاه، وذلك كما يقول سفر الجامعة “لأن القضاءَ علي العمل الرديءِ لا يُجرَي سريعًا فلذلك قد امتلأَ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر” (جا 11:8). لقد ظهر بوضوح أن كل إنسان يسير في الشر متى هاجمته الأفكار الشيطانية، ولا يقابلها في الحال بالرفض والمعارضة. لذلك يقول الرسول: “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يع7:4).
9- سؤال بخصوص اتحاد النفس مع الأرواح الشريرة
جرمانيوس: ما التمسته منك هو بخصوص اتحاد الروح الإنسانية مع الأرواح الشريرة، إذ تكون الأرواح متحدة بها بطريقة تقدر أن تتحدث خلالها وتجد لها فيها سبيلاً، تقترح عليها ما تريده، تثيرها حسبما ترغب، وتتطلع إليها مراقبة أفكارها وحركاتها. وتكون النتيجة هي توطيد الاتحاد بينها وبين الروح، حتى يصير – بدون النعمة الإلهية – مستحيلاً التمييز بين ما هو نتيجة لتحريض الأرواح وما هو من عمل إرادتها.
10- سيرينوس:
ليس عجيبًا أن تتصل روح بروح بغير تفرقة وأن تعمل بقوة إغراء خفيّة حسبما ترغب فيه. (فكما يحدث بين البشر) هكذا بينهما شيء من الشبه والعلاقة… ولكن يستحيل أن تستقر الأرواح داخلنا أو تتحد معنا بطريقة تتمكن منّا، لأن هذا من حق الله وحده الذي يسيطر علينا بطبيعته الروحية.
11- جرمانيوس: هذه الفكرة نجدها تُنقض تمامًا في حالة المأسورين من الأرواح الشريرة، إذ ينطقون ويعملون تحت تأثير الشيطان… وهم لا يعبِّرون عن كلماتهم وأعمالهم ورغباتهم بل ما هو للشياطين.
12- سيرينوس: إن ما تتحدث عنه لا يتعارض مع ما نقوله، أي أن هؤلاء الذين قد امتلكتهم الأرواح النجسة يقولون ويفعلون ما لا يرغبون ويُلزمون بالتفوه بما لا يعرفونه. فالبعض يتأثر بالأرواح النجسة بطريقة ما حتى إنه لا يكون لديهم أدنى إدراك لما يعملونه ويقولونه، والبعض يدرك ذلك و يتذكره. لكن يلزمنا ألا نتصور بأن هذا يحدث بطريقة فيها ينسكب الروح النجس خلال مادة الروح (الإنسانية) وتصير متحدة معها وملتصقة بها فينطقون بكلمات وأقوال خلال فمهم… فلا يحدث هذا نتيجة لفقدان الروح (خلال الروح النجس) بل بسبب ضعف الجسد، فيلقي الروح النجس القبض على هذه الأعضاء ويسكن فيها ويلقي عليها ثقلاً غير محتمل، مسيطرًا عليها بظلامه الدامس، ويتدخل بقوته، وذلك كما يحدث في حالة السكر والحمى والبرد الشديد.
ليس للروح النجس سلطان علي البشر، هذا يظهر عند صراعه ضدّ أيوب الطوباوي فقدْ أخذ السلطان علي جسده من قبل الرب، إذ قال له: “ها هو في يدك ولكن احفظ نفسهُ” (أي 6:2). أيّ لا تُضعف روحه وتجعله مجنونًا وتتسلط علي ذاكرته وعقله خانقًا قوته الداخلية.
13- لا تتحد روحنا إلا بالله وحده
الثالوث القدوس وحده لديه الإمكانية أن يخترق كل طبيعة عقلية، ليس فقط يعانقها ويلتف حولها بل ويدخل فيها…
فبالرغم من تمسّكنا بوجود بعض الطبائع الروحانية مثل الملائكة ورؤساء الملائكة والطغمات الأخرى وأيضًا أرواحنا… إلا أنه ينبغي علينا ألا نعتبر هذه الطبائع غير مادية incorporeal إذ لها جسمتعيش به أخف بكثير مما لجسدنا وذلك كقول الرسول “وأجسام سموَّية وأجسام أرضيَّة” (1كو40:15)، وأيضًا “يُزرَع جسمًا حيوانيًّا natural ويُقام جسمًا روحانيًّا” (1كو44:15). وبهذا يظهر أنه لا يوجد شيء غير جسمي إلا الله وحده.
هو وحده يمكن أن يخترق كل مادة روحية وعقلية، لأنه هو وحده الكامل والموجود في كل شيء، يرى أفكار البشر وحركاتهم الداخلية وكل خبايا أرواحهم، وعنه وحده يتحدث الرسول الطوباوي قائلاً: “لأن كلمة الله حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمِخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونيَّاتهِ. وليست خليقة غير ظاهرة قدَّامهُ، بل كل شيءٍ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معهُ أمرنا” (عب12:4،13). ويقول الطوباوي داود “المصوّر قلوبهم جميعًا” (مز15:33) وأيضًا “لأنهُ هو يعرف خفيات القلب” (مز21:44). “لأنك أنت وحدك تعرف قلوب بني البشر” (2اي30:6).
14- جرمانيوس: بحديثك هذا تجعل الأرواح عاجزة عن معرفة أفكارنا. ومن العبث أن نأخذ بهذه الفكرة إذ يقول الكتاب المقدس “إن صعدَتْ عليك روح المتسلط” (جا4:10)، وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يسلمه (يو13)، فكيف يمكننا بعد أن نعتقد بأن أفكارنا غير مكشوفة لها عندما نشعر بأن النصيب الأكبر منها ينبعث من اقتراحات الشيطان وتحريضه ويتبناها؟
15-عدم قدرة الأرواح الشريرة علي معرفة أفكار البشر
سيرينوس: لا يشك أحد من جهة تأثير الأرواح الشريرة علي أفكارنا، وذلك عن طريق تحريك البواعث بدون تأثير محسوس عن طريق اتجاهاتنا أو من كلماتنا ومن الأمور التي نحبها والتي يرون أننا نميل إليها، لكنهم لا يقدرون أن يقتربوا إلى تلك التي تأتي من مخابئ الروح. وهم يكتشفون الأفكار التي يطرحونها علينا لا بسبب طبيعة الروح أي الميل الداخلي المخفي في العقل، إنما عن طريق الانفعالات والعلامات الظاهرية التي للإنسان.فمثلاً عندما يقترحون علي إنسان بالنهم، إذا ما رأوا الراهب يتطلع من الكوة تجاه الشمس بقلق أو يسأل باستمرار عن الساعة، يُدركون أنه قبل شهوة النهم.
وإذا ما اقترحوا الزنا ورأوه يخضع بهدوء لهجوم الشهوة أو يرون تهيّجًا جسديًا أو تأوّهات ناجمة عن خلاعة الاقتراحات النجسة، يعلمون أن سهم الشهوة قد نفذ إلى داخل روحه.
وإذا ما أثاروا فينا بواعث نحو الحزن أو الغضب، فإنهم يستطيعون أن يُدركوا إن كانت لها جذور في القلب إما عن طريق حركات الجسد والاضطرابات المنظورة، أو بملاحظتهم التنهدات، أو السكون، أو انفعال الغضب، أو تغيُّر لون الإنسان، بهذا يكتشفون بدهاء الأخطاء التي يسقط فيها الإنسان، لأنهم يعلمون أن كل إنسان له خطية معينة ينجذب إليها علي الدوام.
هذا ليس بعجيب بالنسبة لقوات الهواء، لأنه حتى الإنسان الطاهر غالبًا ما يقدر أن يكتشف حال غيره الداخلي من طلعته ونظراته وحركاته الخارجية، فكم بالأكثر يقدر هؤلاء الذين لهم طبيعة روحية وبالتالي هم أكثر دهاء وحذاقة من البشر.
هذا ليس بعجيب بالنسبة لقوات الهواء، لأنه حتى الإنسان الطاهر غالبًا ما يقدر أن يكتشف حال غيره الداخلي من طلعته ونظراته وحركاته الخارجية، فكم بالأكثر يقدر هؤلاء الذين لهم طبيعة روحية وبالتالي هم أكثر دهاء وحذاقة من البشر.
16- مثال: لكي يعرف بعض اللصوص موضع الكنوز المخفيّة في المنازل التي يرغبون سرقتها، ينثرون رملاً في ظلام الليل بدقة فيكتشفون الكنوز المخفية التي لا يقدرون أن يروها، وذلك عن طريق رنين الصوت الذي يحدث أثناء سقوط الرمل، بهذا يبلغون إلى المعرفة الحقيقية من جهة وجود المعادن التي تكشف عن نفسها بنفسها عن طريق الصوت الناتج منها.
هكذا بالنسبة للتجسس علي كنوز قلوبنا، يلقون علينا رمال الاقتراحات الشريرة، وإذ يرون بعض الانفعالات الجسدية التي تطابق الصفات الداخلية يعلمون كما لو كان بنوع ما من رنين الصوت ما يحدث في المخابئ الداخلية، ما هو مخفي في المكان السرّي الذي للإنسان الداخلي.
17- ليس لكل شيطان سلطان في اقتراح أي أهواء
لنعلم أنه لا تستطيع كل الشياطين أن تغرس في البشر كل الأهواء، بل تحتضن الأرواح خطايا معينة، البعض يثير الشهوات النجسة، والآخر التجديف، وآخرون تخصصوا بالأكثر في الغضب والسخط، والبعض يفلحون في الكآبة، وآخرون يهدأون بالكبرياء والعظمة. يغرس كل واحد منهم في قلوب البشر ما يُسر هو به. إنهم لا يقدرون أن يغرسوا رذائلهم دفعة واحدة، إنما بترتيب معين حسب الظروف، أي حسب الزمان أو المكان أو الشخص نفسه الذي يفضحونه بإثارته أثناء اقتراحاتهم.
18- هل للشياطين نظام يتّبعونه في هجومهم؟
جرمانيوس: إذن هل نعتقد بأن الشر مرتّب ومنسّق فيما بينه، يستخدم نظامًا خاصًا، وخطة منظمة أثناء هجومه، مع أن النظام والتنسيق هو عند الصالحين والمستقيمين وحدهم، إذ يقول الكتاب المقدس “المستهزئُ يطلب الحكمة ولا يجدها” (أم 6:14)، “ليس حكمة ولا فطنة ولا مشورة تجاه الرب” (أم 30:21).
19- سيرنيوس: من المؤكد حقًا أنه لا يوجد اتفاق ثابت بين الأشرار، والوفاق الكامل لا يمكن أن يكون حتى بين الذين لديهم خطايا معينة… لكن في بعض الأمور حيث يوجد نفع جماعي واحتياجات إلزامية أو ربح مشترك، هذا يدفع إلى وجود اتفاق منظم إلى حين. ونحن نلاحظ بوضوح في الحرب الروحية التي للشر… فالأرواح تتقدم بعضها البعض بطريقة معينة، فإذا ما انهزم أحدها أو تراجع ترك مجالً لروح آخر أكثر عنفًا ليهاجمه… وإذا ما انتصر الروح لم يعد بعد هناك حاجة لكي يأتي آخر ليخدع الإنسان.
20- كل إنسان يُهاجم قدر طاقته
لسنا نجهل أن الأرواح جميعها ليست في نفس الشراسة والنشاط، ولا في نفس الشجاعة والخبث، فالمبتدئين والضعفاء من البشر تهاجمهم الأرواح الضعيفة، فإذا ما انهزمت تلك الأرواح تأتي من هي أقوى منها لتهاجم جنود المسيح. ويصعُب علي الإنسان بقوته أن يقاوم، لأنه لا توازي طاقة أحد القديسين خُبث هؤلاء الأعداء (الروحيين) الأقوياء الكثيرين، أو يصد أحد هجماتهم، أو يحتمل قسوتهم ووحشيتهم، ما لم يرحمه المصارع معنا، ورئيس الصراع نفسه الرب يسوع، فيرد قوة المحاربين، ويصد الهجوم المتزايد، ويجعل مع التجربة المنفذ قدرما نستطيع أن نحتمل (1كو13:10).
21- لا تخف من محاربات الشيطان
إننا نعتقد أنهم يتعهدون هذا الصراع بقوة، لكن في مناضلتهم يكون لديهم نوع من القلق والغم، خاصة حين يقفون أمام مناضلين أقوياء أي رجال قدّيسين كاملين، وإلا فإنه لا يكون نضالاً ونزاعًا بل هو مجرد تغرير بالبشر، لأن طرف قوي والآخر ضعيف، (فالحرب الروحية شديدة) وإلا فأين يكون موضوع كلمات الرسول القائل: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحيَّة في السماويَّات” (أف12:6)، وأيضًا “هكذا أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ” (1كو26:9)، وأيضًا “قد جاهدت الجهاد الحسن” (2تي7:4)؟!
إذ يتحدث عن حرب وصراع ومعركة، يلزم أن توجد قوة وجهاد في كِلى الطرفين، وأن يكون كلاهما مُعدًّا إما أن يضجر ويخجل من الفشل أو يبتهج بالنصرة. لو أن أحد الجانبين يحارب بيسر مع ضمان (النصرة) علي الثاني الذي يناضل بقوة عظيمة لما دعيت معركة أو صراع أو نزاع بل يكون نوعًا من الهجوم المجحف غير العادل.
بالتأكيد تُعدْ الأرواح نفسها لمهاجمة البشر بقوة لا تقل عن قوتهم لكي يضمنوا النصر عليهم… (فيسقطون هم فيما يصنعونه بنا) إذ يقول: “وعلى هامتهِ يهبط ظلمهُ” (مز16:7)، وأيضًا “لتأْتِهِ التهلكة وهو لا يعلم ولتنشب بهِ الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع” (مز8:35)، أي في التهلكة التي دبّرها بغشه للبشر. فتسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد إهلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبوها لنا. ولكن لا تعني هزيمتهم أن يتركوننا بغير رجعة.
بالنظر إلى هذه الهجمات وهذا النضال، فإن من كانت أعين إنسانه الداخلي سليمة يراهم يتفرسون راغبين في الخراب، وإذ يخشى لئلا يصيبه هذا يصلي إلى الله قائلاً: “أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت. لئَلاَّ يقول عدوّي قد قويت عليه. لئَلاَّ يهتف مضايقيَّ بأني تزعزعت” (مز3:13،4)، “يا ربُّ إلهي فلا يشمتوا بي. لا يقولوا في قلوبهم هَهْ شهوتنا. لا يقولوا قد ابتلعناهُ” (مز24:35،25)، “حرَّقوا عليَّ أسنانهم يا ربُّ إلى متى تنظر” (مز16:35،17)، لأنه “يكمن في المختفي كأسدٍ في عِرّيسهِ. يكمن ليخطف المسكين” (مز9:10). وأيضًا إذ تهلك قواهم ويفشلون في صراعهم معنا نقول: “ليخزَ وليخجل معًا الذين يطلبون نفسي لإهلاكها. ليرتدَّ إلى الوراءِ وليخزَ المسرورون بأذيَّتي” (مز14:40). وأيضًا يقول إرميا “ليخزَ طارديَّ ولا أخزَ أنا. ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا. أجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقًا مضاعفًا” (إر18:17). إذ لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا.
فكل قديس إذ يرى خراب أعدائه (الشياطين) ونجاحه يبتهج متعجبًا قائلاً: “أتبع أعدائي فأدركهم ولا ارجع حتى أفنيهم. أسحقهم فلا يستطيعون القيام. يسقطون تحت رجليَّ” (مز37:18،38)، ويصلي ضدهم قائلاً: “خاصم يا ربُّ مخاصميَّ. قاتل مقاتليَّ. امسك مجنًّا وترسًا وانهض إلى معونتي. واشرع رمحًا وصدَّ تلقاءَ مطارديَّ. قل لنفسي خلاصكِ أنا” (مز1:35-3). وعندما نقمع كل أهوائنا التي انتصرنا عليها ونبيدها نسمح لأنفسنا أن نسمع كلمات التطويب هذه: “لترتفع يدك علي مبغضيك وينقرض كل أعدائك” (مي9:5).
عند قراءتنا أو عندما نتغنى بتلك الآيات وما يشبهها مما جاء في الكتاب المقدس، فإننا إن لم نأخذها علي أنها ضد الشر الروحي (الخطية) الذي ينتظرنا ليلاً ونهارًا نفشل في أن نستخرج منها ما هو لبنياننا وما يجـعلنا ودعاء وصبورين، بل بواسطة بعضها قد نصل إلى حالة مريعة تخالف الكمال الإنجيلي تمامًا…
22- هل للشيطان سلطان عليك؟
ليس للأرواح الشريرة سلطانًا أن تضر أحدًا، يظهر ذلك بوضوح في حالة الطوباوي أيوب، حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به… وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل إذ قالت: “إن كنت تُخرِجنا فَأْذَنْ لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير” (مت 31:8). فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة العُجم إلا بسماح من الله، فكم بالأحرى يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق علي صورة الله؟!
لو كان لهؤلاء الأعداء (الشياطين) سلطان علينا والإضرار بنا وتجربتنا كما يشاءون لما كان يستطيع أحد أن يعيش في الصحراء بمفرده… ويظهر ذلك بأكثر وضوح من كلمات ربنا ومخلصنا الذي احتل آخر صفوف البشر، إذ قال لبيلاطس: “لم يكن لك عليَّ سلطان البتَّة لو لم تكن قد أُعطِيت من فوق” (يو 11:19).
24- كيف تملك الشياطين على أجساد البعض؟
واضح أن الأرواح النجسة لا تقدر أن تجد لها طريقًا في أجساد من اغتصبتهم بأي وسيلة ما لم تملك أولاً علي عقولهم وأفكارهم فتسلب منهم مخافة الله وتذكره والتأمل فيه، وبهذا تتجاسر فتتقدم إليهم كمن هم بلا حصانة إلهية، وتقيدهم بسهولة وتجد لها موضعًا فيهم، كما لو كان لها حق الملكية عليهم.
25- لماذا يسمح الله بخضوع أجسادنا لهم؟
من يسقط بالجسد تحت سلطانهم (أي يجربون في الجسد) يصيرون في خطر عظيم واضطراب شديد، أما الذين تسقط أرواحهم تحت سيطرتهم فيسقطون في الخطايا والشهوات هؤلاء حالهم أردأ. لأنه كما يقول الرسول أن من يُغلب من أحد يصير عبدًا له.
نحن نعلم أنه حتى القديسين يسمح الله أن تسقط أجسادهم تحت سلطان الشيطان وتحل بهم نكبات كثيرة، ذلك من أجل الهفوات (لتأديبهم) لأن الرحمة الإلهية لا تطيق أن يكون فيهم وسخ أو دنس إلى يوم الدينونة، فينقيهم من كل شائبة، مُقدمًا إياهم إلى الأبدية مثل الذهب أو الفضة المصفّاة، غير محتاجين بعد إلى تنقية، فيقول الله “وأنقي زغلكِ.. وأنزع كل قصديركِ.. بعد ذلك تُدعَين مدينة العدل القرية(المدينة) الأمينة” (إش 25:1، 26). وأيضًا كما تُمتحن الفضة في البوطة والذهب في الكور هكذا يَمتحن الرب القلوب (أم 3:17). وأيضًا “لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابن يقبلهُ” (عب 6:12).
26- أمثلة
أ. نرى هذا بوضوح في حال النبي رجل الله المذكور في الكتاب الثالث من الملوك الذي افترسه أسد من أجل أنه أخطأ مرة بعدم الطاعة عن غير قصد بل بإغواء غيره (1مل18:13). فيقول الكتاب المقدس: “هو رجل الله الذي خالف قول الرب فدفعهُ الرب للأسد فافترسهُ وقتلهُ حسب كلام الربّ الذي كلمهُ بهِ” (امل26:13). في هذا المثال نجد العقاب من أجل عدم الطاعة مع الإهمال، كذلك المكافأة من أجل برّه أيضًا. لأن الرب سلّم بنيه في هذا العالم للمهلك وفي نفس الوقت كان الحيوان المفترس بالنسبة لفريسته مترفقًا وعفيفًا إذ لم يجرؤ أن يتذوق شيئًا من الغنيمة التي أُعطيَ له سلطانًا عليها.
ب. نجد نفس الأمر ببرهان واضح جدًا وجلي في حالة الأبوين بولس وموسى اللذين عاشا في بقعة من البرية تدعى Calamus لأن الأول (بولس) قد سبق فقطن في البرية التي صارت قاسية عوض مدينةPanephysis, هذه التي صارت برية قاحلة عن قريب كما تعلم، إذ هبت ريح شمالية من المستنقعات فأغرقت الحقول وكل الإقليم بماء مالح، حتى صارت القرى كجزائر وهجرها سكانها. في هذه المنطقة تقدم الأب بولس في نقاوة القلب وسط هدوء البرية وسكونها، حتى إنني أقول أنه ما كان يسمح لنفسه أن يرى وجه امرأة، بل ولا ملابس هذا الجنس.
فعندما كان ذاهبًا إلى قلاية أحد الشيوخ مع الأب أرشيبوس الذي كان يقطن معه في نفس البرية، حدث أن قابلتهما امرأة. وفي الحال نفر من مقابلتها حتى أنه ترك عمله من جهة زيارته لصديقه الذي بدأ فيها وهرب راجعًا إلى قلايته بسرعة كمن يهرب من وجه أسد أو حيوان مفترس. ولم يبالِ بصرخات الأب أرشيبوس وتوسلاته الذي كان يرجوه أن يعود ليكمِّلا رحلتهما إلى الرجل العجوز.
ومع أن هذا حدث بسبب شغفه نحو حياة الطهارة ورغبته في النقاوة، لكن هذا تم بغير معرفة، لأنه تعدّى اتباع الترتيب والنظام بدقة مناسبة (بغير اعتدال)، إذ تصور أنه ليس مخالطة النساء (التي هي بحق ضارة للرهبان)، بل حتى مجرد شكل هذا الجنس يلزم مقته. من أجل هذا نال هذا العقاب، وهو أن جسده كله ضُرب بالفالج، ولم يعد أي عضو من أعضاء جسده قادر علي القيام بمهمته، ليس فقط يداه وقدماه بل ولسانه الذي به يتكلم، وفقدت أذناه السمع، ولم يصر فيه من الإنسان سوى الشكل بغير حراك ولا أحاسيس. انحدر إلى هذا الحال حتى عجز الرجال عن خدمته، رغم العناية الفائقة التي بذلوها معه، وصار محتاجًا إلى خدمة النساء الممتلئة ترفقًا (في التمريض)، فأُرسل إلى دير عذارى قديسات. ولم يكن قادرًا حتى علي الأكل والشرب، فكانت النسوة يخدمن إياه حوالي أربع سنوات إلى نهاية حياته.
وبالرغم مما كان يعانيه… إلا أنه كانت له نعمة من الصلاح حتى كان المرضى يأخذون زيتًا مما يدهن به جسده بل تدهن به جثته (التي تكاد أن تكون ميتة) وبه كانوا يبرأون للحال من كل آلامهم. وبهذا ظهر بوضوح حتى لغير المؤمنين أن ضعف أعضائه حدث بسماح من عناية الله ومحبته، وأن نعمة الأشفية قد وُهبت بالروح القدس شهادة لنقاوته وإعلانًا عن استحقاقاته.
27- المثال الثاني (الأب موسى)
أما الشخص الثاني الذي أشرنا إليه أنه ساكن في هذه الصحراء، فمع أنه رجل معروف وعجيب، إلا أنه عوقب عن كلمة واحدة نطق بها بحدة إلى حدٍّ ما في جدال مع الأب مكاريوس… فقد أُسلم إلى شيطان مهلك، للحال ملأ فمه بدنس (قروح)، وذلك لكي لا يبقى فيه أيّ غضن من خطئه الذي حدث في لحظة. و ما أن أمره الأب مكاريوس أن يصلي، للحال فارقه الروح الشرير ورحل عنه.
28- لا تحتقر من أُسلم لروح الشرير
من هذه الأمثلة الواضحة، يلزمنا ألا نكره ولا نزدري بالذين نراهم قد أُسلموا لتجارب متنوعة أو لأرواح شريرة، لأنه يلزمنا أن نتمسك بهاتين النقطتين:
أولاً: أنه ما كان لأحد أن يجرَّب بالأرواح الشريرة بغير سماح إلهي.
ثانيًا: أن كل ما يحل بنا هو بواسطة الله، سواء ما يظهر في الوقت الحالي محزنًا أو مفرحًا، فإنه لأجل نفعنا كما من أب فائق الحنان وطبيب عظيم الترفق. ولهذا فإن البشر كما لو كانوا تحت عناية معلمين يذلون هنا حتى إذا ما رحلوا من هذا العالم يصيرون في الحياة الأخرى في حال أعظم نقاوة. إنهم ينالون هنا عقابًا خفيفًا حتى كما يقول الرسول يُسلمون في الوقت الحاضر “للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1 كو5:5).
29- اعتراض
كيف يكون هذا ونحن نرى أنه يلزم لا أن نحتقرهم بل ويتجنبنهم كل إنسان، ويُطردوا من اجتماع الرب. إذ يقول الإنجيل: “لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير” (مت6:7). بينما أنت تخبرنا أنه يلزمنا أن نتطلع إلى إذلال التجربة أنه من أجل تنقيتهم ونفعهم؟!
30- سيرينوس: متى كان لنا هذه المعرفة أو بالأحرى ذلك الإيمان الذي سبق أن عالجته، بمعنى أن نعتقد بأن كل الأمور تحدث لنا بسماح من الله، وأنها مرتبة لأجل خير أرواحنا، فإننا ليس فقط لا نحتقرهم بل ولا نكف عن الصلاة من أجلهم كأعضاء منا، وأن نحنو عليهم بكل قلوبنا وكل جوارحنا فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه (1كو26:12)، إذ نحن نعلم أننا لا نقدر أن نكمل بدونهم بكونهم أعضاء منا، وذلك كما نقرأ عن السابقين لنا أنهم لا يقدرون أن ينالوا تمام المكافأة بدوننا إذ يقول الرسول: “..فهؤلاء كلُّهم مشهودًا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يُكمَلوا بدوننا” (عب39:11،40).
لم نسمع قط أن الشركة المقدسة قد منعت عن (المجرمين)… وما جاء في الإنجيل: “لا تعطوا القدس للكلاب” هذا الذي أوردته في غير معناه الحقيقي، يلزم ألا نظن بأنه يعني أن الشركة المقدسة تصير (بالنسبة للمجرمين) طعامًا للشياطين وليس تنقية وحماية للجسد والروح، لأنه عندما يتناولها إنسان يُحرق الروح الشرير ويصارعه هذا الذي وجد له مكانًا في أعضائه أو حاول أن يختفي فيه.
ج. رأينا متأخرًا أن الأب أندرونيكوس وكثيرين قد شفوا بهذه الطريقة، لأن العدو يفسد بالأكثر الإنسان الذي امتلكه متى رآه قد امتنع عن الدواء السماوي، ويخدعه بالأكثر بطريقة خفية، إذ يراه قد ابتعد بالأكثر عن العلاج الروحي.
31- بؤس الذين لا يُؤدبون هنا
يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أن الذين يدنسون أنفسهم بكل صنوف الخطايا والشر ومع ذلك لا توجد علامات منظورة لملكية الشيطان عليهم (أي أن تجرب أجسادهم) ولا تحل بهم أي تجربة تتناسب مع أفعالهم ولا يتحملون أي عقاب، هؤلاء بؤساء وأشقياء. لأنه لا يوهب لهم علاج خفيف وسريع في هذا العالم، بل بسبب غلاظة قلوبهم يستحقون عقابًا أشد في تلك الحياة إذ يذخرون لأنفسهم “غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو5:2)، حيث “دودهم لا يموت ونارهم لا تُطفأ” (إش24:66).
كأن النبي قد تحيّر إذ رأى القديسين يخضعون لخسائر متنوعة وتجارب، بينما رأي الأشرار ليس فقط يعبرون حياتهم في هذا العالم بغير أي تأديب مملوء ذلاً بل يتمتعون بغنى عظيم وتنعم وفير في كل شيء. فاشتعل النبي بغيظ غير مضبوط وغيرة معلنًا: “أما أنا فكادت تزلُّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنهُ ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يُصابون” (مز2:73-5). إذ أنهم يعاقبون فيما بعد مع الشياطين، لأنه لم يوهب لهم في هذه الحياة أن يؤدبوا مع بني البشر في عِداد الأبناء.
إرميا أيضًا مع أنه لم يشك قط معترفًا بعدالة الله إذ يقول “أَبرُّ أنت يا رب من أن أخاصمك” (إر1:12). إلا أنه يتحدث عن تنعم الأشرار كما لو كان ذلك بسبب عدم عدالة الله إذ يقول: “لكن أكلمك من جهة أحكامك. لماذا تنجح طريق الأشرار؟! اطمأَنَّ كل الغادرين غدرًا. غرستهم فأصَّلوا نموًا وأثمروا ثمرًا، أنت قريب في فمهم وبعيد من كلاهم” (إر2:12).
عندما يحزن الرب بسبب هلاكهم يوجه الأطباء والجرّاحين لأجل شفائهم ويحثهم إلى حزن مشابه ويقول علي لسان النبي: “سقطت بابل بغتةً وتحطمت. ولولوا عليها. خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفي” (إر8:51).
كذلك الملائكة الموكّلون بالنيابة لخلاص البشر في يأسهم يجيبون، أو أن النبي في شخص الرسل والروحانيين والأطباء الذين يرون غلاظة روحهم وقسوة قلبهم يقولون: “داوينا بابل فلم تشفَ. دعوها ولنذهب كل واحد إلى أرضهِ لأن قضاءَها وصل إلى السماءِ وارتفع إلي السحاب” (إر9:51).
ويتكلم إشعياء في شخص إله أورشليم عن ضعفهم المملوء بؤسًا فيقول: “من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيهِ صحَّة بل جرح وإحباط وضربة طريَّة لم تُعصَر ولم تُعصَب ولم تليَّن بالزيت” (إش6:1).
32- شهوات قوات الهواء[1]
لقد تبرهن بجلاء أنه يوجد في الأرواح النجسة عدة شهوات مثل البشر. فالبعض تقوى الفسق واللهو، وبعضها تعمل في قلوب من تأسرهم بالكبرياء الباطل… وأرواح أخرى حاذقة في الكذب بل وتوحي للبشر بالتجديف ويظهر ذلك مما جاء علانية في (1مل22:22) “أخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ”. وبسبب هذه الأرواح ينتهر الرسول من هم مخدوعين بها إذ هم “تابعون أرواحًا مضلَّة وتعاليم شياطين في رياءِ أقوالٍ كاذبة” (1تي1:4،2). وهناك نوع آخر من الشياطين يشهد عنهم الكتاب أنهم بْكم وصمْ. وبعض الأرواح تُقوي الشهوة والدنس، إذ يعلن هوشع النبي قائلاً: “لأن روح الزنى قد أضلَّهم فزنوا من تحت إلههم[2]” (هو 4: 12).
وبنفس الطريقة يعلمنا الكتاب أن هناك شياطين الليل والنهار والظهيرة (مز91: 5،6). ولقد لقبت الشياطين بأسماء كثيرة في الكتاب المقدس[3]… هذه الأسماء لم ترد اعتباطًا بل تشير إلى شراستها وجنونها تحت أسماء هذه الحيوانات المفترسة المتباينة الضرر والخطورة بالنسبة لنا (إذ لقبت أسود وأفاعي)…
33- سؤال: هل يوجد بين الأرواح الشريرة درجات؟
جرمانيوس: إننا بالتأكيد لا نشك في هذه الرتب التي عددها الرسول بخصوصهم قائلاً: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيَّة في السماويَّات” (أف12:6). لكننا نريد أن نعرف إن كان يوجد فيما بينهم تفاوت وهل توجد بينهم درجات مختلفة في الشر…
34- سيرينوس: بالرغم من أن أسئلتكم قد سرقتنا خلال الراحة الليلة كلها، حتى أننا لم ندرك اقتراب الفجر… فإن الإجابة علي هذا السؤال الذي أقترح إن بدأنا فيه فسيجرنا إلى بحر من الأسئلة متسع وعميق، والوقت الذي بين أيدينا مقصر ولا يسمح لنا بذلك. لهذا فإنني أرى أنه من اللائق أن نحتفظ به للتأمل في ليلة أخرى. لأنه بإثارة هذا السؤال سأجد في استعدادكم للبحث بعض الفرح الروحي والثمر المتكاثر، ويمكننا إن أعطانا الروح القدس نسمة موفقة أن نتعمق بأكثر حرية في تعقيدات السؤال المعروض أمامنا.
لهذا فلنتمتع بقليل من النوم إذ يقترب الفجر، ثم ننزع عنا الكسل الذي يسلب عيوننا ونذهب سويًا إلى الكنيسة من أجل حفظ يوم الأحد ونعود بعد الخدمة حسبما يهبنا الله لأجل تقدمنا العام.
ملخص المبادئ
– وهب الله للإنسان سلطانًا علي الفكر، له أن يقبل الخير ويتجاوب معه، وأن يقبل الشر وعندئذ يخضع له وينحني تحت سلطانه بغير إرادته، وبالتالي يحتاج إلى نعمة الله في انسحاق قلب وتوبة، مجاهدًا حتى يتحرر من السلطان الذي خضع له بإرادته.
– لا تيأس مهما بلغت خطاياك واشتد ضعفك، لكن جاهد في رجاء لأن ملكوت الله يُغتصب.
– إن كان الشيطان عنيفًا في حربه، فنحن أيضًا فينا الروح القدس القدير، ولنا الرب يسوع المنتصر.
– قد ننخدع فنظن أن للشيطان سلطانًا علينا، لكن الحق أنه وإن اشتدت قوة إغراءاته يعجز عن أن يلزمنا بالطاعة له، بل ولا يعرف أفكارنا ما لم نُعلنها نحن خلال تصرفاتنا وملامح وجوهنا…
– لا تتحد الشياطين مع أرواح البشر، بل الله وحده الذي له أن يوحَّدنا فيه.
____________________________________
[1] اختصرت هذا الفصل.
[2] “فضلوا بعيدًا عن إلههم”.
[3] راجع شيء 21:13،22؛ 13:34،15؛ مز 13:116؛ لو 19:10؛ يو 30:14؛ أف 12:6.
No Result
View All Result
Discussion about this post