من يقدر أن يؤذيك؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
القمص تادرس يعقوب ملطي
هدف المقال
إنني أعرف جيدًا أن جامدي الفكر، المتلهفين في جريهم وراء الأمور الزمنية، المربوطين بمحبة العالم، المأسورين تحت عبودية اللذات الجسدية، الذين ليس لديهم إدراك قوى للمفاهيم الروحية، هؤلاء إذ يرون أن ما أنطق به منذ بدايته غير معقول، لذلك يكون لهم هذا المقال غريبًا ومتناقضًا، ويفرطون في الاستهزاء به.
لكن هذا لن يعوقني عن تحقيق ما وعدت به، بل بالعكس يدفعني إلى الاجتهاد في البرهنة عليه.
وإنني أرجو من أولئك الذين لهم وجهة نظرهم هذه في الموضوع. الذي أتكلم فيه أن ينتظروا حتى نهاية حديثي. وأنا متأكد أنهم سيأخذون برأيي ويدينون أنفسهم، مكتشفين أنهم كانوا مخدوعين حتى هذه اللحظة، وعندئذ ينقدون اعتقادهم! الخاطئ الذي تمسكوا به في هذا الشأن، معتذرين طالبين الصفح، بل وشاكرين إيايّ كثيرًا، كما يفعل المرضى بالأطباء عندما يشفوا من أتعاب أجسادهم.
لهذا لا تخبرني ما هو رأيك الآن، بل انتظر حتى تسمع منى براهيني، وعندئذ تحكم حكمًا صائبًا، دون أن يعوقك جهلك عن ذلك. لأنه في القضاء، حتى في الأمور الزمنية، إذا رأوا الخطيب الأول يقدم حججًا قوية وينقد كل بند تمامًا، إلا أنهم لا يكتفون بذلك معلنين حكمهم ما لم يستمعوا إلى الخطيب الثاني (المحامي) الخصم للخطيب الأول. فحتى وإن بدت ملاحظات الأول حقيقية إلى درجة كبيرة، لكنهم يحجزون الحكم حتى يستمعوا للثاني.
بالحقيقة إن عظمة القضاة تكمن أولاً في استماعهم بدقة لكلى الطرفين وبعدئذ ينطقون بالحكم.
هنا نستبدل الخطيب بالمفهوم العام الذي صار له مع مرور الزمن أساس عميق في داخل أفكار الجماعة، وصار له تأثير قوي في العالم.
هذا المفهوم (الخاطئ) يقول: “كل الأشياء قد قلبت رأسًا على عقب وأن الجنس البشري مشحون باضطرابات كثيرة، إذ كثيرون يخطئون كل يوم، كثيرون يشتمون، كثيرون يخضعون تحث العنف والشر. فالضعيف مذلول للقوي، والفقير يخضعه الغنى.
وكما يستحيل إحصاء عدد أمواج البحر، هكذا لن يمكن إحصاء ضحايا الساقطين تحت أعباء المكائد والإهانات والآلام ولا يمكن لا بتعديل القانون، ولا بالإرهاب عن طريق القضاء ولا بشيء من هذا القبيل، يقدر أن يوقف تيار هذا الوباء والاضطراب، إنما في كل يوم يتزايد الشر أكثر فأكثر. حتى أصبحت تنهدات المتألمين وندبهم ونحيبهم أمر جماعي مألوف…
وهناك من يتمسكون بنوع جديد من الحمق، اتهام عناية الرب عندما يرون الإنسان العفيف كثيرًا ما يكون مأسورًا تحت العنف ومضروبًا ومهانًا بشدة، بينما الإنسان الوقح القاسي الوضيع يصب مضايقات لا تحصى على من هم أكثرمنه عفة، ويتجنى على من في المدينة أو في البلد أو في الصحراء والبحر والبر.
هذا المقال الذي أدليّ به ضروري حتى يصحح ما يزعمونه… مثبتًا، إن أي إنسان أخطأ إنما يصيبه الضرر بيديه، ولم يبعثه على الخطأ إنسان أخر.
لكل مخلوق عدو يؤذيه
لكي أبرهن على ما قلت بوضوح أكثر علينا أولاً أن نتساءل ما هو الظلم؟
من أي شيء تتكون مادته؟
ما هو الصلاح البشري؟
وما الذي يدمره؟
وما الذي يبدو أنه يدمره لكن في الحقيقة لا يدمره؟
وإذ يلزمني أن أؤكد حجتي بأمثلة، أقول بأن كل شيء له عدو شرير يؤذيه. فالحديد يفسده الصدأ، والخشب يفسده السوس، وقطيع الخراف تهلكه الذئاب، وخواص الخمر تفسد بالاختمار حتى يصل إلى أن يصير طعمه حامضًا ( لاذعًا)، والعسل يفقد خواصه عندما يفقد حلاوته الطبيعية ويتحول إلى عصارة مرة، وسنابل القمح يهلكها اليرقان (التعفن)، والجدب وأشجار أخري تؤذيها الديدان، ومخلوقات غير عاقلة يهلكها أنواع معينة من الأمرًاض.
ولكي لا نطيل الحديث… نذكر أن جسدنا يتعرض للحُميات والشلل، ولكثير من الأمرًاض الأخرى.
إذن كل شيء له من يفسد خواصه أو صلاحيته. والآن لنفكر ما هو هذا الذي يحطم الجنس البشرى، وما هو الذي يهلك؟صلاح الإنسان؟
غالبية البشر تظن أن هناك أشياء كثيرة قادرة على إهلاكنا. فعلينا أن نوضح الآراء الخاطئة في هذا الأمر… مظهرين بوضوح أنه لا يوجد شيء يقدر أن يجلب علينا ضررًا أو هلاكًا ما لم نخون نحن أنفسنا بأنفسنا.
يتصور ذوو الأفكار الخاطئة، أنه يوجد أشياء كثيرة تقدر أن تفسد صلاحنا. البعض ينظر إلى الفقر، وآخرون إلى الأمراض البدنية، وآخرون إلى فقدان الممتلكات، أو حلول المصائب، أو الموت.
أمثال هؤلاء دائمو البكاء والندب لحلول هذه الأمور. وبينما هم يرثون لحال المتألمين ويسكبون الدمع يقولون مضطربين: “يا لها من نكبة. قد حلت هكذا بالرجل فقد تبددت أمواله”، وآخر يقول: “قد أصيب رجل بمرض خطير ويئس الأطباء من علاجه!!” وآخرون يبكون من أجل المسجونين، والبعض يندبون المنفيين… وآخرون يبكون الغرقى والذين أصابهم الحريق والذين ماتوا تحت أنقاض منزل، ولكن لا يبكى أحد السالكين في الإثم. بل بالعكس يهنئونه هؤلاء الذين هم اردأ حالاً من الكل، مشجعين إياهم على ارتكاب كل الشرور.
والآن يلزمني أن أؤكد… أن لا شيء من هذه الأمور تقدر أن تؤذى الإنسان الذي يعيش بوقار، ولا تستطيع أن تفقده صلاحه.
مثال ذلك: أخبرني لو أن إنسانًا فقد كل ماله بواسطة محتالين أو لصوص. ماذا يمكن لهذه الخسارة أن تفعل بصلاحه؟!
وان كنت أريد أن أوضح هذا الأمر، يلزمني أولاً أن أشير إلى مفهوم صلاح الإنسان معالجًا الموضوع بأمثلة أخرى من المخلوقات حتى يمكن أن يكون الأمر جليًا وأكثر إدراكًا لغالبية القراء.
مفهوم صلاح الإنسان
ليكن لك هدف واضح :
ما هو صلاح الفرس؟ هل يَكمن في ما له من لجام مذهب وسرج مناسبة وأربطة من خيوط حريرية لربط الجل، وأقمشة ذات ألوان مختلفة وما عليه من ثوب ذهبي، وعُدة للرأس مُرصعة بالجواهر، وغطاء فوق الشعر مضفر بحبل ذهبي؟! أم يكمن في خفة حركته وقوة أقدامه وخطواته… شجاعته، قدرته على القيام بالرحلات الطويلة واستخدامه في الحرب، وقدرته على التصرف بهدوء في ميدان المعركة، وإنقاذه لصاحبه إن حدثت هزيمة؟!
أليس من الواضح أن الأمور الأخيرة لا الأولى هي التي يكمن فيها صلاح الفرس؟!
وأيضًا ماذا تقولون عن صلاحية الحمير والجحش؟ أليست تكمن في القدرة على حمل الأثقال بلا اضطراب، والمثابرة على الرحلات الطويلة بسهولة، وصلابة حوافره كالصخر؟!
هل تستمد هذه الحيوانات صلاحيتها الحقيقية من الزينة الخارجية؟!
وأي نوع من الكروم تعجب بها؟! هل التي تحمل أوراقًا كثيرة أم المثقلة بالثمار؟!
أي نوع من الصلاحية نعزي به الزيتونة، هل ما لها من فروع ضخمة وأوراق كثيرة أم حملها بثمار وفيرة من كل جانب من جوانبها؟!
حسنًا، إذن فلنسلك على نفس المنوال بالنسبة للمخلوق البشري، حتى نعرف مفهوم صلاح الإنسان، وما هو الشيء الوحيد الذي يقدر أن يؤذيه.
مفهوم صلاح الإنسان
ما هو إذن صلاح الإنسان؟ صلاح الإنسان لا يكمن في الغنى حتى نخاف الفقر، ولا في الصحة البدنية فنرهب المرض، ولا في نظرة الناس إليك حتى تحذر ما يقوله الناس عنك بشرٍ، ولا في الحياة هنا في ذاتها حتى ترتعب من الموت… إنما يكمن صلاحه في التمسك بالتعاليم الحقيقية، والاستقامة في الحياة، الأمر الذي لا يستطيع أحد، حتى الشيطان نفسه، أن يسلب الإنسان إياه طالما كان حريصًا عليه كما ينبغي.
وهذا الأمر يدركه تمامًا حتى أخبث الشياطين وأشدهم. لهذا جرد الشيطان أيوب من مادياته لا ليجعله فقيرًا، إنما ليلزمه أن ينطق بكلمة تجديف على الله. وعذب جسده لا ليذله بالمرض، بل ليحبط صلاح نفسه. لكنه عندما نفذ كل حيله، وجعل هذا الغني فقيرًا… وحرمه من أبنائه… ومزق جسده بوحشية لا يقدر الجلادون أن يفعلوها، لأن أدوات التعذيب لا تقدر أن تمزق كل جانب من جوانب الجسد كما يفعل الدود الذي كان في جسده، وأفسد الشيطان سمعته حتى أعلن أصدقاؤه الحاضرون معه أن هذا جزاء له عن خطاياه التي يستحقها، موجهين ضده اتهامات كثيرة، وطرده من مدينته وبيته لا إلى مدينة أخرى، بل صارت مزبلة مدينته بيته…
كل هذا لم يؤذِ أيوب بل بالعكس تمجد بالأكثر على حساب هذه المكائد التي صبها ضده.
لقد أخذ الشيطان منه كثيرًا لكنه لم يسلبه شيئًا من صلاحه. بل دفعه بالأكثر لتزداد قوة صلاحه. لأنه بعد ما حدثت له هذه الأمور تمتع بثقة أعظم بقدر ما حاربه خصم قوي.
والآن إن كان الذي كابد آلامًا مثل هذه، التي ليست من عمل إنسان، بل من عمل الشيطان الأكثر شرًا من كل البشرية، هذا لم يصبه أي ضرر، فهل تقول أنت بأن إنسانًا ما قد أضرك أو حطمك…
إن كان الشيطان، المملوء مكرًا عظيمًا هذا مقداره، بعدما صب كل ما في حقيبته، واستخدم كل أسلحته، وصب كل شروره ضد إنسان ذا مركز سامً عائليًا، وبار، ومع هذا لم يسبب له أذى، بل بالحري كما قلت أنه أفاده، فكيف تقدر أن تتهم إنسانًا أو آخر أنه يحمل في يديه ضررًا، لغيره، وليس لنفسه؟!
لماذا تخاف من مفسد خارجي؟!
الشيطان!
قد يقول قائل: ألم يؤذي الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟
لا، إنما السبب في هذا يكمن في إهمال من أصابه الضرر، ونقص ضبطه للنفس، وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر على آدم، لو لم يغدر آدم بنفسه على نفسه؟!
الظلم!
ماذا إذن؟! ألاَّ يصيب الأذى من يتعرض للافتراءات ويقاسي من نهب الأموال، فيحرم من خيراته ويطرد من ميراثه ويناضل في فقر فادح؟!
لا، بل ينتفع إن كان وقورًا،. لأنه هل أضرت هذه الأمور الرسل؟ ألم يجاهدوا دائمًا مع الجوع والعطش والعُري؟! وبسبب هذه الأمور صاروا مُمجدين ومشهورين وربحوا لأنفسهم معونة أكثر من الرب؟!
المرض!
وأيضًا أي ضرر أصاب لعازر بسبب مرضه وقروحه وفقره وعدم وجود من يقيه؟ ألم تكن هذه الأمور تُضفر له إكليلاً من زهور النصر؟!
مديح الناس وذمهم!
وأي ضرر أصاب يوسف عندما أتهم بسمعة شريرة، في أرضه أو في غربته فقد أتهم بالزنا والفسق؟!
وماذا أصابه من الذين صيروه عبدًا منفيًا؟!
أليس بسبب هذه الأمور صار يوسف موضع إكرام وتقدير؟!
الموت!
ولماذا أتحدث عن النفي في أرض غريبة، أو الفقر أو تشويه السمعة أو الأسر، فإنه أي ضرر أصاب هابيل بموته، مع أنه مات موتًا عنيفًا، في غير أوانه. وبيديّ أخيه؟!
أليس على حساب هذا صارت سمعة هابيل تجوب المسكونة كلها؟!
أنظر إذن كيف أكد المثال أكثر مما وعدت، لأنه لم يقف عند حد أن الإنسان لا يضره غيره، بل ينال نفعًا عظيمًا على يديّ مناضليه.
فلماذا يعاقب الله مدبري المكائد؟
قد يقال: إذن ما هو هدف التأديبات والعقوبات؟ ولماذا وجد الجحيم؟ وما فائدة التهديدات الكثيرة، مادام لا يضر أحد غيره ولا يصيبه ضرر من غيره؟…
إنني لم أقل أنه لا أحد يضر غيره، بل لا أحد يصيبه ضرر من غيره. وكيف لا أحد يصيبه ضرر من غيره مادام كثيرون يضرون غيرهم؟!…
إخوة يوسف مثلاً أضروا يوسف، لكن يوسف نفسه لم يصبه الضرر.
وقايين ألقى بشباكه لهابيل، ولكن هابيل لم يسقط فيها. وهذا هو السبب الذي لأجله وجدت التأديبات والعقوبات.
فالله لا يرفع العقوبة عن مدبر الضرر لمجرد صلاح محتمل الضرر، بل يؤكد عقوبته بسبب شر صانع الإثم. فإنه بالرغم من أن الذين يسقط عليهم الشر، يصيرون أكثر مجدًا على حساب المكائد المدبرة ضدهم، لكن هذا لم يكن في نية مدبرى الشر، إنما بسبب شجاعة من هم ضحيتهم. لذلك فإن الأخيرين تعد لهم أكاليل الحكمة، أما الأولون فتعد لهم جزاءات شرورهم.
هل سلبت أموالك؟ أذكر تلك الكلمات “عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك” (أي 1: 21). وأضف إليها كلمات الرسول: “لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1 تى 6: 7).
هل أُسيء إلى سمعتك، وحملك البعض بشتائم لا حصر لها؟ اذكر العبارة القائلة: “ويل لكم إذ قال فيكم جميع الناس حسنًا” (لو 6: 26). وأيضًا إن: “قالوا عليكم كلمة شريرة… افرحوا وتهللوا” (مت 5: 11).
هل أخذت إلى المنفي؟ أذكر أنه ليس لك هنا موضع بل إن كنت حكيمًا يلزمك أن تنظر إلى العالم كله كأرض غربة.
هل أصبت بمرض خطير؟ أقتبس ما يقوله الرسول: “إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 4: 16).
هل يعاني إنسان من موت عنيف؟ ليذكر يوحنا الذي قطعت رأسه في السجن وأخذت في طبق وقدمت مكافأة عن رقص زانية.
تأمل المكافأة التي تنالها على حساب هذه الأشياء، فإن كل هذه الآلام عندما تسقط ظلمًا من إنسان على آخر تنزع خطايانا وشرنا (إذ نتقبل الظلم بلا تذمر مؤمنين بالله مترجين الحياة الأخرى، فتعمل هذه الأمور على تزكيتنا). إذن عظيم هو نفع هذه الأتعاب بالنسبة للذين يحتملونها بشجاعة!!
الأذى يصيب الظالم لا المظلوم!!
إن كان لا فقدان المال أو الافتراءات أو السب أو السبي أو الأمراض أو الاضطهادات بل ولا الموت الذي هو أفظع من هذا كله، يقدر أن يضر من يتعذبون به، بل بالحري يزداد نفعهم، فكيف تقدر أن تثبت لي أن الإنسان لا يصيبه أذى متى حل به شيء من هذا؟!
إنني سأجتهد أن أثبت أكثر من هذا، أن الذين يصيبهم الأذى ويتألمون من الشر، هم أولئك الذين يصبون شرورهم على غيرهم. فإنه لا يوجد إنسان أكثر بؤسًا من قايين الذي صنع هكذا بأخيه (قتله)؟!
وما أكثر شقاء تلك الامرأة التي لفيليب، حيث قطعت رأسه يوحنا؟ وما أعظم شقاء إخوة يوسف الذين باعوه للغرباء وأرسلوه إلى أرض غريبة؟! وشقاء الشيطان الذي ضايق أيوب بهذه النكبات العظيمة؟! لأنه لا يدفع حسابًا عنيفًا عن شروره فحسب بل، وبسبب ما فعله بأيوب أيضًا.
أترون كيف جاءت الأدلة أكثر مما نتوقع، إذ ظهر أن الساقطين تحت الظلم لا تصيبهم جراحات، إنما يرجع الأذى علي رأس مدبري المكائد!!
فإذ لا يقوم صلاح النفس على الغنى أو الحرية (الجسدية) أو عدم النفي وغير ذلك من الأمور التي أشرت إليها، بل على أفعال النفس، لذلك فإن أي ضرر يصيب هذه الأمور لن يلمس الصلاح البشري بأدنى أذى.
ماذا إذن؟ لنفرض أن إنسانًا يسئ إلى حياته الروحية، ثم يسئ إنسان إليه بضرر ما، فإن الأذى لا يأتيه من الغيرّ، إنما يكون نابعًا من داخل نفسه، من الإنسان ذاته. ربما تتساءل: كيف ذلك؟
عندما يضرب إنسان آخر، أو يسلب ماله، أو يقذفه بشتائم قاسية أو يسبه. فإن الإنسان الثاني يحتمل بالتأكيد ضررًا، بل وضرر كثير، لكن الأذى لا ينبع ممن أساء إليه بل من نفسه المتعبة.
لأن ما سبق أن قلته أعود فأكرر. أنه لا يوجد إنسان مهما بلغ شره أن يهاجم آخر بشر أو عنف أشد من ذلك الشيطان الحاقد، العدو غير المشفق علينا، لكن حتى هذا الشيطان المتوحش لم يكن له سلطان أن يفسد ذلك الإنسان (أيوب) الذي عاش قبل الناموس وقبل عهد النعمة، رغم استخدامه أسلحة كثيرة حادة من كل جانب. هذه هي قوة نبل النفس!
وماذا أقول عن بولس، ألم يحتمل أحزانًا كثيرة لا يمكن إحصائها: من إلقاء في السجن وتثقيل بالقيود، وضعه تحت حراسة مشددة، جلد من اليهود، رجم، تمزق ظهره لا بالسياط فحسب بل وبالعصى أيضًا، غرق في البحر، مهاجمة لصوص في مرات كثيرة، صراع مستمر مع بنى جنسه، ومع الأعداء والمعاندين، مكائد بلا عدد، جهاد في جوع وعُري، كوارث، أحزان دائمة… يكفي أن أقول إنه كان يموت كل يوم. وبالرغم من هذه الآلام المبرحة، لكنه لم ينطق بكلمة تجديف، بل أكثر من هذا في وسط هذه كان فرحًا مفتخرًا، بها. إذ يقول: “أفرح في آلامي” (كو 1: 24). ومرة أخرى: “وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا في الضيقات” (رو 5: 3).
لقد كان فرحًا في أثناء تعذيبه بهذه الضيقات الشديدة، مفتخرًا بها. إذن فما هو العذر الذي تقدمه لتذمرك بسبب عدم احتمالك لأمور أقل من هذه؟!
هل الفقر يؤذيك؟ كيف أقدم صدقة؟
قد يقول قائل: لقد أصابني أذى بطريق أخر، وهو أنني وإن كنت لا أجدف بسبب سلب أموالي لكنى صرت عاجزًا، عن تقديم الصدقة.
هذا اعترض هين وإدعاء بسيط. لأنك إن كنت تحزن بسبب هذا، فاعلم أن الفقر لا يقف حائلاً أمام العطاء. لأنه مهما بلغ فقرك لن يصل إلى فقر الامرأه التي لم تملك إلا ملء كف من الدقيق (1 مل 17: 12)، أو تلك التي لم يكن معها سوى فلسين (لو 11: 2). هاتين الامرأتين قدمتا كل ما لديهما. وقد كانتا موضع إعجاب فائق. ففقر عظيم كهذا لا يقف عائقًا أمام العطف، إذ صدقة من فلسين كانت وفيرة، تكشف عن كرم زائد يفوق كرم كل الأغنياء، وبالنية السليمة والغيرة المتقدة فاقت هؤلاء الذين ألقوا نقودًا كثيرة.
إذن، حتى في هذا الأمر لا يصيبك أذى، بل بالحري تكون قد انتفعت، نائلاً بتقديم صدقة صغيرة مكافأة أكثر مجدًا ممن يدفعون مبالغ ضخمة.
ملامح حياة محب المال :
ومع ذلك فانني أنطق بما أقوله دومًا. أن الشخصيات الحساسة التي تبتهج بالزحف في الأمور الزمنية، وتفرح بالأشياء الحاضرة، ليست مستعدة أن تتخلى حتى عن الورود الذابلة لأن هذا هو أمر الابتهاج بالزمنيات، أو أن تترك مجرد ظلالها… هناك أناس جديرون بالرثاء أكثر دناءة يتعلقون بالأمور الزمنية أكثر من الأمور المستقبلة.
هيا نرفع الوشاحات (الأوجه الصناعية) المفرحة جميلة المنظر، التي تغطي عدم ضبط النفسي القبيح المزيف.
لنفضح بشاعة هذه المرأة العاهرة. لأنه هكذا تشبه الحياة المكرسة للتنعم وحب الغنى والسلطة (الكبرياء)، إنها حياة خبيثة وقبيحة ومملوءة بغضًا شديدًا ومكروهة، مملوءة أثقالاً ومحملة بالمرارة. لأنه بالحقيقة هذه هي ملامح الحياة التي من يمسك فيها ليس له أي عذر.
وبالرغم من أن هذا هو هدف اشتياقهم وسعيهم، إلاَّ أن حياتهم مشحونة بالمضايقات الكثيرة والكرب، ومملوءة بشرور لا تحصى ومخاطر وسفك دم وفجوات هاوية وأوعرة وقتلة ومخاوف ورعب وحسد وسوء نية ومكائد، وقلق مستمر واهتمام دائم، ومع هذا كله لا يحصل على نفع ولا يأتي من هذه المخاطر الكثيرة بثمار، سوى العقوبة والانتقام والعذاب المستمر.
ولو أن هذه هي صفات حياة محبي المال، لكنها تبدو لغالبية البشر أنها موضع طموح (طمع) وشغف زائد. وهذا يكشف لا عن بركة المادة ذاتها بل غباوة الذين أُسروا في حبها.
حقًا إن الأطفال الصغار يشتاقون إلى أدوات اللعب إذ هي تثيرهم، ولا يقدرون أن يدركوا من ذواتهم الأمور التي تجعلهم رجالا ناضجين كاملين. هؤلاء الأطفال لهم عذرهم بسبب عدم نضجهم. أما هؤلاء (المأسورين بمحبة المال) فليس لهم حق الدفاع لأنهم رغم نضوج سنهم إلاَّ انهم لازالوا أطفالاً في طبعهم، وأكثر من الأطفال سذاجة في مسلكهم في الحياة.
والآن قل لي لماذا يكون المال هدفًا للطمع (الطموح)؟
لابد لي أن أبدأ من هذه النقطة حيث أن كثيرون قد أصيبوا بهذا المرضى الخطير، فيبدو لهم أن المال أفضل من الصحة والحياة والسمعة الطيبة والصيت الحسن، وأفضل من المدنية (أي يحب المال أكثر من المجتمع)، وعائلته وأصدقائه وأقربائه وأي شيء آخر.
أضف إلى هذا أن لهب (محبة المال) قد صعد إلى السحب عينها، والحرارة القاتلة تملكت على الأرض والبحر. ولا يوجد من يطفئ هذه النار، بل يعمل الناس جميعهم على زيادة التهابها، سواء أولئك الذين لحقت بهم نيرانها أو لم تلحق بعد بهم، حتى يصير الكل أسيرًا لها.
وها أنت ترى أن كل واحد: زوج وزوجة، عبد وحرّ، غنى وفقير… الكل يحمل قدر استطاعته وقودًا يزيد إشعال هذه النيران (محبة المال) نهارًا وليلاً. وهم يحملون وقودًا لا من خشب أو عيدان، لأنها ليست من هذا النوع، بل وقودًا هو أرواح الأشرار الآثمة وأجسادهم. هذه هي المادة التي اعتادت هذه النار أن تشتعل بواسطتها.
لأن هؤلاء الذين لهم مقتنيات (غنى) لا يضعون حدًا، لهذه الشهوة المهولة في أي مكان، حتى وإن داروا حول العالم كله. كذلك الفقير يتضايق لكي يأخذ نصيبًا وافر، من الغنى وهكذا يسيطر على أرواح الجميع نوع من الخبل عديم الشفاء، وجنون لا يمكن مقاومته، ومرض بلا علاج.
هذا الميل النفسي (محبة المال) يتغلب على كل عاطفة أخرى وينزعها من النفس، فلا يعود يهمه صديقه أو قريبه… بل ولا يبالي بزوجته أو أولاده… فهل يمكن أن يكون له أناس أعزاء أكثر من هؤلاء؟!
انه عندما تأسر هذه العشيقة (محبة المال) المتوحشة القاسية روح الإنسان، عندئذ تتحطم بالنسبة لها كل القيم على الأرض وتصير تحت موطئ الأقدام.
مقارنة بين العاهرة ومحبة المال :
كما أن العاهرة القاسية القلب، الطاغية العنيفة، البربرية المتوحشة، التي تطلب ثمنًا غاليًا لشرها، هذه الشريرة تستنزف هؤلاء الذين يسقطون في أسرها، وتفسدهم وتسبب لهم أخطار، لا حصر لها. وبالرغم من كونها مرعبة وقاسية القلب ومتوحشة وعنيفة، لها صورة الهمجي. بل بالحري صور الوحوش الضارية بل وأعنف من الذئب والأسد، إلاَّ أنها تبدر لمن أسرتهم في حبالها كما لو كانت لطيفة ومحبوبة وأحلى من العسل.
وبالرغم من أنها تسبك ضدهم سيوفًا وأسلحة وتحفر لهم حفرًا، لاصطيادهم وتقودهم إلى أماكن هاوية وصخور شامخة وشباك لا نهاية لها… ومع هذا فإنها تعمل علي أن تجعل هذه الأمور موضع طمع للمأسورين في شباكها، والراغبين في هذا الأسر.
مقارنة بين الحيوانات غير العاقلة ومحب المال :
وكما أن الخنزير يفرح ويلهو بانغماسه في الوحل والطين، والحشرات تزحف دائمًا مبتهجة نحو الروث، هكذا المأسورين بمحبة المال هم أكثر بؤسًا من هذه المخلوقات. لأن الرجاسة هنا أعظم، والوحل أكثر قذارة، لأن المنهمكون في هذا الميل (محبة المال) يظنون أنهم ينالون فرحًا عظيمًا. هذا الفرح لا ينبع من المادة ذاتها بل من فهمهم المتأثر بمثل هذا التأثر ( الميل) السخيف.
هذا التذوق أردأ من تذوق الحيوانات الأعجمية. فكما أنه في الوحل والروث لا يكمن الفرح بل في طبيعة المخلوقات غير العاقلة (الخنزير والحشرات) التي تنغمس فيها، هكذا أيضًا بالنسبة للمخلوقات البشرية.
محبة المال وليس سلب أموالك هو الذي يوذيك[5] :
وكيف يمكننا معالجة أولئك الذين هذا هو حالهم (كالخنزير والحشرات)؟ علاجهم يكون سهلاً إن أنصتوا بآذانهم لنا وفتحوا قلوبهم وقبلوا كلماتنا. لأنه بالنسبة للحيوانات غير العاقلة (الخنزير والحشرات) يستحيل الإقلاع عن عاداتها غير المستحبة، لأنها عديمة العقل. أما هؤلاء الذين هم أسمى فضيلة في المخلوقات الأرضية، الذين تشرفوا بالعدل والنطق، أقصد البشر، يلزمهم – إن أرادوا – أن يستعدوا للهروب من الوحل والنتانة والروث ونجاسته، وهذا سهل عليهم.
إنه لا يمكنك أن تعدد الأسباب (التي تدفعك لمحبه المال) سوى اللذة والكبرياء والخوف والقدرة على الانتقام.
فالثروة عادة لا تعمل على أن يصير الإنسان حكيمًا أو ضابطًا لذاته أو أكثر وداعة أو تعقلاً أو شفوقًا أو محبًا أو متساميًا على الغضب والنهم واللذة. أنها لا تدرب الإنسان ليكون عفيفًا أو تعلمه الاتضاع، ولا أن تبدأ أو يزرع أي نصيب من الفضيلة في الروح.
وأظن أنه لا يقدر أن يقول عن أي شيء من هذه الأمور أنها تستحق أن يطلبها الإنسان ويشتهيها بكد. لأن محبة الغنى ليس فقط تجعل الإنسان يجهل كيفية غرس أو زرع أي فضيلة، بل وان وجدت فيه مخزنًا من الأعمال الصالحة، فإنها تعمل على إعطابها وتوقف نموها وتفسدها. بل وتقتلع بعض الفضائل ليحل محلها ما يضادها من تهور غير محدود وحنق زائد وغضب شرير وكبرياء وحب ظهور وغباء.
دعني لا أتكلم عن هذا، لأن أولئك الذين أمسكوا بهذا المرض (محبة المال) لا يقدرون أن يحتملوا السماع عن الفضيلة والرذيلة. إذ قد تشبعوا باللذة واستعبدوا لها. فلنترك الزمن بنفسه يعلن هذه الأمور. والآن نتكلم عن الأمور الأخرى الباقية وهي “هل الثروة فيها سعادة وكرامة؟” لأنه في نظري أن الأمر على نقيض هذا.
تكلم القديس يوحنا ذهبي الفم بإطالة مقارنًا بين طعام الغني وطعام الفقير، مظهرًا، الأمراض الفسيولوچية التي يخضع لها كثير من الأغنياء بسبب الشرّه في الأكل، كما تحدث عن الاستعباد لشهوة الأكل والشرب. وأخيرًا قارن بين السعادة التي يشعر بها الغني والفقير أثناء الأكل، مؤكدًا أن اللذة لا تتوقف على نوع الطعام بل على اشتياق الإنسان واحتياجه للطعام. وقد علق على قول الرب بلسان النبي: “من الصخرة كنت أشبعك عسلاً” (مز 81: 16). قائلاً بأن الله لم يخرج لهم عسلاً بل ماء، لكن في إرهاقهم وتعبهم وجهادهم في السير صار الماء عسلاً في أفواههم.
هذا بالنسبة لمائدة الفقير، أما الغني فان مائدته لا يشعر الآكلون منها بالسعادة، حتى ما هو حلو فيها يصير بالنسبة لهم مرًا (راجع أم 27: 7).
هل الثروة تجلب الكرامة؟
قد يقول قائل: لكن الثروة تطفي على صاحبها كرامة، وتمكنه من الانتقام من أعدائه بسهولة.
أسألك: هل هذا هو السبب الذي لأجله تبدو لك الثروة مثار شوق يستحق نضال من أجلها. إذ تعمل على إثارة ميول خطيرة في طبيعتنا، فتقود الغضب إلى حيز التنفيذ، وتزيد فقاعات الطمع الفارغة، وتحث البشر وتثيرهم نحو الزهو؟!
فلماذا لا يكون هذا هو السبب عينه الذي يدفعنا إلى أن نعطي للثروة ظهرنا بحزم، لأنها تدخل في قلوبنا حيوانات مفترسة قاسية وخطيرة، فتنزعنا من الكرامة الحقيقية التي يلزم أن تكون لنا وتقدم ما هو مضاد للكرامة الحقيقية لمن ينخدعون بواسطتها، ويكون عملها عندئذ أن تكسي ما هو مضاد للكرامة ألوانًا حتى يحسبونها كرامة مع إنها ليست كذلك في حقيقتها…
فكما أن العاهرات جمالهن يكمن في طلاء الألوان والأصباغ، ومع أن وجوههن قبيحة دنسة مفتقرة إلى الجمال الحقيقي لكنها تبدو لمن يخدعن إياهم أنها حسنة وجميلة… هكذا أيضًا (حب المال) يعمل على إظهار التملق أنه كرامة.
أتوسل إليك ألاَّ تعطي اعتبارًا للمديح الذي يقدم بسبب الخوف منك أو لتملقك، فإن هذا في حقيقته ليس إلاَّ ألوانًا ناصعة وأصباغ. فإن كشفت الضمير الداخلي لكل فرد من الذي يتملقونك بهذه الطريقة، تجد فيه اتهامات لا حد لها موجهة ضدك، كما تجد شتائم وبغض أكثر مما يصبه لك الأعداء والمناضلين لك.
فإذا حدث أن تغيرت الظروف بحيث تحرك وانفضح القناع (أو الوجه المستعار) الذي أوجده الخوف… عندئذ سترى بوضوح كيف يزدرى بك إلى أبعد حد أولئك الذين كانوا قبلاً يتوددون إليك، وتعرف انك كنت متخيلاً أنك متمتع بالكرامة من هؤلاء الذين يكرهونك، هؤلاء الذين تغلي في داخل قلوبهم شتائم لا حد لها ضدك، ويشتاقون أن يروك وقد حلّت بك مصائب فادحة.
إذن لا يوجد مثل الفضيلة لكي تنال الكرامة -لا عن قوة أو تصنع ولا تكمن تحت قناع الخداع- بل الكرامة التي هي بحق وأصيلة، وقادرة أن تثبت مع تجارب الأزمنة القاسية.
هل المال يساعدك على الانتقام؟ ولكن هل ترغب في الأنتقام من مُضايقيك؟
هذا هو السبب – كما كنت أقول حتى الآن- الذي لأجله يجب أن نتجنب المال (حب المال) لأن هذا يجعلك تستل سيفك ضد نفسك، ويردك مطالبًا بحمل ثقيل يوم الحساب المقبل، ويجعل عقابك غير محتمل.
لأن الانتقام هو شر عظيم حتى أنه يعمل على نزع المراحم الإلهية، ويفسد المغفرة التي وهبت لك عن الخطايا غير المحصية. لأن الذي نال عفوًا عن دين من عشرة آلاف وزنة، هذا بعدما نال العفو العظيم بمجرد أن طالب العبد رفيقه بالدين الذي له عنده وهو مئة فلس، هذه المطالبة كانت بالنسبة له تعدي على نفسه، إذ بقسوته على زميله أخضع نفسه للإدانة (إذ عاد السيد يطلب منه الدين الذي أعفاه منه) فلهذا السبب، وليس بسبب آخر سحبه المعذبون وصار هناك مرهونًا ومطالبًا بتسديد العشرة آلاف وزنة، ولم يسمح له لا بالاعتذار، ولا بالدفاع، إنما نال عقوبة عظيمة، مطالبًا بالدين الذي كان الحنان الإلهي قد أعفاه منه سابقًا (مت 18: 23- 35).
أسألك، هل لهذا السبب تطلب الثروة مناضلاً بشوق عظيم هكذا، إذ تقودك إلى خطية من هذا النوع؟! بلى بالحقيقة السبب الذي لأجله يلزمك أن تشمئز من محبة المال كعدو وخصم ينتج جرائمًا لا حصر لها.
هل أضر الفقر بلعازر؟
قد يقول قائل:أن الفقر يجعل الناس متضجرين، وغالبًا ما يدفعهم إلى النطق بكلمات تجديف، وينزل بهم إلى الأعمال الدنيئة.
ليس الفقر هو الذي يفعل بالإنسان هكذا، بل دناءة النفس، لأن لعازر كان فقيرًا، نعم كان فقيرًا جدًا، ويعاني بجانب فقره من ضعف جسدي أقسى بكثير من الفقر في أي صورة من صوره، الأمر الذي جعل فقره قاسيًا جدًا، وبجانب هذا الضعف أيضًا، كان محرومًا تمامًا من الذين يعولونه، مع صعوبة إيجاد أي مئونة لسد أعوازه، الأمر الذي ضاعف من مرارة فقره وضعفه… فعدم وجود من يعوله، يجعل ألمه أشد، واللهب أقسى، الكارثة أمرّ والمجرب أكثر وحشية، والأمواج عنيفة والأتون أكثر اتقادًا…
وهناك أيضًا تجربة رابعة بجانب الجوانب الثلاثة السابقة، وهي عدم اكتراث الغنى به رغم ترفه.
وان أردت، تجد أيضًا أمرًا خامسًا يزيد التهاب النار… إن الغني ليس فقط يعيش في حياة ترف، بل ويرى الفقير مرتين وثلاثة بل ومرات عديدة يراه كل يوم ملقى عند بابه، إذ هو مشهد خطير لكارثة يرثى لها، مجرد النظر إليه يكفي أن يلين القلب الحجري، ومع هذا فإن المنظر لم يدفع الرجل القاسي إلى مساعدة هذا الفقير إلى هذه الدرجة؛ إنما كان يقيم مائدته المترفة، عليها الكؤوس المزينة بالورود، والنبيذ النقي يصب بغزارة، لديه جيوش من الطباخين والمتطفلين والمتملقين يعملون منذ الفجر المبكر، وفرق من المغنين وحاملي الكؤوس والمهرجين، ويقضى كل وقته منغمسًا في الملذات والسكر والأكل بشراهة، متنعمًا بالملبس والأكل وبأمور أخرى كثيرة.
فمع أنه كان يرى هذا الفقير منكوبًا بالجوع الزائد والضعف الجسدي المرّ وبالقروح الكثيرة، والحرمان والمرض الناتج عن هذا الحال، إلاّ أنه لم يفكر فيه. فالمتطفلين والمتملقين كانوا يتنعمون بأكثر من احتياجهم، أما الفقر- الذي كان فقيرًا جدًا- ومنكوبًا بمآسي كثيرة، لم يعط له حتى الفتات الساقط من مائدته رغم اشتهائه له بشوق عظيم.
ورغم هذا كله، فإن شيئًا من هذه الأمور لم تؤذ لعازر إذ لم ينطق بكلمة قاسية، ولا تكلم بحديث دنيء، إنما كقطعة الذهب التي تشع ببريق أعظم كلما تنقت بنار متزايدة.
بالرغم من هذه الضيقات التي أحاطت به ، إلاّ أنه تسامى عليها، وعلى ما تنتجه هذه الأمور من هياج.
فإن كنا نتكلم عن الفقراء عامة وما يثور في نفوس من حسد وما يتعذبون به من تفكير الحقد الرديء، عند رؤيتهم للأغنياء ناظرين إلى أنه لا تستحق الحياة المتسمة بالفقر أن توجد. هذا يفكر فيه الفقراء الذين يجدون القوت الضروري ولهم من يعطيهم أعوازهم، فكم يكون هذا الفقير لعازر. ألم يكن بحق حكيم جدًا، طيب القلب. إذ يرى نفسه أفقر من كل الفقراء. بل وبه ضعف. وليس له من يقيّه آو يعطف عليه. ملقى في وسط المدينة وكأنه في وسط صحراء بعيدة، يتلوى من مرارة الجوع، ويرى كل الخيرات تتدفق على الغني كما من نافورة، ليس له أي تعزية بشريه، ملقى كغذاء دائم تلحسه ألسنة الكلاب، ومن ضعفه وتحطيم جسده لا يقدر حتى على طردها!
أما تدرك إذن أن الذي لا يؤذي نفسه لا يقدر أن يؤذيه شيء؟.. لأنه أي ضرر أصاب هذا من ضعف جسده أو عدم وجود من يحميه أو التفاف الكلاب حوله أو من شر مجاورته للغني ورؤيته عظم الترف والتنعم والكبرياء الذي للأخير؟ هل هذه الأمور أضعفته ليضاد الفضيلة؟! هل أوهنت هدفه؟!
انه لم يؤذيه شيء بالكلية، بل كثرة أتعابه مع قسوة الغني، زودته قوة، وصارت بالنسبة له دعامة لنوال أكاليل النصرة غير المتناهية، كوسائل تزداد بها مكافأته، وباعث لنوال جزائه…إذ كان يحتمل تجربته بشجاعة وثبات عظيم…
أنت بلا عذر!!
أولاً: لا تحتج بعدم دعوتك!
تقديم[6] :
بعدما عالج القديس يوحنا ذهبي الفم عدم إمكان أصابتنا بضرر، لا من إنسان ولا شيطان ولا أغراء للخطية ولا تهديد بالحرمان من أمور هذه الحياة… طالما القلب ملتصق بالله وساهر ومتيقظ، يجاهد متمسكًا بالنعمة الإلهية والإمكانية الإلهية المعطاة لنا، خشى القديس يوحنا ذهبي الفم لئلا يتعذر أحد قائلاً: لأنني أسقط في الخطية، لأنني لست مدعوًا لملكوت السموات.
والحقيقة أن الله “يريد أن الكل يخلصون والى معرفة الحق يقبلون”، أما سقوطنا فليس لأن الله قد رفضنا، ولا لأنه سمح لنا بالتجارب، إنما لأن أساس قلبنا مبني على الرمل لا الصخر… مبني على محبة العالم الواهية، لا محبة يسوع الحقيقة.
فيهوذا دعى ومات المسيح لأجله لو آمن به، لكنه هو رفض رغم كل الإمكانيات التي أعطيت له أكثر من جميعنا. والشعب غليظ القلب رفض الله وعبد العجل الذهبي رغم المعجزات والبركات المعطاة له، بينما تاب سريعًا شعب نينوى الأممي…
يهوذا بلا عذر!!
اخبرني ماذا كان حال الطوباوي بولس؟! لأنه لا يوجد ما يمنعني من الإشارة إليه مرة أخرى. ألم يعانى من عواصف التجارب بلا حصر؟! في أي شيء أضرته هذه التجارب؟! ألم يتوج بالنصرة بالأكثر، إذ احتمل الجوع وعانى من البرد والعري، وتعذب بجلدات ورجم وغرق في البحر؟!
لكن قد يقول قائل: إنه بولس، لقد دعاه المسيح!!
وأيضًا يهوذا كان أحد الاثنى عشر، ودعاه المسيح أيضًا، ولكن لم يكن مجرد حسبانه ضمن الإثنى عشر، ولا دعوته أفادته، لأن فكره لم يكن ثابتًا في الفضيلة.
فبولس بالرغم من مصارعته ضد الجوع وحرمانه من قوته الضروري ومع تحمله لأتعاب كثيرة كهذه يوميًا سلك في الطريق المؤدي إلى السماء بغيرة عظيمة، بينما يهوذا رغم دعوته من الرب قبل بولس وتمتعه بنفس المميزات، وتعلم في أسمى شكل للحياة المسيحية، وكان له نصيب في المائدة المقدسة، التي هي أعظم الموائد المرهبة، وأعطيت له مثل هذه الموهبة أن يقيم الميت ويطهر البرص ويخرج الشياطين، كما سمع الكثير عن موضوع الفقر، وقضى وقتًا طويلاً في اصطحابه للسيد المسيح نفسه، بل وكان موضع ثقة ليكون معه صندوق الفقراء، حتى تتلطف شهوته، إذ كان لصًا، ومع هذا كله لم يتحسن، رغم ما وهب له من لطف عظيم كهذا.
فإذ عرف المسيح أنه طماع وأنه سيهلك بسبب محبته للمال، لم يعاقبه للحال، بل وأعطاه. صندوق الفقراء ليلطف من شهوته، حتى تكون له بعض الوسائل لإبطال طمعه، لعله ينقذ من السقوط في تلك الهوة المريعة للخطية، ويوقف الشر العظيم…
هكذا، على أي الأحوال، لا يمكن لأحد أن يؤذى إنسانًا لم يختار لنفسه أن يؤذي نفسه. ولكن إن كان الإنسان غير راغب في أن بضبط نفسه ويُعيّن نفسه من الداخل… لا يقدر أحد أن يعينه.
فتلك القصة العجيبة الواردة في الكتاب المقدس، التي كما لو كانت في صورة شاهقة ضخمة متسعة، ترسم حياة رجال العهد القديم، ابتداء من رواية آدم حتى مجيء المسيح، هذه القصة تعرض لك الذين هلكوا، والتي توجوا بالنصرة في المعركة. وهي تعلمك أنه لا يوجد أحد يقدر أن يؤذى أخرًا، لو لم يضر هذا الأخر نفسه، حتى ولو شن العالم كله حربًا قاسية ضده. فلا ضغط الظروف ولا اختلاف الأزمنة ولا شتائم البشر الذين لهم سطوة ، ولا المكائد… ولا تجمهر الكوارث ولا تجمع الأمراض الكثيرة، التي يخضع لها البشر، هذه كلها لا تقدر- ولو إلى درجة خفيفة – أن تقلق الإنسان الشجاع ضابط نفسه المتيقظ. وعلى العكس الإنسان المتراخي المستلقي علي ظهره، الذي هو خائن لنفسه، لا يقدر أن يصير في حالة أحسن مما هو عليها، ولو قدمت له خدمات لا حصر لها.
أمثلة :
هذا على الأقل وضح لنا من مثل الرجلين، اللذين أحدهما بنى بيتًا على الصخر، والآخر على الرمل (مت 7: 24.. الخ)، ليس لنا أن نفكر في الرمل والصخر، أوفي البناء أو الأمطار أو العواصف… بل أن نتنبه إلى الفضيلة والرذيلة كمعاني لهذه الأمور، مدركين أنه لا يضر أحد إنسانًا لا يضر نفسه.
فلا المطر رغم سقوطه بغزارة، ولا العواصف التي تصد المباني رغم عنفها، ولا الرياح الشديدة التي تهاجم بعنف… استطاعت أن تهز البيت في أي درجة، بل بقى ثابتًا غير متزعزع وهكذا نفهم أنه لا تقدر تجربة ما أن تزعزع الإنسان الذي لا يخون نفسه.
أما منزل ذلك الرجل الذي سقط سريعًا، فإن سقوطه لم يكن بسبب قوة التجارب (لأن البيت الثاني عانى بنفس القدر)، لكن السبب هو غباوة صاحبه… لأنه بناه على الرمل أي نتيجة التراخي والشر. إنه قَبل السقوط كان ضعيفًا ومستعدًا للسقوط. لأن المباني التي على الرمل ولو لم يضغط عليها شيء فإنها ستتدمر من نفسها وتتبدد في كل اتجاه…
فكما أن أنسجة العنكبوت تتمزق دون أي مقاومة (ملموسة) لكن الماس لا ينكسر حتى إن طرق، هكذا أيضًا الذين لا يضرون أنفسهم يصيرون إلى حياة أقوى متى أصابتهم ضربات لا عدد لها. أما الذين يخونون أنفسهم فإنهم يسقطون وينهارون ويهلكون ولو لم يثرهم أحد. لأنه هكذا هلك يهوذا مع أنه لم يتعرض لتجربة من هذا النوع (كبولس)، بل بالعكس قد أعطيت له إمكانيات عظيمة.
ثانيًا: لا تحتج بضعف إمكانياتك
تقديم[7] :
كثيرون سرّ سقوطهم عدم معرفتهم للإمكانية القوية التي أعطاهم الرب لنا لكي نتوب ونعيش في حياة القداسة. فلا يصيبنا ضرر لا من الشهوات الجسدية أو العالم بمغرياته وتهديداته أو الشيطان بمكره… بقدر ما يعمل العدو باستمرار أن ينسينا حقيقة أنفسنا، خاصة نحن أبناء العهد الجديد حيث أعطى لنا الروح القدس ساكنًا فينا ويسوع مصلوبًا حبًا فينا والكنسية كأم تقدم لأولادها عمل الله في الأسرار…
إن عمل الشيطان في تجربته ضد الرب يسوع كانت في محاولته تشكيكه في بنوته للآب “إن كنت ابن الله…، وهذه هي محاولة المستمرة التي يصنعها معنا وكثيرًا، ما ينجح فيها… لذلك فإن صلوات الرسول من أجل شعبه هي لكي تكون مستنيرة عيون أذهانهم ليعلموا “ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب شدة قوته” (أف 1: 19).
فالسقوط هو من تراخينا وكسلنا وتهاوننا في استخدام الأسلحة الروحية القوية التي بين أيدينا بل في داخلنا، وليس في ضعف إمكانياتنا. وشعب نينوى الأممي الذي لم يتذوق شيئًا مما سمعناه ورأيناه وتذوقناه فسيكون موبخًا لنا في يوم الدينونة.
هل انتفع اليهود قساة القلب بعطايا الله؟!
(قارن القديس يوحنا ذهبي الفم بين الشعب اليهودي العنيد رغم ما تقدم له من إمكانيات، وبين أهل نينوى سريعي التوبة رغم انه لم تعط لهم عطايا كالأولين).
العطايا الإلهية لم تلين عناد قلبهم :
أتريد أن أوضح لك هذا البرهان بأمثلة من جميع الأمم؟! أي عطايا قدمت لليهود (في خروجهم من مصر) ألم تقم المخلوقات المنظورة كلها بخدمتهم، وأعطيت لهم وسائل جديدة وفريدة للحياة؟ فإنهم (في البرية) لم يكونوا يذهبون إلى سوق إنما يأخذون ما يشترى بمال مجانًا، ولم يفلحوا رضًا ولا استخدموا محراثًا ولا مهدوا الأرض للزراعة، ولا ألقوا بذار، ولم يحتاجوا إلى أمطار ورياح أو فصول للسنة للزراعة، أو أشعة شمس أو شكل معين للقمر أو طقس معين ولا شيء من هذا القبيل.
انهم لم يعدوا الأرض لدرس الحنطة، ولا درسوا حنطة ولا استخدموا مذراة لفصل الحنطة عن القش، ولا طاحونًا ولا فرنًا ولا أحضروا خشبًا أو نارًا في بيت. ولم يحتاجوا إلى أدوات للعجن… ولا أي نوع آخر من الأدوات الخاصة بالنسج والبناء وصنع الأحذية، بل كانت كلمة الله هي كل شيء بالنسبة لهم.
لقد كانت لهم مائدة لم تعدها يد بشرية، أعدت بلا جهاد أو تعب. لأنه هكذا كانت طبيعة المن، أنه جديدًا، وطازجًا، ولا يحملهم أي مشقة أو جهاد.
أما ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم فقد فقدت ضعفها الطبيعي. فثيابهم وأحذيتهم لم تبل بعامل الزمن وأرجلهم لم تتورم رغم كثرة السير. ولم يذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا قد انتزع كل ضغف من بينهم. فقد قيل: “فأخرجهم بفضة وذهب ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)” (مز 105: 37)… أشعة الشمس في حرارتها لم تضربهم لأن السحابة كانت تظللهم وتحيط بهم كمأوى متحرك يحمي أجساد الشعب كله. ولم يحتاجوا إلى مشعل يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار كمصدر إضاءة لا ينطق به يقوم بعملين: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم… قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مرشد بشري.
ولم يرحلوا فقط على البرّ بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة… فقد قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة. إذ وطئوا البحر الثائر، سائرين فيه كما على صخر يابس صلب. فإذ وضعوا أقدامهم فيه صارت مادته كالأرض اليابسة … وإذ وصل إليه الأعداء عاد إلى ما كانت عليه طبيعته، فصارت للأولين مركبة وللأعداء قبرًا… فقام البحر الذي لا يفهم بدور محكم كأعقل وأذكى إنسان، قام بدور حارس مرة وبدور منتقم مرة أخرى، معلنًا هذا العمل المتناقض في يوم واحد.
وماذا أقول عن الصخرة التي أخرجت ينابيع ماء؟ وسحاب الطيور الذي غطى الأرض بكثرته؟ وماذا عن العجائب التي حدثت في مصر؟…
إن هذه العجائب جميعها لم تكن لمجرد إشباع احتياجاتهم، إنما لكي يحفظ الشعب التعاليم المُسلمة لموسى عن معرفة الله بدقة زائدة…
ومع ذلك فإنه بعد عناية ملموسة عظيمة هكذا، وبركات لا ينطق بها، ومعجزات قوية، واهتمام زائد، وتعليم مستمر، وتحذيرات تارة بالكلام وأخرى بالأعمال، ونصرات مجيدة ونجاح غير طبيعي وشبع زائد لاحتياجاتهم من الطعام وفيض مياه غزيرة، ونظرهم مجد غير منطوق به في أعين الطبيعة البشرية (موسى). مع ذلك فقد تذمروا وبلا أي إحساس عبدوا العجل وكرموا رأس الثور، رغم تذكرهم بركات الله… بل وكانوا لازالوا يتمتعون بها.
استعداد شعب نينوى للتوبة
وأما أهل نينوى فبالرغم من كونهم شعب بربري وغريب، ليست له أي شركة في البركات، صغيرة كانت أم كبيرة، لا بكلمات ولا بمعجزات ولا بأعمال، هؤلاء عندما رأوا إنسانًا منقذًا من الغرق، لم يلتق بهم من قبل ولا سبق لهم أن عرفوه، يدخل مدينتهم قائلاً: “بعد (أربعين) يومًا تنقلب نينوى” (يونان 3: 4)، رجعوا وتابوا… ونزعوا شرورهم القديمة وتقدموا في حياة الفضيلة بالتوبة، حتى جعلوا العبارة (الخاصة بالغضب الإلهي) ينتهي مفعولها… “فلما رأى الله أعمالهم انهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يونان 3: 10).
كيف تغير هؤلاء رغم شرهم العظيم وقسوتهم غير المنطوق بها وقروح أخلاقهم المستعصية العلاج، إذ مكتوب “قد صعد شرهم أمامي” (يونان 1: 2) مشيرًا إلى العلو المكاني كتعبير عن مقدار عظمة شرهم، إذ قد تكدس إلى علو هذا قدره، حتى بلغ إلى السماء…؟!
أنظر إذن كيف يمكن للإنسان الساهر الضابط لنفسه المتيقظ ليس فقط لا تمتد إليه أيديّ بأذى بل ويستطيع أن يرفع الغضب السماوي!!…
فشعب نينوى رغم أنه لم يكن لهم أي نصيب من المعجزات التي للشعب اليهودي (القاسي القلب)، لكن بقدر ما كان لديهم من استعداد داخلي حسن، فإنه إذ أعطيت لهم فرصة بسيطة استفادوا منها ليصيروا إلى حالة أحسن، رغم جهلهم بالوحي الإلهي وابتعادهم عن فلسطين!!
موقف الثلاثة فتية :
مرة أخرى أسأل: هل فسدت فضيلة “الثلاثة فتية” بسبب المتاعب التي حلت بهم؟ فرغم صغرهم، بل صغرهم جدًا من جهة السن… ألم يخضعوا للأسر المؤلم الخطير؟ ألم يقصوا بعيدًا جدًا عن بلدهم؟… ألم يحرموا من بلدهم وبيتهم وهيكلهم ومذبحهم وذبائحهم وتقدماتهم حتى من أدوات ترتيل بالمزامير؟!… إذ كنتيجة حتمية قد حرموا من كل أشكال العبادة.
ألم يسلموا في أيديّ همجية هم ذئاب أكثر منهم بشر؟ وحاقت بهم كوارث أعظم من الكل… محتملين الأسر الخطير بلا معلم ولا نبي لا مرشد… علاوة على هذا حملوا إلى القصر الملكي وصار كمن هم بين الشقوق والصخور مبحرين في بحر مملوء بالشعاب والصخور مجبرين على الإبحار في بحر من الغضب بلا مرشد أو عامل للإشارات أو طاقم أو بحارة، محبوسين في القصر الملكي كمن في سجن؟!
ولكن بقدر ما عرفوا الحكمة الإلهية وسموا بالأمور الإلهية واحتقروا كل كبرياء بشري وصارت لهم أجنحة لأرواحهم يحلقون بها عاليًا، معتبرين أن غربتهم هناك كأنها تشديد لمتاعبهم.
فإنهم لو كانوا خارج البلاط يقطنون في مسكن خاص، لكانوا أكثر استقلالاً، لكنهم بهذا ألقوا كما في سجن… خاضعين لأي أمر أو تدبير قاسى مباشرة. فإذ طلب الملك منهم أن يشاركوه في مائدته وترفه وأطايبه الدنسة، الأطعمة المحرمة عليهم، كان هذا بالنسبة لهم أرعب من الموت. وقد كانوا كحملان وسط ذئاب كثيرة، مجبرين إما أن يعدموا أو يأكلوا الطعام المحرم…
انهم لم يبالوا بالسلطان القاسي المطلق، مع انه كان لديهم ما يبررون به طاعتهم له، لكنهم قدموا نصيحة ورأيا مناسبًا حتى يتجنبوا الخطية رغم تجريدهم من كل شيء. إذ لم يكن ممكنًا أن يغروا (رئيس الخصيان) بمال فكم بالأكثر وهم أسرى لا يملكون مالاً؟! ولا بصداقات أو صلات اجتماعية أن تتشفع لهم أمامه، فكم وهم غرباء؟ وما كان يمكن أن يتحسن موقفهم حتى وان كان لهم سلطان، فكم وهم عبيد؟ وما كانوا يسيطرون عليه بكثرة العدد، فكم يكون موقفهم وهم ليسوا إلا ثلاثة؟!
ومع ذلك اقتربوا إلى الخصي الموكل إليه بهذا العمل، وأقنعوه بحججهم، إذ رأوه خائفًا ومرتعبًا… إذ يقول: “إني أخاف سيديّ الملك الذي عين طعامكم وشرابكم. فلماذا يرى وجوهكم أهزل من الفتيان الذين من جيلكم فتدينون رأسي” (دا 1: 10) أنقذوه من هذا الرعب، وأقنعوه أن يعطيهم مهلة… إذ عملوا بكل قوتهم ساهم الله أيضًا بقوته… وإذ أعلنوا نبلهم وشجاعتهم ربحوا لأنفسهم العون الإلهي وهكذا تحققت أهدافهم.
هل تدرك أن أي إنسان لا يضر نفسه لا يقدر أحد أن يضره؟ أنظر على الأقل إلى حداثة سن هؤلاء وأسرهم… الخ. فإن هذا كله لم يضرهم بل على العكس صار لهم بسببه سمعة أفضل مما كانت لهم قبل حرمانهم.
وهكذا بعدما نفذوا عملهم فانهم خضعوا لأعداء آخرين، ومرة أخرى كانوا هم نفس الرجال، وقد خضعوا لتجربة أقسى من الأولى، إذ أشعل لهم أتون، وتصدى لهم جيش من المتبربرين يصحب الملك، وكل طاقة الفُرّس قد وجهت لتمكر بهم وتضايقهم… ومع ذلك بقدر ما هم لم يخونوا أنفسهم بل قدموا كل ما في طاقتهم، لم تصبهم أي خسارة، بل ربحوا لأنفسهم أكاليل نصرة مجيدة لم ينالوها من قبل.
فنبوخذ نصر ربطهم وألقى بهم في الأتون، لكنه لم يحرقهم، بل بالعكس أفادهم وردهم ممجدين. وبالرغم من حرمانهم من الهيكل والمذبح. مع للقائهم في الأتون وقد التف حولهم كثيرون جبابرة والملك نفسه الذي سمح بهذا يتطلع إليهم؛ فانهم شيدوا نصبًا تذكاريًا مجيدًا، ونالوا نصرة ملموسة، مرتلين بتسبحة عجيبة وغريبة، التي من ذلك اليوم إلى الآن ينشد بها في العالم، وستبقى إلى مدى الأجيال…
فان كان السبى والعبودية… لم تقدر أن تفسد الفضيلة الداخلية للثلاثة فتية المأسورين، المستعبدين، الغرباء… بل صار مقاومة الأعداء بالنسبة لهم بالحري فرصة لنوال ثقة (إيمان) أعظم، فأي شيء يمكن أن يضر الإنسان الضابط لنفسه؟ لا شيء يضره، ولو قام العالم كله في جيوش ضده. لكن قد يقول قائل: أنه في حالة هؤلاء الفتية كان الله واقفًا معهم، وحماهم من النيران.
بالتأكيد هذا حدث، فإن قمت أنت بواجبك قدر قوتك، فإن العون الإلهي حتمًا سيرافقك.
ومع ذلك فإن السبب الذي لأجله أعجب من هؤلاء الفتية، وأدعوهم طوباويين وأشتهي أن نقتدي بهم، ليس لأنهم تغلبوا على اللهب، وأطفأوا حرارتها، بل لأنهم ربطوا وطرحوا في الأتون… لأجل الإيمان المستقيم، فإن هذا هو الذي شيد كمال نصرتهم. وإكليل النصر قد وضع على رؤوسهم في اللحظة التي ألقوا في الآتون، قبل أن تتم تلك الأحداث… بل وبدأت تضفر لهم هذه الأكاليل منذ اللحظة التي نطقوا فيها بتلك الكلمات المملوءة شجاعة وحرية في الحديث مع الملك إذ كانوا في حضرته “لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر. هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلا فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته” (دا 3: 16- 18). بعدما نطقوا بهذه الكلمات أعلن نصرتهم. إذ أمسكوا بإكليل المكافأة وأسرعوا إلى إكليل الاستشهاد المجيد ملحقين شهادتهم بكلامهم بشهادتهم بأعمالهم…
ماذا إذن تقول عن هذه الأمور؟ هل أنت نفيت وأقصيت بعيدًا عن بلدك؟ أنظر فإن هؤلاء أيضًا حدث لهم هذا.
هل أنت أخذت أسيرًا (في حرب) وصرت عبدًا لسادة متبربرين؟… أو هل ربطت وأحرقت وقدمت للموت؟ لأنك لا تستطيع أن تذكر لي أمور مؤلمة أكثر من هذه؟ ومع ذلك فإن هؤلاء الرجال اجتازوا هذا كله، وصار أكثر مجدًا بسبب كل ألم من هذه الآلام، نعم وأعظم شهرة وازدادت مخازن كنوزهم في السماء[8]…
خاتمة
والآن فإنني أختتم مقالي بتكرار ما قلته في المقدمة أنه إن أصاب أحد ضررًا فإنه يعانى هذا من صنع يديه، وليس من عمل آخرين، وحتى ولو وجدت جموع حاشدة تسيء إليه وتسبه، حتى أنه إذا لم يعانى مما تصنعه يداه، فإنه وان قامت جميع المخلوقات الساكنة في كل الأرض والبحر، إن اجتمعت جميعًا لمهاجمته فإنها لا تقدر أن تؤذى إنسانًا ساهر، حكيمًا في الرب.
أتوسل إليك إذن أن تكون حكيمًا ومتيقظًا في كل الأوقات محتملاً كل الآلام بشجاعة، حتى ننال البركات الأبدية النقية في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد والقوة الآن والى أبد الآبدين. آمين.
Discussion about this post