تفسير العظة على الجبل – ج2
الإصحاح السادس
العظة التاسعة عشرة
“احترزوا من أن تصنعوا صدقتكُم قُدَّام الناس لكي ينتظرُوكُمْ” [مت 6: 1].
السيد الرب هنا يستأصل ما تبقَّى من أشد الشهوات طغيانًا، أي هياج وجنون المجد الباطل، والذي يتعمق في صدور من يصنعون خيرًا وصلاحًا. والمسيح لم يذكر هذا أبدًا في بداية حديثه، حتى لا يصبح كلامه من نافلة القول (زائد بلا لزوم)، وقبل أن يحثهم على فعل أيّ أمر يجب عليهم فعله، ليعلمهم كيف يمارسون العمل الصالح في حينه. لكن بعد أن قادهم إلى ضبط النفس، بدأ يتعامل بشكل سرِّي لإزالة وغسل ما علق بالنفس من أدوات. لأن هذا الداء لا يتولد هكذا فينا بشكل عشوائي، بل ينمو حينما نمارس العديد من الوصايا. لهذا كان من اللائق أولاً أن يزرع فينا الفضيلة، ثم يزيل الشهوة التي تحجب ثمار العمل الصالح فانظروا كيف بدأ:
لقد بدأ بالصوم والصلاة والصدقة؛ لأن الفضيلة تتأصل في ظل هذه الأعمال الصالحة. لهذا فإن الفريسي كان قد انتفخ وتكبر حين قال:
“أصومُ مرتينِ في الأسبوعِ؟ وأُعشرُ كُل ما اَقتنيهِ” (لو 18: 12). هكذا كان يمجد نفسه باطلاً أيضًا في صلاته – فجعلها صلاة للتباهي والتفاخر – وإذ لم يجد أحدًا من الحاضرين سوى العشَّار. أشار إليه قائلاً: “إني لستُ مثل باقي الناس… ولا مثل هذا العشَّار!” (لو 18: 11).
لاحظوا كيف بدأ السيد المسيح، كما لو كان يتكلم عن حيوان مفترس، من الصعب اصطياده، فهو حيوان ماكر يعرف كيف يخدع غير المتيقظين. هكذا يقول: “احترزوا أن تصنعوا صدقتكم علانيةً” وهكذا يقول بولس الرسول لأهل فيلبي “احترزوا من الكلاب” (في 3: 2). ولقوله هذا سبب؛ فالشيطان يشبه حيوانًا شريرًا يأتينا خلسة دون جلبة، فيملأنا بالكبرياء ودون أن نلاحظ ينتزع ما بداخلنا. لهذا اهتم السيد المسيح جدًا أن يتحدث عن الصدقة كثيرًا. وأن يذكر أعمال الله “الذي يشرق على الأشرار والأبرار” (مت 5: 45). وكان يحثهم بكل شكل ويحضهم بكل دافع أن يكثروا من صدقاتهم. فينتهي حديثه وقد اِنتزع كل ما يعوق نمو شجرة الزيتون اليانعة ولنفس السبب يقول: “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدَّام الناس”. لأن هذا الذي سبق الحديث عنه هو “صدقة الله”.
2- وحين قال “ليس قدَّام الناس“، أضاف “لكي ينظروكم”.
ورغم ما قد يبدو أن ما قاله أولاً قد كرره ثانيًا. فإن من يمعن النظر يري أن الأمر ليس كذلك، بل يختلف ما قاله أولاً عما قيل مرةً ثانية، وأن ما قاله يوفر لنا الأمان كله، والرقة والاهتمام الفائقين للوصف. فالذي يقدم صدقاته أمام الناس قد لا يفعل ذلك لينظروه، وأيضًا قد لا يدفع آخر صدقته قدام الناس، ومع ذلك فإنه يفعل هذا لينظره الآخرون. لهذا فإن المشكلة ليست في طريقة تقديم الصدقة، بل في النية والتي بسببها ينال الإنسان عقاب أو مجازاة. وما لم تكن الصدقة بهذه الدقة، لأحجم كثيرون عن تقديمها. لأنه ليس من الممكن إعطاؤها سرًا في كل حالة. ولهذا فالرب يحرركم من هذا الالتزام، ويحدد العقاب والأجر. لا بسبب الفعل، بل بسبب نية الفاعل. وحتى لا تقول: ماذا؟ هل أكون الأسوأ إذا رآني أحد أتصدق؟ فإن الرب يقول لك “لا ليس الأمر كذلك، وليس هذا ما أقصده، بل إني أقصد الفكر الذي فيك، ومشاعرك المصاحبة للفعل”، لأن مشيئته أن يضع نفوسنا معًا في إطارها الصحيح وأن يخلصها من أيّ مرض يعتريها. وإذ يمنع الناس من أفعال التظاهر والعرض أمام الناس. وبعد أن أظهر لهم عقوبة هذا الفعل، وبطلانه، فإنه يثير نفوسهم مرة أخرى بأن يضعهم في فكر الآب وفكر السماء، فهو لا ينبههم بالخسارة فقط، بل يخزيهم بتفكرهم فيمن وهب لهم الكيان؛ إذ يقول لهم: “وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” (مت 6: 1).
ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يتقدم أيضًا مظهرًا دوافع أخرى تزيد من نفورهم. فمثلما تحدث عن العشَّارين والأمم مشبهًا الشخص الذي يحاكيهم بأنه شخص يحيا في خزي، هكذا أيضًا يتحدث عن المنافقين. “فمتي صنعت صدقةً فلا تُصوت قُدَّامك بالبوقِ كما يفعل المراؤُون” [ع2]. ولا يقصد أن لديهم أبواقًا يصوتون بها، بل يعني إظهارهم على الملأ لشدة هياجهم. وهو يعبِّر عنها بلغة مجازية، قاصدًا أنهم يعرضون أنفسهم للجميع. ويسمِّيهم بالمرائين لأنهم يضعون قناع الرحمة، بينما روحهم هو روح القسوة المجرد من الإنسانية. لأنهم يتصدقون، ليس لأنهم يرثون لجيرانهم ويشفقون عليهم، بل ليستمتعوا هم أنفسهم بالصدقة على الآخرين. وهو عمل في منتهى القسوة. فيينما يهلك الآخر جوعًا، يطلبون هم المجد الباطل، ولا يضعون حدًا لمعاناته. إذن ليس المطلوب أن نعطي صدقة، بل المطلوب هو غاية هذا العطاء، وأن يكون إعطاؤها كما يليق.
وبعد أن سخر السيد الرب من هؤلاء الناس، وتعامل معهم بهذا الأسلوب، ليخجل السامع منهم، فإنه للمرة الثانية يعود ليقوِّم فكرهم المختل تمامًا. وبعد أن قال إنه لا ينبغي هكذا، يشير إلى ما يجب علينا فعله، فكيف إذن نصنع صدقتنا؟ يقول: “لا تُعرِّف شمالك ما تفعلُ يمينك” [ع3].
والمسيح لا يتحدث هنا بشكل مباشر عن الأيدي، بل بتعبير مجازي يقول: إن أمكن أن تجهل أنت نفسك ما تفعله، فلتسع إلى هذا الهدف في إعطاء الصدقة. فإن أمكن، احجب الصدقة حتى عن أيدي مقدمها. ولا يعني ذلك حسب زعم البعض أن تخفيها عن أصحاب الأفكار الخاطئة عن الصدقات، لأن الرب يوصي هنا أن نخفيها حتى عن أعين الكل.
فكروا في عظم المكافأة التي تنالونها، لأنه بعد حديثه عن عقاب سلوك ما، يشير أيضًا إلى كرامة سلوك آخر، وفي الحالتين يحثهم ويقودهم إلى دروس سامية. أجلّ، فهو يحضهم أن يعرفوا أن الله حاضر في كل مكان، وأن اهتماماتنا لا تنحصر في هذا الزمان الحاضر، بل إن محكمة رهيبة سوف تنعقد لنا هناك. فنعطي حسابًا عن كل أعمالنا، وكرامتنا، وعقوباتنا، ولن يخفي أحد أي شيء مهما كان عظيمًا أم حقيرًا، حتى وإن بدأ مخفيًا عن أعين جميع الناس. وهو يشير إلى كل هذا سرًا بقوله:
“فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانيةً” [ع4]. وإذ أعد لنفسه حشدًا عظيمًا ومهيبًا من السامعين الناظرين. وإذ يريد أن يضفي على الأمر مهابته الوفيرة يقول: ماذا ترغب؟ أليس أن يجتمع البعض ليشاهد ما يحدث؟ انظر إذن. أن لديك ها هنا بعضًا من هذا الجمع، ليس من الملائكة ولا رؤساء الملائكة، بل “الله إله الكل”. وإن أردت أن يكون لديك أُناسًا أيضًا كناظرين، فإنه لا يحرمك من رغبتك تلك، في حينه، بل يعدها لك وبوفرة كبيرة. لأنك إن أردت أن تتباهى الآن فسوف تتباهى لعشرة فقط أو عشرين، أو لنقل: مائة شخص، ولكن إن بذلت الآن بهذا جهدًا لتحجب شيئًا، فالله نفسه يظهرك آنذاك في حضور العالم كله.
لهذا وإن كان الناس يرون أعمالك الصالحة فاخفها الآن، حتى يراها الناس فيما بعد بكل كرامة، ويظهرها الله ويرفعها ويعلنها أمام الجميع. وإن كان الذي يراك الآن ويدينك بأنك تسعى وراء المجد الباطل، فإنه سيراك آنذاك مكللاً وبدون إدانة، ويعجب بك كل الناس. لهذا إن تريثت قليلاً نلت أجرك، وحصدت إعجاب الجميع، فأية حماقة أن تطرح نفسك بعيدًا عن كل هذا.
وإذ تطلب أجرك من الله وهو الذي ينظر إلى أعمالك، فيحشد أناسًا بعرض ما يجري وما سيكون. فلماذا يجب أن نتباهى. وإن كان لزامًا أن نفعل، فليكن افتخارنا هذا انطلاقًا من محبتنا التي للآب فيها كل الفضل والذي به وحده يجب أن نتباهى، خاصة ولأبينا السماوي المقدرة على أن يهبنا الأكاليل، أو أن ينزل بنا العقاب.
ودعوني أضيف، حتى لو لم تكن هناك عقوبة. فإنه لا يليق بمن يطلب مجدًا، يبرح مكان التباهي والتفاخر بالصلاح، كمن يعرض مشاهد في مسارح الناس. أما البائس والشقي فإن جاءه الملك ليرى أعماله سيدعه يذهب، ويجمع كل حشوده من الناظرين من بين المساكين والأشقياء والبؤساء والشحاذين.
لهذا يأمرنا بألا نتباهى أبدًا. وأن نجاهد لنخفي أعمالنا الصالحة، وألا نجاهد لنوال الشهرة من الناس، بل وأن نجتهد بالأوفر أن نختفي عن أنظار هؤلاء
3- ويقول: “ومتى صلَّيت، فلا تكن كالمرائين. فإنهم يُحبون أن يُصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم” [ع5]. “وأما أنت فمتى صلَّيت، فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك وصّلِ إلى أبيك الذي في الخفاء” [ع6].
وهؤلاء أيضًا يدعوهم بالمرائين. لأنهم وهم يتظاهرون أنهم يصلَّون لله، يتطلعون حولهم بحثًا عن الناس، مرتدين لا ثوب التوسل بل ثوب السخف. لأن من يتوسل يتخلى عن كل شيء آخر، وينظر إلى هذا وحده، إلى الذي يملك القوة ليهبه مطلبه، ولكن إن ترك هذا الواحد، وراح يتجول ويزوغ بعينيه في كل مكان فإنه سوف يمضي صفر اليدين، لأن هذه هي إرادته.
ولم يقل السيد المسيح أن مثل هذا لن ينال أجرًا، بل قد “استوفاه”، بمعنى أنه ينال أجره من الذين هم أنفسهم يطلبون هذه الأجرة من الله والذي لا يريد ذلك، بل أن يهب الناس المجازاة التي تأتي من عنده هو وحده. لكنهم يطلبون ما في أيدي الناس، ومثل هذا لا يستحق بعد أن ينال شيئًا من الله. لأن الآخرين لن يفعلوا معهم شيئًا.
ولكن لاحظوا أرجوكم. أن محبة ورأفة الله هي في أنه يعدنا بأن يهبنا الأجر، حتى لأجل الأمور الصالحة التي نطلبها منه. لكنهم إذ يزدرون بها فلا يطلبون ما يجب وما ينبغي سواء من الموضع المناسب، أو بحسب ميولهم وتفكيرهم، يظهرون أنفسهم سخفاء جدًا، لهذا يقدم لنا السيد الرب أمثل الطرق للصلاة ومنها الأجر قائلاً:
ادخل إلى مخدعك، فما قولنا إذن ألا ينبغي علينا أن نصلي في الكنيسة؟ بلى. علينا في الحقيقة أن نصلي هناك دون أدنى شك. لكن بالروح الذي يتكلم عنه هنا. لأن الله يطلب في كل مكان قصد الجميع أن يتم ما يأمرهم به لأنه إن كنت وأنت في مخدعك وقد أغلقت بابك. فأنت تفعل ذلك للتباهي. فلن تنفعك الأبواب المغلقة بشيء، وهنا يجدر بنا أن ننتبه إلى ما يعنيه هذا التعريف بدقة، والذي ذكره حين قال: “لكي يظهروا للناس”.
لهذا، حتى وإن أغلقت بابك، فإنه يطلب منك أن تفعل ذلك بشكل ملائم، فالمقصود ليس إغلاق الأبواب الخشبية، بل أبواب ذهنك. لأنه مثلما هو الحال في كل شيء آخر، أن تتحرر من المجد الباطل، فبالأخص يكون الحال في الصلاة، لأنه إن لم نفعل ذلك، يتشتت ذهننا ولا نركز ولا ننتبه إلى ما نقوله، فهل ندخل في هذا المرض أيضًا، وإن كنا نحن الذين نصلي لا ننتبه، فهل نتوقع من الله أن يفعل هكذا؟.
4- ورغم ذلك، فإن البعض رغم كل هذه التحذيرات الجادة، يسلكون بشكل غير لائق في الصلاة. حتى وإن أخفوا شخصهم، فهم يجعلون من أنفسهم ظاهرين للكل بارتفاع أصواتهم، إذ يصرخون دون لزوم، فيجعلون من ذواتهم موضع سخرية الآخرين؛ سواء بالإيماءات أو الأصوات. ألا تعلمون أنه إن جاءنا أحد في السوق وفعل هكذا وتوسل في ضجيج وإلحاح مستفز، نطرده حتى لو توسل إلينا. لكنه إن جاءنا في هدوء وبإيماءة لائقة وصحيحة، فإنه يكسب عطف من يتوسل ويحسن إليه. فلنصلِ لا بإيماءات الجسد وحركاته ولا بارتفاع أصواتنا، بل بجدية أذهاننا. لا في جلبة وضوضاء للتباهي أمام الناس القريبين منا، بل بكل هدوء وتواضع، وتركيز الذهن وبآذاننا الداخلية.
لكن هل أنتم متشتتو الذهن، ولا تقدرون على الكف عن الصراخ. صحيح أن المتألم ذهنيًا يفعل ذلك، وأن يصلي ويتوسل مثلما قلت. لكن موسى النبي أيضًا كان متألمًا وصلى بهدوء وتواضع فسمع الله له، ولهذا قال له الله: “ما لك تصرخ إليَّ” (خر 14: 15). وحَنَّة أيضًا لما كان صوتها غير مسموع، تحقق لها كل ما أرادت. “وإذ كان قلبها يصرخ” (1 صم 1: 13).
وهابيل لم يصلِّ وهو صامت بل وهو يحتضر! وصراخ دمه أقوى وأشد من صوت البوق (تك 4: 10). فهل تئنون أنتم أيضًا مثل هذا القديس. أرجو ألا يكون جوابكم بالنفي. ومثلما يأمرنا النبي: “مزقوا قلوبكم لا ثيابكم” (يؤ 2: 13). عليكم أن تصرخوا من الأعماق إلى الله، لأنه مكتوب: “من الأعماق، صرخت إليك يا رب” (مز 130: 10).
إذن من العمق من القلب اخرج صوتًا واجعل صلاتك سرية. ألا تعلمون أنه في قصر الملك الأرضي تسكن كل جلبة، ويرنو صمت في المكان العظيم. أنتم أيضًا، تصرَّفوا هكذا بلياقة عظيمة وأنتم تدخلون إلى قصر ليس على الأرض، بل هو مهيب أكثر، الذي هو في السماء. أجلّ، لأنكم منضمُّون إلى طغمات الملائكة ورؤساء الملائكة وتشتركون مع السيرافيم، وكل هذه الطغمات تُظهر نظامًا صالحًا جدًا، مرنمة في رعدة عظيمة ذلك اللحن السري (الصوفي) وترانيمها المقدسة لله ملك الجميع، فامتزجوا إذن مع هؤلاء حينما تصلون واقتدوا بترتيبهم السري.
لأنكم لا تصلون للناس بل إلى الله، الحاضر في كل مكان، الذي يسمع حتى قبل خروج الصوت، الذي يعرف أسرار ذهنكم. فإن صليتم هكذا، فما أعظم ما تنالونه من أجر، “فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية” (مت 6: 6). ولم يقل “سيعطيك مجانًا” بل قال “سيجازيك” أجل، لأنه قد جعل نفسه مدينًا لك، وبهذا كرَّمك تكريمًا عظيمًا. فلأنه هو نفسه غير منظور، سيجعل صلاتك هكذا تكون أيضًا.
5- ثم يذكر محتوى الصلاة نفسها بقوله: “حينما تصلّون لا تُكرروا الكلام باطلاً كالأممِ” [ع7]. رأيتم أنه حينما تحدث عن الصدقة، أزال العائق الذي يسبب المجد الباطل. ولم يضف شيئًا آخر، ولا قال حتى متى يجب أن يعطي الإنسان صدقة. هل من عمل شريف، وليس من السلب أو الجشع؟ لأن هذا أمر مسلَّم به بين الجميع، وقد أوضح وبمنتهى الدقة هذا الأمر، حين طوَّب “الجياع لأجل البرّ”. أما فيما يخص الصلاة، فقد أضاف شيئًا أكثر:
“لا تُكرروا الكلام باطلاً” ومثلما يوبخ المرائين هناك. هكذا أيضًا هنا يوبخ الأمم، مخجِّلاً السامع بسبب تفاهة الأشخاص؟، لأنه منذ ذاك الزمان وحتى الآن تحدث أمور مؤلمة ومزعجة – أعني ظهورنا متشبهين بالمرفوضين من الناس – وبهذا الوصف، ينصح بالعدول عن ذلك الأمر، ويسمى تلك التفاهة “بالتكرار الباطل” مثلما نطلب من الله أشياءً غير لائقة وممالك ومجدًا، وتفوقًا على الأعداء لقهرهم، ووفرة في الغنى والثروة، وعمومًا نطلب منه ما لا يهمنا.
إذ يقول الرب “فهو يعلم ما تحتاجون إليه” [ع8]. ويبدو لي أنه يأمرنا هنا ألا نطيل الصلاة، لا في الوقت، وفي عدد وطول الأشياء المطلوبة والمذكورة، لأن واجبنا حقًا هو المثابرة على الطلبة نفسها، إذ أن كلمته هي “مواظبين على الصلاة” (رو 12: 12). والسيد المسيح نفسه قد شرع أن نتضرع إليه بشكل متواصل، وذلك على مثال الأرملة اللحوح التي توسلت إلى القاضي القاسي القلب العديم الرحمة فغلبته بمداومتها على التوسل والطلبة (لو 18: 1). وعلى غرار الصديق الذي أتى متأخرًا ليلاً وأيقظ النائم من فراشه (لو 11: 5)، لا من أجل صداقته بل لأجل الإلحاح عليه.
فالرب لا يأمرنا في أيّ حال أن نؤلف صلاة من عشرة آلاف عبارة مطولة، ونأتي إليه لمجرد تلاوتها أمامه، لأن ذلك هو ما أشار إليه خفية بقوله “إنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم” (لو 6: 7). ويقول: “لأن الآب يعلم ما تحتاجون إليه”.
ورُب سائلٍ: ” فإن كان يعلم احتياجاتنا فما ضرورة الصلاة إذن؟
نحن لا نصلي لكي نرشده، بل لكي نتواصل معه، وأن نكون في علاقة حميمة معه، بالمواظبة على التضرع، لنصير متواضعين ونتذكر خطايانا الشخصية.
6- “فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات” [ع9].
هل ترون كيف يلهب الرب قلب السامع مباشرة، ويذكِّره بكل بركات الله الوفيرة منذ البداية. لأن الذي يدعو الله بالآب،(الجمل بعدها غير مرتبطة) ففي هذا الاسم الوحيد ينعم بغفران خطاياه، ورفع العقوبة والبرّ والتقديس والفداء والتبني والميراث، وأخوة الوحيد الجنس وهبة الروح القدس.
لأن الإنسان لا يمكنه أن يدعو الله أبًا ما لم يكن قد اعتاد على نوال هذه البركات. لهذا يضاعف فيهم إيقاظ الروح والإحساس بكرامته التي يدعو إليها من جهة، ولعظم المنافع التي يتمتعون بها من جهة أخرى.
لكنه حين يقول “في السماوات” لا يقول ذلك وكأنه يغلق على الله هناك، بل ليرفع من يصلي من مستوى الأرض إلى فوق، ليثبته في الأعالي وفي المساكن الفوقانية. وحتى يعلمنا أكثر من ذلك، ليجعل صلاتنا عامة نيابة عن إخوتنا أيضًا. لأنه لم يقل: “أبي الذي في السماوات” بل “أبانا” رافعًا توسلاته نيابة عن الجميع، غير مهتم بطلباته هو فقط، بل بخير جاره في كل مكان. وبهذا ينتزع الكراهية على الفور ويستأصل الكبرياء ويطرح الحسد بعيدًا عنه؛ إذ يستحضر أم كل الصالحات (أسلوب مخطوطات قديمة)- أعني المحبة – ويقضي على الفوارق بين الناس. مظهرًا كيف يتساوى الملك والفقير، على الأقل في الأمور الأعظم التي لا غنى عنها، والتي تخصنا كلنا. لأنه أيّ ضرر يلحق بنا من أنسبائنا الأدنى. إن تساوينا معًا في الأعالي وترابطنا سويا، حيث لا أحد يملك أكثر من غيره، ولا الغني أفضل من الفقير، ولا السيد أحسن من الخادم، ولا الحاكم أفضل من الرعية، ولا الملك أكرم من الجندي البسيط. ولا الفيلسوف أشرف من الهمجي. ولا الماهر متميز عن الجاهل، لأن الله أعطى الجميع نفس السمو الواحد، لأنه تنازل ليدعوه الجميع “أبانا”.
7- وحينما يذكِّرنا بهذا الشرف وبالعطية التي من فوق، وبمساواتنا لإخوتنا وبالمحبة، وحينما أبعدنا عن الأرض ورفعنا وأقامنا في السماء، فلنر ما الذي يوصي به لنفعل به. وليكون ما يأمرنا به في المقام الأول كافيًا ليرشدنا إلى كل الصالحات.
لأن من يدعو الله “أباه” وأبًا للكل تتوفر لديه دالة الحديث معه. وليس كمن يظهر غير مستحق لهذا الشرف. وأن يبدي اجتهادًا ملحوظًا يتناسب مع العطية التي أخذها. ومع ذلك فالرب لا يكتفي بهذا، بل يضيف أيضًا عبارة أخرى: “ليتقدس اسمك”.
فجدير بمن يدعو الله أبًا أن يصلي لا ليطب شيئًا وهو في حضرة مجد أبيه، بل أن يحسب كل الأشياء ثانوية بالنسبة لتسبيحه. لأن كلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” لأن مجد الله الشخصي مجد كامل، ويدوم إلى الأبد هكذا. لكنه يأمر من يصلي إليه أن يطلب منه أن يتمجد أيضًا بحياتنا. ونفس الأمر قاله قبلاً:
“فليضئ نوركم قدام الناس، فيرى الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16). أجل، والسيرافيم أيضًا يمجدونه قائلين “قدوس قدوس قدوس” (إش 6: 3 مع رؤ 4: 8)، وكلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” كما قلنا، أيّ “يمنح ويهب” كما يقول: “حتى نحيا هكذا بكل طهارة ومن خلالنا يمجدك الكل”. وهو نفس الأمر الذي يتعلق بضبط النفس، لنقدم للكل حياة بلا لوم، حتى أن كل من يراها يسبح.
No Result
View All Result
Discussion about this post