ستعود بقوة أعظم
رسالة من القديس يوحنا الذهبي الفم إلى ساقط يائس
حث ثيؤدور (تادرس) بعد سقوطه
ترجمة: القمص تادرس يعقوب مل
مقدمة :
تادرس (ثيؤدور) اليائس
كان تادرس صديقًا للقديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس في الحياة النسكية، ولكن أغواه جمال امرأة شابة حسنة الصورة تدعى Hermoine، فسقط في حبها ورغب في الزواج منها.
سقط تادرس الناسك في حب هذه المرأة، لكن سقطته الكبرى كانت تتركز في يأسه من قبول الله له وإمكان عودته إلى حياته النسكية الأولى، خاصة وأنه زميل وصديق لقديسين من أعظم قديسي الكنيسة.
فرُفعت لأجله الصلوات، وبُذلت المجهودات، وأخيرًا أرسل إليه القديس يوحنا ذهبي الفم رسالتين سجلتا لنا أروع ما تحتاج إليه النفس اليائسة من علاج… كشفتا لنا عن مراحم الله غير المحدودة، وأحضانه المفتوحة على الدوام لقبول الخطاة والزواني، مهما بلغت خطاياهم، والحظر من أشنع شيطان، ألاّ وهو شيطان اليأس.
وقد أثمرت هاتان الرسالتان، فتاب تادرس بل ورُسم قسًا وهو في الثالثة والثلاثين من عمره سنة 383م، وأسقفًا علىMopsuestia سنة 392م وتنيح سنة 428م.
رسالة لك
هذه مقتطفات من الرسالة الأولى، سجلها لنا بطريرك مختبر إلى نفس حزينة منكسرة، أحست بخطاياها وخجلت من العودة إلى ربنا يسوع حبيبها وفاديها…. فاستغل الشيطان الفرصة حتى يحرمها من مصدر حياتها.
وحاولت أن أقوم بتبويب الرسالة ووضع عناوين جانبية والاستغناء عن بعض العبارات للتبسيط، وأرجو ألاّ تفقد الرسالة بهذا كيانها كوحدة واحدة تتحدث عن موضوع واحد هو “عدم اليأس” أو “الرجاء”.
وفيما يلي أهم النقاط الواردة في هذا الكتيب:
أولاً: لا تيأس.
ثانيًا: لا تيأس فإن الله محب في تأديباته.
ثالثًا”: لا تيأس قائلاً: هل تُقبل توبة مؤمن سقط؟!
رابعا: لا تيأس بينما الله يطلب جمالك.
خامسًا: لا تيأس لماذا تستسلم؟!
سادسًا: لا تيأس قوة التوبة.
لا تيأس! اعرف قيمة نفسك
“يا ليت رأسي ماء، وعينيَّ ينبوع دموع” (إر 1: 9).
إنه الوقت المناسب لكي أنطق بهذه الكلمات الآن. نعم أكثر مما كان للنبي في أيامه. فإنني وإن كنت لا أبكي على خراب مدنٍ كثيرة بل وجميع المدن، فإنني أنتحب من أجل النفس التي توازى كل هذه، بل وأكثر جدًا…
إنني لا أحزن لأجل دمار مدينة أو أسرها بواسطة الأشرار، بل أحزن لأجل تدمير روحك المقدسة… وهلاك الهيكل الحامل للسيد المسيح وإبادته…
هذا الهيكل أقدس من ذاك (هيكل العهد القديم)، فإنه لا يتألق بذهب وفضة، بل بنعمة الروح القدس، وبدل تابوت العهد وتمثاليْ الشاروبيم يوجد في القلب السيد المسيح وأبوه والباراقليط…
أما الآن بعد سقوطك، فالكل قد تغير، الهيكل خرب وزال جماله وبهاؤه، ولم يعد بعد مزينًا بالزينات الإلهية غير المنطوق بها، بل صار مفتقرًا إلى كل حماية وحصانة. فلم يعد له باب ولا متراس بل صار مفتوحًا لكل سلوك مدمِّر للنفس ولكل فكر معيب. فإن أراد فكرٍ حب الظهور أو الزنا أو حب المال أو أكثر من هذه الأفكار دنسًا أن تدخل فيه، فليس ما يمنعها. أما قبل السقوط فقد كانت الروح في حصانة السماء التي لا يدخلها شيء من هذا.
يسوع قادر أن يقيمك
ربما يبدو كما لو كنت أنطق بأمور لا يصدقها من شاهد انحلالك وخرابك، فمن هذه الناحية أبكي منتحبًا، ولا أكف عن ذلك حتى أراك قائمًا في بهائك السابق مرة أخرى. فإنه وإن كان هذا يبدو مستحيلاً بالنسبة للبشر، لكن كل شيء مستطاع لدى الله. فهو “المقيم المسكين من التراب؛ الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف شعبه” (مز 113: 7-8). وهو “المُسكن العاقر في بيت أم أولاد فرحه” (مز 113: 9).
إذًن لا تيأس من تغَيُّيرك تغيُّرًا كاملاً.
إن كان الشيطان لديه هذه القدرة، أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذي قبل.
لا تيأس
لا تيأس ولا تطرح الرجاء الحسن، ولا تسقط فيما يسقط فيه الملحدون. فإنه ليست كثرة الخطايا هي التي تؤدي إلى اليأس بل عدم تقوى النفس. فهناك فئة معينة هي التي تسلك طريق اليأس عندما يدخلون طريق الشر، غير محتملين النظر إلى فوق، أو الصعود إلى فوق ما سقطوا إليه.
هذا الفكر الدنس (اليأس)، يثقل على عنق النفس كالنير فيُلزمها بالانحناء، مانعًا إيَّاها من أن تنظر إلى الله. لهذا فعمل الإنسان الشجاع والممتاز هو أن يكسر هذا النير قطعًا، ويزحزح كل ثقل مثبت فوقه، ناطقًا بكلمات النبي: “مثل عينيّ الأمة إلى يديّ سيدتها، كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا، حتى يتراءف علينا؛ ارحمنا يا رب ارحمنا، فإننا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا” (مز 123: 2-3).
يقول: “امتلأنا هوانًا”، وإننا تحت ضيقات لا حصر لها، ومع هذا لن نكف عن التطلع إلى الله، ولا نمتنع عن الصلاة إليه، حتى يستجيب طلبتنا. لأن علامة النفس النبيلة، هي ألاّ تنحني من كثرة الكوارث التي تضغط عليها، أو تفزع منها، ولا تتراجع بعد عن الصلاة دفعات كثيرة… بل تثابر حتى يرحمها الله كقول داود الطوباوي السابق.
تمسك بالرجاء
يسحبنا الشيطان إلى أفكار اليأس، حتى يقطع رجاءنا في الله. فالرجاء هو مرساة الأمان، ينبوع حياتنا، قائدنا في الطريق المؤدي إلى السماء، خلاص للنفوس الهالكة… فقد قيل: “لأننا بالرجاء خلصنا” (رو 8: 24).
الرجاء، بالتأكيد يشبه حبلاً قويًا مُدلى من السماء، يعين أرواحنا، رافعًا من يمسك به بثبات، فوق هذا العالم، وتجارب هذه الحياة الشريرة. فإن كان الإنسان ضعيفًا وترك هذه المرساة المقدسة، للحال يسقط ويختنق في هوة الشر.
والشيطان يعلم ذلك، فعندما يدرك أننا متضايقون بسبب شعورنا بأعمالنا الشريرة، يضع في نفسه أن يلقى علينا حملاً إضافيًا أثقل من الرصاص، وهو القلق الناشئ عن اليأس. فإن قبلناه يتبع ذلك حتمًا سقوطنا إلى أسفل بسبب الثقل، تاركين ذلك الحبل، ساقطين في عمق البؤس الذي أنت فيه الآن، ناسين وصايا الله الوديع المتضع، متوقعين إنذارات الطاغية القاسي وعدو خلاصنا الذي لا يغفو، كاسرين النير الهين وملقين عنا الحمل الخفيف، لنضع بدلاً منهما طوقًا حديديًا، معلقين على رقابنا حجارة طاحونة ثقيلة…
لا تغلق الباب… أفرحني معك
المرأة التي وجدت الدرهم الواحد، دعت جاراتها ليشاركنها في فرحتها قائلة: “افرحن معي”، وأما أنا فأستدعي كل أصدقائنا – أنا وأنت – لهدف مخالف، غير قائل لهم: “افرحوا معي”، بل “ابكوا معي”، لأنه قد حدثت لي أشر خسارة.
أنها ليست وزنات من ذهب، أو كميات ضخمة من حجارة كريمة سقطت من يديّ، بل ما هو أثمن من كل هذا، فذلك الذي كان يبحر معي في نفس البحر وعلى نفس القارب لست أعرف كيف انزلق من على ظهر السفينة وسقط في هوة الهلاك…!
علينا فقط ألاّ نيأس، ولا ننمي فينا الخوف من الرجوع، لأنه من كان كذلك، فإنه حتى إذا نال قوة وغيّرة بلا حدود تصير بلا فائدة…!
لا تكف عن الصراع
من يغلق على نفسه باب التوبة، ويمتنع عن الدخول في ميدان السباق، كيف يمكنه أن ينال أمرًا صالحًا، قليلاً كان أو كثيرًا، وهو في الخارج مربوط؟!
فالشرير يستخدم كل الحيل ليزرع فينا فكر اليأس، فإن نجح في ذلك، لا يحتاج بعد إلى جهاد أو تعب في صراعه ضدنا، مادمنا منطرحين وساقطين وغير راغبين في المقاومة…
فمن يقدر أن يتخلص من هذه السلسلة، ويستعيد قوته، ولا يكف عن المقاومة ضد الشيطان حتى آخر نسمة، حتى ولو سقط مرات كثيرة بلا عدد، مثل هذا يقوم ويضرب عدوه. أما من كان في عبودية أفكار اليأس… فكيف يقدر أن يغلب وهو لا يقاوم بل يهرب من أمام عدوه؟!
لا تيأس فإن الله محبُ في تأديبَاته
مفهوم غضب الله
غضب الله ليس انفعالاً، وإلاّ كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله (أي الإنسان) الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال حتى إن عاقب وإن انتقم، فإنه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا فيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوة التوبة.
لماذا يؤدب؟
الذين أخطأوا ولو في حقه، لا يرغب في معاقبتهم انتقامًا لنفسه، لأنه لا يصيب لاهوته ضرر، إنما يفعل ذلك لأجل نفعنا، لكي يمنع انحرافنا الذي يتزايد باستهتارنا وعدم مبالاتنا به.
فكما أن الذي يبقى خارجًا بعيدًا عن النور، لا يضر النور في شيء، بل تقع الخسارة العظمى عليه بكونه في الظلام، هكذا من اعتاد أن يحتقر القوة القادرة، لا يضر القوة بل يضر نفسه بأكبر ضرر ممكن.
لهذا السبب يهددنا الله بالعقوبات، بل وقد يصبها علينا، ليس انتقامًا لنفسه بل كوسيلة لجذبنا إليه.
مثال
أننَّي أسأل: مَنْ مِنَ الناس فسد أكثر من ملك بابل (نبوخذ نصّر)، هذا الذي اختبر قوة الله بغزارة، حتى خضع لنبي الله (دانيال)، وأمر بتقديم تقدمات وبخور لله، لكنه عاد مرة أخرى إلى كبريائه السابق ُملقيًا في الأتون (بالثلاثة فتية) الذين لم يمجدوه أكثر من الله؟!
ومع هذا كله، فقد دعا الله هذا الرجل القاسي، عديم التقوى، الذي هو بالأحرى حيوان مفترس أكثر منه مخلوق بشرى، دعاه إلى التوبة، معطيًا إياه فرصًا كثيرة لذلك (للتوبة).
فالفرصة الأولى هي تلك المعجزة التي تمت في أتون النار(أي ظهور ابن الله مع الثلاثة فتية في وسط النار – دا 3).
والفرصة الثانية هي تلك الرؤى التي ظهرت له، والتي فسرها له دانيال، هذه الرؤى الكفيلة بأن تسحق أي قلب حجري (دا 4).
وبعد ذلك نصائح النبي نفسه الذي قال له: “أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعله يطال اطمئنانك” (دا 4: 7…). ماذا تقول أيها الرجل الحكيم (دانيال) الطوباوي؟! هل يمكن أن تكون له فرصة للرجوع إلى الله بعد هذه السقطة العظيمة؟!
هل تعود إليه الصحة بعد مرض كهذا؟!
وهل يمكن أن تعود إليه رزانة عقله بعد جنون مطبق كهذا؟!…
مع هذا كله لم يعاقبه الله بل استمر ُيطيل أناته عليه ناصحًا إيَّاه تارة بالرؤى وأخرى على لسان نبيّه. ولكن إذ لم يحدث له أي صلاح، بأي طريق من هذه الطرق، أخيرًا صب الله عليه العقاب، “طُرد من بين الناس وتساوى قلبه بالحيوان وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فأطعموه العشب كالثيران وابتلَّ جسمه بندى السماء” (دا 5: 21). ولم يكن هذا العقاب للانتقام منه عما سبق أن فعله، بل لأجل قطع أسباب الخطية المقبلة، وليمنع تماديه في الشر.
ولم يصُّب الرب عليه العقاب إلى الأبد، بل بعد أن استمر تأديبه له سنوات قليلة، أعاده ثانية إلى مركزه الأول دون أن تصيبه خسارة بسبب العقاب، بل على العكس استفاد أكبر فائدة ممكنة إذ نال إيمانًا ثابتًا في الله، وتوبة عن أفعاله الشريرة.
منتظر توبتك
هذا هو حنو الله أنه لن يُدير وجهه عن توبة صادقة، فحتى إذا كان الإنسان قد اندفع إلى أقصى حدود الشر، فعندما يعود إلى طريق الفضيلة، يقبله الله ويرحب به، ويصنع معه كل شيءٍ إلى أن يعيده إلى حالته الأولى.
فالله يعمل إلى أقصى حدود الرحمة، حتى ولو لم يُظهر الإنسان توبة كاملة، فهو لا يتجاهل أمرًا صغيرًا أو زهيدًا، بل يعطى عن هذا جزاءً عظيمًا. ويظهر ذلك من قول النبي إشعياء: “من أجل إثم مكسبه غضب وضربته، استترت وغضبتُ، فذهب عاصيًا في طريق قلبه. رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده وأرد تعزيات له ولنائحيه” (إش 57: 17-18).
وسنقتبس مثلاً آخر، وهو أشر الملوك كفرًا، الذي كان يخطئ بتأثير زوجته، لكنه ما أن تأسف ولبس المسوح، ودان أخطاءه حتى ربح لنفسه مراحم الله… فقد قال الله لإيليا: “هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي، فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه” (1 مل 21: 29).
ليس فقط ما حدث مع هؤلاء، بل كلمات النبي تشهد بإبادة الله لأفكار اليأس، إذ قال: “اليوم إن سمعتم صوته. فلا تقسُّوا قلوبكم كما في مريبة” (مز 95: 7-8). وكلمة “اليوم” هنا يقصد بها أي لحظة من لحظات الحياة، حتى ولو كنت في سن الشيخوخة، إن أردت. فالتوبة لا تُحسب بعدد الأيام بل بحالة الروح. فأهل نينوى لم يحتاجوا إلى أيام كثيرة لإزالة خطاياهم، بل جزء صغير من يوم كان كافيًا لسحق شرورهم. واللص أيضًا لم يكن محتاجًا إلى فترة طويلة للدخول إلى الفردوس، بل في تلك اللحظة القصيرة التي احتملت كلمة واحدة، غُسلت خطاياه التي ارتكبها كل أيام حياته. لقد نال المكافأة الموهوبة له من الله قبل أن ينالها الرسل.
ونحن نرى الشهداء وقد نالوا أكاليل المجد لا بعد عدة سنوات، بل بعد أيام قليلة، وغالبًا ما كانت تتم في يوم واحد (أي كان بعضهم يقبل المسيحية ويستشهد في نفس اليوم).
لذلك فنحن في حاجة إلى غيرة في كل اتجاه، واستعداد عظيم للفكر، فإن هيأنا الضمير لكي يكره شرورنا الماضية ويختار الطريق الآخر بأكثر نشاط، بحسب إرادة الله ووصاياه، فسننال خيرًا كثيرًا في فترة زمنية وجيزة، فكثيرون كانوا آخرين لكنهم سبقوا الأولين.
لا تيأس قائلاُ: هل تُقبل توبة مؤمن سقط؟!
الرجوع أمر طبيعي
السقوط في ذاته ليس بالأمر الخطير، بل يكمن الخطر في البقاء منطرحًا بعد السقوط، وعدم القيام مرة أخرى. فالجُبن أي الخوف والكسل يخفيان نيّة الضعف الخلقي تحت حجة ” اليأس”.
لهؤلاء أيضًا ينطق النبي في حيرة قائلاً: “هل يسقطون ولا يقومون، أو يرتد أحد ولا يرجع” ؟! (إر 8: 4).
فإن طلبت منيّ أمثلة عن أشخاص سقطوا بعد الإيمان، فإن كل ما كتب في الكتاب المقدس يخص هؤلاء الأشخاص، لأن الذي يسقط ينتسب سابقًا إلى الذين لازالوا قائمين، وليس إلى الذين مازالوا مطروحين، لأنه كيف يسقط أحد من المطروحين؟!
أمثلة
1- الخروف الذي انفصل عن التسعة والتسعين ورجع ثانيًا (لو 15: 4-5)، لا يمثل لنا سوى السقوط ثم العودة إلى الإيمان. لأنه لم يكن خروفًا من قطيع غريب بل ينتمي إلى نفس قطيع المؤمنين، وكان يرعاه نفس الراعي، ولم يضل في مكان عام، بل تاه بين الجبال في الوادي أي في رحلة طويلة، بعيدًا جدًا عن الطريق المستقيم…
لقد أعاده الراعي دون أن يطرده أو يضربه، بل حمله على كتفيه!
فكما يتعهد الأطباء بعناية من أزمنوا كثيرًا في المرض، غير مستخدمين قوانين وفنون الطب فحسب بل وأحيانًا يعطونهم هبات، هكذا يقود الله من سقطوا بعيدًا جدًا، لا بقسوة شديدة، بل بلطفٍ وبتدرج، ويعينهم من كل جانب، حتى لا يزداد انفصالهم أو تتكاثر أخطاؤهم.
2- ونفس الحقيقة تنصب على مثل الابن المسرف. فهو أيضًا لم يكن غريبًا، بل ابنًا وأخًا لابن يُسرّ أبوه به جدًا، وقد غرق في رذيلة شاذة، وذهب إلى أرض بعيدة جدًا أي أرض الخطية.
لقد سقط الابن الغنى، الحر، المهذب، في أشد درجات البؤس، أشد مما كان عليه العبيد والغرباء والأجراء! ومع ذلك فقد رجع إلى حالته الأصلية، وأُعيدت إليه كرامته السابقة. فلو تطرق إليه اليأس من هذه الحياة، واغتم بسبب ما سقط فيه، لبقى في الأرض الغريبة ولم يحظ بما ناله، ولهلك من الجوع، وسقط في الموت الذي يُرثى له. لكنه إذ تاب ولم ييأس، أنقذ ما هلك هلاكًا عظيمًا، ورجع حائزًا على نفس المقام الأول، لابسًا الثوب الجميل، متمتعًا بالكرامات العظيمة التي لم ينلها أخوه الذي لم يسقط…
عظيمة هي قوة التوبة!
3- الشاب الساقط: اسمع الآن بعضًا مما قد حدث في أمثلة واقعية. فقد ارتكب شخص معروف من أهل كورنثوس خطية، لا تُسمى (لا تحدث) بين الأمم. هذا الشخص كان مؤمنًا وينتمي إلى بيت السيد المسيح، ويقول البعض إنه كان في ذلك الوقت من رجال الكهنوت.
ماذا إذن؟ هل قطعه بولس الرسول عن الشركة مع من هم في طريق الخلاص؟ كلا. فإن بولس الرسول الذي انتهر أهل كورنثوس مرات عديدة لأنهم لم يقدموا له فرصة للتوبة، كان يرغب في أن يبرهن لنا أنه ليست خطية بلا علاج، فقد قال عن ذلك الرجل الذي كانت خطيته أشنع من أن يفعلها الأمم:
“إن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1 كو 5: 5). لكنه بعد ما تاب قال: “مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين” (2 كو 2: 6)، موصيًا إيّاهم في رسالته الثانية أن يقبلوا ذلك الشخص مرة أخرى ويرحبوا بتوبته حتى لا يهلكه الشيطان…
جهنم لم تعد لنا
ليتنا نرجع إلى الله، أيها الحبيب، ونتمم مشيئته. فقد خلقنا وأوجدنا لنكون شركاء في الحياة الأبدية وليس لكي يطرحنا في جهنم أو يسلمنا للنار. لأن جهنم للشيطان وليست لنا، وأما نحن فقد أعد لنا الملكوت منذ زمن بعيد.
وفي شرح هذه الحقائق، قال السيد للذين عن اليمين: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 40). وأما الذين عن اليسار فيقول لهم: “إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية”، وهنا لم يقل: “المعدة لكم”، بل “المعدة لإبليس وملائكته” (مت 25: 41).
ليتنا لا نحرم أنفسنا من الدخول إلى حجرة العروس. فطالما نحن في هذا العالم، مهما كانت خطايانا بلا حصر، فيمكن غسلها بالتوبة الصادقة عما ارتكبناه.
أما عندما نرحل إلى العالم الآخر فلن تنفعنا أعمق توبة، ولو صررنا على أسناننا وقرعنا صدورنا ونطقنا بكل عبارات الاستغاثة. فإنه لن يبرد أجسادنا المحترقة بقطرة ماء ولا بطرف إصبعه، ولن نسمع سوى تلك الكلمات التي قيلت في مَثل الغني: “بيننا وبينكم هوَّة عظيمة” (لو 16: 26).
لذلك أطلب إليك أن تشفى حواسك حتى تعرف الله كما ينبغي أن يُعرف. لأن الرجاء لا يتبدد إلا في الهاوية، حيث يصير العلاج عديم الفائدة… أما هنا فمتى استخدمناه، ولو كنا مُسنِّين، فإنه يجلب لنا قوة عظيمة.
لهذا فإن الشيطان يستخدم كل الطرق حتى يبذر فينا بذور اليأس، لأنه يعلم أننا إن تُبنا، ولو قليلاُ، فسننال مكافأة. وكما أن الذي يقدم كوب ماء بارد لا يضيع أجره. هكذا مَنْ يقدم توبة عن شروره التي ارتكبها ولو لم تكن بقدر ما تستلزمه شروره، فإنه لا يضيع أجره. فالحاكم العادل لا يغفل عن أي شيء صالح، مهما كان صغيرًا. لأنه إن كان في يوم الدينونة يدقق في خطايانا، حتى أنه يحاسبنا عن كل كلمة وكل فكر، فبالأكثر جدًا يدقق في أعمالنا الصالحة، سواء أكانت كبيرة أو صغيرة…
عليك فقط أن تتقدم للعمل وتفتح باب الدخول إلى موضع الجهاد، وبقدر ما تتأخر في الخارج سيبدو لك العمل صعبًا وغير عملي.
فقبل القيام بالعمل تبدو لنا الأمور البسيطة والسهلة، بحسب مظهرها، أنها صعبة علينا جدًا. لكننا إذ بدئنا نعمل تزول المخاطرة، وتحتل الثقة مكان الريبة واليأس، ويقل الخوف، وتزداد سهولة العمل ويقوي رجاؤنا الصالح…
لو كنتُ بالحقيقة أطلب منك أن تصعد إلى حالتك الأولى دفعة واحدة، لكان من الطبيعي أن تشتكى بأن هذا صعب، لكن كل ما أطلبه منك هو أن تستعد وترتد إلى الاتجاه المضاد، فلماذا تتردد وترتجف وتتقهقر؟!
تذكر يوم الدينونة – زُرْ المدافن
ألم تنظر أولئك الذين ماتوا وهم في ترفهم وسكرهم ولعبهم وغير ذلك من حماقات هذه الحياة؟!
أين هم الآن أولئك الذين اعتادوا أن يتبختروا زهوًا في الأسواق في أُبهة وقد تجمهر حولهم أتباعهم؟! الذين لبسوا الحرير وتعطروا بالروائح وامتلأَتْ موائدهم من الفراديس وشاهدوا المسارح بلا انقطاع؟! ماذا صار إليه كل ما استعرضوه؟!…
لتذهب إلى التابوت (نعش الميت) ولتتأمل التراب والرماد والدود، فكر في المكان الذي تعافه النفس؛ وتنهد بمرارة.
اذكر نهاية الأشرار
وليت الجزاء يقف عند حد الرماد! والآن فلتنقل أفكارك من التابوت، ومن ذلك الدود إلى الدود الذي لا يموت، والنار التي لا تُطفأ، وصرير الأسنان، والظلمة الخارجية والحزن والضنك، انتقل بأفكارك إلى مثل لعازر والغني. الذي بالرغم مما كان يملكه من الغنى ويلبسه من الأرجوان، لم يقدر أن ينال حتى قطرة من الماء.
عندما تسمع عن النار لا تظنها كنار هذا العالم. لأن نار هذا العالم تحرق وتبيد ما اشتعلت به، أما تلك فتحرق على الدوام أولئك الذين أمسكت بهم ولا تكف عن ذلك، لذلك دُعِيت “لا تُطفأ”. لأن أولئك الذين أخطأوا سيبقون فيها على الدوام، لا للمجد بل ستصير لهم مادة دائمة لنوال العقاب الذي سيعمل فيهم إلى الأبد.
ياله من أمر مرعب! أن اللغات تعجز عن التعبير عنه! ستصرُّ أسناننا بسبب أعمالنا وآلامنا التي لا تطاق، وليس هناك من ينقذنا!
نعم. سوف نتنهد بقوة حيث تصيبنا النيران بقسوة، وليس من منقذ من أولئك الذين يعاقبون معنا وهم في خراب عظيم!
كيف يمكن لأحد أن يصف رعب النفوس من الظلام؟! فكما أن النار ليس لها سلطان أن تبيد، كذلك ليست لها قدرة على الإضاءة، وإلاّ ما كان هناك ظلام…
أي ترف (في هذا العالم) وكم من الزمن تظن أنه يعادل هذه العقوبة وذلك الانتقام؟ أتظن أن مائة عام أو مائتين تعادل ذلك؟ وماذا يساوى هذا الزمن بجوار الزمن غير المحدود؟!فالتمتع بالأمور الزمنية عند مقارنتها بحالنا في العالم الآتي ليس إلاّ حلمًا في يوم واحد وسط كل الحياة. فمن منّا يقبل أن ينال عقابًا أبديًا لأجل رؤية حلم طيب؟!
اذكر سعادة الأبرار
أطلب إليك أن تتأمل الحياة الأخرى، ما أصعب أن تتـأملها!
فإنه لا تستطيع لغة أن تُعبر عنها، لكننا نحاول أن نأخذ لها صورة ولو غير واضحة، مستعينين بما أُخبرنا به، كما لو كان خلال ثقوب…
أي حياة مباركة هذه؟ لا يمكن أن يوجد فيها خوف ولا فقر ولا مرض. ويستحيل أن نجد إنسانًا يضره أحد أو يضر أحدًا، ينتهر أو يُنتهر، غضوب أو حاسد، أو محترق بأية شهوة مشينة، أو يقلق لأجل نوال ضروريات الحياة أو يتحسر على فقدان كرامة أو سلطان، لأن كل الآلام تُقمع وتزول، ويصير الكل في سلام وسرور وفرح، وتسير كل الأمور في هدوء، وتكون في نهارٍ دائمٍ وضياءٍ ونورٍ ليس مثل هذا النور الذي في العالم… فلا يكون ليل غروب، لا برد ولا حر، ولا تعاقب مواسم…
وأما ما هو أعظم من هذا كله، فهو الفرح الدائم في الشركة مع السيد المسيح، في صُحبة الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات السمائية…
حقًا إن أغلب الذين ليس لهم هدف سليم معقول، يصارعون من أجل الهروب من جهنم، لكنني أقول بإن العقاب الأشد من الجحيم هو حرماننا من أمجاد العالم الآتي. وأظن أن من يفشل في بلوغها ينبغي ألاّ يحزن بسبب ما يعانيه في جهنم بقدر ما يحزن على طرده من السماء. لأن هذا في ذاته أقسى عقوبة…
لماذا تيأس بينما الله يطلب جمالك!
مقدمة[1]
الله خالق… خلق النفس البشرية على صورته ومثاله، وهذا الخلق لم يكن بإرادة الإنسان، إذ كان عدمًا. أما بعد خلقته فقد صارت له إرادة حرة لأنه على مثال الله… لكن بهذه الإرادة الحرة أفسدت النفس جمالها واحتاجت إلى يد الخالق أن تعمل فيها، لكنه لن يعمل إلا إذا أرادت النفس، لأن لها مطلق الحرية.
وبالصليب صار للنفس البشرية أن تطلب – إن أرادت – يد الخالق ليعيدها إلى جمالها الأول… وهي في ذلك تنمو يومًا فيومًا، وتبرز فيها ملامح صورة الله إلى أن يأتي يوم الدينونة فتكون لنا صورة كاملة له، فنشاركه في مجده… نحن الآن في العالم في دور التكوين، إما أن نطلب يد الله حتى ينمو الإنسان الجديد الذي له صورة الله ويُغلب الإنسان القديم، أو نرفض عمله فيّنا، فنفك رباطات الإنسان القديم أي الصورة المشوهة فيّنا ولا يكون لنا نصيب مع الفادي.
وقد قارن القديس يوحنا ذهبي الفم بين خلقة الإنسان وهو في الرحم، وخلقة الإنسان الجديد (نموها كل يوم) في هذا العالم… فرأى أن كليهما يعبسان في عالم ضيق مملوء بالمتاعب، وأن كليهما تبرز فيهما الملامح يومًا فيومًا… وأنه إذا وُلد أحدهما قبل الموعد ينزل من ضيق إلى ضيق أعظم.
غير أن هناك فارقًا شاسعًا بين الاثنين، فالإنسان يُخلق في رحم أمه رغم إرادته، ولا يُأخذ رأيه في لونه أو جمال وجهه أو طوله… الخ. أما النفس البشرية فإن لها أن تمسك يد الفادي ليخلق لها الصورة التي تطلبها، إن اشتاقت إلى ملامح المحبة الإلهية أو ملامح السلام أو الوداعة أو التعفف أو الصلاح… كل هذا ترسمه يد الله في القلب. فالله ساكن فيّه ومستعد أن يعمل، لأنه “يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون”، لكنه ينتظر قبول النفس البشرية.
نحن في دور الخلقة
إننا في هذا العالم نشبه الجنين في الرحم. فنحن قاطنون في هذا العالم الضيق وغير قادرين هنا أن ننال مجد الحياة الأخرى وحريتها (مهما فعلنا). لكن متى جاء موعد رحيلنا، يوم يقذف هذا العالم بالإنسان إلى يوم الدينونة (كما يقذف الرحم بالجنين). فإن الذين أجهضهم العالم (أي كانوا سقطًا لم يكتمل نموهم). يخرجون من الظلمة إلى ظلمة أحلك، ومن حزن إلى حزن أشد؟
أما الذين كمُل تكوينهم (أي يُولدون أحياء) لهم ملامح الصورة الملكية، فإنهم يُقدمون إلى الملك ويقومون بالخدمة التي للملائكة ورؤساء الملائكة نحو إله الكل.
لذلك أطلب إليك أيها الصديق ألاّ تزيل تلك الملامح (العلامات) تمامًا، بل أصلحها بسرعة، واختمها على نفسك بأكثر كمال.
تستطيع تشكيل روحك
حقًا لقد ثبَّت الله الجمال الجسدي في حدود الطبيعة (أي لا يقدر الإنسان على تشكيل جسده)، أما نعمة الروح فتُعتق من الحبس والعبودية، صاعدة من هذه الحالة، بقدر ما تسمو كثيرًا عن أي تناسق جسدي، وهي تعتمد في ذلك علينا (أي إرادتنا) وعلى نعمة الله.
فسيدنا، بكونه رحيمًا، شرّف جنسنا في هذا الطريق الخاص، تاركًا للطبيعة أن تختص بتشكيل الأمور الصغيرة (الجسد) التي لا تساهم كثيرًا في نفعنا. ففي سلطانها أمور غير هامة، أما نحن فجعلنا فنانين فيما يختص بالأمور التي هي بحق هامة (أي بإرادتنا نُسلِّم لنعمة الله أن تشكل النفس وتجمِّلها).
فلو ترك الله لنا أن نشكل أجسادنا، لأصبحنا في قلق متزايد، وأضعنا كل أوقاتنا في أمور لا تنفع، وبالتالي كنا سنهمل الروح إهمالاً زائدًا.
وبالرغم مما نحن عليه، من عدم إعطائنا هذا السلطان (في اختيار وتشكيل أجسادنا)، نقوم بمجهودات جبارة، وإذ لا نقدر أن نحصل على جمال جسداني حقيقي، ندبِّر بدهاء تقليدات كثيرة، باستخدام المساحيق والأصباغ، والتزين بشعر مستعار، والحُليّ، واستخدام أقلام للحواجب… وكثير من الحيل. فلو أعطيت لنا القدرة على تشكيل الجسد تشكيلاً حقيقيًا، فهل سيكون لنا الوقت الذي نخصصه للنفس وللأمور الخطيرة؟!
لو فرضنا أن هذا هو عملنا، ما كان لنا عمل آخر، بل كنا نقضي كل زماننا فيه، مُزينين الجارية (الجسد) بزخارف لا حصر لها، تاركين سيدتها (النفس) في حالة مشوهة ومهملة. لهذا السبب أعفانا الله من العمل غير المفيد، واضعًا فينا قوة العمل في العنصر النبيل (النفس).
فمن لا يقدر أن يغيّر جسده القبيح إلى شكل جميل، يستطيع أن يسمو بالنفس، حتى ولو كانت قد انحدرت إلى أقصى حدود القبح، ليصل بها إلى قمة الجمال. ولا يجعلها محبوبة ومرغوبًا فيها من الصالحين فحسب بل ومن الله ذاته سيد وإله الكل، حتى أن المرتل عندما نطق بخصوص هذا الجمال قال: “فيشتهي الملك حسنك” (مز 45: 11).
الله يقبل الزواني
ألا ترى أنه حتى في بيوت العاهرات، بصعوبة يقبل الفائزون في المصارعة، والعبيد الهاربين النساء قبيحات المنظر؟!
وإن سقطت إحدى النساء الجميلات الصورة، ذات الأصل الطيب، الوديعة، لظروف سيئة، أفلا يخجل أي شخص من العظماء أن يتزوج منها؟!
وكما أن بعض الرجال كثيرو الشفقة، ذوو الأمجاد العظيمة، يعتقون نسوة من عبوديتهن، اللواتي كن بلا كرامة في بيوت العاهرات، ويقبلونهن زوجات لهم، هكذا يصنع الله أكثر من هذا مع تلك النفوس التي اغتصبها الشيطان، فسقطت من حالتها النبيلة الأولى وصارت زانية في هذه الحياة.
وقد امتلأت أسفار الأنبياء بأمثلة من هذا النوع، عندما خاطبوا أورشليم التي سقطت في الزنا… فكما يقول حزقيال: “لكل الزواني يعطون هدية، أما أنتِ فقد أَعطيتِ كل محبيك هداياكِ ورشيتهم ليأتوكِ من كل جانب للزنا بك” (حز 16: 23). وقال آخر: “في الطرقات جلست كأعرابي في البرية” (إر 3: 2). وهذه الإنسانة (أورشليم) التي ارتكبت الزنا بهذه الصورة، دعاها الله مرة أخرى، وحتى عندما سمح بأسرها لم يكن للانتقام منها بقدر ما كان لإصلاحها…
إن كان الله لم يتخلى عن توبة هذه التي ارتكبت الزنا دفعات كثيرة، كم بالأكثر يقبل نفسك التي سقطت لأول مرة؟!
أنظر إلى مقدمة إرميا وإلى أسفار الأنبياء، عندما احتقر الشعب الرب وذمُّوه، كيف أسرع هو إليهم وجدَّ في طلب صداقة من تركوه.
وهذا أيضًا ما أظهره بوضوح في الأناجيل قائلاً: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23: 37). وكما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنثوس قائلاً: “إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة، إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله” (2 كو 5: 19-20).
تأمل فإن هذا قد قيل لأجلنا.
جمال الجسد
إنني أعلم أنك معجب الآن برشاقة هيرميون Hermoine[2]
وقد حكمت عليها بأنه لا يوجد في العالم من يضارع جمالها.
أيها الصديق… إن أردت، تقدر أنت نفسك أن تضارعها في حُسنها وجمالها، كما تضارع التماثيل الذهبية تلك التي من الطين. لأنه إن كان جمال الجسد يسحر عقول الرجال ويثيرها، فكم يكون جمال الروح وحسنها عندما تتألق؟!
فما هو مصدر هذا الجمال الجسدي، إلاَّ ما فيه من لعاب ودم وعصارة صفراء وطعام ممضوغ … ؟!
إن تأملت ما في داخل العينين الجميلتين والأنف المستقيم والفم والوجنتين، فسوف لا تجد هذه الأعضاء الجميلة سوى كونها قبور مبيضة مملوءة في الداخل قاذورات.
تصور أنك رأيت خرقة بها قليل من اللعاب أما تأنف من أن تلمسها حتى ولو بأطراف أصابعك؟! لا بل ولا تحتمل النظر إليها، ومع ذلك تنخدع بتأثير محزن هذه الأمور؟!
جمال الروح
أما جمالك أنت فليس من هذا النوع، بل يفوق جمالها، كما تسمو السماء عن الأرض، بل بالحري أكثر من ذلك وأبهي …
وان كان لم يرَ أحًد روحًا بذاتها منفصلة عن الجسد، إلاَّ أنى مع هذا سأحاول أن أقدم لك جمال الروح بطريق آخر، أقصد حالة القوات السمائية العظيمة.
اسمع فإن جمال هذه القوات أرعد دانيال الرجل المحبوب. فمع أنها (الملائكة) لم تظهر له في طبيعتها الأصلية كما هي، بل في ظلام وبطريقة قاتمة، إلاَّ أنها أضاءت بلمعان عظيم هكذا، فكم بالأكثر تكون صفات طبيعتها عندما تتحرر من هذا الحجاب؟!
إن هذا يُظهر إلى حد ما صورة جمال الروح “لأنهم مثل ملائكة الله” (لو 20: 36) …
————————————
[1] هذه المقدمة من وضع المترجم لتبسيط فكرة القديس ذهبي الفم.
[2] المرأة التي كان يحبها.
لماذا تستسلم؟! لا تقف جامدًا
إن كل ما أسألك إياه، هو أن تطلق ذاتك من عبوديتك الشريرة، وأن تسترد الحرية القديمة، آخذًا في اعتبارك العقاب الناجم عن فجورك، والمجد الذي كان لك في حياتك الأولى. فإن غير المؤمنين لا يبالون بالقيامة ولا يخافون الدينونة، وهذا ليس بعجيب…
أما نحن الذين سرنا بثبات وراء العالم الآتي أكثر من الأمور الزمنية، فإن قضينا حياتنا في طريق البؤس المُحزن ولا نتأثر قط بذكر الأمور السماوية، بل نسقط في جمود زائد، فإن هذا يكون أمرًا سخيفًا إلى أبعد الحدود. لأننا إن كنا نحن المؤمنون نصنع ما يفعله غير المؤمنين بل نكون أحيانًا أبأس منهم، لأن من بينهم من يسلك في الفضيلة، فأي تعزية تكون لنا، وأي عذر نقدمه؟
حقًا إن كثيرين من التجار الذين غرقت سفنهم، لم يستسلموا بل كملوا رحلاتهم. وهذا يحدث عندما تكون الخسارة ناجمة لا عن إهمال بل بسبب شدة الرياح، فهل يليق بنا نحن الذين لنا ما يدعونا إلى الثقة بخصوص نهايتنا، متأكدين أننا إن لم نشأ، لن يصيب سفينتنا أي هلاك، ولن يحدث لنا أي حادث ينجم عنه خسارة، ألاَّ نعود مرة أخرى إلى العمل ونستمر في الجهاد كما كنا في الماضي أم نتكاسل وتقف أيدينا؟!
وليت أيدينا تقف فقط بل نستخدمها ضد أنفسنا كمن هم في جنون مطبق! لأنه لو ترك أي ملاكم رأسه بين يديّ خصمه، أما يحسب هذا جنونًا؟!
فالشيطان أسقطنا وطرحنا، أما نحن فعلينا أن نقوم ولا نسقط مرة أخرى غير طارحين أنفسنا لنضيف إلى ضرباته لنا ضربات أخرى.
داود لم يستسلم
داود الطوباوي، كانت له سقطة كتلك التي أنت سقطتَّ فيها، بل وتلاها سقطات أخرى، أقصد بذلك أنه كان قاتلاً.
ماذا إذن؟ هل بقى منطرحًا؟
ألم يقم في الحال مرة أخرى بقوة ووقف يحارب العدو؟
حقًا أنه صارع معه بشجاعة، حتى صار حافظًا لنسله بعد وفاته. لأنه عندما أخطأ سليمان خطية عظيمة، كان يستحق ميتات كثيرة. لكن الله قال له أنه سيترك له المملكة بدون انقسام: “فإني أمزق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك. إلاَّ أني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك بل من يد ابنك أمزقها” (1 مل 11: 11-12).
ومرة أخرى، عندما أوشك حزقيا أن يسقط في خطر عظيم بالرغم من كونه إنسانًا بارًا،، أنقذه الله من أجل هذا القديس “وأُحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي” (2 مل 19: 34).
يا لعظمة قوة التوبة! … فلو ردد داود في نفسه، كما تفعل أنت الآن، قائلاً في نفسه: الله أعطاني كرامة عظيمة، ووهبني مكانًا بين الأنبياء، وائتمنني على حكم المدينة، وخلصني من بلايا كثيرة، فكيف أقدر أن أحوز رضاه بعد ما عصيته مرتكبًا أشنع الجرائم، رغم نعمه الكثيرة علىّ؟! لو فكر داود هكذا، لما فعل ما صنعه بعد ذلك، بل كان قد أضاف إلى ثقل خطاياه أثقالاً أخرى.
لا تستسلم بسبب الجراحات الروحية
ليس فقط الجراح الجسدية، بل جراح الروح تؤدي إلى الموت إن أُهملت.
لقد وصلنا إلى هذا الحد من الانحدار في الغباء، حتى أننا نعطي اهتمامًا للجراح الجسدية ونترك الأخرى. وبالرغم من أنه كثيرًا ما تكون بعض الجراح الجسدية صعبة الشفاء، ولكن رجاءنا في شفائها لن يزول، فحتى إن سمعنا الأطباء يشهدون باستحالة علاجها بالأدوية فإننا نصمم أن نطلب نصيحة ولو للتخفيف عنها. أما بالنسبة للروح، فحيث لا يوجد فيها مرض يستحيل شفاؤه، إذ لا تخضع لقانون الطبيعة، نهمل ونيأس كما لو كانت ضعفات لا تُعالج.
فحيث تقتضي طبيعة الفساد أن نيأس، نقبل الآلام كما لو كان هناك رجاء عظيم في العودة إلى الصحة، بينما حيث يوجد مجال للرجاء، لا ننقطع عن الجهاد ونتوانى!!…
فنحن نهتم بالجسد أكثر بكثير من الروح، وهذا هو السبب الذي يجعلنا غير قدرين حتى على خلاص الجسد. لأن من يزدرى بعنصر القيادة ويصب اهتمامه على الأمور الصغيرة، يُهلك الاثنين معًا… وأما من يهتم بالعنصر الذي يقوم بالقيادة، فإنه حتى إن أهمل العنصر الثانوي، فإن الأول يحفظه…
وإن استسلمت… فأنا لي رجاء فيك
إن كنت تيأس من نفسك عشرة آلاف مرة، فأنا لن أيأس من خلاصك. إنني لن أخطئ هذه الخطية التي أنتهر الآخرين عنها. ومع ذلك فإن رجاء الإنسان في نفسه يختلف عن رجائه في آخر. لأن من يشك بخصوص آخر قد يكون له عذر، لكن من يشك في رجاء نفسه فهو بلا عذر.
لماذا أصلي؟… لأنه ليس لي سلطان للسيطرة على غيّرة الآخرين وتوبتهم، إذ لا يسيطر الإنسان إلاَّ على غيّرته وتوبته. ومع هذا فأنا لا أيأس من خلاصك، حتى وإن سلكت أنت في طريق اليأس دفعات كثيرة.
الأمميون لم يستسلموا !
عندما سمع أهل نينوى يونان النبي يعلن بلهجة قاسية ويهدد بشدة: “بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى” لم تضل قلوبهم، بالرغم من عدم وجود ثقة لديهم أنهم يقدرون على إزالة غضب الله.
لقد كان المتوقع هو العكس، لأن رسالة الله على فم يونان كانت واضحة ولم يذكر فيها شيء عن قبولهم إن رجعوا، لكنهم أعلنوا التوبة قائلين: “لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك. فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يونان 3: 9-10).
فإن كان الأمميون غير الفاهمين استطاعوا أن يدركوا هذا، فكم بالأكثر ينبغي علينا نحن الذين تدربنا في التعاليم الإلهية، ورأينا أمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ وفي اختباراتنا الحالية؟!…
إن كنا نقبل في بيوتنا عبيدًا سبق أن أعلنوا عصيانهم علينا، بمجرد وعدهم أنهم سيصيرون أفضل مما كانوا، فنردهم إلى مراكزهم الأولى، وأحيانًا نهب لهم حرية في الكلام أكثر من الأول، فإن الله يفعل بنا أكثر من هذا. لأن الله لو كان قد خلقنا لكي يعاقبنا لكان يحق لك أن تيأس وأن تسأل عن إمكانيتك في الخلاص.
لكن إن كان لم يخلقنا إلاَّ بحسب إرادته الصالحة، ويقصد أن يمتعنا بالبركات الأبدية، مدِّبرًا كل شيء لأجل تحقيق هذا الهدف، منذ اليوم الأول إلى وقتنا هذا، فكيف يتسرب إليك الشك؟!
استسلامك أشر من خطاياك
هل نحن أغظنا الله بقسوة لم يرتكبها أحد من قبل؟ إن هذا بالحري يجعلنا نكف عن أعمالنا الماضية، ونتوب عما سلف، ونُظهِر تحولاً عظيمًا. لأن الشرور التي ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا في التغيير. لأن من يخطئ يكون قد سقط في ضعف بشري، وأما من يستمر في نفس الخطية، فإنه يبطل إنسانيته ليصير شيطانًا.
أنظر كيف يلوم الله على فم نبيه العمل الثاني أكثر من الأول: “فقلت بعدما فعلت كل هذه أرجعي إلىّ فلم ترجع” (إر3: 7).
قوة التوبة: ستعود بقوة أعظم
الذين أظهروا عنفًا زائدًا في شرورهم، يظهرون نفس الغيرة عند عودتهم إلى الحياة الصالحة، وذلك لشعورهم بثقل الدين العظيم المدينون به. هذا ما أعلنه السيد المسيح عندما حدَّث سمعان عن المرأة الخاطئة: “أنظر هذه المرأة. إني دخلت بيتك وماء لأجل رجليْ لم تعط. وأما هي فقد غسلت رجليًّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبلني. وأما هي فمنذ دَخلتْ لم تكف عن تقبيل رجليْ .
بزيت لم تدهن رأسي. وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليْ. من أجل ذلك أقول لك قد غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. والذي يغفر له قليل يحب قليلاً ” (لو 7: 44-47).
لهذا السبب أيضًا، إذ يعرف الشيطان أن الذين ارتكبوا شرورًا كثيرة، عندما يبدأون في التوبة يسلكون فيها بغيرة أعظم، بقدر شعورهم بثقل خطاياهم، لهذا ُيخيفهم ويرعبهم لئلا يبدأوا في العمل. فإن ابتدأوا لا يمكن صدهم بل يلتهبون كالنار تحت فاعلية التوبة. فتصير نفوسهم أنقى من الذهب النقي، مدفوعين بضميرهم وتذكرهم لخطاياهم السابقة، كما لو كانوا مدفوعين بعاصفة قوية نحو سماء الفضيلة.
هذه هي النقطة التي يستفيد منها الذين سقطوا عمن لم يسقطوا، إذ يعملون بنشاط أوفر… لكن كما قلت، إن أمكنهم أن يبدأوا، فصعوبة العمل وقسوته هي في وضع القدم على البداية، والوصول إلى مدخل التوبة، ودفع العدو وطرحه، ذاك الذي يحنق علينا ويحاربنا. أما بعد الدخول فلا يعرض الشيطان حنقه الزائد بعدما فشل، وسقط حيث كان قويًا. فننال نشاطًا أوفر، ونجرى بسهولة في هذا السباق الحسن.
ليتنا نضع أمامنا عودتنا. ليتنا نسرع إلى المدينة التي في السماء، التي فيها سُجلت أسماؤنا، واخترنا لكي نجد فيها مكانًا كمواطنين.
أما يأسنا من نفوسنا فلا يقف عند هذا الشر، وهو أن يُغلق أبواب هذه المدينة في وجوهنا، ويجرنا نحو البلادة والاستهتار بل يُسقطنا في الطيش الشيطاني أيضًا.
فالسبب الذي لأجله صار الشيطان كما هو عليه، أنه سقط أولاً في اليأس التام، ومن اليأس سقط في الطيش.
فعندما تُحرم النفس من خلاصها، تبدأ تغرق إلى أسفل. مختارة لنفسها أن تفعل وتقول كل ما يضاد خلاصها.
فكما أن المجانين عندما يفقدون سلامة عقلهم، لا يعودون يخافون ولا يخجلون من شيء، بل بدون خوف يتجاسرون على صنع كل شيء، ولو أدى إلى سقوطهم في النار أو ماء عميق أو هوة. فالذين أمسكوا بجنون اليأس من الآن فصاعدًا لا يمكن ضبطهم بل يسيرون مندفعين نحو الرذيلة من كل جانب. وإن لم يأتيهم الموت كحٍد فاصٍل لجنونهم وعنفهم، يصنعون لأنفسهم أضرارًا لا حد لها.
لذلك أتوسل إليك قبل أن تنحدر بعمق في هذا السكر، أن تسترد حواسك، وترتفع بنفسك، وتنزع عنك تلك النوبة الشيطانية، منفذًا ـ بهدوء وبالتدريج – ما لم تستطع أن تنفذه دفعة واحدة…
ستنال مكافأة مضاعفة
إنني أتوسل إليك وأطلب منك أن تذكر سمعتك الأولى، وذلك الإيمان الذي كان لك. فإننا نريد أن نراك مرة أخرى على برج الفضيلة، وفي مثابرتك الأولى.
أذكر أولئك الذين يتعثرون بسببك، هؤلاء الذين يسقطون ويزداد توانيهم وييأسون من طريق الفضيلة.
لقد خيّم الحزن على رابطة أصدقائك ذو السيرة الحسنة، بينما حلّ الفرح والسرور بين جماعات غير المؤمنين وأولئك الأحداث المتوانين. لكن إن رجعت مرة أخرى إلى استقامتك السابقة، فستنعكس النتيجة. فينتقل عارنا إليهم، بينما نفرح نحن بإيمانك العظيم ناظرينك متوجًا وحائزًا على النصرة في صورة أبهى مما كنت عليه. فإن مثل هذه النصرة تجلب شهرة أعظم وسعادة أوفر.
إنك لن تنال المكافأة عن إصلاحك فحسب، بل بما ستقدمه من نصائح وتعزيات للآخرين أيضًا، بكونك تصير مضرب المثل لمن يسقط مثلك، فيتشجع ويقوم وتُشفي نفسه.
إذن لا تهمل هذه الفرصة المربحة، ولا تسحب أنفسنا إلى الهاوية التي كنا فيها، إننا في حزن، بل دعنا نتنسم الحرية مرة أخرى، وتزول عنا سحابة القنوط التي تساورنا من جهتك.
والآن لنَدَعْ جانبًا موضوع متاعبنا، فإننا نحزن على ما يحلّ بك من المصائب ولكن إن أردت أن تعود إلى رشدك، وتنظر بوضوح وتسير في الجمهور الملائكي، فإنك ستعتقنا من الحزن وُتزيل عنا النصيب الأوفر من الخطية.
شهادة الكتاب المقدس
أما عن كون أولئك الذين يرجعون بعد التوبة يضيئون بلمعان مضاعف أكثر من أولئك الذين لم يسقطوا، فهذا أتيت به من الكتب المقدسة، فعلى الأقل أولئك العشارين والزواني ورثوا الملكوت قبل كثير من الباقين…
توبة واعتراف بلا رجاء
إنني أعرف حقًا انك تعترف بخطاياك، وتسمي نفسك بائسًا بلا حدود. لكن ليس هذا كل ما أطلبه منك، بل اشتاق أن تتيقن من أنك تتبرر. لأنه طالما تقدم هذا الاعتراف دون أن تشعر بفائدته، فحتى إن أدنت نفسك، فإنك لن تتخلص من الخطايا المقبلة. فإنه لا يستطيع أحد أن يمارس شيئًا بغيرة وبطريقة مفيدة ما لم يقتنع أولاً بفائدتها.
فالزارع بعدما يبذر الحبوب، لن يحصد شيئًا ما لم ينتظر المحصول. لأنه من يقبل أن يتعب نفسه عبثًا، مادام سوف لا يربح شيئًا من تعبه؟! هكذا من يزرع كلمات ودموعًا واعترافًا، إن لم يصنع هذا برجاء حسن لن يستطيع أن يتخلص من كونه مخطئًا، إذ لا يزال يخطئ بخطية اليأس…
لا تقف عند حد اتهام نفسك بخطاياك، بل لتكُنْ كمن يريد أن يتبرر بالتوبة. لأنه بذلك يمكنك أن تُخجل نفسك المعترفة حتى لا تعود تسقط في الخطايا مرة أخرى. لأن اتهام الإنسان لنفسه بعنف واعترافه بأنه خاطئ أمر شائع حتى بين غير المؤمنين أيضًا.
فكثيرون ممن يعملون في المسارح، من رجال ونساء، هؤلاء الذين اعتادوا أن يقوموا بأعمال معيبة، يدعون أنفسهم بائسين، لكنهم لا يقولون هذا بقصد مفيد. فهذا لا أدعوه اعترافًا، لأن إعلانهم عن خطاياهم لم يصحبه تأنيب الضمير ولا دموع حارة ولا تغيير في السلوك إنما يقدم البعض هذا الاعتراف لمجرد نوال شهرة من السامعين لصراحتهم في الحديث…
فالذين هم تحت تأثير اليأس سقطوا في حالة من عدم الحساسية، فيستهينون بنظرة أصدقائهم لهم، كاشفين لهم أفعالهم الشريرة كما لو كانوا يتحدثون عن خطايا الآخرين…
وماهي جذور اليأس وأصله؟
إنه التراخي.
إننا لا يجب أن ندعو التراخي جذور اليأس فحسب، بل هو مربيته ووالدته… فالتراخي يؤدي إلى اليأس، وهو في نفس الوقت يزداد باليأس. وكل منهما يقوى الآخر في تبادل شرير… فإن قطعنا أحدهما إلى أجزاء، فبسهولة نقدر على الثاني.
فمن ناحية نجد أن الإنسان غير المتراخي لن يسقط في اليأس.
ومن ناحية أخرى نرى أن الذي يتقوى بالرجاء الحسن ولا ييأس من نفسه، لن يقدر أن يسقط في التراخي…
الآباء الأولون
مترجمة عن
The Writings of Nicene & Post – Nicene Fathers Series 2- Vol. 11
No Result
View All Result
Discussion about this post