تفسير العظة على الجبل – ج2
الإصحاح السادس
العظة التاسعة عشرة
“احترزوا من أن تصنعوا صدقتكُم قُدَّام الناس لكي ينتظرُوكُمْ” [مت 6: 1].
السيد الرب هنا يستأصل ما تبقَّى من أشد الشهوات طغيانًا، أي هياج وجنون المجد الباطل، والذي يتعمق في صدور من يصنعون خيرًا وصلاحًا. والمسيح لم يذكر هذا أبدًا في بداية حديثه، حتى لا يصبح كلامه من نافلة القول (زائد بلا لزوم)، وقبل أن يحثهم على فعل أيّ أمر يجب عليهم فعله، ليعلمهم كيف يمارسون العمل الصالح في حينه. لكن بعد أن قادهم إلى ضبط النفس، بدأ يتعامل بشكل سرِّي لإزالة وغسل ما علق بالنفس من أدوات. لأن هذا الداء لا يتولد هكذا فينا بشكل عشوائي، بل ينمو حينما نمارس العديد من الوصايا. لهذا كان من اللائق أولاً أن يزرع فينا الفضيلة، ثم يزيل الشهوة التي تحجب ثمار العمل الصالح فانظروا كيف بدأ:
لقد بدأ بالصوم والصلاة والصدقة؛ لأن الفضيلة تتأصل في ظل هذه الأعمال الصالحة. لهذا فإن الفريسي كان قد انتفخ وتكبر حين قال:
“أصومُ مرتينِ في الأسبوعِ؟ وأُعشرُ كُل ما اَقتنيهِ” (لو 18: 12). هكذا كان يمجد نفسه باطلاً أيضًا في صلاته – فجعلها صلاة للتباهي والتفاخر – وإذ لم يجد أحدًا من الحاضرين سوى العشَّار. أشار إليه قائلاً: “إني لستُ مثل باقي الناس… ولا مثل هذا العشَّار!” (لو 18: 11).
لاحظوا كيف بدأ السيد المسيح، كما لو كان يتكلم عن حيوان مفترس، من الصعب اصطياده، فهو حيوان ماكر يعرف كيف يخدع غير المتيقظين. هكذا يقول:
“احترزوا أن تصنعوا صدقتكم علانيةً” وهكذا يقول بولس الرسول لأهل فيلبي “احترزوا من الكلاب” (في 3: 2). ولقوله هذا سبب؛ فالشيطان يشبه حيوانًا شريرًا يأتينا خلسة دون جلبة، فيملأنا بالكبرياء ودون أن نلاحظ ينتزع ما بداخلنا. لهذا اهتم السيد المسيح جدًا أن يتحدث عن الصدقة كثيرًا. وأن يذكر أعمال الله “الذي يشرق على الأشرار والأبرار” (مت 5: 45). وكان يحثهم بكل شكل ويحضهم بكل دافع أن يكثروا من صدقاتهم. فينتهي حديثه وقد اِنتزع كل ما يعوق نمو شجرة الزيتون اليانعة ولنفس السبب يقول: “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدَّام الناس”. لأن هذا الذي سبق الحديث عنه هو “صدقة الله”.
-
وحين قال “ليس قدَّام الناس”، أضاف “لكي ينظروكم”.
ورغم ما قد يبدو أن ما قاله أولاً قد كرره ثانيًا. فإن من يمعن النظر يري أن الأمر ليس كذلك، بل يختلف ما قاله أولاً عما قيل مرةً ثانية، وأن ما قاله يوفر لنا الأمان كله، والرقة والاهتمام الفائقين للوصف. فالذي يقدم صدقاته أمام الناس قد لا يفعل ذلك لينظروه، وأيضًا قد لا يدفع آخر صدقته قدام الناس، ومع ذلك فإنه يفعل هذا لينظره الآخرون. لهذا فإن المشكلة ليست في طريقة تقديم الصدقة، بل في النية والتي بسببها ينال الإنسان عقاب أو مجازاة. وما لم تكن الصدقة بهذه الدقة، لأحجم كثيرون عن تقديمها. لأنه ليس من الممكن إعطاؤها سرًا في كل حالة. ولهذا فالرب يحرركم من هذا الالتزام، ويحدد العقاب والأجر. لا بسبب الفعل، بل بسبب نية الفاعل. وحتى لا تقول: ماذا؟ هل أكون الأسوأ إذا رآني أحد أتصدق؟ فإن الرب يقول لك “لا ليس الأمر كذلك، وليس هذا ما أقصده، بل إني أقصد الفكر الذي فيك، ومشاعرك المصاحبة للفعل”، لأن مشيئته أن يضع نفوسنا معًا في إطارها الصحيح وأن يخلصها من أيّ مرض يعتريها. وإذ يمنع الناس من أفعال التظاهر والعرض أمام الناس. وبعد أن أظهر لهم عقوبة هذا الفعل، وبطلانه، فإنه يثير نفوسهم مرة أخرى بأن يضعهم في فكر الآب وفكر السماء، فهو لا ينبههم بالخسارة فقط، بل يخزيهم بتفكرهم فيمن وهب لهم الكيان؛ إذ يقول لهم: “وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” (مت 6: 1). ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يتقدم أيضًا مظهرًا دوافع أخرى تزيد من نفورهم. فمثلما تحدث عن العشَّارين والأمم مشبهًا الشخص الذي يحاكيهم بأنه شخص يحيا في خزي، هكذا أيضًا يتحدث عن المنافقين. “فمتي صنعت صدقةً فلا تُصوت قُدَّامك بالبوقِ كما يفعل المراؤُون” [ع2]. ولا يقصد أن لديهم أبواقًا يصوتون بها، بل يعني إظهارهم على الملأ لشدة هياجهم. وهو يعبِّر عنها بلغة مجازية، قاصدًا أنهم يعرضون أنفسهم للجميع. ويسمِّيهم بالمرائين لأنهم يضعون قناع الرحمة، بينما روحهم هو روح القسوة المجرد من الإنسانية. لأنهم يتصدقون، ليس لأنهم يرثون لجيرانهم ويشفقون عليهم، بل ليستمتعوا هم أنفسهم بالصدقة على الآخرين. وهو عمل في منتهى القسوة. فيينما يهلك الآخر جوعًا، يطلبون هم المجد الباطل، ولا يضعون حدًا لمعاناته. إذن ليس المطلوب أن نعطي صدقة، بل المطلوب هو غاية هذا العطاء، وأن يكون إعطاؤها كما يليق.
وبعد أن سخر السيد الرب من هؤلاء الناس، وتعامل معهم بهذا الأسلوب، ليخجل السامع منهم، فإنه للمرة الثانية يعود ليقوِّم فكرهم المختل تمامًا. وبعد أن قال إنه لا ينبغي هكذا، يشير إلى ما يجب علينا فعله، فكيف إذن نصنع صدقتنا؟ يقول: “لا تُعرِّف شمالك ما تفعلُ يمينك” [ع3].
والمسيح لا يتحدث هنا بشكل مباشر عن الأيدي، بل بتعبير مجازي يقول: إن أمكن أن تجهل أنت نفسك ما تفعله، فلتسع إلى هذا الهدف في إعطاء الصدقة. فإن أمكن، احجب الصدقة حتى عن أيدي مقدمها. ولا يعني ذلك حسب زعم البعض أن تخفيها عن أصحاب الأفكار الخاطئة عن الصدقات، لأن الرب يوصي هنا أن نخفيها حتى عن أعين الكل.
فكروا في عظم المكافأة التي تنالونها، لأنه بعد حديثه عن عقاب سلوك ما، يشير أيضًا إلى كرامة سلوك آخر، وفي الحالتين يحثهم ويقودهم إلى دروس سامية. أجلّ، فهو يحضهم أن يعرفوا أن الله حاضر في كل مكان، وأن اهتماماتنا لا تنحصر في هذا الزمان الحاضر، بل إن محكمة رهيبة سوف تنعقد لنا هناك. فنعطي حسابًا عن كل أعمالنا، وكرامتنا، وعقوباتنا، ولن يخفي أحد أي شيء مهما كان عظيمًا أم حقيرًا، حتى وإن بدأ مخفيًا عن أعين جميع الناس. وهو يشير إلى كل هذا سرًا بقوله:
“فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانيةً” [ع4]. وإذ أعد لنفسه حشدًا عظيمًا ومهيبًا من السامعين الناظرين. وإذ يريد أن يضفي على الأمر مهابته الوفيرة يقول: ماذا ترغب؟ أليس أن يجتمع البعض ليشاهد ما يحدث؟ انظر إذن. أن لديك ها هنا بعضًا من هذا الجمع، ليس من الملائكة ولا رؤساء الملائكة، بل “الله إله الكل”. وإن أردت أن يكون لديك أُناسًا أيضًا كناظرين، فإنه لا يحرمك من رغبتك تلك، في حينه، بل يعدها لك وبوفرة كبيرة. لأنك إن أردت أن تتباهى الآن فسوف تتباهى لعشرة فقط أو عشرين، أو لنقل: مائة شخص، ولكن إن بذلت الآن بهذا جهدًا لتحجب شيئًا، فالله نفسه يظهرك آنذاك في حضور العالم كله.
لهذا وإن كان الناس يرون أعمالك الصالحة فاخفها الآن، حتى يراها الناس فيما بعد بكل كرامة، ويظهرها الله ويرفعها ويعلنها أمام الجميع. وإن كان الذي يراك الآن ويدينك بأنك تسعى وراء المجد الباطل، فإنه سيراك آنذاك مكللاً وبدون إدانة، ويعجب بك كل الناس. لهذا إن تريثت قليلاً نلت أجرك، وحصدت إعجاب الجميع، فأية حماقة أن تطرح نفسك بعيدًا عن كل هذا.
وإذ تطلب أجرك من الله وهو الذي ينظر إلى أعمالك، فيحشد أناسًا بعرض ما يجري وما سيكون. فلماذا يجب أن نتباهى. وإن كان لزامًا أن نفعل، فليكن افتخارنا هذا انطلاقًا من محبتنا التي للآب فيها كل الفضل والذي به وحده يجب أن نتباهى، خاصة ولأبينا السماوي المقدرة على أن يهبنا الأكاليل، أو أن ينزل بنا العقاب.
ودعوني أضيف، حتى لو لم تكن هناك عقوبة. فإنه لا يليق بمن يطلب مجدًا، يبرح مكان التباهي والتفاخر بالصلاح، كمن يعرض مشاهد في مسارح الناس. أما البائس والشقي فإن جاءه الملك ليرى أعماله سيدعه يذهب، ويجمع كل حشوده من الناظرين من بين المساكين والأشقياء والبؤساء والشحاذين.
لهذا يأمرنا بألا نتباهى أبدًا. وأن نجاهد لنخفي أعمالنا الصالحة، وألا نجاهد لنوال الشهرة من الناس، بل وأن نجتهد بالأوفر أن نختفي عن أنظار هؤلاء
-
ويقول: “ومتى صلَّيت، فلا تكن كالمرائين. فإنهم يُحبون أن يُصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم” [ع5].
“وأما أنت فمتى صلَّيت، فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك وصّلِ إلى أبيك الذي في الخفاء” [ع6].
وهؤلاء أيضًا يدعوهم بالمرائين. لأنهم وهم يتظاهرون أنهم يصلَّون لله، يتطلعون حولهم بحثًا عن الناس، مرتدين لا ثوب التوسل بل ثوب السخف. لأن من يتوسل يتخلى عن كل شيء آخر، وينظر إلى هذا وحده، إلى الذي يملك القوة ليهبه مطلبه، ولكن إن ترك هذا الواحد، وراح يتجول ويزوغ بعينيه في كل مكان فإنه سوف يمضي صفر اليدين، لأن هذه هي إرادته.
ولم يقل السيد المسيح أن مثل هذا لن ينال أجرًا، بل قد “استوفاه”، بمعنى أنه ينال أجره من الذين هم أنفسهم يطلبون هذه الأجرة من الله والذي لا يريد ذلك، بل أن يهب الناس المجازاة التي تأتي من عنده هو وحده. لكنهم يطلبون ما في أيدي الناس، ومثل هذا لا يستحق بعد أن ينال شيئًا من الله. لأن الآخرين لن يفعلوا معهم شيئًا.
ولكن لاحظوا أرجوكم. أن محبة ورأفة الله هي في أنه يعدنا بأن يهبنا الأجر، حتى لأجل الأمور الصالحة التي نطلبها منه. لكنهم إذ يزدرون بها فلا يطلبون ما يجب وما ينبغي سواء من الموضع المناسب، أو بحسب ميولهم وتفكيرهم، يظهرون أنفسهم سخفاء جدًا، لهذا يقدم لنا السيد الرب أمثل الطرق للصلاة ومنها الأجر قائلاً:
ادخل إلى مخدعك، فما قولنا إذن ألا ينبغي علينا أن نصلي في الكنيسة؟ بلى. علينا في الحقيقة أن نصلي هناك دون أدنى شك. لكن بالروح الذي يتكلم عنه هنا. لأن الله يطلب في كل مكان قصد الجميع أن يتم ما يأمرهم به لأنه إن كنت وأنت في مخدعك وقد أغلقت بابك. فأنت تفعل ذلك للتباهي. فلن تنفعك الأبواب المغلقة بشيء، وهنا يجدر بنا أن ننتبه إلى ما يعنيه هذا التعريف بدقة، والذي ذكره حين قال:
“لكي يظهروا للناس”.
لهذا، حتى وإن أغلقت بابك، فإنه يطلب منك أن تفعل ذلك بشكل ملائم، فالمقصود ليس إغلاق الأبواب الخشبية، بل أبواب ذهنك. لأنه مثلما هو الحال في كل شيء آخر، أن تتحرر من المجد الباطل، فبالأخص يكون الحال في الصلاة، لأنه إن لم نفعل ذلك، يتشتت ذهننا ولا نركز ولا ننتبه إلى ما نقوله، فهل ندخل في هذا المرض أيضًا، وإن كنا نحن الذين نصلي لا ننتبه، فهل نتوقع من الله أن يفعل هكذا؟.
-
ورغم ذلك، فإن البعض رغم كل هذه التحذيرات الجادة، يسلكون بشكل غير لائق في الصلاة. حتى وإن أخفوا شخصهم، فهم يجعلون من أنفسهم ظاهرين للكل بارتفاع أصواتهم، إذ يصرخون دون لزوم، فيجعلون من ذواتهم موضع سخرية الآخرين؛ سواء بالإيماءات أو الأصوات. ألا تعلمون أنه إن جاءنا أحد في السوق وفعل هكذا وتوسل في ضجيج وإلحاح مستفز، نطرده حتى لو توسل إلينا. لكنه إن جاءنا في هدوء وبإيماءة لائقة وصحيحة، فإنه يكسب عطف من يتوسل ويحسن إليه. فلنصلِ لا بإيماءات الجسد وحركاته ولا بارتفاع أصواتنا، بل بجدية أذهاننا. لا في جلبة وضوضاء للتباهي أمام الناس القريبين منا، بل بكل هدوء وتواضع، وتركيز الذهن وبآذاننا الداخلية.
لكن هل أنتم متشتتو الذهن، ولا تقدرون على الكف عن الصراخ. صحيح أن المتألم ذهنيًا يفعل ذلك، وأن يصلي ويتوسل مثلما قلت. لكن موسى النبي أيضًا كان متألمًا وصلى بهدوء وتواضع فسمع الله له، ولهذا قال له الله: “ما لك تصرخ إليَّ” (خر 14: 15). وحَنَّة أيضًا لما كان صوتها غير مسموع، تحقق لها كل ما أرادت. “وإذ كان قلبها يصرخ” (1 صم 1: 13).
وهابيل لم يصلِّ وهو صامت بل وهو يحتضر! وصراخ دمه أقوى وأشد من صوت البوق (تك 4: 10). فهل تئنون أنتم أيضًا مثل هذا القديس. أرجو ألا يكون جوابكم بالنفي. ومثلما يأمرنا النبي: “مزقوا قلوبكم لا ثيابكم” (يؤ 2: 13). عليكم أن تصرخوا من الأعماق إلى الله، لأنه مكتوب: “من الأعماق، صرخت إليك يا رب” (مز 130: 10).
إذن من العمق من القلب اخرج صوتًا واجعل صلاتك سرية. ألا تعلمون أنه في قصر الملك الأرضي تسكن كل جلبة، ويرنو صمت في المكان العظيم. أنتم أيضًا، تصرَّفوا هكذا بلياقة عظيمة وأنتم تدخلون إلى قصر ليس على الأرض، بل هو مهيب أكثر، الذي هو في السماء. أجلّ، لأنكم منضمُّون إلى طغمات الملائكة ورؤساء الملائكة وتشتركون مع السيرافيم، وكل هذه الطغمات تُظهر نظامًا صالحًا جدًا، مرنمة في رعدة عظيمة ذلك اللحن السري (الصوفي) وترانيمها المقدسة لله ملك الجميع، فامتزجوا إذن مع هؤلاء حينما تصلون واقتدوا بترتيبهم السري.
لأنكم لا تصلون للناس بل إلى الله، الحاضر في كل مكان، الذي يسمع حتى قبل خروج الصوت، الذي يعرف أسرار ذهنكم. فإن صليتم هكذا، فما أعظم ما تنالونه من أجر، “فأبوك الذي يري في الخفاء هو يجازيك علانية” (مت 6: 6). ولم يقل “سيعطيك مجانًا” بل قال “سيجازيك” أجل، لأنه قد جعل نفسه مدينًا لك، وبهذا كرَّمك تكريمًا عظيمًا. فلأنه هو نفسه غير منظور، سيجعل صلاتك هكذا تكون أيضًا.
-
ثم يذكر محتوى الصلاة نفسها بقوله:
“حينما تصلّون لا تُكرروا الكلام باطلاً كالأممِ” [ع7]. رأيتم أنه حينما تحدث عن الصدقة، أزال العائق الذي يسبب المجد الباطل. ولم يضف شيئًا آخر، ولا قال حتى متى يجب أن يعطي الإنسان صدقة. هل من عمل شريف، وليس من السلب أو الجشع؟ لأن هذا أمر مسلَّم به بين الجميع، وقد أوضح وبمنتهى الدقة هذا الأمر، حين طوَّب “الجياع لأجل البرّ”. أما فيما يخص الصلاة، فقد أضاف شيئًا أكثر:
“لا تُكرروا الكلام باطلاً” ومثلما يوبخ المرائين هناك. هكذا أيضًا هنا يوبخ الأمم، مخجِّلاً السامع بسبب تفاهة الأشخاص؟، لأنه منذ ذاك الزمان وحتى الآن تحدث أمور مؤلمة ومزعجة – أعني ظهورنا متشبهين بالمرفوضين من الناس – وبهذا الوصف، ينصح بالعدول عن ذلك الأمر، ويسمى تلك التفاهة “بالتكرار الباطل” مثلما نطلب من الله أشياءً غير لائقة وممالك ومجدًا، وتفوقًا على الأعداء لقهرهم، ووفرة في الغنى والثروة، وعمومًا نطلب منه ما لا يهمنا.
إذ يقول الرب “فهو يعلم ما تحتاجون إليه” [ع8]. ويبدو لي أنه يأمرنا هنا ألا نطيل الصلاة، لا في الوقت، وفي عدد وطول الأشياء المطلوبة والمذكورة، لأن واجبنا حقًا هو المثابرة على الطلبة نفسها، إذ أن كلمته هي “مواظبين على الصلاة” (رو 12: 12). والسيد المسيح نفسه قد شرع أن نتضرع إليه بشكل متواصل، وذلك على مثال الأرملة اللحوح التي توسلت إلى القاضي القاسي القلب العديم الرحمة فغلبته بمداومتها على التوسل والطلبة (لو 18: 1). وعلى غرار الصديق الذي أتى متأخرًا ليلاً وأيقظ النائم من فراشه (لو 11: 5)، لا من أجل صداقته بل لأجل الإلحاح عليه.
فالرب لا يأمرنا في أيّ حال أن نؤلف صلاة من عشرة آلاف عبارة مطولة، ونأتي إليه لمجرد تلاوتها أمامه، لأن ذلك هو ما أشار إليه خفية بقوله “إنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم” (لو 6: 7). ويقول: “لأن الآب يعلم ما تحتاجون إليه”.
ورُب سائلٍ: ” فإن كان يعلم احتياجاتنا فما ضرورة الصلاة إذن؟
نحن لا نصلي لكي نرشده، بل لكي نتواصل معه، وأن نكون في علاقة حميمة معه، بالمواظبة على التضرع، لنصير متواضعين ونتذكر خطايانا الشخصية.
-
“فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات” [ع9].
هل ترون كيف يلهب الرب قلب السامع مباشرة، ويذكِّره بكل بركات الله الوفيرة منذ البداية. لأن الذي يدعو الله بالآب،(الجمل بعدها غير مرتبطة) ففي هذا الاسم الوحيد ينعم بغفران خطاياه، ورفع العقوبة والبرّ والتقديس والفداء والتبني والميراث، وأخوة الوحيد الجنس وهبة الروح القدس.
لأن الإنسان لا يمكنه أن يدعو الله أبًا ما لم يكن قد اعتاد على نوال هذه البركات. لهذا يضاعف فيهم إيقاظ الروح والإحساس بكرامته التي يدعو إليها من جهة، ولعظم المنافع التي يتمتعون بها من جهة أخرى.
لكنه حين يقول “في السماوات” لا يقول ذلك وكأنه يغلق على الله هناك، بل ليرفع من يصلي من مستوى الأرض إلى فوق، ليثبته في الأعالي وفي المساكن الفوقانية. وحتى يعلمنا أكثر من ذلك، ليجعل صلاتنا عامة نيابة عن إخوتنا أيضًا. لأنه لم يقل: “أبي الذي في السماوات” بل “أبانا” رافعًا توسلاته نيابة عن الجميع، غير مهتم بطلباته هو فقط، بل بخير جاره في كل مكان. وبهذا ينتزع الكراهية على الفور ويستأصل الكبرياء ويطرح الحسد بعيدًا عنه؛ إذ يستحضر أم كل الصالحات (أسلوب مخطوطات قديمة)- أعني المحبة – ويقضي على الفوارق بين الناس. مظهرًا كيف يتساوى الملك والفقير، على الأقل في الأمور الأعظم التي لا غنى عنها، والتي تخصنا كلنا. لأنه أيّ ضرر يلحق بنا من أنسبائنا الأدنى. إن تساوينا معًا في الأعالي وترابطنا سويا، حيث لا أحد يملك أكثر من غيره، ولا الغني أفضل من الفقير، ولا السيد أحسن من الخادم، ولا الحاكم أفضل من الرعية، ولا الملك أكرم من الجندي البسيط. ولا الفيلسوف أشرف من الهمجي. ولا الماهر متميز عن الجاهل، لأن الله أعطى الجميع نفس السمو الواحد، لأنه تنازل ليدعوه الجميع “أبانا”.
-
وحينما يذكِّرنا بهذا الشرف وبالعطية التي من فوق، وبمساواتنا لإخوتنا وبالمحبة، وحينما أبعدنا عن الأرض ورفعنا وأقامنا في السماء، فلنر ما الذي يوصي به لنفعل به. وليكون ما يأمرنا به في المقام الأول كافيًا ليرشدنا إلى كل الصالحات.
لأن من يدعو الله “أباه” وأبًا للكل تتوفر لديه دالة الحديث معه. وليس كمن يظهر غير مستحق لهذا الشرف. وأن يبدي اجتهادًا ملحوظًا يتناسب مع العطية التي أخذها. ومع ذلك فالرب لا يكتفي بهذا، بل يضيف أيضًا عبارة أخرى: “ليتقدس اسمك”.
فجدير بمن يدعو الله أبًا أن يصلي لا ليطب شيئًا وهو في حضرة مجد أبيه، بل أن يحسب كل الأشياء ثانوية بالنسبة لتسبيحه. لأن كلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” لأن مجد الله الشخصي مجد كامل، ويدوم إلى الأبد هكذا. لكنه يأمر من يصلي إليه أن يطلب منه أن يتمجد أيضًا بحياتنا. ونفس الأمر قاله قبلاً:
“فليضئ نوركم قدام الناس، فيرى الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16). أجل، والسيرافيم أيضًا يمجدونه قائلين “قدوس قدوس قدوس” (إش 6: 3 مع رؤ 4: 8)، وكلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” كما قلنا، أيّ “يمنح ويهب” كما يقول: “حتى نحيا هكذا بكل طهارة ومن خلالنا يمجدك الكل”. وهو نفس الأمر الذي يتعلق بضبط النفس، لنقدم للكل حياة بلا لوم، حتى أن كل من يراها يسبح الرب بالتسبيح اللائق به.
“وليأتِِ ملكوتك” [ع10].
هذه أيضًا لغة ابن مستقيم الرأي، لا تأسره أمور الزمان الحاضر المنظورة، ولا يحسب الأشياء المنظورة أعظم، بل يسرع إلى أبينا الآب، مشتاقًا إلى الأمور العتيدة. وينبع هذا من ضمير صالح، وتتحرر النفس من الأرضيات، وهذا ما كان يشتاق إليه كل يوم. ولهذا قال:
“نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا متوقعين التبنِّي فداء أجسادنا” (رو 8: 23).
ومثل هذا الإنسان الذي له هذا الاشتياق، لا ينتفخ بأمور العالم الحاضر ولا تغلبه أحزانه، بل كمن يعيش في السماوات ذاتها، يتحرر من كل اضطراب “لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض” [ع10].
تأملوا تسلسل الأفكار السامية للغاية، إذ يأمرنا أن نشتاق إلى الأمور العتيدة، مسرعين إلى هذه الإقامة. وإلى أن يتم ذلك، وبينما نحن مستقرون هنا، نجتهد بالأكثر أن نسلك في نفس السيرة عينها التي يحياها السمائيون. إذ يقول الرب، أن عليك أن تشتاق إلى السماء، وأمورها حتى قبل أن تصل إلى السماء. وإذ(و بدون إذ أو وقد) أمرنا أن نُصيِّر الأرض سماءً، وأن نقول وأن نفعل كل شيء حتى ونحن مستمرون هنا – وكأن لنا سيرة هناك – مثلما يصبح الآخرون أيضًا موضوع صلاتنا للرب.(مش عارفة، مش الرد على بداية الجملة بعيد شوية؟؟) لأنه ما من شيء يعوق بلوغنا كما القوات العلوية، ونحن مستوطنون في الأرض، لكن حتى ونحن مقيمون هنا، من الممكن أن نفعل كل شيء وكأننا مقيمون في العالي. وكأن الرب يقول: كل الأشياء تتم دون ما إعاقة، ولا يكون الملائكة طائعين جزئيًا أو عصاة جزئيًا، بل في كل شيء يخضعون ويطيعون. لأن الكتاب يقول:
“ملائكته المقتدرون قوة، الفاعلون أمره” (قابل حز 20: 103). هكذا يا رب اعطنا نحن البشر ألا نصنع مشيئتك جزئيًا، بل أن نصنع كل شيء كمشيئتك.
أرأيتم كيف يعلمنا أيضًا أن نكون متواضعين، موضحًا أن الفضيلة ليست من جرّاء سعينا نحن، بل أيضًا بفضل النعمة التي من فوق. وقد أمر كل واحد من الذين يصلّون أن يأخذ على عاتقه مسئولية العالم كله.
لأنه لم يقل أبدًا “لتكن مشيئتك” فيَّ أو فينا، بل في كل مكان على الأرض. بحيث يزول الضلال، وينزرع الحق، ويستأصل الشر من جذوره، وتعود الفضيلة. فلا يصير هناك فرق بين السماء والأرض، حتى وإن كان هناك فاصل بينهما في الطبيعة، فإن الأرض تبقى لنا بعد طغمة أخرى من الملائكة.
-
“خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم” [ع11].
ما هو خبزنا كفافنا أو خبزنا اليومي أو خبزنا يومًا فيومًا؟ (حرفيًا). أيّ خبز يكفينا يومًا واحدًا. لأنه إذ قال: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، لكن إذ كان يخاطب بشرًا جسدانين خاضعين لضروريات الطبيعة الجسدية، وعاجزين عن التمثل بالملائكة في إدراك عدم التألم (الهوى) والشهوات. وهو يضع الوصايا لننفذها نحن أيضًا، مثلما ينفذونها هم أيضًا. لكنه إذ يعرف ضعف طبيعتنا، فيعلمنا أن نصلي لأجل حاجات الجسد. وكأنه يقول:
أنا أطالبكم بأمر عظيم، هو كمال السلوك، لكن لا يخلو هذا الأمر من الأهواء والشهوات الطبيعية، والتي يفرضها سلطان الطبيعة الجسدانية؛ إذ نحتاج إلى الطعام الضروري. لكن تأملوا أرجوكم، أنه حتى في الأمور الجسدية، فإن الروحانيات هي الأبقى. والسيد الرب لم يأمرنا لأجل وفرة الثروات ولا الحياة المرفهة الناعمة، ولا الثياب الغالية الثمن، ولا لأجل أيّ شيء آخر مشابه، بل لأجل الخبز وحده، قد أمرنا بالصلاة. ولأجل “خبزنا اليومي” أيّ الخبز الذي يكفينا يومًا واحدًا.
ولم يكتف بهذا التعبير، بل أضاف شيئًا آخر قائلاً: “اعطنا اليوم”.
حتى لا نرهق أنفسنا بالاهتمام باليوم التالي الذي يلي “هذا اليوم”، لأن هذا “اليوم” لا نعلم ما يسبقه من زمن، ولا نعرف ما الذي فيه، فلماذا نخضع لهمومه؟
وإذ يستمر في الصلاة يقول بصورة أكمل: “لا تفكروا في الغد”، لأنه يريدنا أن نكون غير مثقلين على الدوام ولا أصحاب أجنحة نطير بها، بل أن نحصل فقط على ما تحتاجه الطبيعة الجسدية من ضروريات لازمة.
-
وفيم يختص بما قد يحدث، حين نخطئ بعد أن اغتسلنا للتجديد، يُظهر محبته للإنسان ليصير عظيمًا، حتى وهو في حال الخطية. فيأمرنا أن نصلي لله لأجل غفران خطايانا لأنه محب للبشر، لهذا يقول:
“واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” [ع12]. فهل تدركون مقدار رحمته الفائقة لكل الحدود. فبعد أن اِنتزع شرورًا هذا مقدارها، وبعد عظَّم عطاياه التي لا يُنطق بها. فإن الناس إن أخطأوا مرة أخرى، يحسبهم مستحقين للغفران. وهذه الصلاة خاصة بالمؤمنين. وهذا ما نراه في قوانين الكنيسة، ومن بداية الصلاة: لأن غير المعمدين لا يستطيعون أن ينادوا الله بلقب “أبانا”. فإن كانت الصلاة تخص المؤمنين وهم يصلّون متضرعين أن يغفر الله لهم خطاياهم، فمن الواضح أنه حتى بعد غسل المعمودية “الروحي” تبقى حاجتنا الشديدة إلى انتفاعنا بالتوبة. لأنه لو لم يكن يعني ذلك، لما وضع قانونًا للصلاة التي يجب أن نصليها. ومن يأمرنا بتذكر خطايانا، ويطالبنا أن نسأله الغفران، ويعلمنا كيف علينا أن ننال الصفح ليسهل علينا الطريق، يكون من الواضح تمامًا أنه قد وضع هذه القاعدة للتضرع، وهو يعلم ويؤكد أنه من الممكن حتى بعد جرن المعمودية، أن نغسل أنفسنا من ذنوبنا بتذكرنا لخطايانا. حاشا إيانا أن نكون متواضعين، بأمره لنا أن نغفر خطايا الآخرين، ليحررنا من كل شهوة للانتقام. ويعدنا في المقابل بأن يغفر هو لنا نحن أيضًا خطايانا. واضعًا أمامنا هذا الرجاء الصالح، وليعلمنا أن تكون آراؤنا سامية حيال رحمة الله الواسعة التي لا يُنطق بها من نحو الإنسان.
لكن أكثر ما يجب علينا ملاحظته هو أن الرب في كل عبارة كان يذكر الفضيلة بأكملها، وبهذه الطريقة يذكر الصفح عن الجراح؛ لأن عبارة “ليتقدس اسمك” هي إتمام سيرة كاملة، وعبارة “لتكن مشيئتك” تؤكد نفس الأمر أيضًا. وحال كوننا نقدر أن ندعو الله بأبينا، فإنها مهمة حياة بلا لوم، وفي كل هذه الأمور المدركة هناك أيضًا واجب غفران خطايا الآخرين، وحجب غضبنا عن الذين أذنبوا في حقنا.
وحتى الآن لا يزال المسيح يريد منا المزيد، وحتى يشير إلى مدى جدية الأمر، يذكره بوجه خاص هنا – وبعد الصلاة – لا يذكر وصية أخرى سوى تلك قائلاً:
“إنْ غفرتُم للناسِ زلاتهم، يغفرْ لكم أيضًا أبوكُم السماويُّ” [ع14]
إذن نحن الذين نبدأ. ونحن الذين نملك مسار الدينونة التي نجلبها على أنفسنا. لأنه حتى لا يشتكي أحد من بين الذين لا مشاعر لهم، مهما كانت شكواه عظيمة أم قليلة، إذا ما وقف يوم الدينونة ليشكو ضدكم أنتم الذين ستعطون حسابًا، فقد جعل الرب الحكم يتوقف عليكم أنتم، بقوله: مهما حكمتم على أنفسكم، فإنه بنفس القدر إن غفرتم للناس سوف تنالون نفس الغفران مني، حتى وإن لم تكن هناك مساواة بينكم، لأنكم تغفرون لحاجة لديكم، لكن الله لا يغفر لاحتياجه لأحد. وأنتم تغفرون لبشر مثلكم، أما الله فيغفر لعبيده، وأنتم معرضون لاتهامات بلا حصر، أما الله فهو بلا خطيئة. ولكن حتى والحال هكذا، يُظهر الله رأفات محبته للإنسان. لكن الله حتى وإن لم تغفروا للناس، فهو قادر أن يغفر لكم كل خطاياكم، لكنه يريد لكم النفع، معطيًا لكم في كل وقت فرصًا بغير حصر توفر لكم رأفته ومحبته، ليطرح عنكم كل مشاعر متدنية، فيطفئ فيكم جذوة الغضب، ويثبتكم فيه كأعضائه الأخصاء، وذلك بكل السبل.
لأنه ما قولك، هل احتملت بعض الضيق من جارك؟ (لأن تلك فقط هي التعديات، فالفعل إن تم بعدلٍ ليس تعديًا). لكنكم أنتم أيضًا تقتربون من نوال الغفران بسبب هذه الأمور ولأجل أمور أخرى أعظم. وحتى قبل نوال الغفران، قد نلتم عطية كبيرة، إذ تعلمتم أن تكون لكم نفس بشرية، وثورتم على كل أعمال الرأفة. وهنا أيضًا أجر عظيم معد لكم، أن لا يحسب الله لكم أخطاءكم. فأيّ عقاب لا نستحقه أننا بعد أن نلنا هذه الميزة نخون خلاصنا؟ وكيف نزعم أن طلباتنا مسموعة لدى الله، في أمور حياتنا. ونحن لا نحافظ على نفوسنا في أمور تخصنا.
-
“ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير. لأن لك الملك والمجد إلى الأبد. آمين” [ع13]. هنا يعلمنا الرب بكل وضوح مدى تفاهتنا ويقمع كبرياءنا، ويرشدنا أن نستنكر كل صراعاتنا وننبذها بدلاً من اندفاعنا إليها. لأنه هكذا تصير نصرتنا أكثر مجدًا، وتزداد هزائم الشيطان. أعني، أنه ينبغي أن نصمد في نبل إذا ما تم سحبنا أو جرنا. وإذا لم يستدعنا أحد أن نبقى في هدوء وسكينة منتظرين قدوم الصراع، فإن أتى، نُظهر للناس تحررنا من المجد الباطل وتمتعنا بنبل الروح.
والرب هنا يدعو الشيطان “بالشرير” فيأمرنا أن نشن عليه حربًا بلا هوادة. وقائلاً لنا ضمنا أن الشيطان لم يكن هكذا بالطبيعة، لأن الشر ليس من الأمور الطبيعية، بل هو من صنعنا نحن وباختيارنا، وقد دُعي الشيطان هكذا، باعتباره متميزًا في الشر الزائد جدًا فيه، ولأننا إذا قاومناه أو ألحقنا به ضررًا، شنَّ علينا حربًا ضروسًا. لهذا لم يقل الرب: “نجنا من الأشرار” بل “من الشرير”، معلمًا إيانا ألا نثير المتاعب مع جيراننا، لأنه مهما عانينا من قلاقل على أيديهم، علينا أن نوجه عداوتنا للشيطان وحده، فهو أصل كل آثامنا. وإذ يجعلنا مترقبين متحفزين لما قبل الصراع بأن يركز فكرنا في العدو الحقيقي، مستأصلين من داخلنا كل تراخٍ، ويعود فيشجعنا ويرفع من أرواحنا، بأن يذكِّرنا بالملك الذي يرأس صفوفنا، فيصفه أنه أقوى من الجميع، إذ يقول: “لأن لك الملك والقوة والمجد”.
ونفهم من ذلك، أن الله هو صاحب المُلك (الملكوت). وأننا يجب ألا نخشى أحدًا، لأنه لا أحد يقوى أو يحتمل أن يقسِّم المملكة في داخله. لأنه حين يقول: “لك الملك” فإنه يضع أمامنا من يثير الحرب علينا، ليخضعه لنا. حتى وإن بدا معارضًا لنا. فإن الله يسمح بذلك لفترة. لأن الشيطان أيضًا من عبيد الله رغم أنه من رتبة متدنية جدًا، ومن المذنبين بالمعصية، ولا يجرؤ أن يقاوم أيًا من العبيد رفقائه، إن لم يسمح له الله من فوق. ولماذا أقول “العبيد رفقاؤه” فهو لا يثير هياجه مثلاً ضد الخنازير، إن لم يسمح الرب له (قابل لو 8: 32). ولا ضد قطعان الماشية ولا الأغنام، حتى يأخذ السماح من أعلى (أي 1: 12).
ويقول الرب: “ولك القوة” فمهما كانت ضعفاتك ومهما كثرت، عليك أن تثق تمامًا أن لك واحدًا يحكمك قادرًا أن يفعل كل شيء وبمنتهى اليسر لأجلك.
“لك المجد إلى الأبد. آمين”
هكذا فإنه لا يحررك من الأخطار المحدقة بك فقط، بل يقدر أن يمجدك أيضًا ويجعلك مكرمًا. لأنه مثلما أن قوته عظيمة، هكذا أيضًا مجده هو مجد لا يُنطق به وبلا حدود، ولا نهاية.
هل ترون كيف أنه يكلل بطله المظفر بكل السبل ويعده ليمتلئ.
-
ومثلما قلت قبلاً، إنه من بين كل شيء، فإنه يكره جدًا كل من يحمل في قلبه خبثًا، ويقبل جدًا كل من يقبل الفضيلة المضادة لهذه الرذيلة. فبعد الصلاة يضع في فكرنا نفس الصلاح من خلال ما يظهره من عقاب وأجر خاص، ليحث السامع على طاعة الوصية. إذ يقول “فإنه إن غفرتُم للناس زلاتهم، يغفر لكُم أيضًا أبوكُم السماوي.ُّ وإن لم تغفُروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكُم أيضًا زلاتكُم” [ع14-15].
هنا أيضًا، وبهذا المفهوم يذكر الرب كلاً من السماء ويذكر أبانا، ليخجل السامعين، فيرى السامع أنه من بين كل الناس ورغم أن له مثل هذا الآب، يتحول إلى وحش كاسر، بدلاً من أن يجمع كل أفكاره إلى السماء، لكنه يتفكر في الأرضيات وفي أمور العقل العادية. فنحن لا نصير أولاده بالنعمة فقط، بل وبأعمالنا أيضًا.
ولا شيء يجعلنا مثل الله، كاستعدادنا أن نغفر للأشرار وفاعلي الإثم. مثلما علَّمنا هو قبلاً حينما تكلم قائلاً إن “شمسه تشرق على الأشرار والصالحين” (مت 5: 45)، ولهذا السبب عينه، نجده في كل عبارة يأمرنا ويوصينا أن نجعل صلاتنا عامة لأجل الجميع قائلاً: “أبانا”، و”لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، و”خبزنا كفافنا أعطنا”، و”اغفر لنا ذنوبنا ولا تدخلنا في تجربة”، و”نجنا”. وفي كل مرة يأمرنا أن نستخدم صيغة الجمع هذه، حتى لا نضمر لأحد ولو أدنى إحساس بالغضب. فكم عقابًا يكون أشد ليستحقه أولئك الذين بعد هذا كله لا يعرفون الغفران أبدًا، بل يسألون الله الانتقام من أعدائهم، وبكل ما تحمله الكلمة من معان، يتعدون على الناموس، وبينما يحث الرب الجميع ويشجعهم على أن نمنع أنفسنا من الصراع الواحد مع الآخر.
وإذ المحبة هي أصل كل صلاح، فإنه يبعد عنها كل ما يمكن إعاقتها فيجمعنا معًا، ويثبتنا سويًا الواحد مع الآخر. لأنه ما من واحد، وأقول ما من أحد، أبًا كان أم أمًا أم صديقًا أو مهما كان، قد أحبنا مثل الله الذي خلقنا.
وفوق هذا كله، فإن خيراته اليومية لنا ووصاياه لنفعنا قد جعلها ظاهرة لنا، لكن إن كنت تخبرني عن الآلام والأحزان، وشرور الحياة ففكر في كمّ الآثام التي تُسيء بها إليه كل يوم. ولن تتعجب، مهما حلت بك شرور أكثر من هذه، لكن إن كنت تنعم بأي صلاح، فإنك ستتعجب وتندهش.
لكن والحالة هكذا، فإننا نفكر فيما يأتي علينا من كوراث، لكن ما نفعله من آثام كل يوم لا نفكر فيها ولا نُعيرها اهتمامًا. لهذا نحن نتحير، لأننا إن كنا نحاسب أنفسنا بشدة كل يوم على خطايانا، أو حتى ليوم واحد فقط، لأدركنا كم من الشرور التي نتعرض لها. وإن اعترفنا بآثامنا، كل واحد بنفسه، وإن تحدثنا عما ارتكبناه هذا اليوم – رغم أنني بالطبع لا أعرف ما الذي أخطأ به كل واحد منا – فإنه ورغم كل ذلك، تبدو هذه هي آثامنا الكثيرة التي لا يمكن حتى لمن يعرضها أن يحصي عددها.
فمثلاً، أيّ واحد منا لا يبدو مهملاً في صلواته؟ أيّ واحد منا لم يكن مزدريًا بالنعمة، أو ساعيًا إلى المجد الباطل؟ من منا لم يتكلم بالشر على أخيه؟ أو لم يشته شهوة شريرة؟ أو لم ينظر بعينين دنستين؟ أو لم يتذكر أشياءً بمشاعر عدائية؟ أو حتى لم يرتفع قلبه؟.
وإن كنا ونحن في الكنيسة وفي وقت قصير نذنب بشرور هكذا كثيرة، فماذا يكون حالنا بعد خروجنا من هناك؟، فإن كانت الأمواج عالية في الميناء، فماذا إذا خرجنا إلى روافد الشر؟ أعني إلى معترك الحياة، وإلى أعمالنا العامة، وإلى اهتماماتنا في البيت، فهل نقدر حقًا أن ندرك ذواتنا من جديد؟
ولكن ومن بين كل خطايانا الكثيرة والخطيرة، قد أعطانا الله وسيلة سهلة وقصيرة للنجاة وخالية من أية مشقة. لأنه أية مشقة نجدها في غفران خطايا من أساء إلينا؟ لا شيء بل المشقة ألا نغفر بل نظل محتفظين بالعداوة، لكننا حين نتخلص من الغضب، ننتعش كثيرًا، ويصبح سهلاً على من يريد الغفران أن يغفر. لأنه ما من بحر نعبره، ولا رحلة طويلة نقطعها، ولا قمم جبال نتسلقها، ولا أموال ننفقها، ولا حاجة أن نعذب أجسادنا، بل يكفي فقط أن نريد، وحينئذٍ تُمحى كل الخطايا.
لكن إن كنت بعيدًا عن غفران خطية جارك كل البعد، بل تتضرع إلى الله ضده، فأي رجاء بالخلاص يكون لك. إن كنت في كل مرة حين ينبض عليك الانتفاع بسَكينة قلب الله، تراك تستفزه! واضعًا زي المتوسلين، بينما تصرخ بصوت حيوان مفترس، قاذفًا نفسك بكل أوجاع الشرير. لهذا السبب، فإن القديس بولس أيضًا، حين يذكر الصلاة، لا يطلب شيئًا آخر سوى حفظ هذه الوصية، إذ يقول:
“رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب ولا جدال (شك)” (1 تى 2: 8)، فإن كنت وأنت المحتاج إلى الرحمة، تطلق العنان لغضبك، بدلاً من ضبطه بالأحرى. ورغم أنك تعلم أنك تطعن نفسك بسيف، فهل يمكن لك أن تصبح رحيمًا وأنت تنفث سموم الشر؟
لكن إن كنت لم تبلغ بعد هذه الثورة من الغضب بكل حدته، افترض أنه يحدث بين الناس، وحينئذ ستدرك مدى التحقير الزائد هكذا: هل يقترب إلينا أحد كإنسان طالبًا الرحمة، وبينما هو يرقد على الأرض، يرى عدوًا، فيغادر متوسلاً إليك ويبدأ في ضربه، وألا تغضب أنت منه بالأكثر؟(أنا مش فاهمه حاجة!!!)
فكر أن يكون هذا هو وضع الله أيضًا، فأنت أيضًا وبينما تتوسل إلى الله وتتضرع، تنصرف لتضرب عدوك بكلماتك فتهين نواميس الله، الذي وضع ناموس تخليك عن كل مشاعر الغضب. بينما أنت في صراع مع الذين أغاظوك، فتطالب الله بمخالفة وصاياه. ولا يكفيك انتقامًا أنك تتعدى على ناموس الله، بل تطالبه أن يفعل هو ذلك أيضًا؟ ما هذا؟ هل نسي الله ما أوصى به؟ ما هذا؟ هل الذي أوصى بهذه الأقوال إنسان؟ إنه الله، الذي يعرف كل شيء والذي يشاء أن نحفظ وصاياه بكل دقة، والذي حاشا له أن يفعل ما نفعله. وما نريده أن يفعل، بل يحاسبك أنت القائل بهذه الأمور، فقط لمجرد أنك تقولها في انحراف وكراهية، فينزل بك أشد العقوبة. فكيف إذن تسعى أن تنال منه أشياءً يمنعك هو بشدة أن تفعلها؟
ومع هذا، فإن هناك من بلغوا هذه الدرجة من الوحشية والبهيمية، فلا يكتفون بالتشفع ضد أعدائهم بل أن يلعنوا أولادهم، وينهشوا لحمهم إن استطاعوا بل هم ينهشونها فعلاً.
فلا تقل لي إنك لم تغرس أسنانك في جسد من أغاظك. وإن كنت قد قلت ذلك على الأقل فيما يخصك، فأي شيء أخطر من ذلك الفعل، أن تزعم أن غضبًا قد حل به من فوق. فإنه لابد أن يُسلَّم لعقاب أبدي! وأن يُفنى هو وكل بيته. لماذا؟ وأيّ ألم أشد إيلامًا من هذه القضمات؟ وما أشدها من أسلحة مرة؟ والمسيح لم يرشدك إلى هذا ولم يوصيك أن تخضب دمك بالدماء. كلاً. فالأفواه التي تُدمي بأجساد الناس قد لا تصدم مثل ألسنة تنهش في الآخرين. كيف ستُحيي أخاك إذن؟ وكيف ستلمس الذبيحة؟ كيف تتذوق(تأخذ) دم الرب، وقد امتلأ فكرك بكل هذا السم؟
لأنك حين تصرخ: مزقه إربًا ودمر بيته وحطم كل حاله. وحين تدعو عليه بميتات بلا حصر، فأنت لا تقل شيئًا عن قاتلٍ، ولا تختلف كثيرًا عن وحش كاسر يفترس الناس.
فلنكف إذن عن هذا المرض والجنون، ولنُظهر لمن أغاظونا رأفة أوصانا بها المسيح. لنصبح مثل “أبينا الذي في السماوات” وحينئذ سنكف عن الشر، إن تذكرنا خطايانا. وإن فحصنا بجدية كل أفعالنا السيئة، في البيت أو خارجه، وفي السوق وفي الكنيسة.
-
فإن لم يكن لأي شيء، فعلى الأقل بسبب احتقارنا لأنفسنا فعلاً، نستحق أن يقع علينا أشد العقاب، لأنه حين كان الأنبياء يرنمون والرسل يرتلون الأناشيد والله يتكلم، كنا نحن نضل بعيدًا، ونجلب على أنفسنا ضيقات العالم، ولا نراعي وصايا ونواميس الله، جالسين في هدوء – مثلما ينصت المشاهدون في المسارح لرسائل الإمبراطور في صمت وهدوء – لأنه حينما تتلى هذه الرسائل هناك، والولاة حاضرون مع المحافظين، ورجال مجلس الشيوخ، والشعب وقوفًا في صمت مطْبق أمام الكلمات، فإن قفز أحد فجأة وسط هذا السكون الشديد وصرخ فإنه يلقى أشد العقاب؛ إذ أهان الإمبراطور، لكن هنا، فإن الرسائل قادمة من السماء، وبينما تتلى تسود فوضى في كل مكان، مع أن مرسل هذه الرسائل أعظم بما لا يقاس من ملكنا الأرضي، والحشد المجتمع أكثر وقارًا، فالحاضرون ليسوا من الناس فقط، بل من الملائكة أيضًا، والرسائل تنقِل إلينا أخبار الانتصارات، والأخبار السارة التي تثير فينا رهبة أكثر من أمور الأرض. لهذا لا يحتشد الناس فقط، بل الملائكة ورؤساء الملائكة وكل شعوب السماء وكل سكان الأرض يُؤمَرون بالتسبيح، كالمكتوب: “باركُوا الربَّ يا جميع أعماله” (مز 103: 22).
أجل، فإن أعمال الرب ليست بالإنجازات الهينة، بل هي تفوق كل حديث، وكل فكر، وكل فهم للإنسان.
وهذه الأعمال يعلنها الأنبياء كل يوم، كل منهم بطريقة مختلفة، كارزين بهذه النصرة المجيدة. إذ يقول أحدهم: “ارتفعت في الأعالي. جعلت الأسر أسيرًا، وقبلت من الناس عطايا” (مز 18: 8 س). وأيضًا: “الربُّ قديرُ وجبارُ في القتالِ” (مز 24: 8). ويقول آخر: “هو يقسمُ غنائم القوي” (إش 53: 12 س). لأنه حقًا جاء لهذه الغاية. أن “ينادي للمسبيين بالعُتق، وللمأسُورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر” (إش 51، لو 4: 19).
وحين أعلن صيحة النصرة على الموت قال: “أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية؟” (هو 13: 14). ويعلن آخر الأنباء السارة عن أعمق سلام قائلاً: “فيطبعون سُيوفهم سككًا ورماحهمُ مناجل” (إش 2: 4، مي 4: 3). بينما ينادي آخر أورشليم بقوله: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتُفي يا بنت أورشليم. هُوذا ملكُكِ يأتي إليكِ… وديعُا وراكبُا على حمارٍ وعلى جحشٍ ابن أتانٍ” (زك 9: 9). وأخر يعلق عن مجيء الرب الثاني قائلاً بنفس الطريقة: “السيد الذي تطلبونه… هوذا يأتي… ومن يحتمل يوم مجيئه؟” (ملا 3: 1-2). وتطفرون كعجول تحررت من القيود” (مل 2: 4 س). وآخر وهو مندهش لهذه الأمور يقول: “هذا إلهنا، ولا نحسب آخر مثله” (با 3: 35). ومع كل هذا، وبينما نطقت تلك الأقوال وغيرها كثيرًا، وبينما يجدر بنا أن نرتعد، ولا نحسب أنفسا أننا على الأرض بعد، لا نزال وكأننا في وسط سوق كبيرة، نزأر ونثير الاضطراب، ونقضي كل أوقات اجتماعاتنا في جدل حول أمور لا قيمة لها، ولا تعنينا.
وإذ نحن مهملون في كل شيء، في توافه الأمور كما في عظائمها، في السمع كما في الفعل، في الخارج وداخل البيت، وفي الكنيسة، ومع هذا كله أيضًا. نصلي ضد أعدائنا. فكيف يتوفر لنا أيّ رجاء بالخلاص، ثم نضيف إلى كل هذه الخطايا خطية أخرى شديدة تساويها كلها؛ وهي الصلاة الباطلة؟
فهل لنا بعد أيّ حق أن نتعجب؟ إن أصابنا مكروه من أمور مؤلمة وغير متوقعة؟ بينما نتعجب بالحري حين لا تصيبنا مثل هذه الأمور. لأن الأولى هي من طبيعة الأشياء، بينما الثانية تفوق كل الأسباب وكل التوقعات، لأنه من المؤكد أن يحدث ما سيفوق العقل؛ إن الذين صاروا أعداءً لله يستفزونه ليغضب، ينعمون بأشعة الشمس والشتاء، وكل ما عدا ذلك. وكونهم بشرًا، يفوقون الحيوانات المفترسة وحشية، إذ يواجه الواحد الآخر، وينهش الواحد لحم جيرانه، وتصطبغ ألسنتهم بالدماء، حتى بعد المائدة الروحية (الإفخارستيا). وبعد بركاتها العظيمة المُنفعة ووصاياه التي لا تعد.
لهذا ونحن نفتكر في هذه الأمور، فلنطرح عنا هذا السم، ولنضع حدا لعداوتنا، ولنجعل صلواتنا تتفق مع ما نحن عليه الآن، وعوضًا عن وحشية الشياطين، فلنكتس بوداعة الملائكة، ومهما تضررنا في أيّ أمر، فلنفكر فيما نحن فيه، وفي أجرنا الذي يعينه الله لنا لهذه الوصية.
فلنُلطِّف غضبنا، ونهدِّئ انتفاضنا وكبرياءنا، حتى نعبر هذه الحياة الحاضرة في هدوء. وإذا ما رحلنا إلى هناك، نجد ربنا يلاقينا ويعاملنا مثلما عاملنا جيراننا، وإن بدأ هذا الأمر ثقيلاً ومخيفًا، فلنجعله خفيفًا ومرغوبًا. ولنفتح الأبواب المجيدة للثقة فيه، وإن لم تتوفر لدينا قوة للامتناع عن الخطية، فلنفعل ذلك بأن نكون لطفاء مع الذين أخطأوا إلينا (لأن هذا بالتأكيد ليس صعبًا، ولا ثقيل الحمل).
وإذ نترفق بأعدائنا نجلب على أنفسنا رحمة كثيرة، هكذا يحبنا كل من يعرفنا في هذه الحياة الحاضرة. وفوق الجميع يصادقنا الله ويكللنا ويحسبنا مستحقين لكل الخيرات العتيدة، التي ننالها جميعًا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح نحو الإنسان الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان. آمين.
العظة العشرون
“ومتى صُمتُم، فلا تكونوا عابسين كالمُرائيين، فإنهم يُغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين” [ع16]
جيد ها هنا أن نئن بصوت عال وأن نبكي بمرارة، لا لأننا نحاكي المرائين وحسب، بل لأننا تفوَّقنا أيضًا عليهم. لأنني أعرف جيدًا أن كثيرين لا يصومون فقط بل ويتباهون بأصوامهم أمام الناس، بل ويهملون الصوم، ومع ذلك يرتدون أقنعة الصائمين متَّشحين بعذر أسوأ من خطيئتهم؛ إذ يقولون إننا نفعل ذلك حتى لا نعثر الآخرين. ما هذا القول؟
إن هناك ناموسًا إلهيًا يأمرنا بهذه الأمور، وأنتم تتكلمون عن العثرة أو الإساءة؟ ظانين أنكم حين تفعلون هذا وأنتم تسيئون إلى الناس بتعديكم للوصية، وأنكم تخلصون الناس من عواقب الإساءة؟
أيّ شيء أسوأ من هذه الحماقة؟ ألا يصير عملكم أردأ من عمل المرائين؟ ألا يكون رياؤكم مضاعفًا؟ وإذا ما تفكرتم في عظم هذا الشر ألا ترتبكون خجلاً لقوة ما أمامنا من تعبير؟ فالرب لم يقل إنهم يتظاهرون جزئيًا، بل يكشف أعماقهم أكثر فيقول “إنهم يُغيِّرون وجوههم” أيّ أنهم يشوِّهونها ويفسدونها، لكن إن كان الأمر مجرد تغيير “السحنة” ليبدو الإنسان باهتًا لأجل المجد الباطل. فما قولنا في نساءٍ يلطخن وجوههن بالألوان والأصباغ لتدمير شباب دنسين؟ وبينما يؤذي مثل هؤلاء الشبان أنفسهم فقط، فإن أولئك النسوة يؤذين أنفسهم والناظرين إليهن. لهذا يجب علينا أن نهرب من هذا الفخ ومن فخاخ أخرى، وعلى مسافة بعيدة بكفاية لننقذ أنفسنا.
فالرب لم يوصِ فقط بألا نُغير وجوهنا، بل أن نسعى لحفظ نفوسنا أيضًا. وهو الأمر الذي أوصى به قبلاً. ففي مسألة الصدقة، لم يعرض الأمر هكذا ببساطة بل إذ قال:
“احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس” وأضاف “لكي ينظروكم” فإنه في الصلاة والصوم لا يذكر نفس الشيء، ولا يضع نفس القيد، فلماذا أراد ذلك؟ لأنه من المستحيل أن نخفي الصدقة عن أعين الناس، لكن من الممكن أن يتم الأمر بالنسبة للصلاة والصوم. ومثلما قال “لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك” لم يكن يتحدث عن الأيدي بحصر المعنى، بل عن واجب إخفاء الأمر عن الناس في حزم. ومثلما أمرنا أن ندخل إلى مخادعنا، لم يكن يقصد المكان بشكل مطلق، ولكنه يثير فينا مشاعر الرهبة المقدسة للمرة الثانية حول مسألة الصلاة.
هكذا هنا أيضًا، حين يأمر أن “ندهن جسدنا” لا يعني حرفيًا أن ندهن أجسامنا، وإلا تعدِّينا على الناموس – إذا لم نفعل – والأكثر من ذلك، أن أولئك الذين اجتهدوا بمشقة لحفظ أجسادهم في مجتمعات الرهبان – والذين اختاروا سكناهم في الجبال – لن يقدروا على هذا، إذن لم يكن هذا هو ما يأمرنا به، بل إذ رأى أن للقدماء عادة دهن أنفسهم باستمرار، ويتلذذون ويتهللون (مثلما نرى مع داود في 2 صم 12: 20)، ومع دانيال (دا 10: 3)، وقال أن علينا أن ندهن أجسامنا – ليس بمعنى حرفي – بل أن نسعى بكل السبل وأن نجتهد بكل حزم أن نُخفي عن الناس نُسكنا.
وحتى يقنعكم بالأمر، فإنه هو نفسه فعل ما أوصى به، إذ صام أربعين يومًا وصامهم سرًا – فلا دهن نفسه ولا حتى غسل جسده – ومع ذلك، ورغم أنه لم يفعل هذه الأمور، فقد أكمل الوصايا كلها دون سعي وراء مجد باطل. وهكذا يوصيا نحن بنفس الأسلوب، إذ يكشف لنا عن المرائين ويكرر اتهامه لهم مرتين لينبه ذهن السامعين. وفي موضع آخر يذكر نفس صفة المرائين، أعني ليس فقط بإظهار سخافة الأمر، ولا بتوقيع أقصى عقوبة عليه، بل أيضًا بإظهار أن مثل هذا الخداع لا يدوم طويلاً، فهو يبعدنا عن هذه الرغبة الشريرة. فالممثل يبدو رائعًا أمام الجلوس من المشاهدين، لكن معظمهم يعرف حقيقة أمره، ولهذا لا يبدو رائعًا أمام الكل. والذين يعرفون الدور الذي يلعبه، ورغم ذلك وحين يتفرق المتفرجون ينكشف أمره للجميع. وهذا هو حال الباحثين عن المجد الباطل، والمعروفين للكل بأنهم يضعون أقنعة على وجوههم وسوف يفتضح أمرهم في اليوم الأخير، حين تصير كل الأشياء “عارية ومكشوفة”، والرب يقدم الفرصة لانتشالهم من بين المرائين حين يكشف أن وصيته خفيفة، لأنه لم يجعل الصوم أشد صرامة، ولا طالبنا أن نمارسه بكثرة، بل ألا نفقد الإكليل المعد لنا.
وما قد يبدو صعب الاحتمال، يبدو أمرًا مشتركًا بيننا وبين المرائين – لأنهم يصومون أيضًا – ولكن الأخف في الأمر، أيّ ألا نخسر الأجرة بعد أتعابنا، حسب قول الرب الذي أوصى به دون أن يضيف شيئًا إلى أتعابنا، بل يجمع الأمور لنا بكل أمان، دون أن يحرمنا من المكافأة. مثلما يفعل المراءون، كلا، بل أن نحاكي لاعبي الألعاب الأوليمبية، الذين رغم جلوس حشد عظيم أمامهم ورغم وجود الكثيرين من الأمراء يشتاقون أن يدخلوا السرور على واحد فقط، ذاك الذي يمنحهم الفوز حتى لو كان أدنى من مستواهم بكثير.
لكن أنتم، ورغم دوافعكم بتقديم الفوز له، أولاً، لأنه هو الذي يقضي بنصركم، وأيضًا، لأنه لا يقارن بأعظم المحتشدين في مسرح اللعب. فإنكم قد تشتركون مع آخرين لا نفع لهم، بل ضررهم أعظم. ومع ذلك يقول الرب: فإني لا أمنعكم، فإن اشتقتم إلى التباهي أمام الناس، فانظروا وسوف أمنحكم أعظم الفرص والمنافع، لأن ما تفعلونه هنا قد يحرمكم من المجد الذي تنالونه معي، فاحتقروا هذه الأمور، وتوحدوا معًا وتقاربوا سويًا، لتنعموا بأمان، لأن ثمار العالم لا تدوم، وإن وطأت أقدامكم كل مجد بشري وتحررتم من أسر الناس الأليم، وعملتم الصلاح دون أن ينظركم أحد تنالون مجدًا.
ونفس الأمر بخصوص كل فضيلة، فإن كنتم تسعون إليها لا لأجلها بل سعيًا وراء صناع الحبال والنحاس والعامة في الأسواق ليعجب بكم الأردياء، البعيدون عن الفضيلة، فتدعونهم إلى المشهد أمامكم، وكأن المرء قد اختار أن يعيش في حال صوم وامتناع وتعفف ليس لسمو التقشف بل ليتباهى أمام الساقطات.(رجاء قراءة البراجراف، كلامه؟؟)
ويبدو أنكم لا تختارون الفضيلة لذاتها – بل لأجل أعدائها – بينما يجب عليكم الإعجاب بها على أساس آخر؛ أن للفضيلة أعداءها الذين يعجبون بفاعليها. لهذا لا أرديكم أن تعجبوا بالصالحات لأجل الناس بل لأجلها هي، مثلما يحبنا الآخرون لا لأجل ذواتنا نحن، بل لأجل نفعهم، الأمر الذي نعتبره نحن إهانة لنا.
هكذا أيضًا أريدكم ألا تحبوا الفضيلة لأجل الناس، أو لأجلهم تطيعون الله، بل تطيعون البشر لأجل الله. لأنكم إن فعلتم العكس فحتى وإن بدا أنكم تصنعون الفضيلة، تكونون كمن لا يصنعها تمامًا، ويبدو بدون طاعة، هكذا أنتم حين تفعلون ما يخالف الناموس
-
“لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” [ع19]
بعد أن أقصى الرب مرض المجد الباطل وفي حين مناسب، يتحدث عن الفقر الإرادي؛ إذ لا شيء يدرب الناس على الولع بالثروات مثل الولع بالمجد. وهذا هو السبب الذي يدفع الناس إلى ابتكار هذه الجماعات من العبيد. وهذا الحشد من الخصيان والجياد ذات السرج الذهبية، والموائد المزدانة بالفضيات وما شابه. والأكثر سخفًا من هذا كله؛ أن رغباتهم لا تشبع، ولا يكفون عن الاستمتاع باللذة، بل يتباهون بما لديهم أمام الجموع.
بعد أن قال الرب إن علينا إظهار الرحمة، يشير هنا إلى ما يجب أن نظهره من رحمة أعظم، بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” لأنه من غير الممكن أن يستهل حديثه باحتقار الغنى والثروات بسبب طغيان الشهوة، لهذا يقسم حديثه إلى أجزاء صغيرة، وبعد أن حرر ذهن السامع، يعده لقبول وصايا تالية ولهذا ترون أنه قال أولاً “طوبى للرحماء” ثم “كن مراضيا لخصمك” وبعدها “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا” لكنه هنا يتحدث عن أمر أعظم من كل ما مضى. لأنه كان يعني قبلاً: إن رأيت مخاصمة أمام القضاء قد أوشكت على البدء، فافعل هذا.
لأنك إن كنت في احتياج مصحوب بالتحرر من المعاناة، أفضل من أن تملك وأنت تعانى لكن، افترض أن لا خصم يعاديك ولا أحد يقاضيك، فإن الرب يعلمنا أن نزدري بالثروات نفسها لذاتها، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يجد من وراءها رحمة، مثلما هو الحال مع المعطي، لهذا يشرع القوانين حتى لو لم يكن هناك أحد يؤذينا، أو يجرنا إلى ساحات القضاء، حتى في هذه الأحوال، لابد أن نحتقر ممتلكاتنا، فنعطيها لمن يحتاج، ولا يذكر الرب الأمر كاملاً هنا، بل يتحدث في رفق، رغم أنه صارع في البرية صراعًا شديدًا (مت 4: 9-10). وحتى يحين الوقت المناسب للإفصاح عن وصاياه، فضل السيد المسيح أن يكون في مركز النصح أكثر من واضع الناموس، لأنه بعد أن قال: “لا تكنزوا كنوزًا على الأرض” أضاف “حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون”. ويشير المسيح بالنسبة للزمان الحاضر، إلى أضرار الكنز هنا، ومنافع ما لنا هناك، من حيث المكان والأشياء التي تفسده، ولم يتوقف عن هذين الأمرين، بل يوسع من دائرة النقاش، فيشير إلى ما يخيفهم من أمور ويسأل: مم تخافون؟ هل تخشون ضياع خيراتكم، إن أعطيتم صدقة؟ كلا.
إذن، قدموا صدقة، ولن تضيع خيراتكم. بل والأكثر من هذا، أنكم ستنالون زيادة مضاعفة. أجل، لأن خيرات السماء تضاف إلى ما عندكم. ولا يقول الرب الكلام وكأنه محفوظ لزمن ما، بل يقنعهم أن الكنز سيبقى محفوظًا لهم دون ضياع، ليجذبهم. ولا يكتفي بالحديث عن منافع إعطاء الصدقة وأنها تظل محفوظة لهم، بل يشير إلى العكس بأن عدم تقديمها يجعلها تفنى من أيديهم. وتأملوا مدى حكمته في أنه لم يقل: اُتركوها لآخرين، لأن هذا فيه مسرة الناس، بل يحذرهم على أساس جديد. إنه لم يتحايل الآخرون لسلب خيركم، فإن “السوس والصدأ” سيفعلان، وكبح هذا الأذى من الصعب السيطرة عليه، ومهما حاول الإنسان منعه لن يقوى، وحتى لو لم يتخلص السوس من الذهب، فاللصوص سيقومون بذلك، وحتى لو لم ينهبوا كل شيء، فعلى الأقل الجزء الأعظم منه.
-
لهذا يضيف الرب تكملة للمناقشة بقوله:
“لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا” [ع21]
وحتى لو لم يحدث شيء من هذا كله، فإنك ستتعرض لأذى ليس بالقليل، لأنك إن تعلقت بهذه الأشياء الأرضية، وأصبحت عبدًا بدلاً من حر، وطرحت عنك الأمور السماوية، ولم تعد لديك قدرة على التفكير في أيّ أمر من أمور السماء، بل انحصر فكرك كله في المال والملكية والقروض وربا الأرباح والمتاجرات الخسيسة، فقد صرت أسوأ من العبد وما أتعس حالك؛ إذ تجلب على نفسك أقسى أنواع الطغيان محرومًا من أعز شيء في الوجود، من شرف الإنسان وحريته. ومهما تكلم إليكم أحد تعجزون حتى عن الإنصات إلى ما يهمكم، لأن عقولكم متسمرة في المال وذهنكم مقيد مثل كلب بقبر بسبب استبداد الثروات، مقيدين بشدة تنبحون على كل من يقترب منكم، ولا عمل لكم سوى هذا.
ويعتبر السيد الرب قوله أعلى من إدراك سامعيه، وإذ لا يدرك الجميع سوء أفعالهم ولا حتى منفعة تصرفاتهم، بل هم في حاجة أكثر إلى روح يدرك ونفس تعي كلا الأمرين، يأتي بالنقاش بعض أمور أخرى كانت واضحة لهم. فيقول: “حيث كنز الإنسان هناك يكون قلبه أيضًا” ثم يعيد توضيح الأمر مرة أخرى بإبعاد سامعيه عن الأمور العقلية إلى الأمور المحسوسة، فيقول: “سراجُ الجسدِ هو العينُ” [ع22]. ويعني بهذا: لا تدفنوا ذهنكم في الأرض، ولا في أيّ شيء مماثل، لأنكم إنما تحفظونه للسوس وللصدأ، وللسارقين، وحتى إن نجوتم من مثل هذه الشرور، فلن تهربوا من استعباد قلوبكم وانشغالها بالأذى من هذه الأمور. “لأنه حيث يكون كنز الإنسان، هناك يكون قلبه أيضًا” فإذا صنعت لك مخازن في السماء، فلن تحصد هذه الثمرة فقط، بل تنال مكافأتك على هذه الأمور، وتنال مجازاتك في هذا العالم أيضًا. وعند وصولك إلى الميناء هناك، ووضع مشاعرك في الأمور العلوية، والاهتمام بما فوق. لأنه حيث تنقل كنوزك، فمن الواضح جدًا أنك تنقل إلى هناك عقلك أيضًا. لهذا إن فعلت ذلك على الأرض، فسوف تختبر العكس، لكن إن كان القول غامضًا بالنسبة لك، فاسمع ما سيلي في حينه:
“سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينيك بسيطة (غير معقدة الرؤى) فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينيك شريرة، فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون” [ع22-23]
ها هو هنا ينقل حديثه إلى أمور أكثر تواجدًا في دائرة حواسنا، أعني، إذ يتكلم عن الذهن كمستعبد وواقع تحت الأسر، وأن كثيرين لا يدركون هذا بسهولة، فإن الرب ينقل الدرس إلى أمور خارجية، واضعًا أمام عيون الناس ما يمكن أن يفهمه الآخرون معهم، فيقول: “إن لم تفهم ما يضر الذهن، يمكنك أن تدركه من أمور الجسد، لأنه مثلما تكون العين بالنسبة للجسد، هكذا، الذهن بالنسبة للنفس، فإن لم تختار أن ترتدي ذهبًا، أو أن تتوشح بملابس الحرير، وعيناك مطفأتان، فإن صحتهما وسلامتهما أهم عندك من كل هذه الأمور السطحية؛ لأنك إن خسرت صحتك أو بددتها، لن تنفعك حياتك كلها بشيء. لأنه مثلما تكف العينان عن النظر، تضيع طاقات بقية أعضائك، وينطفئ نورها، هكذا إذا فسد الذهن، تمتلئ حياتك بشرور لا حصر لها.
ومثلما نهدف في جسدنا أن نحافظ على عيوننا سليمة، هكذا الذهن في النفس، لكننا إن أفسدنا العينين اللتين تمدان الجسد بالنور، لا نستطيع أن نرى بوضوح بعد- تمامًا مثلما ندمر منبعًا للمياه، فنتسبب في جفاف النهر- هكذا مَنْ أطفأ الفهم يربك كل أفعاله في هذه الحياة.
لهذا يقول الرب: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا. فالظلام كم يكون؟”. لأنه حين يغرق القبطان أو تنطفئ الشمعة، أو يسقط القائد الحربي في الأسر فأي رجاء يبقى بعد في صدور الذين تحت قيادتهم؟
وإذ يحذف السيد الآن في كلامه الحديث عن مؤامرات الثروة والمال والمعاناة والمحاكمات القضائية والتي تناول الحديث عنها قبلاً، حين قال يسلمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي، فإنه يعرض هنا أمورًا أخرى أشد وطأة، مؤكدًا أنها تحدث، ليبعدنا عن كل شهوة ردية، فالطرح في السجن أقل وطأة من استعباد الذهن للشهوة المريضة. وربما لا يحدث أن نُلقى في السجن، لكن استعباد الفكر أمر محتم، إذا اشتهي الإنسان المال والثروة. لهذا يأتي ذكرها الآن باعتبارها أخطر من سابقتها، ومن المؤكد حدوثها، فيقول إن الله أعطانا فهمًا أن نبتعد عن كل جهل، وأن نحكم على الأشياء حكمًا سليمًا مستخدمين هذا الفهم كسلاح ونور ضد كل خطر وضرر لنبقى في أمان.
لكننا نخون العطية لصالح أشياء تافهة عديمة النفع. لأنه ما فائدة الجنود المصطفين في دروع من ذهب، وقائدهم أسير في السجن؟ وما فائدة سفينة مزدانة بألوان جميلة وربانها غارق تحت لجة المياه والأمواج؟ وما ميزة جسد جميل متناسق وقد ضاع منه البصر، وما نفع الطبيب المطروح في فراش المرض ومن المفترض أن يكون صحيحًا ليعالج أمراضنا، حتى لو جلس في مقعد من فضة وفي غرفة حوائطها من ذهب، فإن ذلك لن يجدي المرضى شيئًا.
هكذا. إذا فسد الذهن – الذي يملك القدرة على إطفاء نار شهواتنا – فحتى إن وضعناه في كنز، لن ينفعه شيئًا، فالخسارة عظيمة والضرر الذي لحق بنفسنا هو ضرر بالغ.
-
هل ترون كيف للناس من خلال هذه الأمور التي يلحقون بها الأذى بأنفسهم وكيف يريد الرب إبعادهم عنها، ليعيدهم إلى الصالحات، إذ يقول: “لأية غاية تشتهون الغنى والمال، هل للتمتع باللذة والثروة، فلماذا تفشلون بينما من المفترض أن تنالوا كل ما تريدون”.
السبب أن إصابة عيوننا تجعلنا لا ندرك مباهج أيّ شيء، وتحل بنا الكوارث، ويسود حالنا إذا ما فسد ذهننا وانحرف. فلماذا تريدون دفن القنية في الأرض؟ هل لحفظها في أمان. ولكن العكس هو الذي يحدث، فمثلما يحدث مع طالبي المجد الباطل إذ يصومون ويعطون صدقة ويصلون، لهذا المجد الباطل، فإن الرب يحصن الإنسان ألا يسعى وراء ذلك فيقول: لأي غرض تصلي وتعطي صدقة؟ هل لمحبة مجد الناس – إذن لا تصلى لهذا الهدف – لأنك ستنال (إنما لكي تنال) مجدًا في اليوم العتيد.؟؟
ثم يستأثر المسيح أيضًا قلب الإنسان الجشع، من خلال اجتهاده في أمور الأرض، فيسأله لماذا تحتفظ بثروتك وتنعم بالمسرة؟ إنني سأمنحك كلا الأمرين بوفرة عظيمة إن وضعت ذهبك حيث آمرك أن تضعه.
ويكشف الرب في الحقيقة وبوضوح أكثر فيما بعد عن التأثير الشرير لهذا العقل على الذهن، حين ذكر الشوك (مت 13: 22)، لكنه هنا في الوقت الراهن، يهدد بنفس الأمر وبشكل مثير، حين يشبه من يسلك هذا الطريق بالإنسان المظلم، إذ لا يرى السائرون في الظلمة شيئًا بشكل واضح وتمييز(ومتميِّز)، لكنهم إذ نظروا حبلاً ظنوه ثعبانًا، وإن رأوا جبالاً أو وديانًا خافوا هلعًا. هكذا أيضًا المبصرون الذين لا ينذرهم أي شيء بل ينتابهم الشك، ويرتعدون بسبب الفقر، بل ولأية خسارة تافهة.
نعم. وإن هم خسروا شيئًا زهيدًا، يحزنون ولا يحزن مثلهم الذين في حاجة ضرورية للطعام. وكثير من الأغنياء يتعثرون ولا يحتملون سوء الطالع، ولا الإهانة. ولا أن يستغلهم أحد بسوء، فيبدو لهم الأمر فوق الاحتمال حتى أن كثيرين منهم قد يحطمون أنفسهم وينفصلون عن هذا الزمان الحاضر؛ إذ جعلتهم ثرواتهم مترفين مدللين لا يفعلون شيئًا سوى انتظار مزيد من الأموال. لهذا إذا أمرهم بخدمة ما، سارعوا إلى القتل والجلد والانتقام بكل خزي، واقعين في منتهى البؤس. ولا يضبطون أنفسهم متشبهين بالمخنثين من الناس – لا هم بالرجال ولا بالنساء – وإذ تطلب الأمر مزيدًا من الحيطة ليصبح الإنسان عفيفًا بلا خزي، فإنهم لا يفعلون نفس الشيء بعد أن أنفقوا كل أموالهم في أشياء لا تنفع. وإذا ما احتاج إلى ضرورة للإنفاق لا يجد بين يديه شيئًا يوفره، فيعاني من شرور لا علاج منها، فقد بذر كل ما يملك من قبل. ويشبه الواقفين على خشبة المسرح الماهرين في الفنون الشريرة، يعانون من اضطرابات جمة غريبة وخطيرة، لكنهم يبدون سخفاء في الأموال الأخرى الضرورية والنافعة، فيشبهون أناسًا يمشون على حبل مشدود، يعرضون قدرًا كبيرًا من الشجاعة، ولكن إن حل بهم أمر طارئ يتطلب جرأة أو شجاعة، لا يقدرون على التحمل أو التفكير، هكذا هم الأغنياء؛ يتجرأون كثيرًا من أجل المال، لكنهم لا يقبلون أن يضبطوا أنفسهم، ولا يقدرون على الخضوع لأي شيء يحرمهم من المال، قليلاً كان أم كبيرًا, ومثلما يكون العمل السابق خطيرًا وبلا ثمر، هكذا أولئك أيضًا يعانون من مخاطر وانتكاسات كثيرة، لكنهم لا يبلغون أبدًا أية نهاية سعيدة ونافعة، ويعانون من ظلمة مضاعفة إذ تفسد عيونهم بسبب انحراف أذهانهم، وبسبب خديعة اهتماماتهم يتورطون في عتمة ضبابية شديدة، فلا يقوون أبدًا على الرؤية.
ومن يسير في الظلمة يتحرر منها حين تشرق الشمس، لكن من له عينان تالفتان حتى وإن ظهرت الشمس – كحالة هؤلاء – حتى وإن أشرق عليهم شمس البرّ، وأخذ يحثهم، فإنهم لا يسمعون، فقد أعمت الثروة عيونهم لهذا صارت لهم عتمة مضاعفة يسيرون فيها بسبب ذواتهم، وأخرى بسبب إهمالهم لمعلمهم.
-
فلننصت إلى المعلم بكل اهتمام ودقة إذن، حتى وإن فات الأوان، نستعيد أبصارنا أخيرًا. ولكن كيف للإنسان أن يستعيد بصره؟ إن علمت أنك كنت أعمى، علينا أن تعرف لماذا صرت أعمى؟
بسبب شهوتك الشريرة، لأن محبة المال مثل عتامة ضارة تتجمع حول العين الصافية فتسبب ضعف الإبصار، ولكن هذه الغشاوة يمكنها أن تزول وتنقشع بسهولة؛ إن نحن تلقينا شعاع تعليم المسيح وإن استمعنا إليه يحثنا على الصلاح بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”، ورُبّ قائل: ولكن ما جدوى السمع ما دمتُ مستعبدًا للشهوة؟
نقول في المقام الأول إن الاستماع الدائم يوفر قوة هائلة للقضاء على هذه الشهوة. ثم الاستمرار في السيطرة على النفس لا يكون يسبب شهوة أو رغبة بل عبودية مرة، وطغيان، وقيود وظلمة، واضطرابات وأتعاب دون نفع. والاحتفاظ بالثروة للآخرين أو حتى للأعداء،لا يجدي منفعة بل يولِّد الهروب والانحراف دائمًا، فالكنز أنت واضعه بين لصوص، أما إن كنت تشتهي ثروة ما، ففي كل الأحوال أبعدها حيث تكون آمنة دون تخريب ودون شهوة لأن الشهوة قيود وإهانة وخسران مصدر إغاظة دائم. ولن تتوفر لكم في الأرض بقية آمنة أبدًا، حتى إن قادكم الإنسان إلى عمق الصحراء، ووعدكم بالأمان لحفظ ثرواتكم. فإن أسرعتم ووثقتم فيه ووضعتم خيراتكم هناك، ما حفظتم شيئًا. ولكن إن كان الله لا الإنسان هو الذي يعدكم بهذه الأمور، وحيث لا يضع كنوزكم في صحراء بل في السماء، فهل تقبلون؟ ومهما كانت درجة الأمان هنا على الأرض، فلن تحرركم أبدا من الاهتمامات، وحتى لو لم تفقدوا ثرواتكم فلن تسلموا من القلق على خسرانها.
لكنك هناك لن تعاني من كل هذا، ولن تدفن ذهبك بل تستثمره فالكنز مثل البذرة. أو بالحري هو أكثر من ذلك، لأن البذرة لا تبقى إلى الأبد، أما الكنز السماوي فيبقى إلى الأبد، والكنز لا يزهر، لكن كنوز السماء تحمل أثمار أبدية لا تموت.
-
لكن إن اخبرتني عن الوقت، وتأخير المجازاة، فإنني أستطيع أيضًا أن أخبرك كم تلقيت بالمقابل هنا، ومن طبيعة الأشياء المتوفرة في هذه الحياة سأحاول إقناعكم أنكم في هذه الدنيا تقتنون أشياء كثيرة بغير منفعة ولا تستمتعون بها، وإن لفت أحد أنظاركم إلى الخطأ، فإنكم قد تلتمسون الأعذار لأولادكم وأحفادكم، ظانين أن لديكم عذرًا كافيًا تبررون به أعمالكم التي لا لزوم لها، لأنك وبعد أن يتقدم بك العمر جدًا وتبني منازل فخمة وترحل عن الدنيا قبل إكمالها، وحين تزرع أشجارًا تثمر بعد سنوات طوال، وتشتري أملاكًا وتؤول مواريث إليك بعد زمن طويل، وتكون منشغلاً بشكل كبير في مثل هذه الأمور، وأمور أخرى غيرها لا تجني متعتها، فهل تفعل ما تفعله لأجلك أنت أم لأجل الذين يعيشون بعدك؟ ولمن تنشغل كل هذا الانشغال؟ أليس فيم تفعله منتهى الحماقة؟ وتراك وأنت لا تتوانى لحظة هنا خشية ضياع الوقت، ورغم هذا كله تخسر كل أجرة أعمالك!
لكن في السماء هناك، وحيث يبقى انتظارك وصبرك في سكينة وسلام، وتنال بهما ربحًا أعظم، ولا تتبدد خيراتك للآخرين، بل تُحفظ كل العطايا لك. ولا يكون الانتظار طويلاً جدًا، لأنها أمور وشيكة وعلى الأبواب، وقد يتحقق بعضها في جيلنا، من يعلم! وقد يصل هذا اليوم المرهوب ونقف أمام المحاكمة المخوفة التي بغير فساد. أجل فقد تحققت الآيات كلها، وتمت كل العلامات، وكُرِز بالإنجيل في كل المسكونة وتحققت كل نبوات الحروب والزلازل والمجاعات – وليست الفترة الزمنية ببعيدة – فهل لم ير منكم آيات أخرى بعد؟.
إن في ذلك لآية عظيمة. لأنه في زمان نوح لم ير أحد منهم علامات الفناء للكون كله وقتها، لكن في وسط لهوهم وأكلهم وزواجهم، وكل ما اعتادوا عليه، بغتة تأخذهم الدينونة المخيفة.
وشعب سدوم أيضًا وبنفس الطريقة، عاشوا في بذخ ولهو، ولم يشكُ أحد منهم، فجأة أبادتهم الرعود والبروق التي نزلت بهم.
فإذا تأملنا كل هذا، فلنُعد أنفسنا لرحيلنا عن هذا العالم، لأنه حتى لو لم ينقض علينا يوم القضاء بعد، فإن نهاية كل واحد وشيكة وعلى الأبواب، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.
ومن المستحيل على الناس إذا رحلوا، أن يشتروا زيتًا بعد، أو ينالوا غفرانًا وصفحًا بالصلاة بعد، فالذي توسل إلى إبراهيم (لو 16: 24)، أو نوح أو أيوب أو دانيال (حز 14: 4) لم ينل شيئًا.
بينما نحن أمامنا الفرصة، فلنهيِّئ لأنفسنا وفرة من ثقة، ولنجمع الزيت بغنى، ولنخزن كل ما لدينا في السماء، حتى حينما نحتاج إليها بالأكثر وفي الوقت المحدد، ننعم بكل شيء.
بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى الأبد آمين.
العظة الحادية والعشرون
“لا يقدرُ أحد أن يخدم سيدين؛ لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحبّ الآخر، أو يُلازم الواحد ويحتقر الآخر” [ع24].
أترون كيف يتدرج في إبعادنا عن الأمور التي لدينا الآن، ويقدم ما يريد قوله على فترات طويلة، فيتحدث عن الفقر الإختياري أو الإرادي، ويطرد سلطان شهوة الجشع، لأنه لم يكتفِ بما قاله قبلاً، رغم كثرته وعظمته، بل يضيف أيضًا أقوالا أخرى، كإنذارات مزيدة.
لأنه ماذا يكون أكثر إنذارا مما يقوله الآن، إن كنا نحن حقًا وبسبب غنانا وثرواتنا نبتعد عن خدمة المسيح، أو ما الذي يمكن أن نشتهيه أكثر. إن كنا حقًا باحتقارنا للثروة نوجه حبنا وعواطفنا إليه لتصبح محبتنا له كاملة. وأعود فأكرر وأقول نفس الشيء، إن المسيح يضغط على السامع بكلا الوسيلتين ليطيع كلامه، وكطبيب ماهر للغاية، يشير إلى المرض الناجم عن الإهمال، كما يشير إلى الصحة الناتجة عن الطاعة.
تأملوا مثلاً، نوع الربح المشار إليه وميزته بأن يتخلص الإنسان من أمور مضادة، فيقول الرب: إن الثروة لا تؤذيكم في هذا فقط، بل هي تثير اللصوص ضدكم أيضًا، وتعتم ذهنكم إلى أقصى حد، وتقصيكم عن خدمة الله، فتحولكم إلى أسرى ثروات ميتة، وهي في كلا الحالتين تضركم. فهي من جهة تجعلكم عبيدًا لا أسيادًا يأمرون الآخرين، ومن جهة أخرى تطرحكم بعيدا عن خدمة الله، الواجبة خدمته قبل الجميع.
ومثلما أشار في موضع سابق عن مضاعفة سوء التدبير حيث “يَفسد السوس” هنا على الأرض، بينما لا يحدث هذا هناك، حيث الحراسة منيعة لا يمكن اختراقها. هكذا هنا أيضًا، يظهر مضاعفة الخسارة حيث نبعد عن الله وتجعلنا الثروة عبيدًا لمال الظلم ((mammon. لكنه لا يعرض الأمر مباشرة، بل يؤسس تعليمه على اعتبارات عامة، قائلاً: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، وهو يتحدث عن أمرين متناقضين لأنه لو لم يكن هناك تضاد، لما تحدث عن اثنين، بعكس ما قيل: “كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع 4: 32). فرغم أنهم منقسمون إلى أجساد عديدة، إلا أن اجتماعهم واتفاقهم قد جعل الكثيرين واحدا.
وإذ يريد الرب أن يدعم شرحه يقول إن من يخدم سيدين، يكره ويبغض، بدلاً من أن يخدم، “لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الأخر”، موضحًا أن التغيير للأفضل أمر سهل، لئلا يقول قائل “لقد صرت عبدًا إلى غير رجعة، لقد أصبحت تحت سيطرة الثروة” مؤكدًا أن الإنسان يمكنه التغيير من حال إلى حال.
-
وكما ترون، وإذ يتحدث بشكل عام، ليقنع سامعه أن يكون قاضيًا نزيهًا على كلمات السيد الرب، وأن تحكم بطبيعة الأشياء ذاتها حين يتيقن من صدقه، حينئذ وليس مثل هذا الوقت يكشف السيد نفسه قائلاً:
“لا يمكنكم أن تخدموا الله والمال” [ع24].
فلنرتعد ونحن نتأمل هذا الأمر، ونفكر ما الذي جعل المسيح يقول ذلك، وكيف يضع المال مع اسم الله. لكن إن صدمنا هذا الأمر، فإن حدوثه في أعمالنا وتفضيلنا لطغيان الذهب على مخافة الله، هو أمر يصدم أكثر بكثير. ماذا إذن؟ ألم يكن هذا ممكنا بين القدماء؟ أجل دون شك، ورُبّ قائل: كيف حصل إبراهيم إذن على شهرة طيبة، وكيف نالها أيوب. لا تخبرني عن الأغنياء بل عن الذين يخدمون المال والثروات. فإن أيوب كان غنيًا، لكنه لم يخدم مال الظلم، بل تملكه وتحكم فيه، وكان سيدًا لا عبدًا، لهذا اقتنى كل شيء وكأنه وكيل لأملاك شخص آخر، وهو لم يكن يسلب الآخرين، بل كان يعطي المحتاجين من ماله الخاص. والأكثر من ذلك، إنه حين توفرت لديه الثروات لم تكن مصدر فرحه، “ما فرحتُ إذ كثُرت ثروتي” (أي 31: 25). ولهذا أيضًا لم يحزن حين ضاعت ثروته.
لكن أغنياء هذه الأيام ليسوا مثل أيوب، بل بالحري هم في حال أسو من حال العبيد، وكأنهم يدفعون الجزية لطاغية جبَّار، وكأن ذهنهم قلعة مشغولة بمحبة المال، تبعث إليهم بأوامرها من هناك يوميًا، ملآنة إثمًا، ولا يقوى أحد على مُخالفتها.
لهذا لا تكونوا معاندين بزيادة، لأن الله أعلن مرة وإلى الأبد ونطق أنه من المستحيل على الإنسان أن يوفق في خدمة سيدين. فإن قلتم لا بل هذا ممكن، فلماذا تقولون ذلك وأحد السيدين يأمركم أن تسلبوا حقوق الآخرين بالعنف. بينما يطالبك السيد الآخر أن تجرد نفسك من حب القنية، الأول يطالبك أن تكون عفيفًا، والثاني أن تكون سكيرًا مترفًا. واحد يأمرك أن تحتقر الموجودات بينما يجذبك الآخر إلى الأمور الحاضرة. واحد يأمرك أن تحتقر المصنوعات الرخامية والحوائط والأسقف والآخر أن تُعجب بها. فكيف لهذين الاثنين أن يتفقا؟.
ويدعو المسيح هنا مال الظلم بالسيد، لا بسبب طبيعة المال بل بسبب تعاسة الذين ينحنون أسفله. وهكذا أيضًا يدعو البطن إلهًا (في 3: 19). ليس بسبب كرامة هذا العضو، بل بسبب بؤس المستعبدين للبطون والأكل. وهو أمر أسوأ من أي عقاب، ومن يقبل العقاب طريقًا للانتقام يسقط هو فيه. لأن حال المجرمين المدانين حال سيِّئ، الذين إذ كان الله لهم ربَّا، بسبب توافه الأمور يهجرونه إلى طغيان المادة الخطير، فيجلب عملهم عليهم منتهى الأذى – هنا في الزمان الحاضر – فيعانون من القضايا والانتهاكات والمضايقات والأتعاب، التي تعمي النفوس وتكون خسارتهم فائقة. والأخطر من ذلك كله، أن يسقط الإنسان عن البركات الغالية، وأعظمها بركة خدمة الله.
-
بعد أن علَّم السيد الرب بكل الطرق فوائد احتقار الثروات، وكيفية حفظها بشكل جيد، واكتساب صفة ضبط النفس للمسرة والمداومة على الصلاح. يتقدم لتأسيس الجانب العملي للوصية؛ إذ أنها تخص أفضل تشريع، ليس فقط فيما يتصل بما هو نافع، بل أن يجعله أيضًا ممكنًا. لهذا يقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” لئلا يقول قائل: ماذا إذن؟ هل إن أقصينا عنا كل شيء يمكننا أن نعيش؟ وللرب وقفة مع هذا الاعتراض تأتي في حينها. إذ يقول منذ البداية “لا تهتموا”- وقد يبدو الكلمة ثقيلة بعض الشيء- لكنه من المؤكد أوضح سوء التدبير الناجم عن الجشع، فجاءت نصائحه بعد أن جعل أمر استقبالها سهلاً، لهذا لم يقل “لا تهتموا” وحسب بل أضاف المسبب في أمره هذا. وبعد أن قال “لا تقدروا أن تخدموا الله والمال” أضاف “لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم”. فلماذا يطلب ذلك؟ لأن الخسارة لا توصف، والثروة لا تلحق لكم الأذى وحسب، بل إن جرمها يصيب أكثر الأجزاء حيوية، وتعطل خلاصكم إذ تطرحكم بعيدًا عن الله خالقكم والمعتني بكم والذي يحبكم. لهذا أقول: “لا تهتموا”.
وبعد كشفه لفداحة الضرر الذي لا يمكن وصفه، حينئذٍ يجعل الوصية أكثر صرامة. فهو لا يأمرنا فقط أن نطرح ما نملكه، بل يمنعنا حتى أن نهتم بالطعام بالضروري، قائلاً: “لا تهتموا لحياتكم ولنفوسكم، بما تأكلون”، ليس لأن النفس الحية لا تحتاج إلى طعام، فهي نفس غير جسدانية، بل يتكلم وفقًا للعادة الشائعة؛ فعلى الرغم من عدم احتياجها للأكل، لا يمكنها البقاء في جسد لا يتغذى بالطعام. والسيد لا يضع الأمر هكذا ببساطة، بل يناقشه بعدة طرق، بعضها وفقًا لما ذكرنا- قبلاً- وبعضها من أمثلة أخرى، مما هو لدينا بالفعل. فيقول “أليست النفس (الحياة) أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس”؟ [ع25]. فالذي يعطينا الأعظم، ألا يهبنا الأقل أيضًا؟ والذي خلق الجسد ليأكل كيف لا يمنحنا الطعام؟ لهذا لم يقل هكذا ببساطة “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” أو “بما تلبسون” بل قال “لأجسادكم ولحياتكم” على أساس أنه قصد عرض النماذج بأسلوب المقارنة. فالنفس التي أعطاها مرة وإلى الأبد في الجسد، والتي تبقى كما هي، رغم ازدياد الجسد يوميا لهذا حين يشير السيد الرب إلى هذين الشيئين، أيّ إلى خلود النفس وضعف الجسد، يربط بينهما قائلاً: “ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًًا واحدة” (مت 6: 27).
هكذا لا يذكر شيئًا عن النفس، لأنها لا تزيد في القامة، بل يتحدث عن الجسد فقط، موضحًا هذه النقطة أيضًا، أن الطعام وحده لا يزيد من حجم الجسد، بل هي عناية الله التي تفعل ذلك، وهذه يوضحها بولس الرسول بطرق أخرى قائلاً:
“إذ ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي” (1 كو 3: 7). ومما توفر لدينا هنا، نراه يحثنا بهذه الطريقة، وأيضًا بواسطة أمثلة أخرى: “انظروا إلى طيور السماء” [ع26].
ولئلا يعترض أحد، نحن نفعل حسنًا باهتماماتنا تلك. فإن السيد الرب يثنيهم بالعدول عن أفعالهم: تارة بما أعظم وتارة بما هو أدنى: فبالأعظم أيّ النفس والجسد، بالأدنى: أيّ الطيور. لأنه إن كان يهتم أولاً بالأدنى جدًا من الأشياء اهتمامًا كبيرًا. فلماذا بالأكثر لا يهتم بالأعظم- مثلما يقول- وعلى نفس المنوال يتحدث إلى الجموع الغفيرة، لكن لم يكن الأمر هكذا مع الشيطان: كيف؟ “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4: 4). لكن هنا يذكر الطيور ويريد بها أن يخجلهم، وهو أمر في غاية الأهمية كأسلوب تحذير.
-
ومع ذلك، فقد وقع بعض غير الأتقياء في حفرة جنون عميقة جدًا، فراحوا يهاجمون الأمثلة التي جاء بها السيد الرب! زاعمين أنها لا تصلح كمبدأ لتقويم الأخلاق ودعمها، إذ يستخدم- حسب مزاعمهم- مزايا طبيعته كمحفزات لهذا الغرض. ثم يضيفون قائلين: إن هذه الأمور تخص الحيوانات بالطبيعة فما ردنا على مثل هؤلاء.
حتى وإن كانت هذه الأمور تخصهم بالطبيعة، فمن المحتمل أيضًا أننا يمكن أن نكتسبها بالاختيار، لأن الرب لم يقل: “انظروا كيف تطير الطيور” وهو أمر مستحيل على الإنسان أن يفعله – وقد أثبته من أتممه في أعمالهم – لهذا يليق بنا أن نعجب باهتمام خالقنا واضع الناموس أشد الإعجاب. إذ أنه بدلاً من أن يأتي بأمثلة من بين البشر، وبينما كان ينبغي عليه أن يتحدث عن موسى وإيليا ويوحنا، وآخرين مثلهم لم يهتموا بشيء- ليؤثر في السامعين بسرعة- فإنه يذكر الكائنات غير العاقلة، لأنه لو كان قد تكلم عن أولئك الأبرار، لاستطاعوا أن يقولوا “لم نصبح مثلهم بعد”. لكن إذ يعبر عنهم في صمت- ويتحدث عن طيور السماء والهواء- فقد فوت عليهم كل حذر، مقتديًا بالناموس القديم. أجل فإن العهد القديم بالمثل يبعث بنصائحه إلى النحل والنمل” (أم 6: 6-8 س). وإلى السلحفاة والعصفور (السنونةُ) (إر 8: 7) وليس في هذا أية علامة دالة على تدني الكرامة ونحن باختيارنا نستطيع أن ننجز نفس الأمور التي تفعلها تلك الحيوانات بالطبيعة؛ فإن كان الرب يهتم بكائنات موجودة لأجلنا، فهو يهتم بالأكثر بنا. وإن كان يهتم بالعبيد، فأيضًا بالأحرار. لهذا يقول: “وانظروا إلى طيور السماء”، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنها من البديهي لا تحدث. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.
ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟ الرب لم يقل ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن الاهتمام. وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق ويربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون “أن نهتم” وداود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سري “تفتح يدك فتُشبع كل حي رضًى” (مز 145: 16). وأيضًا “المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه” (مز 147: 9).
ورُبّ قائل: مَنْ إذن لم يفكر في الأمر؟ ألم تسمعوا بعدد الأبرار الذين تحدثت عنهم: ألم تروا فيهم يعقوب وقد رحل عن بيت أبيه وقد انتابه اليأس من كل شيء، ألم تسمعوه يصلَّى قائلاً: “أعطاني الرب خبزًا لآكُل، وثيابًا لألبس” (تك 28: 20). وهذا لم يكن دور شخص مهموم بل إنسان يبحث فقط عن الله. وهذا أيضًا ما ناله الرسول الذي ألقى عنه كل شيء- ولم يكن مهموما- وأيضًا “الخمسة آلاف” و “الثلاثة آلاف” (أع 4: 4، 2: 41).
-
لكنكم إن كنتم عند سماعكم تلك الكلمات السامية، لا تحتملون أن تحرروا أنفسكم من هذه القيود الخطيرة. فاعتبروا الخسران الذي يسببه هذا الأمر. وضعوا نهاية لاهتماماتكم، إذ يقول الرب: “من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟” (مت 6: 27).
أترون كيف يعلن عن الغامض بكل ما هو واضح ومؤكد؟ إذ يقول: بالنسبة للجسد، مهما كان اهتمامك، لن تقدر أن تضيف شيئًا. ومهما كان ما تجمعه قليلاً، ومهما جمعت من طعام، لا تعتقد أنك فاعل شيئًا، واضح إذن أن الأمر لا يتعلق باجتهادنا الدؤوب، بل بعناية الله. مهما بدا علينا أننا نشطون، فلا شيء من أعمالنا بدون عناية الله يمكنه أن يؤثر. فإن تخلى الله عنا، فلا اهتمام ولا قلق ولا تعب ولا أيّ شيء آخر من جانبنا يصنع شيئًا، بل الكل يزول تمامًا.
لهذا لا نفترض أن وصاياه مستحيلة- لأن هناك كثيرين ينفذونها حسنًا، وكما هي تمامًا- وإن كنت لا تعرف عنهم شيئًا، فليس هذا بعجيب. لأن إيليا أيضًا ظن أنه كان وحيدًا. لكن قيل له: “أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل” (1مل 19: 18، رو 11: 4) ومن الظاهر الآن أن كثيرين يحيون حياة حسب الآباء الرسل مثل “الثلاثة آلاف” و “الخمسة آلاف” (أع 2: 41، 4: 5). وإن كنا لا نؤمن بهذا، فليس بسبب عدم وجود من يصنعون الصلاح، بل لأننا نحن هم الذين لا يصنعون صلاحًا. تمامًا مثلما على السكير أن يصدق أن هناك أناسًا لا يتذوقون حتى الماء (وهو ما يحدث مع العديد من المتوحدين النساك بيننا).
والذي يقيم علاقات متعددة مع أكثر من امرأة، لا يصدق أنه من السهل أن يعيش الإنسان حياة البتولية. والذي يسلب خيرات الناس، لا يمكنه أن يتخلى بسهولة عن خيراته الخاصة. والذين ينصهرون يوميًا تحت وطيس القلق الكثير يصعب عليهم قبول الأمر.
ولما كانت الحقيقة أن كثيرين بلغوا تلك الحالة، وجب علينا أن نظهر ذلك من بين أولئك، الذين مارسوا إنكار الذات حتى في جيلنا. أما بالنسبة لكم، يكفي أن تتعلموا ألا تشتهوا ما للغير، وأن الصدقة أمر طيب. وأن تعرفوا كيف تعطوا ما لديكم. لأن هذه الأمور أيها الأحباء، إن كنتم تفعلونها في حينها، فإنها تنتقل بسرعة منكم إلى الآخرين.
-
وفي الوقت الراهن- فلندع جانبًا إسرافنا المفرط ونحيا باعتدال، وأن نتعلم كيف نكتسب كل ما لدينا بالعمل الأمين- فالطوباوي يوحنا المعمدان أيضًا، حينما كان يتحدث إلى أولئك الذين كانوا يتعاملون بالجزية من الجنود، أمرهم “أن يكتفوا بأجورهم” (لو 3: 14) وإذا اشتاق أن يقودهم إلى ضبط النفس على مستوى آخر وأكبر، وإذ كانوا في حالة لا تسمح لهم بذلك، تحدث عن الأمور الأخرى الأقل. لأنه لو ذكر لهم أمورًا أعلى منها، لفشلوا في تكييف أنفسهم معها، ولسقطوا عن إكمال الأصعب. ولهذا السبب عينه، فإننا ندربكم على الواجبات الأدنى.
نعم، لأننا نعلم أن الحِمل الطوعي ثقيل عليكم جدًا- في الوقت الراهن- وليست السماء بعيدة عن الأرض، مثلما أنتم بعيدون عن إنكار الذات. فنتمسك إذن ولو بالوصايا الأقل. لأن في التمسك بها تشجيع ليس بالقليل، فإن البعض، حتى من بين الأمم قد أتموا ذلك، وإن بغير الروح اللائق، وقد تجردوا من كل ممتلكاتهم. ومع ذلك، نحن قانعون في حالتكم أن أعطيتم صدقاتكم بسخاء، سرعان ما تنجزون باقي الواجبات الأخرى أيضًا، إن كنا نتقدم في هذا الطريق.
لكن إن كنا لم نحقق شيئًا يذكر بعد، فأية نعمة نستحقها؟ نحن الذين يحثنا الرب أن نتفوق على شعب الناموس القديم. ومع ذلك نظهر أدنى من الفلاسفة بين الأمم.
ماذا نقول، إذ ونحن ملزمون أن نكون ملائكة وأبناء الله. لا نقدر حتى أن نظل على حالنا كبشر؟ لأن إفسادنا للحال واشتهاءنا ما للغير لا يصدران عن رقة البشر، بل عن غلظة الحيوانات المفترسة، بل أن مغتصبي حقوق جيرانهم لهم أسوأ حالاً من الحيوانات الضارية؛ لأن الحيوان المتوحش يفعل ذلك بدافع طبيعته. لكننا ونحن المكرمون بالعقل، إذ ننحرف عن هذه الوحشية غير الطبيعية، لا ننال مغفرة أبدية.
فلنهتم بمعايير هذا الإرشاد الموضوع أمامنا- وعلى الأقل نصل إلى حالة وسط- فننجو من العقاب الآتي، ونتقدم بانتظام لنبلغ منتهى قمم الصالحات، التي نصل إليها بنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين.
العظة الثانية والعشرون
تأملوا زنابق الحقلِ، كيف تَنموُ. لا تتعبُ ولا تغزلُ، ولكن أقُولُ لكم إنه ولا سُليمانُ في كل مجده كان يلبسُ كواحدةٍ منها” [ع28- 29]
بعد أن تحدث عن طعامنا الضروري، وبعد أن أشار إلى وجوب عدم الاهتمام حتى بهذا الأكل، ينتقل السيد إلى ما هو أسهل، لأن الملبس ليس ضروريا كالطعام، فلماذا لم يستخدم هنا نفس المثال عن الطيور؟ ولم يذكر الطاووس والإوز والغنم. لأنه من المؤكد أن هناك أمثلة عديدة يستقى منها، لأنه سيوسع من دائرة النقاش بطريقتين:
أحداهما بتفاهة الأشياء التي تشترك معًا في هذا الجمال الظاهري. ومن الأناقة التي يسبغها الله على الزنابق من حيث بهائها. لهذا السبب وبعد ذكره إياها، لا يسميها بالزنابق، بل “عشب الحقل” (مت 6: 31). بل لم يكتف بهذا الاسم، بل يوضح أيضًا مدى خستها بقوله “الذي يوجد اليوم” ولم يقل “ولا يوجد غدًا” بل ما هو أكثر رخصًا، “ويطرح غدًا في التنور” (الفرن أو الموقد). ولم يقل “يلبسه” بل “يلبسه… هكذا”. أرأيتم كيف يكثر الرب من التأكيدات والتركيز في كل مكان؟ وهو يفعل ذلك ليلمس شغاف قلوبهم، ولهذا أضاف “أفليس بالحري جدًا يلبسكم أنتم” (مت 6: 30) ويظهر التأكيد من قوة اللفظة “أنتم” موضحًا أنه ما من جنس آخر قد أضفى عليه هذه العطية العظيمة بسخاء ووهبه هذا القدر من الاهتمام.
وكأنه يقول: “أنتم الذين أعطاكم الله نفسًا، وشكَّل لكم جسدًا” الذين من أجلهم خلق كل الأشياء المنظورة، الذين من أجلهم أرسل الأنبياء ومنح الناموس، وصنع تلك الأعمال الصالحة الغير معدودة، الذين من أجلهم بذل ابنه المولود الوحيد، وبعد أن أوضح برهانه جيدًا، يبدأ السيد في توبيخهم قائلاً: “يا قليلي الإيمان”؛ إذ أن هذه هي صفة الناصح، أنه لا ينصح فقط بل يوبخ أيضًا، لكي ينبه الناس أكثر إلى القوة المقنعة لكلماته.
بموجب هذا فإن السيد المسيح لا يعلمنا فقط ألا نهتم، بل ألا ننبهر أيضًا بالمظاهر النفسية لملابس الناس، وينبههم إلى جمال العشب الظاهري، والرونق الأخاذ للعشب الأخضر، أو بالحري أن العشب وهو أكثر قيمة من تلك المظاهر فلماذا تتفاخرون بأشياء ينعم النبات بأجمل منها في مظهره الباهر.
انظروا كيف يستهل السيد المسيح درسه بالإشارة إلى سهولة الأمر، بواسطة الأضداد أيضًا وتارة بواسطة أمور كانوا يخشونها؛ لإبعادهم عن مثل هذه الهموم. حين قال “تأملوا زنابق الحقل” ثم أضاف “لا تتعب” ورغبة منه أن يحررنا حتى من التعب. فالتعب في الحقيقة لا يكمن في عدم التفكير بل في الاهتمام بهذه الأشياء.
ومثلما يقول “لا تزرع” ليس بغرض التخلص من الزرع، بل التخلص من الاهتمام القلق. وكما في قوله “لا تتعب ولا تغزل” لا يضع حدًا للعمل بل ينهي عن الاهتمام.
لقد فاق جمال زنابق سليمان لا مرة ولا مرتين، بل طوال مدة حكمه لأنه ما من أحد يقدر أن يقول: أنه قد لبس كواحدة منها ذات مرة، ثم صار بعدها بدونه. ولا حدث أن الرب قد أظهره هكذا في جمال فائق ذات مرة، لأنه يقول عنه “في كل مجده أو في كل حكمه”، هكذا فاقت الزنبقة كل جمال سليمان بل ونافسته. لهذا قال عنها “كواحدة منها”. لأن هذا هو الفارق بين الحق والباطل، ولهذا كان الفارق شاسعًا بين تلك الملابس وهذه الزهور.
فإن كان سليمان قد أقر بأنه أدنى رتبة، مع أنه كان أكثر مجدًا من كل ملوك الأرض أبد الدهر. فكيف يتسنى لكم التفوق أو بالحري الاقتراب ولو بقدر ضئيل من كمال الشكل في هذه الزخارف؟
بعد هذا يعلمنا السيد ألا نسعى أبدًا إلى زخرفة مثل هذه على الإطلاق. انظروا على الأقل غايته من هذا الإرشاد: أن تنظر إلى النهاية. فإن هذه الزهور الباهرة الجمال “تُطرح في التنور(الفرن)” فإن كان الله قد أظهر عناية فائقة جدًا بأشياء وضيعة عديمة النفع والقيمة، فكيف لا يهتم بكم أنتم أكثر من كل المخلوقات الأخرى؟. وما السبب أنه يخلقها بهذا الجمال؟ أليس ليُظهر مدى حكمته وامتياز قدرته، لنتعلم ونعرف مجده في كل شيء. أو ليست السماوات “تحدث بمجد الله” (مز 19: 1) والأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود المرنم حين قال “سبح الرب أيها الشجر المثمر وكل الأرز” (مز 148: 9). لأن البعض بثمارها، والبعض الآخر بعظمتها والبعض بجمالها، يرسلون التسبيح إلى الذي صنعهم. وتلك أيضًا علامة على الامتياز الفائق للحكمة، انه حتى مع الأشياء التافهة جدًا (وهل هناك ما هو أتفه من شيء يوجد اليوم ويزول غدًا؟) فإن الله يسكب جمالاً باهرًا كهذا. فإن كان قد أعطى العشب ما لا يحتاجه (لأنه ما فائدة الجمال في إشعال النيران؟) كيف لا يعطيكم أنتم ما تحتاجونه؟ إن كان أكثر الأشياء تفاهة قد أضفى الله عليه هذا الرونق الرائع. ولم يفعل ذلك لاحتياج تلك الأشياء لهذا الرونق، بل لسخائه. فكيف بالحري يكرمكم وأنتم أكرم المخلوقات في أموركم الضرورية؟
-
وكما ترون، وبعد أن اظهر السيد الرب عظمة العناية الإلهية، تجاه الخليقة كلها، ووبخهم في الأمور التي تلي هذا التعليم، فإنه كان فعلاً فلم يلق على عاتقهم ومسئوليتهم انعدام الإيمان بل قلته قائلاً: “إن كان الله هكذا قد ألبس عشب الحقل، فكم بالحري أنتم يا قليلي الإيمان” (مت 6: 30).
ويقينًا فإن الرب يفعل كل هذه الأمور حقًا. “لأن به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). ولكنه لا يذكر شيئًا عن نفسه في أيّ موضع، إذ يكفي في الوقت الراهن أن يدلك على قدرته الكاملة، إذ قال في كل وصية “سمعتم أنه قيل للقدماء”. وأما أنا فأقول لكم فلا تتعجبوا إذن أنه في ظروف لاحقة أيضًا كان يحجب نفسه، أو يتحدث عن ذاته بتواضع. إذ أن له في الوقت الحالي غرض واحد فقط، أن تحقق كلمته هدفها وتثبت فيهم ليستقبلوها بسهولة. ويبرهن في كل أوان انه لم يكن أبدًا مضادًا لله الآب بل له نفس فكره الواحد. وهو ما يفعله هنا أيضًا. لأنه وبالرغم من كلمات كثيرة فاه بها، لم يكف عن أن يضع أمامنا ما يجعلنا نعجب بحكمته وعنايته الإلهية، واهتمامه الرقيق اللطيف والدائم بكل شيء- الكبير منها والصغير- فحين كان يعلِّم عن أورشِليم دعاها “مدينة الملك العظيم” (مت 5: 35). وحين ذكر السماوات، أطلق عليها أيضًا اسم “عرش الله” (مت 5: 34). وحين كان يتحدث عن تدبيره للعالم، ونسب إلى الآب كل شيء أيضًا قائلاً “إنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار”. وعلَّمنا في الصلاة أن نقول “للآب المُلك والقوة والمجد”. وفي حديثه هنا عن العناية الإلهية، وكيف أن الآب في أدنى الأشياء وأتفهها هو أعظم الفنانين قاطبة إذ “يُلبس عشب الحقل ويكسوه” ولا يدعو السيد الرب هنا أباه هو، بل أباهم، لكي يوبخهم على ذات الكرامة نفسها، حتى إذا ما دعاه هو أباه، لا يعودون مُستائين منه بعد.
فإن كان الإنسان لا يهتم حتى بالضروريات، فأي صفح نستحقه ونحن نُفتكر في أشياء باهظة الثمن أو بالحري، أولئك الذين لا ينامون ليلتهم حتى يغتصبوا حاجات الآخرين؟
-
“فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا تلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم” (مت 6: 32). أترون كيف يُخجلهم من جديد، ويُظهر أنه لم يأمرهم بشيء مرهق أو ثقيل، لذلك عندما قال “إن أحببتهم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم، أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك؟ أو ليس الأمم يفعلون ذلك” وهو يحثهم هنا على شيء أعظم، وهكذا يدفعهم للأمام ويوبخهم مشيرًا أن ما يطلبه منا هو دَيْن ضروري. لأننا إن كان من المحتم علينا أن نسلك أفضل من الكتبة والفريسيين. فما الذي نستحقه؟ إن كنا لا نتجاوز هذا القدر، بل نقبع على حال الأمم المتردية، ونحاكي صغر نفوسهم؟
ولم يقف الرب عند حد التوبيخ، بل إثارة الهمم بهذا الأسلوب. وهو يُخجلهم بقوة التعبير لأنه في موضع آخر يعود فيعزيهم قائلاً: “أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” ولم يقل “الله يعلم” بل “أبوكم السماوي يعلم” ليقودهم إلى الرجاء الأعظم فيه، لأنه إن آبا ولا آب آخر سواه، فإنه لن يتوانى عن أولاده أبدًا، في شدة الشرور، مُظهرًا أن الناس وهم آباء لا يحتملون أن يفعلون بأبنائهم هذا. ويضيف بُعدًا آخر للنقاش هنا؛ أنهم يحتاجون إلى هذه كلها. فهذه الأشياء ليست من النوافل التي لا لزوم لها، حتى أنه لا يهتم بها. فمع إنه في الأشياء قليلة الشأن يهتم جدًا، كما في حال العشب. فإنه في هذه الأشياء التي تبدو ضرورية، وموضع اهتمامكم، هي بالأمر الكافي أن يبعدكم عن هذا الاهتمام. فإن كنتم تقولون يجب علينا التفكير والاهتمام بهذه الأشياء الضرورية. أقول: على العكس- كلا. لأنه بسبب أنها ضرورية لا تهتموا- لأنه لو كانت تافهة لا لزوم لها، ما وجب علينا حتى أن نيأس، بل أن نشعر بالثقة لنوالها. ولكن إذ نتحدث عن أشياء ضرورية، فلا يجب بعد أن نشك في أمر الحصول عليها، لأنه ما من أب يفشل في إعطاء أولاده ما يحتاجون من ضروريات. ومن المؤكد أن الله يعطيهم أيضًا احتياجاتهم: لأنه خالق طبيعتنا، والذي يعرف تمامًا احتياجاتنا. لهذا لا يمكنكم القول: “هو في الحقيقة أبونا، والأشياء التي نطلبها ضرورية، لكنه لا يعرف أننا نحتاج إليها!” لأن الذي يعرف طبيعتنا ذاتها لأنه جابلها- وقد خلقها على ما هي عليه- بالتأكيد يعرف احتياجاتها أيضًا أفضل منكم أنتم المحتاجون إلى ما يلزمها. إذ أصبحت طبيعتنا بموجب قانونه هو في مثل هذا الاحتياج، لهذا لا يناقض نفسه فيما أراده، فيعرضها للضرورة والاحتياج. فلا يحرمها من حاجاتها الضرورية والملحة. لهذا، دعنا لا نهتم، لأننا لن ننال شيئًا من جراء هذا الاهتمام. بل نعذب أنفسنا، لأنه يعطينا، سواء كنا نهتم أو لا نهتم، والأكثر حين لا نهتم. فما الذي نربحه من قلقنا غير عقوبة لا لزوم لها، لأن المرء حين يذهب إلى حفل بهيج زافر بالأطايب، لا يهتم ولا ينشغل بالطعام. والذي يسير نحو نبع ماء لا يقلق من جهة الشرب. لهذا إذ نرى أن لنا وفرة أكثر سخاءً من أيّ شبع أو من أيّ ولائم بغير حصر، مجهزة قبلاً، وهي العناية الإلهية. فلماذا نصير متسولين ضيقي الأفق؟.
-
لأنه مع ما قاله الرب قبلاً. يضع لنا سببًا آخر للشعور بالثقة حيال هذه الأمور قائلاً: “اطلبوا أولاً ملكُوت الله وبره، وهذه كُلها تُزادُ لكُم” (مت 6: 33). هكذا وحين حرر النفس من الاهتمام والقلق، ذكر السماء، لأنه في الحقيقة قد جاء ليخلصنا من الأمور العتيقة، وليدعونا إلى وطن أعظم. لهذا فإنه يفعل كل شيء ليحررنا من الأمور غير الضرورية، ومن عاطفتنا تجاه الأرض، لهذا السبب يذكر الأمم أيضًا قائلاً: “إن الأمم تطلب هذه الأشياء” فهم الذين يتركز كل عملهم في الزمان الحاضر، والذين لا يهتمون بالأمور الآتية (العتيدة). ولا بأي فكر سماوي. أما بالنسبة لكم، فهذه الأشياء ليست أساسية، بل هناك أمور أخرى أهم. لأننا لم نولد لهذه الغاية، أن نأكل ونشرب ونلبس، ولكن لنرضي الله، وننعم بالصالحات العتيدة. ولما كانت الأمور الأرضية هنا ثانوية في عملنا، فلتكن أيضًا ثانوية في صلواتنا. لهذا قال أيضًا: “اطلبوا أولاً ملكوت الله، وهذه كلها تُزاد لكم”، ولم يقل “تُعطى لكم” بل “تُزاد لكم” ليعلموا أن أشياء الزمان الحاضر ليست من بين العطايا الإلهية العظيمة، إذا ما قورنت بالأشياء العتيدة. ولهذا لم يأمرنا كثيرًا أن نطلبها، بل وبينما نطلب أشياء أخرى لنثق، وكأن هذه أيضًا قد زيدت على تلك.
اطلبوا إذن الأشياء الآتية (العتيدة) وستنالون الحاضرة أيضًا، لا تطلبوا الأشياء المنظورة لأنكم حتما ستنالونها، بل لا يجدر بكم أن تقتربوا إلى ربكم بمثل هذه الأشياء، وأنتم الذين يجب عليكم أن تصنعوا غيرتكم كلها واهتماماتكم لأجل البركات التي لا يُنطق بها، فأنتم تخزون أنفسكم جدًا باستهلاكها في أشياء وقتية.
ورُبّ قائل “كيف يكون هذا، ألم يأمرنا أن نطلب الخبز؟” بلى، لكنه أضاف “اليومي” أو “خبز هذا اليوم” أو (خبز الكفاف) وهو نفس ما يفعله هنا. فهو لا يقول “لا تهتموا” بل “لا تهتموا بالغد” مقدمًا، لنا الحرية في نفس الوقت الذي يربط فيه نفوسنا بأشياء أكثر ضرورية لنا، لأنه لهذه الغاية يأمرنا أن لا نطلب وكأن الله يحتاج أن نذكره بها، بل لكي نتعلم أننا نحقق ما نحققه بمعونته هو. وحتى نصبح بالأكثر خاصته بصلاتنا الدائمة لأجل هذه الأمور. لأن الذي يمنح الأعظم، يمنح بالحري الأصغر بدرجة أكبر. إذ يقول الرب: “إني لا أقول لكم لا تهتموا بهذه الفرص ولا أن تطلبوا، حتى تعانوا من الضيق، وتتجولوا هكذا عرايا، بل لكي تتوفر لكم هذه الحاجات بوفرة أعظم” وهو أمر كما ترون يناسب قبل كل شيء أمر انجذابهم إليه.
ومثلما يحدث مع الصدقة. حين كان يمنعهم أن يتباهوا أمام الناس، يأمرهم هنا أساسًا، ويعدهم بأن يعطيهم حاجاتهم بحرية أوفر، إذ يقول “لأن أباكم الذي يرى في الخفاء هو يجازيكم علانية” (مت 6: 4). هكذا هنا أيضًا إذ يبعدهم عن طلب هذه الأشياء، يعدهم أن يعطيهم حتى لو لم يطلبوا، وبفيض أوفر. لهذا يقول إنه لهذه الغاية يأمركم ألا تطلبوا وألا تأخذوا بأسلوبكم أنتم. فأنتم حين تقلقون حيال العطايا تجعلون أنفسكم غير مستحقين لها ولا للأمور الأخرى الروحية، فيكون قلقكم بلا مبرر وتحرمون أنفسكم من المتاح أمامكم.
-
“فلا تهتموا للغد، يكفي اليوم شره” أيّ يكفي الضيق والألم (مت 5: 34).
ألا يكفيكم هذا، أن تأكلوا خبزكم بعرق الجبين؟ فلماذا تضيفون مزيدًا من الضيق بسبب القلق. وأنتم على وشك الخلاص من متاعب سابقة؟
والرب يعني هنا بكلمة “شر” لا الشر بمعناه الحرفي، حاشا، بل الضيق والألم- وهما شر- والمتاعب والقلاقل، وكما يفعل في موضوع آخر، “هل هناك شر في المدينة، والرب لم يفعله؟” (عا 3: 6). وهو لا يعني أبدًا السلب والنهب والضرر- ولا أيّ شيء من كل هذا- بل الضربات التي يسمح بها الله من فوق. ويقول أيضًا “أنا صانع سلام وخالق الشر” (إش 14: 7) وهو هنا لا يعني الشرور حرفيًا- ولكن المجاعات والضربات وهي أمور يحسبها الناس شرًا- وللتعميم نطلق نحن عليها كلها شرورًا.فمثلاً كهنة وأنبياء هذه الضربات الخمس حين وضعوا النير على رقاب الأبقار، ودعوها تمضى بدون العجول (1 صم 6: 9) أطلقوا كلمة شر على الضربات المرسلة من السماء، وعلى ما نجم عنها من عذاب وفزع. هذا إذن هو ما يعنيه هنا أيضًا، حين يقول “يكفي اليوم شره”. لأنه ما من شيء يؤلم النفس مثل الاهتمام والقلق. ولهذا قال بولس الرسول حين كان يحث على البتولية وأشار عليهم بالنصح: “أريدكم أن تكونوا بلا همٍ” (1 كو 7: 32).
لكن حين يقول الرب “الغد يهتم بنفسه” لا يقولها وكأن اليوم يهتم بهذه الأمور، بل على اعتبار أنه يتحدث إلى أناس غير كاملين يريدون أن يجعلوا قوله أكثر تعبيرا. لهذا يجعل من الزمن شخصًا للتعميم، وهو هنا ينصح بحق وحين يتقدم في حديثه ويشرع كلامه ليصبح قانونًا يقول: “لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا مزودَا للطريق” (مت 10: 9-10) مظهرًا كل الحق في أعماله، وبعد أن يقدم لهم الوصية الفعلية بشكل أكثر تحديدًا، تصبح الوصية أيضًا أكثر سهولة في قبولها وقد وثقها بأعماله الذاتية كما ثم في سابقاها، فأين إذن كان قد وثق هذه الأقوال بأعماله؟
اسمعوه يقول: “ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه” (مت 8: 20) ولا يكتفي بهذا بل يظهر في تلاميذه أيضًا الدليل الكامل على هذه الأمور، إذ يشكلهم مثلما هو أيضًا- وعلى نفس النمط- ولا يجعلهم معوزين شيئًا. لكن لاحظوا اهتمامه الرقيق، وكيف تفوق عواطفه عواطف أيّ أب إذ يقول: أوصيكم بهذا، لا لشيء آخر سوى لكي أحرركم من أية اهتمامات زائدة. لأنه إن فكرتم اليوم في الغد، عليكم أيضًا أن تفكروا مرة أخرى في الغد، فلماذا تهتمون بما انتهى ومضى؟ ولماذا تقبلون ضيقًا أكثر في اليوم الواحد؟ وحين لا تتوفر لكم إنارة الآخرين تتراكم عليكم المتاعب الزائدة بسبب الجشع- والمسيح هنا يجعل الزمن حيًا ويصفه كشيء مصاب- ويعجب لعدم اكتراثهم قائلاً لهم: لماذا قبلتم اليوم لتهتموا بما فيه من أمور، ولأي سبب تضيفون إليه أمور يوم آخر ألا تكفي متاعب اليوم؟.
وأتوسل إليكم الآن. لماذا تجعلون اليوم أثقل وأصعب. حين يقول واضع الناموس هذه الأمور الآن وهو دياننا، فكروا في الرجاء الموضوع أمامنا- وهو رجاء طيب- والرب يشهد بنفسه أن هذه الحياة بائسة ومرهقة. حتى إن اهتماما بيوم واحد يمكن أن يلحق بنا الأذى والضيق.
-
ومع ذلك، فإنه بعد عدة كلمات شديدة، لا نزال نهتم بهذه الأمور، ولم نعد نهتم بأمور السماء، بل عكسنا ترتيب الله، فنقاوم أقواله في كل مرة. لاحظوا كيف يقول: “لا تهتموا بالأمور الحاضرة”- ولكننا نهتم بها إلى الأبد- وحين يقول “اهتموا بالسماويات” لا نطلبها نحن ولو لساعة واحدة، بل لشدة اهتمامنا بأمور العالم نهمل الأمور الروحية، وهي الأعظم بما لا يقاس. لكن هذا الانتعاش لا يدوم أبدًا إلى الأبد. ولا يمكنه أن يدوم أبدًا. فماذا لو احتقرنا كلامه لعشرة أيام؟ أو عشرين يوما؟ أو مئة؟ ألا نقع في غير الضروري وقوعًا بالغًا، فنسقط بين يدي الديَّان؟ لكن للتأجيل عزاؤه. فأيّ نوع من العزاء والراحة. هل ننتظر العقاب والانتقام يوميًا.
فإن كان لكم بعض العزاء بسبب التأجيل، فاستثمروه في تجميع ثمار تغييركم بالتوبة. طالما أن مجرد التأجيل للانتقام قد يبدو لكم نوعًا من الإنعاش! – فإن تجنُب الانتقام هو المكسب – إذن فلنوظف هذا التأجيل أعظم توظيف، ليكون خلاصنا كاملاً من المخاطر المحدقة بنا، فلا شيء مما يحيط بنا يبدو ثقيلاً أو خطيرًا – فكلها أمور سهلة وهينة جدًا – إن كان هدف القلب أصيلاً. عندئذٍ يمكن لنا أن نحقق كل شيء حتى إن كنا مثقلِّين بعيوب عدة. لأنه هكذا فعل منسى الكثير من الآثام فألقى الأيادي على القديسين ودنس الهيكل، وملأ المدينة قتلاً وارتكب حماقات تفوق الوصف. ورغم شره المستطير، غسل عن نفسه كل هذه الخطايا (2 أي 33: 1-20 مع 2 مل 21: 1-18) كيف؟ بالتوبة والاهتمام بالتغيير. فما من خطية- اجل أقول ما من خطية- لا تخضع لقوة التوبة وتأثيرها. أو بالحري لنعمة المسيح. لأننا إن أردنا التغيير فعلاً، علينا أن نستعين بالسيد المسيح. وإن رغبتم في الصلاح، فلا شيء يعوقكم، ولا أحد يمنعكم، حتى الشيطان ليس لديه قوة عليكم. طالما اخترتم الأفضل، واجتذبتم الله لعونكم. لكن إن لم تريدوا ذلك بأنفسكم، بل تحاشيتم الأمر، فكيف يحميكم؟ لأنه ليس عن ضرورة ولا عن إجبار، بل بمحض إرادتكم الذاتية يريد أن يخلصكم.
لأنه إن كان عندكم خادم يمتلئ قلبه بالكراهية والحقد نحوكم؛ يخالفكم على الدوام، يهرب منكم، فإنكم لا ترغبون بعد في الاحتفاظ به، رغم احتياجكم لخدماته. أفلا يفعل الله ذلك؟ وهو الذي يفعل كل شيء، لا لصالحه هو، بل لخلاصكم. أيختار أن يحجزكم بالإجبار؟ فإن أظهرتم من جهة أخرى نية صادقة، لا يتوقف الله أبدًا منعكم. مهما حاول الشيطان مقاومتكم والوقوف ضدكم.
إذن نحن الملامون إن دمرنا أنفسنا؛ لأننا لم نقترب إليه ولم نسع ولم نتوسل إليه كما ينبغي. لكن رغم أننا نقترب، فإننا لا نفعل ذلك كأشخاص يحتاجون إلى القبول وليس بإيمان صحيح، وليس كمن يحتاج فيطلب، بل نفعل ذلك كله بتكاسل وفتور همة.
-
ويريدنا الله أن نطلب منه احتياجاتنا. ولهذا يعتبر نفسه في علاقة عظيمة معكم؛ لأنه وحده من بين كل الدائنين يعتبر الدين نعمة ويعطينا ما لم نقرضه له. وإن ألح أحد على الطلب، يعطيه حتى ما لم يأخذ منه. لكن إن كان الطلب في بلادة وفتور، فإنه هو أيضًا يظل يؤجل الاستجابة مرة تلو الأخرى، لا بسبب عدم مشيئة في العطاء، بل لمسرته يريدنا أن نكرر الطلب عليه. ولهذا يخبركم بمثال الصديق الذي جاء ليلاً وطلب رغيف خبز (لو 11: 5-8) والقاضي الذي لم يكن يخشى الله ولا يضع اعتبارًا للناس (لو 18: 1-8) ولم يقل الرب ذلك على سبيل المثال، بل فعل ذلك عمليًا، حينما صرف المرأة الكنعانية بعد أن ملأها بنعمته العظيمة (مت 15: 21-28، مز 7: 24-30) فبواسطتها أظهر لنا انه يعطي من يسأله في جدية، حتى الأشياء التي لا تخصهم. إذ قال لها قبلاً “لا يليق أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب” لكنه أعطاها كل ما أعطاها، لأنها طلبت منه بإلحاح.
لكنه أظهر بواسطة اليهود غير المبالين، أنه لا يعطيهم حتى ما يخصهم، ولذلك لم يأخذوا منه شيئًا، بل فقدوا كل مالهم. وبينما لا يسألونه شيئًا، لا يأخذون حتى ما يخصهم أيضًا، أما الكنعانية فلأنها ألحت عليه في جدية، صارت لها قوة الحصول على ما يخص الآخرين. فنال الكلب ما للبنين.
يا لها من فرصة عظيمة طيبة، لأنه حتى لو كنت كلبا، لكنك تداوم على الطلبة، فستنال وتفضل على الابن إن كان مهملاً، لأن ما لا تحققه مشاعر المحبة والود، يحققه الإلحاح، فلا تقل أبدًا “الله عدوى، ولن يسمعني” فإنه يجيب طلبتك على الفور، إن داومت على إزعاجه!
إن لم يكن بسبب أنك صديقه، فعلى الأرجح بسبب إلحاحك، ولا يمكن أن يعوق ذلك أية عداوة ولا وقت غير مناسب للطلبة ولا أيّ شيء آخر. فلا تقل: “لست مستحقًا، ولن أصلي” لأن المرأة الكنعانية كانت كذلك، فهي لم تقل: “لقد أخطأت كثيرًا، ولست قادرة على التوسل إلى من أغضبته”. لأن الله لا ينظر إلى الاستحقاق بل إلى ميل القلب.
لأنه إن كان القاضي الذي لا يخشى الله ولا يخجل من الناس، قد غلبته أرملة، فكم بالأحرى الصالح. وكيف لا نكسب مراحمه بإلحاحنا في التوسل. حتى إن لم تكن صديقًا، وحتى إن لم تطلب في حين حسن، وحتى إن أزعجت طبيعة الآب! وكنت بعيدًا عن الأنظار طويلاً، وبلا كرامة وأخر الكل. حتى وإن اقتربت منه في غضبه وإن كنت لا ترضيه أبدًا، لكن إن أردت فقط أن تصلى وأن ترجع إليه، فإنك ستنال كل شيء وسرعان ما تطفئ الغضب الهادر والدينونة.
ورُبّ قائل: لكن أنظر، هأنذا أصلي، ولكن بلا نتيجة! فلماذا لا يصلي مثل هؤلاء؛ أعنى المرأة الكنعانية والصديق الذي جاء متأخرا ليلاً، والأرملة التي ظلت تلح باستمرار حتى ضايقت القاضي، والابن الذي أنفق كل خيرات أبيه؟
لأنه إن كنت تصلي كهؤلاء، فستنال بسرعة كل ما تريد. فبالرغم مما فعلته به، هو لا يزال آبًا، وحتى إن أغضبناه، فهو لا يزال يحب أولاده، وهو يطلب شيئًا واحدًا فقط: ألا ننتقم من أعدائنا، أن يراكم تتوبون وتتوسلون إليه. فإن كنا جادين بهذا المقدار، لتحركت أحشاء محبته نحونا، لكن هذه النار تنتظر إشارة البدء فقط، فإن وفرتم لها ولو شعلة لهب صغيرة، لأوقدتم نارًا كاملة من الإنسان. لأن الله لا يثور غضبًا حتى إن أهانه أحدنا. ولكنه يغضب لأن الإهانة صادرة منك شخصيًا. لأننا ونحن أشرار، إذا أغضبنا أولادنا، نحزن بسببهم، فكم بالأحرى الله، الذي إذا ما ألحقتم به إهانة، يغضب لأجلكم لأنكم ارتكبتم خطأ، فإن كنا نحن البشر نحب بطبيعتنا، فكم بالأكثر هو الذي تفوق محبته محبتنا وكل طبيعة أخرى. ألا يقول الرب: “إن نسيت الأم رضيعها، فأنا لا أنساكم” (إش 49: 15).
-
فلنقترب إذن منه، ونقول: “نعم يا سيد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها” (مت 15: 27). فلنقترب إليه في وقت مناسب ووقت غير مناسب- وفي الحقيقة فالإنسان لا يقترب إليه في وقت غير مناسب أبدًا- لأنه من غير المناسب أن نكف عن التوسل والتضرع إليه باستمرار، والاقتراب منه على الدوام. لأن الذي يريد أن يعطي دائمًا يناسبه أن نطلب ونقترب منه دومًا. ومثلما لا يكون التنفس بالأمر غير المناسب، هكذا لا تكون الصلاة بالأمر غير المناسب، بل إن عدم الصلاة هو الأمر الذي لا يناسبنا. لأنه مثلما نحتاج إلى كل نفس في صدورنا، هكذا نحتاج أيضًا إلى المعرفة التي تأتينا من عند الله – فإن أردنا – يسهل علينا أن نجتذب الله إلينا. والنبي يوضح ذلك ويشير إلى استعداد الله الدائم لفعل الخير والإحسان بقوله: “سنجد الرب مستعدًا كالفجر” (هو 6: 3 LXX ).
لأنه كلما اقتربنا إليه، نراه ينتظر تحركاتنا نحوه، وإن أخفقنا في الاقتراب من نبع صلاحه الدائم التدفق، فلا نلومَّن إلا أنفسنا. وتلك كانت شكواه من بعض اليهود حين قال: “رحمتي كسحاب الصبح، وكالندى الباكر سرعان ما يمضي” (هو 6: 4س). وهو يعني: لقد فعلت في الحقيقة كل شيء وكل ما في وسعي، وكشمس حارة تبزغ لكي تشتت السحاب والندى، وتجعلهما يتلاشيان، هكذا أنتم بشروركم العظيمة قد حجبتم الخير الذي لا ينطق به.
وتلك أيضًا حالة من العناية الإلهية، أنه وهو يرانا غير مستحقين, لنوال الخير يمنع إحساناته عنا، حتى لا يجعلنا كسالى لا مبالين. لكن ما إن نتغير قليلاً أو ندرك فعلاً أننا أخطأنا، فإنه يفجر فينا ينابيع صلاحه وخيره ويغمرنا بسخاء يفوق المحيط. وكلما أخذتم أكثر، كلما سُر قلبه بالأكثر. وبهذه الطريقة تتحرك أحشاء محبته ليهبنا بوفرة أكثر وأكثر، لأنه يحسب أن هذه هي خيراته الخاصة حتى نخلص.
وحتى يعطي الذين يسألونه بغنى؛ وهذا ما أعلنه الرسول بولس بقوله إن الرب: “غنى، لكل ولجميع الذين يدعون باسمه” (رو 10: 12). لأننا حين لا نصلي يغضب، ويبتعد عنا. ولهذا السبب “افتقر وهو غني لكي تستغنوا” (2 كو 8: 9) ولهذا السبب احتمل كل هذه الآلام القاسية لكي يحثنا على الطلبة.
فلا ندع اليأس يتملكنا، بل إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين، متضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي- بالنعمة والمحبة التي لربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين- آمين.
الاصحاح السابع
العظة الثالثة والعشرون
-
“لا تدينوا. لكي لا تُدانوا” [مت 7: 1]
ماذا إذن؟ ألا نلوم من يرتكبون الخطيئة؟ لأن بولس أيضًا يقول نفس الشيء أو بالحري يتكلم المسيح أيضًا ببولس قائلاً: “وأما أنت، فلماذا تدين أخاك؟ أو أنت أيضًا لماذا تزدرى أخيك؟ ومن أنت الذي تدين عبد غيرك؟” (رو 14: 4، 10). وأيضًا: “إذن، لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب” (1 كو 4: 5).
فكيف يقول في موضع آخر “وبخ، انتهر، عظ” (2 تي 4: 2). و”الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع” (1 تي 5: 20). والمسيح أيضًا يقول لبطرس: “إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، وإن لم يسمع، فخذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين… وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة” (مت 18: 15-17).
فكيف يعيِّن علينا كثيرين لتوبيخنا، وليس لتوبيخنا فقط، بل لعقابنا أيضًا. وبالنسبة لمن لا يسمع لأي من هذه كلها، فإن الرب يأمره أن يكون “كوثني أو كعشار” (مت 7: 3).
وكيف أعطاهم الرب المفاتيح أيضًا؟ وطالما أنهم لا يحكمون على أحد فلن يكون لهم سلطان في أيّ موضوع، وعبثًا يكون لهم سلطان الحل والربط، وإن كان ذلك سيعم، فسيطيع الجميع على حد سواء في الكنيسة، أم في الدولة أم في البيوت. لأنه إن لم يدن السيد خادمه، والسيدة خادمتها، والأب ابنه، والأصدقاء بعضهم بعضًا، سيزداد الشر. ولماذا أقول الأصدقاء، فإننا حتى إن لم نحكم على أعدائنا، لن نقدر أبدًا أن نضع نهاية لعداوتهم، وسوف ينقلب كل شيء رأسًا على عقب. فما معنى هذا القول إذن؟
فلننتبه جيدًا: وحتى لا يحسب أيّ أحد أن أدوية الخلاص وقوانين السلام هي قوانين تشويش وفوضى: أولاً: فبواسطة ما سيلي، أشار السيد إلى أولئك الذين فهموا سمو ذلك القانون بقوله: “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها” (مت 7: 3).
ولكن إن كان الأمر يبدو غامضًا عند الكثير من غير المبالين، فإنني سأشرح الموضوع من بدايته، ففي هذا الموضع – كما يبدو لي – لم يأمرنا هكذا ببساطة أن ألا نحاكم أيّ أحد بسبب خطاياه، ولا هو يمنعنا أن نفعل ذلك، بل بالنسبة للذين تمتلئ حياتهم بأنواع أمراض كثيرة ويدرسون الناس بتفاهاتهم – واَعتقد أن المسيح يلمح إلى بعض اليهود هنا – فهم يتهمون جيرانهم بمرارة بسبب أخطاء صغيرة. لهذا يوبخهم الرب: “يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم” (مت 23: 4). وأيضًا “تُعشُرون النعنع والشبث… وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان” (مت 23: 23).
حسنًا، فإنني أظن أن هذا الأمر مفهوم في توبيخه، إذ يفحصهم أولاً بخصوص هذه الأمور، وهم الذين اتهموا تلاميذه فيما بعد. ورغم أنهم لم يكونوا مذنبين، حسبوهم قد فعلوا إثمًا؛ في عدم حفظهم السبت، والأكل بأيد غير مغسولة، والجلوس مع العشارين، فقال عنهم الرب في موضع آخر “الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (مت 23: 24) ويضع الرب هنا قانونه العام حول هذه الأمور وأيضًا بالنسبة لأهل كورنثوس (1 كو 4: 5). فإن بولس أيضًا لم يأمرهم على الإطلاق بعدم الحكم على الآخرين، بل ألا يحكموا على رؤسائهم على أسس غير مدروسة. وألا يحجموا أبدًا عن تقديم الذين يخطئون. ولم يكن يوبخ الجميع دون تمييز، بل كان موضع توبيخه التلاميذ الذين يفعلون ذلك بمعلمهم والمذنبون بخطايا بغير حصر، ويرددون تقريرًا شريرًا عن غير المذنبين. هذا ما كان المسيح يقصده هنا، بتوبيخه لا لمجرد التوبيخ، والذي أحاطه أيضًا بفزع رهيب، وبالعقوبة التي لا يمكن للصلاة أن تخلصهم منها.
-
إذ يقول الرب: “لأنكم بالدينونة التي بها تدينون، تُدانون” [ع2] وكأن المسيح يقول ما معناه، إنك لا تدين الآخر بل تدين نفسك، وتجعل كرسي الدينونة أمرًا مخيفًا لك وتجعل حسابك صارمًا. تمامًا مثلما يتم غُفران الخطايا حين نبدأ نحن في غفران خطايا الآخرين. هكذا في الدينونة أيضًا؛ أننا نضع معايير دينونتنا بأنفسنا. فلا يليق بنا أن ندهس الناس وندوس عليهم بل نوبخ ولا نلعن، بل ننصح دون أن نقهر في تعالي، ونعامل الآخرين بلطف لأنكم لا تُسلمون إلا أنفسكم إلى انتقام شديد، إذ أنكم لا تخلصون الآخر حين تحكمون على آثامه، وهاتان وصفتان سهلتان، تمنح الطائعين بركات جزيلة، مثلما هو الحال مع الشرور من جهة أخرى لدي غير المكترثين. لأن كل من يغفر لجاره، يحرر نفسه أولاً من أصول الشكوى ودون أية مشقة، ومن يتعامل مع آثام الآخرين برفق ودون تباطؤ يكون غفرانه عظيمًا. وما يحكم به يُحكم به عليه. ورُبّ قائل: وماذا بعد؟ هل إن ارتكب أحد الزنا لا نخبره أن الزنا أمر رديء، وهل لا نقومه وهو يمارس خطية مشينة كهذه؟ بلى، نقومه ولكن ليس كخصم ولا كمعاند لكم يستحق العقوبة. بل تعاملونه كطبيب كمريض وتعطونه الدواء اللازم. لأن السيد المسيح لم يقل “لا تمنع من يخطئ”، بل “لا تدينه” أيّ لا تحكم عليه حكمًا مرًا. وكما ذكرت قبلاً، ليس عن الأمور العظيمة ولا الممنوعة يقول ذلك، بل عن الأمور التي لا تحسب من بين الآثام. مثلما قال “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك” [ع3].
أجل. لأن كثيرين الآن يفعلون ذلك، إذا رأوا راهبًا يرتدي ملابس لا لزوم لها، يطبقون عليه قانون الرب (مت 10: 10) “لا تقتنوا… لا مزودًا للطريق ولا ثوبين… “. بينما يتباهون هم أنفسهم بمظهرهم بغير حدود، وتعيرون الناس كل يوم. وإن رأوه ولو مرة واحدة يشارك في الطعام بنفس مفتوحة، يتهمونه بمرارة. بينما هم أنفسهم يشربون بشراهة ويتناولون الطعام بنهم شديد. غير عالمين أنهم بالإضافة إلى خطاياهم، يجمعون على أنفسهم شررًا مستطيرًا، ويحرمون أنفسهم من كل فرصة للتوسل. لأنه عند هذه المرحلة، لابد أن يسألكم بحزم عن أفعالكم الخاصة، فقد نفذتم أنتم القانون أولاً بأنفسكم، وتحكمون على جاركم فلا تتألموا إذا ما حكم عليكم أنتم أيضًا بذات الحكم.
“يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك” [ع5].
وهنا تظهر مشيئته في إظهار الغضب الكبير ضدهم، فهم يفعلون الشيء ذاته، وحين يكشف لهم عن جسامة الخطية وبشاعة العقاب وشدة الغضب الموفرة لهم، يبدأ بتوبيخهم إذ قال لمن كان يتاجر بالمئة دينار وهو غاضب: “أيها العبد الشرير، كل ذلك الدين تركته لك” (مت 18: 32). ويقول هنا أيضًا “أيها المرائي” لأن المرائي لا يحكم على الآخرين بغرض حمايتهم بل بسبب إرادة شريرة عنده، وبينما يضع قناعًا من الخير على وجهه، يمارس أبشع الشرور ويصدر توبيخات بغير أساس، واتهامات تسبب انشقاقه على جيرانه، متشحًا بوشاح المعلم، وهو لا يستحق حتى أن يكون تلميذًا – لهذا يدعوه الرب بالمرائي – لأنكم تبدون حرارة واضحة في انتقاد أفعال الآخرين، حتى أنكم ترصدون لهم كل شيء، فكيف تسامحون أنفسكم؟ حتى أنكم تتغاضون عن أفظع الأمور: “اَخرج أولاً القذى من عينك”
هل ترون أن الرب لا يمنع الحكم على الآخرين، بل يأمرنا أن نخرج أولاً الخشبة التي في عيوننا ثم نحكم على أفعال الآخرين، إن كانت خطأ أم صواب. لأن كل إنسان في الحقيقة يعرف أمور حياته أفضل من معرفته لأمور الآخرين، فيرى أموره الأكبر أكثر من الأقل، ويحب نفسه أكثر من جاره. لهذا إن كنتم تحكمون على الآخرين بدافع الوصاية والعناية، فإني أنصحكم أن تهتموا بأنفسكم أولاً. فإن الخطايا عندكم تكون أكثر وضوحًا وضخامة. لكنكم إن أهملتم نفوسكم لأصبح من المؤكد أنكم لا تنصحون أخوتكم على سبيل الرعاية بل بدافع الكراهية – والرغبة في التشهير بهم – لأنه ماذا لو كان من الواجب محاكمته، فكان من الأوجب أن يتم هذا بواسطة إنسان لا يرتكب هو هذه الحماقات، وليس بواسطتكم. ولأن السيد الرب قد أدخل تعاليم عظيمة وسامية عن إنكار الذات، ومثلاً يقول أحد إن من السهل ممارسة ذلك بالكلام، فإنه ورغبة منه أن يظهر ثقته الكاملة. وأنه لم يكن مثقلاً أبدًا بأيّ من الأمور المذكورة، بل أكمل كل برّ في حين حسن، قال هذا المثال، وأنه سيدين المسكونة كلها بالعدل فيما بعد، لهذا يقول “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون” (مت 23: 1) فالرب لم تكن في عينه قذى ليخرجها، ولا كانت في عينه خشبة، بل ولأنه طاهر في كل شيء، يقوَّم أخطاء الجميع ويضبطها. لهذا يقول لنا لا يليق أن ندين الآخرين أبدًا (حين يكون المرء مثقلاً بنفس الخطايا).
ولماذا تتعجبون من تأسيسه هذا القانون، واللص نفسه قد عرفه وهو على الصليب. قائلاً للص الآخر: “ألا تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه” (لو 23: 40-41) معبرًا عن نفس المشاعر تجاه المسيح.
لكنكم إذ تعجزون عن خلع الخشبة من عيونكم، لا ترون ذلك، بل حتى القذى في عين الآخر هي التي ترونها فقط – وتدينون أيضًا – وتحاولون أن تخلعوه وكأن شخصًا قد أصيب بداء الاستسقاء الخطير، أو بأيّ وهن آخر يصعب شفاؤه، فتهملون حالكم وتلتفتون لإنسان أصيب ولو بورم طفيف. ومن الشر أن يغفل الإنسان عن آثامه هو، ومن الأشر بالأكثر أن يدين الآخرين، بينما الدائنون أنفسهم يحملون في عيونهم أخشابًا – فما من خشبة أثقل من الخطية – لهذا حثهم الرب بهذه الكلمات فعلى المثقلين بذنوب بلا حصر ألا يدينون الآخرين في حرارة، خاصة حين تكون خطايا الآخرين تافهة.
ولا يمنع السيد الرب لا التوبيخ ولا التقويم، بل يمنع الناس من إهمال خطاياهم الشخصية ويرصدون خطايا الآخرين؛ لأن ذلك يسبب انزلاق الناس في رذائل كبار، جالبين على أنفسهم شرور عظيمة، مضاعفة. لأن كل من يحاول التهوين، شأن خطاياه الشخصية مهما كان عظمها، ويرصد ويفتش بمرارة عن آثام الآخرين مهما كانت قلتها وتفاهتها، ينزلق إلى طريقين:
أولاً: تهاونه في خطاياه الذاتية.
ثانيًا: إقامته عداوة وخصومة مع كل الناس، متدربًا كل يوم على قساوة القلب والشعور بالآخرين.
-
وإذ يقصي كل هذه الرذائل بعيدًا، بتشريعه العظيم هذا، يضيف تهمة أخرى قائلاً: “ولا تُعطوا القُدس للكلاب، ولا تَطرحُوا دُرركم قُدَّام الخنازيرِ” (مت 7: 6).
وحتى لا يقال إن السيد الرب قد أوصى بأن “ما تسمعونه بالآذان، نادوا به على السطوح” (مت 10: 27). فإن هذه العبارة لا تناقض الآخر(الأخرى) لأن الرب أمر أن نخبر من يجب علينا إخبارهم، وأن نحدثهم بحرية (1 كو 2: 14). ويصف هنا بشكل رمزي أولئك الذين يحيون بعدم تقوى لا علاج لهم، ولا رجاء في إصلاحهم أو تغييرهم إلى الأفضل وذلك بكلمة “كلاب” أما كلمة “خنازير” فيصف بها الذين يداومون على الحياة النجسة. وهؤلاء يقول عنهم إنهم غير مستحقين أن يسمعوا تلك الأمور. وقد أعلن القديس بولس الرسول نفس الأمر بقوله “الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة” (1 كو 2: 14). ويقول السيد الرب في عدة مواضع أخرى إن فساد الحياة هو السبب في عدم نوال الناس لمزيد من التعاليم الكاملة. ولهذا يأمرنا ألا نفتح أبوابنا لهم، لأنهم في الحقيقة يكونون أكثر ضررًا بعد التعليم، أما صاحب الميول الطيبة والذكي فإن الأشياء تبدو وقورة جديرة بالاحترام إذا ما انكشفت أمامه. أما عديمو الإحساس فتبدو الأمور لهم مجهولة لأنهم بسبب طبيعتهم غير قادرين على تعلمها. ويقول السيد الرب “فلنُبق الأمور مخفية، حتى يوقرونها وذلك بسبب جهلهم”. لأنه لا الخنزير يعرف قيمة اللؤلؤة، ولما كان لا يقدِر قيمتها فدعونا لا نكشفها له، لئلا يدوسها بأقدامه. فالسالكون سلوكًا رديًا لا يميلون إلى سماع الأمور المقدسة، فهي بالنسبة لهم دنسة لأنهم يجهلون طبيعتها. وهم أكثر الناس اندفاعًا لمقاومتها والتعالي علينا، وهذا هو المقصود بعبارة “لئلا تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم”
ورُبّ قائل: “كلا بالتأكيد، عليها أن تكون قوية لتظل مسبقة بقدر كافٍ، بعد أن يتعلمها الناس، ولا تخضع لأناس ضدنا” لكن ما قولك في أن أولئك الناس كالخنازير مثلاً، فالدرة حتى وإن سقطت بين الأقدام لا يليق أن تداس هكذا، فهي ليست محتقرة لأنها وقعت، بل لأنها سقطت بين خنازير، ولهذا يقول الرب “لئلا تلتفت وتمزقكم” لأنها تفتقر إلى الرقة واللطف. وحتى إذا تعلمت، فإنها لا تتغير من حال إلى حال، بل تظل تزمجر وتدوسنا وتهاجمنا فهم أشخاص مخادعون. لهذا يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس (2 تي 4: 15) “فاحترس منه أنت أيضًا، لأنه قاوم أقوالنا جدًا” ثم يقول في موضع آخر “أعرض عن هؤلاء” (2 تي 3: 5) و”الرجل المبتدع، بعد الإنذار مرة ومرتين، أعرض عنه” (تي 3: 10).
هكذا ترون أن الحقائق لا تمدهم بالقوة، بل يصيرون أغبياء، من تلقاء أنفسهم – ويزداد عنادهم – ويخسرون كثيرًا إذا ظلوا على جهلهم، إذ يظهرون احتقارهم الشديد، لكنهم إن تعلموا، فإن سوء التقدير من جهلتهم يكون أشد. لأنهم لا ينتفعون بل يتأذوا بالأكثر، ويسببون لكم العديد من المتاعب.
فليسمع كل الذين يشتركون مع الجميع في هذا السلوك بغير خجل، ويحتقرون الأشياء المرهوبة الجانب. لأننا نحتفل بالأسرار والأبواب مغلقة، ونُبعد غير المعتمدين، لا لأي ضعف في طقوسنا، بل لأن الكثيرين منهم غير مهيأين بالكامل لها. ولهذا السبب ذاته يتحدث السيد الرب إلى اليهود في أمثال “لأن لهم عيونًا، ولا يبصرون” ولهذا أيضًا يأمر القديس بولس “أن نعلم كيف يجب أن نجاوب كل أحد” (قابل كو 4: 6).
-
“اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم” [ع7].
لأنه بقدر ما قال الرب أشياء عظيمة وعجيبة، وأمر الناس أن تكون شهواتهم سامية وقادهم إلى السماوات نفسها، وأمرهم بالجهاد لبلوغ المثال المطلوب لا تشبُهًا بالملائكة أو رؤساء الملائكة بل بقدر المستطاع برب الجميع نفسه. وأمر تلاميذه أن يفعلوا هذا في كل حين حسن، وأن يقوَّموا الآخرين أيضًا، وأن يميزوا بين الأشرار والأبرار. بين الكلاب وغير الكلاب، بالرغم من أن هناك أمورًا دفينة في الناس يصعب تمييزها. وألا يقولوا إن “هذه الأمور صعبة لا أحد يحتملها” لأن القديس بطرس كان قد قال ذات مرة في الحقيقة “من يستطيع أن يخلص؟” (مت 19: 10، 25) وقال أيضًا “إن كان هذا هو حال الإنسان، فجيد للرجل ألا يتزوج”.
ولئلا يقول أحد نفس الكلام فإن الرب يظهر سهولة الأمر واصفًا لنا السبب تلو الآخر لذلك، والقدرة على إقناع الناس. وبعد هذا كله، يضيف أيضًا الأساس المطلوب والسبيل الحق لتخفيف الحمل والتعب عنا، مؤكدًا أن المعونة إنما تأتينا من الصلوات التي تحفظنا.
هكذا يقول إننا لسنا نجاهد وحدنا، بل نطلب المعونة من فوق – وستأتي بالتأكيد – وتبقى معنا تعيننا في جهادنا، وتسهل علينا كل شيء. لهذا يأمرنا أن نسأل، وجعل نفسه في محل من يعطي، ولم يأمرنا فقط أن نسأل، بل أن نطلب بكل همة ونشاط – فهذا هو معنى كلمة “اطلبوا” – لأن من يطلب وقد صفى ذهنه من كل شيء، إنما ينشغل بما يطلبه فقط، دون أن يفكر فيمن حوله من أشخاص. فقد خسر كثيرون ذهنهم وخدامهم، وهم يطلبونهم بهمة. والرب يعلن عن هذا الأمر بكلمة “اطلبوا”، وبقوله “اقرعوا” يعني أن نقترب إلى الله في جدية وفكر متوهج دون تراخ، ودون أن نصل من غيرتنا للفضيلة مثلما نفعل طلبًا لشهوة الغنى لأن مثل هذه الأمور حين تطلبونها واثقين أنكم تجدونها، لهذا تسعون إليها بكل ما لديكم من همة ونشاط، لكنكم في أمور أخرى ورغم أنكم قد نلتم الوعد الصادق بنوالها، لا تظهرون أدنى جهد، فإن لم تأخذوا فورًا، لا يتأسوا لأنه لهذا الغرض قال “اطرقوا” ليدلل على مداومتنا للطلبة حتى لو لم يفتح منا الباب على الفور.
-
وإن كنتم تشكون في تأكيدي هذا لكم، فآمنوا على الأقل بمثله، إذ يقول الرب: “أم أيّ إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا” [ع9]. لأن من يداوم على الطلبة بإلحاح بين الناس قد يحسبونه إنسانًا مزعجًا ومثيرًا للاشمئزاز. لكن مع الله، إن لم تلحوا في الطلبة، فإنكم تزعجونه بالأكثر. فلو داومتم على السؤال، ولم تأخذوا على الفور، ثقوا أنكم حتمًا سوف تأخذون في وقت ما. لأنه لهذا الغرض أغلق الباب، ليحثكم على مزيد من الطرق عليه. ولهذه الغاية لا يلبي الطلبة فورًا حتى تعيدوا السؤال. فداوموا إذن على الطلبة، وستأخذون بالتأكيد.
ورُبّ قائل: “ماذا لو طلبتُ ولم آخذ؟” لقد أُغلق الباب على سعيكم لهذا الأمر، فهو بأسلوبه هذا يحثنا على الثقة فيه، ويشير علينا ألا نطلب فقط، بل أن نطلب ما يجب علينا أن نطلبه.
“لأنه أيّ إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا”. لهذا إن لم تأخذوا، فلأنكم طلبتم حجرًا – وهذا هو السبب أنه لم يعطكم – لأنه رغم كونك ابنًا له، فإن هذا وحده لا يكفيك حتى تأخذ، بل هذا السبب عينه يعوقك عن الأخذ! فإنك وأنت ابن قد لا تطلب شيئًا ينفعك.
أيضًا لا تطلبوا شيئًا عالميًا، بل كل الأشياء الروحية، وستأخذون يقينًا. لأنه هكذا فعل سليمان (1 مل 3: 10-14، 2 أي 1: 11-12) إذ طلب ما ينبغي طلبه، فناله على الفور دون إبطاء.
هناك إذن أمران يلتزم بهما من يصلي، أن يطلب ويسأل بإلحاح، وأن يسأل ما ينبغي عليه أن يطلبه. إذ يقول السيد الرب: “إذ وأنتم آباء تنتظرون أن يطلب أولادكم منكم، وإن سألوكم شيئًا غير مألوف ترفضون أن تعطونهم إياه، وإن كان في مقدوركم ونافعًا تعطونه لهم”. وأنتم أيضًا إذ تفتكرون في هذه الأمور، لا تنصرفوا حتى تأخذوا. وحتى تجدوا لا تكُفوا عن السؤال، لا تتراجعوا ولا تقللوا همتكم في السؤال، حتى يفتح الباب، لأنكم إن اقتربتم بهذا الفكر وقلتم: “إن لم آخذ لن أرحل” فحتمًا ستأخذون بشرط أن تطلبوا ما يليق بالرب الذي تسألونه أن يعطيكم، والنافعة لكم كطالبين. فما هي هذه الأشياء اللائقة؟:
أن تطلبوا الروحيات، كل الروحيات، وأن تغفروا للمذنبين إليكم، فتنالون غفرانًا متى طلبتموه، رافعين أيادٍ طاهرة بلا غضب ولا دمدمة. (1 تي 2: 8). فإن طلبنا هكذا، سننال حتمًا، لأننا في حالتنا هذه تكون طلبتنا كشيء من السخرية، وكفعل رجل سكير لا فعل عاقل من العقلاء. ورُبّ قائل: أنا أطلب الروحيات، ولا آخذ؟ بالتأكيد أنت لا تطلبها بجدية أو تجعل نفسك غير مستحق للأخذ، أو أنك سرعان ما تكف عن السؤال، وقد يسأل نفس الشخص: “ولأي سبب لم يذكر السيد الرب الأشياء التي يجب علينا أن نطلبها؟” فالا بالحق، فقد ذكرها كلها فيما مضى، وأشار إلى الأمور التي يجب أن نقترب منها ونطلبها، فلا تقل إذن أنا اقترب ولا آخذ. لأن الله لا يمنع أبدًا في أيّ حال عن العطاء، الله الذي يحبنا كثيرًا جدًا، أكثر حتى من الآباء الجسديين، ويفوقهم كلهم صلاحًا. فإن طبيعة الآباء الأرضيين طبيعة شريرة. إذ يقول عنهم ” فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات” [ع11].
ويقول الرب هذا، لا لكي يصف البشر فإن طبيعتهم شريرة، ولا لكي يدين جنسنا البشري بأنه جنس سيئ، لكن محبته للإنسان فائقة وعظيمة بما لا يقاس. هل ترون حديثًا يفوق هذا الحديث هنا، عن قدرة الله التي تنير الآمال الصالحة حتى في قلب من أصبح يائسًا بأسًا لا يحتمل؟
ها هوذا يشير إلى صلاحه حقًا من طريق آبائنا؟ ومن قبل من خلال أعظم عطاياه. وهي “النفس” في داخل الجسد. وفي كل موضع لا يشير الرب إلى أعظم خيراته ولا إلى مجيئه في الجسد، لأن من بادر وقدم ابنه إلى الذبح، كيف لا يهبنا معه مجانًا كل شيء؟ وهذا وإن لم يحدث لنا بعد. لكن القديس بولس أشار إليه حقًا بقوله: “الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟” (رو 8: 32). لكن لا يزال حديثه إليهم يتناول الأمور الخاصة بالبشر
-
وبعد هذا، وحتى يشير إلى أنه يجب علينا ألا نثق في صلواتنا بينما نهمل أداء واجباتنا الشخصية، وحين تحيط بنا الضيقات لا نثق في جهودنا الذاتية، بل نسعى في طلب العون من فوق من جهة، ومن جهة أخرى نؤدي واجبنا الشخصي. ويضع أمامنا علاقة الأمر بالآخر، لأنه بعد شرح مستفيض يعلمنا أيضًا كيف نصلي؟ وبعد أن علمنا كيفية الصلاة، يتقدم في حديثه بخصوص واجباتنا ثم ينتقل إلى ضرورة الصلاة بلا انقطاع قائلاً: “اسألوا تعطوا”، “اطلبوا”، “اقرعوا”. ثم مرة أخرى يحثنا على أن تكون دؤوبين في ذلك.
إذ يقول “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم هكذا أيضًا بهم” [ع12]. ملخصًا كل شيء بإيجاز، ومشيرًا إلى أن هذه الفضيلة سهلة ومعروفة تمامًا لكل الناس، ولم يقل هذا فقط، “كل ما تريدون” بل قال “فكل ما تريدون” فإن حرف الفاء لم يضعه هكذا دونا سبب، بل ليكون له معنى محدد وخاص، بمعنى: إن كنتم تريدون أن تكونوا متشددين حتى بعد ما قلته لكم، افعلوا هذه الأمور أيضًا. فما هي هذه الأمور؟
“كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم”
ألا ترون أنه مع الصلاة نحن في حاجة إلى نُسُق الحياة الصحيحة. وهو لم يقل كل ما تريدون أن يفعله الله بكم، افعلوه مع جاركم، لئلا يقول أحد كيف يمكن هذا؟ إنه الله وأنا إنسان. لكنه قال كل ما تريدون أن يفعله الناس بكم هذا افعلوه أنتم أيضًا بهم. فأي شيء أخف من ذلك؟ وأي عدل أعظم من هذا؟ والمدح أيضًا معروف من قِبَل المكافأة، لذلك فهو مدح عظيم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء. حيث يتضح أن هذه الفضيلة تتفق وطبيعتنا ذاتنا جميعنا، فنعرف واجباتنا من ذواتنا. وأنه من المستحيل أن نجد ملجأ لنا في الجهل.
-
“ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريقُ الذي يُؤدي إلى الهلاكِ، وكثيرون هم الذين يدخُلُون منه. وما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونهُ” [ع13-14]
ورغم ذلك، قال بعدها “نيري هين وحملي خفيف” (مت 11: 30) وما قاله فعله، فكيف يقول هنا إن طريقه ضيق وكرب؟
أولاً: إن انتبهتم، فإن الرب هنا يشير أيضًا إلى أن الطريق خفيف جدًا وسهل، ومن الممكن بلوغه. ورُبّ قائل: ولكن كيف؟ كيف يكون الطريق الضيق والكرب سهلاً؟. لأنه طريق ولأنه باب، تمامًا مثلما هو الحال مع أيّ طريق وأيّ باب. فمهما كان واسعًا أو ذا مسافة كافية، فهو في النهاية طريق وباب، ولا شيء يدوم فيهما، فكل شيء يزول- الألم وكذلك خير الحياة- وليست الفضيلة فقط هي الهينة بل إنها في النهاية تصبح سهلة، لأن الذي يعزي الذين في الطينة ليس زوال الأعمال والأتعاب في ظهورها في النهاية- لأنها حتمًا تنتهي من حياتنا- لهذا تكون أتعابنا مؤقتة أما أكاليلنا فهي دائمة: فالأتعاب تأتي أولاً، ثم تليها الأكاليل، الأمر الذي يمنحنا ارتياحًا كبيرًا في أتعابنا. لهذا فإن بولس الرسول يدعو الأتعاب بأنها خفيفة، لا بسبب طبيعة الأحداث، بل بسبب فكر الخصوم الذين ينافسوننا، وبسبب رجائنا المستقبل. إذ يقول: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُري بل التي لا تُري” (2 كو 4: 17-18) لأنه إن كانت الأمواج والتي تُعد خفيفة ومحتملة بالنسبة للبحارة، وكذا الضربات القاضية للملاكمين، والصقيع بالنسبة للكرَّامين، والمذابح والجراح بالنسبة للجنود في المعارك، فإن كل هذه هي بمثابة الرجاء بالمكافآت المُجزية المؤقتة والزائلة، فكم بالأكثر السماء المُنتظرة والبركات التي لا يُنطق بها، والمكافآت الآبدية. فكلها لا تجعلنا نستصعب المتاعب في هذا الزمان الحاضر. فلماذا نهتم بها ولا نهملها؟ فإن الرب يجعلها هينة وخفيفة. لذا يأمرنا ألا نتحدث إلى الكلاب وألا نقترب من الخنازير وأن نحترس من الأنبياء الكذبة. ففي كل هذه الأحوال، لا نشعر وكأننا نواجه ضيقات فعلاً، وحقيقة أن الباب ضيق إنما تسهل علينا الأمور بشكل كبير، إذ يتحتم علينا أن نكون ساهرين. وحين يقول القديس بولس:
” فإن مصادقتنا ليست مع لحم ودم” (أف 6: 12) فإنه يفعل ذلك لا لكي يثبط من عزائمنا بل ليرفع من أرواحنا كمقاتلين أشداء، وهكذا يفعل السيد الرب لكي يوقظ المسافرين من غفلتهم ونومهم، فيدعو الطريق بالكرب. وبهذا لا يجعل الناس ساهرين وحسب، بل يؤكد لهم أن هناك أمورًا أخرى تسندهم وتشدد من أزرهم، وأن آخرين قد لا يهاجمونهم هكذا علنُا بل هم يخفون أنفسهم، فهذه هي طبيعة الأنبياء الكذبة. ولهذا يقول: “لا تهتموا، حتى لو كان الباب ضيقًا، والطريق كربًا، بل اهتموا كيف ينتهي؛ إذ ينتهي إلى الرحابة والاتساع”. لهذا اهتموا أن تكونوا يقيظين منتبهين مستعدين، مثلما يقول في موضع آخر:
“إن الغاصبين يختطفون الملكوت” (مت 11: 12) هكذا حين يعلم من يجاهد ويصارع ويتألم أنه في النهاية يظفر بالربح وترتفع معنوياته وتسمو روحه بالأكثر.
لهذا لا نتحير إذا ما اعترضتنا ضيقات كثيرة قد تربكنا، لأن الطريق والباب ضيقان لكن المدينة واسعة ورحبة. لهذا لا يتوقع المرء راحة هنا، ولا ينتظر تعبًا هناك.
-
ففي قوله “قليلون هم الذين يجدونه” [ع14]
يكشف عن إهمال الغالبية ويرشد سامعيه إلى عدم الانتباه لآثام الأكثرية بل إلى أتعاب الأقلية. ويقول الرب أن معظم الطريق إذا ساروا فيه- ليس هو باختيارهم والأمر يشكل جرمًا شديدًا- ولكننا يجب أن نهتم بالأغلبية فلا تزعجنا تهديداتهم، بل أن نقتدي بالأقلية وأن نستعد بكل وسيلة إذا ما أردنا الخوض في الطريق الضيقة، لأنه بجانب أنها ضيقة، فإن هناك الكثيرين الذين يريدون إلقاءنا في الطريق الأخرى لهذا يضيف الرب قائلاً:
-
“احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” [ع15]
فهناك بجوار الكلاب والخنازير فخ آخر منصوب لنا بمؤامرة أشد خطرًا من غيرها – لأن أولئك معرفون وعلى الملأ، أما هؤلاء فهم مخفون لهذا يحذرنا منهم – وكيف للجميع أن يحترسوا باهتمام بالغ، فإنه من الصعب علينا أن نراهم عند أول اقتراب لنا منهم، ولهذا السبب أيضًا يقول: “احترسوا أو احترزوا” ليرشدنا أن نميزهم. عندئذ ولئلا يفرقوا في كمٍ من ارتباكات حين يسمعون أن الطريق كرب وضيق، وأن عليهم السير في طريق معاكس لطرق الكثيرين، حافظين أنفسهم من الخنازير والكلاب ومن النوع الأكثر وحشية من الذئاب. فإنه يذكرهم بما تم في أيام آبائهم حتى لا يدركهم القلق – نستخدم تعبير “الأنبياء الكذبة” إذ لم يحدث آنذاك أمور أقل من هذه – هكذا يقول السيد الرب: أرجوكم ألا تضطربوا، فلن يصيبكم شيء جديد أو غريب. لأن الشيطان دائمًا يبدل الحقيقة كلها سريًا بخداعاته المناسبة. وبتشبيه “الأنبياء الكذبة” هنا، لا أظن أن السيد الرب يشير إلى الهراطقة، بل إلى الذين يعيشون حياة فاسدة، ومع ذلك يضعون أقنعة الفضيلة، وهم الذين يسمونهم الغالبية باسم الدجالين لهذا يقول: “من ثمارهم تعرفونهم” [ع16]. فقد يجد الإنسان صلاحًا فعليًا بين الهراطقة، أما بين أولئك الفاسدين فلا يجد صلاحًا أبدًا. ورُبّ قائل: “ماذا إن كانوا يخدعون في هذه الأمور أيضًا؟ كلا، بل سيتم كشفهم بسهولة. إذ هكذا هي طبيعة هذا الطريق، مؤلمة ومضايقة، ولن يختار المرائي احتمال الآلام بل أن يتباهى فقط. لهذا تسهل إدانته. هكذا وبقدر ما قال السيد الرب “وقليلون هم الذين يجدونه” فإنه يكشف عن الذين لا يجدونه، ومع ذلك أولئك الذين يتظاهرون أنهم وجدوه – وذلك بأمره لنا ألا ننظر إلى الذين يضعون الأقنعة فقط، بل إلى الذين يسعون في الحقيقة وراء هذا الطريق – وقد يقول قائل: ولكن لأي سبب لا يجعلهم الرب ظاهرين لنا بل يحثنا على البحث عنهم؟ حتى نبقى ساهرين ومستعدين دائمًا للقتال، محترزين من أعدائنا المتنكرين وكذا العلنيين أيضًا. وهذا ما كان يشير إليه بولس الرسول قائلاً: “بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب البسطاء” (رو 16: 18). فلا نضطرب حين نرى الكثيرين منهم الآن، كلا، لأنه لهذا أيضًا سبق المسيح وتنبأ منذ البدء. وتأملوا رقته: كيف أنه لم يقل “عاقبوهم” بل “لا يلحقكم منهم ضرر” ولا تقفوا بينهم غير محترسين أو منتبهين”. وحتى لا تقولوا أنه من المستحيل تمييز هذا النوع من الناس، يوصي السيد الرب ثانية مثالاً بشريًا بقوله: “هل يجني الناس من الشوك عنبًا أو من الحسكِ تينًا؟ “هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة. وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارًا ردية. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة” [ع16-18].
وما يقوله هو هكذا: ليس عندهم شيء لطيف أو حلو، إنهم حملان فقط عند طبقة الجلد ولهذا يسهل تمييزهم، ؟؟ولئلا يكون عندكم أدنى شك، فإنه يقارنه بضروريات طبيعية معينة، بأمور لا تحتمل إلا نتيجة واحدة. فبأي معنى قال الرسول بولس أيضًا: “الاهتمام الجسدي هو موت، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع” (رو 8: 6-7). وهو لا يكرر الأمر مرتين على سبيل الحشو (Tauto 1094)، بل لئلا يقول قائل “رغم أن الشجرة الرديئة تحمل ثمرًا رديًا، فهي قد تحمل الجيد أيضًا، ومن الصعب التمييز. فالمحصول طيب ورؤى في آن واحد. ويقول السيد الرب: كلا ليس الأمر كذلك، فالشجرة لا تحمل إلا الثمر الرديء فقط، ولا يمكنها أن تحمل ثمرًا طيبًا مثلما هو الحال مع الشجرة الطيبة. فلماذا إذن؟ ألا يمكن للصالح أن يصبح شريرًا؟ والعكس صحيح. والحياة حولنا تزفر بهذه الأمثلة. لكن السيد المسيح لا يقول هذا، لأنه ما من سبيل للتغيير عند الشرير، والصالح من الصعب انحرافه أو سقوطه. لأن الشرير ببقائه في الشر لا يعطي ثمرًا طيبًا، ماذا إذن؟ ألم يحمل داود وهو الرجل الصالح أثمارًا ردية؟ بلى إن داود لم يستمر صالحًا لكنه تبدل من الخير إلى الشر، لأنه ودون شك قد ظل على حاله الرديء لهذا لم يثمر ثمرًا طيبًا، أما لو بقى في الفضيلة لما اقترف ما اقترفه. بهذه الكلمات يسد الرب أفواه الذين يتكلمون بالشر عشوائيًا فيضع لجامًا على كل المفترين بكلام فارغ، بينما يرتاب كثيرون في الخير بسبب الشر، فإن السيد الرب يحرمهم من أيّ عذر، لأنك لا يمكن أن تقول لقد خُدعت وضُلِّلت، فقد أعطانا السيد طريقة التميز بينهم من أعمالهم. فالوصية تخصهم هم ولا تخص الجميع هكذا بشكل عشوائي.
-
وإذ لم يأمر بالعقاب، بل أن يكونوا على دراية به، ولكي ينذر المتحيرين ويغيرهم وضع أمامهم العقاب كمانع لهم قائلاً: “كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقطع وتُلقي في النار” [ع19].
وحتى يقلل من شدة كلماته أضاف “فإذن من ثمارهم تعرفونهم” [ع20] حتى لا يبدو وقد أظهر التهديد كموضوع أساسي في حديثه، بل حتى يثير ذهنهم بطريقة النصح والإرشاد. ويبدو لي هنا أنه يلمح لليهود الذين كانوا يُظهرون مثل تلك الأثمار. ولهذا السبب أيضًا يذكرهم بأقوال يوحنا وبنفس الألفاظ يؤسس عقيدتهم، لأنه هو أيضًا قال نفس الشيء، إذ ذكر لهم “الفأس” و”الشجرة التي قُطعت” و”النار التي لا تُطفأ” ورغم أن الأمر يبدو كدينونة واحدة. وإذ تم حرق الشجرة، لكن إذا أوجز المرء الأمر بشيء من الدقة، فإن هناك عقوبتين:
من جهة، حرق الشجرة قد تم وهذا معناه طبعًا أن يُطرح الشرير من جهة أخرى من ملكوت الله. وهي عقوبة أكثر شدة من الأخرى. وأعرف أن كثيرين الآن يرتعدون من ذكر الجحيم فقط، لكنني أؤكد أن فقدان المجد لهو أشد صعوبة من الجحيم ذاته. وليس عجيبًا أن الكلمات تعجز عن إظهار هذا الأمر.
لأننا لا نعرف بركات هذه الأمور الصالحة، حتى ندرك من جهة أخرى تعاسة حرماننا منها. وإذ كان بولس الرسول يدرك هذه الأمور جيدًا، فقد وعيَّ أن الحرمان من مجد المسيح هو أبشع الأمور كلها. وهذا ما ينبغي إدراكه في ذلك الزمان حينما نقف أمام الحكم الفعلي. لكن نتوسل ألا يكون هذا هو حالنا أبدًا يا ابن الله الوحيد ولا تدعنا نختبر أبدًا هذا العقاب الذي لا علاج له، لأنه ما أعظمه من شر أن نسقط عن هذه الأمور الجيدة التي لا يمكننا وصفها بركة.
ومع هذا، وبقدر استطاعتي. سأحاول أن أوضح الأمر لكم، وإن كان بدرجة غير كاملة تمامًا؛ فلنتخيل إذن طفلاً عجيبًا، لديه بجانب فضيلته السيادة على العالم كله، وهو صالح في كل شيء، حتى أنه قادر أن يضع كل الناس في دائرة محبة الآب، فماذا تظنون في والد هذا الطفل، وما يمكنه أن يعانيه في مرة، هل يتخلى عن شعبه؟ وأيّ شر مهما كان قليلاً أو كبيرًا، هل يرحب به؛ بشرط أن يري ابنه ويتمتع به – فلنفكر في الأمر بخصوص مجده أيضًا – لأنه ما من طفل حتى لو لم يكن صالحًا، لا يمكن لأب أن يكرهه ولا يشتاق إليه. هكذا هو الحال في نصيبنا من تلك الخيرات وأن ننطلق ونكون مع المسيح” (في 1: 23).
وما من شك أن الجحيم والعقاب ليست من الأمور التي يمكن احتمالها. ولو افترض المرء عشرة آلاف جحيم، فلن يقدر على وصف ما سيكون عليه الحرمان من ذلك المجد الطوباوي أو أن يكون مكروهًا من المسيح، مثل سماعه “أنا لا أعرفكم” (مت 25: 12) أو أن يتهمه بأنه لم يطعمه حينما رآه جائعًا (مت 25: 42). أجل، فإنه من الأفضل أن يُصعق بمائة ألف صاعقة عن أن يري ذلك الوجه الرقيق يبتعد عنا، وعينه السلامية لا تحتمل النظر إلينا. فإن كنت وأنا عدو وأكرهه، قد تبعني ولم يتركني بل ولم يشفق حتى على نفسه، بل بذلها لأجلى حتى الموت، أبعد هذا كله لا أعطيه رغيفًا في جوعه، فبأي عينين أقدر بعد ذلك أن أنظر إليه؟
لكن انتبهوا هنا إلى لطفه ورقته في أنه لم يتحدث أبدًا عن خيراته، ولا قال “لقد اضجرت أيها الإنسان كثيرًا من فَعل لك الخير الكثير”. ولا حتى قال “أنا الذي أتى بك من العدم. الذي نفخ فيك نفْسًا حية، وجعلتك تتسلط على كل كائنات الأرض، الذي لأجلك خلق الأرض والسماء، والبحر والهواء، وكل الموجودات. لقد احتقروه لأجلك، بل حسبته مستحقًا لكرامة أقل من الشيطان!. ولم ينسحب هو من كل ذلك، بل كانت لديه عدة أفكار من أجلك. الذي اختار أن يصير عبدًا، الذي ضُرب بالقصبة وبُصق عليه، الذي قُتل، والذي مات أكثر الميتات خزيًا، الذي يشفع أيضًا في الأعالي لأجلك، الذي يهبك روحه القدوس مجانًا، الذي يمنحك الملكوت، الذي يقطع وعودًا كهذه لك، الذي يشاء أن يكون لك رأسًا وعريسًا وثوبًا وبيتًا وخدرًا وطعامًا وشرابًا وراعيًا وملكًا. الذي أُخذت لتصير معه وريثًا وشريكًا، الذي أخرجك من الظلمة إلى سلطان النور”. أقول إن هذه الأشياء وأكثر منها، يمكن أن يتكلم الرب عنها لكنه لا يذكر أيًا منها، إنه يتحدث عن الخطيئة فقط.
وحتى في هذا المجال، يظهر محبته، وأنينه لأجلنا فلا يقول: ادخلوا إلى النار المعدة لكم، بل استعدوا لمواجهة الشيطان، وهو يقصد أن يخبرهم بما هو خطأ في أفعالهم ولم يذكرها كلها بل بعضًا منها. وقبلها تحدث عن الذين يفعلون الصلاح مشيرًا إلى أنه يلومهم بعدل، فأي عقاب أشد من هذه الكلمات؟
فإن أيّ فرد لن يهمل إنسانًا جائعًا كان يومًا ينفعه، وحتى لو أهمله لن يتحرر من عذاب الضمير، بل إذا رأى صديقين أو ثلاثة على علم بما فعل تمنى لو أنه غاص في باطن الأرض، فماذا يكون شعورنا لو حدث هذا على مسمع من العالم كله وأمام الرب، الذي يحكم على أعمالنا، فمهما حاول الدفاع عن نفسه، فإنه لن يُخفي تباهيه بالأمر. ولهذا يسمع الرب يقول “اذهبوا عني” والمسيح هنا يلومنا لمنفعتنا حتى ننتبه.
-
لهذا أيها الأحباء، فلنرتعد حتى لا نسمع هذه الكلمات المخيفة، فالحياة ليست لهوًا، وحياتنا الحاضرة ليست عبثًا، والأمور العتيدة ليست كذلك. ولا تحسبوا حياتنا لهوًا وحسب، بل هي أسوأ من ذلك، لأنها لا تنتهي بالضحك، بل تجلب دمارًا شديدًا على الذين لا يفكرون في تقويم طرقهم بشكل حاسم. أرجوكم أن تعرفوا الفارق بيننا وبين أطفال يلعبون في بيوت تحت الإنشاء، حينما نبني بيوتنا الغالية الثمن. والفارق بينهم وهم يعدون طعام غذائهم وبيننا نحن في ارتحالنا الثمين؟ لا شيء، سوى أننا نفعل ذلك لأننا تحت العقاب، وينتهي بنا الحال دون أن ندرك إلى فقر كامل. فلا عجب أننا لم نعد بعد رجالاً، لكن حين نصبح كذلك، سندرك أن كل هذه الأمور صبيانية. وحين نبلغ مرحلة الرجولة والنضج سوف نحتقر ما كنا نحياه. بينما لما كنا أطفالاً حسبنا هذه الأمور شيئًا مميزًا يستحق منا القلق لأجله. وحينما كنا نجمع معًا كسر الخزف المكسور والطين، لابد أن نحسب أنفسنا أقل من الذين يشيدون الأسوار العظيمة، فهي حتمًا زائلة سريعًا. وحتى وهي قائمة لا جدوى منها لنا، مثلما هو الحال مع تلك البيوت الفخمة. لأن المواطن السماوي لا يقبلها ولا يريد أن يبقى فيها؛ لأن له موطنًا علويًا. لكننا حين ندوسها بأقدامنا، هكذا سيفعل هو أيضًا بالبروج الشاهقة. ومثلما نضحك على الأطفال الذين يبكون إذا انسكب منهم شيء، هكذا أولئك أيضًا، حينما ننوح على كل شيء، لا يضحكون فقط، بل يبكون أيضًا، لأن أحشائهم أحشاء رأفة. ولأن خاتمة أفعالهم ردية. لهذا فلنصر رجالاً، وحتى متى نزحف على الأرض ونتباهى بالأحجار والمباني والأرصدة، حتى متى نلهو ونلعب؟
وهل سنظل نلعب فقط؟ بل إننا نعبث بخلاصنا ونخونه الآن، وكأطفال يهملون تعليمهم ويجدون أنفسهم يلهون في أوقات فراغهم، يعانون من ضربات قاصمة متلاحقة، هكذا نحن أيضًا، ننفق كل حماسنا هنا، ونهمل دروسنا الروحية المطلوبة في أعمالنا، فلا نقوى على أدائها، فنستحق حينئذٍ لعقوبة قاسية، ولا أحد يقدر أن يخلصنا، لا أب ولا أخ ولا أيّ إنسان آخر.
لكن حينما تزول كل هذه الأشياء يظل عذابها إلى الأبد، بلا توقف، وهو نفس ما يحدث مع الأطفال حين يحطم أبوهم لعبهم الطفولية، بسبب تكاسلهم فيبكون بلا توقف.
-
وحتى نقنعكم بهذه الأمور، فلنتأمل حال الثروة والغنى، والتي تبدو من أكثر الأمور إيلامًا لنا، ولنضع في مقابلها فضيلة النفس، والتي ينبغي أن نطلبها مهما كان الأمر، وسترون مدى تفاهة الثروة. أقول:
لنفترض أن هناك رجلين – ولست أتكلم عن الضرر الناجم عن الغنى الفادح، بل عن الغنى المتوسط – وليجمع أحد الرجلين مالاً وفيرًا، ويسافر بحرًا. ويفلح الأرض، ويختبر طرقًا أخرى عديدة في التجارة – مع أنني لا اعرف تمامًا إن كان سيجني من عمله هذا أرباحً نظيفة، ومع هذا فليكن ما يكون- ويفترض أن أرباحه قد حصل عليها بأمانة واستقامة، وأنه اشترى حقولاً، واقتنى عبيدًا، وكل ما شابه، وأنه لم يمارس ظلمًا في معاملاته. لكن دع الرجل الآخر، يملك أموالاً طائلة ويبيع حقولاً وبيوتًا وآنية ذهبية وأخرى فضية، ويعطي المساكين صدقة، ويطعم المحتاجين، ويشفي مرضى، ويحرر المكروبين، ويطلق سراح المقيدين ويسرح العاملين في المناجم في السخرة، ويخلص الذين وقعوا في الشراك، ويحرر الأسرى، ويخلصهم من العقاب، فإلي أيّ من الرجلين نقف؟
ونحن هنا لم نتحدث عن المستقبل بعد، بل عن الأمور الحاضرة، فإلى أيّ جانب ستقف؟ هل إلى جانب الرجل الذي يجمع الذهب أم إلى جانب الذي يخلص الناس من ضيقاتهم! مع ذاك الذي يشتري حقولاً. أم مع الذي يجعل نفسه ملجأً وحصنًا آمنًا للجنس البشري؟ مع الذي يتسربل بكل هذا الذهب، أم مع ذاك الذي يكلل ببركات لا تحصى؟ ألا يشبه هذا الشخص ملاكًا هبط من السماء لتغيير الجنس البشري؟ بينما الآخر ليس كذلك أبدًا، بل إنه ليس إنسان، بل كطفل صغير يجمع ما تصل إليه يداه ليحتضنه هكذا عشوائيًا. ومثل هذا الإنسان والذي يجمع المال قد صار أمره سخيفًا، وبلغ حد الجنون المطبق. حيث لا أمانة مع المال ويصبح من أتعس الناس. وأقول إن كانت السخافة بهذا الحد فإن النواح يكون أعظم عليه حيًا أو ميتًا؛ لأنه ذاهب إلى الجحيم وخسران الملكوت.
-
أو هل تحبون أن نقبض على جزء آخر من الفضيلة. فلنذكر لكم رجلاً آخر، رجلاً ذا سلطة يأمر الجميع، تحوطه كرامة عظيمة، له حاشية ضخمة، وحراس ونواب وصحبة عظيمة من العاملين لديه، ألا يبدو هذا الإنسان عظيمًا؟ ويستحق أن يكون سعيدًا؟ حسن إذن؟
فلنضع مقابل هذا الرجل رجلاً آخر أيضًا، صبور على الآلام، وديع، متواضع، طويل الأناة، ولنجعل هذا الأخير محتقرًا من الناس يضربونه. ولنجعله يحتمل كل هذا، ويبارك الذين يضايقونه. فأي واحد منهما يستحق المجانبا. أرجوكم: هل ذلك المنتفخ والمتعجرف. أم ذاك المتواضع النفس؟ ألا يشبه هذا الأخير واحد من القوات العلوية. العديمي الفساد والهوى. بينما يشبه الأول بقِربة منتفخة، أو رجلاً يعاني من الاستسقاء والتهاب شديد. أحدهما كطبيب روحاني، والآخر كطفل سخيف ينتفخ ويتورم خداه؟
لأنه بماذا تفتخر أيها الإنسان، أبميلادك العالمي ووجودك في عربة محطمة؟ الآن جيادًا تحركك. ألا تعرف أن ما تراه أمامك هو مجرد قطع من الحجر والخشب؟، هل لأنك متسربل بثياب جميلة؟، ألا تنظر إلى المتشح بالصلاح كثوب؟. وسوف ترى بنفسك أن كل شيء يشبه قشًا سرعان ما يزول. لكن يبقى الآخر كشجرة تحمل أثمارًا عجيبة تُدخل الفرح المفرط على الناظرين، وأنت تحمل في جسدك طعامًا لدود الأرض وللعت؛ الذي إذ حط عليك جرَّدك من هذه الزينة الخارجية سريعًا. فالحقيقة أن الثياب والذهب والفضة كلها تغزلها الديدان، والأرض والتراب لتصير ترابًا من جديد.
ولا شيء أكثر من هذا. لكن من يتسربل بالصلاح يتشح بثوب لا يقدر الدود أن يؤذيه، ولا يقدر أن يضره. ومن الطبيعي جدًا أن هذه الفضائل الصالحة للنفس لا يعود أصلها إلى الأرض، بل هي ثمر الروح القدس. ولهذا السبب لا تتأثر بأفواه الديدان، لأنها ثياب منسوجة في السماء حيث لا يفسد عت ولا دود ولا أيّ شيء من ذلك. قولوا لي إذن من الأفضل؟
أن تكون غنيًا أم فقيرًا؟ أن تكون صاحب سلطان أم أن تكون بلا كرامة؟ في غنى وثروة أم في فقر واحتياج وجوع؟.
الأمر في غاية الوضوح، أن نكون في كرامة وبهجة وثروة. لهذا إن كانت لديكم الأشياء لا الأسماء، فاتركوا الأرض وما عليها هنا، وأوجدوا لأنفسكم مكانًا ترسون فيه في السماوات. لأن ما على الأرض ظل، لكن كل شيء هناك راسخ لا يهتز، ثابت لا يتزعزع.
فلنختر هذه الأمور إذن بكل همة ونشاط لنخلص من ضيقات الأرضيات هنا. حتى إذا ما أبحرنا إلى ذلك الميناء الهادئ، نوجد مع خيرنا الوفير. الذي لا يُنطق به، الذي يمنحه لنا الله بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الإنسان. له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين.
العظة الرابعة والعشرون
“ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات” [ع21]
لماذا لم يقل “الذي يفعل إرادتي؟”. لأنه في الوقت الراهن كان قبولهم حتى هذا القول يُعد ربحًا عظيمًا بسبب ضعفهم. وفي نفس الوقت فإن الرب يحببهم في الوصية الأولى بواسطة الثانية. ويجب أن نذكر أن مشيئة الابن هي نفسها مشيئة الآب. ويبدو لي هنا أن السيد الرب ينتقد اليهود بصفة خاصة، الذين وضعوا كل ثقلهم على التعاليم دون الاهتمام بالممارسة، ولهذا يوبخهم بولس الرسول قائلاً: “هوذا أنتَ تُسمى يهوديًا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته” (رو 2: 17-18).
لكنك لا تجني شيئًا من وراء ذلك، طالما أن شيئًا من العطاء لا يظهر في حياتك وأعمالك، لكن السيد الرب لم يقف عند هذا الحد، بل قال ما هو أكثر من ذلك.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” ويقول السيد: “لا يكفي الإنسان أن يكون مؤمنًا فقط، بينما حياته مهملة، فإنه يُطرد من السماوات، حتى وإن صنع معجزات كثيرة، ولكنه لم يصنع شيئًا صالحًا، فإن هذا الإنسان أيضًا يُطرد من الموضع المقدس.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب. يا رب أليس باسمك تنبأنا؟” انظروا كيف يعود السيد الرب إلى نفسه سريًا ويشير ضمنًا إلى نفسه بأنه الديَّان؟ ولم يقل علانية أنا هو الديَّان. بل “كثيرون سيقولون لي” للدلالة على نفس الأمر. لأنه لو لم يكن الديَّان لما قال لهم: فحينئذٍ أُصرَّح(أُصرِّح) لهم، “إني لم أعرفكم قط” [ع23]. وكأنه يقول: “إني لم أعرفكم قط، لا في زمن الدينونة فقط، بل حتى عندما كنتم تصنعون المعجزات”. لهذا قال أيضًا لتلاميذه: “لا تفرحوا بهذا إن الشياطين تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات” (لو 10: 20). ويأمرنا في كل موضع أن نبذل قصارى جهدنا لنهتم اهتمامًا كبيرًا بأسلوب حياتنا.
فليس من المكن لإنسان يعيش حياة صالحة، وهو متحرر من الأهواء والشهوات، أن يكون مهملاً تمامًا، لكنه حتى إن تصادف وكان على خطأ، فإن الله سرعان ما يجذبه إلى الحق. لكن هناك البعض يقولون: لقد أكدوا هذا بشكل زائف، وهذا هو تقديرهم لسبب عدم خلاص هؤلاء الناس. كلا! وإلا كانت نتيجة عمل هذا الشخص عكس ما أراده الرب. لأن قصد الرب يقينًا أن يجعل هذا الإيمان بلا قيمة بدون الأعمال. لهذا إذ يخص الرب على الأعمال الصالحة – يضيف المعجزات أيضًا – موضحًا أن ليس الإيمان وحده، بل حتى صنع المعجزات لا يفيد شيئًا بدون الصلاح. وإن لم يكونوا قد صنعوا العجائب، كيف كان من الممكن أن يؤكد الأمر هنا؟. وأيضًا هم لا يتجاسرون إذا ما جاء يوم الدينونة أن يقولوا هذا الكلام في مواجهة الرب، ولا حتى الجواب نفسه. وتساؤلهم هذا يتضمن أنهم صنعوا عجائب، ولكن إذ يرون النهاية تأتي عكس توقعاتهم وبعد أن كانوا هنا محل إعجاب الجميع بسبب ما صنعوه من معجزات، ها هم يرونهم هناك كلا شيء، مع عقاب ينتظرهم. فتصيبهم الدهشة وتعقد الصدمة ألسنتهم، فيقولون:
“يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” فكيف تبتعد عنا الآن؟ وما معنى هذه النهاية الغريبة التي لم نكن ننتظرها منك؟.
-
لكن إن كانوا يتعجبون أنهم يُعاقبون بعد أن صنعوا مثل هذه المعجزات – فلا تتعجبوا أنتم مثلهم – ذلك أن النعمة كانت عطية مجانية من الذي أعطاها لنا. لكنهم من جانبهم لم يشاركوا بشيء، لهذا يحق عقابهم بعدل؛ إذ هم غير شاكرين وعديمو الشعور نحو الرب الذي كرمهم كثيرًا، إذ أسبغ عليهم نعمته وهم غير مستحقين.
ورُبّ قائل وماذا إذن؟ هل يفعلون هذا وهم يمارسون الإثم؟ يقول البعض إنهم لم يصنعوا معجزات وهم يرتكبون الآثام، ولكنهم تغيروا بعد ذلك ومارسوا الإثم، لكن لو كان الأمر كذلك، لما أفلح معهم أيّ زمن آخر يعمل فيه الرب معهم؛ فلا الإيمان ولا صنع المعجزات يمكن أن يثمرا دون أعمال.
ولهذا يقول بولس الرسول أيضًا: “إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا” (1 كو 13: 2).
وتسألون، إذن من هم هؤلاء الرجال؟، إن كثيرًا من المؤمنين قد نالوا مواهب؛ مثل طرد الأرواح” (مز 9: 38، لو 9: 49). ولم يكن مع السيد، هكذا يهوذا؛ إذ كان حائزًا على موهبة مع أنه كان شريرًا. ونرى في العهد القديم نفس الأمر، أن النعمة عملت في أُناس غير مستحقين، بحيث تصنع الخير للآخرين. لهذا لما كان الناس لا يناسبهم هذا الأمر، بل يحيا بعضهم حياة الطهر، ولم يكن لديهم هذا الإيمان العظيم، بينما كان آخرون على النقيض تمامًا، فإن الرب بهذه الأقوال يحث على إظهار مزيدٍ من الإيمان، وإذ يعطى البعض عطايا تفوق الوصف ليصيروا أفضل، فإنه يكمل لهم نعمته بكل سخاء، لأنه مكتوب “صنعنا عجائب كثيرة” ولكنه “يصرِّح لهم أني لا أعرفكم” لأنهم يظنون أنهم أصدقائي الآن حقًا، لكنهم سيعرفون حينئذٍ، إني لم أمنحهم كأصدقاء.
ولماذا تتعجبون إن كان السيد الرب يعطي عطايا للمؤمنين باسمه، رغم أن حياتهم لم تكن تليق بإيمانهم، بل كان يعمل حتى مع الذين حادوا عن الطريق وعن الحياة اللائقة والإيمان، ومع ذلك عملت فيهم النعمة لخدمة الآخرين. وفرعون أيضًا كان من نفس النوع، ومع ذلك فقد دله الرب على الأمور العتيدة، وكان نبوخذ نصر رجلاً كثير الآثام، ومع ذلك كشف له الرب ما سيحدث بعد أجيال كثيرة (د 3). وأيضًا ابن هذا الأخير، رغم أنه فاق أباه في الإثم، فقد تنبأ بأمور مستقبلية، آمرًا بحدث جليل وعجيب (دا 5).
ولأن بديات الإنجيل كانت تُجرى آنذاك، وكان تجلي قوته ظاهرًا بشكل واضح للجميع، فإن كثيرين حتى من غير المستحقين نالوا مواهب. وبالرغم من كل تلك المعجزات، لم تنشأ منها أية فائدة، بل بالحري عوقبوا بالأكثر. لهذا قال لهم السيد الرب هذا القول الرهيب، “إني لا أعرفكم”. وكان هناك كثيرون قد بدأ غضب الرب يظهر ضدهم، وتحول عنهم وتركهم، حتى قبل الدينونة.
لهذا لنخف أيها الأحباء ونرتعد، ولنهتم بحياتنا أعظم اهتمام، ولا نحسب أنفسنا أسوأ حالاً، لأننا لا نصنع المعجزات الآن، لأن ذلك لن يمنحنا أية مزايا، ومثلما لا يسيء إلينا أننا لا نصنع معجزات، إذا كان اهتمامنا منصبًا على الفضائل، لأننا مدينون بأنفسنا للمعجزات، لكننا مدينون لله بحياتنا وأفعالن
-
بعد أن أنهى السيد الرب الحديث عن كل شيء، تحدث إليهم بدقة عن الفضائل وأشار إلى المتظاهرين بها، من كل نوع وصنف. بخصوص تظاهرهم بالصوم والصلاة، والذين يأتوننا في ثياب حملان، والذين يدوسون المواهب ويدْعوَّن(ما التشكيل) أيضًا بالخنازير والكلاب.
ثم يتقدم ليشير لا إلى كيفية عظم الربح الذي يأتي من وراء الفضيلة هنا على الأرض، ويبين فداحة الشر بقوله: “كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أُشبهه برجل عاقل” [ع24].
ويعني هذا: قد سمعتم ما يمكن أن يعاينه أولئك الذين لا يسمعون ولا يعملون بما يسمعوه رغم أنهم يصنعون معجزات، ويجب أن توتوا أيضًا ما يتمتع به كل من يسمع هذه الأقوال كلها – لا في الدهر الآتي فقط، بل هنا أيضًا – “فكل من يسمع” كما يقول السيد الرب، هذه الأقوال ويعمل بها، أشبه برجل بنى بيته على الصخر. أترون كيف ينوع في حديثه؟، ففي مرة يقول “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب”. ثم يكشف عن نفسه في مرة أخرى. “بل الذي يفعل إرادة أبي” ومرة أخرى يعلن نفسه “ديَّانًا”، “كثيرون يقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب. أليس باسمك تنبأنا”، “فحينئذ أُصرِّح لهم إني لم أعرفكم قط” ويشير هنا أيضًا إلى سلطانه على الجميع. لهذا يقول “كل من يسمع أقوالي”. وبينما يلمس حديثه المستقبل من الملكوت، والمكافأة والتعزية التي لا يُنطق بهما. وما شابه ذلك، فإن إرادته، أيضًا بالنسبة لأمور هذا العالم هو أن يعطيهم ثمارًا، وأن يشير إلى عظم هذه الفضيلة، حتى في الحياة الحاضرة. فما هي قوة الفضيلة؟.
أن نعيش في أمان، وألا يتسلط علينا أيّ رعب، من جانب الذين يحتقروننا. فأي شيء يعادل هذا الحال؟ لأنه حتى الذي يرتدي وشاح الملك لا يقدر أن يوفر لنفسه ذلك، أما من يمارس الفضيلة، فهو يملك كل شيء في وفرة، ويستمتع بهدوء عظيم في غمرة آلام الزمان الحاضر. والعجيب أن يتمتع بهذا في شدة العاصف، وفي ثقل الضيقة. وباستمرار التجارب، لا يهتز ولو قليلاً. إذ يقول السيد المسيح:
“ينزل المطر وتجيء الأنهار وتهب الرياح وتقع على ذلك البيت فلا يسقط، لأنه مؤسس على الصخر” [ع25].
ويشير الرب رمزيًا إلى الضيقات بألفاظ مثل “المطر” و”الفيضان” و”الرياح” وهي ضيقات مثل الإدانات والمؤامرات وفقدان الأحباء والأخصاء والأصدقاء، والميتات والقلاقل من الغرباء، وكل ما يمكن أن يحل بالإنسان من ضربات ويقول الرب أن النفس المؤسسة على الصخر. وهي الكلمة التي تشير إلى الثبات في تعاليم المسيح، لأن وصاياه في الحقيقة أقوى من الصخر وتضع الإنسان أعلى من الأمواج الهادرة والحياة العاتية. لأن من يحفظ وصاياه في ثبات، لن يتهاوى إذا اضطهده الآخرون، بالعكس فإنه سينتفع من وراء المؤامرات المحاكة ضده. وليس في هذا فخر زائف، فإن أيوب شاهدنا على ذلك، فهو ذلك الرجل الذي تلقى كل ضربات الشيطان، وكان مكروهًا من الجميع. والرسل أيضًا هم شهودنا، لأنهم حين ضربتهم كل أمواج العالم، ووقفت ضدهم كل الأمم والحكام، وشعبهم أيضًا والغرباء، والأرواح الشريرة والشيطان، وكل آلة تتحرك، وقفوا راسخين أقوى من الصخرة، فبددوا كل الاضطرابات. وكانت حياتهم أسعد من حياة الآخرين. فلا الثروة ولا قوة البدن ولا المجد ولا السلطان ولا أيّ شيء آخر، يمكنه أن يوفر لنا الأمان، إنما الذي يوفره هو امتلاك الفضيلة. لأنه ما من حياة أبدًا تخلو من كل الشرور، إلا هذه الحياة التي نحياها هنا، وأنتم شهود وترون المؤامرات في قصور الملك، والضيقات والمتاعب في بيوت الأغنياء، لكن شيئًا من هذا لا تجدونه بين الرسل. ماذا إذن؟ ألم يعانوا هم من شرور على أيدي الناس؟. بلى، لقد عانوا من أبشع المؤامرات وواجهوا أعثر العواصف التي انفجرت في وجوههم، لكن أرواحهم لم تنهزم أبًدا، ولا أصابهم يأس، بل صارعوا بأجساد عارية وانتشرت كرازتهم وانتصروا. وكذلك أنتم بالمثل، إن أردتم تحقيق هذه الأمور، فسوف تضحكون على كل المتاعب وتزدرون بها. أجل، لأنكم إن تقوَّمتم فقط بهذه الفلسفة لن يؤذيكم شيء، ولن يقدر عليكم من يحيك ضدكم المؤامرات.
هل سيسلب أحد أموالكم؟ حسنًا، لكن قبل أن يهددكم فإن الرب أمركم أن تحتقروا المال، وأن تتعففوا عنه تمامًا. وفي نفس الوقت لا تظنوا أن هذا الأمر من تدبير ربكم.
فهل يرمونكم في السجن؟ ألم يأمركم أن تحيوا هكذا؛ أن تُصلبوا عن العالم، فهل يتكلمون عنكم بالشر؟ كلا، فقد خلصكم المسيح من هذا الألم أيضًا، بوعده لكم بمكافآت عظيمة دون تعب إذا احتملتم الشر. وقد حرركم من الغضب والاضطراب الناجم منه، وهو الذي يوصيكم أن تصلوا أن يخلصكم الله منه.
فهل ينفيكم أحد ويسبب لكم متاعب جمة؟ حسنًا، فإن الرب يجعل إكليلكم أكثر مجدًا. فهل يدمركم ويقتلكم؟ حتى وإن فعل هذا فإنه ينفعكم نفعًا كبيرًا؛ إذ تنهال عليكم أكاليل الشهادة، وتبلغون السماء في منتهى السرعة بلا تعب، وتتوفر لكم أعظم فرص المجازاة الوفيرة والغنى. ويسمح لكم أن تستفيدوا من أكبر عقوبة تحل بالشر وهي الموت. والأمر الأكثر عجبًا من كل ما سبق، أن كل المتآمرين ضدكم، إذ لا يقدرون إلحاق الضرر بكم، بل بالحري يجعلون من أنفسهم موضع ازدراء.
فما الذي يمكن مقارنته بمثل هذا النمط من الحياة، وإذ يدعو الرب الطريق كربًا وضيقًا ليخفف من أتعابنا من هذه الجهة أيضًا، فإنه يشير إلى الأمان العتيد والعظيم جدًا، وإلى المسرة البالغة. مهما كان حجم الضيق والألم.
ومثلما اعتبر الرب الفضيلة أمرًا له ثماره الصالحة من بين كل الأشياء هنا، فقد أظهر العواقب المُرة للرذيلة أيضًا. وأكرر ما سبق أن قلته مثلا، أن الرب يأتينا في كلا الطريقين بالخلاص لكل من يسمع أقواله. بالغيرة على عمل الصلاح (الفضيلة) من جهة، ومن جهة أخرى بكراهية الرذيلة. وإذا وُجد البعض من الذين يعجبون بما قاله الرب، بينما لا تدل أعمالهم على أنهم تأثروا بما سمعوه، فإن الرب يثير مخاوفهم، فالسمع وحده ليس كافيًا لتوفير الأمان مهما كان ما سمعوه صالحًا، بل هناك الحاجة أيضًا إلى الطاعة التي تظهر بالأعمال – والاستجابة الفعلية – وينهي عظته وحديثه بأن يبلغ بالخوف إلى قمة ذروته فيهم. ومثلما تحدث عن مجازاة الفضيلة بالملكوت والسماء والمجازاة التي لا يُنطق بها، والتعزية والراحة والصالحات والخيرات التي لا تُعد ولا تُحصى. هكذا تحدث أيضًا عن أمور الحياة الحاضرة الدالة على ثبات الصخرة ورسوخها الذي لا يتزعزع. ولا يثير مخاوفهم من خلال أمور منتظرة فقط. كما هو الحال مع الشجرة التي قُطع أصلها، والنار التي لا تُطفأ، والذين لا يدخلون الملكوت. ومن قوله إني لا أعرفكم، ولكن أيضًا من الأمور الحاضرة مثل سقوط البيت.
-
لهذا السبب يوضح كلامه بالأكثر، فإنه يُظهر قوته في مَثَل، وهو لا يكرر كلامه، فقوله “الصالح أكثر ثباتً، لكن الشرير يسهل سقوطه” لا يعد نفس الشيء. ومثلما يقارن بين الصخرة والبيت، والأنهار والأمطار والرياح وما شابه.
ويقول السيد الرب أن كل “من يسمع هذه الأقوال ولا يعمل بها أُشبهه برجل جاهل، يبنى بيته على الرمل” [ع26]. وحسنًا وصف مثل هذا الرجل بالجاهل. لأنه أيّ غباء أكثر من بناء بيت على الرمل، فالجاهل يتعب إذ يعمل العمل بيديه لكنه يحرم نفسه من الثمر ومن التعزية، بل وينال عقابًا، والذين يسلكون في الشر يُتعِبون أنفسهم، وهم ظاهرون لكل واحد، فمنهم المرابي والزاني والمتهم بالباطل، وكلهم يتعبون أنفسهم ويكدون كثيرًا لجلب شرورهم وجعلها مؤثرة. لكنهم لا يجنون أبدًا ثمار أتعابهم بل بالعكس يصيبون أنفسهم بخسارة بالغة. وقد أشار بولس أيضًا إلى هذا حين قال “من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا” (غل 6: 8). ويشبهون من يبني بيته على الرمل بالذين يسلمون أجسادهم للزنا، والدعارة والخمر والغضب، وكل شر آخر.
مثل آخاب، ولكن ليس مثل إيليا، لأننا حين نضع الفضيلة في مقابل الرذيلة سندرك على الفور الفارق بينهما. لأن واحد بنى على الصخر والآخر على الرمل، ورغم أنه كان ملكًا، خاف وارتعب عند مقابلته لنبي، ارتعب من إنسان لا يملك إلا جلد غنم. وهكذا كان اليهود وليس الرسل فرغم أنهم – أيّ الرسل – كانوا قليلي العدد وفي سلاسل، فقد أظهروا رسوخًا كالصخر، أما أولئك فعلى الرغم من كثرة عددهم وتسليحهم إذ كان عددهم ضعف عدد الرمال، لأنهم هكذا قالوا “ماذا نفعل بهذين الرجلين” (أع 4: 16).
هل رأيتم كيف أن الذين أُمسكوا بالقيود والسلاسل كانوا حيارى؟ بينما المقيدون ليسوا كذلك. فهل تسلطتم على الآخرين؟ هل أنتم في ضيقة وكرب؟ إن كان كذلك فهذا أمر طبيعي. بقدر ما بنوا على الرمل كانوا أضعف من الجميع. ولهذا أيضًا قالوا “تريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان” (أع 5: 28). فماذا نقول؟ هل تجلد(ما تشكيلها؟؟) وأنت خائف؟ هل تعامل الناس باحتقار وتشعر باليأس؟ أم هل تدين ومع ذلك ترتعب؟ لأن الشر هكذا دائمًا واهن وضعيف – لكن الرسل ليسوا كذلك – إذ يقولون “نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 20).
أرأيتم روحًا بهذا النبل، وصخرة تسخر من الأمواج وتحتقرها؟ أرأيتم بيتًا لا يتزعزع؟ إنهم لا يهتزون أمام المؤامرات المدبرة ضدهم، بل بالحري يتشجعون بالأكثر، ويلقون بالآخرين في مزيد من الارتباك والقلق.
هكذا الذي يضرب بصلابة، ومن يضرب حجرًا صلبًا ترتد الضربة إليه هو، ومن يركل حجرًا ترتد الركلة إليه هو، أما من يثخن الآخرين بالجراح، والذي يثير المؤامرات ضد الأتقياء، هو الذي يقع في الورطة. لأن الشر دائمًا ما يكون هو الأضعف، كلما نظم نفسه ضد الفضيلة. وكالإنسان الذي يحتضن النار في ثوبٍ، لا يُطفئ اللهب بل يحرق الثوب. هكذا كل من يضرب الفضلاء ويقهرهم ويقيدهم، يجعلهم أكثر مجدًا، ويدمر هو نفسه. وكلما زادت عليك الآلام وأنت تحيا حياة البرّ، كلما صرت أقوى. لأنه كلما كرمنا(ما تشكيلها؟؟) ضبط النفس أكثر، كلما قلّ احتياجنا لأي شيء. وكلما قل احتياجنا لأي شيء كلما صرنا أقوى وفوق كل شيء.
هكذا كان يوحنا المعمدان، الذي كان واحد من هؤلاء. لهذا لم يؤلمه أحد. لكنه تسبب في إلحاق الألم بهيرودس. لهذا كان الذي لا يملك شيئًا قادر على مقاومة الذي يحكم. والذي يرتدي وشاح المُلك والأرجوان والصولجان ويملك قوة لا تنتهي، يرتعد ويخاف من الذي لا يملك شيئًا، بل خاف الملك حتى من الرأس المقطوعة. حتى أنه بعد موت يوحنا ظل هيرودس يرتعد منه بقوة شديدة، اسمعوا ما يقوله “هذا هو يوحنا الذي قَطعت رأسه” (مت 14: 2، لو 9: 9).
يقصد هذا هو الذي قطعت أنا رأسه أو ذبحته، وهو ليس حديث إنسان يتباهى بما فعل، بل يرتعد ويريد أن يسكن من روعه، ويهدئ نفسه، إذ يتذكر ما فعله أنه هو نفسه قد ذبح يوحنا المعمدان.
حقًا ما أعظم قوة الفضيلة، فهي تُصيِّر صاحبها بعد موته أقوى مما كان في حياته. ولهذا حين كان الذين لديهم ثروات كبيرة كانوا يأتون عليه ويقولون: ماذا يجب أن نفعل؟ (كو 3: 10، 14).
فهل هذا هو حالكم؟ وهل تهتمون أن يتعلم من يحيا في رخاء كيف تحيون أنتم الذين لا يملكون شيئًا؟ هل يتعلم الأغنياء من الفقراء؟ والأثرياء من المعدمين؟
هكذا كان إيليا أيضًا، لهذا يتحدث إلى شعبه بكل حرية. ومثلما قال يوحنا المعمدان “يا أولاد الأفاعي” (مت 3: 7) هكذا إيليا قال لهم “حتى متى تُعرِّجون بين الفرقتين” (1 مل 18: 21). وبينما قال المعمدان “لا يحل لك أن تكون لك امرأة أخيك” (مر 6: 19)، هكذا قال إيليا “هل قتلت وورثت أيضًا” (1 مل 21: 19).
هل ترون الصخرة؟ أرأيتم الرمل، كيف يغوص بسهولة وكيف يتأثر بالمصائب بسهولة؟ وكيف ينهزم؟ ورغم أنه مدعم بالملكية والجماعة والنبلاء، لا يسقط هكذا وحسب، بل يكون سقوطه عظيمًا. إذ يقول “كان سقوطه عظيمًا”.
فالخطورة ليست في التوافه، بل في النفس، وخسارة السماء، وتلك البركات الخالدة. وحتى قبل الخسارة ليست هناك حياة أتعس من حياة إنسان يعيش هكذا، في شقاء دائم، وانزعاج واضطرابات وهموم. والذي تحدث عنه الحكيم مرة قائلاً: “الشرير يهرب ولا مُطارد” (أم 28: 1). لأن مثل هؤلاء الناس يرتعدون حتى من مجرد رؤية ظلالهم، ويرتابون في أصدقائهم، وأعدائهم وخدمهم. والذين يعرفونهم والذين لا يعرفونهم. ولذلك وقبل عقابهم النهائي، يعاقبون هنا بالعقاب الشديد؛ إذ يمتنعون عن تنفيذ الوصايا الطيبة الصالحة، مخدوعين بأمور الزمان الحاضر، بدلاً من هروبهم من حياة الرذيلة. وكان اللائق بهم أن يهربوا من الشر.
لأنه وعلى الرغم من أن النقاش كان حول الأمور العتيدة بشكل أوسع وأعم، فإنه من القوة أن نمتنع عن الأمور الأخطر هاربين من الشرور.
لهذا أنهي الموضوع بقولي إن الربح الذي يناله المداومون على الصلاح سيدوم فيهم، وإذ نعي نحن كل شيء الحاضر والعتيد، فلنهرب من الرذيلة ونحيا في الفضيلة، حتى لا تكون أعمالنا بلا ثمر، وبلا ترتيب بل نتمتع بالأمان هنا، ونشترك في المجد هناك، الذي يهبنا إياه الله بالنعمة والمحبة التي لنا نحن البشر، بربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى أبد الآبدين كلها. آمين.
No Result
View All Result
Discussion about this post