عظات عن الغنى و العازر – ج2
للقديس يوحنا الذهبي الفم
العظة الثالثة
إن مثل لعازر له فائدة عظيمة لنا لكلاً من الفقير والغني، أنه يعلم الأول أن يتحمل فقره بتعقل وبرباط جأش، ولا يسمح للثاني أن يتباهى بثرائه. أنه يعلمنا بالمثل أن أكثر إنسان يُرثى لحاله هو من يعيش في رغد العيش ولا يشترك أحد معه في خيراته.
لذلك فإننا اليوم سوف نمسك بنفس الموضوع. إن هؤلاء الذين يعملون في المناجم عندما يرون أن هناك عروق من الذهب فإنهم يواصلون الحفر من نفس المكان ولا يكفون حتى يستخلصوا كل ما يمكن أن يجدوه، فلنعود إلى حيث توقفنا في حديثنا السابق حتى نستكمله، فقد كان بإمكاني شرح هذا المثل كله في مرة واحدة،
لكن ليس المهم هو قول الكثير ثم أترككم، ما يهمني هو أن تستطيعوا أن تقبلوا وتتمسكوا بكلماتي بكل دقة، وتنالوا قدرة الاحتفاظ بها لإدراك ما يجلب لكم الفائدة الروحية. إن الأم المحبة عندما توشك أن تفطم رضيعها فإنه من الخطأ أن تسكب عصير مركز في فمه دفعة واحدة، فإنه سوف يلفظه ويبلل ملابسه[1]. ولكنها تسكب العصير في فمه قليلاً بلطف حتى يستطيع ابتلاع ما أخذه بدون صعوبة، مثلما أعمل أنا ألا أجعلكم تلفظون ما أعطيه لكم فلم أُتخمكم بالوصايا بل جزأتها لكم على عده مرات، أعطيكم خلالها عده أيام للراحة من ثقل الاستماع المتواصل، ولكي يكون ما ألقيه ملتصقًا تمامًا بذهنكم في محبة، وتتقبلوا ما أنا مزمع أن أقوله بنفس مستريحة نشطه.
لهذا السبب أيضًا فإنني كثيرًا ما أعلن لكم مقدمًا عدة مرات عن الموضوع الذي سوف أكلمكم عنه، لكي ما تشغلوا أنفسكم خلال هذه الأيام بالكتاب ودراسة فقراته وتتعلموا ما قيل وما لم يقال، بهذا تجعلون أذهانكم مستعدة أكثر للتعلم عندما تسمعون ما سوف أقوله عندئذ. إنني لا أكف عن التوسل إليكم ألا تهتموا فقط بما أقوله لكم هنا، لكن أيضًا أن تحافظوا باستمرار في بيوتكم على قراءة الكتاب المقدس.
عندما أكون مع أي منكم في اعتراف فإنني لا أكف عن إعطاء نفس النصيحة. وأرجو ألا يقول لي أحد هذه الكلمات الغير نافعة والتي تستحق إدانة كبيرة: لا أستطيع أن اترك (court house)، أو أنني أدير أعمالاً في المدينة، أو أن أتدرب على حرفة، أو أن لي زوجة، أو أنني أربي أطفالاً ومسئول عن أسرة، أو أنني رجل واسع الخبرة بالحياة وقراءة الكتاب المقدس، ليست لي ولكن لهؤلاء الذين يعيشون بعيدًا الذين استقروا في الجبال ويعيشون أسلوب هذه الحياة باستمرار. المعنى مفهوم لكن بصعوبة لأن الجملة التي في النصف العرضية طويلة جدًا
ماذا تقول يا رجل؟ أن يكون لك العديد من الاهتمامًات تجعلك لا تولي عناية كافية بالكتاب المقدس، فعلى العكس فإن ذلك مهم لك أكثر منهم، إن المنشغلين بأعمالهم هم في أشد الاحتياج إلى الكتاب المقدس. إن الرهبان الذين تركوا صخب الحياة وسكنوا البراري لا يمتلكون شيئًا، ولكنهم يمارسون الحكم بلا حذف في سكون حياتهم الهادئة كمن استراح في الميناء متمتعًا بالأمان. ولكننا نحن في منتصف البحر تتقاذفنا أمواجه منساقين لعديد من الخطايا، لذا فنحن دائمًا نحتاج لعون مستمر لا يتوقف من الكتاب المقدس. إن الذين يهربون بعيدًا عن المعركة لا يصابون، لكن الذين يقفون في الصفوف الأمامية دائمًا يتلقون الهجمات، لذلك يحتاجون إلى الدواء، فعلى سبيل المثال زوجتك تستفزك، ابنك يحزنك، خادمك يغضبك، عدوك يتآمر عليك، صديقك يحسدك، جارك يشتمك، زميلك يمسك عليك زلة، حاشية الحاكم تهددك، الفقر يقلقك، فقدان أملاكك يجلب عليك الحزن، النجاح يغُرك، سوء الحظ يحيطك، أسباب كثيرة وضغوط تثبِّط من عزيمتك وتحزنك، أوهام ومسببات لليأس تحيط بك من جميع الجهات، الكثير من السهام تسقط عليك من كل مكان، لذا فنحن في احتياج دائم لدِرع واقي هو الكتاب المقدس ولإدراك ذلك فإنه مكتوب (سير 9: 13).
على سبيل المثال إن حرب الجسد تكون أكثر ضراوة على هؤلاء الذين يعيشون في وسط العالم، وجه جميل، أو جسم رائع يقتحم أعيننا، أو عبارات مخجلة تخترق أسماعنا فتقلق تفكيرنا، والأغاني الخليعة تضعف من اهتماماتنا الروحية. لماذا أقول ذلك؟ لأنه كثيرًا ما يبدو أن هناك لا مبالاة بهذه الحروب. إن روائح العطور التي تفوح من المحظيات والغواني عندما يمرون بجانبنا إنما تأسرنا وتأخذنا بعيدًا كأسرى من مجرد مصادفة عابرة، وهناك العديد من الأشياء التي تحاصرنا، إننا نحتاج إلى الدواء الإلهي ليشفي الجروح التي حاقت بنا وليحمينا من التي يمكن أن تحدث لنا. يجب علينا أن نتغلب على انقضاض الشيطان وضرباته لنا بمداومة قراءة الكتاب المقدس. فمن المستحيل لأحدٍ منا أن يكون في أمان بدون أن ينتهز الفرص دائمًا لقرائه الكتاب المقدس. وفي الواقع علينا أن نقتنع بأنه حتى مع استعمالنا هذا الدواء فإننا بالجهد نخلص، لكن إن كنا لا ننطلق يوميًا في استعمال هذا الدواء الشافي، فأي أمل يكون لنا للخلاص؟ صلوا من أجل قراءات مستمرة في الكتاب المقدس. إن قراءة الكتاب المقدس هي أعظم وسيلة تتحصن بها ضد الخطايا، والجهل به هو بمثابة منحدر كبير أو هوّة سحيقة. إن عدم معرفة النواميس الإلهية هو ضلال وتيهان عن طريق الخلاص وإعطاء فرصة لميلاد البدع (الهرطقات)، وإدخال الفساد إلى حياتنا وترسيخه. فإنه من المستحيل على الشخص الذي يقرأ باستمرار وباهتمام أن يخرج فارغًا بدون فائدة. انظروا إلى أي مدى قد ساعدنا مَثَل واحد وكم أفاد نفوسنا. إنني على ثقة تامة إنكم تخرجون من هنا وأنتم مستفيدين بما تسمعونه فائدة تبقى معكم. ولكن إن كان البعض لم يجني هذه الثمار فبرغم ذلك فإنهم في أحد العظات سوف يصبحون أفضل. فإنه من المهم ألا يمر يوم دون الندم على الخطية والتطلع نحو السمائيات وإراحة نفوسنا من اهتمامات العالم، إن كنا نفعل هذا بدون تقصير في كل صلاة فإنه مع المداومة على استماعنا للعظات سوف يكمل فينا كل ما هو عظيم ونبيل.
تعالوا إذن لأشرح لكم الجزء التالي من المثل: ما هو الجزء التالي؟ عندما قال الغني: “أرسل لعازر ليبلَّ طرف إصبعهِ بماءٍ ويبرّد لساني” فلنسمع رد إبراهيم: “يا ابني اُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزَّى وأنت تتعذَّب. وفوق هذا كلّهِ بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا”[2].
هذا قول يصعب تحمله ويجلب كرب عظيم، أعلم ذلك ولكن كلما تألمت ضمائرنا أكثر كلما ساعدنا ذلك على الإحساس بالمتألمين. فلو كان إبراهيم قال لنا ما قاله للغني ونحن في الحياة الآخرة فبصدق كنا سنبكي وننوح ونندب إذ لم يعد هناك وقت متبقي للتوبة. ولكن بما أننا نستمع لهذه الكلمات بينما نحن لا نزال في هذه الحياة الدنيا، حيث بالإمكان أن نثوب إلى رشدنا ونغتسل من ذنوبنا وننال الإيمان ونغيّر من أنفسنا خشيه العواقب الوخيمة التي حدثت لآخرين. فلنشكر الله الذي نبَّهنا من تخاذلنا بعقابه للآخرين فأيقظنا من غفوتنا، ولهذا السبب قد أخبرنا السيد المسيح بذلك مقدمًا حتى لا يتركنا لنعاني نفس العقاب، فلو كان يريد عقابنا ما كان أخبرنا بذلك مقدمًا، ولكن لأنه لا يريد أن يعرضنا لعقوبة الآخرة فلهذا السبب بالذات قد أخبرنا مقدمًا بعقوبة الآخرة، لكي ما نتعلم مغزى كلماته وننجو من جرائر أفعالنا. ولكن لماذا لم يقل إبراهيم “لقد أخذتَ خيراتك” ولكن قال “لقد استوفيت خيراتك”. إنكم تذكرون أنني قلت لكم كيف أن بحر كبير من الأفكار قد انفتح أمامنا فإن عبارة “استوفيتَ خيراتك” تدل وتوضح نوعًا من المديونية أو التزام بدين، كمن له ديون ومستحقات يستوفيها، فمع كون الرجل الغني كريه وبغيض وقاس وعديم الإنسانية، لماذا لم يقل له إبراهيم لقد أخذت خيراتك، وقال له لقد استوفيت خيراتك كما لو كانت ديون مستحقة له. ما الذي نتعلمه من ذلك؟
أنه حتى لو كان هناك بعض الناس في غاية الشر فإنهم أحيانًا يفعلون عمل أو اثنين أو ثلاثة من الأعمال الصالحة، إن كلامي هذا ليس تخمينًا منى فحسب، لكنه واضح في الكتاب المقدس، لأنه ليس هناك قسوة أكثر من ظلم قاضي الظلم ولا عدم إنسانية وعقوق، فهذا الرجل لا يخاف الله ولا يهاب إنسان ومع كونه يعيش في هذه الشرور فقد فعل شيء صالح عندما رحم الأرملة التي كانت تزعجه باستمرار فأنصفها ومنحها طلبها وأدان خصومها[3]. هكذا، من الممكن أن يكون هناك شخص فاسق لكنه في أحيانًا كثيرة رحوم، أو عديم الإنسانية لكنه قادر على كبح جماح نفسه، أو أن يكون هناك من هو فاسق وأيضًا قاسي لكنه لا يزال قادرًا في بعض الأحيان على عمل شيء صالح في حياته. ويجب أيضًا أن نتوقع نفس الشيء بالنسبة للأشخاص الصالحين، فكما أن أكثر الناس سوءًا أحيانًا يقومون بعمل شيء صالح، فأيضًا هؤلاء الصالحون أحيانًا كثيرة يكون لهم نقاط ضعف، لأنه مكتوب: “من يقول إني زكَّيت قلبي تطهَّرتُ من خطيتي”[4].
إذن فإن كان الرجل الغني قد وصل إلى أقصى درجات الشر فمن المحتمل أنه قد فعل شيئًا صالحًا، وأيضًا حتى لعازر وإن كان قد وصل إلى قمة الصلاح فقد اِرتكب بعض الخطايا الصغيرة، اذكر كيف أشار أبو الآباء إلى كليهما بذلك “يا ابني اُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”، فإنك حتى إن كنت قد فعلت شيئًا صالحًا فقد استوفيت جزاءه وأخذت هذه الأشياء في العالم، العيش الرغد والغنى والتمتع بالرفاهية والثروة الطائلة. وإن كان هذا الرجل (لعازر) قد اقترف شيئًا فقد تلقى جزاءه من معاناة الفقر والجوع والبلايا. فقد وصل كل منكما إلى هنا مجردًا تمامًا وعاريًا، هو من خطاياه وأنت من الأعمال الصالحة. لهذا السبب هو الآن يتعزى وأنت تتلقى عذاب غير محتمل.
فعندما تكون أفعالنا الحسنة بسيطة وضئيلة وحجم خطايانا كبير جدًا ونتمتع في هذه الحياة بالرخاء والرفاهية ولا نعاني من أي متاعب، فإننا بالتأكيد سوف نغادر هذه الحياة عارين ومجردين، فقد أخذنا مقابل الأشياء الحسنة واستوفينا مالنا في هذه الحياة. وبالمثل فعندما تكون أفعالنا الصالحة كثيرة ومتعددة وخطايانا بسيطة وضئيلة ونعاني البلايا، فإننا بهذا نتخلص من هذه الخطايا الصغيرة في هذه الحياة ونستحق المكافأة الخالصة المعدّة لنا عن أفعالنا الصالحة في الحياة الآخرة. لهذا فإنك إن رأيت شخص يعيش في الشرور وفي نفس الوقت لا يعاني من أي متاعب في حياته، لا تعتبره محظوظا بل أبكي عليه ونوح لأن عليه أن يتحمل كل البلايا (الدينونة) في الحياة الآخرة، تمامًا مثل هذا الرجل الغني. وأيضًا إن رأيت شخص يكرّس نفسه للفضائل ويمارسها ولكنه يعاني الكثير من المحن، فاعتبره محظوظًا وأحسده لأن كل خطاياه قد تبددت في هذه الحياة، وله مكافأة كبيرة أعدت له في الحياة الآخرة لاحتماله، تمامًا مثلما حدث للعازر.
بعض الناس يعاقبون فقط في هذه الحياة، والبعض الآخر لا يعانون أي متاعب هنا ولكنهم يتلقون ما عليهم من عقاب في الحياة الآخرة، وهناك أيضًا الذين يعاقبون هنا وفي الآخرة. أي من هؤلاء الثلاثة تعتبره محظوظًا؟ أنا واثق تمامًا أنه في المرتبة الأولى هؤلاء الذين يتلقون عقابهم هنا ويتنقُّون من خطاياهم. ومن يليهم في المرتبة الثانية؟ ربما تظنون إنهم هؤلاء الذين لا يعانون من أي شيء هنا ولكنهم يتحملون عقابهم في الآخرة. لكنني أقول لا ليس هؤلاء ولكنهم الذين يعاقبون هنا وفي الآخرة. لأن من يدفع جزءًا مما عليه من عقاب، سوف يتلقى عقاب أخف وطأة، ولكن من يكون لزامًا عليه تحمل كل ما عليه من عقاب في الآخرة فإنه لن يتلقى أي رحمة تمامًا مثل هذا الرجل الغني، لأنه لم يتنقى من أي خطية من خطاياه هنا، لذلك فإنه قد عوقب بشدة حتى أنه لم يستطع الحصول ولو على نقطة مياه صغيرة، فأكثر من الجميع هؤلاء الذين يخطئون ولكنهم لا يعانون أي متاعب هنا. إنني حزين من أجل هؤلاء الذين لا يعاقبون هنا وأيضًا يعيشون متمتعين بالرفاهية وعدم الاحتياج. فهكذا إن عدم الوفاء بجزء من العقاب على الخطايا هنا يجعل دينونة الآخرة ثقلاً. وكذلك أيضًا فإن المتع الآثمة ولذة الشهوات الذاتية والرفاهية والترف تصبح أسبابًا لعقاب أكثر للخطاة.
عندما يعطينا الله نحن الخطاة تكريمًا هنا، فإن طرحنا في نار متقدة في الآخرة يصبح حقيقة مؤكدة، إن الذي لا يستفيد من مراحم الله الواسعة سوف يكون عقابه شديد، ومن كان له أعلى درجات التكريم ويسبغ الله عليه من مراحم وطول أناته، ومع ذلك يستمر في شروره، فمن الذي ينقذه من العقاب على هذا؟ والدليل على أن هؤلاء الذين ينعمون بمراحم الله وطول أناته عليهم هنا إنما يجنون على أنفسهم العواقب الوخيمة في الآخرة هذا إن كنا لا نقدم توبة هنا. فلنسمع ما قاله بولس: “أَفتظنُّ هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله. أم تستهين بغنى لطفهِ وإمهالهِ وطول أناتهِ غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تَدَّخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة”[5].
لذلك عندما ترى أناس يعيشون في ثراء وترف، تفوح منهم روائح العطور، يمضون يومهم في الشراب وأيضًا لهم القوة والاحترام والمركز العظيم، ومع ذلك مازالوا يخطئون بالرغم من أنهم لا يعانون أي متاعب، فلهذا السبب بعينه نبكي عليهم ونحزن لأنهم لم يعاقبون على خطاياهم، كما أنك إن رأيت شخص مريض بالاستسقاء، أو بمرض الطحال، أو قرحه مزمنة، أو تقرحات كثيرة تملأ جسده، ولا يزال بالرغم من ذلك يشرب وينغمس في شهواته ويزيد من مرضه، فلا تتأثر به ولا تظن أنه سعيد لحياته المرفهة، لكن فلتحزن عليه لهذا السبب نفسه. وهذه النظرة أيضًا بالنسبة للنفس، فعندما ترى شخص شرير يعيش متمتعًا برخاء كثير وبدون معاناة من أي محنه، فلتبكي عليه لهذا السبب نفسه، فإنه بالرغم من إصابته بمرض خطير وقروح فإنه بانغماسه في الشهوات والتنعمات يزيد من مرضه ويصير للأسوأ. إن العقوبة ليست بضارة، لكن الخطية ضارة، فإن الأخيرة تفصلنا عن الله، لكن الأولى تقربنا إلى الله وتبدد غضبه علينا. كيف نعلم ذلك؟ فلنسمع ما قاله النبي: “عَزُّوا عَزُّوا شعبي يقول إلهكم. طيِّبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمُل، إن أثمها قد عُفِي عنهُ، أنها قد قبلت من يد الرب ضعفَين عن كل خطاياها”[6]. وفي موضع أخر يقول: “يا رب تجعل لنا سلامًا لأن كل أعمالنا صنعتها لنا”[7]. ولكي نعلم أن هناك من يعاقبون هنا وآخرون في الآخرة والبعض يعاقب هنا وفي الآخرة، فلنستمع لما قاله بولس الرسول عندما يتهم الذين يشتركون في الأسرار المقدسة بدون استحقاق عندما قال: “إذًا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرمًا في جسد الرب ودمهِ”، وأضاف على الفور: “من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاءُ ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لم حُكِم علينا. ولكن إذ قد حُكِم علينا نؤَدَّب من الرب لكي لا نُدان مع العالم”[8].
هل رأيتم أن العقاب هنا سوف يخلصنا من عذاب دينونة الآخرة؟ وأيضًا يتكلم الرسول عن خطيئة الزنى فيقول: “أن يُسلَّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع”[9]. ويتضح هذا أيضًا في مثل لعازر، فلو كان قد ارتكب أي أثم فإنه قد تطهر منه في حياته فيغادر هذه الحياة إلى الحياة الآخرة طاهرًا تمامًا. وأيضًا يتضح هذا في قصة المشلول فقد مكث مريضًا لمده ثماني وثلاثون سنة، إن طول مدة مرضه قد خلصته من آثامه. والدليل على كونه بهذه الحالة بسبب خطاياه ما قاله السيد المسيح: “هنا أنت قد بَرِئْت. فلا تخطئْ أيضًا لئَلاَّ يكون لك أَشَرُّ”[10]. من هذه العبارة يتضح أن بعض الناس يعاقبون في هذه الحياة فيخلصون من خطاياهم، والبعض يعاقبون هنا وفي الآخرة إذا كانوا لم يتلقوا العقاب الكافي على قدر كبر حجم خطاياهم، والدليل على ذلك ما قاله السيد المسيح عن أهل سدوم: “وكلُّ مَنْ لا يقبلكم فأخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار أيضًا عن أرجلكم شهادةً عليهم”[11]، وواصل كلامه قائلاً: “وأقول لكم أنه يكون لسدوم في ذلك اليوم حاله أكثر احتمالاً ممَّا لتلك المدينة”[12]، فقوله أكثر احتمالاً بيّن أنهم سيعاقبون ولكن عقابهم أخف وطأة لأنهم قد أوفوا جزائهم في هذه الحياة. إن بعض الناس لا يعانون أي متاعب هنا ولكن سيكون عليهم أن يتحملوا عقابهم كله أثناء دينونتهم في الآخرة. نتعلم من قصة هذا الرجل الغني الذي تحمل عذاب لا ينتهي في الحياة الآخرة ولم يحظى ولو بالمغفرة لأن عقابه كله قد حُفظ له للحياة الآخرة.
يوجد بين الخطاة البعض الذي لا يعاني أي متاعب هنا، فإنهم سوف يسلَّمون لعقوبة كبيرة في الآخرة. وأيضًا بعض الأبرار الذين يعانون المتاعب هنا، فإنهم سوف يتمتعون بتكريم ومجد عظيم في الآخرة. مثال ذلك أنه إذا كان هناك اثنان خطاة أحدهما عُوقب هنا والآخر لم يُعاقب، فإن الذي عُوقب هنا أسعد حالاً من الذي لم يُعاقب، وأيضًا بالمثل إذا كان هناك اثنان من الأبرار أحدهما تحمل متاعب كثيرة، والآخر أقل منه، فإن الذي تحمل المتاعب الكثيرة أسعد حالاً، “حينئذٍ يجازي كل واحدٍ حسب عملهِ”[13]. عندئذ قد يتساءل أحدكم هل لا يوجد من يتمتع بالراحة هنا وفي الآخرة؟ كلا أيها الإنسان… هذا مستحيل. فإنه من غير الممكن البتة أن يوجد في هذا العالم من يتمتع بالحياة المريحة وعدم الاحتياج، وباستمرار يُشبع رغباته بكل طريقة ويحيا حياة مستهترة بحماقة – من غير الممكن – أن يحظى بتكريم في الحياة الآخرة، فمن لم يضنيه الفقر فإن الشهوات (الرغبات) تقلقه وتصبح مصدر تعب وألم بالنسبة له. ومن لم يهدده المرض فإن عصبيته تزداد حدة ويحتاج لجهاد غير عادي ليتغلب على غضبه، ومن لم يُختبر بالتجارب فإن الأفكار الشريرة تهاجمه. إن كبح جماح الشهوات الحمقاء ليست بمهمة بسيطة، وأن نبطل المجد الزائف ونكبت التهور ونكف عن البذخ.
إن الذي لا يفعل مثل هذه الأشياء وغيرها لا يمكن أن يخلص. وكما يشهد الكتاب عن أن هؤلاء الذين يعيشون حياه باذخة لا يمكن أن يخلصوا، فلنسمع ما قاله بولس عن الأرامل: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية”[14]. إن كان هذا القول قيل عن المرأة الأرملة، فإنه ينطبق بالأكثر على الرجل وقد أوضح السيد المسيح أن الذي يحيا حياة متنعمة لا يقدر على الوصول إلى السماء عندما قال :“ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤَدّي إلى الحياة”[15]. قد يتساءل أحدكم كيف إذن قال: “لأن نيري هيّن وحملي خفيف”[16]. لأنه إن كان الباب ضيق والطريق كرب فكيف يقول عنه أيضًا أنه هيّن وخفيف؟ أنه يقول إن طبيعة التجارب نفسها شيء ولكن إرادة واشتياق المارون بها شيء آخر، فمن الممكن أنه حتى الأشياء الغير محتملة بطبيعتها تصبح هيِّنة إذا تقبّلناها باشتياق، تمامًا مثل الرسل الذين كانوا يُجلدون بقسوة ويعودون مبتهجين “وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسِبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمهِ”[17]. حقًا إن طبيعة العذاب عادة تجلب الألم والضيق، لكن إرادة هؤلاء الذين جُلدوا وعُذبوا قد انتصرت حتى على طبيعة ألم المعاناة، ولهذا يقول بولس: “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهدون”[18]. لذلك إن كان الناس يضطهدونا وإبليس يعلن حربه علينا، فإننا نحتاج للكثير من الحكمة والمثابرة والوقار واليقظة في الصلاة. ألا تشتهي بما يملكه الآخرون، بل نوزع ما عندنا على المحتاجين، أن ننبذ ونرفض البذخ سواء في الملبس أو الأكل، ونتجنب الجشع والسكر والخبث، ونسيطر على كلامنا، ونبعد عن الحب الخليع الذي لا يليق “ليُرفَع من بينكم كل مرارةٍ وسخطٍ وغضبٍ وصياحٍ وتجديف مع كل خبث”[19]. فلنمتنع عن الفكاهات والكلام المخزي، وهذا يتطلب جهد ليس بقليل، ولكي نتجنب هذه الأشياء ونتعلم مدى صعوبة أن تحيا بحكمة واتزان، ومدى سهولة حياة الرخاوة أسمع ما قاله بولس: “بل أقمع جسدي واستعبدهُ”[20]. فعندما قال ذلك أشار لمدى القوة والجهاد اللذان يجب أن يسلك بهما هؤلاء الذين يقمعون أجسادهم في كل شيء، وقد قال السيد المسيح أيضًا لتلاميذه: “في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا. أنا قد غلبت العالم”[21]. فقد قال إن الضيق سوف يؤدي إلى الراحة.
إن الحياة الحاضرة ما هي إلا حلبة مصارعة، فيها يتصارع المصارعون، والذي يريد أن يكلل بالنصر لا يستطيع أن يتمتع بالاسترخاء، لذلك فمن يريد الفوز بالإكليل عليه أن يختار الحياة الصعبة المجاهدة. وهكذا فإنه بعد جهاد لوقت قصير في هذه الحياة، سوف يتمتع بالمجد الأبدي في الحياة الآخرة. كم من العقوبات تواجهنا كل يوم؟ وكم تحتاج النفس للكثير كي تكف عن عدم الصبر وعدم الرضا… ولكي تقدم الشكر والمجد والتسبيح لله الذي سمح بهذه التجارب أن تجوز علينا؟ وكم من المصاعب الغير متوقعة التي تظهر؟ يجب علينا أن نقاوم الأفكار الشريرة، وألا نسمح للساننا أن يتفوه بأي كلمة خاطئة، تمامًا مثل أيوب البار، فبينما كان يعاني الكثير من البلايا كان يواصل باستمرار تقديم الشكر.
بعض الناس إن تعثروا أو افتُرى عليهم أو مرضوا بمرض مزمن مثل النقرس أو الصداع أو أي من هذه الأمراض، فإنهم على الفور يبدأون في التذمر مستسلمين لآلام المرض فيحرموا أنفسهم من فائدة احتمال المرض. ماذا تفعل أيها الإنسان؟ أتتذمر على جابلك الذي أحسن إليك، مخلصك، حافظك، حارسك؟ ألا ترى أنك بهذا تُسقط نفسك لمنحدر وتطرح نفسك في هلاك جهنم؟
فهل تذمرك هذا سيخفف من آلامك؟! في الحقيقة أنك تزيد من آلامك وتجعل محنتك أكثر ثقلاً. إذ أن إبليس يجلب العديد من البلايا من أجل هذا الهدف ذاته حتى يسقطك في هذه الحفرة. فإذا ما رآك تتذمر فإنه يسر ويزيد من معاناتك ويكثرها عليك. وكلما وخزك بالألم كلما يأست مره أخرى، ولكن إذا رآك تتحمل بشجاعة وكلما زادت معاناتك كلما قدمت الشكر لله، فإنه يرفع حصاره عنك في الحال مدركًا أن حصاره لك أصبح غير مجديًا.
عندما يقبع كلب بجانب المائدة إذا ما رأى أن الشخص الذي يأكل يلقي إليه باستمرار بفضلات الطعام من على المائدة فإنه يظل قابعًا بإصرار، ولكنه إذا جاء عند المائدة مرة أو مرتين ولم يتلقى شيء فإنه سيظل بعيدًا بعد ذلك ويعرف أنه لا فائدة. ونفس الشيء بالنسبة لإبليس فإنه باستمرار يحوم حولنا، وإذا ألقيت له (مثلما تلقي للكلب) بكلمات التذمر فإنه سيتلقفها ويهاجمك ثانية، ولكنك إن تذرعت بالصبر وواظبت على شكر الله فإنك بذلك تطرده بعيدًا وترده عنك. ولكنك قد تقول إنني لا أستطيع أن أظل صامتًا إذا ما أصابتني محنة. إنني بالتأكيد لا أمنعك من الصراخ، ولكن أشكر بدلاً من أن تتذمر، سبح بدلاً من أن تيأس، اعترف للرب، اصرخ إليه في صلاتك، اصرخ إليه عاليًا ممجدًا الرب، وبهذه الطريقة تهون محنتك، ونتيجة لشكرك فإن إبليس سوف يرتد للخلف وتنال معونة من الله، ولكنك إن تذمرت فسوف تُبعَد عن أي معونة من الله، ويزداد غضبه عليك، وتورط نفسك في مزيد من المعاناة، ولكنك إن شكرته سوف تطرد عنك كل مؤامرات إبليس الشريرة، وسوف تربح عناية الله وحمايته لك.
ومع ذلك إن اللسان على سبيل التعود غالبًا ما يبدأ في التفوه بمثل هذه الكلمات الخاطئة، فإذا ما بدأ وقبل أن ينبس بهذه الكلمات عُضّه بأسنانك بقوة، فإنه من الأفضل للسانك أن يسيل منه الدم الآن من أن يشتهي قطرة من الماء بعد ذلك لتريحه ولا يستطيع أن يحصل عليها، ومن الأفضل للسان أن يتحمل ألم وقتي من أن يعاني بعد ذلك من عذاب عقاب أبدي، كما اِحترق لسان الغني ولم يقدر أن ينال أي شيء يخفف من آلامه.
أتعصي الله الذي يحبك؟ إن الله يأمرك أن تحب أعدائك ويأمرك أن تحسن إلى مبغضيك وأن تبارك لاعنيك[22]. أكنت تلقي باللوم على جابلك وحافظك لو أنك لا تعاني أي متاعب؟ أنك تقول: ألم يكن قادرًا أن يجنبني هذه التجربة؟ لكنه سمح بها لكي يُصقِّل شخصيتك وتصبح أفضل، ولكنك تقول: لكن أنظر فقد سقطت وهلكت، إن هذا ليس بسبب طبيعة التجربة ولكن بسبب تهاونك. قل لي أيهما أسهل التذمر أم الشكر؟ ألا يجلب عليك التذمر كراهية سامعيك لأنك تطرحهم إلى اليأس والإحباط، وتسبب لهم الكثير من القلق والحزن، ولكن الشكر يعطيك أكاليل عديدة من الحكمة، وإعجاب من الجميع، ومكافأة عظيمة من الله. لماذا إذن تُهمل ما هو نافع وسهل ومبهج، وتتبع بدلاً منه ما هو ضار ومؤلم ومهلك؟ علاوة على ذلك إذا كانت تجربة الاحتياج والفقر هي السبب في التذمر، فإن كل هؤلاء المحتاجين والفقراء يتذمرون، ولكن في الحقيقة إن كثيرون من هؤلاء الذين يعيشون في فقر مدقع يقدمون الشكر باستمرار، بينما آخرون يتمتعون بالغني والرخاء لا يكفون عن التذمر. إذن ليس هذا بسبب طبيعة ظروفنا الخارجية، ولكنه اختيارنا نحن، إما أن نختار التذمر، وإما أن نختار الشكر. لهذا السبب أيضًا يجب أن نقرأ هذا المثل لكي نتعلم أن الغنى لا يفيد الإنسان المتهاون، ولا الفقر يضر بالإنسان المجاهد. ولكن لماذا أذكر الفقر فقط؟ فإنه حتى لو تجمعت كل شرور البشر، فإنها أبدًا لن تُهلك نفس الإنسان الحكيم الذي يحب الله، ولن تقنعه أن يكف عن الفضائل، ولعازر خير مثال على ذلك.
علاوة على ذلك فإن الإنسان العابث والفاجر لن يقدر أبدًا أن ينتفع بالثراء أو الصحة أو الرخاء الدائم أو أي شيء آخر. وعلى هذا فإننا نقول أن الفقر والمرض ودنو الخطر لا يجبرنا على التذمر. إنه ليس الفقر بل الحماقة، وليس المرض بل الغفلة، وليس دنوّ الخطر بل التسيُّب هم الذين يؤدوا بهؤلاء الغافلين إلى التذمر، وإلى كل الشرور الأخرى.
يسأل أحدكم ولكن لماذا يعاقب البعض هنا، والبعض يعاقب في الآخرة ولا ينال هنا أي عقاب على الإطلاق؟ لأنه لو كان الجميع يعاقبون هنا. كنا جميعًا نهلك، لأن جميعنا مستحقين العقاب. ومن ناحية أخرى، إذا لم يعاقب أحد هنا فإن جميع الناس سيصبحون غير مبالين، والكثيرون سوف يقولون أنه ليس هناك عقاب إلهي. لأنه على الرغم من رؤيتهم الآن للكثيرين من الآثمة يعاقبون هنا، فإنهم مع ذلك يتكلمون بمثل هذا الكلام من التذمرات، فإذا لم يكن الحال هكذا فلماذا لا يتكلمون بهذا (if this were not so, what would they not say)، وإلى أي مدى من الشرور كانوا سيصِلون؟ من أجل هذا السبب فإن الله يعاقب البعض هنا ولا يعاقب الآخر. أنه يعاقب ممن كَفُّوا عن طريق الشر، فيجعل من عقابهم في الآخرة أخف، أو حتى يعفوا عنهم تمامًا. وبعقابه لهؤلاء الناس فإنه أيضًا يُصلح من شأن هؤلاء الذين يعيشون في الشر. ومن ناحية أخرى فإنه لا يعاقب البعض الآخر لكي ما إذا رجعوا إلى أنفسهم وندموا تَرفق الله بهم، فإنهم قد يتخلصوا ويُعفُوا من العقاب هنا وفي الآخرة. ولكنهم إن استمروا في شرورهم معاندين تسامح الله، فإنهم بذلك قد يتحملون عذاب أعظم بسبب كثره ازدرائهم. وقد يقول أحد مدعي المعرفة أن عقاب هؤلاء به عدم إنصاف لأنهم قد يتوبوا، ولكننا نقول إن كان الله يعلم بسابق علمه أنهم سيتوبون ما كان عاقبهم، لأنه إن كان يترك هؤلاء الذين يعلم إنهم سيظلون على خطئهم ولا يعاقبهم في هذه الحياة، فإن كل الباقون الذين سيتركهم لعقاب الحياة الحالية وهم يعرف أنهم سيعملون على الإفادة من صبره ورفقه عليهم قد يستغلون ذلك في إرجاء وتأجيل توبتهم، ولكن واقع الأمر أنه يعاقبهم سلفًا. وذلك يجعل جزائهم في الآخرة أخف، وأيضًا بعقابه لهم يُصلح من شأن الآخرين.
لكن لماذا لا يفعل ذلك مع كل الخطاة؟ لأن الانتظار في خشية من شر مرتقب والخوف من العقاب الذي حلّ بآخرين، قد يجعلهم يصيرون أفضل، ويشكرون الله على صبره عليهم ويقدروا لطفه بهم فيكفّوا عن آثامهم. قد يقول أحد ولكنهم قد لا يفعلون ذلك أبدًا. إن هذا ليس معناه أن نلوم الله بل نلوم تهاونهم هم، إذ ليس لديهم الاستعداد للاستفادة بهذا العلاج القوي من أجل خلاصهم. ولكي نعلم أن هذه هي حكمته اِصغوا: عندما جاء قوم وأخبروا المسيح عن بيلاطس الذي خلط دماء أهل الجليل الذي قتلهم بدماء ذبائحهم، فأجاب يسوع وقال لهم: “أَتظنون أن هؤُلاء الجليلين كانوا خطاةً أكثر من كلّ الجليلين لأنهم كابدوا. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون”. وفي مرة أخرى قال نفس الشيء عن الثماني عشر الذي سقط بهم البرج في سلوام. إذ قال: “أَتظنُّون أن هؤُلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الساكنين في أورشليم. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون”[23]. وبهذا أوضح أن الأحياء أيضًا يستحقون نفس العقاب. ولكن الله سمح لهؤلاء أن يعانوا ذلك حتى إذا ما رأى الأحياء ما حدث للآخرين فإنهم يرتعبوا ويتوبوا، وقد يصبحوا وارثين لملكوت الله.
ماذا؟! يتساءل أحدكم هل يعاقب شخص لكي يجعلني أصير أفضل؟ لا ليس لهذا السبب لأنه يعاقب على خطاياه ولكن بالإضافة يصبح وسيلة للخلاص لهؤلاء المتنبهين له، فيجعلهم هذا يجاهدون أكثر خوفًا مما حدث له.
إن السادة أيضًا يفعلون نفس الشيء. فعادة عندما يضربون أحد الخدم فيجعلوا الآخرين يسلكون حسنًا تخوُّفًا من العقاب، إنك قد ترى أناس يعانون من الضياع أو تُحطم منازلهم أو الاحتراق حتى الموت، أو ينحرفون مع فيضان النهر، أو يفقدون حياتهم بأي شكل من هذه الأشكال القاسية، ثم ترى آخرون يقترفون نفس الآثام وربما أكثر منهم ولكنهم لا يعانون أي متاعب.
لا تدع هذا يُشوّش أفكارك، قائلاً: لماذا وهم يقترفون نفس الآثام لا يعانون نفس العواقب؟ ولكن فلتأخذ بعين الاعتبار أن الله يسمح لإنسان ما أن يذبل حتى الموت، فيهيأ له بذلك عقوبة أخف في الآخرة، أو حتى يعفو عنه كلية. ولكنه لا يسمح لإنسان آخر أن يعاني من أي شيء مثل هذا لكي يُعيد إليه إدراكه برؤيته لما حلّ بهذا الشخص من عقاب فتتاح له فرصة أن يصير للأفضل. ولكنه إذا ظلّ على نفس آثامه فسوف يجني على نفسه عقاب لا ينتهي بسبب تهاونه، ولا نستطيع أن نلوم الله على عقابه بهذه العقوبة الغير محتملة.
أيضًا قد ترى إنسان بار يُعاني محنة أو حتى كل المتاعب التي ذكرناها فلا ترثي له، لأن متاعبه هذه تهيأ له أكاليل براقة.
باختصار إن العقوبة إذا حدثت للخطاة فإنها تقلل من عبء الآثام عليهم، وإذا حدثت للأبرار فإنها تبهج نفوسهم. إذن إن احتمال الضيقات له فائدة عظيمة لكل منهم بشرط أن يتحملوها بشكر وهذا المطلوب. ولهذا السبب فإن التاريخ في الكتاب المقدس مملوء بالعديد من هذه الأمثلة، فنرى أن كل من الأبرار يعانون الضيقات. لذلك سواء كان الإنسان بار أم شرير، عليه أن ينتبه لهذه الأمثلة وأن يتحمل ضيقاته بشجاعة.
إن الكتاب المقدس يرينا أشرار منهم من كان في عوز شديد، وآخرون في رخاء ولكنك لا تغتر بثرائهم هذا إذ أنك تعلم مما حدث للغني، أيّ نيران تنتظرهم في الآخرة إذا لم يغيروا طريقهم. قد يتساءل أحدكم أليس بالإمكان الاستمتاع بالراحة لا هنا ولا في الآخرة؟ لا ليس هذا ممكنًا لأن البار يحيا حياة الجاهد.
يقول أحدكم ماذا عن إبراهيم؟ ألم يعاني العديد من البلايا؟ ألم يبعد عن وطنه؟ ألم يفترق عن عشيرته؟ ألم يتحمل الجوع في بلاد غريبة؟ ألم يتجول ويرتحل باستمرار من بابل إلى ما بين النهرين أو المصيصة Mesopotamia ومن هناك إلى فلسطين ومنها إلى مصر؟ ماذا يقول المرء عن فراقه لزوجته؟ وحربه مع البربر، وقتل وأسر أقاربه وأهله. وكثير من المصاعب الأخرى؟ وعندما استقبل ابنه، ألم يتحمل أقصى ما يمكن تحمله من كل المحن عندما أمر أن يضحي بيديه بابنه حبيبه الذي انتظره طويلاً؟
وماذا عن إسحق نفسه الضحية؟ ألم يُضطهد من جيرانه، ألم يفقد زوجته، وحُرم من الأبناء – مثل أبيه – لمدة طويلة؟
وماذا عن يعقوب؟ وهو الذي تربى في بيت أبيه، ولكن ألم يحتمل متاعب أكثر ثقلاً من جده؟ لن نسرد كل ما يتعلق به حتى لا نطيل الموضوع. اسمع ما قاله عن حياته كلها: “أيام سنيّ غربتي مائَة وثلثون سنة. قليلة ورديَّةً كانت سنيّ حياتي، ولم تبلغ إلى أيام سنيّ حياة آبائي في أيام غربتهم” (تك 9:47). ثم بعد أن رأى ابنه جالسًا على العرش الملكي متمتعًا بالمجد هل ينسى متاعب الماضي؟ فبرغم أنه اُبتلى بالكثير من البلايا، فإنه وهو في هذا الرخاء لم ينسى المتاعب التي مرت به.
وماذا عن داود؟ كم من المحن تحملها؟ ألم يتغنى بمثل ما تغنى به يعقوب: “أيام سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوة فثمانون سنة وأفخرها تعب وبلية” (مز 10:90).
وماذا عن إرميا؟ ألم يلعن يوم مولده بسبب توالي النكبات قائلاً: “ملعون اليوم الذي وُلِدت فيهِ. اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركًا” (إر 14:20).
وماذا عن موسى نفسه؟ ألم يقل في استيائه: “فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً[24].
وماذا عن إيليا؟ الذي أُصعد إلى السماء وانفتحت له أبواب السماء، ألم يستمر ينوح ويندب بعد كثير من المعجزات قائلاً: “قد كفى الآن يا ربُّ خذ نفسي لأنني لست خيرًا من آبائي”[25].
لماذا أذكر كل قصه من هذه القصص فإن بولس قد جمعهم كلهم متمعِّنًا فيهم وقال: “رُجموا نُشروا جُرِّبوا ماتوا قتلاً بالسيف طافوا في جلود غنمٍ وجلود ماعز معتازين مكروبين مُذَلّين. ولم يكن العالم مستحقًّا لهم”[26]0
وفي كلمة مختصره فإنه من الضروري لمن يرجو مسرة الله وأن يتنقى ليصير مقبولاً، ألا يحيا حياة الرخاوة والتهاون والتسيُّب والانغماس في الشهوات، لكن يحيا حياة الجهاد والكد والعرق، لكي ينال الأكاليل كما قال بولس: “وأيضًا إن كان أحد يجاهد لا يُكلَّل إن لم يجاهد قانونيًا”[27].
في موضع آخر يقول: “وكلُّ مَن يجاهد يضبط نفسهُ في كلّ شيءٍ”[28]. في الكلام والنظر، الامتناع عن الكلمات المخجلة والسباب والتجديف والفواحش، فإننا نتعلم من كلمات بولس أنه حتى لو كانت التجارب لا تأتي إلينا من الخارج، فإننا يجب أن نُدرب أنفسنا كل يوم على الصيام والتقشف والطعام البسيط والاقتصاد، متجنبين الإسراف وإلا فلن نرضي الله. يا ليت لا يقول لي أحد هذه الكلمات أن فلانًا وعِلانًا لديهم كل الأشياء جيدة في كل الأحوال”.
هذا لا يمكن أن يكون لهؤلاء الذين لديهم الغنى والترف مع الإثم. ولكن إذا كان من الممكن أن نقول هذا عن أحد فإننا نقوله عن هؤلاء المبتلين المكروبين، فإنهم هم الذين لديهم كل الأشياء الصالحة في كل من هذه الحياة وفي الحياة التالية. إذ سيكون لديهم كل الأشياء الرائعة في الحياة التالية عندما يستمتعون بمكافأتهم، ويكون لديهم أشياء رائعة في هذه الحياة، عندما يعيشون بأمل ما سيكون لهم من أشياء رائعة في الآخرة.
ولا يلقون بالاً بالمتاعب الحالية مترقبين الأشياء الرائعة الآتية. ولكن دعونا نستمع لما قاله إبراهيم: “بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ”[29]. وحسنا قال داود. “الأخ لن يفدي الإنسان فداءً ولا يعطي الله كفارةً عنهُ”[30]. فإنه هذا من المستحيل سواء كنت أخًا أو أبًا أو ابنًا. اُنظر لقد دعى إبراهيم الغني “ابني” وهو ليس بعد قادرًا على القيام بواجبات الأب، والرجل الغني نادى إبراهيم “يا أبي” وهو ليس بعد قادرًا على التمتع بالعطف الأبوي الذي ينتظره الابن.
إن هذا يعلمنا أنه لا القرابة، ولا الحب، ولا العطف، ولا أي شيء آخر يمكن أن يساعد إنسان ضلَّلته الحياة. إنني أقول هذا لأننا عندما ننصح كثير من الناس أن ينتبهوا لأنفسهم ويتجملوا بالرصانة فإنهم لا يبالون بالنصيحة ويسخروا منها قائلين: أنك سوف تكفلني في هذا اليوم أنا واثق من هذا وغير خائف. وآخرون يقولون أن أبي شهيد، وآخرون يقولون إن جدي أسقف، وآخرون يستشهدون بكل أفراد عائلتهم، ولكن كل هذه الدعاوي غير مجدية، إذ أن صلاح البعض لا يمكن أن يعيننا أو ينوب عنا في ذلك اليوم. تذكر هؤلاء العذارى الخمس اللاتي لم يشركن معهن الخمس الآخريات في زيتهن، فإن الأوليات دخلن مع العريس ولكن الآخريات ظللن خارجًا[31].
أعظم شيء أن يكون لك رجاء الخلاص بأعمالك أنت الصالحة، لأنه لن يكون هناك أبدًا صديق يتحمل عنا في الآخرة، ولهذا قال الرب لإرميا: “وأنت فلا تُصلِّ لأجل هذا الشعب”[32]. فحتى هنا وهم مازال لديهم إمكانية تغيير طرقهم فبالأحرى سيقول نفس الشيء في الآخرة.
ماذا تقول؟! إن أبوك شهيد. إن هذه الحقيقة سوف تدينك بالأكثر، لأن وإن كان هناك مَثل للصلاح في بيتك أفلا تعتبر نفسك غير مستأهل لصلاح أبوك؟ هل لديك صديق مخلص وشريف؟ أنه لن يستطيع أن يتحمل أو ينوب عنك في هذا اليوم. ماذا قال الله “اصنعوا لكم أصدقاءَ بمال الظلم حتى إذا فَنِيتم يقبلونكم في المظالّ الأبدية”[33]. ليست الصداقة هي التي سوف تَضمنك وتشهد لك، لكنها الصدقات.
فلو كانت الصداقة ذاتها – فقط – تستطيع أن تشهد لك فلم يكن هناك حاجة إلا أن يقول ببساطة: “اصنعوا لكم أصدقاء”، ولكن هكذا يوضح لنا أن الصداقة فقط لا تشهد لنا، وأضاف بمال الظلم لربما يقول أحد أنني أستطيع أن أصنع أصدقاء بدون مال، والصديق الحقيقي فعلاً ليس بالمال. ولكن لكي يعلمك أن إعطاء الصدقات وأعمالك الصالحة هي التي تشهد لك، أنه يحثك أن تكون لك الثقة ليس في صداقه القديسين ولكن في الصداقة التي تحصل عليها بالمال.
الآن – يا أحبائي – وقد علمتم كل هذه الأشياء ليتنا ننتبه لأنفسنا بكل تدقيق. فلو حلّ بنا عقاب فلنشكر، ولو عشنا في رخاء ورغد فلنحذر متذكرين في نفوسنا ما حلّ بالآخرين من عقاب، شاكرين دومًا مع التوبة والندم والاعتراف باستمرار، لو كنا قد تعدِّينا وخالفنا كل شيء في هذه الحياة الحالية، فلنطرح الإثم عنا ولنقهر الشيطان من حياتنا بكل حماسة، ولنطلب من الله أن يجعلنا مستحقين إذا ما تركنا هذه الحياة أن نذهب ليس حيث الرجل الغني ولكن حيث لعازر، فنتمتع بحضن أبو الآباء ونسعد بالأمجاد الأبدية.
ليتنا جميعا نبلغ ذلك، بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح له المجد مع الأب والروح القدس الآن وإلى دهر الداهرين آمين.
[1] Homer Iliad 9:491.
[2] لو24:16-26
[3] لو. 2:18-5
[4] أم 9:20
[5] رو3:2-5
[6] إش 1:40،2
[7] إش 12:26
[8] 1كو27:11-32
[9] 1كو5:5
[10] يو4:5
[11] لو5:9
[12] لو12:10
[13] مت27:16
[14] 1تي6:5
[15] مت14:7
[16] مت3:11
[17] أع41:5
[18] 2تي12:3
[19] أف31:4
[20] 1كو27:9
[21] يو33:16
[22] لو27:6،28
[23] مز10:89
[24] عد15:11
[25]1مل4:19
[26] عب37:11
[27] 2تي5:2
[28] 1كو25:9
[29] لو26:16
[30] مز7:49
[31] مت1:25-13
[32] إر16:7
[33] لو9:16
روجع
العظة الرابعة
للقديس يوحنا الذهبي الفم عن مثل لعازر والغني
اليوم يجب أن ننهي مثل لعازر، قد تظنون إننا قد أكملناه كله، ولكنني لن اَستغل عدم معرفتكم وأضللكم، ولن أتوقف حتى قبل أن آتي على كل شيء يمكن أن أجده، عندما يحصد الفلاح الكرمة فإنه لا يكف عن العمل حتى يقطع كل العناقيد. لأنه كما تختفي العناقيد تحت الأوراق، فإنني وبعد كل ذلك مازلت أرى حتى الآن بعض المعاني المحجوبة بين السطور حاضرة الآن.
فدعونا نحصد هذه أيضًا وكل ما فيها من معاني، مستخدمين هذه العظة بدلاً من منجل الحصاد. طالما تم حصاد الكرمة فإنها تصبح خالية من الفاكهة، بينما تظل الأوراق فقط. ولكن الكرمة الروحية في الكتاب المقدس الإلهي مختلفة، فإننا حتى لو أخذنا كل شيء يمكن أن نجده، فإن الجزء الأكبر يظل كامنًا (مختفيًا). وفي الواقع أن كثيرون قبلنا قد تكلموا في هذا الموضوع، وربما كثيرون بعدنا سوف يتكلمون فيه أيضًا، ولكن لن يكون هناك من يستطيع أن يفرغ كل ما يحتويه من غنى، وطبيعة هذه الغزارة أنك كلما تتعمق أكثر، كلما يتدفق أكثر وأكثر إذ أنه ينبوع لا ينضب.
كان من المفروض أن نفيكم بهذا الجزء في اللقاء السابق، ولكننا رأينا أنه ليس من اللائق أن نتغاضى عن الأعمال الصالحة للبار بابيلاس والشهيدان التقيان اللذان كانا معه[1]. لذا أرجئنا هذا الجزء لنفيكم به اليوم. إننا قد قمنا بعمل التمجيد الواجب لهم على قدر استطاعتنا، وليس بقدر استحقاقهم الفعلي.
تعالوا إذن لنقدم لكم ما يتناسب مع هذا الموضوع، ولن نأخذ راحة حتى نصل إلى النهاية، سوف نستأنف العظة من حيث توقفنا مؤخرًا. أين توقفنا؟ عند الهوة العظيمة التي تفصل بين الأبرار والخطاة. عندما قال الغني “أرسل لعازر” ورد عليه إبراهيم “بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا”[2]. وقد أوضحنا بالتفصيل أن وفقًا لمحبة الله ورحمته، يجب أن يكون لنا الرجاء في الخلاص بواسطة أفعالنا الصالحة، بدون الاعتماد على آبائنا وأجدادنا أو أصدقائنا وأهلنا وجيراننا، إذ أن “الأخ لن يفدي الإنسان فداءً ولا يعطي الله كفارةً عنهُ”[3]. مهما كانت التوسلات والتضرعات التي يقدمها هؤلاء (عن؟؟) الذين رحلوا عن هذه الحياة وهم خطاة، فمن ذلك الوقت كل ما يسألونه بغير طائل وغير مجدي.
إن العذارى الجاهلات طلبن إلى العذارى الحكيمات زيتًا، ولم يستطعن أن يحصلن عليه. إن الإنسان الذي طمر وزناته في الأرض بالرغم من تعلُّله بأعذار كثيرة، إلا أنه قد أدين، وأيضًا هؤلاء الذين لم يطعموه وهو جائع ولم يسقوه وهو عطشان، وقد ظنوا أنه يمكن أن يعفي عنهم، على أساس عدم معرفتهم، لكن لا عفو ولا تسامح سوف يمنح لهؤلاء[4].
وآخرون لن يكون لديهم ما يقولونه، مثل هذا الرجل الذي كان يلبس ثوب العرس، عندما استدعى للسؤال ظلَّ صامتًا[5]. ليس هذا الرجل فقط ولكن أيضًا الآخر الذي تذكر دين زميله العبد وطالبه برد المائة دينار، عندئذ أدانه سيده بشدة، وعندما سأل لم يكن لديه ما يقوله[6].
من كل هذه الأمثلة يتضح أنه لن يفيدنا شيء في الآخرة إلا أعمالنا الصالحة، سواء توسلنا أو تضرعنا أو ظللنا صامتين، فبالرغم من ذلك فإن حكم العقوبة والجزاء سوف يُطبق علينا.
فلنستمع – لذلك فإن هذا الرجل الغني قد التمس شيئان ولكنه عجز عن الحصول على أي منهما، أولاً: فإنه توسل من أجل نفسه عندما قال: “أرسل لعازر”، ثم بعد ذلك توسل ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل إخوته، ولكنه لم ينال أي طلب منهما. إن الطلب الأول كان غير ممكنًا، ولكن الطلب الثاني وهو من أجل منفعة إخوته لم يكن له ضرورة. على أي حال إذا سمحتم فلننصت بانتباه لمعنى الكلمات – عندما يأتي الحاكم برجل مُدان في منتصف الساحة وجمع الناس حوله، واِبتدأ في استجواب الرجل المذنب، فإن الجميع يتسارعون متلهفين لسماع ماذا يسأل القاضي، وبماذا يرد المتهم، فإن الكثير سوف يسمع في هذه الحالة. ماذا يطلب هذا المتهم (أقصد الرجل الغني) وماذا يجيب عدالة القاضي من خلال إبراهيم، أنه ليس أبو الآباء هو الذي يحاكم برغم أنه هو الذي ينطق بالكلمات.
في الساحة الخارجية للمحكمة في عالمنا هذا عندما يحاكم البعض مثل اللصوص والقتلة، فإن القانون يحتم أن يكونوا بمنأى عن نظر القاضي، ولا يُسمَح لهم أن يسمعوا صوته (يجعلوهم بذلك في خزي وعدم احترام مثل الآخرين)، ولكن هناك رسول يحمل أسئلة القاضي وإجابات المتهم.
وهذا ما يحدث أيضًا فإن الإنسان المذنب لا يسمع الله يكلمه، ولكن إبراهيم هو الرسول الذي ينقل كلام القاضي إلى المتهم (المُدان)، ولا يقول ما يقوله من واقع سلطته هو، ولكن يقرأ القوانين الإلهية بالنسبة للإنسان، ويتكلم بما جاء إليه من فوق منكرًا نفسه، لهذا لم يستطع الرجل أن يجيب.
دعونا نستمع جيدًا وباهتمام لما قيل. إنني سوف أتريث في هذا المثل قاصدًا ذلك، ولن أتركه بالرغم من أن هذا هو اليوم الرابع، إذ أنني أرى فائدة عظيمة تتحقق من هذا الموضوع لكل من الغني والفقير، وأيضًا لهؤلاء الذين يزعجهم نجاح الأشرار وفقر ومتاعب للأبرار، فلا شيء يعثر ويصدم الكثير من الناس أكثر من واقع أن الناس الأغنياء الذي يعيشون في الخطيئة، هم الذين يتمتعون بالكثير من وفرة الحظ، بينما الناس الأبرار الذين يحيون بالتقوى يُعانون الفقر المدقع، ويتحملون الكثير من المتاعب، ربما أسوأ من الفقر ذاته. ولكن هذا المثل كاف لتزويدنا بالعلاج الشافي للغني لكي يضبط نفسه، وللفقير فيواسيه.
إنه يعلِّم الأول ألا يغترّ بينما يعين الفقير على تحمل وضعه الحالي، إنه يحذر الغني أن يتفاخر فإنه لم يوفي شيء جزاء شروره في هذه الحياة، لأن عقاب أليم ينتظره في الآخرة، ويدعو الفقير ألا يضطرب من نجاح الأشرار، فلا تعتقد أن شئون البشر بدون عدل إلهي، عندما يصير الإنسان التقي في أحوال سيئه في هذه الحياة، والإنسان الشرير والسيء يتمتع بنجاح دائم، الاثنان سوف يتلقيان ما يستحقان من جزاء في الآخرة، أحدهما سوف ينال إكليل على صبره ومثابرته، والآخر سوف يجد عقاب وعذاب على شروره.
أيها الأغنياء والفقراء انقشوا هذا المثل، أنتم أيها الأغنياء انقشوه على جدران منازلكم، وأنتم أيها الفقراء انقشوه على قلوبكم، فإن محاه النسيان انقشوه مرة أخرى في ذاكرتكم، وبالأحرى يا أيها الأغنياء انقشوه على قلوبكم، فإن محاه النسيان انقشوه مرة أخرى في ذاكرتكم، فتحملونه معكم دائمًا فيكون بمثابة مدرسة لكم، وأهم درس من كل دروس الفلسفات.
فإذا كنا نحفر هذا في قلوبنا فإنه لا مباهج هذه الحياة تستطيع أن تغرينا، ولا أحزانها تثبِّط من عزيمتنا وتطرحنا لليأس، ولكن نتصرف حيال كليهما طبقًا لما هو منقوش على جدران قلوبنا. وهكذا عندما نرى الغني والفقير فإننا لا نحسد الأول، وأيضًا لا نحتقر الفقير لأن ما نراه إنما هو خيال وليس الحقيقة الواقعة، فلو علمنا طبيعة حقيقة الغنى والفقر – المجد والخزي، كل ما هو براق وكل ما هو مظلم – فإننا سوف نتخلص من كل ما يحدثه كل منهما من قلق لنا، فكل هذه الأشياء ما هي إلا خيالات خادعة. إن الشخص النبيل ذو الروح الشامخة لن يغتر بأي من هذه الأشياء البراقة المزدهرة، ولن ييأس بسبب الظروف المتواضعة والحقيرة.
الآن حان وقت لنستمع لبقية كلمات الرجل الغني “أسألك إذًا يا أَبَتِ” أنه يقول ما يعني – أتوسل – اَلتمس – أتضرع – “أن ترسلهُ إلى بيت أبي. لأن لي خمسة إخوة. حتى يشهد لهم لكيلا يأْتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا”[7]. ولأنه قد أخفق في أن يحصل على طلبه من أجل نفسه، فقد قام بالتوسل من أجل مصلحة الآخرين. انظروا كم هو أصبح محب وعطوف نتيجة لما لاقاه من عذاب الرجل الذي ازدرى لعازر وهو موجود أمامه، أصبح الآن يهتم بالآخرين وهم غير موجودون، الرجل الذي أهمل من كان يراه راقدًا أمام عينيه، الآن أصبح يتذكر هؤلاء الذين لإبراهيم، ويتوسل بكثير من الحماس والاحترام لكي ما يكون لديهم شيء من التبصر ويتجنبوا العواقب الوخيمة التي سوف تقع عليهم.
إنه اِلتمس أن يرسل لعازر إلى بيت أبيه حيث المكان والساحة التي مارس فيها لعازر الفضائل، فكأنه يقول “اِجعلهم يرونه وهو مكلل بالنصرة”. الذين رأوه وهو يجاهد، شهود فقره وجوعه ومتاعبه العديدة، دعهم يصبحون هم شهود تكريمه وتحوُّله لكل هذا المجد، وهكذا بما أنهم قد تعلموا وأدركوا من كلاً من هاتين الحالتين أن أحوالنا لا تقف عند حد هذه الحياة، فربما يعدون أنفسهم لكي ما يستطيعوا أن ينجوا من عقاب وعذاب الآخرة. وهكذا ماذا كان رد إبراهيم؟ قال: “عندهم موسى والأنبياءُ. ليسمعوا منهم”[8].
فإنك لا تهتم بإخوتك بقدر ما يهتم بهم الله، فلقد أقام عديد من المعلمين (الأنبياء) ليعلموهم وينصحوهم ويذكرونهم. فماذا كان رد الرجل الغني؟ قال: “لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون”[9]. إن هذا ما يقوله معظم الناس. الآن أين هم الذين يقولون “من يأتي من العالم الآخر؟” “من يبعث من الموت”، من يخبرنا عما يحدث في الجحيم؟”
كم من مِثل هذه الأسئلة كثير ما تسائلها الرجل الغنى في نفسه عندما كان يعيش متنعمًا؟ أنه ببساطة لن يتساءل حتى عمن بعث من الموت؟ فإنه عندما كان يسمع أقوال الكتاب المقدس كان يتعامل معها بازدراء ويسخر منها ويعتبرها مجرد قصص، لهذا فإنه من واقع خبرته الشخصية مع نفسه قد كوّن رأي عن إخوته، فقال: “إنهم أيضًا” يظنون نفس الظنون (يفكرون بنفس الطريقة)، ولكن إن ذهب إليهم أحد الأموات فإنهم لن يُكذبوه ولن يسخروا منه ولكنهم سوف يعيرون لكلامه الانتباه. ولكن بماذا رد إبراهيم؟ “إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياءِ ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقون”[10].
ولقد أثبت اليهود صحة هذا، فإن من لا يستمع للكتاب المقدس لن يستمع حتى للذين يُبعثون من الموت. وإذ أنهم لم يستمعوا لموسى والأنبياء، فإنهم لم يصدقوا أيضًا عندما رأوا بعض الموتى قد قاموا. وعلاوة على ذلك، فإنهم في وقت ما حاولوا قتل لعازر “فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا”[11].
وفي وقت آخر اعتدوا على الرسل، مع أن كثيرون من الموتى قد قاموا ساعة تسليم الروح على الصليب، “والقبور تفتَّحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين”[12]. ولكي ما نتعلم سبب آخر كيف أن التعلم من الأنبياء هو أكثر أهمية وأكثر مصداقية من كل ما قد يخبر به هؤلاء الذين يبعثون من الموت. ولنأخذ في عين الاعتبار أن كل شخص ميت ما هو إلا خادم، ولكن كل ما يقوله الكتاب المقدس إنما هو قول الرب، لهذا حتى وإن قام أحد الأموات، أو حتى نزل ملاك من السماء، فإن الكتاب المقدس هو الأجدر بالتصديق أكثر من أي منهما، إذ أن رب الملائكة، وإله الأموات والأحياء، هو بذاته الذي أعطى للكتاب المقدس مصداقيته وسلطانه.
بجانب ذلك وإضافة لما ذكرناه، إننا نستطيع أن نثبت بالمقارنة لما يحدث من أحكام (قوانين) المحاكم في هذا العالم، إن هؤلاء الذين يطلبون أن يأتي الأموات من العالم الآخر فإنما هم يطلبون شيء لا لزوم له. إن الجحيم لا يتضح لعديمي الإيمان، ولكنه واضح وجليّ للمؤمنين، ولا يزال غير واضح لغير المؤمنين. إن أحكام المحاكم واضحة، ونحن نسمع كل يوم عن أن هناك من عُوقب، وآخر صودرت أملاكه، وآخرون حُكم عليهم بالعمل في المناجم، وآخرون قد أُحرقوا حتى الموت، وآخرون أُهلكوا بأنواع أخرى من العقوبات والعذابات. ومع ذلك وبالرغم من أن الأشرار والأثمة والمشعوَذين قد سمعوا عن هذه العقوبات فإنهم لم يرتدعوا.
ما أريد قوله هو أن هؤلاء الذين لم يختبروا فعلاً هذه العقوبات لم يعودوا إلى طريق الصواب. وفي الواقع وعجبًا فإن كثيرون من الذين قبض عليهم وأَفلتوا، والذين استطاعوا أن يهربوا من السجن قد عادوا ثانية لنفس أسلوب حياتهم، وربما ارتكبوا جرائم أكثر من قبل. لهذا دعونا لا نطلب أن نسمع من الأموات، لأن ما يعلمنا إيّاه الكتاب المقدس ينيرنا كل يوم أكثر وأكثر. لأن لو علم الله أن من يقومون من الأموات يستطيعون أن يساعدوا الأحياء، وهو الذي قد صنع كل شيء من أجل منفعتنا، ما كان ليغفل أو يهمل مثل هذه الفائدة لنا. علاوة على ذلك، لو أن الأموات أصبحوا يُبعثون من الموت باستمرار ويخبرونا عن كل شيء في العالم الآخر، فسيأتي وقت نصبح فيه لا نلقي بالاً حتى لهذا.
بالإضافة إلى ذلك فإن إبليس سوف يُدخل تعاليمه الشريرة بكل سهولة، وقد يظهر أشباح (شياطين)، وقد يستطيع حتى أن يُعد أشباح تتظاهر بالموت والدفن، ثم يظهرها مرة أخرى وقد قامت من الموت، وعن طريقها يجعل كل ما يريده موثوق به ويمكن تصديقه في عقول هؤلاء الذين انخدعوا.
ومع أي شيء من هذا لم يحدث، فإن الأحلام التي يظهر فيها بشبه الذين رحلوا عادة ما تضلل وتخدع كثير من الناس، وسيضلهم هذا أكثر لو أن هذا حدث واقتنعت به عقول الناس. فلو عاد الكثير من الراحلون ثانية، فإن الشياطين الشريرة سوف تحيك العديد من الخدع لكي ما تدخل الأكاذيب في حياتنا، لهذا السبب إن الله قد أغلق الأبواب ولم يسمح لأي أحد من الراحلين أن يعود ويخبر بما يحدث في الآخرة، خشيه أن يتخذ الشيطان هذا كنقطة بداية لإدخال تعاليمه. فعندما كان يوجد الأنبياء أقام هو أنبياء كذبة، وعندما وجد الرسل أقام هو رسل كذبة، وعندما ظهر المسيح أقام هو مسيح كاذب.
وعندما نوديَ بالتعاليم الصحيحة أدخل هو التعاليم الفاسدة، وبذر الزوان في كل مكان[13]. لذلك فلو أن هذا قد حدث فإنه كان سيحاول أن يحاكيه أيضًا بواسطة حيله، وليس بإقامة الموتى حقيقة، ولكن بخداع النظر للناظرين بأنواع من خدعه السحرية والصور المضللة للبصر، أو كما ذكرنا من قبل يرتب بطريقة ما لبعض الناس أن يدعوا الموت، وبهذا يقلب كل شيء رأسًا على عقب مسببًا تشويه كُلّي.
لكن الله وهو يعلم كل هذه الأشياء بسابق علمه قد منع هذه الهجمة، ولكي يجنبنا هذا فإنه لم يسمح لأي أحد أن يأتي من العالم الآخر ويتحدث بما هناك للأحياء. وبهذه الطريقة يعلمنا أن نعتبر أن الكتاب المقدس هو الأجدر بالثقة من كل هذا. إذ أنه أرانا الأعمال التي هي أكثر إقناعًا بكثير من بعث الموتى. فقد هدى العالم كله مبغضًا الشر مدخلاً الحق، وقد فعل كل هذا بصيادي سمك بسطاء، ومنحنا في كل مكان أدلة كافية على عنايته الإلهية. لذلك ليتنا لا نعتقد أن شئوننا تنتهي مع هذه الحياة الحالية، ولكننا نثق أنه سيكون هناك يوم للحساب والمجازاة عن كل ما يحدث هنا بيننا. وهذا واضح وجليّ لكل الناس حتى لليهود والوثنيون والهراطقة وكل نفس بشريه تقر بذلك. ولو أنه في الواقع ليس الجميع مُدْركين موضوع بعث الموتى بطريقة صحيحة، ولكن الكل متفق على موضوع الحساب والثواب والعقاب، وعلى المحاكمة في العالم الآخر، وأن هناك مجازاة في الآخرة لما فُعِل هنا.
ولو كان الأمر ليس كذلك فلماذا أقام السموات العظيمة، وبسط الأرض تحتها، ومدَّ البحار، وجعل الهواء يتدفق، مبرهنًا على العناية الإلهية عازمًا على حمايتنا حتى النهاية؟ ألا ترى الكثيرون ممن رحلوا بعد حياة حافلة بالتقوى وتحمل الضيقات دون أن ينالوا أي من الأشياء الجيدة التي يستحقونها. ومن ناحية أخرى آخرون يرحلون بعدما يرتكبون الشرور ويسرقون أشياء الآخرين ويسلبون ويظلمون الأرامل والأيتام ويستمتعون بالثراء والرفاهية وأشياء عديدة جيدة بدون أن يعانوا حتى من المتاعب العادية. لذلك فمتى كان الناس من النوع الأول سوف يتلقون جزاء تقواهم، والناس من النوع الآخر سوف يعاقبون على شرورهم.
لو أن شئوننا تقتصر فقط على حياتنا الحالية، كل شخص سوف يقول: لو أن الله موجود (وهو بالحقيقة موجود) فإنه عادل، ونقر جميعًا على أنه عادل، لذا فإنه سيجازي الجميع كل حسب ما يستحقه، سيجازي الأبرار والأشرار حسب استحقاقهم، ولكن في هذه الحياة الحالية لن يتلقى أي منهما ما يستحقه، فلا عقوبة لهؤلاء الأشرار على شرورهم، ولا مكافأة للأبرار على برهم. ومن هنا يتضح أن هناك وقت آخر فيه سوف ينال كل منهم الجزاء المناسب.
لماذا يرتبط الله في أذهاننا بشيء دائم اليقظة والتعقل، أعني به الضمير؟ وليس هناك قاضي البتة يحكم بين الناس أكثر يقظة كضميرنا. فإن القضاة الخارجيون يمكن أن يفسدهم المال، أو أن يتأثروا بالتملق، أو بدافع الخوف يصدرون أحكام خاطئة ومزورة، وعوامل أخرى كثيرة تفسد قراراتهم الصحيحة. ولكن محكمة الضمير لا تخضع لأي من هذه المؤثرات سواء رشوة أو تملق أو تهديد، فهذه المحكمة تصدر حكمًا عادلاً على نوازعك الآثمة.
فالذي يقترف خطيئة سيدين نفسه بنفسه حتى ولو لم يتهمه أحد ولا يفعل ذلك مرة أو مرتين ولكن دائمًا وباستمرار طوال حياته كلها. وحتى لو مر وقت طويل فإن الضمير لا ينسى أبدًا ما حدث، ولكن حتى أثناء ارتكاب الخطأ وقبل وبعد ارتكابه فإن الضمير يقف أمامنا يتهمنا بقوة، كمدعي قوي عنيف وخاصة بعد ارتكاب الخطأ، إذ أنه أثناء ارتكاب الخطيئة نكون في غير كامل إدراكنا لأننا نكون مخمورين بنشوة المتعة، ولكن بعد فعلها ونهايتها وخاصة بعد أن تخمد وتنطفئ المتعة، عندئذ يأتي الوخز ومرارة الندم،
وهذا تمامًا عكس المرأة وهي في المخاض فقبل الولادة تعب كثير غير محتمل وآلام مبرحة تعذبها ومعاناة، ولكن بعد الولادة تأتي الراحة عندما يولد الطفل بعد هذا العناء، ولكن في حاله الخطيئة فالأمر مختلف، فبينما نحمل ونتمخض بالرغبات الفاسدة فإننا ننهل من المتعة والاستمتاع، ولكن إذا ما ولدنا طفل الخطية – خطيتنا – فإننا نعاني من رؤية هذا النتاج المخجل (ذريتنا المخجلة). عندئذ نتعذب ونتوجع أكثر من عذاب المرأة في المخاض.
لهذا السبب فإنني أتوسل إليكم ألا نتقبل الرغبات الفاسدة من لحظات بدايتها، ولو تقبلناها يجب أن نقمع بذورها داخلنا، ولكن إن كنا نتراخى إلى الحد الذي تنطلق فيه الرغبات الخاطئة إلى الفعل، فإننا يجب أن نقتلها بالاعتراف والدموع وتبكيت نفوسنا، فلا شيء يُميت الخطية مثل اتهامنا وإدانتنا لأنفسنا بالتوبة والدموع.
هل تدين نفسك؟ أنك بذلك تطرح عنك حمل ثقيل، الذي يقول ذلك هو الله بذاته الذي يحاكمنا: “ذَكِّرني فنتحاكم معًا. حدِّث لكي تتبرَّر”[14]. قل لي لماذا تخجل أو تستحي من الاعتراف بخطاياك؟ أنك لا تتحدث إلى شخص بشري، لأنك لو تحدثت إلى شخص بشري أليس من الجائز أن يؤنبك؟ وإن اعترفت لتابعك أليس من الممكن أن يفضحك بكشف شرك؟ لا، ولكن الأصح أن تعترف للسيد الرب فهو يحميك ويساندك، فهو الطبيب المتخصص تُريه جراحك وهو ليس بغافل، أو غير مبالي، أليس هو عالم بكل شيء قبل أن يحدث حتى ولو لم تعترف به؟ لذلك لماذا لا تعترف؟ إن الخطية لن تصبح أكثر ثقلاً مما هي بإدانتك لنفسك، أهل إدانتك لنفسك ستجعل الخطيئة أكثر ثقلاً؟ على العكس فإنها ستصبح أسهل وأخف.
لهذا السبب هو يريدك أن تعترف ليس من أجل أن يعاقبك ولكن لكي يسامحك ويغفر لك، وليس من أجل أن يعرف خطاياك – كيف هذا وهو العالم بكل شيء فعلاً – ولكن لكي تعلم مدى كبر حجم الدين الذي يسامحك فيه، فإنك لو لم تعترف بكبر حجم ديونك لن تكتشف مدى كثرة فيض نعمته عليك. وهو يقول لنا أنا لا أرغمك أن تأتي إلى وسط ساحة مسرح أو مكان به شهود كثيرون يحيطون بك، ولكن حدثني بخطاياك في السر، وبهذا أستطيع أن أداوي جراحك وأريحك من آلامك، ولهذا السبب فإنه وضع فينا ضميرًا محبًا أكثر من حب الأب لأبنائه.
إذ أن الأب قد يُعنِّف ابنه مرة أو اثنين أو ثلاثة أو حتى عشرات المرات، ولكنه عندما يرى ابنه مازال مستمرًا في الخطأ فإنه ييأس منه ويحرمه من الميراث، ويطرده من منزل الأسرة ويبعده عن العائلة. ولكن الضمير لا يفعل ذلك، فهو يبكتك مرة واثنين وثلاثة ومرات لا تحصى ولا تعد، وأنت لا تعيره انتباهًا، وهو لن يكف عن تبكيتك ثانية، ولن يتوقف حتى النفس الأخير، في المنزل، في الشارع، على المائدة، في الأسواق، في الطريق، حتى في أحلامنا العادية يواجهنا بصور ومناظر خطايانا.
تأمل حكمة الله كيف أنه لم يجعل تبكيت ضمائرنا مستمر – فما كنا سنتحمل ثقل عبء التأنيب المستمر – ولا جعله ضعيفًا بحيث يستسلم ويكف بعد مرة أو مرتين من النصح والتحذير. فلو أنه يظل ينخسنا كل يوم وكل ساعة كانت عزيمتنا ستثبط، ولو أنه يكف عن تأنيبنا بعد مرة أو مرتين من التأنيب ما كنا نجني أي فائدة. لهذا السبب جعل هذا التأنيب على فترات ولكنه ليس مستمر، بل على فترات بحيث لا نسقط في عدم المبالاة ولكي نظل دائمًا متمسكين بالرزانة واليقظة حتى النهاية. وليس باستمرار أو على فترات متقاربة بحيث نفشل، ولكن يتيح لنا أن نسترد أنفاسنا في فترات من الراحة والتعزية.
وكما أنه من المهلك لنا ألا نعاني أي ألم بسبب خطايانا، ويتسبب ذلك في تبلد الإحساس إلى حد كبير، فإنه أيضًا من الضار أن نعاني هذا باستمرار وبلا حدود. إن تثبيط العزيمة الزائد عادة يكون له تأثير قوي في أن يخمد أحاسيسنا الفطرية ويطفئ أرواحنا ويجعلنا عديمي الجدوى لأي هدف صالح. لهذا السبب جعل تأنيب الضمير يهاجمنا على فترات، فهو شديد جدًا ووخزه أكثر إيلامًا من وخز المهماز، ليس فقط عندما نخطئ نحن، ولكن حتى عندما يرتكب الآخرون خطايا كخطايانا فإنه يستيقظ بقوه ويصرخ محتجًا علينا بشدة.
إن الفاسق أو الزاني أو اللص ليس فقط عندما يُتَهم هو، ولكن حتى عندما يسمع عن آخرين متهمين بنفس الجرائم، يتخيل نفسه في نفس القصاص عن خطاياه، فيأخذ عبرة من عقاب الآخرين، وآخر قد أدين، ولكن هذا الذي لم يدن يضطرب لأنه تجرأ وفعل نفس خطاياه، وهذا أيضًا في حالة الأعمال الصالحة عندما ينال البعض الثناء والتكريم، فإن هؤلاء الذين فعلوا نفس الأعمال الصالحة يبتهجون ويفرحون متصورين أنفسهم في نفس هذا التكريم. هل تعتقد أن هناك من هو أكثر بؤسًا من هذا الخاطئ الذي عندما يرى آخرين اتهموا يتسلل هاربًا ليختبئ؟ وعلى الجانب الآخر هل هناك من هو أكثر سعادة من الشخص البار عندما يرى أبرارًا آخرين يُكرَّمون؟ فإنه يبتهج ويفرح متذكرًا أفعاله الصالحة في وسط الفرح والتهليل بالآخرين.
هذه هي أعمال حكمة الله، وهذه هي دلائل عنايته العظيمة بنا. إذ أن العقاب هو نوع من اليقظة المقدسة لضمائرنا. الضمير الذي لا يدعنا نخوض إلى عمق الخطية، ليس فقط في وقت الخطية الفعلي، ولكن حتى بعد فوات سنوات عديدة.
فإنه غالبًا ما يجد طريقة ليذكرنا بخطايانا القديمة. وسوف أعطيكم أدلة واضحة من الكتاب المقدس، إخوة يوسف عندما باعوه مع أنهم لم يستطيعوا أن يلوموه على شيء سوى أنه رأي أحلامًا تتنبأ بالمجد الذي سيكون عليه. فقد قال: “فها نحن حازمون حًزَمًا في الحقل. وإذا حزمتي قامت وانتصبت فأحاطت حزَمكم وسجدت لحزمتي[15]. وفي الحقيقة كان الأجدر بهم أن يحرسوه ويحموه لهذا السبب، إذ أنه كان سيصبح تاج هذه العائلة وفخر كل جنسهم، لكن هذا هو الحسد فإنه يحارب حتى الخير الذي يمكن أن يصيبه هو. إن الشخص الحسود يُفضل أن يعاني متاعب لا حدود لها عن أن يرى جاره في مكانة مرموقة، حتى لو كانت هذه المكانة المرموقة ستعد عليه بالنفع،
من هو أكثر سوءًا من هذا الشخص؟ وهذا هو ما أحس به إخوة يوسف عندما رأوه آتيًا من بعيد حاملاً الأكل لهم، قال بعضهم لبعض: “هلمَّ نقتلهُ ونطرحه في أحد الآبار ونقول أن وحش رديء أكلهُ. فنرى ماذا تكون أحلامهُ”[16]. إنهم لم يراعوا علاقة الإخوَّة ولا علاقة القرابة، فكانوا على الأقل قدّروا إحضاره الطعام لهم بنفسه، وشخصيته الباذلة والخادمة لهم. ولكن اُنظر كيف أنهم نطقوا بدون وعي “هلمَّ نقتلهُ… فنرى ماذا تكون أحلامهُ”.
ولو أنهم لم يدبروا له هذه المكيدة ويحبكوا له هذه المؤامرة وينفذوا هدفهم المخجل ما كانوا عرفوا قوه أحلامه هذه، وهو نفسه ما كان جديرًا بأن يعتلي عرش مصر بدون هذه المتاعب والمعاناة، حتى يصل إلى هذه المكانة الرفيعة من خلال العديد من العقبات والعوائق، ولو أنهم لم يدبروا هذه المكيدة ضده ما كانوا باعوه لمصر.
ولو لم يبيعوه لمصر ما كانت زوجة سيده وقعت في حبه، وما كان أُلقي في السجن، وما كان فسّر أحلام فرعون، وما كان حصل على هذا السلطان الملكي، ولو لم ينال هذا السلطان الملكي ما كان إخوته انحنوا له عندما جاءوا ليشتروا القمح، ولأنهم قد حاولوا قتله فقد أدركوا مدى قوة أحلامه لهذا السبب نفسه.
وماذا بعد ذلك؟ ألم يصبحوا هم أنفسهم العوامل التي أدت إلى كل الأشياء العظيمة والمكانة الرفيعة التي نالها؟
وعلى قدر ما خططوا له من شر ليسلموه للموت، للبيع، للعبودية ولأسوأ مصير، لكن الله المحب، البارع في تدابير الخير استعمل المتآمرين وخططهم الشريرة لبيعه من أجل خيره. هل كان أحد يعتقد أن هذه الأشياء تحدث من خلال بعض المصادفات والظروف المعاكسة[17]. وبنفس هؤلاء الرجال الذين حاولوا منعها وإعاقتها أتم الله الأمور التي حاولوا منعها مستخدمًا أعداء يوسف كخدام عاملين لمصلحته.
من هذا نتعلم أن ما دبره الله لا يستطيع أحد أن يبطله “فإن رب القدير قد قضى، فمن يبطل قضاؤه؟ ويدهُ قد امتدت فمن يردُّها؟”[18]. لذلك إن تآمر الناس عليك لا تيأس ولا تنزعج، لكن تذكر أن المؤامرات والمكائد تؤدي إلى الخير في النهاية، هذا إذا تحملت كل ما يحدث لك بشكر.
وهكذا ترى أنه حتى في هذا العالم، الحسد يؤدي إلى كرسي الملك، والحقد يقود إلى التاج ويمنح العرش. ونفس الرجال الذين تآمروا ضد يوسف قد دفعوه لأعلى مكانة في المملكة. الضحية يحكم كملك، والمتآمرون يخدمون كعبيد، وها هم يقدمون له كل تبجيل واحترام.
فإذا جاءت عليك المتاعب متوالية بعضها تلو الأخرى فلا تنزعج ولا تقلق، ولكن انتظر للنهاية، فبلا شك النتيجة تستحق الانتظار، وبحسب وفرة غنى الله، وفي الوقت المناسب، هذا إذا تحملت ما حدث لك بشكر. فبالرغم من أن يوسف قد خاض مصاعب كثيرة بعد هذه الأحلام فقد بيع من قبل إخوته، وتهجمت عليه زوجة سيده، وأُلقي به في السجن، ومع ذلك لم يقل لنفسه ما هذا العالم؟ وهذه الأحلام لم تكن إلا أوهام فقد أُبعدت بها عن موطني، وحُرمت من الحرية،
ومن أجل الرب لم اَستسلم لزوجة سيدي عندما ألحت عليَّ في فعل الخطية، فهل لأجل أنني سيطرت على نفسي ولأجل صلاحي أعاقب؟ والله لم يحميني ولم يمد يدّ العون لي، وسمح بتسليمي لهذه القيود الثقيلة، وهذه البلايا المتلاحقة. فبعد رميي في الحفرة تأتي العبودية، وبعد العبودية المكائد، وبعد المكائد الاتهام الظالم، وبعد الاتهام الظالم السجن.
لكن لا شيء من كل هذا أقلقه ولكنه استمر بإصرار وصلابة وأمل، عالمًا أن كلمات الله ووعوده لا تسقط أبدًا. وقد كان الله قادرًا أن يفي بكلماته في نفس اليوم، لكن لكي يرينا مقدرته وإيمان أولاده، سمح بمرور وقت طويل من العوائق وحدوث العديد من العقبات، وبهذا تعلم مدى قدرة الله على أن يفي بإعلاناته ووعوده عندما ييأس الناس من تحقيقها. وأنك ترى مدى صبر وإيمان أولاده الذين لا يفقدون آمالهم الطيبة عندما لا يحدث لهم ما يأملون في الوقت المحدد.
ومن ناحية ثانية وكما قلت أن إخوة يوسف قد تداعى بهم الحال وساقهم الجوع كما تساق الجنود بغير توان وجعلهم يقفون أمام يوسف عندما أرادوا شراء القمح، ولكن ماذا قال لهم “جواسيس أنتم”[19]، فقالوا لأنفسهم ما هذا؟ أهل خاطرنا بحياتنا عندما جئنا نشتري الطعام؟ حقًا، فعندما أحضر لكم الطعام خاطر بحياته، وقد قاسى هذا فعلاً بينما ما تعانوه أنتم هو فقط في الظاهر، إذ أن يوسف ليس عدوكم ولكنه تظاهر بدور العدو حتى يستطيع معرفة كل شيء بالضبط عن عائلته، لأنهم كانوا قد أصبحوا أشرار وقساة القلب تجاهه، وعندما لم يرى بنيامين معهم خاف أن يكون الطفل قد قاسى مثلما قاسى هو، لذلك أمرهم أن يبقى أحدهم رهينة بينما يأخذ بقيتهم القمح ويرحلون. وهددهم بالموت إن لم يعودوا بأخيهم[20].
لذلك عندما حدث ذلك وقال لهم “إن كنتم أُمَناءَ فليُحبَس أخ واحد منكم في بيت حبسكم وانطلقوا أنتم وخذوا قمحًا لمجاعة بيوتكم. وأَحضروا أخاكم الصغير إليَّ. فيتحقَّق كلامكم ولا تموتوا.” فماذا قالوا بعضهم لبعض “حقَّا إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأَينا ضيقة نفسهِ لمَّا استرحَمنا ولم نسمع”[21]. أهل رأيتم، بعد كل هذا الوقت تذكروا خطيتهم؟ وقالوا لأبيهم “وحش رديء أكلهُ. افتُرِس يوسف افتراسًا”[22]، وقد كان يوسف حاضرًا يتصنَّت عليهم واستمع لتأنيبهم لأنفسهم على إثمهم.
هل هناك ما هو غير متوقع أكثر من هذا؟ اللقاء في السجن بغير محاكمة، دفاع بدون اتهام، أدلة بغير شهود، ونفس هؤلاء الرجال الذين فعلوا فعلتهم يَستجوبون أنفسهم ويكشفوا عما فعلوه في السرّ، من الذي دفعهم، من الذي أجبرهم ليعلنوا عن أفعالهم التي فعلوها منذ زمن بعيد؟ أليس من الواضح أنه الضمير؟ القاضي الذي لا يمكن خداعه، وباستمرار يهز مشاعرهم ويزعج نفوسهم؟ الضحية يجلس في سكون يحاكمهم، وهم أنفسهم يقرُّون بما فعلوا ويدينون أنفسهم بدون التذرع بأي مبرر لما فعلوه مقرين به. ولكن هناك من يدافع عن نفسه عندما قال: “ألم أكلمكم قائلاً لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا. فهوذا دمهُ يُطلَب”[23] وفي الحقيقة فقد كان هو الذي قال لهم ألاّ يسفكوا دمه أو يقتلوه.
وعندما جلس يوسف لم يسألهم شيء عن فعلتهم، ولكن سأل عن سلامة أخوه الآخر. واِنتهز ضميرهم الفرصة واِستيقظ وجعلهم يعترفون بأفعالهم الطائشة وبدون أي إكراه. وفي أحيان كثيرة نمر بنفس هذه التجربة عندما تكون أخطائنا أصبحت في الماضي، فإذا ما ابتلينا وجُرِّبنا بظروف صعبة نتذكر خطايانا السابقة.
لذلك وبعد معرفتنا بكل ذلك فإننا إذا ما اقترفنا بعض الآثام ليتنا لا ننتظر حتى تأتي أي متاعب أو مصاعب أو أخطار أو قيود، ولكن في كل ساعة وكل يوم نُقيم هذه المحكمة داخلنا ونرجح فيها صوت الاتهام، وأن نحاول بكل طريقة أن يكون لدينا ما ندافع به أمام الله.
ليتنا لا نجادل ونشك في موضوع قيامة الأموات ومحاسبتهم، ولا أن نقبل سماع الآخرين يتكلمون بهذا، وإنما نسكتهم بكل طريقة بهذه الحقائق، فإننا إن كنا لن نخضع للعقاب على خطايانا في الآخرة، ما كان الله قد أقام هذه المحكمة بداخلنا هنا، ولكن هذا أيضًا دليل على حبه لجنس البشر. ولأنه سيطلب منّا في الآخرة حساب عن خطايانا فقد أقام في داخلنا هذا القاضي المنزه ومحاكمتنا هنا عن آثامنا ستقودنا للأفضل. وهذا القاضي من الجائز أن ينقذنا من الحساب الآتي، وهذا ما قاله بولس أيضًا “فلو كنا حكمنا على نفوسنا لَمَا حُكِم علينا”[24].
وحتى لا نجازى ونخضع للعقاب في الآخرة، فليدخل كل فرد فينا إلى داخل ضميره، ويبسط أمامه قصة حياته، ويفحص بدقه كل خطاياه، مدينًا نفسه التي ارتكبت هذه الأعمال، فيضبط نوازعه، ويقوِّم ويشدد أفكاره، ويجازي كل واحد نفسه عن خطاياه بضميره هو، بالتوبة الكاملة والدموع والاعتراف، بالصوم والصدقات بالإرادة وضبط النفس والمحبة. فبهذا وبكل وسيلة نستطيعها نطرح كل خطايانا في هذا العالم، وننتقل إلى العالم الآخر مملوئين بالإيمان. اجعلنا مستحقين بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الآبدين آمين.
[1]بابيلاس: أسقف أنطاكية، استشهد في عهد ديسيوس، يُعيد له في 24 يناير –القديس جوفينوس ومكسيمندس استشهدا في عهد جوليان.
[2] لو26:16
[3] مز7:49
[4] مت25
[5] مت12:22
[6] مت23:18-34
[7] لو27:16، 28
[8] لو29:16
[9] لو30:16
[10] لو31:16
[11] يو10:12
[12] مت52:27
[13] غلا8:1
[14] إش26:43
[15] تك7:37
[16] تك20:37
[17] كما في التراجيديات الإغريقية الكلاسيكية.
[18] إش27:14
[19] تك9:42
[20] تك19:42، 20
[21] تك21:42
[22] تك32:37
[23] تك22:42
[24]1كو31:11
روجع
العظة السادسة
للقديس يوحنا الذهبي الفم
عن لعازر والغني
أرأيتم قوة الله؟! أرأيتم حب الله للبشر وقوته، إذ أنه زلزل العالم وحَبّه، لأنه جعل العالم المتداعي (المهتز) يستقر ثانية (يثبت)، وقد رأيتم في الواقع الاثنان معًا قوته وحُبه. فقد أرانا قوته بالزلزال وبإيقافه أرانا حبه، لأنه زلزل الأرض ثم جعل العالم يثبت ثانية. وأعاده ثانيةً راسخًا بعدما كان متساقطًا وعلي وشك الانهيار.
لقد انتهى الزلزال ولكن ظل الخوف باقيًا. هذه الهزّة قد أخذت مداها وذهبت، فلا تدع رجاحة العقل (التعقل) يذهب معها. لقد قضينا ثلاثة أيام في الصلاة، فياليت حماسنا لا يفتر، فالذي جاء بالزلزال هو تهاوننا، لقد تهاونَّا فكان ذلك سببًا لأحداث الزلزال – فلنجدد حماسنا لنبعد غضبه بعيدًا، ليتنا لا نتراخى ثانية وإلا سنثير غضبه وويلاته علينا ثانية. الله لا يريد موت الشرير، ولكن أن يرتدع ويحيا، “حيّ أنا يقول السيد الرب أني لا أُسَرُّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا”[1]. أرأيتم فناء الناس؟ عندما حدث الزلزال وجدت نفسي أفكر مليًا أتسائل أين السرقة؟ أين الجشع؟ أين الاستبداد؟ أين العجرفة؟ أين السيطرة؟ أين الاضطهاد؟ أين نهب الفقراء؟ أين غطرسة الأغنيًاء؟ أين هيمنة القوة؟ أين القسر؟ أين الخوف؟ دقيقة واحدة من الزمن وكل شيء قد تمزق تمزيقًا بكل سهولة، كما يتمزق بيت العنكبوت. كل شيء قد تحطم والمدينة امتلأت بالصرخات، والكل هرع إلى الكنيسة.
لنفترض أن الله اختار أن ينهي (يزيل) كل شيء، فكم كنا سنعاني. إنني أقول هذا، ليظل الخوف من هذه الأحداث ملازمًا لكم ويشدد من عزيمتكم.
لقد هزّنا، ولكنه لم يُحطمنا، فلو كان أراد أن يُحطمنا ما كان هزّنا (ما كانت هذه الهزّة)، لكنه لم يريد تدميرنا، جاء بالزلزال مقدمًا كنذير ليحذر الجميع من غضب الله، لهذا علينا أن نغتنم هذا الخوف لنتغير للأفضل ونمنع العقاب المتوقع (المفروض). وقد فعل الله هذا مع أمم غريبة. “فابتدأَ يونان يدخل المدينة مسيرة يومٍ واحد ونادى وقال: “بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى”[2]. لماذا لم تدمرها وقد هددت بذلك؟، لأنني لم أشاء أن أدمرها لمجرد أنني هددت بذلك، في قولك؟ خشية أن أفعل ما قلته أرسلت سلفًا كلمتي نذيرًا لأمنع ما أنا مزمع أن أفعله، “أربعين يوما وتنقلب نينوى”، عندئذ تكلم النبي: الجدران أرسلت صوتًا. أنني أقول ذلك ولن أتوقف عن قوله. لكُلاً من الفقير والغني: لتعتبروا مدى قوه غضب الله وأن كل الأشياء والموجودات في قبضة يده. فلنمتنع عن الشرور، فإنه في لحظة وجيزة قد أفقدنا عقولنا وتمييزنا ورج قلوبنا. فإذا ما وضعنا في اعتبارنا هذا اليوم الرهيب حينما تكون بدلاً من هذه اللحظات الوجيزة أزمنة لا نهاية لها من أنهار النيران والغضب الهائل وقوى تسحبنا للمحاكمة حيث كرسي الحكم الرهيب ومحكمة لا محاباة فيها.
وأفعال كل واحد فينا ماثلة أمام عينيه، ليس هناك من يعين (ينفع)، لا جار ولا مُشير (ناصح) ولا قريب ولا أخ ولا أب ولا أم ولا صديق ولا أي أحد آخر، قل لي ماذا ستفعل حينذاك؟ لقد بعثت فيكم الخوف لكي ما تستعدوا للخلاص، لقد أعطيتكم درسًا أَحَدّ من السيف، حتى إذا ما كان لدى أحدكم قرحة (غرغرينا) فليستأصلها.
ألم أسألكم دائمًا كما أفعل الآن، ولن أتوقف أبدًا عن سؤالكم. إلى متى سوف تظلّون متعلقون بأشياء هذا العالم؟ إنني أتحدث إليكم جميعًا، ولكن علي وجه الخصوص أتحدث إلى هؤلاء المرضى وهم غير مهتمون بما أقوله، وبالأحرى أن العظة مفيدة لكل منكم للمريض فتجعله يتحسن، وللسليم فتحفظه من أن يقع مريضًا.
إلى متى تدوم الأموال؟ إلى متى يدوم الثراء؟ إلى متى تدوم المنازل الفاخرة؟ وإلى متى البحث المسعور للتمتع بالأشياء المادية؟ انظروا، عندما جاء الزلزال هل ساعد الغني أحد؟ إن مجهود كل من الغني والفقير قد ذهب هباء، والممتلكات هلكت مع مالكها، والمنازل تحطمت مع بانيها، والمدينة كلها أصبحت كمقبرة عامة للجميع، مقبرة لم تشيَّد بأيادي حرفيون، ولكن أعدّتها الكارثة نفسها، أين الغني؟ أين الطمع؟ ألا ترون أن كل الأشياء، أو هي من بيت عنكبوت؟ لكنكم سوف تسألون بماذا يساعد الوعظ؟ إنني أُعين من يصغي إليَّ. إنني أؤدي واجبي.
“هوذا الزارع قد خرج ليزرع. وبينما هو يزرع سقط بعض علي الطريق… وسقط بعض علي الأماكن المُحجرَة… وسقط آخر علي الشوك… وسقط آخر على الأرض الجيّدة”[3]. ثلاثة أقسام قد هلكت وواحدة أُنقذت، ولم يتوقف عن الزرع لأن جزء واحد فقط قد بقي (نجى)، ولم يكف عن العمل في التربة. وهنا أيضًا عندما نُثرت هذه الكمية من البذور فمن الجائز ألا تعطي حصادًا. ولو كانت الأغلبية لا تستمع فإن النصف سيستمعون، ولو كان النصف لا يستمع فالثُلث، ولو أن الثُلث لا يستمع فالعُشر، ولو حتى العُشر، ولو كان واحدٍ فقط من الجمع يستمع فليكن، فإنه ليس شيئًا بسيطًا أن يُنقَذ واحد من الخراف. “ألم يترك الراعي التسعة والتسعين خروف وذهب يبحث عن الضال”[4]. إنني لا أستهين بأي فرد حتى لو كان فردًا واحدًا فقط، أنه إنسان، الكائن الحي الذي به يهتم الله. حتى لو كان عبدًا، فإنني لا أستهين به. إنني لا أهتم بمنزلته، ولكن بتقواه وليس بوضعه كسيد أو عبد، ولكن بنفسه فحتى لو كان فردًا واحدًا فهو إنسان كائن بشري، هذا الذي من أجله بسطت السموات، وتظهر الشمس، ويتغير القمر، وينتشر الهواء، وتتدفق الينابيع، وتمتد البحار، وأُرسلت الأنبياء، وأعطى الناموس.
لماذا يجب أن أذكر كل هذا؟ فالذي من أجله أصبح الابن الوحيد لله إنسانًا. ربي صُلب، وسُفِكَ دمه من أجل الإنسان، فهل اَستهين به أنا؟ أيّ عذر لي؟ ألم تسمع أن الله تحدث مع المرأة السامرية، باذلاً معها الكثير من الكلام؟[5]
إنه لم يحتقرها لكونها سامرية، بل لها اهتم بها لأن لها نفس حية،. ولم يهملها لكونها زانية، ولكنها استفادت كثيرًا من اهتمامه بها، وخلصت وآمنت. أما بالنسبة لي فإنني لن أتوقف عن الحديث حتى لو لم يكن هناك أحد يستمع لي. إنني طبيب اَستعمل العلاج، ومُعلم أُعطى النصائح. فإنه مكتوب: “قد جعلتك رقيبًا لبيت إسرائيل”[6]، ألم أنجح في إصلاح أي فرد فيكم؟ ماذا في ذلك؟ فلازالت لي مكافأتي، إلى جانب أنني تكلمت في حالة حرجة، فمن المستحيل ألا يكون أحد قد استقام (خلص) في مثل هذا الجمع؟ وهذه الحجج والأعذار تقال من هؤلاء الذين يسمعون بعدم مبالاة، فقد يقول أحد “أنني أسمع كل يوم، ولكني لا أعمل بما أسمع”، فلتستمع حتى ولو لم تعمل بما تسمعه، فمن الاستماع سوف يأتي العمل، وحتى لو أنك لا تعمل فإنك تخجل من خطيتك وتُغيِّر من وضعك، وحتى لو أنك لا تعمل فسوف تدين نفسك لعدم عملك.
فمن أين يأتي اتهام النفس؟ إنه ثمرة كلماتي، عندما تقول واحسرتاه لقد سمعت ولم أعمل، فإن حسرتك هذه هي مقدمة لتغييرك للأفضل، ألا تندم وتحزن عندما تخطئ؟ أنك بهذا تقضي (تبدد) على الخطية. “ذكِّرني فنتحاكم معًا. حدِّث لكي تتبرَّر”[7]. أنك إن حزنت واِكتئبت، فإن هذا الحزن قد يكون بداية الخلاص، ليس بسبب الحزن نفسه، ولكن برحمة من السيد الرب، فالحزن بالنسبة للخاطئ ليس بدفاع بسيط، فإنه مكتوب “رأيت طرقهُ وسأَشفيهِ وأقودهُ وأردُّ تعزياتٍ لهُ ولنائحيهِ خالقًا ثمر الشفتين. سلام سلام للبعيد وللقريب قال الرب وسأشفيهِ”[8].
يا للمحبة التي لا توصف، والرحمة الغير معتدلة (he was grieved… and I healed him)، هل هو شيء مهم كونه حزينًا؟ ليس بشيء مهم، ولكنني جعلتها فرصة لمداواة كربه (did you see how in brief moment of Time he brought every thing together?)، فلتفكروا مليًا وباستمرار في أنفسكم، ففي ليلة الزلزال كان الكل خائفًا من الزلزال، ولكنني كنت خائفًا من سبب الزلزال. هل تدركون ما أعنيه؟ كانوا خائفين من أن تنهار المدينة ويموتون، ولكنني كنت خائفًا من كون الله غاضب علينا. إن الموت ليس بالشيء المؤلم، ولكن المؤلم هو فعل ما يثير غضب الله، لهذا فإنني لم أكن خائفًا من الزلزال، ولكن من سبب الزلزال، إذ أن سببه هو غضب الله. وسبب غضب الله هي خطايانا.
لا تخشى أبدًا العقاب، ولكن أخشى الخطية التي هي سبب العقاب. هل اهتزت المدينة؟ ماذا في ذلك؟ لكن لا تدع عزيمتك تهتز. Yننا لا نحزن في حالات الأمراض والجروح التي يمكن أن تعالج، ولكن نحزن علي الأمراض التي لا علاج لها، والخطية مثلها مثل المرض أو الجرح، العقاب مثل العملية الجراحية أو الدواء.
هل تفهمون ما أقول؟ أعيروني انتباهكم فإنني أريد أن أعطيكم كلمة منفعة (كلمة حكمة)، لماذا نحزن علي هؤلاء الذين نالهم عقاب، ولا نحزن علي هؤلاء الذين يقترفون الخطايا؟ إن العقاب ليس مؤلمًا كالخطية، إذ أن الخطية هي سبب العقاب. هل إذا رأيت شخصًا مصابًا بجروح متقيِحة والديدان تخرج من جسمه وهو متجاهلاً مرضه هذا، ورأيت إنسانًا آخر مصابًا بنفس المرض، ولكنه يستفيد من العلاج على أيدي الأطباء ومن الكيّ والجراحات ومن الأدوية المرة.. فعلى من تحزن؟
قل لي، علي المريض الذي لا يتداوى، أم على المريض الذي يتداوى؟ وبنفس الطريقة تخيل اثنان من الخطاة، واحد منهما يعاقب، والآخر لا يعاقب. لا تقل لي أن هذا الشخص محظوظ لأنه غني وهو يسلب الأيتام أملاكهم ويظلم الأرامل. Apparently مظهريًا ليس به مرض، له سمعة طيبة بالرغم من سرقاته، ويحظى بالاحترام والمكانة الرفيعة ولا يعاني أي من المتاعب التي يبتلى بها بقية الناس، لا تصيبه حمى أو شلل أو أي مرض آخر. جمع من الأطفال يحيط به وشيخوخته مريحة، ولكن هذا يجب أن تحزن عليه بالأكثر لأنه فعلاً مريض، ولا يتلقى أي علاج. وسأقول لك كيف، فلو رأيت شخصًا مصابًا بداء الاستسقاء، وكل جسم متورم والطحال يؤلمه، ولا يسرع إلى الطبيب، بل يشرب المياه المثلجة، ويقيم الولائم المليئة بالملذات، ويتناول الخمور كل يوم، ويحاط بالحاشية التي تزيد من مرضه. قل لي، هل تعتبر هذا محظوظًا أم لا؟ وإذا رأيت إنسانًا آخر مصابًا بداء الاستسقاء نفسه، ولكنه يستفيد من عناية الأطباء، يزيل ما به بعدم الإفراط في الطعام، وبكل جهد يتحمل بشجاعة مرارة العلاج الذي هو مؤلم، ولكنه يؤدي إلى صحة جيدة من خلال هذا الألم. ألا تعتبر هذا الشخص أكثر حظًا من الآخر؟ فنحن نتفق معًا أن هناك مريضًا لا يتداوى، ولكن مريضًا آخر يستفيد من العلاج. ولكنك قد تقول لي أن العلاج مؤلم، ولكن الهدف هو المنفعة.
وحياتنا الحاضرة مثل هذا أيضًا، ولكن بتغيير الكلمات من أجساد إلى نفوس، ومن الأمراض إلى الآثام، ومن العلاج المر المذاق إلى الحساب والجزاء والعقاب، وما الدواء والجراحة والكيّ من الطبيب إلا كما التأنيب من الله، وكما أن النار تستعمل عادة في الكيّ لكي تمنع انتشار الإصابة بالعدوى، وكما أن المشرط يزيل الجزء المتقيح من الجسد مسببًا ألمًا، ولكن محدثًا نفعًا، فإنه بتشبيه ذلك علي الجسد، فإن الجوع والمرض والكوارث تستعمل للنفس بدلاً من المشرط ونار الكيّ التي تمنع انتشار المرض وتجعلها أحسن حالاً. فلنفترض أن هناك اثنان من الزناة – تخيلوا الصورة التي أصفها لكم بالكلمات – أحدهما غني والآخر فقير، أيهما لديه أمل أكبر في الخلاص؟ فمن الواضح ونتفق جميعًا علي أنه الفقير،
لذلك يجب ألا تقول أن الغني يرتكب الزنا وهو غني لذلك هو محظوظ، ومن المحتمل منطقيًا إلى حد ما أن نعتبر أن الأحسن حظًا هو الذي يزني وهو في الفقر، فلو أنه زنى وهو يعاني في الحاجة، عندئذ سيكون فقره بمثابة مُعلم فعال له في سبيل المعرفة. وعندما ترى شخصًا سيئًا يحرز نجاحًا، فلتذرف عليه الدمع لأن له مصيبتان، الداء وعدم التداوي منه، وإذا رأيت شخصًا في محنة، واسيه ليس فقط بسبب هذه المحنه التي ستجعله أفضل، ولكن أيضًا لأنه بها سيفكر في كثير من خطاياه في هذا العالم.
فلتنتبهوا جيدًا لما أقوله، إن كثير من الناس يكفِّرون عن خطاياهم هنا، وأيضًا يتحملون عقاب في الآخرة، ولكن آخرون هنا فقط، وآخرون في الآخرة فقط، تمسك جيدًا بتعليمي هذا، فلو تفحصت كلامي بعناية، فسوف يزيل عن ذهنك كثير من القلق. وليتكم توافقوني على أن نجتذب أولاً وسطنا الشخص الذي يعاقب في الآخرة، ولكنه يتمتع هنا بالرفاهية.
ليت كل من الغني والفقير يصغيان لكلامي، فإن التعليم سيكون ذو فائدة لكليهما. والدليل علي أن كثير من الناس يحاكمون هنا وفي الآخرة، استمع للسيد المسيح وهو يقول: “وأيَّة مدينة أو قريةٍ دخلتموها فافحصوا مَنْ فيها مستحقّ. وأقيموا هناك حتى تخرجوا. وحين تدخلون البيت سلّموا عليهِ. فإن كان البيت مستحقًّا فليأت سلامكم عليهِ. ولكن إن لم يكن مستحقًّا فليرجع سلامكم إليكم.
ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجًا من ذلك البيت أو من تلك المدينة وانفضوا غُبار أرجلكم. الحقَّ أقول لكم ستكون لأرض سَدُوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة.”[9]. ومن هذه الكلمات يتضح أن أهل سدوم وعمورة قد تم عقابهم في هذا العالم، ويعاقبون في العالم الآخر. وعندما يقول أن حالة سدوم ستكون أخف وطأة من حالة هؤلاء الناس فإنه يشير إلى أن أهل سدوم سيعاقبون، ولكن ليس مثل عقاب هؤلاء الناس، ومع ذلك فهناك البعض الذي يعاقب في هذه الحياة فقط، مثل هذا الزاني الذي تكلم عنه بولس البار عندما كتب إلى أهل كورنثوس “يُسمَع مطلقًا أن بينكم زنى وزنى لا يُسَمَّى بين الأمم حتى أن تكون للإنسان امرأَة أبيه. أَفأنتم منتفخون وبالحري لم تنوحوا حتى يُرفَع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل. فإني أنا كأني غائب بالجسد ولكني حاضر بالروح قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا هكذا. باسم ربنا يسوع المسح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوَّة ربّنا يسوع المسيح أن يُسلَّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع”[10].
أترى أن هذا الرجل قد عوقب هنا ولا يُعاقب في الآخرة! لأنه عوقب جسديًا في هذا العالم فلن يعاقب في الآخرة.
وأخيرًا فإني أريد أن أعرض عليكم حال الرجل الذي يعيش هنا في ترف، ولكنه يعاقب في الحياة الأخرى “كان هناك إنسان غني”، أنكم تعرفون هذا النص مقدمًا، ولكن فلننتظر حتى نسمع تفسيرها، وهذا لرصيدك وكمنجم لك. فإنك عندما تسمع المقدمة يمكنك أن تجني ثمارها، وفي نفس الوقت فإن مداومة استماعكم قد جعلت منكم مُعلمين، ولكن لأن هناك زائرون قد جاءوا معكم، فلا تتعجل ولكن اِنتظر البطيء (لا تركض ولكن اِنتظر الأعرج).
إن الكنيسة هي كالجسد، لها عينان ورأس، فلو أن عقب القدم قد وخزته شوكة فإن العين تنحني لأسفل، لأنه جزء من الجسد أيضًا، ولا تقول “لأنني في موقع العُلوّ، اَحتقر الجزء السفلي”، ولكنها تنحني وتترك عُلوّها. ما هو أكثر وضاعة من عقب القدم، وما هو أكثر رفعة من العين، لكنها المشاركة الوجدانية (التعاطف) تزيل الفروق، والحب يجعل الجميع سواء، ولابد أن تحذو هذا الحذو.
فلو أنك ذو فطنة، ومهيأ للسماع، ولكن أخاك لا يتابع ما يقال، فلتجعل عيناك تترك لأسفل القدم وتتعاطف مع الجزء الضعيف، وبهذا تجعله لا ينتظر كلماتي بعدم قابلية، ولا تستعمل فطنتك لهدمه، ولكن اُشكر الله عليها.
هل أنت غني؟ إنني سعيد ومبتهج، ولكن هناك من هو مازال فقيرًا، فلا تتركه باقيًا في الفقر بسبب ثرائك، فإن به شوكة – اضطراب في ذهنه – فلتنزل إليه وانزع هذه الشوكة. لذا فما هو المكتوب “كان هناك إنسان غني”، أنه غني بالاسم وليس بالحقيقة، “كان هناك إنسان غني”، يلبس الأرجوان يقيم الولائم الباذخة، وبراميل الخمور المزينة، ويقيم حفلات السكر كل يوم. وهناك إنسان آخر، إنسان فقير اسمه لعازر. أين هو اسم الرجل الغني؟ لا يوجد في أي مكان، فإنه لا اسم له، كم يساوى الغني؟ واسمه ليس له وجود. أي نوع من الغنى هذا؟ كشجره تحمل أوراقًا، ولكنها خالية من الثمار، كالبلوط ترتفع عاليًا، ولكن فروعها تعطى طعام للحيوانات؛ كإنسان بلا ثمار للآخرين.
أين يوجد الثراء والسلب، يوجد ذئب هذا الذي تراه، أين يوجد الثراء والوحشية، يوجد أسد هذا الذي أراه، وليس إنسانًا، فقد فَقَدَ إنسانيته (نبله) بسبب دناءة هذه الشرور. “كان هناك إنسان غني”، يلبس الأرجوان متنعمًا بالثياب، كل يوم يخفي روحه (يطمس روحه) بغلالات واهية، يتعطر بالعطور، ولكنه منتِّن من الداخل، يقيم الولائم الفاخرة، يُطعم المتطفلين والمرائين، يسمِّن جسده – عبده – ولكنه يدع روحه – سيده – تهلك من الجوع. منزله مزين بباقات الزهور، ولكن أساساته متربة ومغبَّرة بالخطية، وروحه منغمرة في الخمور.
وكما نرى هنالك الرجل الغني بموائده الفاخرة وآنية الخمر، وحاشيته من المتطفلين والمتملِّقين، ومسرح شرور للشيطان؛ والذئاب التي تستغل الأغنياء ويدمرونهم في سبيل امتلاء بطونهم، ويفسدون هؤلاء الأثرياء بكثرة مديحهم ونفاقهم، ولا يخطئ الفرد عندما يدعو هؤلاء الناس بالذئاب الذين يحيطون الغني، كخروف يرفعونه لأعلي وينفخونه بالمديح ولا يدعونه يرى عيوبه (جراحة)، ولكنهم يُعمون بصيرته فيتفاقم مرضه، وعندما يفاجئ بتغير الظروف (الأحوال)، سرعان ما يفر هؤلاء الأصدقاء. ولكننا نحن الذين لم نكف عن لومه، نتعاطف معه، بينما تختفي وجوههم هم، وهذا ما يحدث غالبًا حتى في هذه الأيام.
وهنالك كما ترى الغني يقيم الولائم للمتطفلين والمتملقين، يجعل منزله مسرح (ملهى)، يسكر كل الموجودين بالخمر، يقضي كل وقته في ترف (عربدة)، وهناك رجل آخر اسمه لعازر، مضروب (مصاب) بالقروح، مطروحًا عند بابه، يشتهي الفتات، ظمآنًا، وبجانبه النبع، جوعانًا، وسط هذا الترف. وأين كان يرقد؟ ليس في وسط الطريق، أو في شارع، أو في حارة، وليس في وسط السوق، ولكن عند باب الرجل الغني، حيثما يذهب ويجيء، ولذا فإنه لا يستطيع أن يقول: “إنني لم أراه، وعند مروري لم تراه عيناي”، إنه يرقد عند مدخل بابك، لؤلؤة في الوحل، وأنت ألا تراها؟ الطبيب المتخصص عند بابك، ألا تقبل علاجه؟ ربان السفينة في المرفأ، فلم تتحمل غرق السفينة؟
هل تقيم الولائم للمتطفلين ولا تطعم الفقير؟ هذا حدث في الماضي، ويحدث أيضًا الآن، ولهذا فإن هذه القصة قد دُونت، حتى يقرأها الذين يأتون بعد ذلك ويتعلمون من أحداثها، فلا يعانون نفس المصير المشؤوم للغني، الرجل الفقير يرقد عند الباب تراه فقيرًا في مظهره، ولكنه غني في جوهره الداخلي. كان يرقد بجسده الجريح ككنز فوقه أشواك، ولكن بأسفلها اللآلئ. أيّ أذى قد أصابه من ضعف جسده مادامت روحه سليمة معافاة؟
فليسمع الفقراء ولا يدعوا تثبيط العزيمة تخنقهم، وليسمع الأغنياء فيُغيِّرون من شرورهم (سلوكهم الشرير)، ولهذا السبب قد وضعت الصورتان أمامنا، صورة الثراء وصورة الفقر، القسوة والاحتمال، الصبر والجشع. لذلك فإنك إن رأيت رجلاً فقيرًا مجروحًا ومحتقرًا (مهملاً)، فلا تعتبره سيِّئ الحظ (تعسًا)، وإن رأيت رجلاً غنيًا يعبد نفسه (يختال بنفسه)، فلا تعتبره محظوظًا بل أسرع عائدًا للمثل. وإذا أوقعتك أفكارك في حيرة، أسرع إلى الملاذ، أخذًا العون من تفسيره.
تذكر كيف كان لعازر محتقرًا، وكيف كان الغني متنعمًا ومتمتعًا بالرفاهية. ولا تجعل أي من الأشياء التي تحدث في الحياة توقعك في حيرة (تقلقك)، فإذا تفهَّمت ذلك جيدًا فإن الأمواج لن تُغرقك، والسفينة لن تغوص. إذا ما ميَّزت أفكارك وأدركت جوهر الأشياء.
لماذا تقول لي “إن جسدي في عسر؟ (إنني في عسر)؟ لا تدع ذهنك يضار أيضًا، “فلان وفلان غني وشرير”. ما هذا؟ “مجرد إن الإثم غير مرئي”. لا تُقَيّم الشخص بحسب مظهره الخارجي، ولكن بجوهره، فهل إذا رأيت شجرة، اَتختبر أوراقها أم ثمارها؟ وبنفس الطريقة أيضًا علي جنس البشر، إذا ما رأيت شخصًا لا تُقَيِّم مظهره، ولكن قَيِّم داخله (جوهره)، اِختبر الثمار وليس الأوراق، وما قد تظنها شجرة زيتون مثمرة ما هي في حقيقتها إلا شجره زيتون برية، ومن قد تظنه إنسان ما هو في حقيقته ذئب. وكما ترى فإنك يجب ألا تختبر هيئته ولكن صفاته، ليس مظهره ولكن تصرفاته، وليست تصرفاته فقط ولكن افحص أسلوب حياته كلها، إن كان يحب الفقير فهو إنسان فعلاً،
ولكن إذا ما كان منغمسًا في التجارة فإنه شجرة تين يابسة، ولو كانت له طباع عنيفة فإنه أسد، ولو كان سلاب (نهاب) فإنه ذئب، ولو كان مخادع فإنه كوبرا، وقد تقول لي ولكنني أتطلع إلى إنسان فلماذا تظهر لي الحيوان بدلاً من الإنسان؟ لكي تتعلم ما هو حقًا الصلاح الذي بالإنسان ولا تتحير. وكما ترى لعازر مطروحًا عند الباب، مضروبًا بالقروح، يتضور جوعًا، وقد أبدت له الكلاب حبًا أكثر مما أبداه له الناس عندما كانت تلحس قروحه تنظفها وتزيل ما بها من تلوث، .كان مطروحًا هناك قابعًا كأنه عملة ذهبية علي الطريق، بل حتى أثمن بكثير، ولم يقل ما يقوله معظم الفقراء “هل هذا عدل الهي؟” ألا يلاحظ الله أحوال الناس؟ ألا أحيا أنا بالصلاح ومع ذلك فقيرًا، بينما الذي يعيش في الآثام غنيًا؟ إنه لم يفكر بمثل هذه الأفكار، ولكنه خضع لحب الله الغير مدرك لجنس البشر، لقد غسل روحه ونظفها وتذرع بالاحتمال مبديًا صبرًا، كان جسده مطروحًا ولكن ذهنه كان ينطلق لأعلى ومشيئته تسمو لفوق، وقد وصل بجدارة للجائزة، متجنبًا كل الأشياء الآثمة، وأصبح شاهدًا لهذا المجد الرائع. إنه لم يقل أن المتطفلين يستمتعون بهذا الرخاء وأنا لست مستحقًا حتى للفتات، ولكنه ماذا قال بدلاً من ذلك؟
لقد قدم الشكر والمجد لله. وجاء وقت موتهما الغني مات ودُفن، ولكن لعازر انتقل، إذ أنني لا أقول عنه أنه مات، فموت الغني كان موتًا ودفنًا، ولكن موت الفقير كان انتقال، تغيير للأفضل، إسراع من السباق لنيل الجائزة، من لجة البحر إلى المرفأ، من المعركة إلى النصر، من النضال إلى حلاوة تاج الإكليل.
إن كل من الرجلين قد انتقل إلى المكان الذي به كل الأشياء حقيقة صادقة. وخشبة المسرح قد أُزيلت، والأقنعة قد خُلِعت. ففي المسرح في هذا العالم في منتصف اليوم يُعد المسرح والممثلون، يدخلون يلعبون أدوارهم، يرتدون الأقنعة علي وجوههم، يعيدون بعض الروايات القديمة، يقصون أحداثها، واحد يصبح فيلسوفًا مع أنه ليس فيلسوف، وآخر يصبح ملكًا مع أنه ليس ملك، ولكن له مظهر الملك في القصة. وآخر يصبح طبيبًا وهو لا يعرف حتى أن يعالج قطعة من الخشب، ولكنه يرتدى ملابس الطبيب، وآخر يصبح عبدًا مع أنه حرًا، وآخر مُعلمًا مع أنه لا يعرف حتى الحروف.
يظهرون بمظهر آخر غير ما هم عليه فعلاً، ولا يظهرون بحقيقتهم الفعلية، واحد يظهر كطبيب وآخر كفيلسوف بارتداء الأقنعة والباروكات. وآخر يظهر كجندي يحمل معدات الجندي. إن منظر القناع يخدعنا ولكنه لا يُزيِّف حقيقة الجوهر، وهذا حتى يتغير فعلاً إلى الشخصية التي يقدمها. وتظل الأقنعة سارية المفعول طالما بقي المشاهدون في أماكنهم، ولكن عندما يدركهم الليل وتنتهي المسرحية والكل يمضي والأقنعة تلقى جانبًا، فالذي كان ملكًا داخل المسرح يتضح أنه نحاسًا خارجه، إن الأقنعة قد خُلِعت والخداع اِنتهى، فتتكشف الحقيقة ومن كان حرًا داخل المسرح تجده عبدًا خارجه، لأنه – كما قلت – الخداع بالداخل ولكن الحقيقة بالخارج، عندما يأتي عليهم المساء تنتهي المسرحية وتظهر الحقيقة، وهذا أيضًا في الحياة ونهايتها.
إن العالم الحاضر هو مسرح، وأحوال الناس هي أدوار يؤدونها، الغني والفقير، الحاكم والمحكومين، وهكذا عندما ينتهي هذا النهار وتأتى هذه الليلة الرهيبة فيا له من يوم. ليل حالك علي الخطاة، لكنه نهار ساطع للأبرار. عندما تنتهي المسرحية، وتُخلع الأقنعة عندما يُحاكم كل واحدٍ حسب أعماله، وليس حسب غناه، أو بحسب وظيفته، أو مكانته، أو بحسب قوته، ولكن كل واحد حسب أعماله، سواء كان حاكمًا أو ملكًا، سيدة أم رجلاً. فعندما يطلب منا حساب عن حياتنا وعن أعمالنا الصالحة، لا ثقل أن مكانتنا أو وضاعة فقرنا (سوف يكون لها تأثير).
أفي أعمالك… إذا كنت عبدًا ولكن أكثر نبلاً من الإنسان الحر، أو كنت امرأة ولكن أكثر شجاعة من الرجل. عندما تنخلع الأقنعة، عندئذ ينكشف الغني الحقيقي والفقير الحقيقي، عندما تنتهي المسرحية ويرفع أحدنا بصره خارجًا، يرى الرجل الذي كان فيلسوفًا داخل المسرح نحاسًا خارجه، فيصيح قائلاً ألم يكن هذا فيلسوف بالداخل؟ وبالخارج أراه نحاسًا، وألم يكن هذا الرجل الآخر ملكًا؟ وبالخارج أنني أراه شخصًا متواضعًا. وألم يكن هذا الرجل غنيًا بالداخل؟
وبالخارج أجده فقيرًا. نفس الشيء يحدث عندما تنتهي هذه الحياة، إني لن أسهب في تفاصيل كثيرة حتى لا يتشوش ذهن المستمع بتفاصيل هذه الأشياء، ولكنني أريد أن أضع أمامك أقنعة اثنان من الأدوار في المسرح. أتناول اثنان من هذه الأقنعة، وأوفر عليكم الطريق بهذين الاثنان معطيًا لكم نقطة بداية مطلقًا العنان لفهمكم، بتوضيح ما هي الحياة الحاضرة، وبهذا يستطيع كل منكم التمييز، فكما ترون هناك اثنان من الأقنعة، شخص له قناع الرجل الغني، والآخر له قناع الرجل الفقير. لعازر كان له قناع الرجل الفقير، والغني كان له قناع الرجل الغني، إن المظهر هو الأقنعة وليس حقيقة الواقع.
الاثنان انتقلا إلى العالم الآخر، الغني والفقير، الملائكة استقبلت لعازر. الملائكة بعد الكلاب، وحضن إبراهيم بعد بوابة الرجل الغني، وبعد الجوع رخاء لا حدود له، وبعد البلايا راحة دائمة. ولكن العدم اِستقبل الغني بعد الثراء، وبعد موائده الفاخرة عقاب وعذاب، وبعد الرفاهية (الراحة) أَلم لا يحتمل.
فلنتأمل ما حدث اِنتقل الاثنان للعالم الآخر وانتهت المسرحية، أزيلت الأقنعة وتكشفت الوجوه الآن (من هذه اللحظة)، الاثنان انتقلا إلى العالم الآخر، ونظر الغني وهو في لهيب الهاوية، ورأي لعازر يتمتع بالرخاء والتنعم في حضن إبراهيم، فنادى قائلاً: “يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبلَّ طرف إصبعهِ بماءٍ ويبرِّد لساني لأني معذَّب في هذا اللهيب”. ماذا كان رد إبراهيم؟
“يا ابني أُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزَّى وأنت تتعذَّب. وفوق هذا كلّه بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا”[11].
انتبه جيدًا لكلمات هذه المناقشة فهي ذات فائدة كبيرة، حقًا مرعبة ولكنها تطهر، تجلب ألمًا ولكنها تعيد الصواب. اَنصتوا لما أقول. رفع الغني بصره وهو يتعذب ورأي لعازر، لقد رأى وضعًا جديدًا، فقد كان مطروحًا عند بابك كل يوم ومرتين وثلاثة تذهب وتجيء ولم تراه. والآن عندما أصبحت في الهاوية، تراه من علي بعد؟
عندما كنت تعيش في وفرة ورغد العيش، عندما كانت لديك حرية أن ترى ما تريده بملء إرادتك قد اخترت ألا تراه، فلماذا الآن أصبح لك هذا النظر الثاقب؟ ألم يكن عند بابك فكيف تحاشيت رؤيته؟
عندما كان بالقرب منك لم تراه والآن تراه من على بُعد، عبر هذه الهوة العظيمة. فماذا فعل الغني؟ لقد دعا إبراهيم “أبي”، لماذا تدعوه أبي وأنت لم تتمثل به في كرم عطائه؟ لقد دعا إبراهيم أبي وإبراهيم دعاه “ابني”، وهنا اسمان من علاقات القرابة، ولكن لا عون منهما إطلاقًا.
إن المثل يقدم هذه الأسماء ليعلمنا أن الأهل لن يكون بهم أي نفع. إن النبل الحقيقي ليس في سمو مكانة الأسلاف، ولكن في صلاح شخصيتك أنت. لا تقل لي إن أبي والي حاكم، بماذا يهم ذلك؟
إنني لا أقول هذا فقط ألا تقول لي أن أبي هو والٍ حاكم، بل حتى لو كان أباك هو القديس بولس، حتى لو كان إخوتك شهداء، ولكنك لا تماثلهم في صلاحهم، فإن القرابة لن تفيدك. ولكنها بالأحرى تضرك وتدينك. قد يقول أحدكم أن أمي محسِنة تتبرع بالأموال، بماذا يفيدك هذا وأنت في قسوتك هذه، إن حنوها علي البشر هو اتهام يضاف إلى قائمة خطاياك. ماذا قال يوحنا المعمدان لليهود؟ “فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تبتدئُوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا” (لو 8:3).
هل أحد أجدادك قديس مُمجد (يدعو للفخر)؟ إن كنت تماثله فإنك ستربح، ولكن إن كنت لا تماثله فإن هذا الجد الصالح سيصبح هو تهمتك، لأنك ستكون ثمرة مرة من شجرة صالحة. لا تعتقد أبدًا أن من له قريب بار هو حسن الحظ إن لم يماثل سلوكه، سلوك قريبه الصالح هذا. هل والدتك شريرة؟ فإن هذا ليس له علاقة بك (إن هذا لا يؤثر عليك)، تمامًا مثل صلاح الأم التقية لن ينفعك علي الإطلاق إن لم تماثلها.
كذلك شرور الأم السيئة (الغير صالحة)، لن يضرك إذا اتخذت طريقًا مختلفًا لحياتك. كما أنك في الآخرة سوف تستحق اللوم الكثير لأنه كان عندك مثالاً صالحًا داخل بيتك ولم تتمثل به، لذلك أيضًا الشخص الذي له أم غير صالحة ولم يماثلها في شرورها، فإنه سوف يستحق مكافأة عظيمة لأنه ثمرة جيدة ناضجة من جذع مر.
لذا فإنه ليس سمو مكانة أجدادك، ولكن صلاح شخصك أنت هو الذي تحتاجه، فمن جهتي فإنني اَعتبر حتى العبد إنسانًا نبيلاً والسيد مقيدًا بالأغلال لو علمت صفات شخصيته. والشخص ذو المقام الرفيع إنما هو ينتسب لأقل طبقة لو أن له صفات العبودية، فمن هو حقًا وبالفعل العبد إن لم يكن هو الشخص الذي يقترف الآثام؟ أما العبودية الأخرى فليست إلا شأن من شئون ظروفنا الخارجية. ولكن هذه العبودية هي أهواء نوازعنا.
وفي الحقيقة إن العبودية في الأصل قد جاءت (نبعت) من هذا المصدر، ففيما مضى لم يكن هناك عبيد، وعندما خلق الله الإنسان لم يجعله عبدًا ولكن حرًا، فقد خلق آدم وحواء وكلاهما كان حرًا، إذن كيف بدأت العبودية؟ إن جنس الإنسان قد اِنحرف بعيدًا عن الطريق القويم، وتخطَّى الحدود المفروضة للطموح، واِنجرف بعيدًا عن الأسس السليمة. فلنسمع كيف حدث هذا عندما حدث الطوفان “انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء”[12].
تكاثرت المياه والموجودات تحللت ورجعت إلى عناصرها ولم تعد الأرض تظهر، ولكن كل شيء كان غمرًا بسبب غضب الله. كل شيء كان غمرًا ومياهًا وتعاظمت المياه وغطت آكام الجبال الشامخة ولم يكن هناك شيء إلا مياهًا وسماءً.
وهلك كل الأحياء وكان نوح هو ومضة شرارة لجنسنا، ومضة شرارة تطفو في وسط طوفان المياه دون أن تخبو، فكان الثمرة الأولي لجنسنا، زوجته وأولاده والحمامة والغراب وكل من تبقى، جميعهم دخلوا الفلك وكان الفلك يطفو فوق وجه المياه في وسط الطوفان ولم يغرق أو يتأثر، فقد كان ربانه إله الكون كله، لم تكن متانة صنع الفلك التي أنقذته، ولكنها يد الله القوية. انظروا المعجزة فعندما تطهرت الأرض من كل فاعلي الإثم بالطوفان وأُبيدوا وتراجعت المياه تكشفت قمم الجبال، واِستقر الفلك وأرسل نوح الحمامة.
إن هذه القصص ما هي إلا رموز وهذه الأحداث ما هي إلا شواهد لما سيأتي بعد ذلك. فالفلك يمثل الكنيسة، ونوح يمثل السيد المسيح، والحمامة تمثل الروح القدس، وغصن الزيتون يمثل محبة الله (ورحمته) لجنس البشر[13].
أطلق هذا الطائر الوديع وخرج من الفلك، لم تكن هذه الأشياء إلا رموز، وما عداها كانت حقيقة واقعة. انظر كيف كانت الرحمة واسعة (عظيمة) في الحقيقة. وتمامًا مثلما أنقذ الفلك من كانوا بداخله من غمرة الطوفان، كذلك فإن الكنيسة تنقذ كل الذين يضلون بعيدًا. إن الفلك قد أنقذ من كانوا بداخله ليس إلا (فقط)، ولكن الكنيسة تفعل ما هو أكثر من ذلك وهذا ما أعنيه، فقد اِستقبل الفلك حيوانات غير عاقلة وأنقذهم وخرجوا منه، كما هم حيوانات غير عاقلة.
ولكن الكنيسة استقبلت أناس غير عاقلين فلم تنقذهم فحسب، ولكنها أيضًا غيَّرتهم، استقبل الفلك الغراب وأُطلق كما هو غراب، ولكن الكنيسة استقبلت غرابًا وأطلقته حمامة، واستقبلت ذئبًا وأطلقته خروفًا (حملاً). فعندما يدخل شخص لص جشع أو شخص بخيل ويستمعوا لتعاليم الكتاب المقدس الإلهية، فإن نوازع الشر فيه تتغير ويتحول إلى حملاً (خروفًا) بدلاً من ذئب.
إن الذئب يسرق ما يخص الآخرون، ولكن الخروف يعطي حتى ما يخصه هو. استقر الفلك وتفتحت الأبواب، واِنطلق نوح خارجًا وقد نجا من الطوفان، ورأى الأرض أصبحت خربة، وطين الأرض أصبح مقبرة، وفناء عام للإنسان والحيوان، أجساد البشر والخيول وكل الأنواع البهائم مدفونة معًا في كومة، رأى هذه المأساة، رأى الأرض تئن بمرارة، وكان نوح واهن حزين (مثبط الهمة)، الكل قد هلك لم ينجو أحد، من خارج الفلك لا إنسان ولا حيوان.
لقد رأى فقط السموات، وكان منهكًا حزينًا، فشرب خمرًا وأسلم نفسه للنوم ليخفف من عمق حزنه ورقد في سريره مستسلمًا للنوم ملتمسًا النسيان الكامل في عقله، وقد حدث ما يحدث دائمًا عندما يشرب رجل كبير الخمر وينام. لابد لنا أن ندافع عن هذا الرجل البار، لأنه لم يشأ السكر والسلوى، ولكنه اِستعمل ليَبرئ من أحزانه، وقد قال سليمان أيضًا “أعطوا مسكرًا لهالكٍ وخمرًا لمُرِّي النفس”[14].
لهذا السبب فإن كثير من الناس خاصة في الجنازات (مناسبات الموت)، عندما يفقد أحد طفل أو زوجة وتجيش به مشاعر الحزن وتحيط به الأحزان (الإحباط)، ويفيض به شعور الحزن فإن أصدقائه يأخذونه إلى المنزل ويقدمون له الخمر بوفرة ويعطونه مسكرًا قويًا لهذا الشخص الذي هو في حداد حتى يخففون عنه آلامه. وهذا هو نفس ما حدث لنوح، لقد استخدم الخمر كدواء يتغلب به علي أحزانه، وبتعاطيه له استسلم للنوم،
وهكذا نعلم كيف بدأت العبودية، فإنه بعد قليل أثناء مرور ابنه الملعون – ابنه بالجسد (بالطبيعة) ولكن ليس بذات صفاته [وأكرر ثانية أن الأخلاق النبيلة ليست بعلو مقام الأسلاف، ولكن صفة الفضيلة في شخصية الفرد ذاته]، “فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيهِ”[15]،
فكان يجب عليه أن يغطيه وأن يستر عورته لأنه رجل كبير في السن ولأنه في حزن وهمّ ولأنه أباه، ولكنه خرج وأخبر إخوته بهذا وأعلنه، فأخذ أخواه الرداء ووضعاه علي أكتافهما ومشيا ووجهاهما إلى الوراء حتى لا يبصرا ما أخبرهم به وسترا عورة أبيهم، فلما اِستيقظ أباهم وعلم بكل ما حدث قال: “ملعون كنعان.
عبد العبيد يكون لإخوته”[16]، وقد عني بكلامه “تكون عبدًا لأنك جلبت عارًا خزيًا لأبيك”، أرأيتم كيف أن العبودية تأتي من الخطية، وأن الإثم يجلب العبودية؟ هل أريكم كيف أن الحرية قد تنشأ من العبودية؟ كان هناك عبد اسمه أنسيموس ولم يكن نافعًا في شيء، هرب وذهب إلى بولس واِعتمد وتطهر من خطاياه. وبقي يخدم بولس وقد كتب بولس إلى سيده قائلاً “أنسيموس الذي كان قبلاً غير نافع لك، لكنه الآن نافع لك ولي اقبله نظيري”… “الذي ولدتهُ به في قيودي”[17]،
فما الذي حدث… أرأيت مدى عظمته ونبل شخصيته، هذه الشخصية التي تهب الحرية. العبد، والحر هي أسماء فقط، فمن هو العبد؟ أنه مجرد اسم، فكم من السادة يستلقون علي أسرتهم مخمورين، بينما العبيد يسلكون سلوك الرصانة؟ من منهم اَعتبره عبدًا؟ الرصين (الملتزم) أم السكير المخمور؟
الذي هو عبدًا لإنسان أم الذي هو عبدًا لرغباته؟ إن الأول عبوديته من الخارج، أما الآخر فإنه يحمل عبوديته في داخله، إنني أقول هذا ولن أكف عن قوله، لكي ما يكون لديكم الفكر الصائب الذي يفيدكم في فهم الحقيقة الفعلية في هذا الموضوع، ولا يفوتكم الضلال الذي يخدع كثير من الناس، ولكن لكي ما تعرفوا من هو العبد ومن هو الفقير ومن هو الوضيع ومن هو السعيد وما هي الرغبة، إذا ما استطعت أن تميز هذا فإنك لن تصبح عُرضة لتشويه الفكر.
أخشى أننا قد انحرفنا عن موضوعنا، وهذا الاستطراد الطويل قد أبعدنا عن موضوع العظة، فلنعود إلى موضوعنا، فكما ترون هذا هو الرجل الغني ولكنه من الآن فصاعدا هو فقير، وبالأحرى فإنه وهو غني كان فقيرًا، فأي منفعة إذن للشخص الذي يقتني كل ما يخص الآخرين ولكنه لا يقتني ما ينفعه هو؟ وأي منفعة للشخص الذي يجمع الأموال ولكنه لا يقتني الصلاح؟
لماذا تأخذ ما للآخرين وتخسر ما هو لك؟ فالذي قال: “عندي أراضي مثمرة” وماذا يهم؟ إذا لم يكن لك روح مثمرة، “عندي عبيد” ولكن ليس عندك الصلاح، “عندي ملابس” ولكن لم تحرز التقوى، عندك ما يخص الآخرين ولكنك لا تملك ما ينفعك أنت؟
إذا ترك لك شخص وديعة من المال كأمانة، فإنني لا أستطيع أن أقول عنك أنك غني… هل أستطيع؟ كلا… لماذا؟ لأن هذا المال يخص آخر. إن هذا المال وديعة، ليتها تكون وديعة فقط وليست أموال تضاف إلى عقوبتنا، لذا فعندما رأى الغني لعازر نادى قائلاً: “يا أبي إبراهيم ارحمني”،
هذه كلمات من هو معدم، مستجدي، متسول، “يا أبي إبراهيم ارحمني”… ماذا تريد… “أرسل لعازر”، الرجل الذي مررت به آلاف المرات، الذي لم تريد أن تراه، الآن تلتمس أن يُرسَل لخلاصك، “أرسل لعازر”… أين هو ساقي الخمر؟ وأين هي نفائسك؟ أين هم المتطفلون حولك؟
أين هم المتملقون لك؟ أين هو خيلاتك (غرورك)؟ أين هي عجرفتك؟ أين هو ذهبك (كنزك) المخزون؟ أين هي ملابسك؟ أين هي فضتك التي تهتم بها؟ أين هو تفاخرك؟ أين هي رفاهيتك؟ كانت كلها كأوراق الشجر يعصف بها الشتاء فتذبل، وكأحلام الليل عندما حلّ الصباح ذهبت، وكصور زائفة (خيالات) تلاشت عندما جاءت الحقيقة. “أرسل لعازر”.. لماذا لم يرى أي بار من الأبرار الآخرين؟ لماذا لم يرى نوح أو يعقوب أو لوط أو اسحق،
ولكن إبراهيم بالذات؟ لماذا؟ لأن إبراهيم كان محبًا لاستضافة الغرباء، وهذه المحبة أصبحت هي أقوى اتهام لعدم إنسانية الغني، “أرسل لعازر”..
عندما نسمع هذا فإننا يا أحبائي نخاف خشية أن نكون رأينا نحن أيضًا الفقير ومررنا به وأغفلناه، وخشية أنه بدلاً من لعازر واحد يكون هناك الكثيرون يتهموننا في الآخرة. “أرسل لعازر ليبلَّ طرف إصبعهِ بماءِ ويبرّد لساني لأني معذَّب في هذا اللهيب”[18]،
“لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون. وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم”[19]، ألم تبخل بقليل من الفتات المتساقط من مائدتك؟ لهذا لن تعطى ولو قطرة ماء. “أرسل لعازر ليبرد لساني لأني أتعذب في اللهيب” فماذا قال إبراهيم له: “يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا والآن هو يتعزى وأنت تتعذب”، وهنا في رد إبراهيم لم يقل “أخذت خيرات” (elabez ) فقط،
ولكنه قال: “استوفيت خيراتك” (apelabez )، فإضافة (prefix ) تجعل هناك فرق كبير، لذا فإنني دائمًا أقول لكم أيها الأحبًاء، أننا يجب أن نفسر حتى ولو المقاطع الصغيرة، لأنه مكتوب “فتشوا الكتب”[20]. لأنه حرف أو نقطة كثيرًا ما تنبه إلى معنى أو تأمل[21]، وحتى نتعلم أن إضافة حرف واحد قد يغير المعنى، وهكذا نرى أن إضافة حرف واحد أوضح المعنى، بين مدى عظمته، فلا تهمل مثل هذه الأشياء وتأخذها ببساطة.
إن إبراهيم لم يقل “أنك استوفيت خيرات كثيرة”، ولكنه قال: “أنك استوفيت خيراتك”، فمن استوفى ما له قد استوفى ما له من دين مستحق له، فلننتبه جيدًا لما أقوله، أن تكون قد أخذت شيء وأن تكون أخذت ما تستحقه شيئًا آخر، إن الإنسان لا يأخذ دائمًا قدر ما يستحق ولكنه دائمًا يأخذ أكثر ممن يستحقه من خيرات.
“أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”، تأمل كيف أن الغني قد استوفي الخيرات له، وكذلك لعازر استوفى بلاياه، إنني أقول هذا لهؤلاء الذين ينالون ما يستحقون من عقابهم هنا وليس في الآخرة، ولهؤلاء الذين يعيشون هنا في رفاهية ولكنهم يعاقبون في الآخرة. لذا فلنعي (لننتبه) جيدًا ما أقول “أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”، الأشياء التي يدين بها، الديون المستحقة له. فلننتبه جيدًا لهذا التدقيق فسوف أتى إلى النقطة المرادة لتمسك بخيوطها.
فلا تجعل هذه المقدمة المطولة تبلبلك (تربكك)، فعندما أتكلم في موضوع كهذا فلننتظر النتيجة النهائية، فإنني أريدك أن تكون ثاقب البصيرة ولا تأخذ بالقشور الخارجية، ولكن تغوص في أعماق الكتاب المقدس، فالعمق في الكتاب المقدس يعطي الكثير من التأملات الهادئة، وكلما توغلنا أكثر كلما كان هذا مبعث للراحة والتأملات.
“إنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا والآن هو يتعزى وأنت تتعذب”، هذه مسألة مهمة، فكما قلت أن من يستوفي شيء له فهو يستوفي دين مستحق له، لذا فلو كان لعازر إنسان بار ( وهو بالحقيقة كذلك) وقد أصبح الآن في حضن إبراهيم ظافرًا بالأكاليل، الجائزة، التعزية، البهجة مكافأة صبره واحتماله.
ولكن الآخر خاطئ وشرير وقاسي بكل ما في الكلمة من معنى قضى حياته في التنعم، السكر والعربدة والملذات، فلماذا قال له إبراهيم “أنك استوفيت خيراتك” كما لو كانت دين مستحق له، رجل ثري، شرير، فاسق، فأي دين يستحقه هذا الشخص؟ لماذا لم يقل له إبراهيم لقد “استوفيت خيرات” وليس “استوفيت خيراتك”، فلتعيروني انتباهكم أن الجزاء هو الدين المستحق له، العقاب هو الدين المستحق له، العذاب هو الدين المستحق له.
فلماذا لم يقل له إبراهيم لقد أخذت هذه الأشياء ولكنه قال “أنك استوفيت التي لك” بمعنى ما أخذه في حياته التي عاشها، “ولعازر قد اِستوفي بلاياه”، فليتسع تفكيرك لأنني سوف أتعمق في هذا التأمل، فبين كل البشر الموجودين هناك البعض أشرار والبعض الآخر أبرار،
وأيضًا هناك فرق بين الأبرار وبعضهم البعض. فهناك من هو بار وآخر أكثر برًا، وهناك من هو ذو مرتبة سامية وآخر أكثر سموًا، تمامًا مثلما يوجد الكثير من النجوم والشمس والقمر، لذا فإن هناك فرق بين درجات الأبرار (مراتب الأبرار). “مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر. لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد”[22]. فهناك من هو أكثر مجدًا وآخر أقل، وكما هو الحال بين المخلوقات السمائية، كذلك أيضًا في المخلوقات الأرضية.
وكما يوجد بين الحيوانات الغزال والكلب والأسد، وبعضها حيوانات مفترسة وبعضها حيات (ثعابين) وأنواع أخرى مختلفة. كذلك أيضًا هناك أنواع مختلفة وفوارق بين الخطايا.
فإنك ترى فيما بين البشر الأبرار والأشرار، وهؤلاء بينهم فرق واضح، ولكن إن كان هناك إنسان بار ووصل إلى أعلي درجة في البر وتطهر تمامًا من الخطية، فإنه مع ذلك أيضًا لا يزال غير خالي من أي نقطة خطية، حتى ولو كان وصل إلى قمة القداسة ولكنه أيضًا لا يزال كائن بشري. لأنه “من يقول أني زكَّيتُ قلبي؟ تطهرتُ من خطبتي؟”[23]. لهذا السبب فإننا لابد أن نصلي قائلين: “اغفر لنا ذنوبنا”[24]، لأنه من خلال تعودنا تكرار هذه الصلاة نتذكر دائمًا أننا معرضين لعقاب الآخرة.
وحتى القديس بولس الإناء المختار، هيكل الله، لسان المسيح، قيثارة الروح، مُعلم العالم، الذي جاب المسكونة برًا وبحرًا، الذي تحدى أشواك الخطية، الذي بذر بذور الفضيلة (التقوى)، الذي كان أغنى من الملوك، مقتدرًا عن الموسرين، أقوى من الجند، أحكم من الفلاسفة، أبلغ من الخطباء، الذي لم يمتلك شيء ومع ذلك ربح كل شيء،
الذي كان ظله يقيم الموتى وأثماله تشفي المرضى، الذي اِنتصر علي البحر، الذي اُختُطف إلى السماء الثالثة ودخل الفردوس، الذي أعلن (جاهَرَ) بأن المسيح هو الله، مع كل هذا يقول بولس: “فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي. لكنني لست بذلك مبرَّرًا”، الذي ربح الكثيرون وازداد كثيرًا في البر والنعمة، لازال يقول: “الذي يحكم فيَّ هو الربُّ”[25].
لهذا من الذي يقول أن قلبه نقي؟ أو يقول بثقة أنه قد تطهر من الخطايا؟ فكما ترى أن هذا من الاستحالة بمكان لأنه ليس هناك إنسان بلا خطية. ماذا تقول؟ (وقد تقول) أن هناك فعلاً شخص بار يعطي الصدقات، يحب الفقراء، ولكن له بعض الذنوب كحدة الطبع أو الإحساس بالذات أو أي شيء من هذا القبيل، ولست بحاجة لأن أعد لكم قائمة كاملة بها.
فهناك شخص يُعطي صدقات ولكنه لا يستطيع أن يكبح جماح غضبه، وآخر يسيطر على نفسه ولكنه لا يعطي صدقات، فهناك شخص حظي بفضيلة معينة وآخر بفضيلة أخرى. تصور أن هناك إنسان تقي وفي كل الأحوال يكون فعلاً صالحًا وبه كل السجايا الطيبة، ولكنه مغرور بإحساسه بصلاحه وبره الذاتي، فإن هذا الغرور يفسد برّه.
ألم يكن هذا الفريسي بارًا، يصوم مرتين في الأسبوع؟ فماذا قال: “أني لست مثل باقي الناس الخاطئين الظالمين الزناة”، وعادة ما يقع الإنسان في الغرور بذهن خالٍ (بلا قصد)، وقد لا تضره الخطية مثلما يضره الغرور، وفي الحقيقة فإنه ليس من المستحيل أن يصبح الإنسان بارًا بكل ما في الكلمة من معنى، وأن يتطهر من الآثام، وأيضًا العكس، فإنه ليس من المستحيل علي أي إنسان ولو كان غاية في الشر ألا تكون له ولو بعض السجايا الطيبة الصغيرة.
إنني أعني ما معناه أن يكون فلان أو آخر يرتكب سرقة أو احتيال أو اغتصاب، ولكنه في بعض الأحيان يتصدق، أو في بعض الأحيان يكبح غضبه، وأحيانًا يتكلم كلمة رقيقة، وقد يساعد إنسان ولو مساعدة بسيطة، وأحيانًا تحل به فاجعة (مصيبة)، وأحيانًا يكون مهمومًا. لذا فإنه لا يوجد أحد كامل البرّ بلا خطية، ولا أحد شرير تمامًا خالٍ من أي صلاح. من كان أشد شرًا من آخاب؟ لقد قتل وورث أرض من قتله[26].
ومع ذلك فعندما ندم آخاب فإن الله قال لإيليا “هل رأيت كيف اتَّضع آخاب أمامي”[27]. أرأيت كيف أنه في عمق الخطية قد توجد بعض الأشياء الحسنة الصغيرة؟ من هو أشد سوءًا من يهوذا الخائن؟ الذي أسره حب المال، ومع ذلك فقد فعل شيئًا حسنًا ولو أنه ضئيل، فبعد خيانته قال: “قد أخطأت إذ سلمت دمًا بريئًا”[28]. وهذا ما عنيته أن الإنسان ليس شريرًا بطبيعته بحيث لا يكون هناك أي نواحي للخير فيه.
إن الخروف لا يمكن أن يصبح حيوانًا مفترس لأنه وديع بالفطرة، ولا يمكن أن يصبح الذئب أليفًا لأنه مفترس بالفطرة، إن ناموس طبيعة الحيوانات ثابت لا يتغير، ولكن هذا الناموس لا ينطبق علينا كبشر. إنني قد أصبح قاسي إذا أردت، وأصبح وديعًا إذا أردت، لأنني لست خاضعًا للفطرة، ولكنني قد مُنحت حرية الاختيار، وكما قلت فإنه ليس هناك إنسانًا بارًا بلا خطية ولو صغيرة، ولا إنسانًا شريرًا بلا حسنة ولو صغيرة، لذلك فكما أن هناك جزاء لكل شيء، هناك أيضًا ثواب لكل شيء.
حتى وإن كان الشخص قاتل ومهما كانت درجه شره وجشعه، فلو أنه قد فعل شيئًا صالحًا فإنه سيكون له جزاءه عن هذا الشيء الصالح الذي فعله، وفعله الصالح لن يضيع بلا مكافأة بسبب الشرور التي فعلها.
وفي المقابل لو أن هناك شخص قد قام بأفعال صالحة لا تعد ولا تحصى، ولكنه اقترف شيئًا شريرًا، فسيكون عليه جزاءًا لما اقترفه، تذكر هذا واِحفظه ثابتًا وراسخًا، فليس هناك من هو بارًا بلا خطية ولا شريرًا بلا حسنة، أنني أعيد نفس القول مرارًا لكي ما أرسخ الفكرة وأزرعها داخلكم وأثبتها في أعماق قلوبكم.
إن الشيطان يضع العراقيل أمامكم متمنيًا أن يضلل أذهانكم بعيدًا حتى يفسد ما أقوله، لهذا السبب فإنني أجعل كلماتي غائرة في أعماقكم حتى تحتفظوا بها داخلكم حتى عندما تخرجون من هنا لا تفقدوها تمامًا، مثلما أضع ذهب داخل حافظة وأربطها جيدًا وأحكم غلقها حتى أحفظها من سطو اللصوص عندما أكون خارجًا. هكذا أيضًا يا أحبائي أفعل معكم بمداومة تعاليمي لكم، أضعها داخلكم وأربط عليها بأحكام جاعلاً نفوسكم آمنة فلا تغركم الأباطيل بل تصدونها على الفور.
إنني أبعد القلق بعيدًا عنكم وأبعث الطمأنينة داخلكم، وكما ترون فإن كلامي هذا ليس لمجرد الثرثرة وإنما كلام معلم مهتم، حنون، محب يخاف أن تذهب هذه الكلمات سدى. إن قوة هذه الأشياء ليس بالعسير عليَّ ولا يتعبني ولكن لكي أحافظ عليكم، كما أود أن أعلمكم ألا تتأثروا ببساطة بالمظاهر، لأنه ليس هناك إنسان صالح ليس له خطية، ولا إنسان خاطئ خالي من الصلاح،
ولكن كل شيء له جزاءه، وهذا ما نراه يحدث أن الإنسان الخاطئ يستوفي ما يستحقه بجزاء عادل علي أفعاله الصالحة إذا كان قد فعل حتى ولو فعل صالح صغير، والإنسان البار يستوفي ما يستحق بحكم عادل علي خطيته لو أنه فعل حتى ولو كانت خطيته بسيطة.
إذًا ماذا يحدث وما هو ما يفعله الله؟ إن الله قد وضع حدًا فاصلاً للخطية بين الحياة الحاضرة والحياة الآتية، فلو أن شخص بار اِقترف فعلاً سيئًا وأصيب بالمرض وأُسلم للعقاب في هذه الحياة الحاضرة فلا تدع هذا يزعجك، ولكن فلنقل ولنأخذ بعين الاعتبار أن هذا الإنسان البار قد اِقترف بعض الخطايا الصغيرة في وقت ما، وهو يستوفي ما عليه هنا حتى لا يعاقب في الآخرة،
وعلى العكس فإن رأيت إنسان شريرًا يسرق ويحتال ويفعل أفعالاً شريرة كثيرة، فلو أنه في ازدهار ونجاح اِعتبر أن هذا الشخص قد فعل في بعض الأوقات صلاح ما وهو بهذا يستوفي ما له بهذه الأشياء الطيبة هنا حتى لا يطالب بمكافأته في الآخرة.
لذلك فلو أن هناك شخص بار يعاني بعض البلايا، فإنه يستوفي ما عليه، والقصد هنا أن يتخلص من خطيته ويرحل متطهرًا إلى العالم الآخر، ولو أن هناك شخص خاطئ محمل بالشرور والآثام الثقيلة وبالسلب والنهب، ولكنه يتمتع بالازدهار والرخاء هنا، فإن هذا له قصد وليس عبثًا حتى لا يطلب مكافأته في الآخرة. وبما أن لعازر كانت له بعض الخطايا، والغني كانت له بعض الأعمال الطيبة، فمن أجل هذا قال له إبراهيم ليس لك أن تطلب بأي شيء هنا “أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”، ولكي أثبت لكم أن كلامي هذا ليس مجرد كلام ولكنه الحقيقة بلا ريب فإنه يقول: “أنك استوفيت خيراتك” ماذا؟ هل فعلت أي شيء صالح؟
قد أخذت ثروة وصحة، تنعُّم، قوة، سلطة، فليس لك أي مستحقات هنا لقد استوفيت خيراتك، ولعازر هل لم يقترف أي خطية علي الإطلاق؟ إن لعازر أيضًا قد اِستوفى البلايا التي يستحقها، فعندما كنت تستوفي خيراتك كان لعازر يستوفي بلاياه، لهذا فإنه الآن يتعزى بينما أنت تتعذب. لذلك عندما ترى إنسان بار يُعاقب في هذه الحياة فلتعتبره محظوظًا ولتقل إن هذا إما أنه كانت له بعض الخطايا وهو يستوفي ما يستحقه عنها، حتى يرحل متطهرًا إلى الحياة الأخرى،
إما أنه يُعاقب بأكثر مما يستحق عن خطاياه فيحسب له مزيدًا من البرّ، وحينما يحين حساب الآخرة ويقول الله للإنسان البار: إن مقدار أوجاعك وبلاياك توفي حق خطيتك، وما زاد علي ذلك فهو يُحسب لك للبرّ ذاته، ولكي نتيقن أن الزيادة هي لحساب البرّ ذاته، نتذكر أيوب وكيف كان إنسان بار بلا لوم، طاهر، صادق، ورع، لم يفعل أي فعل رديء،
ولكنه تألم بألآم جسدية كثيرة هنا حتى تكون له المكافأة في الآخرة، فماذا قال الله له “لعلَّك تناقض حكمي. تستذنبني لكي تتبرَّر أنت”[29]. ليت يكون لنا نفس صبر واحتمال الأبرار وسلوكهم الطيب، حتى يكون لنا نصيب من المجد المعد للقديسين الذين أحبوا الله. ليتنا جميعًا نستحق ذلك بنعم ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له مع أبيه الصالح والروح القدس المجد والإكرام والعزة إلى دهر الداهرين آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حز11:33
[2] يون4:3
[3] مت3:13
[4] مت12:18
[5] يو7:4-42
[6] حز17:3
[7] إش26:43
[8] إش18:57، 19
[9] مت11:10-15
[10] 1كو1:5-5
[11] لو24:16-26
[12] تك11:7
[13] قارن 1بط20:3
[14] أم6:31
[15] تك22:9
[16] تك25:9
[17] فل8
[18] لو24:16
[19] مت2:7
[20] يو39:5
[21] قارن مع مت18:5
[22] 1كو41:15
[23] أم9:20
[24] مت12:6
[25] 1كو4:4
[26] 1مل19:21
[27] 1مل29:21
[28] مت4:27
[29] أي8:40
No Result
View All Result
Discussion about this post