العناية الإلهية
للقديس يوحنا الذهبي الفم
كنيسة مار جرجس باسبورتنج
بين يديك أيها الحبيب حديث بسيط شيق، سجّلته نفس شبعت من محبّة الله وتفجّرت في داخلها ينابيع فرح بلا حدود. فقد لمس القدّيس يوحنا ذهبي الفم – وسط الآلام التي عاشها – عناية الله به خلال الخليقة التي أوجدها الله من أجله، وأدرك اهتمام الله به خلال الناموس الطبيعي الذي أوجده فيه، ولمس كمال محبّته غير المنطوق بها في الخلاص المُعلن على الصليب ومواعيد الأبديّة التي ذاق عربونها في هذه الحياة.
ليعطنا إله السماء أن نلمس عناية الله ونخضع لأحكامه، ولا نعطي لأنفسنا مجالاً للتذمر عليه، مختبرين أبوّة الله وترفّقه بنا.
الرب يعوّض الأخت المباركة التي قامت بترجمة هذا المقال.
بركة آبائنا القدّيسين تكون معنا – مجدًا للثالوث القدّوس.
القس تادرس يعقوب ملطي
ملاحظة التبويب والعناوين ليست في أصل المقال.
1
مقدّمة
يجدر بالإنسان حين يتعرّض لمرضٍ ما أن يتعرّف عليه، فإن هذه المعرفة تفيد في الشفاء… تعرفه عليه لا يفيده فقط في البرء منه، بل ويقيه في المستقبل فلا يتعرّض للمرض مرة أخري.
لهذا فإنّني أشرح لمرضى “العثرة” [1] علّة هذا المرض، حتى متى تعرفوا على علّته واهتمّوا بالوقاية منه أمكنهم الشفاء منه ومن غيره من الأمراض التي يرضّخون تحتها الآن، كما تحصّنهم ضدّ ما قد يحل بهم مستقبلاً…
والعثرة لا يسقط تحتها الضعفاء لعلّة أو اثنين أو ثلاث وإنّما لعلل كثيرة.
أما غاية حديثنا فهو إنقاذ الذين سقطوا فريسة لهذا المرض متى قبلوا نصائحنا وعملوا بها. نحن لا نقدّم العلاج من الكتاب المقدّس وحده، وإنّما ممّا نختبره عمليًا في الحياة بصورة متكرّرة…
لكنّني لا أفتر عن أن أكرّر أن هذا العلاج ليس ملزمًا بالقوة بالنسبة للرافضين له، مستهينين بالوصايا الإلهيّة وقوّتها التي تفوق ما نتعلّمه خلال خبرتنا العمليّة. إذ يليق بنا أن نؤمن أن مواعيد الله جديرة بالثقة فوق كل ما هو منظور. أمّا من لا يقبل الإصلاح فإنّه يسقط تحت الدينونة غير منتفع بالكتاب المقدّس الذي تكمن فيه كل منفعة.
لنسرع إذن بإصلاح الذين يتعثّرون بسبب الضيق ناسين عناية الله وحبه، فنجنّبهم السقوط تحت هذه العقوبة، موضّحين لهم علّة دائهم.
2
أحكام الله
ما هو علّة هذا الخطر العظيم: تجاهل عناية الله؟!
إنّه طيش الفكر وفضوليّته. اشتهاء تفهّم كل علل الأحداث التي تحل بنا، والرغبة في مقاومة عناية الله غير المدركة ولا موصوفة، تلك العناية الفائقة لكل فحص واستقصاء! ومع هذا لا يخجل الإنسان من هذا الموقف الفضولي المملوء تهورًا.
تُرى من فاق بولس في حكمته؟ اخبرني، ألم يكن إناءً مختارًا؟ ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟ ألم يتكلّم المسيح فيه؟ ألم يكشف الله له عن أمورٍ لا يُنطق بها؟ ألم يسمع ما لا يحق لإنسان أن ينطق به؟ ألم يُختطف إلى الفردوس ويرتفع إلى السماء الثالثة؟ ألم يجوب البحار والبر يجذب الوثنيّين إلى المسيحيّة؟ ألم ينل من مواهب الروح المتنوّعة؟… ومع هذا كلّه، فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوّته وإمتلائه بالروح – إذ خصّه الله بهذه الامتيازات، عندما يتطلّع إلى عناية الله، لا في كل جوانبها، بل في جانب واحد منها، تأخذه الدعوة منسحقًا، ويتراجع سريعًا خاضعًا لله غير المدرك. فإنه لم يبحث عن عناية الله بالملائكة ولا رؤساء الملائكة أو الشاروبيم والسارفيم وكل الطغمات غير المنظورة، ولا في عنايته بالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر، ولا في سهره على الجنس البشري بأكمله وإهتمامه بالحيوانات غير العاقلة والزرع والعشب والأهوية والينابيع والأنهار… لكنه عناية الله الخاصة باليهود واليونانين وأفاض في بحث النقطة، وشرح كيف دعي الله الأمم ورفض اليهود ثم أوضح كيف حقق الخلاص… وحينما أدراك هذا، إكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية إرتجف متحققًا إستحالة تفسير عللها، وارتعب قدام عنايته اللانهائية غير المحدود ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مدركة، فتراجع في مهابة متعجبًا،وهو يقول: “يا لعمق غني الله وحكمته وعلمه”! (رو 11: 33)
لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، قائلاً “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟!”
إنه لم يقل أن أحكامه عن الفحص فحسب وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان على فهمها، بل ولا حق له أن يبدأ في الاستقصاء. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف بدأ تخطيطها؟!
وإذ قال “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” أنهى حديثه – وقد امتلأ عجبًا ورعدة – بأنشودة شكر قائلاً: “لأن من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا. أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟! لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى أبد الأبد. آمين”
يريد أن يقول إن الله ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير. هو بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها. هو الخالق. دعا غير الموجود موجودًا. يدير ويرتب ويحفظ كل شيء حسب إرادته!…
“منه وبه وله كل الأشياء” هذه كلمات إنسان يود أن يؤكد أن الله خالق كل الكائنات ومبدعها، مدبر حياتها وحافظها.
وفي موضع آخر يتحدث بولس عن النعمة الموهوبة لنا فيقول: “شكرًا لله على عطيته التي لا ُيعبر عنها” (2 كو 9: 15)، يؤكد أن سلام الله المعطي لنا فائق لكل نطق وكل وصف وكل عقل، قائلاً: “سلام الله الذي يفوق كل عقل” (في 4: 7).
فإن كان عمق غنى الله وحكمته وعلمه بلا حدود، وإن كانت أحكامه بعيدة عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، وإن كانت مواهبه لا ينطق بها، وسلامه يفوق كل عقل… يفوق عقلي وعقلك وعقل كل أحد، بل وعقلي بطرس وبولس، وفهم رؤساء الملائكة وكل الطغمات السمائيّة، اخبرني أي عذر لك في محاولتك الغبيّة المملوءة جنونًا، لكي تتفهم ما لا يمكن إدراكه، محاسبًا أعمال عناية الله؟!
إن كان بولس الذي أدرك الإلهيات بعمق وإمتلأ رجاءً صادقًا غير منطوق به وغمرته كل هذه المواهب تجده يتراجع، وإن كان قد إرتفع فوق حدود طاقته لعله يفهم فلم يقدر حتى أن يدرك مباديء تدابير الله. فإن هذا محال، أفلا يحسب ذاك الذي يريد السير في طريق مناقض لترتيب العناية الإلهيّة أشقى الجميع وأكثرهم جنونًا؟!
بين معرفتنا الحالية ومعرفتنا الأبدية
لم يكتف الرسول بهذا، لكنه عندما تعرض لمعرفة الأمور الإلهية – في رسالته إلى أهل كورنثوس – أكد أن معرفته – بالرغم مما ناله منها- لا تزال محدودة وغاية في الضآلة إذ قال[2]: “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف”. لقد أكد لنا أننا الآن نعرف بعض المعرفة، أما الجانب الأعظم منها فسنعرفه في الدهر الآتي “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض[3]“.
وعندما أراد توضيح الفارق بين معرفتنا هنا ومعرفتنا في الحياة الأخرى لجأ إلى هذا التصوير[4]: “لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، ولكن حينئذ وجهًا لوجه”.
هل لمست مدى الفارق بينهما؟ إنه كاختلاف معرفة الطفل الصغير عن معرفة الرجل الناضج، وكاختلاف الرؤية في مرآة عن التطلع وجهًا لوجه، إذ تشير المرآة إلى التعبير العميق لكن في غموض!…
فلماذا إذن لا نصدق قول بولس[5]: “من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟!”
تأمل كيف يليق بنا الخضوع لإرادة الله في صمت!
إنه بلا شك لا يقصد بقوله هذا أنه يود أن يفقدنا إرادتنا حاشا! لكنه يؤكد أنه ينبغي على الباحث الالتزام بالصمت، كالطين في يدَّ الخزاف لا يقاوم ولا يجادل. وقد ذكر الخزاف والطين ليذكرنا بطبيعتنا، فإنهما في درجة واحدة من حيث وجودهما (لأن الخزاف مخلوق من التراب) ومع هذا يخضع الطين للخزاف، فأية مغفرة يترجاها الإنسان وهو يتجاسر بتهور مجادلاً إرادة الله جابله، مع أن الفارق بينه وبين الوجود ذاته لا نهائيًا؟!
أذكر أيها الإنسان من أنت؟ ألست طينًا وترابًا ورمادًا؟ ألست بخارًا؟ ألست عشبًا؟ ألست زهرة عشب؟ هكذا يتسابق الأنبياء في رسم صور قدام أعيننا للتعبير عن حقيقة وجودنا. أما الله الذي تود أن تخضعه لفضولك الطائش فهو لا يخضع للموت أو التغيير. إنه سرمدي لا بداية له ولا نهاية، غير مدرك، فائق لكل فهم وكل منطق، غير موصوف ولا منظور! هذه الصفات التي لا نقدر إدراكها أنا وأنت أو حتى الرسل والأنبياء، بل ولا القوات السمائية- رغم طهارتها غير المنظورة وروحانيتها ومعيشتها في السماء على الدوام.
3- أحكام الله والسمائيون
عندما نسمع السيرافيم أنهم يطيرون حول العرش في سموه ورفعةٍ، يغطون وجوههم بجناحين… ويسترون أرجلهم باثنين، ويصيحون بصوتٍ مملوء رعدة، لا تظن أن لهم ريشًا وأرجلاً وأجنحة، فإنهم قوات غير منظورة…
حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل هو ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. فإن الله لا يحده مكان ولا يجلس على عرش… إنما جلوسه على العرش واحاطته بالقوات السمائية هو من قبيل حبه لهم.
إذا ظهر على العرش وأحاطت به هذه القوات لا تقدر على معاينته، ولا احتملت التطلع إلى بهاء نوره، فتغطي أعينها بأجنحتها، ولا يعد لها إلا أن تسبح وتترنم بتسابيح مملوءة مجدًا ورعدة مقدسة، وبأناشيد عجيبة تشهد لقداسة الجالس على العرش.
حرى بذاك الذي يتجاسر ليفحص عناية الله الذي لا تقدر القوات السمائية على لمسها أو التعبير عنها أن يختبئ مختفيًا تحت الآكام.
الابن والروح يعلنان إحكامه
لا يدرك كمال الله إلا الابن والروح القدس. وقد كشف لنا يوحنا الحبيب الحقيقة الأولى[6]، وبولس الرسول الثانية[7].
ابن الرعد (يوحنا) الذي أحبه الرب جدًا، والذي دل لقبه على سمو فضيلته، الذي تمتع بالإتكاء على صدر الرب يقول “الله لم يره أحد”، والرؤية هنا تعني المعرفة. “الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبرَّ”...
وعندما أراد الإناء المختار (بولس) أن يتحدث عن مقاصد الله ويشير إلى الأسرار كما عرفها قال:“نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة المكتوبة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد، بل كما هو مكتوب ما لم تره عين ولم تسمع له أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه”.
إذن كيف عرفنا حكمة الله يا بولس؟ ومن كشفها لنا؟ ومن أوضح لنا الأمور التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على بال إنسان؟ أخبرنا، من الذي وهب لنا هذه المعرفة العجيبة؟
يقول “أعلنه الله لنا بروحه”. ولئلا يظن أحد أن الروح القدس لا يعرف إلا ما قد أعلنه، وليس كل أسرار الله، قال “لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن منِ من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟! هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها إلا روح الله”. هذه الكلمات تعني أنه كما يعرف روح الإنسان ما يخصه بدقة، هكذا يعرف روح الله المعرفة الإلهية الكاملة بدقة لا ُيعبرعنها.
بقوله “أمور الله لا يعرفها إلا روح الله” إستبعد الإنسان وكل السمائين عن هذه المعرفة. لهذا جاءت هذه النصائح المملوءة حكمة “لا تطلب ما يعييك نيله ولا تبحث عما يتجاوز قدرتك لكن ما أمرك الله به فيه تتأمل ولا ترغب في أستقصاء أعماله الكثيرة[8]“.
هذا القول يعنى أنه يليق بك ألا تنسب معرفتك لذاتك، فلا تكفي الطبيعة أن تعلمك.. إنما أخذت من فوق معرفة أكثر الأمور، إذ هي تفوق إدراكك.
لماذا تحاول استقصاء الأمور العميقة بقوتك الذاتية مع أن غالبيتها يفوق قوة تفكيرك التي وهبها الله لك؟ ألعل بولس كان يحاول الإشارة إليك حين قال[9] “أيّ شيء لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!”.
إذن لتهرب من حب الجال وأقبل هذه النصيحة المملوءة حكمة. لا تقل ما هذا؟ ولماذا حدث هذا؟ لأن “أعمال الرب كلها حسنة جدًا وجميع أوامره تجرى في أوقاتها وكلها ُتطلب في آونتها [10]“.
4، 5
الخليقة وعناية الله[11]
عندما أكمل الله الخليقة كلها وزينها بالجمال تطلع إلى هذا العمل العجيب المتناسق “ورأي الله مل ما عمله حسن جدًا[12]”. هكذا سبق الله فأثبط حكم مختلي العقل، المقاومين لعمله، فليتنا لا نقبل رأيهم المملوء تهورًا.
رأى الله النور والظلمة… رأى الأشجار المثمرة وأشجار البرية، والسهول المنبسطة والجبال، والوديان والشقوق، الإنسان والحيات السامة، الأسماك والحيتان البحرية، والأمواج الهادئة والعواصف العنيفة، والشمس والقمر والنجوم والرعد والبرق، الهواء العليل والعواصف، الحمام والطيور المغردة، النسور والحيوانات المفترسة، الغنم والبقر، الذئاب والفهود، العقارب والحيات، الأعشاب الشافية والأعشاب السامة…
زينتها مجدَّها الله. أقصد أنه مجدَّ كل شيء منها على إنفراد كما مجد الخليقة في كليتها. بهذا لا يجسر أحد – مهما كان تهوره – أن يفكر في فحص باقى الأمور ما دامت ترضي الرب. فبعدما قال“ليكن نور” أضاف “ورأي الله أن النور حسن”. وهكذا في خلقه كل شيء أعلن الله رضاه…
هذا لا يعني اكتشاف الله جمالها بعد خلقتها. كلا! لأنه إن كان الفنان يقدر أن يدرك جمال عمل يديه قبل تنفيذه، كم بالحري الحكمة الفائقة الذي بعث الحياة في الكل بإرادته وحده؟! لقد عرف روعة خليقته قبلما يخلقها. وما كان قد جاء بها إلى الوجود لو لم يكن قد سبق فعرفها.
فإن سمعت قول النبي أن الله رأي كل شيء ومدحه… أعلم أن هذا إعلان عن رأي الله وحكم مبدعها…
إذن تحاول البحث في أمور الخليقة باندفاع، فإن لديك شهادة عالية تعلن امتيازها. فإن لم تكتف بهذه الشهادة باحثًا في الخليقة بأفكار متضاربة وسط جو عاصف، لن تتقدم في شيء إنما تهئ لنفسك فشلاً مرًا، وتعجز عن إيجاد تفسير للخليقة، بل وما قد تستحسنه من الخليقة الآن قد ترذله غدًا بسبب عقم تفكيرك. فإن فكر الإنسان ضعيف، ينجذب نحو إتجاهات متضاربة، وتتعارض وجهات النظر تجاه الخليقة الآن. فاليونانيون بسبب شدة إعجابهم بها صيروها آلهة، وأتباع ماني مع هراطقة آخرين حسبوها ليست من صنع إله محب… ولا تستحق أن تكون من عمل إله خلاق[13].
فإن كنت تشك في عناية الله سَّل الأرض والسماء والشمس والقمر. سل الكائنات غير العاقلة والزروع… سل الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سل الليل والنهار. فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها. في كل مكان، في البراري والمدن والمسكونة، على الأرض وفي البحار… أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الصارخة…
في كل موضع ترتفع الأصوات مدوية بوضوح أعلى من أصوات البشر العاقلين تعلن لكل من يريد أن يسمع عن محبة الله الساهرة! وإذ أراد النبي أن يسجل قوة هذه الأصوات قال: “في كل الأرض خرج صوتهم وفي أقصى المسكونة كلماتهم” (مز 19: 4).
لغتنا نحن لا يفهمها إلا أهل لساننا، أما الخليقة فتنطق بلغة تفهمها جميع الشعوب!
6
الله يحبك
القلب أكثر استعدادًا للتلامس مع عناية الله وحبه العظيم نحونا خلال صوته الداخلي من تلمسه خلال أعمال الله الخارجية. فهو ليس فقط يعتني بنا، لكنه يحبنا بلا حدود، حبًا مقدسًا ملتهبًا، حبًا شديدًا حقيقيًا لا ينفصم ولا ينطفئ. ولكي يكشف لنا الكتاب المقدس عن هذا الحب قارنه بحب الناس، موضحًا حب الله الساهر وعنايته بنا بأمثلة كثيرة، لا لنقف عند حدود الأمثلة، وإنما يدفعنا أن نتعداها أثناء تأملنا لها…
1- مقارنته بحب الأم
يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة وأنوا قائلين: “قد تركني الرب وسيدي نسيني” قائلاً[14]: “هل تنسى الأم رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟”. كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها فبالأولى لا ينسى الرب البشرية. وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حب، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه. لهذا يقول: “ولو نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساك يقول الرب”. تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم؟…
يؤكد رب الأنبياء وسيد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده كما يفوق النور الظلمة والخير الشر. أنصت ماذا يقول؟ “أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه سمكة يعطيه حية؟! فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه؟!” (مت 7: 9-11)
كاختلاف الخير عن الشر هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين…
2- الحب بين محبوبين
توجد أمثلة أخري كحب الحبيب لمحبوبته، لا أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من قبيل التشبيه مع الفارق… لهذا يقول داود: “لأن مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه” (مز 103: 11).
كما أن الإنسان في حبه يراجع كلماته بجنون خشية أن يكون قد نطق بشيء يجرح محبوبته، هكذا يقول الرب: “ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي… رجع قلبي” (هو 11: 8). فلا يستنكنف الرب من إستخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه لمحبوبته.
3- الحب الزوجي
لم يكتفِ بهذا، لكنه تعمق بالأكثر ذاكرًا مثالاً يخترق أعمق الأمور قائلاً[15]: “كفرح العريس بالعروس، هكذا يفرح بك الرب”. فالحب يكون في أوجه عند البداية (بين العروسين). وقد استخدم هذا الأسلوب لا ليحمل شيئًا بشريًا إنما لكي نلمس شدة التهاب محبته الحقيقية…
4- حب الصانع لعمل يديه
لا تقف المقارنات الخاصة بحبه عند هذا الحد، لكنه يذهب إلى أبعد من هذا…
لقد تضايق يونان بعد هروبه ومصالحة شعب نينوى مع الله… متألمًا منفعلاً بطريقة بشرية مملوءة حزنًا. فأمر الله الأرض أن تنبت يقطينه ليونان تحمى رأسه، ثم أمر الشمس أن تزيد من حرارتها فتحرقها. فغضب يونان لهلاكها، لكن إذ عزاه الرب ثم جربه اسمع ماذا يقول له: “أنت تشفق على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من أثنى عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم؟!” (يونان 4: 10-12) هذا ما أراد أن يقوله: ألم تفرح بظل اليقطينة، فكم بالحري ينبغي أن أفرح بخلاص أهل نينوى؟! ألم تتألم بهلاكها؟! هكذا يؤلمني هلاك البشرية…
لم يقل له “أنت شفقت على اليقطينة” وتوقف.. بل أكمل “التي لم تتعب فيها ولا ربيتها“. لأنه كما يشفق البستاني على الشجرة التي تعب فيها أكثر من غيره، هكذا أراد الله ان يثبت محبته للبشر خلال هذه المحبة. كأنه يقول له: أنت تدافع بقوة عن عمل غيرك الذي لم تتعب فيه بالحري يليق بي الدفاع عن عمل يدي! ثم يخفف من حدة الاتهام الموجه ضدهم بقوله: “لا يعرفون يمينهم من شمالهم“، أي أخطأوا بغير معرفة…
ويعاتب الذين يئنون بأنهم متروكون قائلاً “من جهة بني ومن جهة عمل يدأي أوصوني!” (إش 45: 11) وكأنه يقول: من يُذَّكر الأب بابنه أو يحثه ليفكر فيه؟ أو من يُذَّكر الفنان ألا يتلف فنه؟!
وهو لا يقول هذا ليمنعهم عن الصلاة وإنما لكي يعرفوا أنهم قبل أن يصلوا يعمل الرب ما يحسن في عينيه. لكنه يريدنا أن نصلي لأن في الصلاة نفع عظيم…
لقد رأيت الأمثلة السابقة كيف أن أعمال عناية الله أسطع من الشمس إذ ذكر مثل الأب والأم والعريس والبعد بين السماء والأرض… وشبه نفسه بالبستاني الذي يتعب من أجل عمل يديه… وبالحبيب الذي يحزن لئلا يحزن محبوبته ولو بكلمة… مؤكدًا لنا أن محبته مختلفة عن كل هذه أنواع الحب كإختلاف الخير والشر.
7
خلق الكل لأجلك
الأدلة السابقة فيها الكفاية بالنسبة للقلوب المستعدة، لكن إذ يتمرغ البعض في الوحل… نثبت لهؤلاء عناية الله خلال أعماله قدر ما نستطيع، إذ يصعب علينا حصرها ولو في أقل جانب من جوانبها. عنايته غير المحدودة تظهر في أعماله العظيمة والصغيرة، الظاهرة والخفية. لكننا نكتفي هنا بالبحث في الأمور الظاهرة.
الله لم يوجد الله الخلقة الجميلة المتناسقة إلا لأجلك. من أجلك أبدعها بهذا الجمال وتلك العظمة والتنوع والغنى، حتى يشبع إحتياجات جسدك وينميه، وينمى فيك تقوى الروح، ويقودك بهذا إلى معرفة الله.
فالملائكة ليست محتاجة إلى هذه الخليقة (الأرضية) وإلا ما خلقوا قبلها! إذ يقول الله لأيوب “وعندما ظهرت الكواكب سبحتني جميع الملائكة”. (أي 38: 7) بمعنى آخر لقد ذُهلت أمام كثرة الكواكب وجمالها ونظامها ونفعها وتنوعها ونورها!…
هل هناك جمال يفوق روعة السماء إذ تتلألأ بأشعة الشمس، كأنها قد تلألأت بقطرة حب ملتهبة، تنير الأرض بعدد لا يحصي من النجوم، تقود الربابنة والمسافرين، كأنها تمسك بيدهم[16]…
أيّ شيء يفوق جمال السماء وقد امتدت فوق رأسك تارة كغطاء طاهر شفاف وأخري كسهل منبسط تزينه الورود!
المتعة بجمال الورود نهارًا لا يفوق تأمل جمال السماء ليلاً وقد تلألأت بآلاف زهور النجوم التي لا تذبل!
إن كنت لا تسأم التأمل تستطيع أن تتطلع إلى عناية الله في شهود كثيرين: السحاب فصول السنة، البحار وما فيها، الأرض وما عليها…
هل يوجد أصغر من الفراشة وأحقر منها؟ أو مثل النمل أو النحل؟ ومع هذا فهذه جميعها تتحدث عن عناية الله وقدرته وحكمته!
من أجل هذا إذ تأهل النبي بالروح للتأمل في الخليقة في كليتها صرخ قائلاً: “ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت!” (مز 104)
حقًا إن أهوية السماء ُخلقت من أجلك… ترطب أجسامنا المتعبة وتجفف المناطق الوحلة، وتخفف حدة الصيف، وتنمي الزروع، وتساعد على الإبحار الخ…
وإن أردت البحث في الليل فإنك تنظر فيه عناية الله القديرة، فإنه يعين جسدك المتعب، ويُهدئ أعصابك المجهدة… ينقذك من آلام النهار، واهتماماته المملوءة قلقًا… فمن يحرم من راحة الليل يخسر النهار، ومن لا يعطى لعقله هدوءًا واسترخاء يفسد عمله. هذا كله من أجلك يا إنسان [17]…
الآن وقد فهمت عناية الله أنها تفوق أشعتها ضياء نور الحياة، لا تفحص بفضول الأمور التي تعلو قامتك ولا تسلك فيما لا ينفعك… فوجودنا ذاته هو هبة معطاة لنا من قبيل حبه الفائق إذا هو ليس محتاجًا إلى عبوديتنا.
إذن فلنحبه ونعبده لأنه خلقنا، لا لأنه وهبنا نفسًا روحية عاقلة، ولا لأنه جعلنا أسمى خليقته، ولا لأنه أعطانا سلطانًا على المنظورات، وإنما لأنه لم يكن محتاجًا إلينا. هذه هي علامة حبه العظيم أنه أوجدنا لخدمته بالرغم من عدم احتياجاته لعبوديتنا، فإنه قبل أن يخلقنا أو يوجد الملائكة والقوات السمائية كان كائنًا في مجده الذاتي وقداسته. لكنه دعانا للوجود من أجل حبه وحده. صنع هذا كله وأمور أخرى من أجلنا!
8
قدم لنا خلاصًا
1- وهبنا الناموس الطبيعي
وهبنا الله ناموسًا مكتوبًا لنفعنا وأرسل الأنبياء وتمم المعجزات، وقبل هذا كله قدم للإنسان بعد خلقته ناموسًا طبيعيًا لخدمته، يقوم بدور القبطان في السفينة، وكاللجام بالنسبة للحصان مخضعًا له تفكيرنا. هذا عرفه هابيل قبلما توجد المقدسة كما عرفه الآباء والأنبياء قبل كتابة الناموس.
وعرفة أيضًا قايين. عرفه الاثنان لكنهما لم يسيرا في ذات الطريق… بل اختار أحدهما الفضيلة والثاني الرذيلة. ومع هذا لم يترك الله الإنسان في هذا الموقف، لكنه إذ سقط جذبه وأعادة إلى الطريق المستقيم وحوطة بحبه وأخذ يحثه وينصحه كما أنذره بالخوف والرعدة، كان يعلمه ويدربه.
غير أن غالبية البشر خانوا هذه النعمة العظيمة أيّ الانتفاع مما يلقنه إيانا (الناموس) الطبيعي. لم يترك الله البشرية ولا أسلمهم للهلاك الأبدي بل انتظر عليهم وأخذ يعلمهم ويحثهم بأعماله وعطاياه وتأديباته…
2- وهبنا الناموس المكتوب
أعطى ناموسًا وأرسل أنبياء، وكان يضرب مؤدبًا ثم يعود فيخفف التأديبات… لم يكف عن تدبير كل الأمور لصالحنا منذ البداية. وأخيرًا كل مراحمه بإرسال ابنه الوحيد.
3- تجسد الابن الكلمة
الابن المساوي للآب في الجوهر صار مثلي! كان يسير على الأرض، ويختلط بالبشر، ويصنع عجائبه بينهم، واهبًا خيرات هذا الدهر والدهر الآتي. وما قدمه على الأرض، إنما كان لتأكيد ما سيهبه في الدهر الآتي. وهكذا حقق الابن ما سبق إعلانه: “من يتكلم بجبروت الرب؟! من يخبر بكل تسابيحه؟!” (مز 106: 2)
4- الفداء الذي قدمه!
من لا ينسى نفسه ويقف مرتعدًا أمام حبه العجيب؟! متذكرًا أن الله بذل ابنه الوحيد للموت من أجل عبيد بطالين؟! بذله إلى موت اللعنة والهزء! موت اللصوص!
ُسمر على الصليب المرتفع، وبصقوا على وجهه! ضربوه بالعصى ولطموه! إستهزأوا به، وإذ شفقوا عليه كفنوه وختموا قبره!
هذا كله أحتمله من أجلك! من أجل حبه المملوء رأفة، حتى يعتقك من عبودية الخطية، ويكسر سلطان إبليس، ويحطم شوكة الموت، ويفتح لنا أبواب السماء، ويزيل اللعنة، ويمسح الخطية الأولى، ويعلمك الصبر، ويقودك للاحتمال فلا تتضايق من أمور العالم: لا موت ولا لعنات ولا شتائم ولا هزء ولا ضربات ولا مكائد عدو ولاإفتراءات وهجوم ولا إتهامات أو إساءة ظن ولا شيء من هذا القبيل.
لقد إجتاز هذا كله ليشاركك كل الآلام، غالبًا إياها بطريقة عجيبة حتى يعلمك ويرشدك ألا تخاف شيئًا من هذه المحن.
5- إرساله الروح القدس
لم يكتف بهذا بل إذ صعد إلى السماء وهبنا نعمة روحه القدوس العجيبة مرسلاً تلاميذه لخدمته.
ورأي أن يتألم صفوة قديسيه بآلام كثيرة، فقد ُضربوا بالعصى وأُهينوا وطرحوا في البحار وتألموا في جوع وعطش، وأحاطت به ضيقات كل يوم… وقد سمح لهم بهذا كله من أجلك، من أجل محبته لك المملوءة حنانًا.
6- هيأ لنا ملكوت السماوات
من أجلك يا إنسان هيأ الملكوت! ولأجلك أعدَّ خيرات لا توصف، ونصيبًا معدًا في السماء، وحياة لا مثيل لها، وفرحًا لا ينطق به!
أمام هذه الدلائل العظيمة على عناية الله بنا كما جاء في العهدين- القديم والجديد- في حياتنا الحاضرة والعتيدة… في الأمور الجسدية والروحية، هل وأنت ترى في كل شيء سحابة من الشهود تؤكد عنايته لا تزال تشك؟ كلا!.. فإن لك معلم أكثر عطفًاعليك من والدك وأعظم حنوًا من الأم وأكثر حبًا من العريس أو العروس…
اذكر أن راحته بخلاصك وسرورك أعظم من سرورك وأنت هارب من الخطر والموت!… عنايته لا تفسر، وحنانه غير مدرك، وصلاحه لا ُيحد، وحبه لا يستقصى!
الآن، وقد عرفت هذه الأمور جميعها التي من خلالها يعلن الله لك عن ذاته وأعماله التي صنعها وسيصنعها معك… فلا تسمح أن تسأل نفسك: لماذا هذا؟ وما سبب ذاك؟ فإن هذا فيه جنون الكبرياء المستبد والشيطنة!
إن كنت تصمت أمام الطبيب وهو يستأصل العضو الفاسد ويأمرك بشرب الدواء المر، حتى إن كان الطبيب عبدًا فإن سيده يحتمله في صمت، بل ويشكره، ويطيعه في خضوع مهما أمره الطبيب، مع أن كثيرين ماتوا على أيدي أطباء، فكم بالأولي يليق بالإنسان أن يخضع للديان والمهندس وصاحب السلطان على كل شيء؟!
إن كان من الغباء أن يستفز إنسان جاهل مهندسًا فيما يخص عمله، هكذا من الغباء أن يتسأل إنسان طائش عن هذه الحكمة العجيبة غير المنطوق بها ولا محدودة، مستفسرًا عن عمل ما نحن متأكدون من حكمة صانعه التي لا تخطيء وحبه الذي لا ينتهى وعنايته التي لا توصف. فهو يصنع كل الأمور لأجل خيرنا، إذ لا يريد هلاك الإنسان بل خلاص الجميع!
أليس هذا إنحراف في التفكير يفوق كل جنون، أن نبدأ نسأل ذاك الذي يريد خلاصنا وهو قادر عليه، عوض أن نتأمل ونرى أعماله؟!
9
تأمل نهاية الأمر
إحذر الأسئلة الفضولية التي تثيرها في بداية الطريق أو أثناءه، لكن انتظر حتى النهاية. لا تكن متهورًا ولا تنفعل سريعًا… فلو أن إنسانًا وُلد ونشأ في البحر فإنه عندما يسكن في البر ولم يكن قد سمع قبلاً عن الزراعة، ويرى القمح قد ُعزل عن القش وحفظ في مخازن مغلقة بعيجة عن الرطوبة، ثم يعود الفلاح فيأخذه منه وينثره في الأرض ويلقيه في الطين والوحل… للحال يحكم بأن هذا الفلاح يفسد القمح. لكنه لو إنتظر حتى الصيف لرأي الحصاد الكثير…
وأنت يا إنسان لا تسأل معلم الجميع… بل إنتظر وتأمل النهاية… لست أقصد بالنهاية (الحياة الزمنية) بل لنرى الحياة البدية، فمقاصد الله ترمى للحياتين من أجل خلاصنا ومجدنا…
حينما ترى الكنيسة مشتتة ومعرضة لإضطهادات كثيرة مرة، وقد ُطرد رؤسائها وضربوا بالعصي لا تحصر ذهنك في حدود هذه المحن، بل تطلع إلى النهاية لترى المكافأة والجعالة… ثمن الكفاح والنضال، كما يقول الكتاب [18] “من يصبر إلى المنتهى يخلص”.
10
أناس وثقوا في المواعيد
1- ابراهيم كان شيخًا ولكبر سنه صار جسده مماتًا عن الإنجاب، كان كالأموات لا يمكن أن يكون أبًا… تخطى البار الزمان الذي فيه يمكن للطبيعة أن تهب نسلاً. وكان عقم زوجته سارة كعقم الحجارة حينما أعلن له الرب أنه يصير أبًا لجمهور كثير كنجوم السماء.. وقد وصف بولس هذا الحال فقال “ولا مماتية مستودع سارة”، إذ لم يقل “ولا مماتية مستودع سارة” حتى لا يظن أحد أن العقبة هى السن وحده بل والطبيعة أيضًا (عقرها).
ولكن كما سبق أن قلت أنه بالرغم من وجود هذه العقبات لكنه عرف معنى وعد الله وطرقه الكثيرة وإمكانياته العظيمة التي لا تعوقها قوانين الطبيعة ولا صعوبة الأمر… إنما تسير بنا وسط العوائق لتحقق ما قد سبق أن عينته. لهذا صدق ابراهيم ما قيل له وآمن بالوعد دون أن يتأثر بسبب تضارب المنطق… ولم يبحث كيف يتحقق هذا؟ ولا تساءل: لماذا لم يأتى الوعد في صباه بل بعد الشيخوخة، بعد زمان!
من أجل هذا يذكر الرسول بولس إسمه بطريقة سامية قائلاً [19]: “فهوعلى خلاف الرجاء آمن على رجاء لكى يصير أبًا لأمم كثيرة”. وما معنى “على خلاف الرجاء آمن على رجاء”؟ أيّ على خلاف الرجاء البشرى آمن بالرجاء بالله الذي يغلب في كل شيء ويستطيع كل شيء ويعلو فوق كل شيء!
لم يؤمن فقط أنه يكون أبًا بل وأبًا لأمم كثيرة، وهو شيخ غير قادر على الانجاب، وزوجة عاقر مسن. “كما قيل هكذا يكون نسلك. وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبره جسده وهو صار مماتًا إذ كان ابن مئة سنة ولا مماتية مستودع سارة.ولا بعدم إيمان إرتاب في وعد الله، بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله. وتيقن أن ما وعد به هو قادر ان يفعله أيضًا [20]“…
لقد مجدَّ الله لأنه لم يكن فضوليًا ولا سأل في طياشة وإنما خضع لحكمته غير المدركة وقدرته، بغير نقاش فيما قيل له. وهكذا نمجد الله بخضوعنا له دومًا قدام حكمته غير المدركة وقدرته غير المحواة، ولا نسأل بتهور: لماذا هذا؟. وما سبب ذاك؟ وكيف يتحقق؟!…
2- لم يستحق إبراهيم الإعجاب في هذا الموقف وحده، بل حينما لم يتعثر بأمر الرب له أن يقدم ابنه الوحيد، ابن الموعد، محرقة، مع أن هناك أسباب كثيرة كان يمكن أن تعثر الإنسان غير الساهر ولا متيقظ:
أ. إن كان الله يطلب مثل هذه المحرقات فهو يطلب من الآباء قتل أبنائهم…بهذا يجعل الآباء قتلة أبنائهم ويتنجس المذبح بدمائهم ويقسو قلب الآباء…
ب. لم يكن إبراهيم مجرد أب، لكنه أب لابن هكذا، الابن الشرعى الوحيد، الذي يُسر به من يراه ويعرفه… فقد بلغ درجات عالية في الفضيلة، جميل الروح والجسد!
ج. كان محبوبًا جدًا إذ وُهب له على خلاف كل رجاء ولعلك تعرف حب الآباء للصغار الذين يأتون في الشيخوخة على خلاف الرجاء…
د. كان يمكن أن يتعثر، فإن هذا الأمر يخالف الوعد “ويكون نسلك مثل رمل البحر”… لكن البار لم يتعثر ولا اضطرب ولا إنتابته المشاعر الطبيعية… لم يقل في نفسه: هل خدعنى الله؟ هل ضللنى؟ هل هذا الأمر من قبل الله؟… إنه يناقض العدل إذ به أصير قاتلا لإبني وأخصب يدي بدمه!! كيف يتحقق الوعد؟ إن أهلكت الأصل من أين تأتى الأغصان؟ وكيف تأتى الثمار؟…
لكنه أطاع كل كل الطاعة، وقيدَّ ابنه ورفع يده وأخترقت السكين الرقبة… وإن كان هذا لم يتم فعلاً لكنه تحقق بالنية إذ كانت قائمة للعمل.
تأمل، فقد أطاع وأراد أن يذبح صاحب النسل الكثير… أطاع بحب.. لهذا أعجب به بولس وأعلن إسمه قائلا:ً “بالإيمان قدم ابراهيم إسحق وهو مجرَّب” وقد أظهر عمله العظيم وإيمانه بقوله “قدم الذي قبل المواعيد وحيده”. وهكذا كما لم يعق إيمانه في الوعد بميلاده لا جسده الممات ولا عقم زوجته، هكذا الآن لا يزعزعه الموت!
متى قارنت هذه الأحداث بما يحدث معك ترى ُجبنك، ترى صغر نفوس المتعثرين، مدركًا بوضوح أن سبب العثرة هو عدم التسليم بين يدى العناية الإلهية غير المدركة…
3- ألم يتعرض يوسف لأمر مماثل؟ فقد أخذ وعدًا عظيمًا لكن الأحدث جاءت مناقضة لما قيل له. فقد رأى حلم أخوته يسجدون له وعبرَّت له النجوم والسنابل عن ذلك، لكن جاءت الأحداث مناقضة لرؤياه.
أ. فقد قامت ضده حرب قاسية في بيت أبيه، وحل إخوته.. ربط الأخوة وكسروا قوانين الطبيعة ونظامها، وصاروا بعد أحلامه معاندين وأعداء له بأكثر وحشية من الذئاب. كما تفتك الحيوانات المفترسة بالحمل هكذا نصبوا له فخاخًا كل يوم. وكان مصدر هذه الحروب الجسد المملوء جنونًا والحقد الظالم والغضب المشتعل، وهكذا كانت تفوح منهم رائحة قتل كل يوم…
ب. وإذ فشلوا في الأذى به في بيت والديه هاجموا حب أبيه له…
حـ. ثم جذبوه بعيدًا عن عناية والده، وإذ هو آت إليهم بالطعام يطمئن عليهم قابلوه لا بالفرح من أجل ما أحضره لهم من طعام، بل سنوا سيوفهم واستعدوا لقتله… لكنه بهذا كلل وأنتشر إسمه…
غنيه هي طرق حكمة الله وإمكانيتها وسط المواقف المعقدة إذ خلصته من الجب وأنقذته من رحلة الموت وسحبته من الأيدي القاتلة…
د. عروة من ملابسه وربطوه ورموه في الجب ثم جلس الإخوة القساة كالحيوانات المفترسة يأكلون من الطعام الذي أحضره لهم. هو كان في الجب في رعدة عظيمة أما هم فكانوا يأكلون ويمرحون!
هـ. لم يكتفوا بهذا الجنون، إنما إذ رأوا البرابرة الذين تركوا بلادهم ذاهبين إلى مصر أخرجوا أخاهم وباعواه. وبهذا دبروا له موتًا بطيئًا قاسيًا مملوءً آلامًا.
تخيل معى مشاعر يوسف، صغير السن، وقد تربى في بيت أبيه في حرية كاملة، بلا خبرة في حياة العبودية واحتمال الألم، يدفع إلى العبودية بعد الحرية، والتغرب بعد البنوة… فلا يقف الأمر عند احتماله آلام العبودية لكنه يصاحبها آلام فراق أبيه وأمه وكل أقاربه مع العرى، والتغرب بلا منزل ولا مدينة، ُمسلم للعبودية في أيد بربرية!
أما يكفيه هذا ليمتلئ اضطرابًا: تراكم المحن، المفاجأة في الموقف، خيبة الأمل، قسوة التجربة التي هى من صنع أيدى أخوته المحبوبين لديه الذين لم يسيء إليهم في شيء بل يحسن إليهم… ومع هذا لم يضطرب بل ذهب مع التجار… لم يسأل: ماذا يحدث بعد؟!
عاش قتلة أخيهم كالذئاب المفترسة في حياة هنيئة في بيت أبيهم… أما يوسف المختار لكي يملك عليهم فقد صار عبدًا وذاق التجارب المناقضة للوعد… فقد ُحرم من وطنه وفقد حريته ورؤية عائلته.
و. لم تتوقف حروبه بل انفتحت له هوة أعمق تفوح منها رائحة موت وقتل… فقد نظرت إليه زوجة فوطيفار نظرات أثيمة. لقد أسرها جمال الشاب وإستعبدها منظره المنير فكانت هى بالتالى تدبر له خديعة وفخاخًا.
وبعدها إستخدمت شباكها اليومية متربصة له أن تقتنصه في شباكها وتسقطه في الزنا وتسلمه إلى موت لا يموت، وهى تخرج كل يوم تبحث عن فريستها وقد وخزتها الشهوة وحبها الآثيم، رأته دفعة وأرادت أن تجذبه لفراش الخطية وترغمه علىالأتحاد بامرأة غريبة تدنس فضيلته، ومع هذا لم يصب هذا البار أذى: ولا أسر الشهوة ولا إندفاع الشباب ولا هجوم المرأة بغير ضابط وفخاخ سيدته…
لكنه خرج من هذه الظروف جميعها يفيض هدوءً كالنسر الباسط جناحيه يرتفع بهما عاليًا، تاركًا قميصه في الأيدى المتجاسرة. ترك ملابسه وهو عريان، لكن فضيلته البهية قد كسته!… عادت فإشهرت سيفها ثانيًا وإستعد هو للموت. إرتفعت الأمواج عالية وأشتعلت شهوة المرأة المجنونة بنار تفوق أتون بابل والتهبت رغبتها وثار غضبها وقسوتها المخيفة في وحشية بالغة وأرادت قتله فأسرعت للسيف وأشتهت له موت الخزى وتاقت إهلاك بطل الفضيلة وبطل الصبر والجهاد. إندفعت نحو زوجها وأشتكت دون أن تروى عليه حقيقة الأمر، وإنما مثلت أمامه وأقنعت الحاكم بما أرادت. إتهمت غريمها أنها “ُأُهينت”… ولم يسمع الحاكم للمتهم ولا ترك له مجالاً للدفاع، ذاك الذي لم يبصر الحكمة دانه في هذيان فاضح، وأقتنع بإثمه كأن هذا الشاب قد إعتاد الزنا، فرماه في السجن وسلمه للقيود.
هنا جلس – ذاك الذيهيأ نفسه لأكاليل الفضيلة- في السجن مع اللصوص والقتلة الذين تخضبت أيديهم بالإثم. وفي هذا كله لم ضطرب يوسف ولا تعثر. لم يقل في نفسه “ما هذا؟ كان ينبغى أن أملك على إخوتى، لكننى لم أحرم من هذه الكرامة فحسب بل وحرمت من وطني وأهلي وحريتي وهدوئي… هأنذا أعيش وراء القضبان مع الزناه والقتلة… أين تفسير النجوم الكثيرة وحزم السنابل؟ وماذا تحقق من الإعلانات؟ أين ذهبت الوعود؟ هل ُخدعت وضلل بي؟ كيف يمكن لإخوتى أن يسجدوا لي وأنا عبد سجين وإنسان مقيد؟”.
لم يقل هذا ولا فكرَّ فيه إنما إنتظر النهاية وعرف غنى طرق الله وأمكانيات حكمته الفياضة فلم يعثر بل تهلل وقبل برضى كل ما حلَّ به.
4- ألم يتعرض داود للآلام القاسية وهو المسوح ملكًا وصاحب السلطان بإرادة الله؟… صارت حياته في خطر وأرسل إلى الأعداء الألداء وطرد إلى البرية تائهًا ومنبوذًا بغير مأوى ولا مسكن، منفيًا…
ومع هذا لم يقل “لماذا هذا؟ أنا الملك. كان ينبغى أن أتمتع بالسلطان، أفلا أقدر حتى أن أعيش كإنسان عادي؟ هأنذا تائه منفي بلا مدينة ولا مأوى، مطرودًا إلى موضع قاسي، ليس لي حتى القوت الضرورى… أرى الخطر يحدق بى كل يوم… أين الوعود؟ أين الإعلان بنوالى السلطة؟!” لم يقل داود هذا ولا تعثر بسبب الأحداث وانما أنتظر هو أيضًا تحقيق الوعد.
نستطيع ان نذكر آلاف آخرين حلت بهم صعاب مماثلة ولم يتأثروا بل تمسكوا بكلمة الله، حتى إن كانت الأحداث تأتي بما يناقض الوعود وبصبرهم العجيب هيأوا أنفسهم لأكاليل مضيئة.
وأنت ياعزيزي أنتظر النهاية، فبالتأكد تتحقق لك المواعيد في هذا الدهر والدهر الآتى. تقبل عناية الله غير المدركة تحت كل الظروف ولا تقل “ما هذه الخسائر” ولا تفحص طرق أعمال الله العجيبة.
11
ترقب الأبدية!
لم يبحث الأبرار كيف وبأيّ وسيلة تتحقق مواعيد الله. حتى عندما كانوا يرون كل الأمور قد تعقدت للغاية بالنسبة للفكر البشري، لم يتأثروا ولا إضطربوا بل إحتملوا في سمو. ودليلهم على المستقبل المبشر هو قدرة ذاك الذي وعد، لهذا لم ييأسوا أمام تكذيب الأحداث للوعود. لقد عرفوا غني طرق الله وحكمته، فإنه حتى إن بدأ الموقف مناقضًا للوعد، لكن الله قادر أن يحوله لحالٍ أفضل، وإن ما وعد به الله يمكن أن يتحقق في سهولة بالغة.
وأنت أيضًا يا عزيزي، إن زالت تجاربك في هذه الحياة مجد الله، وإن إزدادت أشكره أيضًا ولا تتعثر. إعلم أن عناية الله لا نهائية، ولا يمكن تفسيرها، وأنها حتمًا تبلغ إلى الهدف اللائق في هذه الحياة الحاضرة والعتيدة.
نقول لمن فقد صبره وهو يسمعنا نتحدث عن الحياة العتيدة، مشتهيًا أن يرى تحقيق الأمور، أن الحياة الحقيقية والحقائق الدائمة تنتظرنا في المستقبل. فإن الحياة هنا وأمورها مجرد طريق، أما مسكننا ففي الدهر الآتي. أمور الحياة تشبه الربيع، أما الحياة الأخري كالصخور لا تتهدم. هناك أكاليل وجعالة أبدية. هناك المكافأة، أما هنا فالتأديب…
اعتراض: ماذا تقول عن الكثيرين الذين تعثروا؟
الرد:…عندما ترى عثرة هؤلاء، فكر في كرامة الآخرين لقد سقط البعض لكن كثيرون لا يزالون منتصبين، مهيئين أنفسهم لأعظم جعالة إذ لم تسقطهم قوة الأعداء (الخطية) ولا قسوة الظروف.
من تعثر بسبب ظروف خاص ليفكر في الثلاثة فتية وقد أبعدوا عن الكهنة والهيكل والمذبح وكل فروض الناموس وأهملوا في بلاد غريبة ومع ذلك ظلوا متمسكين بوصايا الناموس بدقة. وأيضًا دانيال وغيره كثيرين لقد ُسبى البعض منهم من لم يخطيء بينما الذين بقوا في ديارهم وتمتعوا بخيرات بلادهم ضلوا وإستحقوا التأديب.
12
الشر وعناية الله
إن كنت تفحص أمور الله ولا تريد الخضوع لمقاصده العميقة غير المفحوصة، إن حصرت هدفك في مجرد التساؤلات المملوءة فضولاً، فإنك تظل تتساءل في أشياء أخري كثيرة مثل:
لماذا ترك الله الباب مفتوحًا للهرطقات؟
لماذا أوجد إبليس والشياطين والأشرار الذين ُيسقطون كثيرين؟…
لماذا ينبغي أن يأتي ضد المسيح وتكون له قدرة على التضليل حتى إن أمكن أن يضل المختارين كقول السيد المسيح؟
يجدر بنا ألا نبحث هذا كله وإنما نسلم لحكمة الله غير المدركة فالإنسان المحب الملتصق بالله على الدوام لا تؤذه الأمواج مهما هاجت ضده، وإنما على العكس يخرج منها بقوة جديدة. أما الشخص الضعيف المتخاذل فإنه حتى وإن لم يوجد ما ضايقه فإنه يسقط كثيرًا…
أما إذا أردت معرفة السبب (لترك الأشرار) نقول ما نحن نعرفه:
1- أن الله يسمح بهذه العثرات لكي لا تقل مكافأة الأبرار. وهذا ما أكده الله في حديثه مع أيوب قائلاً [21]: “أتستذدني لكي تتبرر أنت؟!” ويقول بولس أيضًا “لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا ليكون المزكون ظاهرين بينكم”. وإذا سمعت “لابد أن يكون” فلا تظن أن الرسول يأمر بهذا. كلا! إنما هو يتنبأ بما يحدث، ثم يعود فيشرح أن الإنسان الساهر يستفيد كثيرًا إذ تتزكى فضيلة الثابتين.
2- سمح للأشرار بالعمل لسبب آخر، وهو أنه إن لم يظهر ضعفهم لا يمكن حصاد تجديدهم. هكذا تجدد بولس واللص والزانية والعشار وكثيرون غيرهم…
3- يعلن الرسول سببًا آخر لمجيء ضد المسيح، ما هو؟ إغلاق الباب أمام اليهود. فما هوعذرهم برفضهم المسيح وقد كان يجدر بهم أن يؤمنوا به، إذ يقول [22]: “لكي ُيدان جميع الذين لم يصدقوا الحق” أيّ “المسيح” بل “سروا بالأثم” أيّ بضد المسيح. هكذا لم يؤمنوا بالمسيح لأنه قال عن نفسه أنه الله.
قالوا[23]: “نرجمك لأنك وأنت انسان تجعل نفسك إلهًا”، مع أنه أثبت لهم بطرق كثيرة أنه جاء حسب إرادة الآب. فماذا يفعلون حينما يأتى ضد المسيح الذي يجعل نفسه إلهًا ولا يتكلم عن الآب، مناقضًا إرادة الآب؟ هذا ما أخذه عليهم السيد المسيح إذ يقول[24] “أنا قد أتيت بأسم أبي ولم تقبلونني. إن أتى أحد باسم نفسه فذلك تقبلونه”. من أجل هذا سمح لهم بالعثرات.
أن ذكرتم لى من تعثروا أذكر لكم الذين حصدوا منها مجدًا. لذا أعود فأكرر أنه لا يجوز أن يتسبب إهمال البعض وكسلهم في حرمان الساهرين من الجعالة والإكليل بالنسبة للمتيقظين. فلو لم يتح لهم هذه الفرص من الحروب لأسيء إليهم!
13
أناس لم يتعثروا بالرغم من عدم وجود معلمين
1- أخبرني: هل كان لابراهيم كاهنًا ومصلحون ومعلمون وأناس ينصحونه؟ لم يكن له في ذلك الوقت كتاب مكتوب ولاناموس ولا أنبياء ولا شيء من قبيل هذا. كان يبحر في بحرغير صالح للملاحة، ويسير في طريق وعر. أبوه وأقاربه كانوا عبدة أصنام. ومع هذا فإن هذه الظروف جميعها لم تسيء إليه بل زينته فضيلته حتى أنه بعد زمن طويل – بعد مجيء الأنبياء والناموس وتعليم السيد المسيح الرائع بالأعمال والمعجزات- ظهرت فضائله التي سبق فتزين بها: من محبة حارة عملية واحتقار للغنى وحنانه الأبوي تجاه أهله. لقد سحق الترف تحت قدميه وترك حياة المتعة الفانية وعاش في تقشف يفوق نسك الرهبان في هذه الأيام الذين بلغوا قمم الجبال. فلم يكن له منزل إنما كانت له ظلال أوراق الشجر سقفًا لهذا البار ومأوى له. وإذ كان غريبًا إمتلأ غيرة نحو إضافة الغرباء.أهتم هذا الغريب في البلاد الغريبة بإستضافة القادمين إليه ظهرًا… ولم يقم بخدمتهم وحده بل أشرك معه زوجته في هذا العمل الصالح.
خدم أبن أخيه مع أنه لم يكن قد تصرف معه حسنًا… معرضًا حياته لخطر محقق من أجله؟
وعندما أمره الرب أن يترك البيت ليذهب في أرض غريبة أطاع في الحال وترك وطنه وأصدقاءه وكل أهله، مرتبطًا بما لا يعرفه في يقين عظيم من أجل مواعيد الله. وكان هذا دليلاً على إيمان مملوء خضوعًا.
ثم حدثت مجاعة فتغرب ثانية بغير أنفعال أو إضطراب، مظهرًا ذات الطاعة، محتملاً الألم بصبر…
وعندما أمره الله بذبح إبنه أخذه سريعًا كمن يقوده إلى فراش الزفاف، كمن يسلم العريس عروسها. تخطى حدود الطبيعة وتحرر من الطبيعة البشرية مقدمًا دبيحة جديدة تفوق العجب، مناضلاً بمفرده بغير معونة من زوجته أو خادم له أو احد المحيطين به.
حقًا كان يعرف بوضوح خطورة الأمر وشدة المعركة… فواجه النضال وحده وركض وحارب وكلل وأشتهر إسمه… أيّ كاهن علمه هذا كله؟! أو أيّ معلم أو نبي؟ لا أحد… لكن روحه المتيقظة جعلته هذا كله!
2- هل وجد نوح كاهنًا أو معلمًا أو مرشدًا؟ هذا الذي إنفرد وحده، سائرًا في طريق مناقض للأرض كلها التي فسدت بالشر، صانعًا الفضيلة، فخلص نفسه ومعه آخرين من الغرق الذي كان يهددهم؟!… أنظر كيف صار بارًا؟! كيف بلغ الكمال؟!…
3- وبالرغم من أن حام ابنه كانت فضيلة أبيه العملية هى معلمه… وكان يمكنه إذ رأي الحوادث بعينيه أن يستخلص دروسًا من كارثة الطوفان ونهاية الشر، لكنه كان شريرًا تجاه والده، فإستهزأ بعريه وعرضه للاستهزاء العام. لهذا يليق بالإنسان أن يكون قلبه مستعدًا على الدوام.
4- إخبرني عن أيوب؟ هل سمع الأنبياء أو قرأ تعاليم ينتفع بها؟ كلا! مع أنه لم يجد عونًا من هذا القبيل غير أنه قدم مثالاً للفضيلة الكاملة الدقيقة. لقد وزع أمواله على المحتاجين، ليس فقط ماله بل وبذل صحته. استضاف الغرباء في منزله… ودافع عن المسيئين إليهم، وبكلامه الرقيق سَّد أفواه السفهاء، كان كملاكٍ في تصرفاته…
تأمل فإن السيد المسيح يقول: “طوبى للمساكين بالروح” فحقق أيوب ذلك بتصرفاته [25].. “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”. من بلغ وداعة ذاك الذي قال عن عبيده بسبب حبهم له[26]: “من يأتي بأحد لم يشبع من طعامه؟!”. “طوبى للباكين لأنهم يتعزون” وقد إختبر أيوب هذه التعزية الداخلية. أنصت ماذا يقول [27]: “إن كنت قد كتمت كالناس ذنبي لإخفاء إثمي في حضني” ، إذ كان كثير البكاء على خطاياه. “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ”. أنظر ما حققه من كمال إذ يقول [28]: “هشمت أضراس الظالم ومن بين أسنانه خطفت الفريسة”، “لبست البرّ فكساني كجبة وعمامة كان عدلي”…..إلخ.
حقًا، لقد أحب (مضايقه)، وصلى من أجلهم، وحوَّل عنهم الغضب مع أنه لم يسمع نبيًا ولا إنجيليًا ولا كاهنًا ولا معلمًا، ولا أوصاه أحد بالفضيلة. تأمل سمو روحه، كيف إعتمدت على نفسها فصنعت الفضيلة حتى إن لم تجد من يحيطها بالعطف. ولم يكن حتى أسلافه صالحين، بل كانوا ثابتين في شر عظيم، إذ يقول بولس عن جده[29] “فلم يكن أحد مستبيحًا كعيسو الذي باع بكوريته بأكلة عدس”.
14
هل تعثرت النفوس بسبب الاضطهادات في العصر الرسولي؟
وُجدت عثرات كثيرة في أيام الرسل وتأثر بها كثير من الناس وهلكوا، كما تعرض الكارزون للإضطهادات والموت. إخبرني، ماذا حدث في أيام الرسل؟…
إنصت إلى قول بولس [30] “أنت تعلم أن جميع الذين في آسيا إرتدوا عن الذين منهم فينخاس وهرموجانس”. صارت السجون مسكنًا للكارزين وتثقلووا بالقيود. إحتملوا الآلام من القرباء والغرباء، بل وبعد إنتقالهم جاءت ذئاب خاطفة وإحتلت أماكنهم في الحظيرة، إذ يقول بولس إلى أهل أفسس بعد أستدعائهم إلى مليتس [31] “لأني أعلم هذا أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم”.
وأظهر له إسكندر النحاس شرورًا كثيرة [32]، إذ هاجمه في كل مكان وحاربه، وتتبعه بالضيقات وأثار ضده حربًا عنيفًا حتى حذر بولس منه تلميذه قائلاً [33]: “إحتفظ منه أنت لأنه قاوم أقوالنا بشدة”.
كما أفسد بعض الإخوة الكذبة إيمان أهل غلاطية.
وفي بدء الخدمة حوكم أسطفانوس ورُجم كمجدف، هذا الذي فاضت بلاغته كالأنهار وأبكم كثيرين مبكتًا الألسن اليهودية الآثمة، ولم يقدر أحد على مقاومته… كان هو الإنسان النبيل الحكيم المملوء حكمة أستفادت الكنيسة منه الكثير رغم قصر مدة خدمته.
ويعقوب قتله هيرودس ليرضى اليهود، وكان ذلك في البداية فرحل عمود الحياة هذا وكرسي الحق.
لقد تعثر كثيرون بسبب هذه الأحداث، ولكن الواقفون ظلوا وقوفًا وسيظلوا هكذا. إسمع ماذا يكتب بولس إلى أهل فيلبى؟ “ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري قد آلت أكثر لتقدم الإنجيل حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقى الأماكن أجمع وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف [34]“.
أترى هذه الشجاعة؟ أتنظر هذه الثقة؟ أترى القوة الروحية وطريقة التفكير المسيحي؟ لقد رأوا معلمهم في السجن مقيدًا، ُمبكم الفم، مضروبًا، متألمًا بكل أنواع الألم فلم يعثروا ولا تأثروا بل بالحرى زادت محبتهم، وصارت آلام معلمهم طاقة عظيمة للحروب (الروحية).
لست أنكر أن البعض هلكوا. فمن الطبيعي أن ينهار الكثيرون قدام مثل هذه الأحداث، لكن ما سبق أن قلته أعود فأكرره الآن وأبقى أكرره أنه من العدل أمن يرجع هؤلاء ضعفهم إلى أنفسهم ذاتها وليس إلى الأحداث.
لقد ترك لنا هذا الميراث بقوله [35]: “في العالم سيكون لكم ضيق”، “ستحاكمون أمام الولاة والسلاطين”، “يأتي وقت يظن فيه كل من يقتلكم أنه يؤدي خدمة لله”. فباطلاً تعترض على وجود أناس متعثرين لأن الضيق مستمر على الدوام.
التعثر بسبب آلام السيد
ولماذا أذكر آلام الرسل؟! كم من اناس تعثروا أمام الصليب معلمنا كلنا، وإزدادوا شرًا وسفاهة، وهم يجتازون قدامه مستهزئين قائلين [36]: “يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام… خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها.. إن كنت إبن الله فإنزل عن الصليب لنؤمن بك”، مع هذا لا يمكن أن يكون لهم الصليب نورًا، لأن اللص سيدين هؤلاء، فقد نظر إلى الصليب ولم يتعثر بل وجد فيه علة للبحث عن الحكمة الحقة. وبعدما تخطى الأمور البشرية أرتفع بجناح الإيمان متأملاً المستقبل.
لم يتعثر بالرغم من رؤيته للسيد المسيح مصلوبًا مضروبًا مهانًا، يشرب الخل وُيبصق عليه، يستهزيء به كل الشعب وحكموا عليه بالموت. إذ رأى الصليب والمسامير في يديه والشعب الفاسد يستهزئ به سار حسب الطريق المستقيم قائلا:ً “أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”.
لقد أبكم الشاتمين معترفًا بخطاياه!
تأمل القيامة دون أن يرى الموتى وهم يقومون، ولا رأى
البرص يطهرون أو العرج يمشون أو البحر مبكمًا قدامه ولا الشياطين يخرجون والأرغفة تتكاثر وبقية المعجزات التي رآها اليهود ومع هذا صلبوا المسيح. إذ رأي اللص المصلوب اعترف بالله وتذكر ملكوته وتأمل الأبدية، أما اليهود فقد رأوه يجري المعجزات وسمعوا تعاليمه بالكلام والعمل ولم ينتفعوا منه بل إنحدروا إلى أعماق الجحيم لهلاكهم برفعهم إياه على الصليب.
[1] يقصد بمرض “العثرة”، التعثر في إدراك عناية الله ومحبته أثناء دخولنا نار التجربة.
5 1كو 8: 12.
6 1كو 13: 9-10.
7 1كو 13: 11-12.
8 رو 9: 20.
9 يو 1: 18.
10 1كو 2: 10-11.
11 ابن سيراخ 3: 22.
12 1كو 4: 7.
13 ابن سيراخ 39: 21.
14 إهتم آباء الكنيسة الأولي بإبراز صلاح الخليقة المادية ردًا على البدع الكثيرة التى نادت بإن المادة شر، خالقها الشيطان.
15 تك 1: 3.
16 تحدث باسهاب عن الشمس والليل كيف يفيدان البعض ويضران البعض الآخر.
18 إش 49: 14-15.
22 إش 62: 5.
26 أفاض القديس في الحديث عن فائدة الشمس والقمر والنجوم.
28 تحدث عن الموت كعطية حسنة، معلم لنا للنمو الروحي، وينقلنا إلى عدم الفساد…
30 مت 10: 22.
31 رو 4: 18.
32 تك 15: 5.
33 أي 4: 8.
34 1كو 11: 9.
35 يو 10: 33.
36 يو 5: 43.
37 أي 31: 13-25.
38 أي 31: 31.
39 أي 31: 33.
40 أي 29: 14، 17.
41 عب 12: 16.
42 2تي 1: 15.
43 أع 20: 29-30.
44 2تي 4: 14.
45 2تي 4: 14.
46 في 1: 12-14.
47 يو 18: 33، مت 10: 8، يو 16: 2.
48 مت 27: 4
No Result
View All Result
Discussion about this post