الكنيسة تحبك
عظتان عن أتروبيوس – القديس يوحنا الذهبي الفم
قصة هذا الكتاب
من هو أتروبيوس؟
وُلد أتروبيوس كعبدٍ في حكم الميزوبتيميا (دولة العراق القديم) واجتاز سن الطفولة كعبد يقوم بأعمال دنيئة موكلة إليه بواسطة سادته الذين كانوا يتاجرون به فيبيعه سيد لآخر. وأخيراً اشتراه أرينيثيوس الذي كان يقوم بعمل عسكري هام، هذا قدمه لأبنته عند زواجها. لكن السيدة تضايقت من العبد بعدما صار عجوزاً، فلم تحاول أن تبيعه بل أطلقت سراحه.
ذهب العبد إلى القسطنطينية حيث صار في عوزٍ شديد، فرثى له أحد الموظفين في البلاط وهيأ له عملاً بسيطاً بين حجاب الإمبراطور… ومن هنا بدأ نجمه يتألق ومركزه يرتفع. إذ باجتهاده في أعماله البسيطة ولباقة حديثه وسرعة خاطره جذب أنظار الإمبراطور تيودوسيوس الكبير (٣٧٨ – ٣٩٥م)، فوثق به وأوكل إليه القيام بمهام خطيرة وحساسة.
وعند موت تيودوسيوس أقتسم ابناه المملكة فصار أنوريوس إمبراطور الغرب وأركاديوس إمبراطور الشرق. وكان في ذلك الوقت أتروبيوس له من القدرة أن يقوم بأعمال رئيس الحجاب والمشير الخاص والمساعد الدائم لأركاديوس. لكن هذه المهمة كانت في يد روفنيوس Rufinus الذي كان المدبر الرئيسي لشئون المملكة في بداية حكم أركاديوس وقد كانت له دسائسه وطمعه الخبيث مما أثار سخط الشعب ضده فاغتالته جماعة في حضرة الإمبراطور.
أما أتروبيوس فكان يتودد لروفنيوس بخبث زائد، واستطاع بحيله أن يبطل تدابير روفنيوس في تزويج ابنته بأركاديوس، مستبدلاً بها افدوكسيا. فلما أُغتيل روفنيوس كانت السلطة الحقيقية كلها في يد أتروبيوس يساعده في ذلك افدوكسيا التي كان هو السبب في زواجها، وقد امتازت بسيطرتها على أركاديوس لضعف إرادته ووهن عقله، هذا بجانب ما كان لها من الجمال يعضده شدة همتها وإقدامها… هذا مع شراسة أخلاقها ومحبتها للانتقام وقد سودت تاريخها بطردها للقديس يوحنا لذهبي الفم.
أظهر أتروبيوس اجتهاداً عظيماً في عمله، لكنه أستغل مركزه استغلالاً سيئاً إذ ألغى حق الكنيسة في حماية اللاجئين إليها[2]، وذلك حتى يقطع آخر رجاء لضحاياه في الهروب. كما باع المراكز الرئيسية للدولة فصار يلتف حول الإمبراطور جماعة من المستهترين، هذا وقد عمل على خلق جوٍ من الترف والتنعم حول الإمبراطور ليلهيه عن أي تفكيرٍ سام… وهكذا صار أتروبيوس في يده السلطان الواقعي. أما أركاديوس فكان أقل من تمثال صغير يرتدي العظمة. وهكذا أرتفع الخصي العبد ليصير السيد الحقيقي لنصف العالم الروماني.
وقد كانت رسامة القديس يوحنا ذهبي الفم ٣٩٧م بناء على نصيحته لأركاديوس… وقد تظاهر بمساعدته لأعمال الكنيسة التبشيرية. لكن هذا كله لم يثن ذهبي الفم عن أن يتكلم بطلاقة ووضوح عن شرور الغنى ورذائل الكثير من الأغنياء الجشعين موبخاً إياهم بشدة… فشعر أتروبيوس أنه هو الرجل الأول الذي ينطبق عليه هذا الكلام… وأن رذائله بدأت تنكشف… مما وتر العلاقة بينه وبين القديس يوحنا ذهبي الفم.
أخيراً فإن أتروبيوس لم يقنع بنواله السلطان التنفيذي بل أراد أن يأخذ له لقباً مكرماً، وهو في هذا كان يعد لنفسه الهلاك. فقد أغرى الإمبراطور وأعطاه لقب Patrician and Consul مما أثار سخط عظماء الملكة الغربية إذ رأوا عبداً خصياً ينال هذه الرتبة في المملكة الرومانية!!
على أي الأحوال، إذ أخذ أتروبيوس هذا اللقب جاء أعضاء مجلس السانتو وكل الذين في وظائف عسكرية أو مدنية كبرى، مجتمعين في قصر قيصر يقدمون ولاءهم له ويتنافسون على نوال كرامة لثم يدي ذلك الخصي العجوز ووجهه.
لكن ضربة قاضية أوشكت أن تحل بالعاصمة الشرقية على يد عسكري متبربر عنيف اسمه Tribigild كان قد بلغ رتبة Tribani في الجيش الروماني وقد طلب منصباً أعظم… فرفض أتروبيوس طلبه، فاستاء هذا الرجل من هذه الإهانة فأثار فرقة من الجيش للتمرد فارتجت القسطنطينية وسرت فيها موجة من السخط. وإذ طلب من جاينس Gainus أن يصد موجة التمرد، فرض ذلك طالباً إستبعاد أتروبيوس الذي هو مصدر لشرور كل الدولة.
أخيراً استبعد أتروبيوس وصودرت ممتلكاته وطلب الجند إعدامه ولم يكن لهذا التعيس البائس مكان للالتجاء إليه سوى الكنيسة التي حرمها من حق الالتجاء إليها في مثل هذه الحالات (حتى يهدأ الجو). فلجأ إلى الكاتدرائية التي كانت بقرب القصر وذهب إلى المذبح وتعلق بالعامود، فرأى القديس يوحنا ذهبي الفم حاله يرثى له بينما الجنود يطلبون قتله، فلم يخيب رجاءه بل أحتضنه وخبأه في غرفة الأشياء المقدسة وملابس الكهنوت وواجه الذين يقتفون أثره… واتصل بالإمبراطور ليقنعه هو والجنود بالعفو عنه.
وفي اليوم التالي يوم الأحد كانت الكاتدرائية قد اكتظت بالجماهير لتسمع ذهبي الفم متحدثاً عن حب الكنيسة للناس، حتى لأتروبيوس رغم كونه عدو لها سن قانوناً يمنعها من حماية أي إنسان، وهذه هي العظة الأولى للقديس يوحنا ذهبي الفم عن أتروبيوس.
بقي أتروبيوس أياماً قليلة في تخم الكنيسة، لكن يبدو أنه لم يأتمن الكنيسة أو خشى من النفي… على أي الأحوال هرب من الكنيسة… وكان مصيره الإعدام بالسيف في شالسيدون Chalcedon. وعندئذ نطق القديس يوحنا ذهبي الفم بالعظة الثانية.
موضوع العظتين:
القديس يوحنا ذهبي الفم كما هي عادته، ينتهز كل فرصة لكسب النفوس ولقائها مع الرب يسوع، والكشف عن المفاهيم الحقيقية للمسيحية والخدمة والرعاية الروحية الكنسية. وقد أنتهز فرصة هروب أتروبيوس إلى الكنيسة وهروبه منها فتحدث في العظتين عن هذه الأمور:
– هل المال أو المتملقون أو المظاهر الخادعة تقدر أن تحبك؟
– هل الكنيسة تحبك؟ وما هو مفهوم حبها لك؟
– هل الإله المتجسد يحبك؟ وما هي الإمكانية التي قدمها لك؟
الكنيسة تحبك… رغم شرورك!!
الكنيسة – رعاة ورعيّة – لا تعرف غير الحب للجميع بلا تمييز، تحب كعريسها كل البشرية وتحتضن الكل، وتريد خلاصهم والوصول بهم إلى معرفة الحق.
بهذا الكنيسة ليس لها عدو غير الشيطان، ولا خصم غير الخطية، ولا مناضل غير التجديف والإلحاد. أما الخطاة أو الأشرار… فتنظر إليهم نظرة عطف وحنان، نظرة أم تطلب شفاء أولادها المرضى، تترفق بهم بالأكثر كلما أشتد بهم المرض، وتبكي عليهم من كل قلبها كلما رأت فيهم اعوجاجاً.
هذه هي رسالة الكنيسة نحو البشر، لهذا فكل إنسان يظن في نفسه أنه عضو حيّ في الكنيسة سواء كان راعياً أو من الرعيّة، كاهناً مهما بلغت درجة كهنوته، أو علمانياً، راهباً ولو في درجة السواح، أو متزوجاً ولكن لم يعرف أن يحب الكل ويتحنن على الجميع، ويترفق بالأكثر على الخطاة والأشرار الساقطين… مثل هذا أجهل ما يكون برسالة أبيه يسوع وأبعد عن أن يكون في الكنيسة.
فالكنيسة قبل أن تكون بناء أو كهنة رعاة إنما هي في جوهرها وكيانها إيمان وحياة… إيمان يحيا به الذين التقوا بشخص الرب يسوع تحت قيادة الكهنة الذين لهم روح الله متعبدين في البيت المدشن لاسم يسوع…
الكنيسة إيمان بالذي يخلص من الخطية فيها، وثقة بقدرة الله على خلق قديسين من الأشرار، وحياة هي الحب عينه للجميع بلا تمييز كمحبة الفادي للعالم “كما أحببتكم أنا تحبون أنتم” (يو ١٣: ٣٤).
فالإنسان الذي يسكن في قلبه عداء أو ضغينة أو كراهية لشخص إنسان، ولو كان مجرماً أو شريراً أو حتى مضطهداً للكنيسة… مثل هذا خارج عن الحظيرة. لأنه لم يعرف أن يميز بين الخاطئ والخطية، والشرير والشر. فلنكره الشر والخطية والعداوة، ولنحب الكل لأنهم اخوتنا من صنعة يديّ الله الذي يحبهم ويحبنا، يترفق بهم كما يترفق بنا، يود خلاصهم كما خلاصنا. لأن الله ليس عنده محاباة[3]، ولا يعرف التمييز[4].
هل الكنيسة تتستر على الخطايا؟
رسالة الكنيسة تتركز في الوصول بكل نفس – مهما بلغ شرها – إلى عريسها وفاديها يسوع… وهي في ذلك لا تعمل على إخفاء الشر أو التستر عليه، بل بالعكس كشفه والاعتراف به مع إعطاء التائبين إمكانية لعدم العودة إليه.
فالكنيسة في ترفقها بالخطاة والأشرار، لا تساعدهم على شرهم، بل تعمل على نزعه عنهم وحفظهم منه.
هذا ما يلزم لأب الاعتراف أن يضعه نصب عينيه. فإن جاءه شاب ساقط أرتكب خطية مع فتاة فأفقدها عذراويتها لا يقف الكاهن عند حد بكاء الشاب وانسحاق قلبه وندامته، لأنه كما هو أب لهذا الشاب، هو أيضاً أب لهذه الفتاة ولو لم يعرفها باسمها، ولو كانت تقطن في غير مكان رعايته. إنه في حب مع ترفق يلزمه أن يقنع الشاب بالتزوج من الفتاة التي أصابها الضرر، مهما كان مركزها المالي أو الاجتماعي… ولو كانت خادمة تعمله عنده!!
إنسان آخر أضر أخراً، فليعوض المضرور عن ضرره… وإنسان قتل… فليقنعه أب الاعتراف بحنان بأن يلزمه تسليم نفسه إلى أقرب بوليس معترفاً بجريمته، محتملاً تأديب المجتمع له…
والكنيسة بهذا لا تكره الخطاة أو المجرمين أو حتى القتلة، إنما تحبهم، ولأجل حبها لهم تطلب منهم وبكامل رضاهم ألاَّ يهربوا من تأديب المجتمع أو المضرور لهم.
إنها تحبهم كأبناء، وتشفق عليهم كمرضى، وتغفر لهم بالروح القدس خطاياهم… لكنها لا تحميهم عما يقع عليهم من تأديبات مدنية أو جنائية، اللهم إلاَّ بموافقة المضرور أو الدولة.
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا: لماذا قبل ذهبي الفم أتروبيوس في الكنيسة وأعطاه حصانة؟
نجيب قائلين: إن ذهبي الفم ما كان له أن يحمي أتروبيوس لولا الدالة القوية التي بينه وبين الإمبراطور، مع علمه وتأكده من رحمة الإمبراطور وطيبة قلبه وتسامحه… وإلاَّ كان ذهبي الفم قد تدخل في أمور لا شأن للكنيسة فيها.
فالكنيسة تسند الدولة في عمل الخير، ولا تحرض أولادها على العصيان، إنما بالعكس تؤكد لهم ضرورة الخضوع لقوانينها المدنية والجنائية… ما دامت لا تتدخل في شئون إيمانهم وعباداتهم بل والكنيسة تربي أولادها منذ الطفولة على الوطنية القلبية الخالصة واحترام السلطات وقوانينهم[5].
والسؤال التالي: ماذا كان يفعل ذهبي الفم لو طلب الإمبراطور محاكمة أتروبيوس؟ أنه ليس لذهبي الفم أن يجبر الإمبراطور المضرور بالعفو… إذ هذا ليس من سلطانه، إنما كل ما في وسعه أن يقبل أتروبيوس إن رجع تائباً نادماً عن خطاياه. يقبله كعضو حيّ تائب، لكنه ما كان له أن يخفيه، بل يشجعه على احتمال نتيجة ما ارتكبه من شرور. وهكذا كان قد أعدم أتروبيوس،
لكنه إن كان تائباً عما أخطأ فسيقبله الله في الحياة الأخرى.
المترجم
القمص تادرس يعقوب ملطي
٧ يناير ١٩٦٦
مترجم عن
The Writings of Nicene & Post-Nicene Fathers Second Series . Vol
العظة الأولى[6]
هل أباطيل العالم تحبك؟ أباطيل زائلة!!
“باطل الأباطيل الكل باطل” (جا ١: ٢).
يليق بنا دوماً أن ننطق بهذه العبارة، وبالأخص فيما يخص الحياة الزمنية.
أين هي الأمور الباهرة التي كانت تحيط بك كوالي؟! أين ذهبت المشاغل المتألقة؟! أين هي الرقصات وأصوات أقدام الراقصين والموائد والولائم؟! أين أكاليل الزهور وستائر المسارح؟! أين كلمات المديح التي كانت تقدم لك في المدينة، والهتافات التي تُسمع في ملاعب الخيل وتملق الممثلين لك؟!
هذا كله قد ذهب… الكل قد ذهب. لقد هبت الرياح على الشجرة فسقط ورقها، وصارت عارية تماماً. واهتزت من جذرها ذاته. إذ هكذا كانت قوة العواصف، حتى صدم كل صغير وكبير فيها، وهدد باقتلاعها من جذرها!!
No Result
View All Result
Discussion about this post