إلى جميع شبّان العـالم
Dilecti amici
رسالة رسولية
للبـابا يوحنا بولس الثاني
في مناسبة
سَنة الشبيبة العالميـّة
أيها الأصدقاء الأعزاء،
أمانٍ من أجل سنة الشبيبة
“كونوا دائماً مستعدّين للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم” (1)
1- هذه هي الأمنية التي نتوجّه بها إليكم، أيها الشبّان، منذ مستهل هذه السنة. إن سنة 1985 أعلنتها منظمّة الأمم المتّحدة سنة الشبيبة العالمية. ولهذا الأمر معانٍ عديدة بالنسبة إليكم أولاً، وبالنسبة أيضاً إلى جميع أجيال الناس، والأفراد، والجماعات وكلّ المجتمع. وله معنى خاص بالنسبة إلى الكنيسة التي ترعى الحقائق الأساسيّة والقيم الروحيّة، وتعنى بالمصير الأبدي الذي يجده الإنسان والعائلة البشرية في الله عينه.
إذا كان الإنسان طريق الكنيسة الأولى، اليوميّة (2)، فإنّا ندرك جيداً لماذا تعير الكنيسة عهد الشباب اهتماماً خاصّاً، وهو مرحلة أساسيّة في حياة كل إنسان. وإنّكم، أنتم، أيها الشبّان، تجسّدون هذا الشباب: أنتم شباب الأمم والمجتمعات، أنتم شباب كل عائلة، وشباب البشرية جمعاء، وأنتم أيضاً شباب الكنيسة. وإنّا جميعاً نوجّه أبصارنا إليكم، لأننا جميعاً، بسببكم نستشعر باستمرار، إذا صحّ التعبير، كأنّنا استعدنا عهد الشباب. ولهذا فإنّ شبابكم الزاهر ليس ملكاً شخصياً لكم وحسب، أو ملك أحد الأجيال، لكنّه جزء من هذه المدّة من الزمن التي يجتازها كل من الناس طوال مسيرة حياته؛ وهو في الوقت عينه ملك الجميع. إنه ملك البشرية جمعاء.
إنّكم معقد الرجاء لأنّكم للمستقبل، ولأنّ المستقبل لكم. والرجاء مرتبط دائماً، في الواقع، بالمستقبل. فهو انتظار “الخيور الآتية”. وهو، بوصفه فضيلة مسيحية، يرتبط بانتظار الخيور الأبدية التي وعد بها الله الإنسان بيسوع المسيح (3). وهذا الرجاء هو، في الوقت عينه، وبوصفه فضيلة مسيحيّة بشريّة، انتظار الخيور التي يحقّقها الإنسان باستخدامه المواهب التي خصتّه بها العناية.
وبهذا المعنى، إنّ المستقبل لكم، أنتم أيها الشبّان، كما كان لجيل البالغين الذين سبقوكم، وأصبح معهم الواقع القائم. وعلى عاتق البالغين تقع على الأخص مسؤولية هذا الواقع وصيغه المتعدّدة وخطوطه الكبرى، وعلى عاتقكم تقع مسؤولية ما سيصبح معكم يوماً واقعاً، وهو لا يزال الآن عالم المستقبل.
وعندما نقول ن المستقبل لكم، إنّا نستعمل، فيما نفكّر، مقولات عابرة خاصّة بأمور بشرية تسير دائماً نحو المستقبل. وعندما نقول أن المستقبل يتعلّق بكم، فإنّنا نستعمل، فيما نفكر، مقولات أخلاقيّة، على ما يقتضيه واجب الضمير الأدبي الذي يملي علينا أن ننسب إلى الإنسان كشخص – وإلى الجماعات والمجتمعات المؤلفة من أشخاص – ما للأعمال، والمشاريع، والمبادرات، والنيّات البشرية، من قيمة أساسيّة.
وهذا البعد هو أيضاً بعد خاصّ بالرجاء المسيحيّ والبشري. وبحسب هذا البعد توجّه إليكم الكنيسة بلساننا، أنتم أيّها الشبّان، الأمنية الأولى، والأمنية الأهمّ في هذه السنة المخصّصة للشبيبة: “كونوا دائماً مستعدّين للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم” (4).
المسيح يحدّث الشبان
2- هذه الكلمات التي كتبها يوماً بطرس الرسول إلى جيل المسيحيّين الأول، ترتبط بإنجيل يسوع المسيح بكامله. وقد نتفهّم بطريقة أوضح هذه الرابطة، إذا ما توقّفنا على الحوار الذي أجراه المسيح مع أحد الشبّان، والذي نقله إلينا الإنجيليون (5). وهو، بين النصوص الكتابية العديدة، يستحقّ الذكر هنا بداءة بدء.
وعلى السؤال: “أيّها المعلّم الصالح، ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟” ، أجاب يسوع أولاً بالسؤال: “لماذا تدعوني صالحاً، وليس الصالح إلا الله الواحد”. ثم يتابع قائلاً: “أنت تعرف الوصايا: لا تزنِ، لا تسرق، لا تقتل، لا تشهد شهادة زور، لا تظلم، أكرم أباك وأمك” (6). بهذه الكلمات يذكّر يسوع محدّثه ببعض من الوصايا العشر.
ولكنّ المحادثة لم تتوقّف عند هذا الحدّ، لأن الشابّ أكّد في الواقع بقوله: “يا معلّم، هذه كلّها حفظتها منذ صباي”. إذ ذاك – على ما قال الإنجيليّ – “نظر إليه يسوع وقد أحبّه”. وقال له: “واحدة تنقصك: اذهب فبع كل ما لك، وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني” (7).
وعند هذه النقطة تغيّر جوّ اللقاء. ويخبر الإنجيليّ أنّ الشابّ لدى سماعه “هذه الكلمة اغتمّ، ومضى حزيناً، لأنه كان ذا مال كثير” (8).
وهناك مقاطع أخرى من الإنجيل تشير إلى لقاء يسوع والشبّان – منها روايتان مؤثّرتان على الأخص، تتحدّثان عن إقامة ابنة يائيروس (9) وابن أرملة نائين 10 من الموت وردّهما إلى الحياة -؛ غير أنّه بإمكاننا أن نقول أنّ الحوار الذي أوردناه هو أكمل لقاء وأغناه محتوى. ويمكننا أن نقول أيضاً أنّ له طابعاً أشمل وأنّه يتعدّى الزمن، وأنّ له، نوعاً ما، قيمة ثابتة باقية على القرون والأجيال. هكذا يتحدّث المسيح مع الشابّ، والصبيّ، والأبنة: إنّه يدخل في حوار في مختلف الأماكن من العالم، وبين مختلف الأمم، وأجناس الناس والأعراق، والثقافات. وكلّ منكم هو بطبيعته من يوجّه إليه الكلام في هذا الحوار.
وفي الوقت عينه، إنّ كلّ عناصر الرواية، وكل الكلمات المتبادلة في هذا الحديث لها أهميّة كبيرة ووزن خاص. وباستطاعتنا القول أن هذه الكلمات تعبّر عن حقيقة عميقة تتعلّق بالإنسان بوجه عام، وقبل كل، عن حقيقة الشباب الإنسانيّ. وفي الحقيقة، أن هذه الكلمات لها وزن خاص بالنسبة إلى الشبّان.
فاسمحوا لنا إذن أن نربط خواطرنا في هذه الرسالة، بالأحرى، بهذا الحديث وبهذا النص الإنجيلي. فلعلّ ذلك يسهّل عليكم القيام بحوار خاص مع المسيح – وهو حوار له بالنسبة إلى الشابّ أهميّة أساسيّة، جوهرية.
الشباب غنى فريد
3- إنّا نبدأ بما ورد في نهاية النصّ الإنجيلي: مضى الشابّ حزيناً “لأنه كان ذا مال كثير”. لا شك في أن هذا الكلام يدور على خيور مادّية كان الشاب يملكها أو كان قد ورثها. وقد يكون هذا الوضع خاصّاً ببعض الشبّان، ولكنّه ليس وضعاً عامّاً. ولهذا توحي كلمات الإنجيليّ بطرح المسألة طرحاً مختلفاً: والمسألة هي هذه: إنّ الشباب بحدّ ذاته (بقطع النظر عن الخير المادي) هو كنز فريد من الغنى للرجل والصبيّ أو الأبنة، وغالباً ما يستخدمه الشبّان في حياتهم، ككنز خاصّ بهم؛ غالباً، لكن ليس دائماً ولا باستمرار لأن العالم لا ينقصه رجال لا يختبرون، لأسباب مختلفة شبابهم اختبارهم لكنز. وهذا ما سنتكلّم عنه فيما بعد.
لكنّ هناك أسباباً – وحتى موضوعيّة بطبيعتها – تحملنا على التفكير بالشباب تفكيرنا بكنز فريد، يختبره الإنسان في هذه الفترة من حياته. وهي فترة تتميّز دونما شك عن عهد الطفولة (وهي في الواقع خروج من سني الطفولة)، مثلما تتميّز أيضاً عن فترة النضج والكهولة. إن زمن الشباب هو الزمن الذي يكتشف فيه، بطريقة خاصّة عميقة، “الأنا” البشريّ وما يواكبه من صفات وطاقات.
وعندما نراقب شخصية أحد الفتيان أو إحدى الفتيات تتطوّر وتنمو من الداخل، نكتشف شيئاً فشيئاً وتدريجياً القوة “القادرة” الخاصّة بإنسانيّة ملموسة ونوعاً ما فريدة يندرج فيها مشروع الحياة المستقبلية. وتبدو الحياة كأنّها تحقيق لهذا المشروع “كأنها تحقيق الذات بالذات كشخص”.
وهذه مسألة تستوجب طبعاً شرحاً وفقاً لما لها من وجوه مختلفة. غير أن ما يتبادر إلى الذهن – لكي نتحدّث باختصار – إنّما هو رسم هذا الكنز وصورته، وهو كنز الشباب الذي يقوم على اكتشاف القرارات الشخصية الأولى التي سيكون لها أهميّتها في المستقبل في ما يتعلّق بأبعاد الوجود الشخصّي البشري، وهو كنز يقوم أيضاً على اختيار هذه القرارات واستباقها وتحمّل مسؤوليّتها. ولهذه القرارات في الوقت عينه أهميّة اجتماعية. وكان شاب الإنجيل في هذه الفترة من الحياة، على ما نستنتج من الأسئلة التي طرحها في الحوار مع يسوع. ولهذا فإن كلمات الختام بشأن “ماله الكثير”، أي غناه، يمكن فهمها بحقّ بهذا المعنى وهو: إن الشباب عينه هو الكنز.
وبعد يجب أن نتساءل: هل ينبغي أن يفصل هذا الكنز الذي هو الشاب الإنسان عن المسيح؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ الإنجيليّ لا يؤكّد ذلك. وإذا تفحّصنا النصّ، نستنتج الخلاف. وفي النهاية إن ما أثّر على قراره الابتعاد عن المسيح، الخيور الخارجية فقط، أي “ما كان يملك من مال” وليس ما كان هو. وإنّ ما كان، بوصفه شاباً – أي الكنز الداخلي الكامن في الشباب البشريّ – هو ما قاده إلى يسوع، وما حمله على طرح هذه الأسئلة التي تتعلّق بوضوح كلّي، بمشروع الحياة كلّها. ماذا عليّ أن أعمل؟ ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟ ماذا عليّ أن أعمل ليكون لحياتي قيمتها التامة ومعناها الكامل؟
إنّ شباب كل منكم، أيّها الأصدقاء الأعزّاء، هو كنز يتجلّى في هذه الأسئلة ذاتها التي يطرحها الإنسان على ذاته طوال حياته، لكنّها تبرز في عهد الشباب بروزاً حاداً ملحاً. ومن الخير أن يحدث ذلك، لأنّ هذه الأسئلة تدلّ على ما يحفز تطوّر الشخصية البشريّة من طاقة حيّة، خاصّة بعمركم. وأنّكم لتطرحون أحياناً هذه الأسئلة طرحاً قلقاً، حاداً، وتدركون في الوقت عينه، أنّ الجواب عليها لا يمكن أن يكون سريعاًَ أو سطحياً، بل يجب أن يكون له وزن خاص، ثابت، نهائيّ، لأنّه جواب يتعلّق بالحياة كلّها، ويشمل الوجود البشري كلّه.
وهذه الأسئلة الجوهرية يطرحها رفاقكم على أنفسهم، وعلى الأخصّ الذين من بينهم تميّزت حياتهم بالألم منذ الطفولة: من مثل التشويه الجسديّ، والمرض، والإعاقة أو النقص، أو الحالة العائلية أو الاجتماعية الصعبة. وإذا تطوّر وعيهم تطوّراً سليماً، فإنّ السؤال عن معنى الحياة وقيمتها بالنسبة إليهم يصبح أمراً هاماً جداً وفي الوقت عينه مأسوياً، لأنّه يحمل طابع الألم في الحياة منذ البداية. وكم هناك من مثل هؤلاء الشبّان، من بين الكثرة منهم، في العالم كلّه في مختلف الشعوب والمجتمعات والعائلات ! وكم من الذين يضطّرون، منذ الطفولة، أن يعيشوا في مؤسّسة مختصّة أو في مستشفى، لا يقوون على حركة قد تولّد لديهم شعوراً بأنّ لا فائدة منهم للبشرية.
هل يمكن القول، والحالة هذه، أنّ الشباب بالنسبة إليهم هو كنز داخليّ؟ ومن نسأل هذا السؤال؟ وعلى من يجب أن يطرحوا هم هذا السؤال الهامّ؟ إن المسيح يبدو هنا المحاور الوحيد الصالح الذي لا يمكن أحداً أن يقوم مقامه.
الله محبّة
4- ردّ المسيح على محدّثه الشابّ، بحسب الإنجيل، بقوله: “ليس الصالح إلاّ الله الواحد”. وقد سمعنا ما سأله ذلك الآخر: “أيها المعلّم الصالح، ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟” ماذا أعمل ليكون لحياتي معنى وقيمة؟ يمكننا ترجمة سؤاله بلغة عصرنا. وفي هذا الإطار، إنّ جواب المسيح يعني: إنّ الله وحده هو الأساس الأخير لكل القيم والخيور. إنه وحده يعطي وجودنا البشريّ معناه الأكيد النهائيّ.
إنّ الله وحده الصالح، معناه أنه هو المصدر الأوّل والخاتمة الأخيرة لكل القيم والخيور: “إنه الألف والياء، البداية والنهاية” (11). وفيه تجد القيم أصالتها وتتوطّد بطريقة أكيدة، ثابتة، نهائية. وبدونه – دون العودة إليه – يبقى عالم القيم والخيور المخلوقة كأنه معلّق في فراغ مطلق. ويفقد أيضاً صفاءه ومعناه. ويبدو الشرّ كأنه خير ويقتلع الخير من مكانه. أفليس هذا ما يثبّته الاختبار في عصرنا، حيثما أقصي الله عن النظر لدى التقدير وإبداء الرأي، والقيام بالعمل؟
ولماذا الله الصالح وحده؟ لأنه محبّة. لقد أعطى السيد المسيح هذا الجواب بكلام الإنجيل، وعلى الأخصّ، شهادة حياته وموته: “لأن الله هكذا أحب العالم، حتى أنه بذل ابنه الوحيد” (12). إنّ الله هو الصالح لأنه في الواقع هو “محبّة” (13).
إن السؤال عن قيمة الحياة، والسؤال عن معناها يتعلّق – على ما قلنا – بكنز الشباب الفريد. وينبغ هذا السؤال من قلب كنز الخيور والهموم المرتبطة بمشروع الحياة الذي يجب تحمّل مسؤوليته وتحقيقه. وإنّ ما هو أعمق من ذلك أن الشباب عندما يصاب بالألم الشخصي ويتعرّف إليه أو يعي وعياً عميقاً آلام الآخرين، وعندما تهتز أحشائه لرؤيته في العالم على اختلاف أنواعه، وأخيراً عندما يواجه سرّ الخطيئة “سر الإثم” (14) البشري، يكون جواب المسيح هو هذا: “ليس الصالح إلاّ الله”. إنّ الله وحده محبّة. قد يبدو هذا الجواب صعباً، لكنه في الوقت عينه، جازم، صحيح: فهو يحمل الحلّ النهائي الأكيد. ولكم نصلّي، أيها الشبان الأصدقاء، لكي تسمعوا جواب المسيح هذا سماعاً شخصياً. لكي تجدوا الطريق الداخلية لفهمه، وتقبلوه، وتعملوا على تحقيقه!
هكذا تصرّف المسيح في حديثه مع الشاب. هكذا يتصرّف في الحوار الذي يقيمه مع كل فتى وفتاة من بينكم. عندما تقولون له: “أيها المعلّم…” فهو يسأل: “لماذا تدعوني الصالح؟ ليس الصالح إلاّ الله الواحد”. ويالتالي إنّ كوني صالحاً يشهد الله. “من رآني رأى الآب” (15). هكذا يتكلّم المسيح، المعلّم والصديق، المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات: الذي هو دائماً من هو، بالأمس واليوم وإلى الأبد (16).
هذا هو لبّ الجواب، ونقطته الأساسية على الأسئلة التي تطرحونها عليه من خلال كنز الخيور الذي فيكم والمتاصل في شبابكم. وهو يفتح أمامكم آفاقاً مختلفة، ويكل إليكم أمر أخذ القرار بشأن كل حياتكم. وهنا يأتي السؤال عن القيم، والسؤال عن المعنى، والحقيقة، والخير، والشرّ. إن المسيح إذ يجيبكم، يسألكم أن تعودوا بهذا كلّه إلى الله، ويظهر لكم في الوقت عينه أين هو ينبوع هذه الأمور وأساسها، فيكم أنتم: إنّ كلاّ منكم، في الواقع، هو صورة الله ومثاله بالخلق ذاته (17). وهذه الصورة وهذا المثال هما ما يحملكم على طرح هذه الأسئلة التي يجب أن تطرحوها. وهما يظهران كيف أن الإنسان لا يمكنه، من دون الله، أن يفهم ذاته، ولا يمكنه من دون الله أن يحقّق ذاته. لقد جاء السيد المسيح إلى العالم، على الأخصّ، لكي يعي كل منّا هذا الواقع. وبدونه، يغيب بسهولة في الظلام، هذا البعد الأساسيّ عن حقيقة الإنسان. وبعد، لقد “جاء النور إلى العالم” (18)، و”الظلمة لم تدركه” (19).
السؤال عن الحياة الأبديّة
5- ماذا عليّ أن أعمل ليكون لحياتي قيمة، وليكون لها معنى؟ هذا هو السؤال اللاهب الذي أعرب عنه الشابّ الذي تحدّث عنه الإنجيل، عندما قال: “ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟” إنّ من يطرح هذه الأسئلة بهذه الصيغة، هل يستعمل لغة يفهمها بعد أناس اليوم؟ أفلسنا أناساً يرتكز حكمهم على الحياة على العالم وتطوّره الزمنيّ؟ إنّا نفكّر، قبل كل، بشؤون الأرض. وإذا خرجنا من حدود الأرض، فلكي نقوم برحلات بين الكواكب، نبعث بإشارات إلى كواكب أخرى، ونرسل آلات تكتشف طبيعتها.
هذا أصبح ما تنطوي عليه حضارة عصرنا. وقد اكتشف العلم والتقنيّة، بطريقة لا مثيل لها، قدرات الإنسان في ما يتعلّق بالمادة، وتمكّن من السيطرة على أفكاره ومكنوناته، وقواه، وأمياله، وأهوائه.
ولكننّا عندما نقف أمام المسيح، ونطرح عليه بثقة أسئلة يمليها علينا شبابنا، فلا يجوز لنا، في الوقت عينه، أن نطرح السؤال طرحاً يخالف الطريقة التي طرحه معها الشابّ الذي تحدّث عنه الإنجيل: “ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟”. وكلّ سؤال آخر عن معنى حياتنا وقيمتها، يطرح أمام المسيح، يكون ناقصاً وثانويّاً.
وفي الواقع، ليس المسيح “المعلّم الصالح” وحسب، الذي يرشد إلى طريق الحياة على الأرض. إنّه الشاهد على هذا المصير الأخير الذي يجده الإنسان في الله ذاته. إنّه الشاهد على خلود الإنسان. والإنجيل الذي أعلنه المسيح بصوته، ختمه الصليب والقيامة، نهائياً، في السرّ الفصحي “المسيح قام من بين الأموات، ولن يموت بعد، ولن يكون للموت عليه سلطان” (20). وقد أصبح المسيح أيضاً بقيامته، في كلّ زمان، “آية للخصام” (21)، أمام جميع القرارات والمشاريع التي لا تستطيع أن تذهب بالإنسان إلى ما وراء حدود الموت. وعلاوة على ذلك، إنّها عند هذا الحدّ، تقطع كل سؤال عن قيمة حياة الإنسان ومعناها. وأمام جميع هذه المشاريع والمفاهيم بشأن العالم، والأيديولوجيّات، يكرّر المسيح دائماً هذه العبارة: “أنا القيامة والحياة” (22).
إذا أردت إذن، أيّها الأخ العزيز والأخت العزيزة، أن تتحدّث إلى المسيح، بعد اعتناقك كل حقيقة شهادته، عليك من جهة أن “تحبّ العالم” – “لأن الله هكذا أحبّ العالم، حتى إنّه بذل ابنه الوحيد” (23) – وعليك في الوقت عينه من جهة ثانية أن تتجرّد باطنياً عن هذا “الواقع” كلّه، الغنيّ، المغري الذي يقال له “العالم”. عليك أن تحمل ذاتك على طرح السؤال عن الحياة الأبديّة. ذلك أنّ “شكل هذا العالم يزول” (24). ويخضع كلّ منّا لهذا الزوال. يولد الإنسان، وهو يترقّب يوم الموت، بالنظر إلى العالم المنظور. ويحمل الإنسان، في الوقت عينه، في ذاته، هذا الإنسان الذي تكمن علّة وجوده في التغلّب على ذاته – كل ما به يتغلّب على العالم.
إنّ كل ما به يتغلّب الإنسان في ذاته على العالم – على الرغم من أنّه متأصّل فيه – يجد شرحه في صورة الله ومثاله الكامنين في الإنسان منذ نشأته. وكلّ ما به يتغلّب الإنسان على العالم، لا يبرّر السؤال عن الحياة الأبديّة وحسب، بل يجعله سؤالاً محتوماً. هذا هو السؤال الذي يطرحه الناس منذ زمن بعيد لا في نطاق الدين المسيحيّ وحسب، بل أيضاً خارج هذا النطاق. وينبغي أن تجدوا في نفوسكم من الشجاعة ما يحملكم على طرح هذا السؤال أيضاً، على مثال الشابّ الذي تحدّث عنه الإنجيل. إنّ الدين المسيحيّ يعلّمنا أن نتفهم الزمن من منظار ملكوت الله، من منظار الحياة الأبدية. وبدون ذلك، لا يحمل الزمن في النهاية – على الرغم ممّا فيه من غنى وعلى الرغم من حسن تكوينه من جميع جهاته – للإنسان غير حتميّة الموت الذي لا مهرب منه.
والحال أنّ بين الشباب والموت تضادّاً. والموت يبدو بعيداً عن الشباب، وهذا صحيح. إنّما لأنّ الشباب يعني القرار المتّخذ بشأن الحياة بكاملها، وهو قرار يقوم على مقاييس المعنى والقيمة، فلا بدّ من السؤال عن النهاية حتى في عهد الشباب. وإنّ الاختبار البشريّ، إذا ما ترك لذاته، يؤكّد ما يؤكّده الكتاب المقدّس وهو: “أنّ الناس لا يموتون إلاّ مرّة واحدة” (25). ويضيف الكاتب الملهم: “وبعد الموت الدينونة” (26). وقال المسيح: “أنا هو القيامة والحياة”، من آمن بي، وإن مات فسيحيا، وكلّ من يحيا ويؤمن بي، لا يموت أبداً” (27). اسألوا إذن المسيح، على مثال الشاب في الإنجيل: “ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟”.
الأخلاق والضمير
6- على هذا السؤال، يجيب يسوع: “أنت تعرف الوصايا”، ويعلن لتوّه هذه الوصايا المأخوذة من الوصايا العشر. وهي التي تلّقاها يوماً موسى على جبل سيناء، عندما أبرم العهد بين الله واسرائيل. وقد كتبت في لوحين من حجر (28)، وكانت ترشد كل إسرائيلي إلى الطريق اليوميّة التي كان عليه أن يسلكها (29). وكان الشابّ الذي تحدّث إلى السيد المسيح يعرف، على ما يبدو، عن ظاهر قلبه، الوصايا العشر، وكان بإمكانه إذن أن يؤكّد بفرح قائلاً: “هذه كلّها حفظتها منذ صباي” (30).
باستطاعتنا أن نتخيّل، في الحوار الذي يقوم به المسيح مع كلّ منكم، إنّه يردّد عليكم السؤال عينه: “هل تعرف الوصايا؟”. وسيتكّرر هذا السؤال دونما شك، لأنّ الوصايا تتعلّق بالعهد الذي قام بين الله والبشريّة. والوصايا ترسي الأسس الأوّلية لطريقة التصرّف، وتحدّد القيمة الأدبيّة للأفعال البشريّة، وترتبط ارتباطاً “عضوياً” بدعوة الإنسان إلى الحياة الأبديّة، وبإحلال ملكوت الله في الناس وبين الناس. وتنطوي كلمات الوحي الإلهيّ على القاعدة الأخلاقية الواضحة التي يشكّل لوحا الوصايا العشر، المكتوبات في جبل سيناء، الجزء الأهم منها، والتي بلغت ذروتها في الإنجيل: في الخطاب على الجبل (31)، وفي وصيّة المحبّة (32).
وترتدي هذه القاعدة الأدبيّة في الوقت عينه، صيغة أخرى. إنّها مكتوبة في ضمير البشرية الأدبيّ، بحيث أن الذين يجهلون الوصايا، أعني الشريعة التي أوحاها الله، يكونون “لأنفسهم ناموساً” (33). هكذا يقول بولس الرسول في رسالته إلى الرومانيّين، ويضيف حالاً: “مظهرين أن العمل بالناموس مكتوب على قلبهم، ونيّتهم تشهد عليهم” (34).
وهنا نبلغ إلى قضايا لها أهميّة كبرى لشبابكم ولمشروع الحياة الذي ينجم عنه. وهذا المشروع يندرج في إطار تصوّر الحياة الأبديّة، على الأخصّ، من خلال حقيقة الأعمال التي يتمّ بها هذا المشروع. وتستند حقيقة الأعمال إلى كتابة مزدوجة للشريعة الأدبية كأساس: الكتابة المثبّتة في لوحي الوصايا اللذين تسلّمهما موسى، والمنصوص عنها في الإنجيل، والكتابة الموجودة في ضمير الإنسان الأدبيّ وكأنّها محفورة فيه. والضمير، في الحقيقة، “يؤدّي الشهادة” لهذه الشريعة، على ما يقول بولس الرسول. وهذا الضمير – على حدّ ما جاء في الرسالة إلى الرومانيين – هو “الأحكام الباطنيّة التي تشكو بعضاً أو تدافع عن بعض” (35). ليس من يجهل أنّ هذه الكلمات تطابق كلياً واقعنا الباطني: أنّ كلاً منّا قد اختبر، منذ الطفولة، صوت الضمير.
إذن، عندما يعلن يسوع، في حواره مع الشاب، الوصايا: “لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد شهادة زور، لا تظلم، أكرم أباك وأمك” (36)، فإنّ الضمير المستقيم يجيب بالتحرّك داخلياً حيال أعمال بشرية من هذا النوع: إمّا أن يشكو وإمّا أن يدافع، غير أنه من الضروري ألاّ ينحرف الضمير عن السير المستقيم. ويجب ألاّ يتشوّه التعبير الأساسي عن المبادئ الأدبيّة بتأثير “النسبية” أو السعي المفرط وراء المنفعة.
أيها الشبّان الأصدقاء! إنّ الجواب الذي أعطاه يسوع لمن تكلّم معه، على ما ورد في الإنجيل، موجّه إلى كل فتى وفتاة من بينكم. إن المسيح يبحث عن حالة الحكم الأدبي لديكم، ويسأل في الوقت عينه عن حالة ضمائركم. وهذا السؤال هو هام بالنسبة إلى الإنسان: إنه سؤال شبابكم الأساسيّ، وهو يتناول كل مشروع حياتكم الذي يجب أن يتّخذ شكلاً له في عهد الشباب. وترتبط قيمته ارتباطاً وثيقاً بالطريقة التي يتصرّف بها كلّ منكم تجاه الخير والشر الأدبي. وتتوقّف قيمة هذا المشروع الجوهرية على ما لضميركم من أصالة واستقامة وعلى ما له أيضاً من إحساس رهيف.
وأنّا هنا نصل إلى نقطة صعبة حيث يلتقي، في كل خطوة، الزمن والأبدية، على مستوى خاص بالإنسان. وهو مستوى الضمير، مستوى القيم الأخلاقية، وهذا هو البعد الأهمّ، بعد الزمن والتاريخ. وفي الواقع، أن التاريخ لا تكتبه الأحداث، نوعاً ما، “من الخارج” وحسب، لكنّه يكتب، قبل كل، “من الداخل”: إنه تاريخ الضمائر البشرية التي إمّا أن تنتصر وإمّا أن تندحر. وعلى هذا أيضاً تقوم عظة الإنسان الجوهرية: أي كرامته الإنسانية الأصيلة. هذا هو الكنز الداخليّ الذي لا يفتأ الإنسان بفضله يتغلّب على ذاته ليتّجه شطر الأبدية. وإذا صحّ “أن الناس لا يموتون إلاّ مرة واحدة”، فالصحيح أيضاً أن الإنسان يحمل معه كنز الضمير الذي يجمع الخير والشرّ، إلى ما وراء حدود الموت، لكي يكتشف، وهو ماثل في حضرة من هو القداسة بالذات، الحقيقة الأخيرة النهائية عن كل حياته: “وبعد ذلك الدينونة” (37).
وإنّ هذا ما يحدث في الضمير: حيث بُعد الحياة الأبدية يقوم باستمرار نوعاً ما في حقيقة ما لأعمالنا من حقيقة باطنيّة. وفي الوقت عينه، إنّ الضمير ذاته، من خلال القيم الأدبية، يطبع بخاتمه المعبّر كل التعبير، حياة الأجيال، والتاريخ، وثقافة الجماعات البشريّة، والمجتمعات، والأمم، والبشرية جمعاء.
وفي هذا المجال، إن كل ما يتعلّق بكل فتى وفتاة من بينكم، لكبير!
“حدق إليه يسوع، وأحبّه”
7- إنّا، فيما نتابع البحث في حوار المسيح مع الشابّ، نصل إلى مرحلة أخرى، وهي جديدة، حاسمة. لقد تلّقى الشاب الجواب الجوهريّ الأساسي، على السؤال: “ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟”، ويتوافق هذا الجواب وكل طريق الحياة التي قطعها حتى الآن: “هذه كلّها حفظتها منذ صباي”. لكم أتمنّى بحرارة لكلّ منكم أن تتوافق طريق حياتكم التي قطعتموها حتى الآن، وجواب المسيح! وأتمنّى أيضاً أن يوفّر لكم شبابكم أساساً متيناً من المبادئ السليمة، وأن يبلغ ضميركم، منذ سني الشباب، هذا الصفاء وهذا النضج اللذين يتيحان لكلّ منكم أن يكون دائماً “شخصاً يحركّه الضمير”، “شخصاً يتقيّد بالمبادئ”، “شخصاً يوحي بالثقة”، أي صادقاً ويوثق بصدقه. ومن شأن الشخصية الأدبية التي تكون قد تكوّنت هكذا، أن تسهم اسهاماً كبيراً في الحياة “الجماعية”، على ما تسمّى، وحياة المجتمع، والوظائف والفنون والنشاط الثقافي والسياسيّ، وأخيراً في نشاط الجماعة الكنسيّة ذاتها الذي تشتركون أو سوف تشتركون فيه.
والحديث هنا، في وقت معاً، عن طابع كامل، عميق يميّز الإنسانية، وعن طبيعة أصيلة تميّز تقدّم الشخصيّة الإنسانيّة، رجلاً كانت أم امرأة، مع كلّ الخصائص التي تنفرد بها هذه الشخصيّة، والتي تنعكس، بطرق متعدّدة، في حياة الجماعة، والمحيط البشريّ، ابتداء من العائلة. على كل منكم أن يساهم، بطريقة ما، في إغناء هذه الجماعة، على الأخصّ بما هو عينه. أفليس في هذا الاتجاه ينفتح هذا الشباب الذي هو الكنز “الشخصيّ” لكلّ منكم؟ إن الإنسان يتبينّ ذاته، ويتبينّ إنسانيّته الخاصة، سواء منها ما كان صميم كينونته أم ما كان من الأرضية الخاصة “بالكينونة مع الآخرين” و”الكينونة من أجل الآخرين”.
وهنا تتخّذ الوصايا العشر، والإنجيل مفهوماً حاسماً، على الأخصّ، في ما يتعلق بوصيّة المحبّة التي ينفتح معها الإنسان على الله وعلى القريب. والمحبّة، في الواقع، هي “رابطة الكمال” (38). وبها ينضج كل النضج الإنسان والمحبّة بين الناس. لذلك إنّ المحبّة هي العظمى (39) وأولى الوصايا، على ما علّم المسيح؛ وهي تتضمّن باقي الوصايا وتوحدّها (40).
إنّا نتمنّى إذن لكل منكم أن تلتقي طريق شبابه طريق المسيح، لكي تتمكنّوا من أن تثبّتوا أمامه، بشهادة ضميركم، قاعدة الآداب الإنجيلية التي اقترب، نوعاً ما، من قيمها، على مرّ الأجيال كثير من الرجال من ذوي الفطنة والذكاء.
لا حاجة بنا هنا إلى إيراد شواهد تثّبت هذا الواقع، وهي تملأ تاريخ البشر. ومن الراهن أن صوت الضمير، منذ أقدم العصور، يوجّه كل إنسان إلى قاعدة أدبيّة موضوعيّة، يعبّر عنها تعبيراً حسيّاً احترام الشخص الآخر، والمبدأ الذي يحجم معه الإنسان عن أن يفعل للآخر ما لا يريد أن يفعله الغير له (41).
وإنّا نلاحظ هنا أن قد توضّح وجود قاعدة آداب موضوعية يؤكّد القديس بولس أنّها “مكتوبة في القلوب” وأنّ “الضمير يشهد لها” (42). ويسهل على المسيحيّ أن يرى فيها شعاعاً من نور الكلمة الخالق الذي ينير كل إنسان (43)، ولهذا ولأنّه تلميذ هذا الكلمة الذي صار جسداً، فإنّه يرتفع إلى شريعة الإنجيل العليا التي تأمره على وجه التحديد – عبر وصيّة المحبّة – بأن يفعل لقريبه الخير الذي يريد أن يفعله الغير له. وهو كأنّه يمهر بخاتمه، بهذه الطريقة، صوت ضميره الحميم، مبدياً تسليمه المطلق للمسيح ولكلامه.
وإنّا نتمنّى لكم أيضاً، بعد أن تكونوا قد تبينّتم قضايا شبابكم الجوهرية الهامة، أن تختبروا – في ما يتعلّق بما يجب اتّخاذه من قرار بشأن الحياة التي ستواجهونها – ما يرويه الإنجيل وهو: “إنّ يسوع نظر إليه، وقد أحبّه”.
وإنّا نتمنّى لكم أن تختبروا مثل هذا النظر! ونتمنّى أن تختبروا الحقيقة التي ينظر المسيح معها إليكم بمحبّة! إنّه نظر إلى كل من الناس بمحبّة. وهذا ما يثبته الإنجيل في عدّة أمكنة. ويمكننا أيضاً أن نؤكّد أن “نظر المسيح هذا المليء بالمحبّة” يوجز، نوعاً ما، مجمل البشارة المفرحة. وإذا استقصينا أصل هذا النظر لوجب علينا أن نعود إلى سفر التكوين إلى تلك اللحظة التي رأى الله فيها، بعد أن خلق الإنسان “ذكراً وأنثى” أنّ ما صنعه “كان حسناً جداً” (44). وينعكس أول نظر للخالق في نظر المسيح الذي يرافق الحوار الذي جرى مع الشاب على ما جاء في الإنجيل.
وإنّا نعرف أن المسيح قد أثبت بذبيحة الفداء على الصليب هذا النظر وختمه، لأنّ هذا النظر قد بلغ، بفضل هذه الذبيحة، عمقاً من المحبّة خاصاً. وهو يتضمّن تأكيداً للإنسان والبشرية لا يقدر عليه إلاّه، أي المسيح وحده الفادي والعروس. إنّه وحده “يعرف ما في الإنسان” (45): ويعرف جيداً ضعفه، ولكنّه يعرف أيضاً على الأخصّ كرامته.
إنّا نتمنى على كل شاب وشابة منكم أن يكتشف نظر المسيح هذا ويختبره اختباراً عميقاً. إنّا لا ندري في أي وقت من الحياة. أنّا نعتقد أن هذا سيحدث عندما تدعو الحاجة: ربما في الألم، وربما لدى شهادة ضمير سليم، مثلما حدث للشاب الذي تحدّث عنه الإنجيل، أو في ظرف مخالف تماماً: لدى الشعور بذنب صار الإقرار به، ورافقه وخز ضمير. لقد نظر المسيح أيضاً إلى بطرس، عندما سقط، بعد أن أنكر معلّمه ثلاثاً (46).
إن الإنسان لفي حاجة إلى هذا النظر المفعم بالمحبّة: إنه لفي حاجة إلى أن يعرف أنه محبوب، وأنّه محبوب إل الأبد، وأنّه انتخب قبل إنشاء العالم (47). وهذه المحبة الأبدية التي انتخبنا بها الله، ترافق، في الوقت عينه، الإنسان، طوال حياته، مثل نظر المسيح، المفعم بالمحبة. وربما على الأخصّ في وقت المحبة، والإذلال، والاضطهاد، والإخفاق، وعندما تمسح إنسانيتنا أمام الناس، وتشتم، وتداس: أن نعرف أن الآب قد أحبّنا دائماً بابنه، وأن المسيح يحبّ كلا منّا دائماً، أن لفي ذلك دعماً أكيداً لكل وجودنا الإنساني. وعندما يبدو أن كل شيء يدفع إلى هذه الحالة التي يشعر معها الإنسان أنه يشكّ بنفسه وبمعنى حياته، إذ ذاك يكون من شأن نظر المسيح، أي شعور الإنسان بأنّه محبوب، وهو شعور أقوى من كل شر ودمار، ومن شأن هذا الشعور أن يفسح لنا في المجال لنستمرّ في الحياة.
وإنّا لنتمنّى لكم إذن أن تختبروا ما شعر به الشاب الذي تحدّث عنه الإنجيل: “ونظر إليه يسوع، وأحبّه”.
“اتبعني”
8- يفهم من التدقيق في نصّ الإنجيل أن هذا النظر كان، نوعاً ما، الجواب الذي أعطاه المسيح عن الشهادة التي أدّاها الشاب عن حياته حتى ذلك الوقت، أي أنه سلك بمقتضى وصايا الله: “هذه كلّها حفظتها منذ صباي”.
وكان في الوقت عينه هذا “النظر المفعم بالمحبة” مقدمة للجزء الأخير من الحديث. وبحسب نصّ متى، أن الشاب هو من ابتدأ بهذا الجزء، لأنه لم يؤكد وحسب أنه حافظ بأمانة على الوصايا العشر التي طبعت كل حياته السابقة، لكنّه في الوقت عينه طرح سؤالاً جديداً وهو قوله: “ماذا ينقصني؟” (48). إن هذا السؤال ذو أهميّة كبيرة. فهو يشير إلى أن هناك في ضمير الإنسان الأدبي، وعلى الأخص في ضمير الشاب الذي يتّخذ قراراً بشأن كل حياته، تطلّعاً إلى ما “هو أكثر”. وهذا التطلّع يتجلّى بأنواع مختلفة، وبإمكاننا أن نراه أيضاً لدى أناس يبدو أنّهم بعيدون كل البعد عن ديانتنا.
وإنّا نجد بين اتباع الأديان غير المسيحية على الأخصّ في البوذية، والهندوسية والإسلام، منذ آلاف السنين، جماعة من “الروحيين” الذين غالباً ما يتخلّون عن كل شيء منذ عهد الشباب، ليعتنقوا حالة الفقر والعفة، بحثاً عن المطلق الكائن وراء المظهر المحسوس؛ وهم يسعون إلى ادراك حالة من الحرية الكاملة، لائذين بالله بدافع من المحبة والشفقة، عاملين من صميم القلب على الانقياد لأوامره الخفيّة. إنهم يستجيبون لصوت داخليّ خفيّ يرنّ في أعماق نفوسهم، وكأنّه صدى لأقوال بولس: “إن شكل هذا العالم يزول” (49)، ويقودهم إلى البحث عمّا هو أعظم وأبقى: “اطلبوا ما هو فوق” (50). وهم يسعون إلى الهدف بكل قواهم، عن طريق الممارسة والتدريب، تنقية لنفوسهم، بغية وقف حياتهم أحياناً على الألوهية، بدافع من المحبّة. فيبرزون، بهذا التصرّف، كأمثلة حيّة لمعاصريهم، الذين يظهرون لهم بمسلكهم أن الخيور الأبدية تحتلّ المكان الأول قبل الأمور الزائلة وأحياناً غير الأكيدة، التي يقدّمها المجتمع الذي يعيشون فيه.
لكنّ التطلّع إلى الكمال، المتعلّق “بما هو أكثر”، وبما هو خاص، يعود بنا إلى الإنجيل. لقد أثبت المسيح، في خطابه على الجبل، الشريعة الأدبية، وفي رأسها لوحا الوصايا العشر الموسويّان، لكنّه أعطى في الوقت عينه هذه الوصايا مفهوماً جديداً، إنجيلياً. وكل ذلك – على ما قلنا سابقاً – يدور على المحبّة، ليس فقط كوصيّة، بل أيضاً كهبة: “أفيضت على قلوبنا محبّة الله التي وهبت لنا بالروح القدس” (51).
وضمن هذا الإطار الجديد يمكننا أيضاً أن نفهم منهج الطوباويات الثماني التي تفتح الخطاب على الجبل في إنجيل متى (52).
وفي هذا الإطار تكتمل مجموعة الوصايا التي تؤلف القاعدة الأساسية للعقيدة الأدبية الأخلاقية المسيحية، بخلاصة المشورات الإنجيلية التي تعرب بطريقة فريدة عن دعوة المسيح إلى الكمال وتجسّدها، وهي دعوة إلى القداسة.
وعندما سأل الشاب عن هذا الذي “هو أكثر”: “ماذا ينقصني؟”، نظر إليه يسوع نظرة محبّة، وللمحبّة هنا معنى جديد. نقل الروح القدس الإنسان داخلياً من حياة بحسب الوصايا إلى حياة بحسب وعيه للهبة، ونظرة المسيح المفعمة تشير إلى هذا الانتقال الداخلي. وقال يسوع: “إن شئت أن تكون كاملاً، اذهب فبع ما لك، وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء، وهلّم اتبعني” (53).
أجل أيّها الشبّان، الأصدقاء الأعزّاء! باستطاعة الإنسان المسيحيّ أن يعيش بحسب مقياس هبته هذه. وليس هذا المقياس أسمى من مقياس الواجبات الأدبية وحسب، التي تعرب عنها الوصايا، لكنّه أعمق منها وأفضل. وهو يعرب عن مفهوم أغنى لمشروع هذه الحياة التي بنيناها منذ عهد الشباب. إن مقياس الهبة يولّد أيضاً صورة ناضجة عن أية دعوة بشرية ومسيحية، على ما سنرى.
يهمّنا الآن أن نحدّثكم عن المفهوم الخاص بالكلمات التي وجّهها المسيح لذلك الشاب، ونفعل ذلك، ونحن موقنون أن المسيح يوجّهها في الكنيسة إلى بعض من محدّثيه الشبّان من جميع الأعمار، وهذه الكلمات تشير إلى دعوة خاصة في جماعة شعب الله، وتجد الكنيسة هذه “ال اتبعني” (54)، التي قالها المسيح، في أساس كل دعوة إلى خدمة كهنوت الخدمة، المرتبط في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية باختيار واع، حرّ، للبتولية.
وتجد الكنيسة كذلك هذه الـ “اتبعني” التي فاه بها المسيح في أساس الدعوة الرهبانية التي يعتنق معها، عن طريق الاعتراف بالمشورات الإنجيلية (العفّة والفقر والطاعة)، الرجل والمرأة نظام حياة، حقّقه المسيح عينه على الأرض، من أجل ملكوت الله (55). ويتعهّد هؤلاء الأشخاص، بإبرازهم النذور الرهبانية، بإعطائهم شهادة محبة خاصة لله، تفوق كل شيء، وفي الوقت عينه شهادة دعوة إلى الاتحاد بالله إلى الأبد، موجّهة إلى الجميع. غير أنه ينبغي أن يؤدي بعضهم هذه الشهادة، أمام الباقين، بطريقة فريدة.
إنّا نكتفي بالإشارة فقط إلى هذه المواضيع، في الرسالة الحاضرة، لأنها عولجت قبلاً في موضع آخر وعدّة مرّات (56). وإنّا نذكّر بها لأنها في إطار حوار المسيح مع الشاب تتخّذ شفافية خاصّة، ولاسيما ما يتعلّق منها بموضوع الفقر الإنجيلي. وإنّا نذكّر بها أيضاً لأن دعوة المسيح التي أعرب عنها بعبارة “اتبعني”، بما لها من معنى فريد، ومواهبي، غالباً ما تُسمع في سنّ الشباب وأحياناً في سنّ الصبا.
ولهذا بودّنا أن نقول لكم جميعاً، أيها الشبّان، في هذه الفترة الخطيرة التي تتنامى فيها شخصيتكم، شباناً كنتم أم شابات: إذا قرعت باب قلبك مثل هذه الدعوة، فلا تخنقها! دعها تنمو حتى تنضج فتصبح حقاً دعوة! تعهّدها بالصلاة والمحافظة على الوصايا! إنّ “الحصاد كثير” (57). ومن الضرورة حقاً أن تصل إلى الكثيرين دعوة المسيح: “اتبعني”. هناك حاجة ماسّة إلى كهنة وفق قلب الله. والكنيسة وعالم اليوم بحاجة، على الأخصّ إلى شهادة حياة مكرّسة، دونما تحفّظ، لله: أعني إلى شهادة محبّة المسيح ذاته، العروس، التي تبرز ملكوت الله في نظر الناس وترفع العالم إليه.
دعونا، إذن، نكمّل كلام المسيح عن “الحصاد الكثير”. أجل، إن هذا الحصاد، حصاد الإنجيل، الكثير، إنه حصاد الخلاص!… “ولكنّ الفعلة قليلون”! ربّما هذا ما يلاحظ اليوم أكثر منه في الماضي، وعلى الأخصّ في بعض البلدان، وأيضاً في بعض مؤسسّات الحياة المكرّسة وسواها من الجمعيّات المماثلة.
“اطلبوا إذن من رب الحصاد، ليرسل فعلة لحصاده” (58)، يقول السيد المسيح. وتصبح هذه الكلمات، على الأخصّ في أيّامنا، موضوع صلاة وعمل في سبيل الدعوات الكهنوتية والرهبانيّة. وبهذا القصد، تتّجه الكنيسة إليكم، أيها الشبان. أنتم أيضاً: اطلبوا! وإذا نبتت ثمرة صلاة الكنيسة هذه في أعماق قلوبكم، اسمعوا المعلّم يقول لكم: “اتبعني”.
مشروع الحياة والدعوة المسيحيّة
9- كلمات الإنجيل هذه تتعلّق ولا شكّ بالدعوة الكهنوتية أو الرهبانيّة، لكنّها تتيح لنا، في الوقت عينه، أن نتعمّق في فهم مسألة الدعوة بمعناها الأشمل والأهمّ.
بإمكاننا هنا أن نتكلم عن دعوة “الحياة” التي هي تعني، نوعاًَ ما، ما يعنيه مشروع الحياة الذي يتصوّره كل منكم في عهد الشباب. لكنّ “الدعوة” تعني شيئاً أوسع من “المشروع”: وفي هذه الحالة الأخيرة، أكون أنا من أتصوّر هذا المشروع، وهذا يتوافق وحقيقة الشخص الذي هو كل منكم، شاباً كان أم شابة. ويكون هذا “المشروع” “دعوة” على قدر ما يكون هناك من عناصر مختلفة تتولّى الدعوة. وتشكّل هذه العناصر عادة نوعاً من نظام قيم (يدعى أيضاً “سلّم القيم”)، ينجم عنه مثال أعلى، ينبغي تحقيقه، فيجتذب قلب الشاب. وفي مسار الأمور هذا، تصبح “الدعوة” “مشروعاً”، ويبدأ المشروع أيضاً أن يكون دعوة.
ولكن بما أنّنا أمام المسيح ونتّخذ أساساً لتفكيرنا بشأن الشباب حواره مع الشاب، يجدر بنا أن نقابل بين “مشروع الحياة” و”دعوة الحياة” بتدقيق. الإنسان مخلوق حيّ، وهو أيضاً ابن الله بالتبنيّ في المسيح: إنه ابن الله. ومن هنا يسأل الإنسان: “ماذا عليّ أن أعمل”، ويطرح هذا السؤال لا على نفسه وعلى غيره من الناس وحسب، الذين بإمكانه أن ينتظر منهم جواباً، وعلى الأخصّ، على والديه ومعلّميه، لكنّه يطرحه أيضاً على الله لأنّه خالقه وأبوه. ويطرحه على قرارة نفسه التي تعلّم فيها أن يرتبط بالله ارتباطاً وثيقاً، على الأخصّ بالصلاة. فيسأل الله إذا: “ماذا عليّ أن أعمل؟”. ما هو مخطّطك بشأن حياتي؟ مخطّطك الأبوي الذي رسمته بخلقك إيّاي؟ ما هي مشيئتك؟ لأنيّ أريد أن أعمل بها.
في هذه الحالة يتّخذ “المشروع” معنى”دعوة حياة” كأنّه أمر وكلّه الله إلى الإنسان ليقوم به. يتمنّى الشاب، عندما يعود إلى ذاته ويقيم حواراً مع المسيح بالصلاة، لو أنّه يفهم هذا القصد الأبدي الذي يضمره له الله، الخالق والآب. فيتيقّن إذ ذاك أن المهمّة التي وكّلها الله إليه هي رهن إرادته، على وجه الإطلاق، وترتبط في الوقت عينه بظروف مختلفة داخليّة وخارجية. والشابّ (والشابّة)، عندما ينظر في ذلك، يبني مشروع حياته، ويرى في هذا المشروع دعوة يدعوه الله إليها.
ويطيب لنا إذن، أيها الشبّان، الذين نوجّه إليكم هذه الرسالة، أن نَكِلَ إليكم هذه المهمّة الرائعة العائمة على اكتشاف دعوة حياة كل منكم، أمام الله. وإنّها لمهمّة أخّاذة، تستهوي النفوس. وبهذا العمل تتقدّم وتنمو إنسانيّتكم، فيما تكتسب شخصيّتكم الفتيّة تدريجياً نضجها الداخلي. وتتوطّدون في ما هو كلّ منكم، فتى كان أم فتاة، بغية أن يصبح ما يجب أن يصبح: لذاته – للناس – ولله.
وبالإضافة إلى عملية معرفة “دعوة الحياة” الخاصّة هذه، يجب أن ينمو ويتطوّر وعي السبب الذي من أجله دعوة الحياة هي، في الوقت عينه، دعوة “مسيحية”. وتجب الملاحظة هنا أن مفهوم الدعوة، في الفترة السابقة للمجمع الفاتيكاني الثاني، كان يطبّق، قبل كل، على الكهنوت والحياة الرهبانية، كما لو أن المسيح كان قال هذه “ال اتبعني” الإنجيلية لذلك الشاب، بالنظر فقط إلى حالات من هذا النوع. لقد وسّع المجمع هذا المفهوم. وحافظت الدعوة الكهنوتية والرهبانيّة على ميزتها الخاصّة، وأهميّتها بالنسبة إلى الأسرار والمواهبيّة في حياة شعب الله. غير أن المجمع الفاتيكاني الثاني قد جدّد، في الوقت عينه، الوعي بشأن اشتراك جميع المعمّدين بوظائف المسيح الثلاث: النبوية والكهنوتية والملوكيّة، وجدّد أيضاً الوعي بشأن الدعوة الشاملة إلى القداسة (59)، فنتج عن ذلك أنّ كل دعوة حياة يعتنقها الإنسان، بوصفها دعوة مسيحيّة، تنسجم والدعوة الإنجيلية. وقول المسيح “اتبعني” أخذ يُسمع في مختلف الدروب التي يسلكها التلامذة وشهود الفادي الإلهي. ويستطيع المؤمن أن يقتدي بالمسيح بطرق مختلفة، أعني ليس فقط بالشهادة لملكوت الحق المحبّة النهيوي، بل أيضاً بالعمل على تغيير الشؤون الزمنيّة وفقاً لروح الإنجيل (60). ومن هنا تنطلق رسالة العلمانيين التي لا يمكن فصلها عن طبيعة الدعوة المسيحية.
وإنّ ما قدّمناه سابقاً له أهميّة كبرى بالنسبة إلى مشروع الحياة الذي يتوافق خاصّة وما يذخر به شبابكم من حيوية ونشاط. وعليكم أن تفصحوا هذا المشروع – بقطع النظر عن مضمون “الحياة” المحسوس الذي سيتحقّق به – آخذين بالاعتبار الكلمات التي وجّهها المسيح إلى ذلك الشاب.
يجب أيضاً أن تفكّروا مجدّداً – وبعمق – في معنى العماد والتثبيت. ففي هذين السرّين، في الواقع، أساس الحياة والدعوة المسيحية. ومن هنا تنطلق الطريق التي تؤدّي إلى الإفخارستيا، الذي يشتمل على ملء ما في الأسرار من هبات تعطى للمسيحي: إن كل غنى الكنيسة يجتمع في سرّ المحبّة هذا. ويجب أيضاً – دائماً بالنظر إلى الإفخارستيا – أن نتأمّل في موضوع سرّ التوبة الذي له أهميّة كبرى بحيث أنه لا يقوم مقامه شيء في ما يتعلّق بتكوين الشخص المسيحي وتربيته، أي أنّه، إذا اقترن بالإرشاد الروحي خاصّة، مدرسة أسلوبية للحياة الباطنيّة.
وإنّا نلمّ بهذا إلماماً، على الرغم من أن كلاّ من الأسرار له علاقة أكيدة خاصة بالشباب والشبّان. وإنّا لواثقون بأن هناك من عالج هذا الموضوع بما ينبغي من الدقة، ولاسيمّا الرعاة المكلّفون خصيصاً تقديم المساعدة للشباب.
إن الكنيسة عينها – على ما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني – هي “كسرّ أو علامة وأداة للاتّحاد الحميم مع الله، ووحدة الجنس البشري” (61). إن كل دعوة حياة، كالدعوة “المسيحية”، تتأصّل في أسرارية الكنيسة: وتتّخذ لها شكلاً بفضل أسرار إيماننا. وهذه الأسرار تفسح لنا في المجال، منذ عهد الشباب، لفتح “الأنا” البشري منا لعمل الله الخلاصي، أي لعمل الثالوث الأقدس. وتتيح لنا المشاركة في حياة الله، فيما نحيا حياة إنسانية أصيلة، على قدر المستطاع. وهكذا ترتدي الحياة الإنسانية أهميّة جديدة، وتتّخذ في الوقت عينه ميزتها المسيحية: وعي الواجبات التي يفرضها الإنجيل على الإنسان يكتمل بوعي العطيّة التي تفوق كل شيء. “لو كنت تعرفين عطيّة الله” (62)، قال المسيح يوم خاطب السامريّة.
“سرّ الزواج العظيم”
10- في هذا النطاق الواسع الذي يقع فيه مشروع حياتكم الفتيّة، بالنظر إلى مفهوم الدعوة المسيحية، نودّ أن نسترعي انبتاهكم، أيها الشبان، الذين تتوجّه إليهم هذه الرسالة، إلى قضيّة هي من شباب كل منكم، نوعاً ما، في الصميم. أنّها شأن من شؤون الحياة البشرية الهامة ومسألة من مسائلها الجوهريّة التي يتركّز عليها التفكير، والطاقة الخلاّقة، والثقافة. وهي أيضاً من المواضيع الكتابيّة الأساسية التي دقّقنا مراراً في البحث فيها وحلّلناها باستمرار. خلق الله الإنسان: ذكراً وانثى، فأدخل هكذا في تاريخ الجنس البشري “الإزدواجية” مع المساواة التامّة، في ما يتعلّق بالكرامة الإنسانيّة، ومع التكامل الرائع في ما يتعلّق بتوزيع “المهمّات” والخصائص والوظائف المرتبطة بجنس الرجل أو المرأة.
وبالتالي إنّ هذا الموضوع يندرج بطبيعته في “الأنا” الشخصي لكلّ منكم. إنّ الشباب هو الفترة التي يغزو فيها هذا الأمر الخطير، في شكل اختبار وقوّة خلق، النفس والجسد لدى كل صبي وصبيّة؛ ويتجلّى في ضمير الشبّان، في الوقت عينه، الذين يكتشفون فيه “الأنا” على ما لها من طاقات متعدّدة. وإذ ذاك أيضاً يرتسم في أفق النفس الفتيّة اختبار جديد، هو اختبار الحبّ الذي يقضي منذ البدء بإدراجه في مشروع الحياة الذي يخلقه الشباب عفواً ويكوّنه.
ولهذا كلّه، بين الحين والحين، تعبيره الشخصي الفريد، ومشاعره الغنيّة، أو جماله المتيافيزيقي. وفي هذا كلّه، في الوقت عينه، نداء ملّح لعدم إفساد هذا التعبير، ولعدم تحطيم مثل هذا الغنى، وعدم تشويه مثل هذا الجمال. ويجب أن تتأكّدوا أن هذا النداء آت من الله الذي خلق الإنسان “على صورته ومثاله”، وخلقه “ذكراً وأنثى”. وهذا النداء ينطلق من الإنجيل ويسمع في صوت ضمائر الشبّان، على أن يحافظوا على بساطتهم ونقائهم: “طوبى للنقيّة قلوبهم، لأنّهم يعاينون الله” (63). أجل، من خلال الحب الذي يولد فيكم – ويندرج في مشروع الحياة كلّها – يجب أن تروا الله الذي هو محبّة (64). لهذا نسألكم ألاّ تقطعوا الحوار مع المسيح في هذه الفترة الهامّة من شبابكم لا بل نسألكم أن تلتزموا به التزاماً أكبر. وعندما يقول المسيح “اتبعني”، أنّ دعوته تعني: “إنّي أدعوك إلى حب آخر أيضاً”، غير أنها تعني غالباً: “اتبعني”، اتبعني أنا عروس الكنيسة – عروستي – هلمّ أنت أيضاً، وكن عروس عروستك… وكوني أنت عروسة عروسك. وليشترك كلاكما في هذا السرّ، الذي تؤكّد الرسالة إلى أهل أفسس أنه عظيم: عظيم لأنه “سرّ المسيح والكنيسة” (65).
وإنّه لهامّ جداً أن تتبعوا المسيح أيضاً في هذه الطريق وإلاّ تحيدوا عنه فيما تعيشون هذا الواقع الذي تعتبرونه بحقّ حدث قلوبكم العظيم: وهو واقع فيكم وبينكم فقط. وبودّنا لو أنّكم تؤمنون وتتيّقنون أن هذه القضيّة الكبيرة لها بعدها النهائي في الله الذي هو محبّة: في الله الذي هو في وحدة لاهوته المطلقة، أيضاً اتّحاد أشخاص هم: الآب والابن والروح القدس. بودّنا لو أنّكم تؤمنون وتتيقّنون أن مبدأ “سرّكم العظيم” هذا البشري هو في الله الذي هو الخالق، ومتأصّل في المسيح الفادي الذي، كعروس، “وهب ذاته”، وعلّم جميع الرجال والنساء أن “يهبوا ذواتهم”، مع ملء الكرامة الشخصية التي لكلّ منكم شاباً كان أم شابة. إن المسيح يعلّمنا المحبة الزوجية.
إن سلوك طريق الدعوة الزواجية يعني أن نتعلّم المحبّة الزوجية يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة: المحبّة بحسب النفس والجسد، المحبّة “الطويلة الروح، العذبة، التي لا تطلب ما هو لنفسها… ولا تفكّر بالشرّ”: المحبة التي “تفرح بالحق”؛ المحبة التي “تحتمل كل شيء” (66).
إنّكم لفي حاجة إلى هذه المحبة، أيها الشبّان، إذا كان على زواجكم المقبل أن يجتاز محنة الحياة كلها. وفي الواقع إن هذه المحنة هي جزء أساسي من الدعوة التي تريدون، بواسطة الزواج، أن تدرجوها في مشروع حياتكم.
لهذا إنّا لا نفتأ نبتهل إلى المسيح وأم المحبّة الجميلة من أجل الحب الذي ينبجس من قلب الشبّان. غالباً ما تأتّى لنا في الحياة أن نتابع عن كثب بطريقة ما، حب الشبّان هذا. وبفضل هذه الخبرة قد فهمنا كم هي جوهرية هذه المسألة التي تعالج هنا، وكم هي خطيرة، وعظيمة. وإنّا لنعتقد أن مستقبل الإنسان يتحدّد، إلى حد بعيد، على دروب هذا الحبّ، الفتيّ في مبتداه، الذي تكتشفه أنتَ وهي… أنتِ وهو، على طريق شبابكم. إنّها لمجازفة كبيرة، لكنّها في الوقت عينه مهمّة كبيرة.
إن مبادئ العقيدة الأخلاقية المسيحية المتعلّقة بالزواج تعرض اليوم في كثير من الأوساط بصورة خاطئة مزيّفة. فهناك محاولة لفرض مثل يدعوه أصحابه “تقدمياً” “وملائماً للعصر”، على أوساط معيّنة وحتى على مجتمعات بكاملها. وفي هذه الأحوال، ليس من يلاحظ أن الرجل، بحسب هذا المثل، وعلى الأخصّ المرأة، يتحوّل كلاهما من شخص إلى شيء (خاضع للخداع والتزوير)، ويؤول كل ما في الحبّ من معنى كبير إلى “اللذة” التي، وإن نعم بها طرفان، تبقى دائماً أنانيّة وحبّاً أعمى للذات. وأخيراً يصبح الولد، الذي هو ثمرة حب الاثنين وكأنّه “تجسيد له”، “شيئاً نافلاً مزعجاً”. وإنّ ما يسمّى بالحضارة المادية، أو حضارة الاستهلاك، تغزو قمّة الحب هذه، الحب الزوجي، حب الأب والأم، وتفرغه من محتواه الإنساني العميق الذي يتميّز، منذ البدء من الداخل، بطابع وانعكاس الهيين.
أيها الشبّان الأصدقاء الأعزاء! لا تسمحوا بانتزاع هذا الغنى منكم! لا تغرسوا في مشروع حياتكم ما هو مشوّه، وباطل، وفاسد: إن الحب “يفرح بالحقيقة ومعها”. ابحثوا عن هذه الحقيقة، حيثما توجد حقاً! إذا قضت الحال، اثبتوا في مقاومة الآراء المنتشرة، والأفكار العامة الرائجة! لا تخافوا الحب الذي يفرض على المرء بعض الواجبات! هذه الواجبات، على ما تجدونها في تعليم الكنيسة المستمرّ، بإمكانها أن تجعل حبّكم حباً حقيقياً صحيحاً.
وإذا كان علينا أن نفعل ذلك في موضوع ما، فإنّا نريد هنا على الأخص أن نكرّر الأمنية التي أعربنا عنها أولاً، وهي: “كونوا دائماً مستعدّين للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم”. إن الكنيسة والبشريّة تكل إليكم مسألة هذا الحبّ الكبيرة، الحب الذي ينهض عليه الزواج، والعائلة المقبلة. إن لكلتيهما الثقة بأنّكم ستعملون على ما يولّد الحبّ، ولهما الثقة بأنكم ستجعلونه جميلاً من الناحية الإنسانية والمسيحيّة؛ ومن الناحية الإنسانيّة والمسيحيّة كبيراً، ناضجاً، مسؤولاً.
الإرث
11- في المجال الواسع الذي يلتقي فيه “الآخرين” مشروع الحياة المتّخذ في عهد الشباب، نلامس أمراً هاماً. ولنلاحظ أ، الكتاب المقدس قد عالج هذا الأمر الخطير الذي ينفتح فيه “الأنا” الشخصي منّا على الحياة “مع الآخرين” و”من أجل الآخرين” بعبارة غنيّة بالمعنى فقال: “يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته” (67).
وهذا الفعل “يترك” يستأهل أن يُعاد انتباهاً خاصاً. لقد مرّ تاريخ البشر منذ البدء – وسيمرّ حتى النهاية – بالعائلة. ويدخلها الإنسان بالمولد الذي يدين به لوالديه: أبيه وأمّه، ليترك بعدئذ، في الوقت المناسب، هذا المحيط الأول، محيط الحياة والمحبّة، لينتقل إلى محيط آخر. إن كلاّ منكم، إذ “يترك أباه وأمّه” شابّاً كان أم شابة، يحملهما، نوعاً ما، معه، في الوقت عينه، وينهض بالإرث المتعدّد الأشكال الذي يرجع منشأوه القريب وينبوعه إليهما وإلى عائلتهما. وهكذا، كل منكما ولو “ترك” “يبقى”:
إنّ الإرث الذي ينهض به يشدّه إلى الذين تركوه له والذين هو مدين لهم بالكثير. فهو وهي ينقلان الإرث عينه إلى الآخرين. ولهذا أن للوصية الرابعة من و صايا الله أهميّة كبرى: “أكرم أباك وأمّك” (68).
ويقوم هذا الإرث، قبل كل، على أن يكون الإنسان رجلاً، وبعدئذ، على أن يكون في وضع شخصي واجتماعي معيّن. وفي هذا المجال، حتى للشبه الجسدي مع الوالدين أهميّته. وأهمّ منه الإرث الثقافي بمجمله الذي يرتكز يومياً تقريباً على اللغة. إن والديكم علّما كلاّ منكم استعمال هذه اللغة التي هي تعبير هام عن الروابط الاجتماعية مع باقي الناس. وتندرج هذه الروابط في حدود أوسع من العائلة والمحيط المعين. وهي على الأقل حدود القبيلة وفي غالب الأحيان حدود الشعب أو الأمّة، التي ولدتهم فيها.
وهكذا يتوسّع الإرث العائلي، وتشاركون في التربية العائلية في ثقافة محدّدة، وتشاركون أيضاً في تاريخ شعبكم وأمّتكم. والرابطة العائلية تعني الانتماء إلى جماعة أكبر من العائلة، وأساساً آخر أيضاً لهويّة الشخص. وإذا كانت العائلة هي المربيّة الأولى لكل منكم، فكذلك عبر العائلة – القبيلة هي مربّية، والشعب مربّ، والأمة مربية، ونحن مرتبطون بهم بوحدة الثقافة، واللغة، والتاريخ.
وهذا الإرث هو أيضاً دعوة نتلقاها بالمعنى الأدبيّ. عندما يتلقّى كل منكم – شاباً وشابة – الإيمان ويرث القيم، وكل محتوى ثقافة مجتمع، وأمّة، وتاريخ. فإنّه ينمو روحياً في إنسانيّته الخاصّة. وإنّا نجد هنا مثل الوزنات التي تلقّيناها من الباري عن طريق الوالدين والعائلة وكذلك عن طريق الجماعة الوطنيّة التي نشارك فيها. ولا يجوز لنا، تجاه هذا الإرث أن نكون بطّالين، متكاسلين على ما فعل ذلك الخادم الأخير بين الخدم الذين ذكرهم مثل الوزنات (69). علينا أن نعمل ما بوسعنا لنستوعب هذا الإرث الروحي، ونثبّته، ونحافظ عليه، وننميّه. وهذا من أهمّ واجبات جميع المجتمعات، وربّما على الأخصّ، المجتمعات التي بدأت تستقلّ ذاتياً، أو تلك التي عليها أن تدفع عنها خطر زوال استقلالها وهويّتها الوطنيّة، سواء أكان الخطر من الخارج أم من الداخل.
وإنّا إذ نكتب إليكم، أيّها الشبّان، نسعى إلى تبيّن الأحوال المعقّدة، على اختلافها، الخاصة بالقبائل والشعوب والأمم على الأرض. ويندرج شبابكم ومشروع الحياة الذي يهيئه كل منكم، فتى وفتاة، في عهد الشباب، ومنذ البدء، في تاريخ مختلف المجتمعات وهذا لا يكون من “الخارج” بل على الأخصّ من “الداخل”. ويصبح بالنسبة إليكم قضية ضمير عائليّ، وأخيراً وطنيّ: قضيّة قلب، قضيّة ضمير. ويتطوّر مفهوم “الوطن” بتطوّر مفهوم العائلة، وهما مترابطان ونوعاً ما، متفاعلان.
وإنّكم، إذ تختبرون تدريجياً هذا الرباط الاجتماعي، الممتدّ أكثر من الرباط العائلي، تشرعون في أن تأخذوا على عاتقكم المساهمة في الخير العام، المتعلّق بهذه العائلة الكبرى، التي هي “الوطن” الأرضيّ لكل منكم. والرجال العظام في تاريخ الأمة، الغابر أو المعاصر، يقودون شبابكم ويعملون على تنمية هذه المحبّة الاجتماعية، المسمّاة، غالباً، “محبّة الوطن”.
مواهب ومهمّات
12- هو ذا يندرج شيئاً فشيئاً، في إطار العائلة والمجتمع الذي هو وطنكم، موضوع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمثل الوزنات. وتكتشفون تدريجياً تلك “الوزنة” أو تلك “الوزنات” الخاصة بكل منكم، وتشرعون في استعمالها استعمالاً خلاّقاً، واستثمارها، وهذا يتمّ بالعمل.
ما أعظم وفرة السبل، في هذا المجال، والوسائل، والإمكانات! ولا نعدّدها كلّها ولو على سبيل المثل، خشية أ، نهمل منها أكثر ممّا بإمكاننا أن نأخذ منها بعين الاعتبار. لذلك إنّا نفترض إذن كل هذا التنوّع وكل هذه الكثرة من الاتجاهات والإمكانات، فهي تُظهر أيضاً ما يحمل الشباب معه من غنى اكتشافات واستنباطات. وبالعودة إلى الإنجيل يمكننا أن نؤكّد أن الشباب هو الزمن الذي تكتشف فيه الوزنات، وهو أيضاً الزمن الذي يبدأ فيه السير على مختلف الدروب التي يتقدّم فيها نشاط الإنسان وعمله وطاقته الخلاّقة، ويواصل التقدّم والتطوّر.
وإنّا نتمنى لكم جميعاً أن تكتشفوا ذواتكم في هذه الدروب، وأن تسيروا عليها بعناية، وجدّ، ونشاط. إن العمل – كل عمل – يقترن بالجهد والتعب: “بعرق وجهك تأكل خبزك” (70)، ويختبر كل منكم، شاباً كان أم شابة، هذا التعب منذ نعومة أظفاره وحداثته. لكن العمل يصوغ الإنسان أيضاً بطريقة خاصة ويخلقه نوعاً ما – فالقضيّة إذن هي دائماً قضيّة جهد خلاّق.
وهذا لا يتعلّق فقط بالعمل الرامي إلى البحث، أو على وجه عام، بالعمل العقلي قصد اكتساب المعرفة، بل أيضاً بالأعمال الجسدية العادية التي ليس فيها ظاهراً “جهد خلاّق”.
إن العمل الذي يتميّز به زمن الشباب هو، قبل كل، إعداد لعمل سن النضج، ولهذا فهو مرتبط بالمدرسة. ولهذا إنّا إذ نكتب إليكم هذه العبارات، أيها الشباب، نفكّر بجميع المدارس القائمة على وجه الأرض التي تشدّ حياتكم الفتيّة إليها لعدّة سنوات، على درجات مختلفة، وفقاً لتطوّر العقول والميول: منذ الحضانة حتى الجامعة، وإنّا نفكّر أيضاً بجميع البالغين، إخواننا وأخواتنا، الذين يعلّمونكم ويربّونكم ويُوجِّهون مدارككم وعقولكم الفتيّة. ما أعظم مهمّتهم! وما أهمّ المسؤولية التي يأخذونها على عاتقهم! ولكن ما أعظم أجرهم أيضاً! وإنّا نفكّر أخيراً بهذه الفئات من الشبّان أمثالكم الذين – على الأخصّ في بعض المجتمعات والأوساط – يعوزهم التعليم، وحتى غالباً التعليم الابتدائي. وهذا الواقع يشكّل باستمرار تحدّياً لجميع المؤسسات المعنيّة، سواء أكانت وطنيّة أم دوليّة، وهذا ما يستوجب العمل على ادخال ما تقتضيه الأحوال القائمة من إصلاحات وتحسينات. فالتعليم هو، في الواقع، من أهم ما تقدّمه الحضارة الإنسانية من خيور أساسية. وله أهمية بالغة بالنظر إلى الشبّان. وعليه يتوقّف أيضاً إلى حدّ كبير مستقبل كل مجتمع.
ولكننا إذ نعالج موضوع التعليم والدروس، والمعرفة والمدرسة، تعرض لنا مسألة ذات أهميّة خاصة بالنسبة إلى الإنسان، وعلى الأخصّ بالنسبة إلى الشاب، وهي مسألة الحقيقة. إن الحقيقة هي نور العقل البشري. وذلك إن العقل، إذا كان يسعى منذ عهد الشباب إلى معرفة الأمور وفق ما لها من أبعاد مختلفة، فإنه يفعل ذلك بغية امتلاك الحقيقة: لكي يحيا من الحقيقة. هذا هو تركيب العقل البشري: والعطش إلى الحقيقة مطمحه الأساسي والدليل عليه.
إن السيد المسيح يقول: “تعرفون الحق، والحق يحرّركم” (71). مما لا شك فيه أن هذه العبارة، من بين ما يتضمنه الإنجيل من عبارات، لها وزن خاصّ، فهي تتناول كل ماهيّة الإنسان وتشرح ما تقوم عليه من الداخل كرامته وعظمته، وفق ما يتميّز به الإدراك البشري. والمعرفة التي تحرّر الإنسان لا تقوم فقط على المعرفة، ولو كانت على مستوى جامعي، إنّما يمكن أن تكون أيضاً معرفة رجل أمّي. غير أن التعليم، بما هو معرفة الأشياء معرفة منهجيّة، يجب أن يخدم هذه الكرامة وهذه العظمة. يجب بالتالي أن يخدم الحقيقة.
إن خدمة الحقيقة أيضاً تتمّ بالعمل الذي ستدعون إلى مزاولته بعد أن تكونوا قد أنجزتم منهج دروسكم. وعليكم في المدرسة أن تحصّلوا الطاقات العقليّة، والتقنية والعملّية التي تتيح لكم القيام بمهمتكم قياماً مفيداً في حقل العمل البشري الواسع. وإذا صحّ أن من واجب المدرسة أن تهيّئ للعمل بما فيه العمل اليدوي فالصحيح أيضاً أن العمل ذاته هو مدرسة قيم كبيرة، هامة: لأن للعمل قوّة تعبير تعود بالفائدة على ثقافة الإنسان.
غير أنه ينشأ عن العلاقة بين التعليم والعمل، التي تميّز مجتمع اليوم، مشاكل خطيرة لها طابع عملي. ونشير هنا بوجه خاص إلى مشكلة البطالة، وبنوع عام إلى قلّة العمل التي تصيب، بطرق متعدّدة، أجيال الشبّان في العالم أجمع. وهذا – على ما تعرفون جيداً – يجرّ وراءه مشاكل أخرى تلقي في نفوسكم منذ سنّي الدراسة، ظلا من القلق على المستقبل. وتسألون: هل المجتمع بحاجة إليّ؟ هل بإمكاني، أنا أيضاً، أن أجد عملاً مناسباً يمكّنني من أن أكون مستقلاً؟ وأن أنشئ عائلة في ظروف لائقة بالحياة، وقبل كل، في مسكن يكون لي! وعلى الجملة، أصحيح أن المجتمع ينتظر مني مساهمة في العمل؟
إن هذه التساؤلات الخطيرة تحملنا على تذكير الحكّام في هذه المناسبة، وجميع الذين يعنون بالشؤون الاقتصادية والإنمائية لدى الأمم، بأن العمل حق للإنسان ويجب بالتالي توفيره ببذل الجهود الحثيثة في هذا السبيل، وتدبير الشؤون الاقتصادية تدبيراً يرمي خاصة إلى إيجاد الفرص المناسبة للجميع، وقبل كل للشبّان الذين غالباً ما يشكون اليوم من البطالة الضاغطة وقلّة العمل. ولنكن جميعاً على يقين أن “العمل خير للإنسان – وخير لإنسانيته – لأن الإنسان لا يبدّل الطبيعة بواسطته وحسب، بتطبيقها على حاجاته، لكنه يحقق ذاته به كإنسان، حتى يصبح، نوعاً ما، “أكثر إنسانيّة” (72).
التربية الذاتيّة – التهديدات
13- إن المدرسة، كمؤسسة وكمحيط، تهمّ بوجه خاصّ الشبّان. ولكن عبارة السيد المسيح التي أوردناها سابقاً بشأن الحقيقة، تنطبق، برأينا، أكثر ما تنطبق، على الشبّان. وإذا كانت العائلة تربيّ دونما شك، والمدرسة تعلّم وتربيّ، فإن عمل العائلة والمدرسة يبقى ناقصاً (ويمكن أن يصبح عديم الفائدة)، إذا كان كل منكم، أيها الشبّان والشابّات، لا يقوم بنفسه بتربية نفسه. إن التربية العائلية والمدرسة باستطاعتها فقط أن توّفر لكم بعض عناصر للقيام بالتربية الذاتيّة.
وفي هذا المجال تصبح عبارة المسيح: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” منهجاً أساسياً. إن الشبّان – إذا صحّ التعبير – يدركون بالبداهة “معنى الحقيقة”. وإذا كان عل الحقيقة أن تخدم الحرّية: فإن الشبّان من طبعهم أيضاً “يعشقون الحرّية”. وما معنى أن تكون حراً؟ هذا معناه أن تعرف أن تستعمل حرّيتك الخاصّة وفقاً للحقيقة – أن تكون “حقاً” حرّاً – وأن أكون حقاً حراً، لا يعني، على الإطلاق، أن أعمل كل ما يطيب لي أو كل ما أشتهي أن أعمل. إن الحرّية تتضمّن بذاتها قاعدة الحقيقة، نظام الحقيقة. أن أكون حقاً حراً معناه أن استعمل حرّيتي الخاصة لما هو حقاً خير. وبالتالي أن أكون حقاً حراً، معناه أن أكون رجل ضمير مستقيم، مسؤولاً عن ذاتي، أن أكون رجلاً “بالنسبة إلى الآخرين”.
إن هذا كلّه يشكّل لبّ ما نسميّه التربية، وعلى الأخصّ ما نسميّه التربية الذاتية. أجل: التربية الذاتية! وفي الواقع إن مثل هذه البنية الداخلية حيث “الحق يحرّرنا” لا يمكن بناؤها من “الخارج” فقط. على كل أن يبنيها من “الداخل” – وأن يبنيها بالتعب والثبات والصبر (وهذا ما لا يتأتّى دائماً بسهولة للشبّان). وهذا البناء هو ما يدعى بتربية الذات. وقد تحدّث السيّد المسيح عن ذلك أيضاً عندما أعلن: أننا “بالصبر” فقط نستطيع أن نقتني “نفوسنا” (73). “اقتناء النفس”، هذه هي ثمرة تربية الذات.
إن هذا كلّه يفترض النظر إلى الشباب نظرة جديدة. إن القضية ليست بعد قضية مشروع حياة يجب اتمامه مستقبلاً. إنه مشروع يتحقّق الآن في طور المراهقة، إذا خلقنا الحياة عينها بالتعب، والتحصيل، وعلى الأخصّ بتربية الذات، بإرسائنا أسس تطوّر شخصيتنا لاحقاً. وبهذا المعنى يمكننا القول أن الشباب “نحاّات ينحت الحياة كلّها”؛ وأن الشكل الذي يطبعه في الإنسانية كل منكم – وهي الإنسانية التي تجسّدونها – يبقى مدى الحياة.
وإذا كان لهذا معنى إيجابي، فيمكن أن يكون له، ويا للأسف، معنى سلبي هام. فلا يمكنكم أن تغمضوا العيون أمام الأخطار التي تحيط بكم في عهد الشباب وهي بالتالي بإمكانها أيضاً أن تطبع كل حياتكم.
إنّا نشير هنا مثلاً إلى ميل المغالاة في تغليب روح الانتقاد التي تريد أن تناقش كل شيء وتعيد النظر فيه، أو إلى الدعوة إلى إبداء الشكّ باستمرار بالقيم التقليدية، ممّا يدفع إلى الإنزلاق بسهولة إلى نوع من الازدراء الوقح كلما دعت الحاجة إلى مواجهة قضايا العمل، واختيار مهنة، وحتى الزواج. وكيف يمكننا أن نمرّ صامتين بالإغراءات المتزايدة التي تتمثّل على الأخصّ في البلدان الغنيّة، بتجارة الترفيه عن النفس والألعاب التي تصرف الناس عن الاضطلاع بجدّية بمسؤولياتهم في الحياة، إلى الكسل، والأنانية والإنعزال؟
أيّها الشبّان الأعزاء، إن سوء استعمال فنّ الدعاية يتهدّدكم، لكونه يجاري الميل الطبيعي إلى مجانية التعب، ويغري بإرضاء كل رغبة فوراً، فيما نزعة الاستهلاك المرتبطة به، توهم الناس، في الوقت عينه، بأنهم يحقّقون ذواتهم بالاستمتاع على الأخصّ بالخيور المادية. وكم من الشبّان الذين جذبهم سحر الأباطيل، فاستسلموا لغرائزهم وأهوائهم، أو جازفوا بالسير على طرق ملأى ظاهراً بالوعود، لكنّها في الحقيقة خالية من التطلّعات الإنسانية الصحيحة! ويبدو لنا أنه من الفائدة بمكان أن نكرّر هنا ما كتبناه في الرسالة التي وجهّناها خاصة إليكم في مناسبة يوم السلام العالمي: “قد يكون هناك من بينكم من ينساقون، هرباً من مسؤولياتهم، وراء عالم الكحول والمخدّرات الخدّاع، والعلاقات الجنسية العابرة دونما التزام بالزواج والعائلة، واللامبالاة، والإزدراء وحتى العنف. حذار من خداع عالم يسعى إلى استغلالكم استغلالاً مفضوحاً أو إلى إنهاك قواكم وصرف بحثكم الجادّ الصحيح عن سعادة الحياة والحواس” (74).
إنّا نشير عليكم بهذا كلّه لنبرهن لكم عمّا نكنّه لكم من مشاعر محبة واهتمام خاصّ بشؤونكم، وإذا كان عليكم في الواقع أن “تكونوا مستعدّين للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم”. فإن كل ما يهدّد هذا الرجاء يجب أن يَستدعي قلقنا. وعلينا أن نذكّر جميع الذين يسعون بمختلف أنواع الإغراءات والتجارب، إلى إفساد شبابكم، بكلام السيد المسيح بشأن الشكوك والذين يتسبّبون بها. وقد قال: “الويل لمن تأتي على يده! لخير له أن يعلّق في عنقه رحى الحمار ويزجّ في البحر، من أن يشكّك أحداً من هؤلاء الصغار” (75).
إنه لكلام خطير! ولاسيمّا على لسان من جاء ليكشف عن المحبّة. ولكن من يقرأ بانتباه عبارة الإنجيل هذه، لابدّ له من أن يدرك التضادّ الشاسع بين الخير والشرّ، بين الفضيلة والخطيئة. وعليه أن يدرك أيضاً بوضوح الأهميّة التي يعيرها السيد المسيح شباب كل منكم، فتى كان أم فتاة. وإن محبّته للشبّان هي التي أملت عليه هذا الكلام الخطير القاسي. وإنّ فيه صدى للحوار الذي أقامه السيّد المسيح مع الشابّ الذي ترجع إليه باستمرار هذه الرسالة.
الشباب “كنموّ”
14- اسمحوا لنا أن نختتم هذا القسم من تأمّلاتنا بالتذكير بالأقوال التي استخدمها الإنجيل عندما تحدّث عن شباب يسوع الناصري. إنها مقتضية، وإن شملت فترة الثلاثين سنة التي قضاها في البيت العائلي إلى جانب مريم ويوسف النجّار. لقد كتب لوقا الإنجيلي: “أمّا يسوع فكان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة لدى الله والناس” (76).
فالشباب “تقدّم” أو نموّ. في ضوء كل ما قيل حتى الآن في هذا الموضوع، تبدو عبارة الإنجيل هذه مقتضبة ومعبّرة كل التعبير. إن النموّ “بالقامة” يعود إلى ارتباط الإنسان الطبيعي بالزمن: إن هذا النموّ، لكأنه مرحلة “صاعدة” في مسيرة الإنسان كلّها. ويقابلها كل نضج النفس والجسد: إنّها مرحلة نموّ كل القوى التي يتألف منها الإنسان الفرد العادي. ومن الضروري أن يقابل النموّ، نموّ “في الحكمة والنعمة”.
إنّا نتمنّى لكم جميعاً، أيّها الأصدقاء الشبّان، مثل هذا “النموّ”. ويمكن القول أن الشباب به يكون حقاً الشباب. وهكذا يكتسب ميزاته الخاصّة التي يتفرّد بها. وهو يُعطى لكلّ منكم، بحسب اختباره الشخصيّ “والجماعيّ” على أنه قيمة خاصّة. وهو يتوطّد أيضاً بخبرة البالغين الذين تركوا وراءهم الشباب ويجتازون المرحلة “الصاعدة” إلى المرحلة ” النازلة” في قمّة الحياة كلّها.
فيجب إذن أن يكون الشباب “تقدّماً” أو نموّاً يحمل معه تزايداً مطّرداً لكلّ ما هو حقّ وخير وجمال، ولو ارتبط “خارجياً” بالألم وفقدان ذوي القربى وتحمّل الشرّ الذي نجده دونما انقطاع في عالم نعيش فيه.
ويجب أن يكون الشباب “نمواً”. ولهذه الغاية، إنه من الأهمية بمكان أن يحتكّ الإنسان بالعالم المنظور أي بعالم الطبيعة. وهذه العلاقة تغنينا في عهد الشباب، خلافاً للعلم الذي “ننهله من الكتب”. أي إنها تغنينا بطريقة مباشرة. ويمكننا أن نؤكّد أننا، باحتكاكنا الدائم بالطبيعة، نتقبّل في حياتنا البشرية سرّ الخلق ذاته الذي ينجلي لنا إنجلاءً كبيراً لا يُصدّق، على اختلاف الأشياء المرئية، ويجتذبنا في الوقت عينه باستمرار إلى ما هو خفيّ، وغير منظور. ويبدو أن الحكمة – سواء أكان بصوت الكتّاب الموحى إليهم (77)، أم بشهادة عباقرة كثيرين – تبرز بطرق مختلفة “شفافية العالم”. ومن المفيد أن يقرأ الإنسان هذا الكتاب الرائع “كتاب الطبيعة”، المفتوح أمام كل منّا. ويبدو أن ما يقرأه عقل الشابّ وقلبه يتوافق كلياً وما تستحث عليه الحكمة بقولها: “اكتسب الحكمة، اكتسب الفطنة… لا تهملها فتحفظك، أحببها فترعاك” (78).
لقد أصبح إنسان اليوم، خاصّة في مجال الثقافة التقنيّة والصناعية البالغة التطوّر، رائداً يكتشف الطبيعة على نطاق كبير ويستخدمها غالباً لفائدته الخاصّة، ويتلف الكثير من ثرواتها وجمالاتها ويفسد البيئة الطبيعية لحياته الأرضية. غير أن الإنسان أعطي الطبيعة موضوع إعجاب وتأمّل، وكمرآة كبيرة للعالم. وفيها ينعكس عهد الخالق مع خليقته وقد جعل محورها، منذ البدء، في الإنسان المخلوق مباشرة على “صورة” خالقه.
ولهذا، إنّا نتمنّى لكم، أيها الشبّان، أن يتمّ تقدّمكم “بالقامة والحكمة” من خلال هذه الرابطة بالطبيعة. خذوا لذلك الوقت الكافي، ولا تبخلوا به! ارتضوا التعب والجهد اللذين يرافقان أحياناً هذا الاحتكاك بالطبيعة، على الأخصّ عندما نريد أن نصل إلى أهداف صعبة المنال. إنّ هذا التعب خلاّق وينطوي في وقت معاً على عنصر راحة سليمة، لا بدّ منها للدرس وللعمل.
ونجد أيضاً هذا التعب وهذا الجهد بين مواضيع الكتاب المقدّس، وخاصّة لدى القديس بولس الذي يشبّه كل حياة مسيحية بسباق في الحلبة (79).
إنّ كلاّ منكم لفي حاجة إلى هذا التعب وهذا الجهد. فهما لا يقوّيان الجسم وحسب، بل إنّ كل إنسان يختبر ما يوليانه من فرح السيطرة على الذات وتذليل العقبات والصعوبات. وما من شكّ في أن هذا عنصر من عناصر “النموّ” الذي يتميز به الشباب.
وإنّا كذلك نتمنّى أن يتواصل هذا “النموّ” من خلال الاحتكاك بأعمال الإنسان، وبالأحرى، الاحتكاك بالناس الأحياء. وما أكثر الأعمال التي أنجزها الناس، على مرّ القرون! وما أعظم ما فيها من غنى وتنوّع! ويبدو أن الشباب شغوف بالحقّ والخير والجمال الكامن في أعمال الإنسان. وإذا ظللنا على اتّصال بهذه الأعمال في حقل الكثير من الثقافات المختلفة، والفنون، والعلوم، فإنّا ندرك الحقيقة بشأن الإنسان (التي أعلنها المزمور الثامن إعلاناً معبّراً)، وبإمكان هذه الحقيقة أن تصوغ إنسانيّة كل منّا وتذهب إلى أعماقها.
ولكنّنا نبحث خاصة في الإنسان من حيث علاقاته مع سائر الناس. ويجب أن يحملكم الشباب، بفضل هذه العلاقات، على “التقدّم بالحكمة”. وهذا هو الزمن الذي تقام فيه، بالحقيقة، علاقات جديدة، وعشرة، وصداقات في محيط أوسع من محيط العائلة وحدها. وينفتح مجال الاختبار الواسع الذي ليس له أهميّته لمعرفة الأمور وحسب، بل أيضاً في الوقت عينه، لتربية الأخلاق وتهذيبها. ويفيد كل هذا الاختبار الشباب، لأنّه يولّد في كل منكم حس النقد، وقبل كل، قوّة التمييز بين كل ما هو إنساني. واختبار الشباب هذا يكون سعيداً – إذا تعلّمتم شيئاً فشيئاً منه الحقيقة الجوهرية الخاصة بالإنسان – الخاصّة بكل إنسان وبكم أنتم -، وقد أوجز الدستور الراعويّ “فرح وأمل” بكلام واضح هذه الحقيقة بقوله: “إن الإنسان، تلك الحقيقة الفريدة التي أرادها الله لذاتها، لا يستطيع أن يجد ذاته، إلاّ ببذل ذاته دون مقابل” (80).
وهكذا إنّا نتعلّم أن نعرف الناس، لنكون أكثر إنسانية، بفضل هذه القدرة على “بذل الذات”. أن نكون أناساً من “أجل الآخرين”. إن قمّة هذه الحقيقة عن الإنسان – قمّة علم الإنسان – التي لا يمكننا أن نبلغها نجدها في يسوع الناصريّ. ولهذا إن شبابه هام جداً، فيما كان “ينمو بالحكمة… والنعمة أمام الله والناس”.
إنّا نتمنّى لكم هذا “النموّ” بالعلاقة مع الله. ولهذا إن العلاقة مع الطبيعة والناس يمكن أن تكون مفيدة لهذا النموّ بطريقة غير مباشرة، لكنّ الصلاة هي التي تفيده بطريقة مباشرة. فصلّوا وتعلّموا أن تصلّوا! افتحوا قلوبكم وضمائركم أمام الذي يعرفكم أكثر مما تعرفون ذواتكم. تحدّثوا إليه! تعمّقوا في كلام الله الحيّ بقراءة الكتاب المقدّس والتأمل فيه.
هذه هي الطرق والوسائل التي تقرّب من الله وتتيح إقامة علاقة معه. تذكّروا أنّها علاقة متبادلة. والله يجب “ببذله ذاته” بذلاً مجّانياً تدعوه لغة الكتاب المقدس “النعمة”، فاجتهدوا في أن تعيشوا إذن بنعمة الله!
لقد اقتصرنا، في ما كتبنا إليكم، على الكلام عن أهمّ القضايا المتعلّقة، بموضوع “النموّ” والتقدّم. وتستأهل كل منها، في الواقع، شرحاً مسهباً. وهذا ما نأمل أن يتمّ في مختلف أوساط الشبّان، والفئات، والحركات، والتنظيمات، التي هي كثيرة في مختلف البلدان من كل قارّة، حيث تستوحي كل منها الطريقة الخاصّة بها في الحياة الروحية والعمل الرسولي. وتسعى هذه المؤسسّات التي يشارك فيها رعاة الكنيسة إلى إرشاد الشبّان إلى طريق هذا “النموّ” الذي يشكّل، نوعاً ما، التحديد الإنجيلي للشباب.
تحدّي المستقبل الأكبر
15- إن الكنيسة تنظر إلى الشبّان، وترى ذاتها حتى بطريقة خاصة، في الشبّان، فيكم جميعاً وفي كل منكم، شاباً كان أم شابة. هذا ما كان منذ البدء، أي في عهد الرسل. وكلام القديس يوحنا في رسالته الأولى، هو خير شاهد على ذلك” “اكتب إليكم، أيّها الشبّان، لأنّكم غلبتم الشرير. كتبت إليكم، أيّها الفتيان، لأنكم عرفتم الآب،… كتبت إليكم، أيّها الشبّان، لأنكم أقوياء، ولأن كلمة الله ساكنة فيكم” (81).
وكلام الرسول يضاف إلى حوار المسيح مع الشابّ، في الإنجيل، ويتردّد كصدى قويّ من جيل إلى جيل. إن الكنيسة في عصرنا، في نهاية الألف الثاني بعد المسيح، ترى ذاتها أيضاً في الشبّان. وكيف ترى الكنيسة ذاتها؟ ليكن تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني شهادة فريدة على ذلك. إن الكنيسة ترى ذاتها “كالسرّ أي العلامة والأداة للوحدة الوثيقة في الله ولوحدة الجنس البشريّ” (82). فهي إذن ترى ذاتها مرتبطة مع العائلة البشرية الكبرى المتنامية باستمرار. وترى نفسها في أبعاد شاملة. وترى ذاتها على دروب المسكونية، أعني وحدة جميع المسيحيّين التي صلّى المسيح عينه من أجلها والتي تبدو ملحّة، دونما جدل، في عصرنا. وهي ترى ذاتها أيضاً في الحوار مع ابتاع الديانات غير المسيحية ومع جميع الناس من ذوي الإرادة الصالحة. وهذا الحوار هو حوار الخلاص الذي يجب أن يساهم في إحلال السلام في العالم والعدالة بين الناس.
أنتم، أيّها الشبّان، أمل الكنيسة، التي ترى ذاتها بهذه الطريقة، وترى رسالتها في العالم. إنها تحدثّكم عن هذه الرسالة. وهذا ما أعربت عنه الرسالة الأخيرة الصادرة في أول كانون الثاني سنة 1985 في مناسبة الاحتفال بيوم السلام العالميّ. وهي موجهّة إليكم، يقيناً منّا أنّ “طريق السلام هي أيضاً طريق الشبّان” (السلام والشباب يسيران معاً). وهذا اليقين هو دعوة وفي الوقت عينه واجب: مرّة أخرى أن هذا يقضي بأن تكونوا “مستعدّين للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم” – الرجاء الذي يميّزكم. إن هذا الرجاء يتعلّق، على ما ترون، بالقضايا الأساسيّة والشاملة.
إنّكم تعيشون يومياً في ما بين ذويكم. وتتّسع هذه الدائرة شيئاً فشيئاً. وهناك أشخاص يتكاثر عددهم دائماً يشاركون في حياتكم، وأنتم تكتشفون بنفوسكم ما يشدّكم إليهم من روابط. وهذه الدائرة من الأهل والأصدقاء تختلف تقريباً دائماً عن سواها وتتميّز نوعاً ما. وقد سبق للمجمع المسكونيّ الفاتيكاني الثاني أن لاحظ هذه الفوارق وأعرب عنها في دستوره العقائدي في الكنيسة، وفي دستوره الراعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم. قد ينشأ شبابكم أحياناً في أوساط متجانسة من حيث الدين وأحيانً متباينة وتقع حتى على حدود الإيمان والكفر، سواء أكان ذلك مستتراً تحت شكل اللاإدارية أم الإلحاد الذي يتخّذ أشكالاً متعددة.
غير أنه يبدو أن هذه الفئات من الشبّان، المتعدّدة المتباينة، تشعر أمام بعض القضايا الشعور ذاته وتفكّر وتنفعل بطريقة متشابهة. ويبدو مثلاً أنها تحسّ إحساساً واحداً وتتّخذ موقفاً موحّداً من هذا: وهو أن هناك مئات الآلاف من الناس يتقلّبون في فقر مدقع، وحتى يموتون جوعاً، فيما هناك في الوقت عينه مبالغ خياليّة من المال تنفق في صنع الأسلحة النوويّة التي يمكنها بعد ما تكدّس منها في المستودعات، منذ الآن ما تكدّس، من أن تدفع الجنس البشري إلى تدمير ذاته بذاته. وهناك توتّرات أخرى وتهديدات مماثلة لم يعرف تاريخ البشر حتى اليوم ما يشابهها ضخامة وانتشاراً. وقد تحدّثت الرسالة الصادرة في أول كانون الثاني الماضي التي أشرنا إليها، عن هذا كلّه. لهذا لن نعود إلى الكلام عن هذه القضايا. إنّا جميعاً واعون أن في أفق حياة الميليارات من الناس الذين تتألّف منهم العائلة البشرية، في نهاية الألف الثاني بعد المسيح، تلوح، على ما يبدو، إمكانيّة وقوع بلايا وكوارث لم يسبق لها مثيل.
يمكنكم، أيّها الشبّان، والحالة هذه، أن تسألوا بحقّ الأجيال السابقة: لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا بلغنا هذه الحالة التي تهدّد البشرية جمعاء على وجه الأرض؟ ما هي أسباب الظلم التي تؤذي النظر؟ لماذا هناك كثير من الناس يموتون جوعاً؟ والملايين من المهجّرين على الحدود؟ وحالات كثيرة تمتهن فيها أبسط حقوق الإنسان؟ لماذا هناك كثير من المساجين وكثير من المعتقلات؟ وكثير من العنف المنظّم؟ وكثير من الضحايا البريئة؟ وكثير من الرجال الذين يعاملون أسوأ معاملة؟ وكثير من التنكيل؟ وكثير من التعذيب يستهدف جسد الإنسان وضميره؟ وفي وسط هذا كلّه، هناك واقع وهو أن بعض الشبّان تثقّل ضميرهم ضحايا عديدة بريئة، لأن هناك من رسّخ في اعتقادهم أن بالإستطاعة، عن هذه الطريق – طريق الإرهاب المنظّم – تحسين العالم. وتسألون إذن مرّة أخرى: لماذا؟
بإمكانكم أنتم، أيّها الشبّان، أن تطرحوا هذه الأسئلة، ويجب أن تطرحوها. والقضية تتعلق بعالم تعيشون فيه اليوم وستعيشون فيه غداً، بينما الذين يتقدّمونكم العمر يكونون قد ذهبوا. تسألون إذن بحق: لماذا هذا التقدم العظيم الذي أحرزته البشرية – والذي لا يمكن مقارنته بأيّ تقدّم سابق في أي عصر من عصور التاريخ – في حقول العلم والتقنيّة! لماذا التقدّم في سيطرة الإنسان على المادة ينقلب عل الإنسان من عدّة وجوه؟ وتسألون بحقّ أيضاً، ودونما شكّ وأنتم تشعرون بالخوف: أفليس بالإمكان تبديل هذه الحال؟ هل نستطيع أن نبدّلها؟
هذا ما تسألونه بحقّ. أجل، وهذا هو السؤال الأساسيّ المطروح في محيط جليكم.
ويتواصل بهذه الصيغة حواركم مع المسيح الذي ابتدأ يوماً في الإنجيل. لقد سأل ذلك الشابّ: “ماذا أعمل لأرث حياة الأبد؟”. وتطرحون السؤال وفقاً للمرحلة التي أنتم فيها شبّان: ماذا يجب أن نعمل لكيلا تتحوّل الحياة – حياة البشر المزدهرة – إلى مقبرة الموت النوويّ؟ ماذا يجب أن نعمل لكيلا تتسلّط علينا خطيئة الظلم الشامل؟ خطيئة احتقار الإنسان وامتهان كرامته، رغم الإعلانات الكثيرة التي تثبت هذه الحقوق؟ ماذا علينا أن نعمل؟ وأيضاً: هل سنعرف أن نعمل؟
إن السيد المسيح يجيب كما أجاب من قبل، أجيال الكنيسة في القرون الأولى بلسان الرسول: “أكتب إليكم، أيها الشبّان، لأنكم غلبتم الشرير. كتبت إليكم أيها الفتيان، لأنكم عرفتم الآب… كتبت إليكم، أيها الشبان، لأنكم أقوياء، ولأن كلمة الله ساكنة فيكم” (83).
وأقوال الرسول التي ترقى إلى مايقارب الألفي سنة، هي أيضاً جواب لعصرنا. وهي تتكلم لغة بسيطة جازمة، هي لغة الإيمان الذي يحمل فيه الانتصار على الشر الكائن في العالم: “وهذه الغلبة التي قهرت العالم، هي إيماننا” (84).
وهذه الكلمات تستمدّ قوّتها من الاختبار الرسولي – واختبار الأجيال المتعاقبة – وهو اختبار الصليب وقيامة المسيح. وبهذا الاختبار يتوطّد الإنجيل. وبه تتوطّد – فيما يتوطّد حقيقة حوار المسيح مع شاب الإنجيل.
فلنتوقف إذن، في ختام هذه الرسالة، على هذه الأقوال الرسولية التي هي، في الوقت عينه، تشجّعكم وتتحدّاكم، وهي أيضاً تشكل جواباً.
في قلوبكم الفتيّة تختلج رغبة في الإخوّة الحق بين جميع الناس، دونا انقسامات، ولا منازعات، ولا تمييزات. أجل إنكم تحملون فيكم، أيها الشبان، رغبة في الإخوة والتضامن المتعدّد الجوانب، ولا ترغبون، خلافاً لذلك، في صراع الإنسان للإنسان، أياً يكن شكل هذا الصراع. أوليست هذه الرغبة في الإخوة – الإنسان قريب الإنسان، الإنسان أخو الإنسان – شهادة، على ما كتب الرسول، على أنكم “تعرفون الآب”؟ وفي الواقع، ليس هناك أخوة، إلاّ عندما يكون هناك أب. وحيثما يكن الآب، يكن هناك أخوة.
وإذا كنتم تحملون في نفوسكم رغبة في الإخوّة، فهذا معناه أن “كلام الله ثابت فيكم”. والعقيدة التي أعطاناها المسيح والتي أسماها بحق “البشارة المفرحة” هي ثابتة فيكم. وهي دائماً على شفاهكم أو على الأقل راسخة في قلوبكم، هي صلاة الرب التي تبدأ بهذه الكلمة: “أبانا”. إن هذه الصلاة، فيما تظهر الآب، تؤكد في الوقت عينه، إن الناس أخوة، وهي تضاد بكل ما فيها من محتوى، جميع المشاريع النابعة من مبدأ صراع الإنسان للإنسان، أياً يكن شكله. إن صلاة “الأبانا” تبعد قلوب الناس عن العداوة والحقد، والإرهاب، والتمييز، والحالات التي تمتهن فيها كرامة الإنسان وحقوقه.
إن الرسول قد كتب أنكم، أنتم الشبّان أقوياء بالرسالة الإلهية: بالرسالة التي يعرب عنها إنجيل المسيح والتي توجزها صلاة “الأبانا”. أجل، أنتم أقوياء بهذا التعليم الإلهي، أنتم أقوياء بهذه الصلاة. أنتم أقوياء، لأن هذه الصلاة تضع فيكم المحبة، والأناة، واحترام الإنسان، حياته، كرامته، ضميره، معتقداته، وحقوقه. إذا “عرفتم الآب”، كنتم أقوياء بقوة الإخوة البشرية ذاتها.
إنكم أقوياء أيضاً للقتال، لا لقتال الإنسان، باسم أية عقيدة أو ممارسة منقطعة عن أصول الإنجيل ذاتها – بل أقوياء لمحاربة الشر، الشر الصحيح. كل ما يهين الله وكل ظلم، وكل استغلال، وكل زيف وكذب، وكل ما يهين ويحقّر، وكل ما يفسد الحياة المشتركة والعلاقات بين الناس، وكل جرم يؤذي الحياة، وكل خطيئة.
لقد كتب الرسول: “لقد غلبتم الشرير”. هذا صحيح. ويجب دائماً أن تعودوا إلى أصول الشر والخطيئة في تاريخ البشرية والكون، مثلما عاد المسيح إلى هذه الأصول لسرّ الفصح، سرّ صليبه وقيامته. لا تخافوا من أن تسمّوا صانع الشر الأول باسمه: “الشرير”. إن الحيلة التي لجأ إليها ولا يزال يلجأ إليها تقوم على أنه لا يكشف عن نفسه، لكي ينتشر الشرّ الذي غرسه، منذ البدء، بفعل الإنسان عينه، وبفعل الأنظمة والعلاقات بين الناس، وبين الطبقات والأمم… لكي يصبح دائماً أكثر فأكثر خطيئة “البنى”، ولكيلا يُستطاع أن يُدّل عليه، بسهولة، “كخطيئة شخصية”، ولكي يشعر الإنسان بالتالي أنه “محرّر” نوعاً ما، وأن يتأصّل، في الوقت عينه، في المزيد من الشرّ.
يقول الرسول: “أيها الشبّان، أنتم أقوياء”: يجب فقط أن “تثبت كلمة الله فيكم”. أنتم إذن أقوياء، ويمكنكم بالتالي أن تنفذوا إلى حبائل الشر الخفيّة وتجعلوه أكثر إنسانية وأخوّة، وفي الوقت عينه، مشدوداً أكثر إلى الله. وفي الواقع لا يمكن قطع العالم عن الله ولا وضعه في مواجهة معه في قلب الإنسان. ولا يمكن فصل الإنسان عن الله، وحمله على معاداته. وهذا ما يخالف طبيعة العالم وطبيعة الإنسان: وهذا ما يخالف حقيقة الأمور عينها الذاتية التي تؤلف كل “الواقع”. في الحقيقة، إن قلب الإنسان قلق، حتى يستقر في الله. إن قول القديس اغسطينوس هذا العظيم، لن يفقد أبداً واقعيته (85).
رسالة الختام
16- هو ذا نحن نضع بين أيديكم، أيها الشبّان الأصدقاء، هذه الرسالة التي تتبّعت دقائق الحوار الذي أجراه السيد المسيح مع الشاب في الإنجيل والتي نبعت من شهادة الرسل ومسيحي العصور الأولى. إنّا نعهد إليكم بهذه الرسالة، في هذه السنة الحاضرة المخصّصة للشباب، فيما نحن نقترب من نهاية الألف الثاني المسيحي. إنّا نعهد بهذا إليكم في هذه السنة التي تذكّر بمرور عشرين سنة على اختتام المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي دعا الشبّان “أمل الكنيسة” (86)، والذي وجّه إلى الشبّان يومئذ – كشبّان اليوم وشبّان الغد – “رسالته الأخيرة” التي ظهرت فيها الكنيسة على أنها حقاً شباب العالم، وهي التي “تمتلك ما يجعل الشباب جذّاباً بما هو عليه من قوة وسحر وجمال: أي القدرة على الفرح بما يبدأ، وعلى البذل دونما مقابل، وعلى التجدّد، وعلى الإنطلاق إلى إحراز انتصارات جديدة” (87).
لقد قمنا بذلك في يوم أحد الشعانين، وهو اليوم الذي تمكنّا فيه من لقاء العديدين من بنيكم، الآتين قياماً بواجب الحج في الساحة المؤدية إلى كنيسة مار بطرس هنا في روما. وفي هذا اليوم يصلي معكم أسقف روما من أجل جميع شبّان العالم، ومن أجل كل منهم، فتيان وفتيات. إنّا نصلّي في جماعة الكنيسة لكي تكونوا – في الظروف الصعبة التي نعيش فيها – “مستعدّين دائماً للدفاع عن رجاء إيمانكم أمام كل من يستجوبكم”. أجل، لأن المستقبل يتوقّف عليكم، ولأن نهاية هذا الألف وبداية الألف الجديد تتعلّقان بكم. وهكذا لا تكونوا متكاسلين. تحمّلوا مسؤولياتكم في جميع الحقول التي تنفتح أمامكم في عالمنا! فالأساقفة والكهنة يصلّون أيضاً معكم، في كل مكان، على هذه النيّة.
وإنّا إذ نصلّي هكذا في الجماعة الكبرى، جماعة شبّان الكنيسة كلها، وكل الكنائس، نتّجه بأنظارنا إلى مريم التي رافقت المسيح منذ بدء رسالته بين الناس. هذه هي مريم التي تدخّلت في قانا الجليل من أجل الشبّان، والعروسين الجديدين، عندما أعوز الخمر، في وليمة العرس، المدعويّن. إذ ذاك خاطبت أم يسوع الرجال الذين كانوا هناك يقومون بالخدمة في الوليمة، قائلة لهم: “افعلوا ما يقوله لكم” (88). إنه هو المسيح.
إنّا نكرّر نحن قول أم الله هذا، فنتوجّه به إليكم، أنتم، أيها الشبّان، وإلى كل منكم، شبّاناً وشابّات: “افعلوا ما يقوله لكم المسيح”. وإنّا نبارككم باسم الثالوث الأقدس. آمين.
أعطي في روما، قرب مار بطرس، في الحادي والثلاثين من شهر آذار،
يوم أحد الشعانين وآلام الربّ سنة 1985 وهي السنة السابعة لحبريّتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) بطر 3، 15
2) راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة، فادي الإنسان، عد 14: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979). ص 284 – 285
3) راجع روم 8، 19؛ 21؛ أفسس 4، 4؛ فيليبي 3، 10 – 11؛ تيطس 3، 7؛ عبر 7، 19؛ 1 بطر 1، 13
4) 1 بطر 3، 15
5) راجع مر 10، 17 – 22؛ متى 19، 16 – 22؛ لو 18، 18 – 23
6) مر 10، 17 – 19
7) مر 10، 20 – 21
8) مر 10 ، 22
9) راجع لو 8، 49 – 56
10) راجع لو 7، 11 – 17
11) رؤيا 21، 6
12) يو 3، 16
13) 1 يو 4، 8؛ 16
14) راجع 2 تسا 2، 7
15) يو 14، 9
16) راجع عبر 13، 8
17) راجع تك 1، 26
18) يو 3، 19؛ راجع 1، 9
19) يو 1، 5
20) روم 6، 9
21) لو 2، 34
22) يو 11، 25
23) يو 3، 16
24) 1 كور 7، 31
25) عبر 9، 27
26) الموضع ذاته.
27) يو 11، 25 – 26
28) راجع خروج 34، 1؛ تثنية اشتراع 9، 10؛ 2 كور 3، 3
29) راجع تثنية اشتراع 4، 5 – 9
30) مر 10، 20
31) راجع متى 5 – 7
32) راجع متى 22، 37 – 40؛ مر 12، 29 – 31؛ لو 10، 27
33) روم 2، 14
34) روم 2، 15
35) الموضع ذاته.
36) مر 10، 19
37) عبر 9، 27
38) كولسي 3، 14
39) راجع 1 كور 13، 13
40) راجع متى 22، 38
41) “القاعدة الأدبية – هكذا يقول كونفوشيوس – ليست بعيدة منا… والحكيم لا يخطأ في ما يخصّ القاعدة الادبية. فهو يتبع هذا المبدأ: لا تفعلوا للغير ما لا تريدون أن يفعله الغير لكم” (تشانغ يونغ، الحد الوسط 13). وهناك معلّم ياباني قديم (دانفيو دايشي، يدعى أيضاً سايشو، عاش بين 767 و 822 بعد المسيح) يحث على “نسيان الذات، والإحسان إلى الغير، لأن في هذا ذروة الصداقة ومشاعر الشفقة” (راجع و – ث – دي باري، ينابيع التقليد الياباني، نيويورك 1958، مجلد 1، ص 127). وكيف لا نذكر المهاتما غاندي، ذاك الذي بشر “بقوّة الحقيقة” (ساتاياغراها)، التي تحرز النصر، دونما عنف، بقوّة ديناميكية كامنة في أعماق العمل الصالح؟
42) راجع روم 2، 15
43) راجع يو 1، 9؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إعلان بشأن علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحية في عصرنا، عد 2
44) تك 1، 31
45) راجع يو 2، 25
46) راجع لو 22، 61
47) راجع أفسس 1، 4
48) متى 19، 20
49) 1 كو 7، 31
50) كولسي 3، 1
51) روم 5، 5
52) راجع متى 5، 3 – 12
53) متى 19، 21
54) راجع مر 10، 21؛ يو 1، 43؛ 21، 23
55) راجع متى 19، 12
56) راجع مثلا البابا يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي، عطية الفداء: أعمال الكرسي الرسولي 76 (1984)، ص 513 – 546
57) متى 9، 37
58) متى 9، 37 – 38
59) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عد 39 – 42
60) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، عد 43 – 44
61) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عد 1
62) يو 4، 10
63) متى 5، 8
64) راجع 1 يو 4، 8، 16
65) راجع افسس 5، 32
66) راجع 1 كور 13، 4؛ 5؛ 6؛ 7
67) تك 2، 24؛ راجع متى 19، 5
68) خروج 20، 12؛ تثنية اشتراع 5، 16؛ متى 15، 4
69) راجع متى 25، 14 – 30؛ لو 19، 12 – 26
70) تك 3، 19
71) يو 8، 32
72) يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة في ممارسة العمل، عد 9: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص 599 – 600
73) راجع لو 21، 19
74) رسالة في مناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي 1985، عد 3: أعمال الكرسي الرسولي 77 (1985)، ص 163
75) لو 17، 1 – 2
76) لو 2، 52
77) راجع مثلا مز 104 (103)؛ 19 (18)؛ حكمة 13، 1 – 9؛ 7، 15 – 20
78) أمثال 4، 5 – 6
79) راجع 1 كور 9، 24 – 27
80) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، عد 24
81) 1 يو 2، 13 – 14
82) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عد 1
83) 1 يو 2، 13 – 14
84) 1 يو 5، 4
85) راجع القديس اغسطينوس، اعترافات، 1، 1: مجمع الكتّاب الكنسيّين اللاتين، ص 1
86) قرار في التربية المسيحية، أهمية التربية، عد 2
87) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، رسالة إلى الشبّان: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 18
88) يو 2، 5
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post