الرسالة الرسولية
الألم الخلاصي
Salvifici doloris
للبابا يوحنا بولس الثاني
للأساقفة والكهنة
والعائلات الرهبانية
ولمؤمني الكنيسة الكاثوليكية
عن المعنى المسيحي للألم البشري
أيها الاخوة الأجلاّّء والابناء الأعزاء،
1
مقدمة
1.عندما أوضح بولس الرسول قيمة الألم الخلاصي، قال: “أتمّم بجسدي ما نقص من آلام المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة”(1).
إن هذه العبارة تبدو كأنها تضع حدّاً للطريق الطويل الذي يمرّ بالآلام، هذه الآلام التي تندرج دائماً، نوعاً ما، في تاريخ البشر، وتستنير بكلمة الله. ولعبارة مار بولس هذه من جليل القدر ما يجعل منها اكتشافاً جديداً يصاحبه الفرح. ولهذا كتب الرسول: “وأنا أفرح بالآلام لأجلكم”(2). وينبع هذا الفرح من معنى الألم، على ما تفهّمه الرسول. ورغم أن هذا المفهوم يختص، بدرجة أولى، بمار بولس الذي كتب هذه العبارة، فهو يتناول أيضاً الآخرين. وإن الرسول، إذ يشرك سواه في ما تفهّمه، يفرح لكون هذا المفهوم سيساعد الناس – مثلما ساعده – على التعمّق في فهم الألم الخلاصي.
2.يبدو أن موضوع الألم – من وجهته الخلاصية على الأخص – يدخل كلياً في إطار سنة الفداء المقدسة التي تحتفل الكنيسة فيها باليوبيل الاستثنائي. وهذا ما يحمل، في هذه المناسبة، على البحث في هذا الموضوع بحثاً عميقاً دقيقاً. لكن الألم، بقطع النظر عن السنة المقدّسة، مسألة إنسانية، يتأثر بها جميع الناس على اختلاف طبقاتهم في طول الأرض وعرضها، بحيث تبدو هذه الآلام كأنها ولدت مع الإنسان يوم مولده. وهذا ما يستدعي العودة الدائمة إلى البحث في هذا الموضوع. ورغم أن بولس قد كتب في رسالته إلى الرومانيين: “ونحن نعلم أن الخليقة كلها مازالت إلى اليوم تئنّ بآلام المخاض”(3)، ورغم أنّا نرى حولنا حتى الحيوانات تعاني من الألم، فإن ما تعرب عنه لفظة “ألم”، هو، على ما يبدو، بطريقة خاصة، من جوهر الطبيعة البشرية. وهو عميق عمق الإنسان ذاته، لأنه يظهر، نوعاً ما، ما في الإنسان من عمق ويتخطّاه على طريقته. ويعود الألم، على ما يبدو، إلى ما يتفوّق به الإنسان على الأشياء. إنه من تلك الأمور التي “يهيّأ” الإنسان معها، على نحو ما، لتخطّي ذاته، وهو مدعو إلى ذلك دعوة خفية عجيبة.
3.وإذا كانت تجب معالجة موضوع الألم، خاصة في سنة الفداء المقدّسة هذه، فذلك، قبل كل، لأن الفداء قد تمّ بصليب المسيح، أي بآلامه. وتتبادر إلى الذهن عفوا في سنة الفداء هذه الحقيقة التي أعربت عنها الرسالة التي عنوانها فادي الإنسان وهي: “إن كل إنسان في المسيح هو طريق الكنيسة”(4). ويمكن القول أن الإنسان يصبح طريق الكنيسة خاصة، عندما يدخل الألم في حياته، وهذا ما يحدث، على ما هو واضح، في مختلف مراحل الحياة، ويتأتّى بطرق مختلفة، ويتّخذ أبعاداً متباينة. لكن الألم، أيّاً يكن شكله، وهذه حقيقة راهنة، لا يمكن البتة، على ما يبدو، فصله عن حياة الإنسان على الأرض.
ولما كان الإنسان يسير في حياته على الأرض، بنوع أو بآخر، على طريق الألم، فلا بدّ للكنيسة في كل زمن – وعلى الأخص، ربّما، في سنة الفداء – من أن تلتقي الإنسان على هذا الطريق. وعلى الكنيسة التي ولدت من سر الفداء العجيب على الصليب، أن تسعى إلى ملاقاة الإنسان الرازح تحت وطأة الألم، لأن الإنسان في هذا اللقاء “يصبح طريق الكنيسة”، وهذا الطريق هو أفضل الطرق على الإطلاق.
4.وإلى هذا مردّ ما لهذه الخواطر في الألم من أهمية، ونحن لا نزال في سنة الفداء. وفي الواقع أن
الألم البشري يستدعي الشفقة، ويولّد الاحترام، ويثير، على طريقته، المخاوف: ذلك أنه ينطوي على عظمة سرّ فريد. ويجب أن يحتلّ هذا الاحترام للألم البشري محلّ الصدارة في ما سنقوله بدافع من حاجة نابعة من صميم القلب، وتلبية لداعي الإيمان. ويبدو أن هذين الأمرين يلتقيان في معالجة موضوع الألم، على صعيد واحد، لا بل انهما يتّحدان: فحاجة القلب تأمر بالتغلّب على الخوف، وداعي الإيمان – حسب ما حدّده مار بولس، على ما رأينا آنفاً – يقدّم لنا ما من أجله وبواسطته نتجرّأ على أن تلامس في الإنسان ما يبدو أنه تستحيل ملامسته في أي إنسان، ذلك أن الإنسان المتألّم يرتدي طابعاً من السرّية لا ينتهك.
2
عالم الألم البشري
- رغم أن الألم – إذا نظرنا إليه نظرة ذاتية، بما أنه مسألة شخصيّة تكمن في أعماق وعي الإنسان الواقعي
الفريد – يستحيل تحديده أو نقله، على ما يظهر، فليس ربما هناك أمر، إذا نظرنا إلى “واقعه الموضوعي”، تجب معالجته، والتأمّل فيه، وتفهّمه، مثل هذا الأمر الذي تُلقى بشأن طبيعته أسئلة تستدعي أجوبة. ولفهم هذا الأمر حق الفهم، يجب ألاّ نكتفي هنا بوصف الألم، وهناك مبادئ أخرى تعتمد للحكم بشأنه تتعدّى الوصف المجرّد، وهي مبادئ لا بدّ من اللجوء إليها، إذا أردنا أن ندخل حرم الألم البشري ونتفهّمه على حقيقته.
معلوم أن الطب، كعلم وفن استشفاء، اهتدى في مجال الألم البشري الفسيح إلى ما أصبح معروفاً، ومنه ما يمكن التأكّد منه بالبحث الدقيق، ومنه ما يُقضى عليه بالأحرى بوسائل العلاج، (أعني معالجة الضدّ بالضدّ). ولكن هذا أن هو إلاّ وجه من وجوه الألم، لأن مجال الألم البشري واسع جداً، على ما فيه من تنوّع وتعدّد. والإنسان يقاسي أشكالاً من الألم لا يستطيع الطب الإهتداء إليها دائماً، ولو في أكثر فروعه تقدّماً. وهذا ما يجعل الألم البشري أوسع انتشاراً من المرض، وأكثر تعقيداً، وأعمق جذوراً في البشرية عينها. ويسهل علينا البحث في هذا الأمر، إذا ميّزنا بين الألم الطبيعي والألم المعنوي. ويستند هذا التمييز إلى تركيب الإنسان من جسد وروح يجعلانه خاضعاً مباشرة للألم. ورغم أنه بالإمكان استعمال كلمتي “عذاب” و”ألم” بالمعنى عينه، فهناك عذاب جسدي عندما “يتألم الجسد” بنوع أو بآخر؛ والعذاب المعنوي هو “ألم النفس”. فالمسألة إذن، مسألة ألم ذي طابع روحي وليست فقط مسألة بعد الألم النفساني الملازم للعذاب المعنوي والجسدي. وممّا لا شك فيه أن العذاب المعنوي ليس بأقلّ انتشاراً وتنوّعاً من العذاب الجسدي، ويصعب اكتشافه، على ما يبدو، وشفاؤه بالمعالجة.
- إن الكتاب المقدّس هو كتاب كبير في الألم. ولنقطف من العهد القديم بعض أمثلة عن حالات يتجلّى فيها الألم بوضوح، وعلى الأخص الألم المعنوي، فنجد الألم لدى خطر الموت، (5) وفقدان البنين (6)، وخاصة إذا كان الابن البكر الوحيد (7)، وكذلك لدى حرمان النسل (8)، والحنين إلى الوطن (9)، واضطهاد الناس وعدواتهم (10)، والإهانة والاستهزاء بالذين يعانون من الشدائد (11)، والوحدة والإهمال (12)، وأيضاً لدى وخز الضمير (13)، وصعوبة تفهّم أسباب ازدهار الأشرار ومعاناة الأبرار (14)، والخيانة ونكران الأصدقاء والأقرباء الجميل (15) وأخيراً محن الوطن (16).
وينظر العهد القديم إلى الإنسان على أنه “مركّب” من جسد وروح، وغالباً ما يجمع بين عذابات النفس “المعنوية”، والألم الناجم عن بعض أعضاء الجسد. كالعظام (17) مثلاً، والكلى (18)، والكبد (19)، والأحشاء (20)، والقلب (21). ولا يمكن إلاّ التسليم بأن العذابات المعنوية تنعكس على الناحية الطبيعية أو البدنية، وغالباً ما تمتدّ إلى مجمل كيان الإنسان.
- إن الكتاب المقدّس، على ما تشير إليه الأمثلة الآنفة، يقدّم لائحة كبيرة عن حالات يقاسي فيها الإنسان آلاماً متعدّدة. وهذه اللائحة، على تنوّعها، لا تستنفد، دونما شك، كل ما أعرب ويعرب عنه باستمرار كتاب تاريخ الإنسان (وهو بالأحرى “كتاب غير مكتوب”) بشأن الألم، ولا سيمّا كتاب تاريخ الجنس البشري، إذا ما نظر في حالة كل من الناس.
ويمكن التأكد أن الإنسان يتألّم، كلّما أحسّ بشرّ أيّاً يكن نوعه. والعلاقة بين الألم والشرّ، بحسب لغة الكتاب المقدّس، هي من الوثاقة بحيث يعنيان بوضوح شيئاً واحداً. وكانت لغة الكتاب تفتقر إلى لفظة خاصة للإعراب عن “الألم”. ولهذا إن كل ما يؤلّم الإنسان يدعوه الكتاب “شرّا” (22). واللغة اليونانية وحدها، والعهد الجديد معها، (وترجمات العهد القديم اليونانية)، تستعمل لفظة ، ومعناها: أعاني من …، أشعر، أتألّم، ولهذا فإن الألم، من خلال هذه اللفظة، لا يعني ما يعنيه الشرّ (الموضوعي)، بل يشير إلى حالة يقاسي فيها الإنسان شرّاً وبسبب هذه المقاساة، يتألّم. ولهذا الألم طابعان: فعالي وانفعالي (من المقاساة) وحتى لو انزل الإنسان بنفسه ألماً، وكان هو السبب، فيبقى هذا الألم شيئاً انفعالياً وفقاً لجوهره الماورائي.
ولكن لا ينتج عن ذلك إنه ليس للعذاب النفساني بحد ذاته أيّة “فاعلية خاصة”. إن هناك “فاعلية” متعدّدة، ومتميّزة ذاتياً، للألم، والحزن، وخيبة الأمل، وخور العزيمة، وحتى لليأس، وفقاً لحدّة التأثّر أو خفّته أو عمق امتداد جذوره، أو جانبياً، وفقاً لبنية من يتألّم ودرجة شعوره. ولهذا فإن هناك دائماً، في كل شكل من أشكال العذاب النفساني، معاناة من شرّ يتألم له الإنسان.
فلا عجب إذن، إذا قاد العذاب إلى طرح السؤال عن طبيعة الشرّ. فما هو الشرّ؟ يبدو أنه لا يمكن، نوعاً ما، فصل هذا السؤال عن موضوع العذاب. ويختلف الجواب المسيحي عن ذاك الذي تعطيه بعض تقاليد ثقافية ودينية ترى أن الوجود البشري شرّ يجب التخلّص منه. أمّا الدين المسيحي فيعترف بأن الوجود خير جوهري وأن كل كائن هو خير، وينادي بجودة الخالق وبأن الخلائق كلها خير. ويتألّم الإنسان بسبب الشرّ الذي هو نقص أو انتفاء للخير. أو قل أن الإنسان يتألّم لأنه لم يدرك نصيبه من خير حرمه أو حرم نفسه إياه. وهو يتألم – في مجرى الأمور المألوف – بقدر ما كان “يجب” أن يدرك نصيبه من هذا الخير، لكنه لم يدركه في الواقع. ولهذا أن حقيقة الألم، في المفهوم المسيحي، تتوضّح بواسطة الشرّ الذي هو مشدود دائماً، نوعاً، ما إلى الخير.
- فيجب النظر إذن إلى الألم البشري على أنه شبه “عالم” خاص، وجد منذ أن وجد الإنسان، وهو يظهر معه ويزول، وأحياناً لا يزول، ولكنه يترسّخ فيه ويتأصّل. وعالم الألم هذا، إذ يلفّ عدداً من الناس، لا بل عدداً كبيراً وكلاّ بمفرده، إنما هو أشبه بأمر شتات. ويشكّل كل إنسان بألمه الخاص به، لا جزءاً صغيراً من هذا “العالم”، وحسب، بل إن هذا “العالم” يقيم فيه وكأنه شيء محدّد لا مثيل له. وتصاحب ذلك علاقة أخرى اجتماعية بين الناس؛ ذلك إن عالم الألم يؤلّف مجموعة خاصة. والمتألّمون يصبحون متشابهين لما في الحالة التي يتقلّبون فيها من وجوه شبه، ولما يخضعون له من امتحان مصيري، ولما يشعرون به من توق إلى رعاية وعناية، ولربما على الأخص، لتساؤلهم المستمرّ عن معنى الألم. ولهذا، ورغم أن عالم الألم هو أمر شتات، فهو في الوقت عينه دعوة فريدة إلى الألفة والتضامن. وسنبذل الجهد لكي نضع أمام أعيننا هذه الدعوة ونحن نعرض هذه الخواطر.
وإنّا، إذ نستعرض عالم الألم، سواء أكان بمعناه الشخصي أم في الوقت عينه بمعناه الجماعي، نرى أنه يشتدّ وطأة في بعض الأحيان وفي بعض مراحل الحياة الإنسانية، مثلاً لدى حلول النكبات الطبيعية، والأوبئة، والكوارث والزلازل، ومختلف الآفات الإجتماعية من فشل موسم قاحل وما يجرّه معه – إذا لم يكن ذلك ناشئاً عن أسباب أخرى – من مجاعة حادّة، محزنة.
وتمثل الحرب أخيراً أمام الأذهان، وهذا ما نريد أن نتحدّث عنه بوجه أخصّ، فنتوقف على الحربين الأخيرتين اللتين أصابتا العالم؛ وقد حصدت الثانية منهما عدداً أضخم من الناس وتسبّبت بقدر أكبر من الآلام البشرية. وبالمقابل أن النصف الثاني من عصرنا – بسبب أخطاء حضارة اليوم وتجاوزاتها – يحمل معه بذور حرب نووية مريعة، بحيث إننا لا نستطيع، إذا ما نظرنا إلى هذه الحقبة، إلاّ أن نفكر، في الوقت عينه، بما سيتراكم من آلام لا مثيل لها، ممّا قد يحمل البشرية على إبادة ذاتها بذاتها. ولهذا يبدو أن عالم الألم هذا الذي يتّخذ، على وجه التأكيد، مكمناً له في كل من الناس، قد ينقلب في عصرنا، أكثر منه في غابر الأزمان، “عالم ألم فريد”، وهو عالم تحوّل، أكثر من ذي قبل، بفضل تقدّم الإنسان، وبلغ، في الوقت عينه، أكثر من أي وقت مضى، ذروة الخطر، من جرّاء أخطاء الإنسان ومساوئه.
3
بحث عن الجواب على السؤال
عن معنى الألم
- أمام كل ألم يعاني منه أي إنسان، وكذلك أمام عالم الألم بكامله، لا بدّ من طرح هذا السؤال: لماذا؟ إنه سؤال عن السبب، وعن المبرّر، وفي الوقت عينه عن الغاية، (لأي شيء)، وعلى الجملة، عن المعنى. وهو سؤال لا يقترن بالألم البشري وحسب، لكنه يبدو أنه يحدّد محتواه البشري، أعني ما به يكون الألم، على وجه التأكيد، بشرياً.
واضح أن الألم، ولا سيمّا ألم الجسد، يصيب، دونما ريب، الحيوانات من قريب أو بعيد، لكن الإنسان وحده، المصاب بالألم، يعرف أنه يتألم، ويبحث عن السبب. وهو يتألم بشرياً، بطريقة أشدّ، إن لم يهتد إلى جواب مقبول. وهذا سؤال صعب، شأن أمثاله من الأسئلة التي تتعلّق بالشرّ. لماذا الشرّ؟ لماذا الشرّ في العالم؟ وعندما نستقصي هكذا، فإنّا نتساءل، على الأقل بطريقة ما، عن الألم.
وكلا السؤالين صعب، عندما يطرحهما الإنسان على الإنسان، والناس على الناس، ولكن أيضاً عندما يطرحهما الإنسان على الله. ولكن الإنسان لا يستقصي هذه المسألة لدى العالم، رغم أنه غالباً ما يتألم من العالم، بل لدى الله، بما أنه مكوّن العالم وربّه. ومعلوم أن الناس في تساؤلهم هذا لا يصلون، بشتى الطرق، إلى مبتغاهم، ولا إلى مخاصمة الله وحسب، بل إلى التجرّؤ حتى على نكران الله. وإذا كان وجود العالم يفتح، إذا صحّ التعبير، بصيرة الإنسان على وجود الله وحكمته، وقدرته، وعظمته، فيبدو أن الشرّ والألم يغشّيان أحياناً هذه الصورة تماماً، وذلك على الأخص، عندما تقع أحداث يومية خطيرة مؤلمة، دونما ذنب؛ وترتكب ذنوب كثيرة تبقى دون ما تستوجب من عقاب. وهذا بالتالي ما يظهر – ربما أكثر من سواه – كم هو هام السؤال عن معنى الألم، وبايّة دقّة تجب معالجة هذا السؤال وما يجب اعطاؤه من جواب عليه.
- باستطاعة الإنسان أن يسأل الله عن هذا الأمر، وهو مضطرب الخاطر، ذاهل العقل، قلق البال. وينتظر الله السؤال ويستمع إليه، على ما نرى في وحي العهد القديم. وقد أوضح سفر أيوب هذا السؤال إيضاحاً تامّاً.
إنها معروفة قصة هذا الرجل الصديق الذي نالته آلام كثيرة لا تحصى دونما ذنب منه. وقد فقد أرزاقه وأمواله وأبناءه وبناته، وأصيب هو عينه أخيراً بمرض عضال. وفيما هو يعاني ما يعاني في هذه الحالة القاسية، أتاه ثلاثة من أصدقائه القدامى، وأخذوا – كل على طريقته – يعملون على إقناعه بأنه قد ارتكب إثماً كبيراً، ما دامت قد حلّت به آلام عديدة مبرّحة؛ ذلك أن الألم، على ما قالوا، يحلّ دائماً بالإنسان عقاباً له على إثم ارتكبه. والله العادل هو من ينزله به، وسببه ما تأمر به العدالة. ويمكن القول أن هؤلاء الأصدقاء أرادوا، لا أن يقنعوا أيوب بأن الشرّ عادل أدبياً وحسب، لكنهم سعوا، نوعاً ما، إلى الدفاع أمام أنفسهم عن معنى الألم الأدبي. لقد ظنّوا أن لا سبيل إلى فهم الألم إلاّ أنه عقاب على الخطيئة؛ وذلك فقط ضمن نطاق عدالة الله الذي يجازي خيراً بخير، ويعاقب شرّاً بشرّ.
وقد استندوا، في هذه الحالة، إلى عقيدة أثبتتها أسفار العهد القديم، وهي تظهر أن الله ينزل العقاب بسبب الخطايا. ذلك أن إله الوحي إنما هو مشترع وقاضً، وما من سلطة بشريّة يمكنها أن تمائله. وإله الوحي هو، قبل كلٍّ، الخالق الذي أتى منه، مع الوجود، خير الخلق الجوهري. وانتهاك الإنسان لحرمة هذا الخير انتهاكاً واعياً، حرّاً ليس هو خرقاً للقانون وحسب، بل هو إهانة لله الذي هو مبدع الشريعة. ويرتدي هذا الخرق طابع الخطيئة بالمعنى الصحيح، أي الكتابي واللاهوتي لهذه الكلمة. ويستتبع شرّ الخطيئة الأدبي العقاب الذي من شأنه أن يحمي النظام الأدبي وفقاً لهذا المعنى التجريدي عينه الذي، انطلاقاً منه، أقام الخالق، المشترع الأسمى، هذا النظام، بإرادته. ومن هنا تنبع إحدى حقائق الإيمان الديني الأساسيّة، المستندة إلى الوحي، وهي أن الله قاضٍ عادل يجازي على الخير، ويعاقب على الشرّ: “لأنك عادل في جميع ما صنعت وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق. وقد أجريت أحكام حق في جميع ما جلبت علينا… لأنك بالحق والحكم جلبت جميع ذلك لأجل خطايانا”(23).
لقد أظهر رأي أصدقاء أيوب زعماً غالباً ما نجده في ضمير البشريّة الأدبي، وهو أن النظام الأدبي الموضوعي يتطلّب قصاصاً على المخالفة، وعلى الخطيئة، وعلى الذنب. من هنا يبدو أن الألم “شرّ له ما يبرّره قانوناً”. ويستند زعم الذين يفسّرون الألم بأنه قصاص على الخطيئة، إلى نظام العدالة، ويلتقي هذا الرأي والرأي الذي أبداه أحد أصدقاء أيوب بقوله: “بل رأيت أن الذين يحرثون الأثم ويزرعون المشقّة هم يحصدونهما”(24).
- لكن أيوب ينفي صحّة هذا المبدأ القائل بأن الألم عقاب على الخطيئة. وهو يؤكّد ذلك بالاستناد إلى ما رسخ في إعتقاده، لأنه يعرف حق المعرفة أنه لم يستأهل مثل هذا العقاب، لا بل أنه يعلن أنه قد صنع الخير في حياته. وقد أنّب الله عينه في النهاية أعداء أيوب على اتّهامهم إياه، واعترف بأن أيوب لم يكن مذنباً، وأن آلامه هي آلام بريء يجب التسليم بها على أنها سرّ لا يستطيع الإنسان النفاذ إليه ببصريته.
ولا يتصدى سفر أيوب لقواعد النظام الأدبي السامي، القائم على العدالة، وهي القواعد التي يعرضها الوحي بكامله في العهدين القديم والجديد. لكن هذا السفر ينبّه في الوقت عينه تنبيهاً جازماً إلى استحالة تطبيق مبادئ هذا النظام تطبيقاً حصرّياً، ضيّقاً، سطحيّاً. فإذا صحّ أن للألم معتى القصاص، عندما يقترن القصاص بالذنب، فليس صحيحاً أن كل ألم ينشأ عن الذنب وأن له طابع القصاص. وأيوب الصديق هو خير برهان على ذلك في العهد القديم. ويطرح الوحي الذي هو كلام الله، بوضوح، مسألة ألم البريء، الألم دونما ذنب. إن أيوب لم يقاصّ، ولم يكن هناك من أسباب توجب إنزال القصاص به، رغم أنه قد امتحن امتحاناً قاسياً. يبدو من مقدّمة السفر أن الله قد سمح بامتحان هذا الرجل، بناء على تحريض الشيطان الذي وضع برّ أيوب أمام الرب موضع الشكّ والاتّهام: “أمجّاناً يتّقي أيوب الله؟… قد باركت أعمال يديه فانتشرت أمواله في الأرض. ولكن أبسط يدك وأمسس جميع ما له فتنظر ألا يجدّف عليك في وجهك؟”(25). وإذا كان قد رضى الرب بأن يجرّب أيوب ويمتحن بالألم، فقد صنع ذلك ليظهر برّه. أن للألم طابع امتحان.
ولا يقول سفر أيوب قول الوحي الفصل في هذه المسألة. وهو ينبئ، نوعاً ما، بآلام المسيح؛ لكنه برهان، بحدّ ذاته، كافٍ على أن الجواب على السؤال عن معنى الألم لا يرتبط دونما استثناء بالنظام الأدبي القائم على العدالة وحدها. وإذا كان لهذا الجواب ما يبرّره، وله قيمة أساسية، فيبدو، من جهة ثانية، أنه لا يشكّل برهاناً كافياً في حالات ممائلة لألم أيوب وحسب، لكنه، فضلاً عن ذلك، يفقر مفهوم العدالة ويفرغه من محتواه، على نحو ما نجده في الوحي.
- يطرح سفر أيوب “قضيّة” الألم طرحاً “حادّاً”، ويظهر كذلك أن البريء يتألّم، لكنه لم يحلّ القضيّة. ونلاحظ أيضاً ميلاً في العهد القديم إلى تخطّي الرأي القائل بأن لا تفسير للألم إلاّ أنه قصاص على الخطيئة، فيما ينجلي، بوضوح، في الوقت عينه، ما في الألم من فائدة ترمي إلى التأديب. ذلك أن في الآلام التي ينزلها الله بالشعب المختار ما يحفز رحمته على الإصلاح بغية الحمل على الارتداد: “وهذه النقم ليست للهلاك بل لتأديب امتنا”(26).
وهكذا يتأكّد سبب القصاص الشخصي. وأن للقصاص، بموجب هذا السبب، معنى، لا لأنه يقابل شرّ المخالفة الموضوعي بشرّ آخر، بل لأنه يمكّن على الأخص من إعادة بناء الخير في من يتألّم. وإن هذا الجانب من الألم لبالغ الأهمية، وهو متأصّل تأصّلاً عميقاً في الوحي بمجمله، القديم منه والجديد خاصة. ذلك أن الألم يجب أن يقود إلى الارتداد، أي إعادة بناء الخير في الإنسان الذي يمكنه أن يتعرّف إلى رحمة الله في هذه الدعوة إلى التوبة. وغاية التوبة التغلّب على الشرّ القابع في الإنسان بأشكال مختلفة، وتوطيد الخير في الإنسان وفي علاقاته مع الآخرين، وعلى الأخصّ مع الله.
- لكن لكي نهتدي إلى الجواب الحقيقي الواجب إعطاؤه على السؤال المتعلّق “بقضيّة” الألم، علينا أن ننظر إلى وحي المحبة الإلهية التي هي الينبوع الأخير لمعنى كل الكائنات. والمحبة هي أيضاً الينبوع الفيّاض لمعنى الألم الذي يبقى دائماً سرّاً. ونحن نعرف أن شروحنا لا تفي بالموضوع وتبقى دونه. والمسيح هو من يدخلنا في السرّ ويحملنا على اكتشاف “قضيّة” الألم، على قدر ما نستطيع أن نتفهّم سموّ المحبة الإلهية.
ولكي نكتشف مجدّداً معنى الألم العميق، ونحن نتتبّع الكلمة التي أوحاها الله، يجب أن ننفتح على الإنسان المتألم، مع أخذ مختلف قواه بالإعتبار. وعلينا خاصّة أن نقبل نور الوحي، لا لأنه يعبّر عن نظام العدالة السامي وحسب، بل لأن هذا النور يضيء هذا النظام بالمحبة التي هي الينبوع الأكيد الأسمى لكل الكائنات. أجل أن المحبة هي أكمل ينبوع للجواب على السؤال عن معنى الألم. وهذا الجواب قد أعطاه الله للإنسان في صليب يسوع المسيح.
4
يسوع المسيح:
الألم الذي غلبته المحبة.
- “إن الله هكذا أحبّ العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد، كي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”(27). هذه الكلمات التي فاه بها السيد المسيح، فيما كان يحدّث نيقوديموس، تدخلنا في صميم العمل الخلاصي. وهي تعلن عن جوهر عقيدة الفداء المسيحية، أي لاهوت الخلاص. والخلاص معناه التحرير من الشرّ، وهو بالتالي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة الألم. وإن الله، وفقاً للكلام الموجّه إلى نيقوديموس، قد بذل ابنه في سبيل “العالم”، ليحرّر الإنسان من الشرّ الذي يتضمّن في ذاته مبرّر الألم الأخير، المطلق. وتشير، في الوقت عينه، لفظة “بذل” إلى وجوب تحقيق هذا التحرير بواسطة الابن الوحيد، عبر آلامه. وفي هذا تتجلّى محبة الابن الوحيد، غير المتناهية، ومحبة الآب الذي “بذل”، لهذا السبب، ابنه. وهذه المحبة للإنسان، والمحبة “للعالم”، هي المحبة الخلاصية.
وندخل هنا في جانب جديد من موضوعنا. وهذا ما يجب أن نضعه، بوضوح، أمام الأذهان منّا، ونحن نعالج معاً هذا الموضوع. وهذا الجانب هو غير ذاك الذي حدّد البحث في معنى الألم وحصره، نوعاً ما، ضمن حدود العدالة. أنه جانب الفداء الذي يبدو أن كلام أيوب الصديق، على ما ورد في العهد القديم على الأقلّ، في الطبعة الدارجة، قد تنبّأ عنه: “إني لعالم بأن فاديّ حيّ وسيقوم… ومن جسدي أعاين الله”(28). وإذا كان قد اتّجه تفكيرنا حتى الآن، وقبل كلّ، إلى الألم، نوعاً ما، في صيغته الزمنيّة المتعدّدة (وآلام أيوب الصديق هي من هذا النوع)، فإن الكلام المشار إليه سابقاً والمقتطف من حديث يسوع إلى نيقوديموس، ينظر في الألم بمعناه الرئيسي والنهائي. لأن الله يبذل ابنه الوحيد، “لكيلا يهلك” الإنسان. وقد حدّد قوّة هذه الكلمة “لكيلا يهلك” على وجه الدقّة، ما تبعها وهو “بل تكون له الحياة”.
“ويموت” الإنسان، عندما “يفقد الحياة الأبدية”. ولا يتعارض مع الخلاص الألم الزمني، أيّاً يكن هذا الألم، بل الألم الأكيد، الثابت، الذي لا يتغيّر، أي فقدان الحياة الأبدية، ورفض الله الإنسان، والهلاك. لقد “بذل” الابن الوحيد من أجل الناس ليدفع عن الإنسان خاصة هذا الشرّ، أي الألم الأكيد، الثابت، الذي لا يتغيّر. فعليه اذن، انطلاقاً من رسالته الخلاصيّة، أن ينفذ إلى أعماق جذور الألم التي ينتشر منها هذا الألم في تاريخ البشر. وجذور الألم العميقة هذه، متأصّلة في الخطيئة والموت. وهي في أساس فقدان الحياة الأبدية. وتقوم رسالة الابن الوحيد على التغلّب على الخطيئة والموت. وقد تغلّب على الخطيئة بطاعته حتى الموت، وتغلّب على الموت بقيامته.
- عندما يقال أن المسيح قد نفذ برسالته من الشرّ إلى جذوره، نفكّر لا بالشرّ والألم الأكيد، الثابت الذي لا يتغيّر، الأخروي (لكيلا “يهلك الإنسان، بل تكون له الحياة الأبدية”)، وحسب، بل أيضاً – على الأقلّ جانبيّاً – بالشرّ والألم بمفهومه الزمني والتاريخي. لأن الشرّ مرتبط بالخطيئة والموت. ورغم أنه يجب الحكم، بفطنة بالغة، على الألم البشري كأنه نتيجة لخطايا ملموسة (هذا ما يوحي به مثل أيوب الصديق)، فلا يمكن فصله عن الخطيئة الأصليّة، أي عن تلك التي يدعوها القديس يوحنا “خطيئة العالم”(29)، عن الحالة الاثميّة، حالة الأعمال الشخصية والتطوّرات الإجتماعية في تاريخ الإنسان. ورغم أنه لا يجوز هنا تطبيق قاعدة الارتباط المباشر الضيّقة (على ما فعل أصدقاء أيوب الثلاثة)، فلا يجوز التخلّي عن القول بأن آلام البشر تنبع من أنواع الانغماس في الخطيئة.
وهذا ما يحدث بشأن الموت. وهو غالباً ما ينتظر على أنه خلاص من آلام هذه الحياة. ولكن لا يمكن أن يخفى على أحد، في الوقت عينه، أنه يشكل خاتمة نهائية لعمل الآلام المميت، سواء أكان في الجسد وأجهزته، أم في النفس. ويحمل الموت معه، قبل كل، تفكيك شخصية الإنسان النفسية والجسدية بكاملها. وتبقى النفس مستمرّة في الوجود منفصلة عن الجسد. أما الجسد فيخضع شيئاً فشيئاً للانحلال، وفقاً لكلام الرب الإله الذي فاه به بعد ارتكاب الإنسان الخطيئة، في بدء تاريخه الأرضي: “إنك تراب، وإلى التراب تعود”(30). ولهذا، وبالرغم من أن الموت ليس ألماً، بما للكلمة من معنى زمني، ولو أنه يفوق، نوعاً ما، جميع الآلام، فالشرّ الذي يختبره الإنسان فيه يحمل طابع أمر نهائي يشمل كل شيء. إن الابن الوحيد يحرّر الإنسان، بعمله الخلاصي، من الخطيئة والموت. لقد أزال، بداءة بدء، من تاريخ البشر سلطان الخطيئة التي مدّت جذورها، بإغواء من الروح الشرّير، منذ الخطيئة الأصليّة، ووهب الإنسان القدرة على العيش في النعمة المبرّرة. وبعد الإنتصار على الخطيئة، قضى أيضاً على سلطان الموت، وفتح بقيامته الطريق لقيامة الأجساد العتيدة. وكلا الأمرين لا بدّ منهما “للحياة الأبدية”، أعني لسعادة الإنسان المتّحد بالله، التي لا تتغيّر. وهذا يعني بالنسبة إلى المخلّصين أن الألم قد زال تماماً، بالنظر إلى الآخرة.
وبنتيجة عمل المسيح الخلاصي، يحيا الإنسان على الأرض، على رجاء الحياة والقداسة الأبديّتين. وبالرغم من أن الانتصار الذي حقّقه المسيح على الخطيئة والموت، بصليبه وقيامته، لا يزيل الآلام الزمنية في حياة الإنسان، ولا يحرّر من الآلام الحياة البشرية في مفهومها التاريخي الكامل، فهو يلقي على هذا المفهوم بكامله، وعلى كل ألم، نوراً جديداً، هو نور الخلاص. وهذا هو نور الإنجيل، أي البشارة الصالحة. وفي وسط هذا النور، نجد الحقيقة التي ظهرت في الحديث مع نيقوديموس: “إن الله هكذا أحب العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد”(31). وهذه الحقيقة تغيّر من الأساس تاريخ الإنسان وأوضاعه الأرضيّة: رغم وجود الخطيئة التي تأصّلت في هذا التاريخ، سواء أكانت إرثاً أصلياً، أم “خطيئة العالم”، أم مجموعة خطايا شخصية، قد أحبّ الله الآب ابنه الوحيد، أعني أنه يحبه دائماً، ثم “بذل” هذا الابن، في الزمن، بسبب هذه المحبة التي تتغلّب على كل شيء، لكي ينفذ إلى أصل الشرّ البشري، ويصل، هكذا بطريقة خلاصية، إلى عالم الألم بكامله الذي يشترك فيه الإنسان.
- لقد اقترب السيد المسيح باستمرار، لدى قيامه بعمله الرسولي في جانب الشعب الإسرائيلي، من عالم الألم البشري. “فمرّ وهو يصنع الخير”(32). وقد وجّه عمله هذا، قبل كلّ، إلى المرضى والمحتاجين إلى المساعدة. فشفى المرضى، وعزّى الحزانى، وأطعم الجياع، وأنقذ الناس من الصمم والعمى، والبرص، والشيطان، ومختلف العاهات الجسدية، وردّ الحياة، ثلاثاً، إلى موتى. وكان يتأثّر لكل ألم بشري يصيب الجسد والنفس. وكان في الوقت عينه يعلّم ويركّز تعليمه على “الطوبى الثماني” الموجّهة إلى من أصابتهم آلام مختلفة في الحياة الزمنيّة، وهم “المساكين بالروح، والحزانى، والجياع والعطاش إلى البرّ، والمضطهدين من أجل البرّ”، والذين يلعنهم الناس ويضطهدونهم، ويتّهمونهم زوراً بارتكاب أنواع الشرّ، من أجل المسيح…(33). هذا ما أورده متّى. أمّا لوقا فيذكر صراحة “الجياع الآن”(34).
وعلى كل حال، قد اقترب المسيح على الأخص من عالم الألم البشري بحيث أنه أخذ هذا الألم. وهو، مدّة قيامه بنشاطه العام، لم يعان من التعب، والحاجة إلى مسكن، وإساءة أقرب الناس إليه فهمه وحسب، بل قد ضرب، قبل كلّ، حوله نطاقٌ من الحقد أخذ يضيق مع الأيام، وراحت تنكشف مع الأيام أيضاً نيّات السوء الرامية إلى إزالته من عالم الأحياء. وكان المسيح واعياً لهذا الأمر، وغالباً ما حدّث تلاميذه عمّا ينتظره من آلام وموت، فقال لهم: “ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يسلّم إلى عظماء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم، فيهزأون به، ويجلدونه، ويتفلون في وجهه، ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم”(35).
ومضى السيد المسيح إلى ملاقاة آلامه وموته، وهو واع كل الوعي، رسالته التي كان يجب أن تتمّ بهذه الطريقة. وكان عليه أن يعمل، بواسطة آلامه هذه، على ألاّ “يهلك الإنسان، بل تكون له الحياة الأبدية”. وكان عليه أن ينزل بصليبه إلى أصل الشرّ الكامن في تاريخ الإنسان، ونفوس البشر. وكان لا بدّ من إتمام عمل الخلاص بصليبه، وهو العمل الذي يحمل، بموجب قصد المحبة الأزلية، طابع الفداء.
ولهذا وبّخ السيد المسيح بطرس توبيخاً قاسياً، عندما سعى هذا إلى إقناعه بإطرّاح فكرة الألم والموت على الصليب (36). وعندما ألقي القبض عليه في بستان الجسمانية، وحاول بطرس عينه الدفاع عنه بالسيف، قال له المسيح: “ارجع سيفك إلى غمده… فكيف إذاً تتمّ الكتب، بأنه يجب أن يصير هكذا؟”(37). ثم قال: “الكأس التي أعطانيها أبي، ألا أشربها؟”(38). ويظهر هذا من الإنجيل – كم كان المسيح متشبّعاً من هذه الفكرة التي أفصح عنها في حديثة إلى نيقوديموس: “إن الله هكذا أحب العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد، كي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”(39). ومشى المسيح ليقاسي آلامه، وهو مدرك قوتها الخلاصية، وتقدّم، عملاً بإرادة أبيه، مشتركاً على الأخصّ مع أبيه في هذه المحبة التي أحبّ بها الآب العالم والإنسان في العالم. ولهذا كتب بولس عن المسيح: “أحبّني وبذل نفسه دوني”(40).
- كان لابدّ من أن يتمّم الكتاب. وهناك مواضع مسيحانية كثيرة من العهد القديم سبقت فأعلنت آلام مسيح الرب الآتي. وإن أشدّها تأثيراً في النفوس ما دعي بالنشيد الرابع لخادم يهوه الذي ورد في سفر أشعيا. ويعرض النبي الذي سمّي بحق “الإنجيل الخامس” في هذا النشيد صورة آلام الخادم بالوان زاهية، حيّة حتى ليخيّل معها أنه كان قد رآها رؤية العين: عين الجسد وعين العقل. وفي ضوء آيات أشعيا تظهر آلام المسيح أوضح تعبيراً وأشدّ تأثيراً في النفوس منها في نصوص الإنجيليين ذاتهم. واليكم رجل الألم الحقيقي على ما يبدو لنا أمام العيون: “لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه… مزدرى ومخذول من الناس، رجل اوجاع، ومتمرّس بالعاهات، كأنه مثل من نستر وجهنا عنه، مزدرى، فلم نعبأ به. إنه لقد أخذ عاهاتنا، وحمل أوجاعنا. فحسبناه ذا برص، مضروباً من الله ومذلّلا. جرح لأجل معاصينا، وسحق لأجل آثامنا. فتأديب سلامنا عليه، وبشدخه شفينا. كلّنا ضللنا كالغنم، كل واحد مال إلى طريقه، فألقى الرب عليه اثم كلّنا”(41).
وينطوي نشيد الخادم المتألّم على وصف يمكننا أن نرى فيه، إلى حدّ ما، مراحل آلام المسيح في دقائقها: القاء القبض، والأذلال، والصفع، والتفل، وامتهان كرامة السجين، والحكم الظالم، وأخيراً الجلد، وإكليل الشوك الموضوع على رأسه، والهزء، ودرب الصليب، والصلب، والنزاع.
وإن ما يؤثّر في النفوس من كلام النبي أكثر من وصف هذه الآلام، إنما هو عمق ذبيحة المسيح. وهوذا، رغم أنه بريء، يتقبّل جميع آلام الناس لأنه يأخذ على عاتقه جميع الخطايا: “فالقى الرب عليه اثم كلّنا” : كل اثم الإنسان بسعته وعمقه، أصبح السبب الحقيقي لألم الفادي. وإذا “قيس” الألم بقياس الشرّ المتحمّل، فإن كلام النبي يفسح في المجال لنفهم عظم هذا الشرّ، وهذا الألم الذي تحمّله المسيح. ويمكن القول هنا أن الألم هو ألم “بالوكالة”، ولكنه قبل كلّ “ألم فادٍ”. إن رجل الآلام في هذه النبوّة، هو في الحقيقة، “حمل الله حامل خطايا العالم”(42). وبآلامه أزيلت الخطايا، لأنه هو وحده، بما أنه الابن الوحيد، استطاع أن يأخذها على عاتقه ويحملها بهذه المحبة التي خصّ بها الآب، والتي تغلب شرّ أيّة خطيئة. لقد قضى، نوعاً ما، على هذا الشرّ في ما للعلاقات بين الله والبشر من شبه مدى روحي، وملأ هذا المدى صلاحاً.
ونبلغ هنا ثنائية طبيعة الشخص الذي تحمّل الألم الفادي. إنه هو من يصنع الفداء بآلامه وموته على الصليب، الابن الوحيد، الذي “بذله” الله. وفي الوقت عينه إن هذا الابن، المساوي للآب في الجوهر، يتألم كإنسان. ذلك إن لألمه مفهوماً بشرياً وله أيضاًً – مرّة واحدة في تاريخ البشر – من العمق والقوّة ما يجعله – رغم كونه بشرياً – فوق كل مقابلة مع أيّ ألم سواه، من حيث العمق والقسوة، لأن الإنسان المتألّم كشخص هو ابن الله الوحيد: “اله من اله”. ولهذا إنه هو وحده، الابن الوحيد، من يستطيع أن يلفّ الشرّ، على مداه، هذا الشرّ القابع في خطيئة الإنسان: في كل خطيئة، وفي الخطيئة “الشاملة”، وفقاً لمفهوم حياة البشر التاريخية على الأرض.
- يمكن القول أن الأفكار التي عرضناها سابقاً تقود رأساً إلى بستان الجسمانية، وإلى الجلجلة حيث تمّ نشيد الخادم المتألم، على ما ورد في سفر أشعيا. ولكن قبل أن نذهب قدماً، لنتل من النشيد الآيات التالية التي تنبئ أنباء نبوياً عن آلام الجسمانية والجلجلة. وقد أخذ الخادم المتألّم طوعاً واختياراً – وهذا أيضاًً لا بدّ منه لعرض آلام المسيح عرضاً صحيحاً – على عاتقه هذه الآلام التي أشرنا إليها:
“قدّم وهو خاضع، ولم يفتح فاه، كشاة سيق إلى الذبح، وكحمل صامت أمام الذين يجزّونه، ولم يفتح فاه. من الضيق والقضاء أخذ. من جيله من أهتّم؟ لأنه انقطع من أرض الأحياء؛ ولأجل معصية شعبه أصابته الضربة. منح قبراً مع المنافقين، وجدثاً مع الأغنياء، لأنه لم يصنع جوراً ولم يوجد في فمه مكر”(43).
يتألّم المسيح طوعاً، ويتألّم بريئاً. ويتقبّل بألمه هذا السؤال – غالباً ما يطرحه الناس – الذي أعلن عنه بطريقة حازمة في كتاب أيوب. لكن المسيح لا يحمل معه السؤال عينه وحسب، (وهذا ما يفعله بطريقة أكثر حزماً، لأنه، إذا كان إنساناً كأيّوب، فهو أيضاً ابن الله الوحيد)، بل يحمل أيضاً أكمل جواب يمكن إعطاؤه عن هذا السؤال. وقل أن الجواب يخرج، على حدّ ما، من المعدن الذي صيغ منه السؤال. ذلك أن السيد المسيح يجيب على السؤال عن الألم ومعنى الألم لا بتعليمه وحسب، أي بالبشارة الصالحة، إنما، على الأخصّ، بألمه الذي ينغرس انغراساً عضويّاً لا ينفصم في تعليم هذه البشارة الصالحة. وبعد فهذه هي الكلمة الأخيرة، الموجزة، عن هذا التعليم: “كلمة… الصليب”، على ما قال القديس بولس (44).
و”كلمة الصليب” هذه تضفي على صورة النبوّة القديمة حقيقة أبدية. وهناك مواضع كثيرة، وخطب عديدة تشهد، طوال مدّة تعليم السيد المسيح العلني، كيف أنه يقبل، منذ البدء، هذه الآلام، التي هي إرادة الآب من أجل خلاص العالم. ويبدو أن الخطوة الأخيرة هنا هي الصلاة في بستان الجسمانية وقد هتف فيها قائلاً: “يا ابتاه، إن كان يستطاع أن تعبر هذي الكأس عنّي. ولكن لا كما أشاء، بل كما تشاء”(45). ثم قال: “يا ابتاه، إن كان لا يستطاع أن تعبر هذي الكأس دون أن أشربها، فليكن ما تشاء”(46). وفي هذا الكلام كثير من البلاغة. إنه يثبت بطاعته حقيقة هذه المحبة التي يحيط بها الابن الوحيد الآب، ويشهد، في الوقت عينه، لحقيقة الألم. وكلام المسيح يثبت ببساطة تامّة حقيقة الألم البشري هذا كل الإثبات: والألم معناه تحمّل الشرّ الذي يرتعد الإنسان فرقاً أمامه، فيقول “لتعبر عنّي” كما قال المسيح في بستان الجسمانية.
وتؤكّد هذه العبارة، في وقت معاً، ما في الألم – الذي استطاع الإنسان، الذي هو ابن الله وحده، أن يختبره – من عمق وقسوة لا مثيل لهما. وتؤكّد هذين العمق والعنف اللذين تساعد الكلمات النبويّة المشار إليها آنفاً بطريقتها على أن نتفهّمها. ولا يمكننا، طبعاً، أن نتفهّمها كل الفهم (وليتسنّى لنا ذلك، يجب أن ننفذ إلى سرّ من تحمّل هذا الألم وهو سرّ الهي وبشري)، لكننا ندرك، على الأقل، الفرق (وفي الوقت عينه الشبه) الذي يمكنه أن يقوم بين كل ألم يقاسيه الإنسان وعذاب الاله – الإنسان. والجسمانية هي المكان الذي تجلّى فيه هذا الألم لبصيرة المسيح تجلّياً شبه نهائي، وفقاً للحقيقة التي أعلنها النبيّ عن الشرّ الكامن في الألم.
وبعد الكلام الذي تردّد في بستان الجسمانية، يأتي ذاك الذي قيل على الجلجلة، وهو يؤكّد عمق الألم الذي قاساه، وهو عمق فريد في تاريخ العالم. عندما صرخ المسيح قائلاً: “الهي، الهي، لماذا تركتني؟” لا يعرب قوله فقط عن هذا التخلّي الذي غالباً ما ورد ذكره في العهد القديم، وعلى الأخصّ في المزمور 22 ]21[ الذي اقتطف منه هذا القول (47). لكن يمكن القول أن الإعراب عن هذا التخلّي ناجم عن حالة الاتحاد غير المنفصم بين الابن والآب، وإنه ناجم لأن الآب “ألقى عليه اثم كلّنا”(48)، على غرار ما قال القديس بولس: “ذاك الذي لم يكن يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة لأجلنا، لنصير به برّ الله”(49). وفي الوقت عينه، ومع هذا العبء المخيف، اختبر المسيح – وهو يقيّم “كلّ” الشرّ الكامن في الخطيئة والقائم على نبذ الله – ما في اتحاد الابن بالآب من عمق الهي، واختبر اختباراً لا يعبّر عنه بشرياً هذا الألم الذي هو انفصال عن الآب وطلاق معه وقطع الصلة به. لكنه، بواسطة هذا الألم، اتمّ الفداء واستطاع أن يقول وهو يلفظ انفاسه “لقد تمّ”(50).
يمكن القول أن الكتاب قد تمّ، وتحقّقت إلى الأبد كلمات نشيد الخادم المتألّم: “والرب رضي أن يسحقه بالعاهات”(51). إن ألم الناس قد بلغ ذروته في آلام المسيح. وارتدت هذه الآلام، في الوقت عينه، بعداً جديداً كل الجدّة، ودخلت في إطار جديد: فارتبطت بالمحبة، المحبة التي حدّث عنها السيد المسيح نيقوديموس، المحبة التي تولّد الخير، وتولّده، حتى من الشرّ، وتولّده بالألم، كما أن خير العالم الأسمى، خير افتداء البشر، استخرج من صليب المسيح، ولا يزال يفيض منه باستمرار. فأصبح صليب المسيح الينبوع الذي تجري منه ماء الحياة (52). وعلينا أن نعود مجدداً فنلقي في الصليب السؤال عن معنى الألم، فنجد فيه الجواب النهائي عن هذا السؤال.
5
مشاركون في آلام المسيح
- إن هذا النشيد، نشيد المتألّم، الذي أورده سفر أشعيا، يقودنا إلى مثل هذين السؤال والجواب، عبر الآيات التالية:
“إنه إذا جعل نفسه ذبيحة اثم، يرى ذريّة، وتطول أيّامه، ومرضاة الرب تنجح على يده. لأجل عناء نفسه، يرى النور ويشبع. وبعلمه، يبرّر الصديق، عبدي، كثيرين وهو يحمل آثامهم. فلذلك أجعل الكثيرين نصيباً له، ويقتسم الغنائم والأعزاء، لأنه أفاض للموت نفسه وأحصي مع العصاة وهو حمل خطايا كثيرين وشفع في العصاة”(53).
ويمكن القول أن كل ألم بشري أصبح، مع آلام المسيح، في وضع جديد. ويبدو أن أيوب قد سبق فشعر بهذا الوضع، عندما قال: “إني لعالم بأنّ فاديّ حيّ..”(54)، وأنه وجّه، صوب هذا الوضع، ألمه الذي، لولا الفداء، لما كان بالإمكان أن يتجلّى له بملء معناه. وفي الصليب، لم يتمّ الفداء وحسب، بل أفتدي أيضاً الألم البشري عينه. والمسيح – دونما ذنب منه – حمل في ذاته “كل شرّ الخطيئة”. وبإختبار هذا الشرّ، تحدّد مدى آلام المسيح الذي يفوق كل قياس، وهي آلام أصبحت ثمناً للفداء. وعن هذا تكلّم أشعيا في نشيده عن الخادم المتألّم، وعنه تحدّث، في أيّامهم، شهود العهد الجديد الذي أبرم بدم المسيح. وإليكم ما يقول بطرس الرسول في رسالته الأولى: “فأنتم تعرفون أنكم ما افتديتم بالفاني من الذهب والفضّة من أعمالكم الباطلة التي أخذتموها عن آبائكم، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، الذي هو المسيح”(55). ويقول بولس الرسول في رسالته إلى الغلاطيين: “بذل نفسه عن خطايانا، لينجّينا من هذا العالم الشرير”(56)، وكذلك في رسالته الأولى إلى الكورنتيين: “لأنكم بثمن اشتريتم. فمجّدوا الله الآن بجسدكم”(57).
بهذه العبارات وبمثلها يتحدّث شهود العهد الجديد عن عظمة الفداء الذي تمّ بدم المسيح. لقد تألّم الفادي مكان الإنسان ومن أجل الإنسان، فأصبح لكل إنسان نصيبه في الفداء. وكلّ من يدعى إلى المشاركة في الألم الذي تمّ به الفداء، يدعى إلى المشاركة في الألم الذي به افتدي أيضاً كل ألم بشري. وعندما أتمّ المسيح الفداء بآلامه، رفع في الوقت عينه الألم البشري إلى درجة الفداء. فكل إنسان بإمكانه أن يشترك في ألمه بآلام المسيح الفادية.
- ويعرب العهد الجديد عن هذه الفكرة في مواضع عديدة وقد كتب بولس الرسول في رسالته الثانية إلى الكورنتيين، قائلا: “يشتّد علينا الضيق من كل جانب ولا ننسحق، نحار في أمرنا ولا نيأس، يضطهدنا الناس ولا يتخلّى عنا الله، نسقط في الصراع ولا نهلك، نحمل في أجسادنا كل حين آلام موت يسوع، لتظهر حياته أيضاً في أجسادنا. وما دمنا على قيد الحياة، فنحن للموت من أجل يسوع لتظهر في أجسادنا الفانية حياة يسوع أيضاً… عارفين أن الله الذي أقام الرب يسوع من بين الأموات، سيقيمنا نحن أيضاًً مع يسوع”(58).
وتحدّث القديس بولس عن أنواع الآلام، وعلى الأخصّ، عن تلك التي قاساها المسيحيون الأولون من “أجل يسوع”. وكان من شأن هذه الآلام أن تفسح في المجال لمن وجّهت إليهم هذه الرسالة، ليشتركوا في عمل الفداء الذي تمّ بفضل آلام الفادي وموته. وما كانت القيامة بما فيها من قوّة بلاغة إلاّ لتتمّ ما في الصليب من قوّة بلاغة. وفي القيامة يجد الإنسان نوراً جديداً كل الجدّة يساعده على مواصلة سيره وسط ظلمات الإمتهانات والعثرات والشك والاضطهاد. ولهذا كتب الرسول في رسالته الثانية إلى الكورنتيين أيضاً: “لأنه كما تتكاثر أوجاع المسيح فينا، يكثر بالمسيح عزاؤنا أيضاً”(59). وفي مكان آخر شجّع من خاطبهم برسالته فكتب إليهم يقول: “وربّنا يسدّد قلوبكم إلى محبة الله وثبات المسيح”(60). ويقول في رسالته إلى الرومانيين: “يا اخوتي، اناشدكم بمراحم الله أن تقيموا من أجسادكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، ومقبولة لدى الله بعبادة عقليّة (61).
إن المشاركة في آلام المسيح لكأنها تجد في هذه التعابير الرسولية بعداً مزدوجاً. إذا شارك الإنسان في آلام المسيح، فلأن المسيح فتح آلامه للإنسان، لأنه هو في آلامه الفادية اشترك نوعاً ما في كل الآلام البشرية. والإنسان لدى اكتشافه بالإيمان آلام المسيح الفادية، يكتشف في الوقت عينه فيها آلامه الخاصة، ويجدها، بفضل الإيمان، وقد اغتنت بمحتوى جديد وبمعنى جديد. وهذا الاكتشاف أوحى إلى بولس الرسول هذه العبارات البليغة في رسالته إلى الغلاطيين وهي: “مع المسيح صلبت: فلست الآن أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيّ. وإن كنت الآن أحيا بالجسد، فأنا حيّ بإيمان ابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه دوني”(62).
وقد أتاح الإيمان لكاتب هذه العبارات التعرّف إلى المحبة التي قادت المسيح إلى الصليب. وإذا كان قد أحبّ حتى الآلام والموت، فإنه بآلامه وموته يحيا أيضاً في من يحبّ، على هذا الوجه، أي إنه يحيا في الرجل: في بولس. وهو إذ يحيا فيه – على أن يعي بولس بالإيمان هذا الأمر، ويقابل المحبة بالمحبة – فإنه يتّحد اتحاداً خاصاً بواسطة الصليب بالإنسان، ببولس. وقد أوحى هذا الاتحاد كذلك إلى بولس، في رسالته عينها إلى الغلاطيين، عبارات لا تقلّ أهميّة عن تلك: “أمّا أنا، فليس لي أن أفتخر ،إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي صلب به العالم لي، وأنا به صلبت للعالم”(63).
- إن صليب المسيح يلقي على الأخصّ نوراً خلاصياً ساطعاً في حياة الإنسان وفي ألمه، لأنه ينفذ إلى الإنسان عبر الإيمان، وفي الوقت عينه، عبر القيامة: إن سرّ الآلام يكمن في السرّ الفصحي. وشهود آلام المسيح هم شهود قيامته. وهذا ما كتبه القديس بولس: “أعرف يسوع وقوّة قيامته، واشترك في آلامه، واتشبّه بموته، لعلّي استطيع بلوغ القيامة التي من بين الأموات”(64).
وفي الحقيقة، قد اختبر الرسول أولاً “قوّة القيامة”، على طريق دمشق، ولم يصل، فيما بعد، إلى “الاشتراك في آلامه”، إلاّ في هذا الضوء الفصحي الذي يتحدّث عنه مثلاً في رسالته إلى الغلاطيين. إنها فصحيّة تماماً طريق بولس: الاشتراك في صليب المسيح يتمّ عبر اختبار القائم من الموت، أي عبر اشتراك خاص بالقيامة. ولهذا غالباً ما تظهر في أحاديث الرسول عن الألم فكرة المجد التي تبدأ بالصليب.
وقد رسخ في اعتقاد شهود الصليب والقيامة بأنه “علينا أن نمرّ بضيق كثير لندخل ملكوت الله”(65). وعندما كتب بولس بعدئذ إلى التسالونيكيين قال: “إننّا نحن أيضاً نفتخر بكم… لإيمانكم وصبركم على جميع اضطهاداتكم وشدائدكم التي تحتملونها، لإظهار حكم الله العادل، لتستحقّوا ملكوته الذي في سبيله تتألّمون”(66). وهكذا، إن الاشتراك في آلام المسيح هو، في الوقت عينه، آلام من أجل ملكوت الله. وفي عين الله العادل وأمام قضائه، يصبح جميع الذين يشتركون في آلام المسيح، أهلاً لهذا الملكوت. وهم يدفعون نوعاً ما، بما يقاسون من شدائد، ثمن آلام المسيح وموته، وهو ثمن فدائنا الذي لا حدّ له: وبهذا الثمن يتوطّد مجدّداً ملكوت الله في تاريخ الإنسان، ويضحي أقصى ما يتطلّع إليه في حياته على الأرض. لقد أدخلنا المسيح بآلامه في هذا الملكوت؛ والذين يغمرهم سرّ فداء المسيح، يصبحون ناضجين للعمل على بنائه.
- ويقترن هذا التطلّع إلى ملكوت الله برجاء هذا المجد الذي ابتدأ بصليب المسيح. لقد تجلّى هذا المجد بالقيامة – المجد النهيوي – الذي حجبته على صليب المسيح، آلام قادحة. والذين يشتركون في آلام المسيح، هم أيضاًً مدعوون، بما يتحمّلون من آلام، إلى الأشتراك بالمجد. وهذا ما أعلنه بولس في مواضع مختلفة. وقد كتب إلى الرومانيين مايلي: “فنحن… بنو ميراث يسوع المسيح، إن كنا نتألم معه لنتمجّد معه. وإني أرى أن آلام هذا الزمان، لا توازي المجد المزمع أن يتجلى فينا”(67). ونقرأ في الرسالة الثانية إلى الكورنتيين: “إن ضيق هذا الزمان، وإن خفيفاً وقليلاً، يعدّ لنا مجداً عظيماً لا حدّ له إلى أبد الدهور. لأننا لا نفرح بهذه الأشياء التي ترى، بل بتلك التي لا ترى”(68). وأعلن بطرس الرسول هذه الحقيقة في رسالته الأولى، بقوله: “افرحوا لأنكم صرتم شركاء في آلام المسيح، حتى يوم ظهور مجده تفرحوا أيضاً وتبتهجوا”(69).
إن سبب الآلام والمجد يرتدي طابعاً إنجيلياً بحتاً، وهو يتوضّح وينجلي بقدر ما يرتبط بالصليب والقيامة. لقد أصبحت القيامة، قبل كلّ، مظهراً للمجد الذي يقابل ارتفاع المسيح بواسطة الصليب. ورغم أن الصليب قد تبدّى للناس كأنه تجريد للمسيح وتحقير له، فقد كان، في الوقت ذاته، تمجيداً له، في عين الله. لقد تابع السيد المسيح رسالته على الصليب وحقّقها: فهو بإتمامه إرادة أبيه، قد أثبت، في الوقت عينه، ذاته وحقّقها. وأظهر في الضعف قوّته، وفي الضعة، عظمته المسيحانية. أفلا تشهد لهذه العظمة، العبارات التي فاه بها على الجلجلة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى الأخصّ العبارة التي تتعلّق بصاليبه: “اغفر لهم، يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون”(70). ولهذه العبارات أثرها على الذين يشاركون في آلام المسيح، لما تعطيه من مثل. وبعد فالألم دعوة إلى إظهار سموّ الإنسان الأدبي ونضجه الروحي. وهذا ما برهن عنه شهداء المسيح والمعترفون في مختلف العصور، لثقتهم بهذا القول: “لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون أن يقتلوا النفس”(71).
لقد كشفت قيامة المسيح عن “مجد الدهر الآتي”، واثبتت، في الوقت عينه “مجد الصليب”: هذا المجد الكامن في آلام المسيح، والذي غالباً ما انعكس وينعكس في آلام الإنسان كصورة تظهر عظمته الروحية. ولا بدّ من الإعتراف بهذا المجد، ليس فقط لدى شهداء الإيمان، بل أيضاً لدى الكثيرين من الناس سواهم الذين، رغم أنهم لا يؤمنون بالمسيح، يتألمون أحياناً ويبذلون حياتهم في سبيل الحقيقة أو قضية أخرى عادلة. وتؤكّد مضايق هؤلاء جميعاً تأكيداً خاصاً عظمة الإنسان الفائقة.
- إن الألم هو دائماً امتحان – وأحياناً امتحان عسير – يخضع له الجنس البشري. وأنّا غالباً ما نعجب لما أوردته صفحات من رسائل القديس بولس عن التضاد الإنجيلي القائم بين الضعف والقوّة، الذي اختبره الرسول عينه، واختبره معه جميع الذين يشاطرون المسيح آلامه. وقد كتب بولس في رسالته الثانية إلى الكورنتيين: “فأنا الآن أفتخر بأمراضي مسروراً، لتحلّ عليّ قوّة المسيح”(72). وإليكم ما نقرأ في رسالته الثانية إلى تيموتاوس: “لذلك أنا أحتمل تلك الأمور ولا أستحي بها، لأني عارف بمن آمنت”(73). ويقول هو عينه في رسالته إلى الفيليبيين “فإني قويّ على كل شيّ بالمسيح الذي يقوّيني”(74).
والذين يشاطرون المسيح آلامه، يضعون نصب أعينهم سرّ الصليب والقيامة الفصحي الذي انحدر فيه السيد المسيح، بداءة بدء، إلى آخر دركات الضعف والحرمان حتى مات معلّقاً على الصليب. ولكن إذا كان، في وسط هذا الضعف، قد تمّ ارتفاعه الذي أثبتته قوّة القيامة، فهذا معناه أن بإستطاعة قوّة الله التي ظهرت في صليب المسيح أن تنفذ إلى ما في ضيقات البشر جمعاء من ضعف وتعمل فيه. وبحسب هذا المفهوم، يصبح التألّم مرادفاً على الأخص للتحسس والانفتاح على عمل قوّة الله الخلاصية التي جاء بها السيد المسيح الإنسان. لقد أكّد الله بهذا العمل أنه يريد أن يعمل خاصّة بواسطة الألم، أي بواسطة ضعف الإنسان وحرمانه، ويظهر قوّته بهما. وهذا ما يشرح الوصية التي وردت في رسالة بطرس الأولى وهي: “إذا تألّم (أحد) لأنه مسيحي، فلا يخجل، بل ليسبّح الله على الاسم هذا”(75).
ويفيض بولس الرسول في رسالته إلى الرومانيين بالكلام عن هذه الولادة، “ولادة القوّة من الضعف”، وعن هذا التجدّد الروحي للإنسان وسط التجارب والمحن. وهذا التجدّد هو دعوة خاصة للذين يشاركون في آلام المسيح: “أنّا نفتخر بشدائدنا أيضاً، لأننا نعلم أن الشدّة تكمل فينا الصبر، والصبر، الامتحان. والامتحان، الرجاء. وإن الرجاء لا يخيب، لأنه يفيض على قلوبنا محبّة الله التي وهبت لنا بالروح القدس”(76). وفي الألم دعوة خاصة للإنسان إلى الفضيلة التي ينبغي له أن يمارسها بدوره. وهي فضيلة الصبر على تحمّل الشدائد والمضايق. والإنسان، بفعله هذا، يولّد الرجاء الذي يوليه القناعة بأن المحنة لن تنال منه، وأنها لن تقوى على حرمانه الكرامة الإنسانية التي ترتبط بوعيه معنى الحياة. ويتجلّى معنى الحياة هذا، في الوقت عينه، مع عمل محبة الله الذي هو من أعظم هبات الروح القدس. وبقدر ما يشارك الإنسان في هذه المحبة، يكتشف مجدّدا أنه يتغلّب في غمرة الألم: فيجد “نفسه” التي كان قد ظنّ أنه “فقدها”(77) من جرّاء الألم.
- ولكن اختبارات الرسول المشارك في آلام المسيح تذهب إلى أبعد من ذلك. أنا نقرأ في رسالته إلى الكولوسيين عبارة كأنها تشكّل حدّا أخيراً للمسيرة الروحية المتعلّقة بالألم. وإليكم ما كتب: “وأنا أفرح بالآلام لأجلكم، فأتّمم بجسدي ما نقص من آلام المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة”(78). وهو في رسالة أخرى يسأل من بعث بها إليهم قائلاً: “أما تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح؟”(79).
في السرّ الفصحي، دشنّ المسيح اتحاده بالإنسان في جماعة الكنيسة. وهكذا يعلن عن سرّ الكنيسة، وهو أنه عندما يمنح الإنسان العماد الذي بواسطته تنطبع فيه صورة المسيح، ثم بواسطة ذبيحة المسيح – وسرّيا بالافخارستيا – تبنى الكنيسة دائماً، بوصفها جسد المسيح، روحياً، وباستمرار. وقد أراد المسيح أن يتّحد في هذا الجسد بجميع الناس، ولا سيّما المتألّمين. وتؤكد العبارات التي أوردتها الرسالة إلى الكولوسيين طبيعة هذا الاتحاد الفريدة. ومن تألّم بالاتحاد مع المسيح – على مثال ما تحمّل بولس الرسول آلامه بالاتحاد مع المسيح – لا ينهل من معين المسيح هذه القوّة التي أشرنا إليها سابقاً وحسب، لكنه يتمّ بآلامه “ما نقص من آلام المسيح”. وتبرز في هذا الإطار الإنجيلي الحقيقة المتعلّقة بطبيعة الألم الخلاق. لقد فجّرت آلام المسيح خيراً عميقاً للعالم وهو الفداء، الذي لا ينضب، ولا حدّ له وليس بامكان أحد أن يضيف إليه أية إضافة. لكن المسيح فتح نوعاً ما، في الوقت عينه، في سرّ الكنيسة التي هي جسده، آلامه الفادية على جميع آلام الناس. وعلى قدر ما يشترك الإنسان في آلام المسيح – في أيّ مكان من العالم وفي أيّ زمن من التاريخ – يتمّم على طريقته الآلام التي تمّم بها المسيح فداء العالم.
هل هذا يعني أن الفداء الذي قام به المسيح ناقص؟ كلاّ. هذا يعني فقط أن الفداء الذي أنجز بقوة المحبة التعويضية يبقى منفتحاً باستمرار على كل محبة، تعرب عن ذاتها بالألم البشري. ومن هذه الزاوية – زاوية المحبة – يتواصل، نوعاً ما، باستمرار الفداء الذي كان قد تمّ قبلاً كل التمام. لقد قام المسيح بعمل الفداء بصورة كاملة وحتى النهاية، لكنه لم يضع له في الوقت عينه حدّاً ولا ختمه: لقد انفتح المسيح في الآلام الفادية التي تمّ بها فداء الجميع، منذ البداية، وينفتح باستمرار على كل ألم بشري. أجل إن من جوهر آلام المسيح الفادية، على ما يبدو، أن تنزع إلى التمام دونما انقطاع. وهكذا افتدى المسيح العالم بآلامه الخاصة، لدى انفتاحه على آلام البشر. وهذا الفداء، رغم أنه تمّ كل التمام بآلام المسيح، فهو في الوقت عينه وعلى طريقته، يحيا وينمو في تاريخ البشر. إنه يحيا وينمو كجسد المسيح، الذي هو الكنيسة، وكل ألم بشري، في هذا المفهوم، ولاشتراك الجميع في محبة المسيح، يتمّ آلام المسيح، مثلما تتمّ الكنيسة عمل المسيح الخلاصي. إن سرّ الكنيسة – أي هذا الجسد الذي تمّم بذاته أيضاً جسد المسيح المعلّق على الصليب والقائم من الموت – يظهر هذا المدى الذي تتمّ فيه آلام البشر آلام المسيح. ومن هذا المنطلق، وبهذا المفهوم، عن الكنيسة – جسد المسيح الذي ينمو باستمرار في كل مكان وزمان، يجوز التفكير والتحدّث عمّا “ينقص” من آلام المسيح. وبعد هذا ما أوضحه الرسول، عندما كتب عن وجوب اتمام “ما نقص من آلام المسيح من أجل جسده، الذي هو الكنيسة”.
والكنيسة، التي تغرف باستمرار من كنوز الفداء التي لا تنفذ، – بإدخالها هذا الفداء في حياة البشر – هي الزاوية التي يمكن منها أن تتمّ آلام البشر دونما انقطاع، آلام المسيح الفادية. وهذا ما يبرز طبيعة الكنيسة التي هي في وقت معاً الهية وإنسانية. ويبدو أن الألم يتّسم نوعاً ما بسمات هذه الطبيعة. ولهذا فإن له في عين الكنيسة فائدة خاصة. فالألم خير تحترمه الكنيسة كل الاحترام، بكل ما لها من إيمان بالفداء، أي بما لها من عمق إيمان تتقبّل معه هذا الفداء، وتعتنق معه هذا السرّ العظيم، سرّ جسد المسيح الذي يعجز عنه الوصف.
6
إنجيل الألم
- لقد سلّم شهود صليب المسيح وقيامته إلى الكنيسة والناس، إنجيلاً خاصّاً بالألم. وكان الفادي هو أول من كتب هذا الإنجيل بآلامه التي تحمّلها بدافع من المحبة “لكيلا يهلك (الإنسان)، بل تكون له الحياة الأبدية”(80). وقد أضحت هذه الآلام، بالإضافة إلى تعليمه بالكلام الحي، ينبوعاً ثرّاً لجميع الذين شاركوا في آلام المسيح من الجيل الأول من التلاميذ والمعترفين، وبعدئذ من الأجيال التي توالت على كرّ العصور. وإن ما يعزّي أولاً – وهذا ما يؤيّده الإنجيل والتاريخ – أن نجد دائماً إلى جانب المسيح، في أول مكان وأبرزه، أمه لتعطي شهادة قد أعطتها بحياتها الكاملة لهذا الإنجيل الخاص بالألم. وقد تجمّع لها من أنواع الآلام الشديدة القاسية ما لم يثبت إيمانها غير المتزعزع وحسب، بل ساعد أيضاًً على فداء الجميع. وفي الحقيقة، أنها منذ ذلك الحديث السرّي الذي دار بينها وبين الملاك، شعرت، بما أوتيت من رسالة والدية، إن “المهمّة الموكولة إليها”، إنما هي أن تشارك مشاركة وحيدة فريدة في رسالة ابنها. وهذا ما تأكّد، بعد قليل من الزمن، سواء بما حدث لدى ميلاد يسوع في بيت لحم، أم بما تنبّأ عنه، بلهجة جازمة، سمعان الذي تحدّث عن سيف حادّ سيجوز بنفسها، أم بما كان عليها أن تقاسيه من أحزان وأوجاع لدى الهرب إلى مصر بسبب القرار الظالم الذي اتخذه هيرودس على وجه السرعة.
ومن ثمّ أن الطوباوية مريم العذراء، بعد ما قام به ابنها في حياته الخفيّة والعامة – وهو ما شاركته فيه، دونما شك، بكل ما لديها من مشاعر رقيقة – بلغت آلامها على الجلجلة ذروة لا يستطيع عقل بشري أن يتخيّلها، ولكنها ذروة، وأن خفيّة، فإنها من الناحية الفائقة الطبيعة، خصيبة على صعيد الفداء الشامل. وكان صعودها إلى الجلجلة، “ووقوفها” إلى جانب الصليب مع التلميذ الحبيب اشتراكاً خاصاً في موت ابنها الفادي، وكذلك كانت الكلمات التي سمعتها من فمه بمثابة وصيّة رسمية حفزتها على نشر هذا الإنجيل الفريد على جماعة المؤمنين كلّها.
إن الطوباوية مريم العذراء التي شهدت آلام ابنها بحضورها، وشاركت فيها بتألّمها معه، ساهمت مساهمة فريدة، في إنجيل الألم حتى لكأنها كتبت منه مع ابنها صفحات كثيرة، واتّمت بحياتها مسبقاً كلام القديس بولس في مستهلّ هذه الرسالة المشار إليها. أجل لقد كان بإستطاعتها أن تقول أنها “تتمّ بجسدها – كما فعلت في قلبها – ما ينقص من آلام المسيح”.
وفي ضوء مثل المسيح الذي لا مثيل له، هذا الضوء الذي ينعكس انعكاساً فريداً على حياة أمه، يصبح إنجيل الألم، بفضل شهادة الرسل وكتاباتهم، ينبوعاً لا ينضب للأجيال الجديدة التي تتعاقب دائماً في تاريخ الكنيسة. ويدلّ إنجيل الألم على أن ليس هناك ألم في الإنجيل كأنه أحد مواضيع البشرى الصالحة وحسب، لكنه يكشف أيضاً عن قوّة الألم الخلاصية، ومعناه الخلاصي في رسالة المسيح المسيحانية، ومن ثمّ في رسالة الكنيسة ودعوتها.
وما أخفى السيد المسيح على سامعيه ضرورة الألم. وقد قال بواضح العبارة: “من أراد أن يتبعني… فليحمل صليبه كل يوم”(81)، وقد وضع لتلاميذه قواعد أدبية لا يمكن تطبيقها إلاّ “بالكفر بالنفس”(82). والطريق الذي يؤدي إلى ملكوت السماء “ضيّق، شاقّ” ويضعه السيد المسيح في مقابل الطريق “الواسع، الرحب” الذي “يقود إلى الهلاك”(83). وغالباً ما أكدّ المسيح لتلاميذه والمعترفين به أن عليهم أن يقاسوا اضطهادات كثيرة، وهذا – على ما يبدو – ما حدث، لا في العصور الغابرة من حياة الكنيسة في الإمبراطورية الرومانية وحسب، بل أيضاً قد حدث ويحدث في مختلف أحقاب التاريخ والأمكنة، ولا يزال يحدث في عصرنا هذا.
وإليكم بعض ما قاله السيد المسيح في هذا المجال: “يلقون عليكم الأيدي، ويضطهدونكم، ويسلّمونكم إلى المجامع والسجون، ويحضرونكم أمام الملوك والولاة من أجل اسمي، فيكون لكم ذلك للشهادة. ضعوا في قلوبكم أنّكم لن تكونوا عارفين ما تحتجّون به، لأني أنا أعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع أعدائكم على مقاومتها. ويسلّمكم أباؤكم واخواتكم وأنسباؤكم وأصحابكم، ويميتون منكم، فتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي. وشعرة واحدة من رؤوسكم لا تهلك، وبصبركم تقتنون نفوسكم”(84).
ويتحدّث إنجيل الألم أولاً في مواضع مختلفة عن الألم “من أجل المسيح” و”بسبب المسيح”، وذلك بعبارات بسوع عينه، أو بعبارات رسله. ولا يخفي المعلّم عن رسله واتباعه ما سيلقون من عذابات قاسية، لكنه على العكس، يظهر لهم ذلك ويعلن، في الوقت عينه، ما سيرافقهم من أيدٍ الهي في ما يقع عليهم من اضطهادات ويصيبهم من ضيقات “من أجل اسم المسيح”. وستؤيّد هذه الآلام، بصورة فريدة، ما بينهم وبين السيد المسيح من شبه، ومعه من وحدة. “أن يبغضكم العالم، فأعلموا أنه أبغضني قبلكم… ولكن لستم من العالم. أنا اخترتكم من العالم، ولهذا يبغضكم العالم… ليس عبد أعظم من سيّده. فإن كانوا اضطهدوني، فسوف يضطهدونكم أيضاً… غير أنّهم سيفعلون بكم كلّ هذا، من أجل اسمي، لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني”(85). “قلت لكم هذا، ليكون لكم بي السلام. سيكون لكم في العالم ضيف، ولكن، تقوّوا، أنا غلبت العالم”(86).
وفي هذا الفصل الأول من إنجيل الألم الذي يتحدّث عن الاضطهادات، أي عن الضيقات من أجل المسيح، دعوة خاصة إلى رباطة الجأش وقوّة الشكيمة، بالاستناد إلى ما في القيامة من قوّة خارقة. لقد غلب المسيح العالم، في كل زمان، بقيامته. لكن، بما أن هذه القيامة ترتبط بالألم والصليب، فقد غلب المسيح، في الوقت عينه، العالم بآلامه. أجل لقد اندرج الألم، بطريقة خاصة، في هذه الغلبة على العالم التي ظهرت في القيامة ويحتفظ المسيح في جسده القائم من الموت بآثار جراح الصليب: في يديه، ورجليه، وجنبه، وهو يظهر بالقيامة قوّة الألم الظافرة، ويرسّخ الأعتقاد بجدوى هذه القوّة، سواء أكان في نفوس الرسل الذين اختارهم، أم في نفوس الذي لا يزال يختارهم ويرسلهم. ولهذا يقول الرسول: “فجميع الذين يريدون أن يحيوا بخوف الله، فبيسوع المسيح يُضطهدون”( 87).
- إذا كان الفصل الأول الكبير من إنجيل الألم يكتبه، عبر الأجيال، أولئك الذين يقاسون الاضطهاد من أجل المسيح، فإن هناك فصلاً آخر كبيراً من هذا الإنجيل يُكتب على مرّ التاريخ، و يكتبه جميع أولئك الذين يتألمون مع المسيح، فيقرنون آلامهم البشرية بآلامه الخلاصية، ويتمّ فيهم ما قاله أو كتبه شهود الآلام والقيامة الأولون في المشاركة في آلام المسيح. ويتمّ فيهم بالتالي إنجيل الألم، ويواصل، في الوقت عينه، كل منهم كتابته، نوعاً ما: يكتبه ويعلنه على العالم، ويعلنه على محيطه ومعاصريه.
وقد تبينّ، عبر العصور والأجيال، أن هناك قوّة فريدة تكمن في الألم وتربط الإنسان ارتباطاً وثيقاً بالمسيح، وهذه نعمة خاصة. وهناك قديسون عديدون مثل القديس فرنسيس الأسيزي، والقديس أغناطيوس دي لويولا وسواهم، مدينون بإرتدادهم الأصيل لهذه النعمة. ولا ينحصر مفعول هذا الارتداد في اكتشاف الإنسان معنى الألم الخلاصي وحسب لكنه يجعل، على الأخص، من هذا الإنسان، بفضل الألم، إنساناً جديداً كل الجدّة؛ حتى لكأنه يسعى إلى هدف جديد من وراء تصرّفاته في حياته وتحقيقه دعوته. وإن ما يكتشفه الإنسان، بهذه الطريقة، ليثبت خاصة عظمة الروح الذي يفوق فيه الجسد بما لا يضاهى. وعندما يمرض هذا الجسد مرضاً شديداً، وتخذله قواه حتى، ليكاد الإنسان، لا يقوى على الحياة والعمل، يبرز إذ ذاك النضج الباطني، والعظمة الروحية. وفي هذا عبرة بليغة للأصحّاء. وهذا النضج الباطني، وهذه العظمة الروحية في الألم، هما، على وجه التأكيد، ثمرة ارتداد خاص، وعمل متضافر مع نعمة الفادي المعلّق على الصليب. والفادي هو من يعمل في أعماق الآلام البشرية بواسطة روحه، روح الحقّ، الروح المعزّي. وهو من يغيّر، على نحو ما، جوهر الحياة الروحية، عندما يظهر للمريض أنه واقف إلى جانبه. وهو،- معلّماً وقائداً للنفوس – من يعلّم الإخوة والأخوات المتألّمين، هذا التبادل العجيب، القائم في صميم سرّ الفداء. إن الألم من طبعه هو اختبار للشرّ. لكن المسيح وضع فيه أساساً وطيداً للخير الباقي، أعني خير الخلاص الأبدي. وعندما تألّم المسيح على الصليب، نفذ إلى أصل الشرّ، وهو الخطيئة والموت. لقد تغلّب على صانع الشرّ، أي الشيطان، وعلى ثورته الدائمة على الله. ويفتح المسيح للإخوة والأخوات المتألّمين تدريجياً آفاق ملكوت الله ويرشدهم إلى عالم مرتدّ إلى الخالق، محرّر من الخطيئة، عالم ينهض شيئاً فشيئاً على قوّة المحبة الخلاصية. ويدخل المسيح الإنسان الخاضع للألم، خطوة خطوة، إنما بطريقة أكيدة، من خلال الألم عينه، في هذا العالم، عالم ملكوت الآب. ذاك أنه لا يمكن تحويل الألم وإنضاجه من الخارج، بل من الداخل بواسطة النعمة. ويقيم المسيح بآلامه الخلاصية في صميم كل ألم بشري، وبإستطاعته أن يعمل من داخله بقوّة روحه، روح الحق، روحه المعزّي.
وليس هذا وحسب. إن الفادي الإلهي يرغب في الدخول إلى نفس كل متألم، من خلال قلب أمه الطوباوية، باكورة جميع المفتدين، وقمّتهم. والمسيح، وقد أشرف على الموت، وتقديراً منه للأمومة التي أبصر بواسطتها النور، بفعل الروح القدس، لكأنه منح الطوباوية مريم الدائمة البتولية عينها أمومة جديدة – وهي أمومة روحية شاملة – تعمّ جميع الناس، لكي يرتبط به معها، حتى الصليب، كل من سار على هدي الإيمان على الأرض، ويتحوّل، بقوّة الصليب، كل ألم ناشئ عن ضعف الإنسان، ،إلى قوّة الله.
لكن هذه المسيرة الباطنية لا تتمّ دائماً بالطريقة ذاتها. فهي غالباً ما تبدأ وتتركّز بصعوبة. ذاك أن هناك إختلافاً منذ البداية: ويختلف تصرّف الإنسان تجاه الألم بإختلاف استعداده النفساني. غير أنه بالإمكان أن نلاحظ هذا: وهو أنه ما من أحد قارب الألم إلاّ واحتجّ تقريباً دائماً من ذات طبعه، وتساءل قائلاً: “لماذا”؟ كلّ يبحث عن معنى الألم، ويبحث عن جواب لهذا السؤال على الصعيد الإنساني. وهو طبعاً يلقي أيضاً هذا السؤال، مرات عديدة، على الله وعلى المسيح. ولكن الإنسان يفهم حق الفهم أن من يسأله يتألم هو أيضاً وأنه يريد أن يجيبه من على الصليب، أي من أعماق آلامه. لكن، لا بدّ من فترة، وفترة كبيرة من الزمن ليصبح بالامكان اكتناه هذا الجواب. ذلك أن المسيح لا يجيب مباشرة، ولا بطريقة نظريّة، على سؤال الإنسان عن معنى الألم. ويسمع الإنسان الجواب الخلاصي على قدر ما يصبح، مع الوقت، شريكاً في آلام المسيح.
والجواب الذي يعطى، عن طريق مشاركة من هذا النوع، في علاقة باطنية مع المعلّم، هو أكبر من جواب بسيط نظري عن معنى الألم. إن جواب المسيح هو، قبل كلّ، نداء، لا بل إنه دعوة. ولا يشرح المسيح أسباب الألم، شرحاً مجرّداً عن الوقائع، لكنه، قبل كلّ، يقول: “اتبعني”. تعال. كن بآلامك مشاركاً في هذا العمل من أجل خلاص العالم، العمل الذي يتمّ بآلامي، بصليبي. وعندما يحمل الإنسان صليبه، يصبح مشدوداً روحياً إلى صليب المسيح، ويتّضح له معنى الألم الخلاصي. ولا يجد الإنسان هذا المعنى، بوصفه إنساناً، بل من خلال آلام المسيح. وينحدر حينئذ معنى الألم الشخصي هذا عن مستوى المسيح إلى المستوى البشري، ويضحي نوعاً ما جواباً له شخصياً. وإذ ذاك يجد الإنسان في ألمه السلام الباطني، وكذلك الفرح الروحي.
- وقد تحدّث الرسول عن هذا الفرح في رسالته إلى الكولوسيين فقال: “وأنا أفرح بالآلام لأجلكم”(88). والتغلّب على الشعور بعدم فائدة الألم يصبح ينبوع فرح، وهو شعور يتأصل أحياناً في الألم البشري. ولا ينهك هذا الألم الإنسان في أعماقه وحسب، بل يجعله عالة على سواه. فيشعر بالحاجة إلى قبول المساعدة والعناية من الآخرين، ويبدو لذاته، في وقت معاً، كأنه عديم الفائدة. وهكذا يبدّل اكتشاف معنى الألم الخلاصي لدى المؤمن الذي يتحمّله مع المسيح هذا الشعور المحزن. والإيمان بالاشتراك في آلام المسيح يحمل معه اليقين الباطني بأن من يتألّم “يتمّ ما ينقص من آلام المسيح”، وهذا ما يؤول، في المفهوم الروحي لعمل الفداء، وعلى نحو ما أراد السيد المسيح، إلى خلاص أخوته وأخواته. فهو إذن لا يفيد الآخرين وحسب، بل يقوم بمهمّة لا يمكن أن يقوم بها سواه. وفي جسد المسيح الذي ينمو باستمرار، إنطلاقاً من صليب الفادي، لابدّ من الألم المتشرّب قوّة ذبيحة المسيح، وسيطاً وينبوعاً لخيور تؤول حتماً بطبيعتها إلى خلاص العالم. ويشقّ هذا الألم، أكثر من أيّ شيء آخر، الطريق إلى النعمة التي تغيّر نفوس البشر، ويجعل قوى الفداء حاضرة في التاريخ البشري وفاعلة فيه. وفي هذا الصراع “الكوني” بين قوى الخير والشرّ الروحية، والذي أشارت إليه الرسالة إلى الأفسسيين (89)، تدعم آلام البشر المقرونة بآلام المسيح الفادي، دعماً خاصاً، قوى الخير وتساعد كثيراً على انتصار هذه القوى الخلاصية.
وتحسب الكنيسة جميع أخوة المسيح وأخواته الذين يتألّمون، شخصاًَ متعدّداً يشّع بقوّتها الإلهية. وغالباً ما يلجأ رعاة الكنيسة إليهم ويسألونهم العون والمدد. وإنجيل الألم يكتب باستمرار ويروى بكلمات تعبّر عن شؤون عجيبة تخالف الرأي المألوف: ذلك أن ينابيع القوّة الإلهية تتفجّر من قلب الضعف البشري. والذين يشتركون في آلام المسيح يحتفظون في آلامهم الخاصة بجزء فريد من كنز فداء العالم الغير المتناهي. وبإمكانهم أن يتقاسموا هذا الكنز وسواهم. وبقدر ما تهدّد الخطيئة الإنسان، وبقدر ما تشتدّ وطأة الخطيئة التي يحملها العالم في ذاته، تتعاظم أهمية الآلام البشرية، وتضطرّ الكنيسة إلى استخدام ما في الألم البشري من خير لأجل خلاص العالم.
7
السامري الصالح
- وفي إطار إنجيل الألم يندرج أيضاً – عضوّياً – مثل السامري الصالح. وقد أجاب المسيح، في هذا المثل، السائل عن “من هو قريبي”(90)، وفي الواقع، من بين الثلاثة الذي كانوا منحدرين من أورشليم إلى أريحا، على الطريق الذي كان ملقى عليه، وهو شبه ميت، رجل سلبه اللصوص وجرحوه، إن السامري هو من أظهر عن نفسه بأنه في الحقيقة قريب من ذلك المسكين: وتعني لفظة قريب، في وقت معاً، من يتمّ وصية المحبة تجاه القريب. وكان هناك مسافران آخران يسلكان الطريق عينه: وكان الأول كاهناً والآخر لاوّياً، “وكلاهما رآه وعبر”. أمّا السامري، “فرآه فرحمه، فدنا وضمّد جراحه” ثم “أتى به الفندق وأهتمّ به”(91). ولدى رحيله، أوصى صاحب الفندق بالأهتمام بالرجل الذي كان يتألم، وتعهّد بأن يدفع له النفقات اللازمة.
إن مثل السامري الصالح يدخل في إطار إنجيل الألم. وهو يظهر الطريقة التي يجب على كل منا أن يتّبعها مع قريب يتألم. فلا يجوز لنا إذن أن “نعبر” غير مبالين، لكن علينا أن “نتوقّف” إلى جانبه. إنه سامري صالح كل من يقف إلى جانب آلام رجل آخر، أيّاً تكن هذه الآلام. ويجب ألاّ يكون هذا الوقوف فضولاً، بل نفساً مستعدّة للمساعدة، بحيث يصبح كأنه ملكة راسخة في قلب الإنسان تحمله على الإنفتاح والإستجابة لمعاني التأثّر والشفقة. إنه سامري صالح كل من يتأثّر لآلام الآخرين “وتأخذه الشفقة” لمصائب القريب. وإذا كان السيد المسيح، الذي يعرف جيداً ما في الإنسان، يظهر مثل هذه المشاعر من التأثّر، فلأنه يريد بذلك أن يوّلد فينا مثلها أزاء ما يقاسيه الآخرون من آلام. فيجب إذن تعهّد هذه الطاقة من المشاعر القلبية التي تدلّ على عاطفة شفقة تجاه من يتألّم. وهي قد تكون أحياناً التعبير الوحيد أو الأهمّ عن محبتنا لمن حلّ بع الألم وعن تضامننا معه.
ولكن هذا السامري في المثل الذي ضربه السيد المسيح لا يكتفي بمشاعر التأثّر والشفقة: لقد كانت هذه حافزاً له على القيام بما يجب من مساعدة للجريح. وعلى الجملة، أنه سامري ذاك الذي يسعف المتألم، أيّاً تكن آلامه، ويحمل إليه، على قدر المستطاع، المساعدة الناجعة. إنه يبذل من قلبه، لكنه لا يهمل المعونة الماديّة. ويمكن التأكيد أنه يعطي ذاته “الأنا” الخاصة به، ويفتحها على الآخرين. ونصل هنا إلى أهمّ فصول علم الإنسان في المفهوم المسيحي. ولا يمكن الإنسان أن “يجد ذاته كاملة، ما لم يهب هذه الذات هبة خالصة”(92). إنه سامري صالح ذاك الذي بإمكانه أن يقوم بهذه الهبة، هبة الذات.
- يمكن القول، لدى التوقّف على المثل الإنجيلي، أن الألم الموجود بين الناس بإشكال متعدّدة، إنما هو بينهم لكي يحمل الإنسان على اطّراح الاثرة، ويوقظ فيه المحبة أي هبة الذات، من أجل من نالتهم الآلام من الناس. وإن عالم الألم البشري يستدعي، إذا جاز التعبير، عالماً آخر يقوم على المحبة البشرية. وبعد فالألم، إنما هو حافز للإنسان على تناسي منفعته الخاصة، وإضرام المحبة في قلبه وتجسيدها بالأعمال. ولا يجوز للإنسان “القريب” أن يمرّ وهو غير مبال بما يرى من آلام الآخرين، وذلك لما بين الناس من رابطة تضامن، وعلى الأخص لما يجب أن يشدّهم من أواصر محبة. وعليه أن “يتوقف” و”يتأثّر”، ويتصرف على مثال السامري في المثل الإنجيلي. ويكشف هذا المثل بحدّ ذاته، عن حقيقة مسيحية راهنة، وهي، في الوقت ذاته، حقيقة إنسانية شاملة. ولا يدعى عبثاً عمل “سامريٍّ صالحٍ” في اللغة المتداولة كلّ ما يعمل في سبيل المتألمين والمحتاجين إلى المساعدة.
وقد ارتدى هذا العمل، على مرّ العصور، صيغاً رسمية، منظّمة، وأوجد شبه قطاع عمل خاص بكل مهنة، من مثل مهنة الطبيب أو الممرّضة وما شابه. وكل منهما إنما هو عمل “سامري صالح”. ونظراً إلى ما في هذا العمل من نفحة إنجيلية، إنا لنميل إلى التفكير بأنه دعوة أكثر منه مهنة. وقد تنامت في أيامنا المؤسسات التي قامت، عبر العصور، بخدمة “الراعي الصالح”، واتخذت لها حقول اختصاص. وهذا ما يثبت دونما شك، أن الناس يولون، في عصرنا، آلام القريب، اهتماماً ووعياً متزايدين، ويسعون إلى تفهّمها والحيلولة دون حدوثها. ويزداد التخصّص في هذا الحقل، يوماً بعد يوم، ويتعمّق الاطّلاع الفّني، ويتّسع حقل الممارسة. وإذا نظرنا إلى ذلك كلّه، أمكننا القول، بحق، أن مثل السامري الصالح أصبح جزءاً هامّاً من الثقافة الأدبية والحضارة الإنسانية الشاملة. وإذا ما نظرنا أيضاً إلى جميع الذين يساعدون، بعملهم وخبرتهم، بطرق شتّى، القريب الذي يشكو الألم، لا يمكننا إلاّ أن نتوجه إليهم بالشكر ونعرب لهم عن خالص الامتنان.
ونريد أيضاً أن نوجّه مثل هذا الشكر إلى جميع الذين، دونما التفات إلى راحتهم، ينصرفون إلى خدمة القريب المتألّم، ويبذلون من ذاتهم للمساعدة على مثال “السامري الصالح”، ويخصّصون، خارج نطاق عملهم المهني، كلّ ما يتبقّى لهم من وقت وقوى، في هذا السبيل. وهذا النشاط الاختياري، نشاط “الراعي الصالح”، أو واجب المحبة، يمكن تسميته بالنشاط الإجتماعي، أو أيضاً بالرسالة، كلّما بُذل لأغراض إنجيلية حقيقية، وخاصة، إذا تمّ بالنظر إلى الكنيسة أو إلى أيّة جماعة مسيحية. ويمارس عمل “السامري الصالح” الاختياري في الأوساط الملائمة، أو بواسطة مؤسسات أنشئت لهذه الغاية. ولهذا النشاط الذي يتمّ، بهذه الطريقة، أهمية كبرى، على الأخصّ عندما يجب القيام بمهمات كبيرة تستوجب تضافر الجهود واستعمال وسائل فنيّة. وليس عمل الأفراد باقّل قدراً، على الأخص عندما يقوم به أشخاص يقبلون على مختلف أنواع الأمراض والآلام البشرية، فيعملون على التخفيف منها شخصياً بعمل فردي. وأما المساعدة العائلية، فتعني أمّا مبادرة القريب من أعضاء العائلة الواحدة بأعمال المحبة، وأمّا المساعدة المتبادلة بين العائلات.
وليس من السهل تعداد جميع أنواع نشاط “السامري الصالح” هنا، ولا مختلف حقوله في الكنيسة والمجتمع البشري. غير أنه لا بدّ من الإقرار بأنها كثيرة، ومن الإعراب عن مشاعر الفرح لكون القيم الأدبية الأساسية، من مثل قيمة التضامن بين الناس، والمحبة المسيحية للقريب، تصوغ، عبر أنواع هذا النشاط، وجه الحياة الإجتماعية والعلاقات بين الناس، في حين يشوّهه، في هذا المجال، مختلف أنواع البغض، والعنف، والقسوة، واحتقار الإنسان، أو فقط “إهمال القريب” أي اللامبالاة به وبآلامه.
ومن الأهميّة بمكان التشديد هنا على ما يجب الأخذ به من مبادئ في التربية. وعلى العائلة، والمدرسة، وسائر المؤسسات المعنيّة بالشؤون التربوية – ولو فقط لأسباب إنسانية – أن تسعى دائبة إلى إيقاظ هذه الرّقة من المشاعر تجاه القريب وآلامه، والعمل على تنميتها. وقد أصبح هذا السامري الإنجيلي صورة عنها. وواضح أن على الكنيسة أيضاً أن تعمل – وإذا أمكن بطريقة أعمق – على استكشاف الأسباب التي أعطاها المسيح في هذا المثل وفي الإنجيل بكامله. وترتكز أهميّة مثل السامري الصالح كالإنجيل بمجمله، قبل كلّ، على هذا وهو: أن على الإنسان أن يشعر بأنه مدعو إلى القيام بدور أساسي في مجال تأدية شهادة المحبة في الألم. ولا شك في أن للمؤسسات أهميّتها ولا غنى عنها، غير أنه ما من مؤسّسة تستطيع بذاتها أن تقوم مقام القلب البشري، والعاطفة الإنسانية، عندما يجب الذهاب إلى ملاقاة ألم الغير. وهذا يصحّ في آلام الجسد، لكنه يصحّ بأولى حجّة في الآلام المعنويّة، وعلى الأخص، في آلام النفس.
- إن مثل السامري الصالح الذي – على ما قلنا – يندرج في إطار إنجيل الألم، يخترق مع الإنجيل تاريخ الكنيسة والمسيحية، وتاريخ الإنسان والبشرية. وهو يشهد أن ما كشف عنه المسيح من معنى الألم الخلاصي ليس، في أيّ حال، مرادفاً للامبالاة. لا بل أن العكس هو الصحيح. والإنجيل يحارب اللامبالاة حيال الألم. والمسيح في هذا المجال فعّال جدّاً. وهكذا فإنه ينفّذ مخطّط رسالته المسيحاني، على ما يقول النبي: “روح الربّ عليّ، ولهذا مسحني، لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي للمسبييّن بالأفراح، وللعميان بالبصر، وللمأسورين بالتخلية، وأعلن السنة المقبولة للربّ”(93). وقد أتمّ المسيح هذا المخطّط المسيحاني في رسالته على أكمل وجه: فمرّ وهو “يحسن إلى الناس”(94)، وتبرز مآتيه الخيّرة بالتخفيف من الآلام البشرية. وينسجم مثل السامري الصالح كل الإنسجام مع تصرّف المسيح عينه.
ويندرج أخيراً هذا المثل، من حيث موضوعه الأساسي، في عبارات الدينونة الأخيرة التي تضطرب لها النفس، والتي أوردها متّى في إنجيله: “هلمّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المعدّ لكم من قبل إنشاء العالم. لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعدتموني، ومحبوساً فزرتموني”(95). ويجيب ابن الإنسان الأبرار الذين سألوه متى صنعوا له هذا كلّه، بقوله: “الحق أقول لكم: إن كلّ ما صنعتموه إلى أحد أخوتي هؤلاء الصغار، فإليّ صنعتموه”(96). ويصدر حكماً مخالفاً على الذين تصرّفوا خلاف ذلك، فيقول: “إن ما لم تصنعوه إلى أحد أخوتي هؤلاء الصغار، فإليّ لم تصنعوه”(97).
ويمكن، على وجه التأكيد، إطالة لائحة الآلام التي أثارت مشاعر التعاطف الإنساني والشفقة، والمساعدة، أو إنها لم تثرها. وأعلانا السيد المسيح الأول والثاني، بشأن الدينونة الأخيرة، يشيران، دونما إبهام وبكلّ وضوح، إلى كم هو هامّ – نظراً إلى الحياة الأبدية بالنسبة إلى كل إنسان – هذا “التوقف”، على مثال ما فعل السامري، على آلام القريب، و”الشفقة” عليه، وأخيراً مساعدته. ووجود الألم في العالم، في مخطّط المسيح المسيحاني، الذي هو مخطّط ملكوت الله، من شأنه استثارة مشاعر المحبة، والحثّ على نشاطات محبة في جانب القريب، وتحويل الحضارة الإنسانية، إلى “حضارة محبة”. وفي هذه المحبة، يتحقّق تماماً معنى الألم الخلاصي، ويبلغ مداه الأخير. وكلام السيد المسيح، في الدينونة الأخيرة يشرح هذا كلّه ببساطة الإنجيل ووضوحه التام.
وهذه الأقوال في المحبة، وأعمال المحبة المرتبطة بالألم البشري، تكشف لنا مرّة جديدة عن أنّ آلام المسيح الفادية تكمن في جميع الآلام البشرية. لقد قال المسيح: “إليّ صنعتموه”. إنه هو من يختبر المحبة، في كل إنسان، وهو من يتلقّى المساعدة، عندما تحمل هذه إلى كل شعب، دونما تمييز. وهو من هو حاضر في من يتألمّ، لأن ألمه الخلاصي قد امتدّ، مرّة وإلى الأبد، إلى كل الأبد، إلى الاشتراك في “آلام المسيح”(98). وكذلك إنهم جميعاً ملزمون “بإتمام” “ما ينقص من آلام المسيح”(99) بآلامهم. لقد علّم المسيح، في الوقت عينه، الناس أن يصنعوا الخير بواسطة الألم، وأن يصنعوا الخير لمن يتألّم. ومن هذا الباب المزدوج أطلّ علينا بمعنى الألم العميق.
8
الختام
- هذا هو، في الحقيقة، معنى الألم الفائق الطبيعة والبشري، في آن معاً. إنه فائق الطبيعة لأنه راسخ في السرّ الإلهي، سرّ فداء العالم. وهو، في الوقت عينه، بشري تماماً لأن الإنسان يجد فيه ذاته، وإنسانيته، وكرامته، ورسالته.
ممّا لا شك فيه أن الألم هو من سرّ الإنسان. لعلّ الألم لا يلّفه هذا السرّ المغلّف بإحكام، كما يلّف الإنسان. وقد أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الحقيقة بقوله: “في الحقيقة لا ينجلي سرّ الإنسان تماماً إلا في سرّ الكلمة المتجسّد… لأن المسيح، آدم الجديد، أظهر، تماماً لدى كشفه عن سرّ الآب ومحبته، الإنسان للإنسان وأوضح له دعوته السامية”(100). وإذا كان هذا القول يتناول كل ما يتعلّق بسرّ الإنسان، فهو يتناول، على وجه الخصوص، الألم البشري. ومن الضرورة، في هذا المجال، أن “يظهر الإنسان للإنسان، وتتّضح له دعوته السامية”. قد يحدث – وهذا ما يثبته الأختبار – أن يكون في ذلك صعوبة بالغة. لكن إذا تحقّق ذلك وانعكس نوره على الحياة البشرية، كان مصدر سعادة. “بالمسيح وفي المسيح ينجلي لغز الألم والموت”(101).
ونختم هذه الخواطر في الألم، في هذه السنة التي تحتفل فيها الكنيسة باليوبيل الاستثنائي الخاص بذكرى الفداء. وسرّ الفداء البشري راسخ رسوخاً عجيباً في الألم، وهذا الألم يرتبط بدوره بهذا السرّ العميق.
وأنّا نرغب في قضاء سنة الفداء هذه بالاتّحاد الوثيق بجميع الذين يتألّمون. فينبغي إذن أن يجتمع، بالفكر والعقل، في ظلّ صليب الجلجلة، جميع المتألمين الذين يؤمنون بالمسيح، وعلى الأخص الذين يعنّتون بسبب إيمانهم بذاك الذي علّق على الصليب وقام، لكي تعجّل تقدمتهم آلامهم في تحقيق صلاة المخلّص عينه من أجل وحدة الجميع (102).
وليجتمع هناك أيضاً أصحاب الإرادة الصالحة، لأن “فادي الإنسان” هو على الصليب، أي رجل الأوجاع الذي أخذ على عاتقه آلام الناس الجسدية والنفسية، عبر كلّ الأزمنة، لكي يتمكّنوا، في المحبة، من تفهّم معنى آلامهم الخلاصي والأجوبة الراهنة على كل الأسئلة التي تطرحها. وبالإتحاد مع مريم، أمّ المسيح، التي كانت واقفة حذاء الصليب (103)، نقف لنرى جميع صلبان أناس اليوم.
ونتضرع إلى جميع القديسين الذين شاركوا، على مرّ العصور، مشاركة خاصّة، في آلام المسيح، ونلتمس منهم المساندة. ونسألكم جميعاً، أنتم الذين يقاسون الآلام، أن تساندونا. ونطلب منكم، أنتم المرضى والضعفاء، أن تكونوا كينبوع قوّة للكنيسة وللبشرية. وفي هذا الصراع الهائل بين الخير والشرّ، الذي يتّخذ من عصرنا مسرحاً له، لتكن الغلبة لألمكم المقرون بصليب المسيح.
ونمنحكم جميعاً، أيها الأخوة والأبناء الأحباء، بركتنا الرسولية.
أعطي في روما، قرب القديس بطرس، في اليوم
الحادي عشر من شهر شباط، في ذكرى الطوباية مريم،
عذراء لورد، 1984، السادسة لحبريتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1- كولوسي 1، 24
2- الموضع ذاته.
3- روم 8، 22
4- راجع عدد 14؛ 18؛ 21؛ 22: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص ص 284 – 285؛ 304؛ 320؛ 323
5- على ما قاساه حزقيا (راجع أشعيا 38، 1 – 3).
6- على ما كانت تخشاه هاجر (راجع تك 15 – 16)، ما توهّمه يعقوب (راجع تك 37، 33 – 35)، وما اختبره داود (راجع 2 صموئيل 9، 1).
7- هذا ما كانت تخشاه حنه والدة طوبيا (راجع طوبيا 10، 1 – 7؛ راجع أيضاً أرميا 6، 26؛ عاموص 8، 10؛ زكريا 12، 10).
8- هذه كانت تجربة ابراهيم (راجع تك 15، 2)، وراحيل (راجع تك 30، 1)، وحنه، والدة صموئيل (راجع 1 صموئيل 1، 6 – 10).
9- على ما تعرب عنه مراثي سبي بابل (راجع مز 137 ]136[).
10- هذا ما تعرّض له المرتّل، مثلاً (راجع مز 22 ]21[، 17 – 21) أو أرميا (راجع 18، 18).
11- هذا ما حدث لأيّوب (راجع أيّوب 19، 18؛ 30، 1، 9)، ولبعض المرتلين (راجع مز 22 ]21[، 7 – 9؛ 42 ]41[، 11؛ 44 ]43[، 16 – 17)، ولأرميا (راجع أرميا 20، 7)، وللخادم المتألم (راجع أشعيا 53، 3).
12- وهذا ما تألم له بعض المرتلين (راجع مز 22 ]21[، 2 – 3؛ 31 ]30[، 13؛ 38 ]37[، 12؛ 88 ]87[، 9، 19)، أرميا (راجع أرميا 15، 17) أو الخادم المتألم (راجع أشعيا 53، 3).
13- هذا ما عانى منه المرتّل (راجع مز 51 ]50[، 5)، وشهود آلام الخادم (راجع أشعيا 53، 3 – 6)، والنبي زكرّيا 12، 10).
14- هذا ما تألم منه المرتّل (راجع مز 73 ]72[، 3 – 14)، والجامعة (راجع الجامعة 4، 1 – 3).
15- هذا ما عاناه أيّوب (راجع أيوب 19، 19)، وبعض المرتّلين (راجع مز 41 ]40[، 10؛ 55 ]54[، 13 – 15)، وأرميا (راجع أرميا 20، 10)؛ وكان ابن سيراخ يتأمل في هذا الشقاء (راجع سيراخ 37، 1 – 6).
16- ما عدا مقاطع عديدة من المراثي، انظر في شكاوى المرتلين (راجع مز 44 ]43[، 10 – 17؛ 77 ]76[، 3 – 11؛ 79 ]78[، 11؛ 89 ]88[، 51) أو الأنبياء (راجع أشعيا 22، 4؛ أرميا 4، 8؛ 13، 17؛ 14، 17 – 18؛ حزقيال 9، 8؛ 21، 11 – 12)؛ انظر أيضاً صلوات عازريا (راجع دانيال 3، 31 – 40) ودانيال (راجع دانيال 9، 16 -19).
17- راجع مثلاً أشعيا 38، 13؛ أرميا 23، 9؛ مز 31 ]30[، 10 – 11؛ مز 42 ]41[، 10 – 11
18- راجع مثلاً مز 73 ]72[، 21؛ أيوب 16، 13؛ مراثي 3، 13
19- راجع مراثي 2، 11
20- راجع أشعيا 16، 11؛ أرميا 4؛ 19؛ أيوب 30، 27؛ مراثي 1، 20
21- راجع 1 صموئيل 1، 8؛ أرميا 4، 19؛ 8، 18؛ مراثي 1، 20 – 22؛ مز 38 ]37[، 9 و 11
22- من المفيد التذكير بأن الجذر العبراني: (راع)، يشير، على وجه الأجمال، إلى ما هو شرّ، في مقابل ما هو خير (طوب)، دونما تمييز بين المعنى الطبيعي، والنفساني، والأدبي. ونجده في الصيغة الأسميّة (راع) و (راعَعْ) التي تدلّ، على السواء، على الشرّ بحدّ ذاته، أو العمل السّيء، أو من يقوم به. وفي الصيغ الفعلية نجد أيضاً، بالإضافة إلى الصيغة المجرّدة، (قَلْ، فَعَل) التي تدلّ، بطريقة مختلفة، على “ما هو شرّ”، الصيغة المنعكسة – الأنفعالية، (نِفْعَل)، ويقابلها بالعربية انفعل، ” قاسي الشر”، “حلّ به الشر” والصيغة السببيّة (هِفْعِيْل) ويقابلها بالعربية أفعل، “صنع”، “أنزل الشرّ” بأحدهم. ولما كانت اللغة العبرية تفتقر إلى اللفظة اليونانية المقابلة لصيغة، (باسيو)، “أتألم”، لذلك فهي قلّما ترد في النسخة السبعينيّة.
23- دانيال 3، 27 – 28؛ راجع مز 19 ]18[، 10؛ 36 ]35[، 7؛ 48 ]47[، 12؛ 51 ]50[، 6؛ 99 ]98[، 4؛ 119 ]118[، 75؛ ملاخيا 3، 16 – 21؛ متّى 20، 16؛ مر 10، 31؛ لو 17، 34؛ يو 5، 30؛ روم 2، 2
24- أيّوب 4، 8
25- أيّوب 1، 9 – 11
26- راجع 2 مكابيين 6، 12
27- يو 3، 16
28- أيّوب 19، 25 – 26
29- يو 1، 29
30- تكوين 3، 19
31- يو 3، 16
32- أعمال 10، 38
33- راجع متّى 5، 3 – 11
34- راجع لوقا 6، 21
35- مر 10، 33 – 34
36- راجع متّى 16، 23
37- متّى 26، 52 و 54
38- يو 18، 11
39- يو 3، 16
40- غلا 2، 20
41- أشعيا 53، 2 – 6
42- يو 1، 29
43- أشعيا 53، 7 – 9
44- راجع 1 كور 1، 18
45- متّى 26، 39
46- متّى 26، 42
47- مز 22 ]21[، 2
48- أشعيا 53، 6
49- 2 كور 5، 21
50- يو 19، 30
51- أشعيا 53، 10
52- راجع يو 7، 37 – 38
53- أشعيا 53، 10 -12
54- أيّوب 19، 25
55- 1 بطر 1، 18 – 19
56- غلا 1، 4
57- 1 كور 6، 20
58- 2 كور 4، 8 – 11 و 14
59- 2 كور 1، 5
60- 2 تيمو 3، 5
61- روم 12، 1
62- غلا 2، 19 – 20
63- غلا 6، 14
64- فيليبي 3، 10 -11
65- أعمال 14، 22
66- 2 تيمو 1، 4 -5
67- روم 8، 17 – 18
68- 2 كور 4، 17 -18
69- 1 بطر 4، 13
70- لو 23، 34
71- متّى 10، 28
72- 2 كور 12، 9
73- 2 تيمو 1، 12
74- فيليبي 4، 13
75- 1 بطر 4، 16
76- روم 5، 3 – 5
77- راجع مر 8، 35؛ لو 9، 24؛ يو 12، 25
78- كولوسي 1، 24
79- 1 كور 6، 15
80- يو 3، 16
81- لو 9، 23
82- راجع لو 9، 23
83- راجع متّى 7، 13 -14
84- لو 21، 12 -19
85- يو 15، 18 – 21
86- يو 16، 33
87- 2 تيمو 3، 12
88- كولوسي 1، 24
89- راجع أفسس 6، 12
90- لو 10، 29
91- لو 10، 33 – 34
92- المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عد 24
93- لو 4، 18 – 19؛ راجع أشعيا 61، 1 – 2
94- أعمال 10، 38
95- متّى 25، 34 – 36
96- متّى 25، 40
97- متّى 25، 45
98- 1 بطر 4، 13
99- كولوسي 1، 24
100- المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عد 22
101- الموضع ذاته
102- راجع يو 17، 11 و 21 – 22
راجع يو 19، 25
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post