مؤلفات اثيناغوراس المدافع كاملة
The Complete Writings of Athenagoras
دفاعيات القرن الثاني
الفصل الأول
مقدمة عن دفاعيات مدرسة الاسكندرية
أولا – فكرة عامة عن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية
الحاجة إلى مدرسة الإسكندرية:
ا- قبل ظهور المسيحية بزمن طويل، اشتهرت الإسكندرية بمدارسها، ولعل أعظم هذه المدارس هي ” المتحف أو الموزيم” التي أسسها بطليموس الأول وصارت أشهر مدرسة في الشرق. بجانب هذه المدرسة وجدت مدرسة السيرابيوم، وأيضا مدرسة سيباستيون، وكان لهذه المدارس الثلاث مكتباتها الضخمة، ضمت مكتبة المتحف وحدها ما بين مائتى ألف ونصف مليون مخطوط وكتاب في أيام بطليموس الأول. بجانب هذه المدارس انتشرت أيضا مدارس يهودية تنشر الثقافة اليهودية في بقاع البلاد.
فلم يكن أمام الكنيسة في جو كهذا إلا إنشاء مركز للتعليم المسيحي، يسندها في مواجهة المعركة التي شنتها هذه المدارس القوية والثقافات المتنوعة التي سادت المدينة.
وفي مدينة مثل هذه، لا يحمل الإنجيل قوة إن لم يكن قادرا على خلق معلمين قادرين على مجابهة فلاسفة يرفضون الإنصات لمن هم غير قادرين على فهم أفكارهم والاهتمام بما ينشغلون به وتفنيد حججهم الأساسية، بهذا يلتقون بهم بروح مسيحي لطيف.
2- كانت هناك حاجة ماسة لقيام مدرسة مسيحية قوية تجابه ” الغنوسية ” على وجه الخصوص، فقد عرف العالم في ذلك الحين أشكال متنوعة من الغنوسيات هي في حقيقتها ملتقى هائل لعناصر يهودية ومسيحية ويونانية وشرقية .. كانت تشكل خطر على الإيمان المسيحي، هذه الغنوسيات كثيرة ومتنوعة، وثنية، وأخرى لها سمة يهودية، وثالثة حملت اسم المسيحية لكنها في جوهرها تحمل فكرا يهوديا، كما وجدت مذاهب غنوسية هاجمت العهد القديم مثل مرقيون. وجد غنوسيون نساك مثل أتباع باسيليدس…
هذه الغنوسيات وغيرها حملت مميزات وسمات متباينة لكنها اشتركت في إيجاد ثنائية بين الله والمادة، إذ حقرت من المادة كعنصر شر وجعلتها من صنع إله ليس خير لكن ما هو أهم أنها أصرت على إحلال الغنوسية أو المعرفة محل الإيمان كسبيل للخلاص.
لم تقف مهمة مدرسة الإسكندرية عند تفنيد المبادئ الخاطئة والأفكار المضلة للغنوسيين، لكنها حملت رسالة تقديم غنوسية أو ” معرفة ” على مستوى إنجيلي مسيحي بغير انحراف.
فيقول إكليمنضس ” لا إيمان بغير معرفة ولا معرفة بغير إيمان “
نشأة المدرسة :
شهد القديس جيروم أن مرقس الرسول قام بتأسيس مدرسة الإسكندرية المسيحية فقد أوحى له بالروح القدس أن يقيمها للتعليم بالمسيحية، كطريق لتثبيت الدين الجديد في هذه المدرسة على أساس راسخ، سواء بالنسبة للذين من أصل أممي أو من أصل يهودي.
سماتها ومنهجها :
ليس لدينا بالتفصيل صورة عن سمات المدرسة وبرامجها ومنهجها ولكننا نستطيع أن نتكشف الخطوط العريضة خلال حياة آبائها وتراثهم الكتابي.
ا- بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة للجميع من أمم ويهود لتعليم الإيمان المسيحي، تقدم لهم دراسات لنوال سر المعمودية. فتحت المدرسة أبوابها أمام الجميع ..
2- أمام هذا الانفتاح لم يكن ممكنا أن تقتصر المدرسة في دراستها على اللاهوت وحده… بل كان برنامجها يقوم على أساس موسوعي شامل فكانت مركزا للتعليم الفلسفي والعلمي كما للتعليم اللاهوتى.
3- أخذت بنظام التدرج فغالبا ما تبدأ الدراسة بسلسلة من العلوم ” غير الدينية “، من خلالها يكسب المعلم غير المؤمنين ويُقيم الأفكار الفلسفية والعلمية، ساحبا القلوب نحو المعلم الوحيد يسوع المسيح.
تأتي بعد ذلك الأخلاقيات والسلوك الديني ليس كغاية في حياة المسيحي إنما ليكون متشبها بالله، وأخيرا يدرس اللاهوت المسيحي في شكل تعليقات وشرح للكتاب المقدس.
يظهر هذا المنهج في مراحله الثلاث من الكتب الثلاث الرئيسية التي وضعها القديس إكليمنضس الإسكندري. الكتاب الأول قدم منهجا لغير المسيحيين خلاله يتعرف طالبوا العماد على أساسيات المسيحية دون الدخول في حرب مع الفلسفة .. والكتاب الثاني يمثل منهجا أخلاقيا غايته التشبه بالله، والثالث يمثل منهجا متقدما خاصا بالمعرفة ” الغنوسية ” للحق الإلهي…
4- امتازت بعدم الفصل بين الدراسة والحياة الإيمانية التقوية. فكانت العبادة تمارس جنبا إلى جنب مع الدراسة. يمارس المعلمون وتلاميذهم الصلاة والصوم وحياة النسك مع النقاوة بغية الدخول في طريق الكمال المسيحي.
5- عرفت المدرسة باهتمامها بالبحث العلمي، فلم يكن الأساتذة مجرد محاضرين يلقنون الطلبة ما يريدون…. لكنهم بالأكثر كانوا يهتمون بتقديم المشورة في البحث والتنقيب مع المناقشة المستمرة.
كان الأستاذ أشبه بمرشد يعين تلاميذه على التعرف على المدارس الفلسفية المتنوعة بأنفسهم ويختاروا ما فيها من حق ويرفضوا ما فيها من بطلان…
6- قامت المدرسة أيضا على العلاقات الشخصية بين الأساتذة وتلاميذهم.. فكانت أشبه بمجال للتلمذة في أسمى صورها. فكانت جزءا لا يتجزأ من الحياة الكنسية… التي في صميمها هي حياة تلمذة.
ظهرت هذه العلاقة الوطيدة في حياة القديس إكليمنضس الإسكندري الذي قال عنه ج. باردى أنه رفع قلوب طلبته إلى الأعالي التي أعلنها بصبره وابتسامته الدائمة.
هذه العلاقات دفعت المدرسة بقوة، فانتقل إلى الطلبة، روح أساتذتهم وغيرتهم الدراسية وحياتهم التقوية.
مدرسة الإسكندرية والفلسفة
نظرة مدرسة الإسكندرية للفلسفة تحتل نصيبا ليس بقليل من كتابات آبائها، فقد حمل هؤلاء الآباء نظرة خاصة فلم يحملوا اتجاها معاديا لها، ولا اتخذوا منها موقفا عنيفا، إنما رأوا فيها بصيصا من الحق، وإن شابه بعض الضلالات. لقد رأت المدرسة أن الكنيسة قادرة على الدخول إلى قلوب الفلاسفة خلال هذا البصيص لتبلغ بهم إلى كمال الحق المعلن في الإنجيل المقدس
دور المدرسة في حياة الكنيسة :
كشفت المدرسة عن اتساع الفكر المسيحي بوجه عام، وروت ظمأ المسيحيين إلى المعرفة، وقدمت ضوءا جديدا على أهمية العلم والتعليم بوجه عام كما خلقت قادة في الفكر وفي العمل الكنسي الرعوي على المستوى المحلي والمسكوني.
ا- اهتمام المدرسة بالفلسفة اليونانية نزع عنها أي نظرة ضيقة نحو المسيحية كتراث إقليمي يرتبط بجماعة محلية أو ثقافة خاصة، وبهذا ربحت الكنيسة نفوس كثيرة للسيد المسيح من عينات مختلفة، على كافة المستويات الفلسفية والفكرية، لهذا عندما تحدث فارار عن اللاهوت المسيحي في مدرسة الإسكندرية قال: ” الكرازة بالمسيحية أشبه بالطريقة التي تحدث بها الله قديما مع الآباء، تحمل سمة التعدد والتنوع. لقد قدمت للعالم حكمة غنية متنوعة، إذ وقفت الكنيسة أمام العالم كابنة الملك التي ذكرها المرتل أنها ملتحفة بثياب مزركشة. تستطيع أن تكون بسيطة مع غير المتعلمين، وكيهودية مع اليهود، وكيونانية مع اليونانيين، وبمعنى صالح ولطيف إنها كل شيء مع كل أحد.
وصف شاف قدرة المدرسة على الكرازة بين الفئات المتباينة خلال اتساع نظرتها قائلا: ” كانت من جهة حصنا للكنيسة ضد الأشرار… ومن جهة أخرى كانت جسرا للعبور من العالم إلى الكنيسة. كان الموعوظون شعبا وخطباء “.
2- هذا الاتجاه جعل من أساتذة المدرسة رجالا مسكونيين، ليس فقط لأنهم كسبوا كثيرين من ثقافات متنوعة، لكن انفتاح فكرهم وجه أنظار الكنيسة الجامعة- في الشرق والغرب – إليهم وفي القرون التالية حمل رجالها أمثال القديس أثناسيوس الرسولي والقديس كيرلس الكبير مسئوليات كنسية على مستوى مسكوني.
كان من نتيجة ذلك ليس فقط أن صار لرجالها الصبغة المسكونية إنما تتلمذ على أيدي أساتذتها رجالا من بقاع كثيرة، صاروا قادة فكر مسيحي. وحمل بعضهم أعمالا رعوية في بلاد كثيرة، نذكر على سبيل المثال القديس غريغوريوس أسقف نيصص.
هذا وقد تلقت الكنيسة- في الشرق والغرب- الكثير من أعمال الدراسة بكل إجلال… تُرجمت باللغات المختلفة كاللاتينية والسريانية منذ القرون الأولى، ولا نبالغ إن قلنا أن كتابات آباء الإسكندرية لازالت تحمل آثارا على الكنيسة في كل المسكونة. لهذا يهتم العالم بترجمتها إلى اللغات الحديثة الحية.
3- استطاعت المدرسة أن تروى ظمأ المسيحيين بالإسكندرية نحو المعرفة الدينية، وتحثهم على الدراسة والبحث. بهذا ساهمت المدرسة في إنشاء أول نظام للدراسات اللاهوتية في العالم، كانت بحق (مهد اللاهوت المسيحي) .. منها خرج رجال قادرون على الرد على المهاجمين والدفاع ضد الأريوسية مثل القديس أثناسيوس.
4- قيام هذه المدرسة أعطى للطلبة إمكانية الحصول على التعليم الذي تقدمه المدرسة الوثنية العظمى، لكن بواسطة معلمين مسيحيين.
5- أخيرا، كانت المدرسة سندا لكنيسة الإسكندرية، غالبا ما يُختار أحد عمدائها أو تلاميذها، بابا للإسكندرية… وكما يقول نيافة الأنبا غريغوريوس ” امتد أثر المدرسة اللاهوتية إلى هنا وهناك، فاشتهر طلبتها بتقواهم واتساع مداركهم وتفكيرهم. وكانت النتيجة أن باباوات الإسكندرية كانوا يُختارون من بين رؤساء المدرسة وأساتذتها، كذلك الأساقفة والكهنة. كان رئيس المدرسة يعتبر الرجل التالى بعد البابا، سواء من الناحية العلمية أو الاجتماعية، وإن كان ليس من الجانب الكنسى أو الطقسى.
فنحن نعلم أن القديس مرقس عين يسطس أول عميد للمدرسة، وقد صار البطريرك السادس، وهكذا مركيانوس البطريرك التاسع، وهيراقليس (ياروكلاس) الذي صار رئيسا للمدرسة بعد أوريجانوس البابا السادس عشر، وخلفه ديونيسيوس كرئيس للمدرسة وكبابا، وأيضا بطرس خاتم الشهداء كان رئيسا للمدرسة وقد صار بابا الإسكندرية السابع عشر، ثم خلفه أرشلاوس، هؤلاء جميعا كانوا رؤساء للمدرسة قبل سيامتهم باباوات.
لكن هناك باباوات كانوا من أساتذة المدرسة أو على الأقل من طلبتها، منهم ألكسندروس البابا التاسع عشر، والقديس أثناسيوس الرسولى العشرون، وكيرلس عمود الدين، البابا الرابع والعشرون.
بالحقيقة هذا هو سر القوة المخفية وراء كنيسة الإسكندرية في القرون الخمسة الأولى. هذا هو سر شهرة باباواتها وبطاركتها، إذ كانوا يحسبون كحراس للإيمان الأرثوذكسى، وبسبب اتساع أفقهم كانوا شغوفين بالمعرفة، فحسبوا “معلموا المسكونة” وكانت لهم الكلمة الأخيرة الفاصلة.
ثانيا – الآباء المدافعون
لقد وجد الدفاع- في معناه الواسع- قديما قدم المسيحية ذاتها، إذ بذل الكارزون بالإنجيل كل جهدهم في البرهنة على حق الإنجيل والإجابة على الاعتراضات الموجهة ضده. كان حديث الشماس الأول إسطفانوس أمام مجمع السنهدريم (أع6، 7) حديثا دفاعيا، وهكذا أيضا خطاب الرسول بولس أمام فستوس (أع 24)، وجاءت أعمال الشهداء أمثلة حية في الدفاع عن الإيمان المسيحي مجاهرة أثناء محاكماتهم.
بقدر ما اتسمت المسيحية- منذ بدء انطلاقها – بالروح المسكوني، فلم ترتبط بثقافة معينة أو أمة خاصة… وجدت نفوس عطشى للإيمان من أصل يهودي ورومانى ويونانى ومصرى وسريانى الخ. هذا الأمر شكل خطرا يهدد كيان الدولة الرومانية التي وإن أظهرت تسامحا في ترك الدول التابعة لها أن تمارس عبادتها المحلية ونشاطها الثقافي المحلى، لكنها أرادت أن تسود بعبادتها الرومانية وثقافتها لكي تضمن ولاء الدول لها. لهذا اتهم المسيحيون بالخيانة للإمبراطور… خاصة وأنهم كانوا يرفضون السجود لتمثال الإمبراطور والتعبد له.
ومن جانب آخر، هاجت الجماهير على المسيحيين إذ رأوا فيهم احتقارا لمشاعرهم الشعبية بسبب إحجامهم عن المشاركة في الاحتفالات الدينية العامة. هذا وقد كرس بعض الكتاب والفلاسفة من يهود وأمميين جهدهم للهجوم على المسيحية والمسيحيين، يتهمونهم بالكفر والإلحاد، ويفترون على إنجيلهم، وينسبون إليهم اتهامات أخلاقية، بجانب الخيانة للإمبراطور واحتقار الجماهير. لعل أهم هؤلاء الكتاب هم لوسيان الساموساطى والفيلسوف فرنتو معلم الإمبراطور ماركوس أوريليوس والأفلاطونى كلسس..
وكما تقدم كثير من المسيحيين من كل الفئات والأعمار والثقافات للاستشهاد بفرح، انبرى أيضا بعض الكتاب المسيحيين يدافعون عن الإيمان المسيحي والمسيحيين، هؤلاء دُعوا ” المدافعين “، ظهروا على وجه الخصوص في القرنين الثاني والثالث، وقد وضعوا أمامهم ثلاثة أهداف:
ا- الرد على الاتهامات العامة، خاصة الاتهام بأن الكنيسة تمثل نكبة على الدولة. فقد أكد هؤلاء المدافعون أن الإيمان المسيحي يمثل قوة تسند سلام الدولة وتعمل على رفاهيتها، لا لصالح الإمبراطور والدولة فحسب بل والحضارة أيضا.
2- كشفوا عن لا أخلاقيات الوثنية وضلال أساطيرها، كما أعلنوا عن الإيمان المسيحي بكونه وحده القادر أن يقدم فهما صحيحا بخصوص الله والعالم والإنسان. لقد دافعوا عن العقائد الرئيسية مثل وحدانية الله، لاهوت السيد المسيح، قيامة الموتى.. الخ… كما حملت كتاباتهم روحا كرازيا فاهتمت بجذب القارئ ليقبل الحق ويتفهمه، ودعته بلغة ذلك العصر أي خلال الفلسفة، لقبول الإيمان الجديد وكشفت له عن جمال الحياة المسيحية وعفتها…
3- تحدثوا عن الفلسفات بكونها اعتمدت على العقل البشرى وحده، فحملت جانبا من الحق، لكن ليس كل الحق، كما امتزج هذا الجزء من الحق بأخطاء كثيرة. أما الإيمان المسيحي فقدم الحق خلال اللوغوس ” كلمة الله ” الذي نزل على الأرض معلنا الحق الإلهي للبشر. لهذا فلا وجه للمقارنة بين المسيحية والفلسفة اليونانية، فالأولى إلهية والثانية بشرية.
وفيما يلي صورة مختصرة جدا عن أهم المدافعين المسيحيين الأولين:
ا- القديس كوادراتس Quadratus : يعتبر أقدم المدافعين المسيحيين، كتب دفاعه عن الإيمان المسيحي في آسيا الصغرى، موجها إياه للامبراطور هادريان في هذا الدفاع هاجم آلهة اليونان ومصر الوثنية، كما ذم الأخلاق اليونانية الوثنية.
2- أرستيديس الأثينى Aristides of Athens : من رجال القرن الثاني، فيلسوف مسيحي ومدافع من أثينا. قدم دفاعه لهادريان.
في دفاعه أوضح أن المسيحيين لهم إدراك لطبيعة الله بطريقة أكمل مما للبرابرة واليونان واليهود، وأنهم وحدهم يحبونه حسب وصاياه. دافع فيه عن وجود الله وأبديته، كما شمل التماسا وجهه إلى جميع الذين ليس لهم معرفة الله أن يقتربوا إلى الإيمان المسيحي ليكونوا مستعدين للظهور أمام قضاء الله.
3- أرسطون البيلى Aristo of Pella : يبدو أنه أول مسيحي دافع عن المسيحية ضد اليهود كتابة. وقد جاء دفاعه (حوالي عام 140 م) في شكل حوار بين جاسون المسيحي من أصل يهودي وبابيسكوس يهودي إسكندري ولا نعرف إن كانت هاتان الشخصيتان حقيقيتين أم رمزيتين.
4- تاتيان السريانى Tatian the Syrian : ولد عام 130 م من أبوين وثنيين، وتعلم البلاغة والفلسفة، وقبل الإيمان المسيحي في روما ما بين 150 و 165 م، وتتلمذ على يدي القديس يوستين، لكنه اختلف عنه في آرائه.
عرف بالتطرف في آرائه، فقد علم بالرفض التام لكل فلسفة يونانية، وأظهر امتعاضه حتى للحضارة اليونانية من فن وعلم ولغة، لكنه لم يقدر أن يتخلص من الفكر اليوناني تماما. وإذ عاد إلى الشرق حيث أسس جماعة الإنكراتيين، أي “المتقشفون” التي تنتمي إلى جماعة الغنوسيين المسيحيين.
وقد رفضت الزواج على اعتبار أنه زنا، وأدانت استعمال اللحم بأي شكل، وشرب الخمر، بل استبدلوا الخمر بالماء في سر الأفخارستيا. لذلك دعي أتباع هذه البدعة “المائيون”.
5 – القديس يوستين الشهيد (حوالى 100 م- 164 م) ولد في فلافيا نابوليس بفلسطين من أبوين وثنيين. ومنذ حداثته كان يميل إلى التفكير العميق والبحث عن الله. التحق بمدرسة أحد الرواقيين أتباع زينون وتركها لأنه لم يستطع أن يفسر له وجود الله، ثم أحد الرواقيين المشائيين (الذين يمشون) أتباع أرسطو (كان يمشي وهو يعلم ويدرس) وتركها لأنه أصر على دفع الرسوم أولا،
والتحق بمدرسة فيلسوف فيثاغورثي وتركها لأنه أوجب عليه أن يدرس الموسيقى والفلك والهندسة بينما هو لم يكن يميل إلى هذه الدراسات، ومازال يسعى في طلب المعرفة وإشباع عقله حتى اهتدى إلى أحد الفلاسفة الأفلاطونيين فتتلمذ له فترة من الوقت.
غير أن هذه الفلسفات لم تكن لتشبع عقل وقلب يوستين، إذ لم يكن له عقل متفتح وحسب، لكن كانت له روح جائعة متعطشة للنور والحق، وبينما كان يسعى وراء الوحدة حتى يتمكن من التأمل بعقل غير مرتبط بالأشياء الخارجية، وفيما هو مستغرق في تأملاته، وهو يسير على شاطئ البحر في بلده، قابله شيخ مهيب تبدو على محياه الجاذبية والعذوبة، وبدا ليوستين كما لو كان فيلسوفا وجد الراحة والسلام في فلسفته، وتحدث هذا الشيخ مع يوستين في شئون الفلسفة وأقنعه أن الفلسفة الأفلاطونية تعجز عن إشباع قلب الإنسان، فسأله يوستين في لهفة وتعجب: أين إذن أجد الحق إذا لم أجده بين الفلاسفة؟ ” فأجابه الشيخ: قبل الفلاسفة بزمان طويل عاش في الأزمنة الغابرة رجال سعداء أبرار هم رجال الله، نطقوا بروحه وسُمّوا أنبياء، وهؤلاء نقلوا إلى البشر ما سمعوه وما تعلموه من الروح القدس، وكانوا يعبدون الله الخالق أب جميع الموجودات، وعبدوا ابنه يسوع المسيح، فاطلب أنت حتى تنفتح لك أبواب النور الآن.
وبعد أن قال له الشيخ هذا الكلام، توارى عنه، ولا شك أن هذا الطريق الذي أرشده إليه ذلك الشيخ بكلامه، كان أمله منذ شبابه، وبعد أن استمع إلى الفلاسفة، تحول إلى الأنبياء، بل إلى ذاك الذي هو أعلى من أعظم الأنبياء علو السموات عن الأرض، الكلمة الأزلى، الذي أصبح يوستين منذ ذلك الوقت الشاهد الأمين له، ويروى يوستين أثر مقابلته مع الشيخ: “عندما تحدث معى عن هذه الأمور وعن الكثير من الأمور الأخرى، ليس هناك وقت لذكرها الآن، رحل عني بعد أن جذب انتباهي إليها، ولم أره ثانية منذ ذاك الحين، وللوقت اشتعلت نار في نفسى، وتملكتني محبة للأنبياء ولهؤلاء الذين كانوا أتباع المسيح، وفيما كنت أتأمل في كلماته في ذهنى، وجدت أن هذه الفلسفة وحدها يمكن أن تكون آمنة ونافعة، وهكذا صرت فيلسوفا لهذا السبب، وأتمنى لو أن للناس جميعا نفس فكري، وأن لا يضلوا عن تعاليم المخلص “
وانكب يوستين على قراءة تلك الكتب التي أرشده إليها ذلك الشيخ المجهول، فتوصل إلى أن الفلسفة المسيحية هي الوحيدة التي تستطيع أن تشبع عقله، فآمن بالسيد المسيح واعتمد، وبدأ يحيا منذ ذلك الحين حياة الفيلسوف الحقة، كما يقول هو عن نفسه، وقد ذكر في دفاعه الثاني أن الشجاعة البطولية التي كان المسيحيون يواجهون بها الموت لعبت دورا كبيرا في قبوله للإيمان:
“لقد اعتدت أنا نفسي أن أسر بتعليم أفلاطون، وأن أسمع الأحاديث الشريرة عن المسيحيين، لكن عندما رأيتهم لا يهابون الموت ولا أي شئ آخر مرعب، أدركت أنهم لا يمكن أن يكونوا أشرارا أو محبين للشهوات “.
فسعيه الصادق لبلوغ الحق، وصلاته المتواضعة، جعلاه في النهاية يقبل الإيمان بالمسيح :
“عندما اكتشفت ما حاكته الأرواح الشريرة حول تعاليم المسيحيين الإلهية، كي تعيق الآخرين عن الانضمام إليهم، سخرت من أصحاب هذه الأكاذيب ومن الرأي السائد، وأنا أعترف أنني صليت وجاهدت بكل قوتى لكي أصير مسيحيا”.
وبعد قبوله للإيمان، والذي حدث في الغالب في أفسس، كرس حياته كلها للدفاع عن الإيمان المسيحي، وإذ كان يعتبر الفلسفة الأفلاطونية بمثابة إعداد العالم الوثني لقبول المسيحية، لم يكف بعد إيمانه عن تقدير الفلسفة، بل ظل يرتدى الباليوم (عباءة يرتديها الفلاسفة اليونانيون)، ولكنه لم يفعل ذلك هروبا من أن يظهر كتلميذ للمسيح، فهو يقول عن نفسه :
” لقد طرحت جانبا كل الرغبات البشرية الباطلة، ومجدي الآن في أن أكون مسيحيا، ولا شئ أشتهيه أكثر من أن أواجه العالم كمسيحي.
ويقول عنه يوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي :
“وفي تلك الأيام اشتهر يوستين بصفة خاصة، وإذ تنكر في هيئة فيلسوف، بشر بالكلمة الإلهية، وناضل عن الإيمان بكتاباته “.
وكان يوستين يجول من بلد لآخر يعلن الحق الكتابى، ووصل إلى روما أثناء حكم أنطونيوس بيوس (سنة 138- 161 م) وأسس مدرسة هناك، وكان تاتيان- الذي صار مدافعا فيما بعد- أحد تلاميذه فيها، واتخذ يوستين من الفلسفة وسيلة للتبشير بالمسيحية والدفاع عنها، وكان يعقد مقابلات عديدة مع اليهود والوثنيين، وكذلك مع الهراطقة، وفي هذه المناقشات أظهر صبرا وثباتا عجيبين، وقد لاقى في روما مقاومة عنيفة ممثلة في الفيلسوف الكلبى كريسنس الذي وصفه يوستين بالجهل.
وقد رفع الفيلسوف المسيحي دفاعيه إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس وأبنائه، ونجد دفاعه هذا ملئ بالشجاعة والكرامة الإنسانية، فقد كان اتجاهه في دفاعه هو عدم التوسل والخوف من القوة الغاشمة، ويقول في دفاعه موجها الكلام للإمبراطور:
“أنتم تدعون في كل مكان “بيوس” (أي تقى)، حارس العدالة، صديق الحق، وستظهر أعمالكم، إذا كنتم جديرين بهذه الألقاب، ولست أقصد من وراء ذلك أن أتملقكم، أو أن أحصل منكم على إحسان ما، إننى ببساطة أسألكم أن تعاملوننا بقوانين العدالة المدققة المستنيرة، وليس بمجرد الحدس، أو تحت تأثير خرافة تصدقونها بقصد إدخال السرور على الناس… فإن هذا يدينكم “.
وقد نال يوستين إكليل الاستشهاد في روما في ولاية الحاكم يونيوس رستيكوس (163- 167) في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس، ولدينا وصف موثوق به يروى وقائع استشهاده، وهو وصف يعتمد على تقرير رسمى خاص بالبلاط الإمبراطوري، وبحسب هذه الوثيقة، استشهد يوستين ومعه خمسة رجال وامرأة حوالى عام 165 م،
ويروى لنا المؤرخ يوسابيوس القيصري أن يوستين استشهد “نتيجة لمؤامرة دبرها ضده كريسنس الفيلسوف الذي اقتدى بحياة وعادات الكلبيين الذين حمل اسمهم، وبعد أن هزمه يوستين مرار في مناقشات ومناظرات عامة، نال إكليل الظفر باستشهاده، مائتا دفاعا عن الحق الذي كرز به “.
وقد توقع يوستين هذا مسبقا إذ يقول :
“لذلك فإنني أيضا أتوقع أن تدبر ضدي المؤامرات وأوضع في المقطرة على يدى أحد الذين ذكرتهم، أو ربما على يدى كريسنس، ذلك الرجل الجاهل الأحمق، لأنه لا يستحق أن يدعى فيلسوفا ذاك الذي يشهد علنا ضد من لا يعرف عنهم شيئا، مصرحا بأن المسيحيين كفرة أشرار، وذلك لمجرد تملق الجماهير وإرضائهم، وبذا أخطأ خطأ عظيما.
لأنه إذ هاجمنا دون قراءة تعاليم المسيح، برهن على تردى أخلاقه، وعلى أنه أجهل من غير المتعلمين، الذين كثيرا ما يتحاشون أن يناقشوا أمورا لا يعرفون عنها شيئا، أو أن يشهدوا عنها شهادات كاذبة، أما إن كان قد قرأها ولم يدرك مقدار ما فيها من سمو، أو إن أدرك وفعل هذه الأمور لكي لا يظن الناس أنه مؤيد لنا، فقد صار أكثر رداءة، لاستعباده للمديح الباطل، والخوف غير المعقول.
لأننى أريدكما أن تعلما أننى عندما اقترحت أسئلة معينة ووجهتها إليه، علمت وبرهنت على انه لا يعرف شيئا”. وروى تاتيان أن يوستين استشهد نتيجة لمؤامرات كريسنس، وذلك في مؤلفه ضد اليونانيين، إذ يقول :
“وذاك الذي نادى باحتقار الموت (أي كريسنس) كان هو نفسه في أشد الفزع منه، حتى أنه سعى للحكم بالموت- وهو أمر في غاية الشر- على يوستين، لأن هذا الأخير برهن- عند الكرازة بالحق- على أن الفلاسفة شرهين ودجالين”.
كتابات يوستين
كان يوستين كاتبا خصبا، بيد أنه لم يصلنا إلا ثلاثة من أعماله التي ذكرها يوسابيوس القيصرى، وهي موجودة في مخطوطة نسخت سنة 1364 م, وهذه الأعمال هي:
* الدفاع الأول ضد الوثنيين.
* الدفاع الثاني ضد الوثنيين.
* حواره مع تريفو اليهودي.
وكتاباته تعلن عن شخصية صريحة صادقة تسعى للوصول إلى اتفاق وتفاهم مع من تناقشه، وكان يوستين مقتنعا بأن “كل من يستطيع أن يتكلم عن الحق، ولا يتكلم، سيدان من الله ” وهو يعد أول كاتب كنسى حاول التوفيق بين المسيحية والفلسفة، ويقول يوسابيوس المؤرخ عن كتابات يوستين:
“لقد ترك لنا هذا الكاتب آثارا كثيرة عن عقل تهذب وتدرب في الإلهيات المليئة بكل ما هو نافع من كل نوع “.
ثالثا – اثيناجوراس المدافع عميد مدرسة الاسكندرية
1.تجاهــل المؤرخين له :
كان أثيناغوراس Athenagoras شخصية فلسفية كبيرة , و مع ذلك أغفله المؤرخون الأول أمثال يوسابيوس Eusebe و جيرون Jerone. و حتى كتاب ” الدفاع ” الذى وضعه كإلتماس للامبراطورين مركوس أوريليوس أنطونيوسMarcus Aurelius Antonius و ابنه شريكه فى الحكم كومودوس Commodusانتشر خلوا من اسمه ,
و نسب خطأ للقديس يوستينJustin قبل القرن الرابع 16 . لكن الشهيد ميثوديوس Methodius أسقف أولمبياس Olympias 17 إذ اقتطف فقرات منه فى كتابه : ” عن القيامة ” نسب الكتاب إلى العلامة أثيناغوراس Athenagoras 18. عاد القديس أبيثانيوس Epithanius 19 و ثوتيوس Thotius 20 فاقتبس النص ذاته . و قدم فيلبس الصيدوى Philip of Side 21 معلومات هامة عن أثيناغوراس Athenagoras , و لو أن معلوماته بصفة عامة لا يمكن الاعتماد عليها 22.
استقى معلوماته عن أثيناغوراس Athenagoras بلا شك عن أستاذه العلامة رودن Rhodon , آخر مدير لمدرسة الإسكندرية فى حكم الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير Theodosius the great .
2.حيـاتــــه :
لا نعرف الكثير عن حياته , لكنه كان فيلسوفا ً يرأس إحد كراسي الأكاديمية ” الموزيم Museum ” بالأسكندرية , و يعتبر من أساطين الديانة الوثنية . كان مولعا ً بالبحث فى أمور المسيحية كغيره من الفلاسفة الأفلاطونيين طمعا ً في كشف أخطائها , و إظهار فسادها 23 .
و إذا أراد أن يضرب بسهام نقده بكل قوة عكف على دراسة الكتاب المقدس , لكن الروح القدس أمسك به بقوة و عوض أن يخرج بجلداته ضد الإيمان المسيحى إذا به ينجذب للإيمان حوالى عام 176 م . و إذ قبل المعمودية و التصق بالمسيحيين أدرك سمو الحياة الإنجيلية فكتب دفاعه عن المسيحية و المسيحيين .
لشخصية أثيناغوراس Athenagoras أهمية خاصة , فهو أول فيلسوف الهمته غيرته الشديدة و اجتهاده فى الدراسة أن يصير عميدا ً لمدرسة اُسكندرية اللاهوتية دون أن يخلع عنه زى الفلاسفة 24 the philosopher pallium . و يعتبر أول مسيحى معروف حمل مع إيمانه حنوا ً نحو الفلسفة .
3.كتاباتــه :
وضع العلامة أثيناغوراس Athenagoras عملين هامين هما : إلتماسه أو شفاعته (إبريسفيا) عن المسيحيين , و مقالة عن قيامة الموتى .
تلمس فى كتاباته العقل الفلسفى الذى هذبته الثقافة اليونانية مع ملكة رائعة فى الكتابة 25 . قال عنه دونالدسون Donaldson ” أنه اقتبس شعرا ً ( يونانيا ً ) لكن الهدف كان واضحا ً نصب عينيه , لم يستعرض قط إمكانياته و لا يشتت ذهن قارئه 26 ” .
4.أفكـاره و لاهوتياتـه :
أ – اللــه :
يعتبر أول مفكر مسيحى حاول أن يبرهن على وحدانية اللـه بطريقة فلسفية علمية 27 , مستشهدا ً بأدلة من الفلاسفة عن وحدانية اللـه التي شهد عنها الأنبياء ( دفاع 5 – 9 ) .
تحدث عن اللـه كخالق العالم ( دفاع 19 ) , يديره فى إبداع ( دفاع 16 , 25 ) . هو روح بسيط غير مركب , سرمدي , كامل فى كل شىء , قادر على كل شىء ( دفاع 27 )
فى حديثه عن اللـه الواحد تحدث عن الثالوث القدوس كجوهر واحد , الآب هو العقل و الإبن هو اللوغوس Logos الكلمة غير المخلوق , واحد مع الآب منذ الأزل , و الروح القدس . تحدث بإدراك كامل و دقيق لوحدانية اللـه , وحدة الثالوث و تمايزه 28 . و قد حذر أثيناغوراس Athenagoras من فهم ” الآب و الابن ” بطريقة فلسفية . كما أكد أن ” الإبن ” لا يعني خروجه عن الآب فى وقت ما , و إنما هو كائن معه أزليا ً ( دفاع 10 : 2 ) .
يقول أيضا ً أن عمل المسيحيين الأساسي هو : ” أن يروا ما هى وحدة الإبن فى علاقته بالآب , و ما هى شركة الآب مع الإبن, و ما هو الروح , و ما هي وحدانية هؤلاء و التمايز بين المتحدين : الروح و الإبن و الآب ” ( دفاع 12 و 10 ) .
أما عن الروح القدس فيقول : ” نحن نؤكد أن الروح القدس نفسه الفاعل في الأنبياء , إنما هو فيض من اللـه , يصدر عنه , و يرتد إليه كشعاع من الشمس ” ( دفاع 1 ) .
ب – الملائكـــة :
إيماننا بالملائكة كخلائق سماوية خادمة للـه و تهتم بالخليقة – فى نظر أثيناغوراس Athenagoras – جزء لا يتجزأ من الإيمان العام , فبعد دفاعه عن الإتهام بالإلحاد أضاف : ” على أن تعليمنا فيما يختص بالطبيعة الإلهية لا يقف عند هذا الحد فنحن نسلم أيضا ً بجمهور من الملائكة و الخدام ” ( دفاع 10 : 2 ) .
و كأن إيماننا باللـه ليس كأئنا ً منعزلا ً عن الخليقة السماوية و الأرضية ! السمائيون – عند أكليمنضس Clement – هم كائنات سامية أقامها اللـه لحفظ الكون , تعن عن تدبير اللـه و رعايته , و أعطاها اللـه – خلال كلمته – أن تعتنى بالعناصر و السماوات و الأرض و ما عليها و تحسن تدبيرها جميعا ً ( دفاع 10 ) .
جاء هذا التعليم عن التقليد اليهودي , و قد أخذ به القديسان ايريناؤس Irenaus و غريغوريوس Gregorius أسقف نيصص, و دعاه ” تقليدا ً 29 ” .
ج – الإنســـان :
اختلف أثيناغوراس Athenagoras عن أفلاطون Plato , فالأول يرى الأنسان نفسا ً و جسدا ً وحدة واحدة , ما يصدر عنه يشترك فيه النفس و الجسد معا ً , أما الثانى فيرى الإنسان مجرد نفس تستخدم الجسد 30 …
يرى أثيناغوراس Athenagoras فى أعضاء الجسد آلات خلالها تتم الأفعال , و بها تظهر الأفكار و الأقوال , لكنها تشترك مع النفس فى المسئولية . لهذا لا تقوم العبادة الكلماة بغير شركة الجسد مع النفس , و لا تكون الدينونة عادلة إن لم تقع على الإثنين ( دفاع 27 , قيامة الموتى ) .
د – حقوق الجنين :
فى الوقت الذى كان فيه القانون لا يعامل النين ككائن له حقوقه , إذا بأثيناغوراس Athenagoras يكشف عن تعاليم الكنيسة فى ذلك الحين , أن الجنين كائن له حق الحياة , فإذا استخدمت عقاقير لإجهاضه يكون ذلك جريمة قتل .
هـ – الشــر :
يرى أثيناغوراس Athenagoras أن بعض الملائكة سقطوا فى الشر بمحض اختيارهم و ذلك بتعديهم السلطان المعطى لهم , و ذلك بسقوطهم فى الشهوات مع بنات الناس و استعبادهم للذة البهيمية .
إن تأملت نفس الإنسان الحق , و تطلعت نحو الآب صار الإنسان روحانيا ً . أما علة شره فهو انصرافه عن هدفه الأصلي من وجوده ( قيامة 24 ) , و ارتباكه فى الماديات ( دفاع 27 ) . بهذا تفقد النفس سموها و تمتلكها الشياطين فتلقى فيها أفكار مضللة .
و – الحرية الإنسانية :
إذ يضع المسيحيون – مثل أثيناغوراس Athenagoras – الخالق كمركز لفلسفتهم يلزمهم تأكيد أهمية الإنسان و حرية إرادته 31 ( دفاع 24 , 25 ) .
هذه الحرية تجعلنا أمام مسئولية , فندان عن كل تصرف يصدر عنا . فإن سقط الإنسان فى الشر يدان , فيلقى في نار أبدية لأن نفسه لا تفنى , و إن أرضى اللـه يعيش الانسان فى حياة أبدية سماوية
ز – الوحـي الإلهي :
يعتبر أثيناغوراس Athenagoras شاهد ممتاز للتعليم بالوحى 32 : ” سلك الشعراء فى هذا الموضوع كما فى غيره سبيل الحدث و التخمين , و قد اندفع كل منهم بنفسه , محاولين أن يجدوا الحق و أن يدركوه , مدعين أنهم على إتصال بإلهام من قبل اللـه , لكنهم لم يكونوا أهلا ً بالتمام لإدراك الحق , إذ حسبوه من اللائق أن يتعلموا عن اللـه لا من اللـه نفسه بل كل يتعلم من ذاته , لهذا انتهى كل منهم إلى رأى خاص فيما يختص باللـه و المادة و شكلها و العالم .
أما من جهتنا نحن فلنا الأنبياء شهودا ً على صحة ما نرتئيه و ما نعتقد به . الأنبياء هم أناس تكلموا عن اللـه و ما يتعلق به مسوقين بروح اللـه . و أنتم أنفسكم … تسلمون معنا بأنه من المحال بالنسبة لنا أن نكف عن أن نؤمن بالروح الذى من اللـه , و هو الذى يحرك أفواه الأنبياء كما لو أنها آلات موسيقية , و أن نحذر الآراء البشرية البحتة 33 ” ( دفاع 7 ) .
” أصوات الأنبياء كتبت ما نحن بصدده , و يخيل إلى أنكم أنتم أيضا ً بما لكم من حماس عظيم للمعرفة … لا يمكن أن تجهلوا ما كتبه موسى Moses أو أشعياءIsaiah و أرميا Jeremy و سائر الأنبياء … هؤلاء الذين نطقوا بما أوحى إليهم , فى غيبة عن الحس سمت بهم فوق عمليات العقل الطبيعية , و ذلك بفعل قوة الروح القدس الذى استخدم و نفث فيهم كأنه لاعب ناى ينفخ في نايه ” ( دفاع 9 ) .
أقتبس أثيناغوراس Athenagoras هذه النظرية إلى حد ما عن فيلون الذى شبه النفس بقيثارة يضرب الرب على أوتارها حتى يقدر صاحبها أن يمارس الحياة الفاضلة 34 . و إنتقلت الفكرة من أثيناغوراس Athenagoras إلى ثاوفيلوسTheophilus أسقف أنطاكية 35 , و القديس اكليمنضس السكندرى Clement of Alexandria 36 .
و يلاحظ فى النصف الأول ( دفاع 7 ) يتحدث عن الأنبياء قائلا ً : ” لنا أنبياء ” , و هو بهذا يعكس مشاعر الكنيسة فى القرن الثانى نحو الأنبياء أنهم ليسوا كيهود غرباء عنها , بل أنبياؤها الذين تنبأوا و شهدوا عن السيد المسيح و كنيسته بكونها إسرائيل الجديد .
و لا ينسى الفيلسوف المسيحي أن يدعو الإمبراطورين الإثنين للاهتمام بقراءة الكتاب المقدس , الموحى به من الروح القدس ” الذى يعلن الحق في كماله ” .
ح – الـبتولـــــية :
مدح أثيناغوراس Athenagoras البتولية كإحدى ثمار الحياة المسيحية العظمى , موضحا ً الهدف الإيجابى لها : ” تجدون بيننا كثيرين من رجال و نساء كبروا و لم يتزوجوا , متزوجين الحياة بشركة أعمق مع اللـه ” ( دفاع 22 ) .
ط – الفلســـــفة :
كان أثيناغوراس Athenagoras فيلسوفا ً ينتسب إلى الأفلاطونية الحجيثة , لكنه لم يخضع لها تماما ً . خاصة بعد تحوله للإيمان المسيحى , إنما كان يتخير أفضل ما فى المذاهب الفلسفية جميعها , حتى قيل عنه أنه أول القائلين بمذهب التخير و تأليف المذاهب Electism . هذا المذهب – فى جوهره – ينادى بأن كل مذهب يحمل نصيبا ً من الحقيقة هو خير ما فى المذهب , لهذا يليق بالإنسان أن يطلب الخقيقة كاملة بإختياره هذه الأجزاء و توحيدها معا ً . غير أن أثيناغوراسAthenagoras – كما رأينا – نادى بعجز الفلاسفة عن الوصول إلى الحق كاملا ً , لذا وجدت ضرورة ملحة لهبوط الوحى على الأنبياء . ( دفاع 7 ) .
ي – هل كان أثيناغوراس مانويا ً ؟
يرى تيلمونت Tillemont أن أثيناغوراس كان مانويا ً … و قد اعتمد فى ذلك على أمرين:
1. لأنه شبه النبي بالناي الذي يلعب الروح القدس عليه ( دفاع 9 ) , كما فعل مانى . لكن هذا التشبيه كان شائعا ً بين اليونانيين 37 , إستخدمه أيضا ً العلامة ترتيليان Tertullian فى رده على مرقيون , و كذلك القديس يوستين Justin .
2. تحريمه الزواج الثاني وهو الأمر الذي ترفضه الكنيسة بتاتا لأن الزواج مقدس وهو سر إلهي فيه يجمع الله الطرفان ، ونظرة الكنيسة للزواج الثاني بعد وفاة أحد الشريكين هي نظرة عدم ضبط نفس ولكنها ليست نجاسة بل زواج طاهر مقدس ( دفاع 33), و هو في هذا و إن إلتقى مع أتباع ماني لكنه اختلف معهم في نواحي مثيرة من جهة نظرهم للزواج :
أ – أثيناغوراس Athenagoras يتطلع إلى الزواج فى قدسية , غايته إنجاب البنين ( دفاع 33 ) به تتم مقاصد اللـه السامية , أما مانى فيرى في الزواج رجسا ً يمتنع عنه المختارون . فيه اشباع لشهوات بهيمية , و لا يبيح لمن يتزوج أن ينجب .
ب – يعتبر أثيناغوراس البتولية حالة أكثر إتحادا ً مع اللـه و كمالا ً لكنها اختيارية لا تفرض على أبناء النور كما قال مانى .
أما سر رفضه الزواج الثاني بعد موت الطرف الثاني فمن أجل نظرته لأبدية الزواج … إنه سر لا يقدر الموت أن يحله !
ك – أهم المآخذه عليه :
تلقب الكنيسة أثيناغوراس Athenagoras فيلسوفا ً و ليس قديسا ً لسقوطه فى بعض المآخذ والتطرفات التي ترفضها الكنيسة المقدسة متمسكة بالحق الإلهي والإيمان المسلم مرة للقديسين كوديعة أمينة وهذه المآخذ هي :
1.حسب النفس ناقصة و غير كاملة ما لم تتحد بالجسد .
2.نادى بعدم معاقبة الأطفال على ما يفعلوه .
3.اعتنق التفسير اليهودي الشائع أيامه أن سقوط الشياطين كاتن بسبب علاقات شهوانية مع بنات الناس , و أنهم أنسلوا منهن جبابرة . وهو الأمر الذي يضاد الكتاب المقدس نفسه وهو الأمر الذي حدا بالكنيسة أن تآخذه عليه مقاومة هذا التعليم الغريب الذي نادى به ومتمسكة بالحق الإلهي السامي.
4.ايمانه أن الزواج حتى بعد الموت لا ينحل لذا نظر نظرة تحريم للزواج الثاني وهو الأمر الذي قاومته الكنيسة معلنة أنه بموت احد الطرفان ينحل الزواج ويصبح الشخص حرا في أن يتزوج أم لا مرة أخرى وإن كانت تنصح بعدم الزواج ليس عن تدنيس بل عن تقديس وتخصيص الحياة بالكامل لله لمن يقبل.
الفصل الثاني
الدفاع عن المسيحيين لأثيناجوراس
مقدمة عن كتاب الدفاع عن المسيحيين
ا – جاء هذا العمل الرائع في مادته وشكله ثمر عمل روح الله في حياته وهو يدرس الكتاب المقدس بقصد الهجوم عليه. أما عنوان العمل فهو: “شفاعة عن المسيحيين”. يحوي 37 فصلا. يبدو أنه قام برحلة لتقديم هذا الالتماس للإمبراطورين الفيلسوفين مرقس أوريليوس أنطونيوس (161 – 180 م) وابنه شريكه فى الحكم كومودوس.
2 – كان أثيناغوراس معاصراً للمدافع تاتيان تلميذ يوستين، لكنه اختلف في دفاعه عن الاثنين من جهة:
(أ) نظرته إلى الفلسفة اليونانية والثقافة الهيلينية أكثر حنواً من تاتيان، كما لم يحمل مشاعر يوستين النابضة بالكراهية للفلسفة، بل استخدم عبارات تكشف عن حكمة اليونانيين، ولو أنه في النهاية برهن على وجود تضارب فيما بينها، لأن الفلاسفة يستنبطون حججهم بالبحث بذواتهم، أما الأنبياء إذ يدفعهم روح الله يستطيعون أن يقدموا شهادة جماعية غير متضاربة للحق الإلهي (دفاع 7 : 1).
لقد تحدث عن المسيحية وكأنها على قدم المساواة مع الفلسفة. من هذه النقطة طالب الدولة بالسماحة مع المسيحيين. لكن في رأيه أن المسيحية ليست عقلانية، كما أراد يوستين من قارئيه أن يعتقدوا، إنما هي إعلان إلهي فريد في نوعه. حماس النشوة النبوية لم يكن برهاناً بشرياً إنما هو إعلان للحق المطلق (دفاع 9).
(ب) كان أقدر من يوستين في اللغة والأسلوب وترتيب المادة، بل أكثر المدافعين المسيحيين بلاغة بلا جدال. قال عنه مانسيل سبنسر أنه أفضل المدافعين. بليغ ومتحرر من زخرف اللغة، قوى في أسلوبه… معروف بوضوح الفكر وقدرته على الإفحام. كما وصف أنه أقدر المدافعين على الاستمالة.
(ج) امتاز عن يوستين باعتداله وتعقله، فلم يكتب بطريقة وعظية، بل كان يهدف بوضوح إلى تقديم حكم في قضية المسيحيين بطريقة هادئة غير عاطفية. كتب باسم الفلسفة وباسم العدالة التى اشتهر بها الإمبراطوران، مدللاً على بطلان الاتهامات الموجهة ضد المسيحيين من الوشاة، ربما قصد بهم السوفسطائيين أمثال كريسكنس، وفرونتون، وكلسس. ودون أن يتهم الإمبراطورين بالظلم إذ يعلم أن غلاظة القول إنما تزيد الحقد.
تظهر رقته في الأسلوب واعتداله في قوله إن العالم كله – مدناً وأفراداً – يتمتعون بحسن معاملتكم. المسيحيون وحدهم مضطهدون بسبب إشاعات وأقاويل… “إذا استطاع أحد، حقا، أن يثبت علينا جريمة صغيرة كانت أو كبيرة، فإننا لا نطلب أن نعفى من العقوبة، بل نحن على استعداد أن نحتمل أشد عقاب أو أقصاه” (دفاع 2).
3 – في هذا الاحتجاج فند أثيناغوراس الاتهامات الثلاثة التي وجهت ضد المسيحيين في ذلك الحين ألا وهي : الإلحاد، وأكل لحوم البشر، وممارسة المعاشرات الأوديبية.
أما علة اتهاماتها فغالباً ما ترجع إلى الأسباب التالية :
أ – رفض المسيحيون الاشتراك فى الطقوس الشعبية التقليدية الخاصة بأعياد الآلهة. لهذا اتهموا بكراهيتهم للآلهة والإلحاد، كما اتهموا باحتقارهم الشعوب الأخرى وعدم ولائهم للإمبراطور.
ب – أساء الوثنيون فهم ” سر الإفخارستيا “، فظنوا فيهم آكلي لحوم البشر.
ج – الاجتماعات المغلقة الخاصة بممارسة الليتورجيات السرائرية مع وجود علاقات وطيدة بين المسيحيين وبعضهم البعض، واشتراك الجنسين معا حتى في الدراسة في مدرسة الإسكندرية، هذا كله أدى إلى تشكك الوثنيين في أمر هذه الاجتماعات، لهذا اتهموهم بالمعاشرات الأوديبية حتى يحطموا هذه الاجتماعات المغلقة ويعرفوا أسرارها.
4 – من جهة الاتهام بالإلحاد أكد أثيناغوراس أن المسيحيين وإن كانوا لا يؤمنون بتعدد الآلهة لكنهم يؤمنون بالله الواحد، هذه الوحدانية ليست غريبة عن الفكر اليوناني، بل وجدت لدى بعض شعرائهم وفلاسفتهم، ومع ذلك لم يتهموا بالإلحاد (فصل 6)، مع أن براهينهم التي قدموها ضعيفة، أما المسيحيون فقد تقبلوا إعلاناً إلهياً وتعليماً خلال الأنبياء بواسطة الروح القدس. بجانب ذلك وجدت البراهين العقلية جنباً إلى جنب مع إيمانهم، فالمسيحي يقبل الله بطريقة أكثر نقاوة وكمالاً مما لكل الفلاسفة.
المسيحيون لا يعبدون آلهة كثيرة، ولا يقدمون ذبائح دموية، ولا يعبدون العالم، بل خالقه (فصل 8 ، 9 ، 16). يؤمنون بالله السرمدي الروح الذي هو: “الآب والابن والروح القدس” (فصل 10).
5 – أما عن الاتهام بأنهم أكلة لحوم البشر فيقول إنه لو كان هذا حقاً لالتزم الأمر ارتكاب جرائم قتل، لكن المسيحيين يفزعون حتى من رؤية من حكم عليهم بالإعدام، كأنهم يشتركون في جريمة القتل مع منفذ الإعدام (فصل 35).
يقول أيضاً كيف يفعلون هذا وهم لا يطيقون مشاهدة ألعاب المصارعة مع السباع والحيوانات الضارية التي يتلذذ الوثنيون بمشاهدتها؟! ويدلل على كذب هذا الاتهام من أن المسيحيين يعتبرون النسوة اللاتي يستعملن العقاقير لإسقاط جنين، يرتكبن قتلاً، يسألن عنه أمام الله. أخيراً فإن المسيحيين وهم يؤمنون بقيامة الأجساد كيف يجعلون من أنفسهم ضريحاً لأجساد لابد أن تقوم ؟!
6 – أوضح الفيلسوف أن أخلاق المسيحيين العالية تدرأ عنهم الاتهام الظالم من جهة المعاشرات الأوديبية، إذ يعتقدون أن الله ينظر أفكارهم وحركات قلوبهم ونظراتهم. إن هذا الاتهام يصدق على الوثنيين الذين نظموا قصصاً من هذا النوع عن آلهتهم، فقالوا أن زيوس أنجب أولاداً من أمه ريا وابنته كوربا واتخذ أخته زوجة (فصل 32).
أكد أيضاً كذب الاتهامات من الاحترام المتبادل بين المسيحيين وبعضهم البعض، ونظرتهم المقدسة للزواج، ورفضهم الطلاق، وحبهم للحياة البتولية.
7 – أوضح أيضاً إخلاص المسيحيين للحكام، فهم يصلون من أجل خير المملكة وثباتها ودوام انتقال التاج الإمبراطوري في النسل الملكي.
8 – في دفاعه تخطى الدفاع إلى الكرازة، فوجد الفرصة سانحة لإعلان الحق أمام الإمبراطورين وكل من يقرأ الاحتجاج. يعلن الحق مؤيداً ذلك بدلائل مقتبسة من أقوال الشعراء والفلاسفة مع قليل من نصوص الكتاب المقدس، فهو يحدثهم بلغة العصر التي يفهمونها. وفي دفاعه اهتم بإبراز سمو الحياة المسيحية. فإن المسيحية وحدها تستطيع أن ترفع القطيع الصغير إلى الفضيلة العالية، الأمر الذي يعجز الفلاسفة عن البلوغ إليه.
نص الدفاع عن المسيحيين
للفيلسوف و المسيحي أثيناغوراس الأثيني Athenagoras إلى كل من الامبراطور ماركوس أوريليوس أنونينوس Marcus Aurelius Anoninus و الإمبراطور لوكيوس أوريليوس كومودس Lucius Aurelius Commodus فاتحى أرمينيا Armenia و سارماتيا Sarmatia و اللذين هما قبل كل شىء فيلسوفين.
1- ما يتعرض له المسيحيون من ظلم :
فى إمبراطوريتكم– يا أعظم الحكام – لمختلف الأمم عادات و قوانين مختلفة , و ليس لدى أى منهم مانع من القانون أو من خوف من عقاب , من أن يتبع عادات أجداده مهما كانت هذه العادات سخيفة , فمواطن ” ايليم ” Ilium يدعو ” هكتور “Hector إلها ً , و يتعبد للربة ” هيلين ” Helen معتبرا ً إياها على قدم المساواة مع ” ادراستيا ” Adrasteia و المقدونى يقدس ” أجاممنون ” Agamemnon بصفته ” زيوس ” Zeus و كذلك بالنسبة ” لفيلونية ” Phylonoe ابنه ” تينداروس “Tyndarus و الانسان من ” تينيدوس ” Tenedos يعبد ” تينيس ” Tennes . و الأثينى يقدم القرابين ( الأضاحى ) لـ ” إيريختوس ” Erechtheus كما ” بوسيدون ” Poseidon و يمارس الاثينيون طقوسا ً دينية , و يحتفلون بأسرار تمجيدا ً ” لاجرولوس ” Agraulus و ” باندروسس ” Pandrosus و هما امرأتان ادينتا لمروقهما و عصيانها لأنهما فتحتا الصندوق , و اختصارا ً للقول , فإن الناس فى كل أمة و كل شعب يقدمون أضاحيهم و يحتفلون بعقائدهم كيفما شاءوا . بل إن المصريون يعبدون حتى القطط و التماسيح و الأفاعي و الحيات و حتى الكلاب , و لكن هؤلاء منحتهم الاذن و شرعتهم لهم أن يفعلوا ما يريدون باعتبار أن عدم الإيمان بإله شر و إثم – هذا من ناحية – و من ناحية أخرى إنه من اللازم لكل إنسان أن يعبد ما يفضل من آلهة إذ أن إيمانهم بمعبود يصونهم من الخطأ و لكن لماذا ؟ و أنتم لا تضللكم الشائعات كما تفعل بالعامة ؟ لماذا يكون مجرد اسم مكروها منكم فى حين أن الأسماء لا تستحق الكراهية , و لكن أعمال الظلم التي تؤدي إلى المجازاة و توقيع العقوبة من أجل ذلك , و اعجابا ً بحكمكم و رقتكم و طباعكم الميالة للسلام و المحبة لخير جميع الناس , عاش الناس متمتعين بالمساواة فى الحقوق , تشترك المدن و البلاد – كل حسب قدره – في الكرامة , و تنعم الإمبراطورية بأكملها بالسلام الشامل في ظل حكمكم الرشيد .
أما بالنسبة لنا , نحن الذين ندعى المسيحيون , فإننا لم نحظى منكم بمثل هذه الرعاية برغم أننا لم نرتكب أى إثم – و لكننا – و كما سيتضح من هذا الخطاب – و من بين كل الناس , إذ نحن الأكثر ورعا ً و تقوى , الملتزمين جادة الحق نحو إلهنا و نحو حكومتكم, و تسمحون بأن يضيق علينا و نسلب و نضطهد , و أن يشن علينا العامة حربا ً لا لسبب إلا من أجل اسمنا , لذلك فنحن نتجرأ و نضع بين أيديكم , تقريرا ً عن قضيتنا , و سوف تعلمون من هذا الحديث , أننا نعانى ظلما ً بما لا يتفق مع أى شريعة أو عقل , و نحن نتوسل إليكم أن تضفوا علينا شيئا ً من الاعتبار , و حتى لا نقدم للذبح بسبب إتهام ظالمين مزورين لنا , إذ أن الغرم ( الغرامة ) الذى يوقعه علينا من يضطهدونا ليس قاصرا ً على أملاكنا , و لا اقتصرت إهاناتهم على النيل من سمعتنا , و لا أوذينا فى كل شىء يمت لنا بصلة فقط , و إن كان ذلك فى نظرنا محتقرا ً و إن بدا فى نظر العامة هاما ً , لأننا تعلمنا – ليس فقط – أن لا نرد الضربة بمثلها , و لا نشكو للقضاء أولئك الذين ينهبوننا و يسرقوننا , بل لأولئك الذين يصفعوننا على خد ندير لهم الخد الآخر , و لأولئك الذين يأخذون منا الثوب , نعطيهم أيضا ً الرداء , و لكنهم , و بعد أن ضحينا بأملاكنا , تآمروا علينا جسدا ً و روحا ً , و أخذوا يكيلون لنا التهم بالجملة , و نحن أبرياء من مجرد التفكير فى هذه الجرائم , التى تخص هؤلاء المهرجين الأغبياء , و كل من يشابههم و ينتمى إليهم .
2– المطالبة بأن يعاملوا كما يعامل غيرهم عندما توجه إليهم التهم
إذا استطاع أحد – حقاً – أن يحكم علينا بالإدانة فى جريمة ما صغرت ام كبرت , فنحن لا نطلب أن نعفى من العقاب و لكننا مستعدون أن نخضع لأشد أنواع الجزاء , و لكن إن كانت التهمة قاصرة على اسمنا – و هى غير منكورة – فإنه و حتى وقتنا هذا , فإن ما يقال عنا , لا يخرج عن أن يكون أقاويل ترددها العامة و تفتقد الدقة , إذ لم يسبق و أدين مسيحي في جريمة , لذا فقد أصبح لزاما ً عليكما أيها الملكان المستنيران , الخيران , – أن ترفعوا – بالقانون – عنا المعاملة الظالمة , كما أن العالم كله يتمتع – مدنا ً و أفرادا ً – برعايتكم الكريمة , فإننا سوف نشعر بالامتنان لكم – سعداء لأننا لن نكون مستقبلا ً ضحايا لاتهامات ظالمة .
إذ انه لا يتفق و عدالتكم , أنه بينما عندما يتهم الآخرون بجريمة ما لا يعاقبوا حتى تثبت إدانتهم فى حين أنه بالنسبة لنا يكون للإسم الذى نحمله تأثيرا ً أقوى من الأدلة التي تتضح من خلال المحاكمة , و بدلا ً من أن يتحقق القضاة من أن الشخص الماثل أمامهم قد أرتكب الجرم حقا ً , يوجهون إهانتهم على أساس الاسم , و كأنه تهمة فى حد ذاته , فليس هناك اسم , يعد طيبا ً أو شريرا ً فى حد ذاته , فالأسماء تحسب طيبة أو شريرة حسب الأفعال التي تختفي خلف هذه الأسماء , خيرة كانت أم شريرة و لأنكم تعمقتم فى دراسة الفلسفة , و كل علم , فلابد أن لديكم خبرة بهذا , و لهذا السبب أيضا ً فإن الذين يمثلون أمامكم للمحاكمة , حتى لو كانوا متهمين بأخطر الاتهامات لن يخافوا – لأنهم يعرفون أنكم ستتحققون من حياتهم السابقة و لن تتأثروا بالأسماء طالما لا تعني شيئا ً , و لا بالاتهامات الواردة في قائمة الادعاءات ضدهم إذا كانت غير صحيحة , متقبلين برضا كامل و واثقين من عدالة الحكم , سواء كان بالبراءة أو الإدانة , إن ما نطلبه من حق , و هو الحق العام الذى يعد ملكا ً للكل , و لذا نطلبه لأنفسنا أيضا ً , و هو أن لا نكون مكروهين , معاقبين , لأننا ندعى مسيحيون ( إذ ما هو دور الاسم فى الحكم علينا بأننا أناس أشرار ) و لكننا نحاكم لما يوجه إلينا من اتهامات , و يطلق سراحنا , إذا تم نفيها أو نعاقب إن ثبتت علينا الادانة و ليس بسبب إسمنا ( لأنه لا يوجد مسيحى ردىء إلا إذا كان إيمانه بعقيدتنا باطلا ً ) و لكن ويل للخطأ الذى ارتكب إذ نرى أنه على هذا النحو يجب أن يحاكم الفلاسفة , فلا يعتبر الواحد منهم , و من قبل أن يحاكم , طيبا ً أو شريراً بناء عما عرف عنه من علم أو فن ,
و لكن إذا وجد مذنبا ً بفعل الشر , يلقى عقابه , و دون أن توصف الفلسفة بوصمة عار ( لأنه شرير ذاك الذى لا يستخدم الفلسفة الاستخدام المشروع , أما العلم نفسه فهو ليس موضع لوم ) . أما إذا نقض الاتهامات الباطلة فيتم تبرئته , و لتكن تلك المساواة من نصيبنا . و لنتوالى فحص حياة المقدمين للمحاكمة و لكن يبقى الاسم بعيدا ً عن كل اتهام . و في مستهل دفاعي – أتوسل إليكم أيها الملوك المستنيرين أن تنصتوا إلى دون تحيز , و لا تجرفكم الشائعات و الأقاويل الغير معقولة بعيدا ً , مما يجعلكم تحكمون فى القضية مسبقا ً , و لكن أن تستخدموا رغبتكم فى المعرفة و حبكم للصدق لتفحصوا عقيدتنا أيضا ً , عند ذاك فلن يكون هناك خطأ من قبلكم بسبب الجهل , أما فيما يختص بنا , فسوف يتوقف تيار الإساءة و التجني – عندما تسقط عنا التهم التي توجه لنا نتيجة ما يرويه عنا العامة من إشاعات لا منطق فيها .
3- ما يتعرض له المسيحيون من ظلم
يدعى علينا بثلاثة أشياء : الالحاد , الولائم الثيستينية Thyestean feasts , و العلاقات الجنسية الأوديبية Odeipodean intercourse , فإن ثبتت صحة هذه الادعاءات فلن تعفونا من أى منها مهما كان بسيطا ً , بل واجهوا جرائمنا , و اقضوا علينا أصلا ً و فرعا ً , مه زوجاتنا و أطفالنا , إن تبين لكم أن أي مسيحي يعيش حياة الوحوش , إذ أنه حتى الوحوش لا تقرب لحوم نفس نوعها , و هى فى تزاوجها تتبع قانون الطبيعة , و يتم ذلك فى مواسم معينة , ليس تحت تأثير الرغبة الهوجاء , بل إنها أيضا ً تدرك و تميز أولئك الذين يقدمون لها نفعا ً , فإن كان هناك من هو أكثر همجية من الوحوش , فإن أي عقاب يوقع عليه يعتبر قصاصا ً عادلا ً لما ارتكبه من فعل الشر , و لكن أن كانت تلك الأشياء هى حكايات لا طائل وراءها , و افتراءات لا مضمون فيها , نابعة من أن الفضيلة – بطبيعتها – تضاد الزذيلة , و بموجب قانون سماوى يجري بينهما صراع الأضداد ( و أنتم أنفسكم تشهدون أننا لم نرتكب هذه الأفعال الآثمة , لأنكم أوقفتم توجيه الاتهامات لنا ) في يبقى لكم إلا أن تجروا تحقيقا ً عن حياتنا , و معتقداتنا , و تفحصوا ولاءنا و طاعتنا لكم و لأسرتكم و للحكومة , متعطفين علينا بنفس الحقوق التى للآخرين و ليس أكثر , و أولئك الذين يضطهدونا , في هذه الحالة سوف ننتصر عليهم باذلين حياتنا – ذاتها – و دون تردد من أجل الحقيقة.
4– المسيحيون ليسوا ملحدين و لكنهم يعرفون إلها ً واحدا ً
و إيماء إلى الأدعاء , و هو ما سأبدأ به , إذ سأتناول الاتهامات واحدا ً تلو الآخر و حتى لا نحتقر لأننا لا نملك ردا ً على من يوجه إلينا الاتهامات , و لقد أدان الأثينيون دياجوراس – Diagoras بتهمة الإلحاد لانه افشى اسرار الديانة الأورفية و اذاع اسرار اليوسيس – Eleusis و كابيرى – Cabiri , و حطم تمثال هرقل Herculesالمصنوع من الخشب , و إستخدم قطعة ( كوقود 12 ) لسلق اللفت , ليس هذا فقط بل لأنه أعلن على الملأ أنه لا يوجد إله على الإطلاق , أما بالنسبة لنا فنحن نفرق بين اللـه و المادة , و نعلم بأن اللـه شىء و المادة شىء آخلا و أن بينهما بونا ً شاسعا ً ( لأن اللـه غير مخلوق , أزلي , أبدي , يدرك بالعقل وحده , بينما المادة مخلوقة و فانية ) أليس مما لا يعقل أن يطلق علينا – إذاك – أننا ملحدون ؟
و هل كانت مشاعرنا تلك التي كانت لدياجوراس – Diagoras , و نحن لنا اقتناع نعتبره ربما لنا – مؤمنين أتقياء بالنظام المستقر , التناغم العالمى , حجم , و لون , و شكل و ترتيب هذا العالم , أيعقل مع ذلك ما أشيع عنا من عدم الإيمان , و هو ما كان سببا ً فى اضطهادنا على هذه الصورة و بما شكل ضغطا ً علينا , أو نعامل نحن الذين فى عقيدتنا أن نؤمن بإله واحد , خالق ( صانع ) هذا العالم , و الذي هو نفسه غير مخلوق (لأنه ما هو كائن } منذ الأزل {ليس عليه أن يأتى للوجود , ما لم يكن موجودا ً) ذلك الذي خلق العالم ( الكلمة Logos ) , و التي هي نابعة منه , أو نعامل – دون مبرر – بصفتنا سيئى السمعة و نضطهد .
5– شهادة الشعراء لوحدانية اللـه
يعتبر الشعراء و الفلاسفة ملحدين رغم انهم بحثوا ما يختص باللـه فيوربيديس -Euripides عندما يتحدث عن أولئك الذين – عن جهل – يسمون آلهة – حسب الاعتقاد العام للجماهير , يقول متشككا ً : ” إن كان زيوس – Zeus بحق يحكم فى السماء لما كان عليه أن يرسل المعاناة لمن كان بارا ً . ” و متحدثا ً عن اللـه الذى يدرك بالفهم على أنه ذاك الذى له المعرفة المعينة : فإنه يبدى رأيه واضحا ً و محددا ً و بذكاء على النحة التالي ( الآتى ) : ” انظره في عليائه قابضا ً على الأثير الغير محدود و الأرض كليهما , بذراعيه النديتين , هذا هو زيوس Zeus الذى نؤمن بانه اله ” .
لأنه فيما يختص بأولئك الذين يدعون آلهة فهو لا يعتقد أن هناك وجودا ً حقيقيا ً لما تعبر عنه هذه الأسماء , و زيوس Zeus – مثلا ً ( من هو زيوس – Zeus , إني و إن كنت أسمع عنه لا أعرفه ) و ليس خلف هذه الأسماء , حقائق ملموسة تعبر عنها ( إذ ما جدوى الأسماء أن لم يكن لما تعبر عنه وجود حقيقى ) و لكن هو اللـه الذى عرفه من خلال أعماله , آخذا ً فى الاعتبار و مؤمنا ً بما لا يرى , بما يشاهده فى الأثير و الهواء و الأرض , اللـه الذي منه تصدر كل المخلوقات , و التي يتحكم فيها بروحه, و بذلك استنتج أنه الإله , و قد اتفق معه سوفوكليس – Sophocles فى القول ( إنه يوجد إله واحد , و فى الحقيقة لا يوجد سوى واحد ) . ذلك الذي صنع السموات و الأرض الفسيحة من تحتها ) .
( و يوريبيدس – Euripides متحدثا ً ) عن طبيعة اللـه الذي تمتلىء اعماله بالجمال , موضحا ً مقام اللـه , و أنه لابد و أن يكون واحدا ً .
6– آراء الفلاسفة عن الإلـه الواحد
و عندما يقول فيلولاوكس Philolaus إن جميع الأشياء مندمجة فى اللـه فى رباط لا ينفصم يعلم بأنه أيضا ً إله واحد و أنه أسمى من المادة , و يعرف كل من ليسيس – Lyses – و ابسيموس Opsimus اللـه , فيقول أحدهما , إنه عدد لا ينطق به , و يقول الآخر , إنه مازاد عن العدد الأكبر , متجاوزا ً ذلك الذى أقرب ما يكون منه , و لأن العدد ( 10 ) هو أكبر الأعداد فى رأى الفيثاغوريينPhythagoreans , إذ هو إكتمال الرباعى و محتويا ً على كل مبادىء الحساب و التناغم ( الهارمونى ) , و التسعة هى السابقة له , فاللـه يعتبر ( وحدة ) أي واحد , لأن العدد الأعظم ( العشرة ) يفوق الذي يسبقه ( التسعة ) بواحد . ثم يأتي بعد ذلك أفلاطون Plato , و أرسطو Aristotle , و لست هنا أنوى أن استعرض ما قاله جميع الفلاسفة عن اللـه , و كأنى أقصد أن أورد ملخصا ً كاملا ً عن آرائهم , لأني أعلم أنكم و انتم تفوقوا الناس جميعا ً ذكاء , و في قوة سلطانكم , فإنكم أيضا ً تتفوقون عليهم فى المعرفة الدقيقة بكل فروع العلم , و أنكم تدبرتم متزودين من كل فرع من فروعه محققين نجاحا ً لم يدركه الذين تخصصوا في فرع من فروعه .
و لكن لأنه من غير الممكن – و نحن بصدد إيضاح أننا لسنا الوحيدين الذين التزموا , فى اعتقادنا فى اللـه بالوحدانية – أن لا نتعرض لذكر بعض الأسماء لذلك فقد غامرت بعرض العديد من هذه الآراء , إذ أن أفلاطون – Plato يقول ” لكي نكشف عن صانع و أب هذا العالم لهو أمر صعب , و إذا وجد فمن المستحيل أن يظهر للكل ” و قد أدرك أن هناك إلها ً واحدا ً أزليا ً أبديا ً , و عندما يشير إلى آلهة آخرين مثل الشمس و القمر و النجوم , يتحدث عنهم بصفتهم مخلوقات ” تتناسل الآلهة مع آلهة , و أولئك الذين صنعتهم , أما المخلوقات , فلا تنحل بعيدا ً عن إرادتي , إذ أن كل ما كان مركبا ً فسوف يحل و يتفكك ” فإن لم يكن أفلاطون Plato ملحدا ً – و قد أدرك أن هناك إلها ً واحدا ً غير مخلوق , مهندس ذلك الكون و صانعه , نكون نحن أيضا ً غير ملحدين , إذ نؤمن متمسكين بإيماننا بأن اللـه صنع الأشياء جميعا ً بالكلمة Logos و يحفظ عليها وجودها بروحه . أما ارسطو – Aristotle و تابعيه فقد اعترضوا بوجود ( واحد ) و اعتبروه كائنا ً حيا ً مركبا ً , يتحدث عن اللـه بصفته مكونا ً من روح و جسد , و معتقدا ً بأن جسده هو الفراغ الأثيري , و الكواكب السيارة , و دائرة النجوم الثوابت و التي تدور في دوائر , أما روحه فهو العقل الذى يسيطر على حركة الجسد و هى ( الروح ) فى ذاتها غير متحركة , و لكنها علة الحركة للاخرين . إما الرواقيون و رغم أنهم أطلقوا اسماء لتناسب تغيرات المادة . و هم يقولون إن المادة تتخللها روح اللـه , و يعبرون عن اللـه بصيغة الجمع , و لكنهم في الحقيقة يعتبرونه إلها ً واحدا ً لأنه إن كان اللـه هو النار الفاعلة ( الطاقة المحركة ) التي فى سيرها على نهج منظم تصنع مختلف الأشياء فى العالم , محتويا ً في ذاته كل البذور الأولية ( العناصر الأولية ) و التي بواسطتها تصنع الأشياء متفقة مع أقدارها و مصائرها , و إن كانت روحه تملأ العالم كله , فاللـه بالنسبة لهم واحد , في جانبه الحار زيوس Zeus و من جانب الهواء هيراHera و تطلق أسماء أخرى على أجزاء المادة التي تتخللها و تناسب كل نوع من هذه المادة .
7– سمو العقيدة المسيحية فيما يختص باللـه
و لأن الكل تقريبا ً يعترفون بوحدانية اللـه حتى و لو كان ذلك على غير مرامهم , عندما يقولون بالمبادىء الأولية للكون , فنحن أيضا ً – بدورنا – نؤكد أن الذي وضع نظام هذا العالم هو اللـه , اذا ً فلماذا هم يقولون و يكتبون ما يرضيهم فيما يختص باللـه, آمنين من العقاب . و لكننا نحن نواجه بقانون رغم أننا قادرون على إظهار ما ندرك و ما نؤمن به عن حق , أى بوجود إله واحد ببراهين و منطق يتفق مع الحقيقة ؟
لأن الشعراء و الفلاسفة , فى تفكيرهم فى هذا الموضوع و موضوعات أخرى , كان يقودهم الحدس و التخمين , و كان تقدمهم محكوما ً بقابليتهم لتلقى الاتهام النابع من اللـه , كلا فى ذاته و بوجدانه , محاولا ً اكتشاف الحقيقة , و لكن لم تكن لهم القدرة الكاملة على ادراكه , لأنهم ظنوا أنفسهم قادرين ان يتلقوا المعرفة باللـه لا من اللـه ذاته بل من أنفسهم , لذلك فقد توصل كل منهم إلى اعتقاده فيما يخص اللـه و المادة و الشكل و العالم .
أما نحن : فقد كان لنا من الأنبياء شهودا ً لما نعرف و ما نؤمن به , أولئك الرجال الذين نطقوا فيما يختص باللـه , و الأشياء التي من اللـه ترشدهم روح اللـه , و أنتم أيضا ً ستعرفون , و أنتم المتفوقون على الجميع في الذكاء و التقوى للـه الحق , أنه سيكون من غير المعقول ان لا نؤمن بالروح الذي من اللـه , و الذى حرك أفواه الأنبياء , كما تتحرك الآلات الموسيقية , و تأخذوا في الاعتبار آراء البشر .
8 – لا معقولية تعدد الآلهـة
و فيما يختص بالعقيدة التى تقول إنه منذ البدء كان إله واحد صانع هذا الكون , فليكن فى تقديركم أنه من الحكمة أن تتعرفوا على الأسس المؤيدة لإيماننا , فإذا كان يوجد منذ البدء إلهين أو أكثر يوجدا إما في نفس المكان , أو في مكانين مختلفين منفصلين , أما تواجدهما في نفس المكان فمستحيل , لأنهما إن كانا إلهين فلن يكونا متشابهين , لأنهما غير مخلوقين فهما مختلفان . لأن المخلوقات تتشابه في أنماطها , و لكن الغير مخلوقة لا تتشابه , إذ انها ليست من إنتاج أحد , و لا هي مشكلة حسب نموذج محدد , اليد و العين و القدم , أجزاء لجسم واحد , و هي معا تكون إنسانا ً , فهل اللـه واحد بهذا المعنى .
أيضا ً فإن سقراط Socrates كان مركبا و مصنوعا ً من اجزاء , لأنه كان مخلوقا ً و فانيا ً , و لكن اللـه غير مخلوق , و ليس تحت سلطة الألم و المعاناة , و لا هو قابل للانقسام , فهو إذا لا يتكون من أجزاء , و لكن إن كان على العكس وجد كل منهما منفصلا ً , و لأن اللـه الذي صنع العالم هو في مرتبة أسمى من مخلوقاته التي صنعها و رتب لها نظاما ً فأين يكون الآخر أو الباقي ؟
و لأن العالم و هو على شكل كروي , داخل في دوائر السماء , و خالق العالم يعلو على مخلوقاته , ضابطا ً إياهم برعاية علوية, فأين هنا يكون مكان الإله الثانى أو الآلهة الآخرون ؟
لأنه لن يكون فى العالم المنتمى لإله الآخر , و لا حول العالم لأن اللـه صانع العالم هو فوقه , و إن لم يكن لا في العالم و لا حول العالم ( لأن كل ما حول العالم مشغول بذلك الواحد ) , فأين يكون ؟ هل هو فوق العالم و الاله ( الاول ) ؟ ام فى عالم آخر ؟ أو حول عالم آخر , فإن كان فى عالم آخر أو حول عالم آخر فهو لا يحوطنا لأنه لا يحكم العالم و ليست قوته عظيمة لأنه لا يوجد هناك مكان يستوعب حدوده , و ترى ماذا يفعل طالما كان هناك آخر ينتمي العالم له و هو الذي فوق صانه العالم , و إن لم يكن فى العالم أو حول العالم , أيوجد اذا ً مكان آخر يمكن أن يقف فيه ؟ و ان كان اللـه و ما يتعلق به اعلى منه . و هنا مرة اخرى أين سيكون مكانه طالما ان الآخر يملأ كل المناطق التي تعلو العالم ؟ ربما كان يمارس عناية علوية ؟ ( ليس هناك إلى ذلك سبيل ) و لكن إن لم يكن قد فعل هذا , فلن يكون قد فعل شيئا ً , فإن كان لا يفعل شيئا ً و لا يمارس عناية علوية , و إذا كان لا يوجد هناك مكان آخر يوجد فيه إذا ً فهذا الكائن الذي نتحدث عنه الإله الواحد منذ البدء و الصانع الوحيد للعالم .
9 – شهــــادات الأنبيـــاء
و إن كنا أرضينا أنفسنا بأن أوردنا اعتبارات مثل تلك , فربما سوف يظن البعض أن معتقداتنا إنسانية المصدر , و لكن أصوات الأنبياء تؤكد حججنا و إني لأعتقد أنكم أنتم أيضا ً بحماسكم العظيم للمعرفة , و للإنجازات الكبرى في العلم , فلستم بجاهلين لكتابات موسى Moses أو اشعياء Isaiah أو ارميا Jeremiah و باقى الأنبياء الذين تساموا في نشوة فوق قدراتهم الذهنية الطبيعية , متلقين من الروح الأسمى و مضات نطقوها بالأشياء التي أوحى لهم بها , و قد استخدم الروح كما يصنع عازف الناى الذى ينفث أنفاسه في نايه .
فماذا قال هؤلاء الرجال إذا ً ؟ (الرب إلهنا ليس مثله أحد) , و مرة أخرى (أنا اللـه , أنا الأول , و أنا الآخر و لا إله غيري) , و بأسلوب مماثل (أنا هو قبلي لم يصور إله و بعدي لا يكون , أنا , أنا الرب و ليس غيري مخلص) , و تعبيرا ً عن عظمته (السموات كرسي و الأرض موطن قدمي , أين البيت الذى تبنون لي و أين مكان راحتى ؟) .
و لكن أترك ذلك لكم , و عندما تلتقون بالكتب نفسها , أن تفحصوا بأهتمام النبؤات الواردة فى هذه الكتب , و منها ستتولون الدفاع عنا على أسس قوية فى مواجهة سوء المعاملة التى نلقاها .
10– المسيحيون يعبدون الآب و الابن و الروح القدس
لقد أوضحت بما فيه الكفاية أننا لسنا ملحدين , نعبد إلها ً واحدا ً غير مخلوق , أبدي أزلي , غير مرئي , غير خاضع لسلطان الالم , غير محاط به , غير محدود نعرفه بالعقل و الفكر , و يحيط بالنور و الجمال و الروح و القوة التي لا توصف : ذلك الذي خلق العالم بالكلمة و رتب له نظاما ً و حفظ له وجوده المستمر ( أنا اقول ” كلمته ” Logos ) , و نعترف أيضا ً بالإبن و لا يجب أن يظن أحد أنه من الحمق أن يكون للـه ابنا ً , فرغم ان الشعراء فى خيالهم يصورون الآلهة بما لا يفضل البشر . إلا أن اسلوبنا فى التفكير غير اسلوبهم , سواء فيما يختص باللـه الآب أو الابن , إذ أن اللـه هو كلمة الآب ( Logos ) فى الفكر و فى الفعل , لأنه حسب نظامه ( اللـه ) و به كان كل شىء , الآب و الابن هما كائن واحدا ً , فالإبن كان في الآب و الآب فى الإبن فى وحدانية و قوة الروح : الفهم و العقل , اللذان للآب هما إبن اللـه . و لكن إن يبدو لكم بذكائكم الفائق أن تستفسروا عما نعنى بالابن فسأقول باختصار إنه أول ما صدر عن الآب – ليس بمعنى أنه أتى به للوجود ( لأنه و منذ البدء , اللـه و هو العقل الأزلي – (vous – ناؤوس ) كانت فيه الكلمة , و هو منذ الأزل كائن مع الكلمة (logiko/j – لوجيكوس ) بل إنه ظهر بصفته العقل و القوة و الحركة لكل الأشياء التى من المادة و التي هي بمثابة طبيعة دون خواص, و أرض ساكنة حيث تختلط الجزئيات الكبيرة بتلك الاخف وزنا ً .
و تتفق معنا فيما ذكرنا روح النبوة فالرب يقول (اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ مُنْذُ الْقِدَمِ ). الروح القدس – أيضا ً الفاعل في الأنبياء نؤكد أنه منبثق13 كفيض من اللـه ( يفيض منه ) خارجا ً عنه عائدا ً إليه ثانية كأنه شعاع الشمس , من ترى لا يأخذه العجب عندما يسمع اناسا ً يتكلمون عن اللـه الآب و اللـه الابن و الروح القدس , و الذين يعلنون عن قواتهم فى التوحد, و تمايزهم فى الترتيب , يسمسهم ملاحدة ؟
و لا يقتصر تعاليمنا فيما يختص بالطبيعة الالهية على ذلك , و لكننا نؤمن أيضا ً بجمهرة من الملائكة و الخدام أولئك الذين قام اللـه , صانع و مهندس العالم , بتوزيعهم و تكليفهم كل في مختلف مواقعهم بكلمته , شاغلين أنفسهم بالعناصر و السموات و العالم و الأشياء التي في العالم و حسن التنظيم لكل ذلك .
11– التعاليم الأخلاقية للمسيحيين تنفي التهم الموجهة إليهم
الدهشة تمتلككم – إذا تعمقتم في التفاصيل الدقيقة المميزة لعقيدتنا , و ذلك و حتى لا تجرفكم معتقدات العامة – الغير معقولة – بعيدا ً , و لكن لكي تتضح الحقيقة ناصعة أمامكم لأننا فى عرضنا للتعاليم التى نتمسك بها , و على أنها ليست من البشر , بل هي نطق و تعليم إلهي أردنا أن نقنعكم أننا لسنا ملحدين .
ما هى إذا ً تلك التعاليم التى ربينا و نشأنا على طاعتها ؟ ” و لكنى أقول لكم أحبوا أعدائكم , أحسنوا إلى مبغضيكم , باركوا لاعنيكم , و صلوا من أجل الذين يسيئون إليكم , لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات , فإنه ينشر شمسه على الأشرار و الصالحين و يمطر على الأبرار و الظالمين ” و اسمحوا لي هنا أن أرفع صوتي فى جرأة صارخا ً مجلجلا ً ضارعا ً في حضرة أمراء المتفلسفين قائلا ً :
فمن من هؤلاء الذين ينتقضون القياس المنطقي و يجلون الغوامض و يشرحون الأصول اللغوية , أو هؤلاء الذين يدرسون المترادفات و المتشابهات و البديهات و المأثورات , و ما هو الفاعل و ما هو المسند , و هؤلاء الذين يوعدون أتباعهم بالسعادة من خلال مثا هذه التعاليم , فمن من هؤلاء جميعا ً طهروا أرواحهم حتى أصبحوا بدلا من أن يمقتوا أعداءهم يحبونهم , و بدلا من أن يتكلمون بشر عمن أساءوا اليهم ” متجنبين كل ما يقوم دليلا على نقض قوة تحملهم ” يباركونهم و يصلون من أجل الذين تآمروا على حياتهم ؟ و لم يتوقفوا عن البحث بمهارة في أسرار فنهم بإصرار خبيث عاكفين دوما – على فعل الشر , و مجيدين لفن الكلام , و ليس إظهار الأعمال , جاعلين من ذلك شغلهم و صنعتهم , و ستجد بيننا أناسا ً غير متعلمين , و حرفيين , و سيدات مسنات اولئك الذين لا يستطيعون – بالكلمات – إثبات جدوى عقيدتنا , و لكنهم بأعمالهم يثبتون النفع الذى يعود عليهم من اتباع الحق , انهم لا يحفظون عن ظهر قلب العظات , و لكنهم يظهرون الأعمال الطيبة , عندما يضربون لا يضربون فى المقابل , و عندما يسرقون لا يذهبون مشتكين إلى القضاة , يعطون من يسألهم , و يحبون جيرانهم كأنفسهم.
12 – لا معقولية الاتهام بالإلحاد
و كيف لنا أن نطهر أنفسنا من الإثم , إن لم نكن مؤمنين بإله يهيمن على الجنس البشري؟ لن يمكننا ذلك بالتأكيد و لكن و لأن لدينا القناعة أننا سوف نعطى حسابا ً عن كل شىء فى حياتنا الراهنة للـه خالقنا و خالق هذا العالم , لذا فنحيا حياة منضبطة و خيرة و إن كانت محتقرة , مؤمنين أننا نقاسى و نعانى من شر كبير هنا , و حتى لو وصل بنا الأمر أن تنتزع منا الحياة نفسها , فإنه لا يقارن بما يمكن أن نلقاه جزاء حياتنا المتواضعة الخيرة الحكيمة , من الديان الأعظم و لذا ذكر أفلاطون – Plato أن مينوس – Minos و رادامانتوس Rhadamanthus سوف يحاكمان و يعاقبان فاعل الشر , و لكننا نقول أن أي إنسان كان هو مينوسMinos و رادامانتوس Rhadamanthus أو أبوهم لن يهرب من حساب اللـه , و هل نعتبر من أولئك الذين يعتقدون أن الحياة مجرد ” دعنا أن نأكل و نشرب , لأننا غدا ً نموت ” و الذين يعتبرون الموت نوما ً طويلا ً و نسيانا ً ” النوم و الموت توأمان ” يعتبرون أتقياء بينما من يحسبون حياتهم الراهنة غير ذات قيمة , و أنهم مقودين إلى حياة الدهر الآتى بشىء واحد هو أنهم عرفوا اللـه الآب و الكلمة الذي منه , و وحداية الإبن مع الآب , و شركة الآب مع الإبن , و ما هو الروح القدس, و اتحاد الثلاثة , الآب و الإبن و الروح القدس رغم تمايزهم , أولئك الذين يؤمنون أن الحياة الآتية التي يشتاقون إليها أعظم بكثير من أن توصف بالكلمات , و التي يشترط لنيلها أن نكون أنقياء من كل فعل شر , أولئك الذين يتصاعدون و يرتقون بحب خير إلى درجة أننا لا نحب فقط أصدقاءنا ” لأنكم إن أحببتم ” يقول الوحي ” لأنكم إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم ” أقول إن كان ذلك طبعنا , و إن كانت هذه حياتنا التي نحياها حتى لا نقع في دينونة , ألا نعد أتقياء ؟
تلك مجرد أشياء صغيرة من اخرى عظيمة , و قليل من كثير , و حتى لا نثقل على حلمكم – نقول – إن أولئك الذين تذوقوا الشهد , و ذاقوا اللبن المخمر , يستطيعون من خلال الكمية الضئيلة ( التى ذاقوها ) أن يحكموا على الكمية كلها إن كانت طيبة
13– لماذا لا يقدم المسيحيون أضحيات
و لكن لأن غالبية أولئك الذين يتهموننا بالإلحاد , و لأنهم يفتقدون حتى إلى أقرب المفاهيم الحالمة عن اللـه هم حمقى , و بعيدين تماما ً عن معرفة أمور الطبيعة و الآلهة , و يقيسون التقوى بتقديم الأضاحي ( القرابين ) لذا فهم يتهموننا بعدم تقديم الاحترام للآلهة مثل سكان المدن , و ردا ً على النقطتين السابق الإشارة إليهما , ربما تريان أيها الإمبراطوران – أن تتابعوا برضا – عرضنا للاعتبارات الآتية :
أولا ً , و فيما يختص بعدم تقديمنا ذبائح , فإن خالق هذا العالم , و اب الجميع لا يحتاج لسفك دم , و لا لرائحة التقدمات المحرقة, و لا لعبير الزهور و رائحة البخور , إذ أنه في حد ذاته هو العطر الكامل , غير محتاج لشىء من الداخل أو الخارج , و لكن أكثر ما نقدمه له فعلا ً , هو أن نعرف من الذى مد قبة السماء و رفعها , و ثبت الأرض في مكانها كمركز , و من الذى جمع الماء في البحار و استل النور من الظلمة , من الذى زين السماء بالنجوم و جعل الأرض تنبت البذار من كل الأنواع , من الذى خلق الحيوانات و أبدع الإنسان , عندما نعرف أن اللـه خالق و صانع و مهندس كل الأشياء و هو الذى يحفظ لها وجودها , و يهيمن عليها جميعا ً و حسن التدبير نرفع له ” أكف الضراعة و التمجيد ” , أغير يد اللـه ما هو اكثر من ذلك , مذبحة لمئات الثيران ؟
” لأنهم و هم الفانون , إذا ارتكبوا الخطأ , أو حادوا عن الصلوات , فالأضاحي و الصلوات و السكائب و المحرقات قد يحرمون ” إذ بماذا استفيد من الضحايا المهلكة , طالما ان اللـه لا يحتاجها و إن كان – حقا ً – يجب علينا ان نقدم ذبيحة غير دموية ” عبادة نابعة من العقل ” .
14 – أولئك الذين يتهمون المسيحيين – ينـاقضون أنفسهم
أما بالنسبة للتهمة الأخرى , أننا لا نصلي و لا نؤمن بالآلهة , التى تؤمن بها المدن , فهي تهمة غاية فى السخف , فلماذا هم يتهموننا بالإلحاد لأننا لا نتعبد لنفس الآلهة التى يظهرون لها الاحترام , و هم أنفسهم لا يتفقون على رأى بشأن تلك الآلهة ؟ فالأثينيون ألهوا كيليسوس Celeus و ميتانيرا Metanira و المقدونيون مينيلاوس Menelaus مقدمين له القرابين و مقيمين له الاحتفالات , بينما سكان طروادة Ilium لا يحتملون مجرد سماع اسمه , و يقدمون إجلالهم لهكتور Hector أما اهل كينيا Ceans فيعبدون اريستاوس Aristaeus معتبرينه مساويا ً لزيوسZeus و أبوللو Apollo أما اهل تاسيا Thasians فيتعبدون لثياجينيسTheagenes و هو رجل ارتكب جريمة قتل أثناء الألعاب الأوليمبية , و الساميانيونSamians يؤلهون ليساندر Lysander دون نظر إلى المذابح و الجرائم التي ارتكبها , و ألكمان Alcman و هسيود Hesiod يوقرون ميديا Medea و السيلسيون Cilicians نيوبى Niobe و الصقليون فيليب Philip ابن بوتاسيدسButacides و الاماثوسيون Amathusians أونيسيل Onesilus و القرطاجنيون هاميلكار Hamilcar و لن أجد الوقت الكافى لأعدد الجميع , فطالما أنهم يحتفلون فيما بينهم فيما يختص بآلهتهم , فلماذا يتهموننا بأننا لا نتفق معهم و ننظر إلى ما يمارسه المصريون , أليست تلك غير معقولة تماما ً ؟ إذ أنهم فى معابدهم و من خلال احتفالاتهم الرصينة يدقون صدورهم من أجل الأموات , و يقدمون القرابين لهم كآلهة , و ليس بمستغرب فى نظرهم أن يؤلهوا البهائم , و يحلقون شعورهم حزنا ً عندما تموت هذه الوحوش و يدفنونهم فى معابدهم و يعلنون حزنا ً عاما بين الجماهير , فإن كنا ندان بأننا غير ورعين و لأننا لا نمارس طقوسا ً مشابهة لما يفعلون , إذا ً فكل المدن و جميع الأمم مذنبة و مدانة بنفس التهمة لأنهم لا يتعبدون – جميعا ً – نفس الآلهة .
15 – المسيحيون يميزون اللـه من المادة
و لنفترض أنهم على حقيقة واحدة , فماذا بعد ؟
لأن العامة الذين لا يفرقون بين المادة و اللـه أو لا يدركون مدى البون الشاسع بينهما , يتعبدون إلى أصنام مصنوعة من المادة , فهل نحن الذين نميز و نفرق بين المخلوق و غير المخلوق , الكائن و الغير كائن , ذاك الذى يدرك بالفهم و العقل , و ذاك الذي يدرك بالحواس و يعطون الاسم المناسب لكل منها , و هل نعود و نعبد صورا ً ؟
و إذا كانت المادة – في الحقيقة – المادة و اللـه شيئا ً واحدا ً , إسمان لشىء واحد , لذلك فمن المؤكد , في عدم اعتقادنا فى الأخشاب و الأحجار و الذهب و الفضة كآلهة , نعد مدانين بتهمة الإلحاد , و لكن إن كان كل منهما بعيدا ً عن الآخر – بعد الفنان عن المواد التي يستخدمها في فنه – فلماذا نستدعى للمحاسبة ؟
لأنه مثلما تكون العلاقة بين الخزاف و الصلصال ( الطين ) ( المادة هى الصلصال و الفنان هو الخزاف ) كذلك تكون العلاقة بين اللـه – صانع العالم – و المادة التى هي تحت السيطرة لأغراض فنه , و لكن لأن الطين لا يمكن أن يتحول الى آنية بذاته دون صنعة , كذلك لا يمكن للمادة , و التى تأخذ جميع الأشكال , أن تتحول بعيدة عن اللـه الصانع , متخذة تميزا ً و شكلا ً و نظاما ً , و حيث أننا لا نعطي للخزف أكثر ما نعطي للخزاف الذي صنعه , و لا نقدر الآنية المصنوعة من الزجاج و الذهب بأكثر من تقديرنا لمن شكلها , و لكن عندما نجد أن هناك ما هو جدير بالإعجاب فى الفن , فإننا نثني على الفنان , لذا فهو الذي يجنى المديح الموجه للإناء .
كذلك الحال مع المادة و اللـه , فعظمة و كرامة النظام الفريد للعالم ينسب لا للمادة بل للـه صانع هذه المادة , حتى إذا نظرنا إلى مختلف أشكال المادة كآلهة , لبدونا بدون أي إدراك للاه الحق , لأننا بذلك نضع الأشياء القابلة للاحتلال و الهلاك , على نفس المستوى الذى نضع فيه ما هو خالد باقي .
16 – المسيحيون لا يعبدون الكون
كما هو جميل بلا شك هذا العالم , متفوقا ً في ضخامة حجمه و نظام مكوناته , سواء ذلك الذي فى الدائرة المائلة , و ذاك الذي فى الشمال , و كذلك في مشكلة الكروي , و لكنه ليس ذلك بل مبدعه هو الذى يجب أن تعبد , لأنه إن جاءكم أحد رعاياكم , فلا يمكن أن يهملوا لبداء , خضوعهم لكم أنتم حكامهم و ساداتهم , و الذي منكم سيحصلون على ما يريدون , و يقدمونن أنفسهم إلى عظة بلاطكم , و إن أتتهم الفرصة أن يجيئوا إلى البيت الملكي يلقون نظرة إعجاب , بمبناه الجميل و لكنه لكم أنتم أنفسكم يقدمون الاحترام , و بصفتكم الكل فى الكل , انتم ايها الملوك تبنون قصوركم و تزينونها ما أجل أنفسكم , و لكن العالم لم يخلق لأن اللـه كان في حاجة الله , لأن اللـه – لذاته – كل شىء , نور لا يمس , عالم كامل , روح , قوة , عقل , فإذا كان العالم آلة موسيقية مضبوطة النغمات , تتحرك فى زمن تم قياسه بإجادة , فإني أتعبد لذلك الكائن الذىيمنحها انسجامها و تناغمها , و عزف عليها النغمات و غنى مقاطيعها المتناغمة , و ليس للآلة نفسها , و في المسابقات الموسيقية لا يترك الحكام عازفى العود , و يتوجون الأعواد , و سواء كان العالم – كما يقول افلاطون Plato – نتيجة صنعة الهية فأني أعجب بجماله و أعبد من إبداعه , أو كان جوهر الخالق و جسده , كما يقول المشاءون Parapathetics , لا نتجاهل التعبد للـه علة و سبب و حركة الجسم , و ننحط إلى ( العناصر الفقيرة و الضعيفة ) , متعبدين في الهواء الذي لا إحساس فيه ( كما يسمونه ) المادة التي تحس , و إذا كان أحد يدرك الأجزاء المختلفة للعالم على أنها قوى اللـه , فإننا لن نقترب و نقدم الخضوع للقوي , و لكن لصانعها و سيدها و أنا لا أطلب من المادة ما لا تستطيع أن تعطي , و لا أتخطى اللـه و أعطي كرامة للعناصر , التي لا يمكنها فعل شىء سوى ما قدر لها لأنها و رغم جمال منظرها بسبب مهارة صانعها إلا أنها لازالت تحمل طبيعة المادة , و قد شهد افلاطون Plato لهذا الرأي لأنه يقول ( ما سمى بالسموات و الأرض , قد تلقى بركات كثيرة من الآب , و لكن لم يشارك فى الجسد , حيث أنه من غير الممكن ان تتحرر من التغيير , لذلك و بينما أعجب بالسموات و العناصر بسبب ما فيها من فن , فإني لا أعبد كآلهة . عارفا ً بأن قانون الفناء يسيطر عليها , و كيف أدعو هذه الأشياء آلهة , و أنا أعلم أنها من صنع البشر ؟
و أرجوكم أن تنتبهوا لكلمات قليلة عن هذا الموضوع .
17 – أسماء آلهة و صورهم تعود إلى عهد قريب
يجب على من يتصدى للدفاع , أن يقدم براهينا ً أكثر دقة مما قدمت , سواء كانت خاصة بأسماء الآلهة , ليبين أنها ليست ذات أصل حديث , أم كانت خاصة بأشكالهم (صورهم) ليبين أنها – كما يجب ان تتذكر – ابنه الأمس القريب – و أنتم أنفسكم لكم دراية كاملة بهذه الأمور – إذ أنكم متمرسون في كل نواحي المعرفة و فوق كل الناس علما بالقدماء , و لذلك فإني يؤكد أن أورفيوس Orpheus و هوميروس Homer و هسيود Hesiod هم الذين اطلقوا الأسماء و الأنساب على من يدعون آلهة , و هكذا كانت شهادة ” هيرودوت Herodotus أيضا ً ” و رأيى ” كما يقول ” إن هسيود Hesiod و هوميروس Homer قد سبقانى بحوالى أربعمائة عام – ليس أكثر – و أنهما اللذان صنعا هيكلا ً للألوهية للإغريق و أطلقا على الآلهة أسماءها و حددا لهممنازلهم و وظائفهم و وصفا ً تكويناتهم ” و تصوير الآلهة لم يكن مستخدما ً قط . إذا لم تكن صناعة التماثيل و كذلك التصوير و النحت قد عرفت بعد و لا كانت قد انتشرت , حتى ظهر كل من سورياس Sauriasالساميانى و كراتو Crato الصقلى , و كلينثس Cleanthes الكورنثى , و الفتاة الكورنثية , عندما ابتكر سورياس Saurias الخطوط المحددة للشكل , و الذى رسم رسماً تخطيطا ً ( اسكتش ) لحصان فى الشمس , و التصوير الذى قام كراتوCrato رسمه بالزيت على قرص مبيض , الخطوط المحددة لرجل و امرأة , و من الحفر البارز الذى ابتكرته الفتاة , و التى كانت تحب شخصا ً , فتابعت ظله على حائط و هو نائم , مما ادخل السرور على قلب والدها لدقة التشابه ( و قد كان خزافا ً ) و الذى حفر الرسم مفرغا ً إياه , ثم أعاد ملئه بالصلصال , و هذه الشكل لازال محفوظا ً فى كورنثوس Corinth , و بعد ذلك جاء دايدالوس Daedalus و ثيودورس Theodorus المليسى Milesian و ابتكر النحت و صناعة التماثيل , من ذلك ندرك أن مضى وقت قصير منذ بدء تشكيل و صناعة اشكال الآلهة حتى أننا يمكن أن نحدد أن اسم الفنان بالنسبة لكل من الآلهة .
فمثلا ً تمثال ارتميس Artemis فى أفسوس Ephesus و ذلك الذى لأثينا Athena أو أثيلا Athela لأنها هكذا سميت من هؤلاء الذين يتحدثون بالألغاز , لأنه هكذا سمى التمثال القديم المصنوع من شجرة الزيتون , و التمثال الجالس لنفس الربة قد صنعهما أندويوس Endoeus تلميذ دايدالوس Daedalus و كذلك الإله البيثى The Pythian God كان من عمل ثيودوروس Theodorus و تيليكليس Telecles , أما الإله الديلى Delian و أرتميس Artemis فكانا من نتاج فن تيكتايوسTectaeus و انجيليو Angelio أما هيرا Hera فى ساموس Samos و في أرجوسArgos فقد كانت من عمل يدى سميليس Similis و التماثيل الأخرى التي لفيدياس Phidias و افروديت Aphrodite الداعرة في كنيدوس Cnidus من صنع باراكسيتيليس Praxiteles اما آسكليبيوس Asclepius الذى فى إبيداوروسEpidaurus فهو من عمل فيدياس Phidias و باختصار فليس هناك واحد من هذه التماثيل إلا و صنعه إنسان , فإن كان هؤلاء آلهة فلماذا لم يوجدوا منذ الازل ؟ و لماذا – و حتى يخرجوا للوجود – احتاجوا إلى معاونة من البشر و فنا ً ؟ إنهم لا شىء بل تراب , احجار , مادة , و فنا ً عجيبا ً .
18 – ” الآلهة نفسها خلقت كما يعترف الشعراء “
و لكن – و لأن هناك من يؤكد أنها مجرد تماثيل – إلا أنه يوجد هناك آلهة , و على شرفهم صنعت , و أن الابتهالات و القرابين التى تقدم لهذه التماثيل سوف تذهب إلى الآلهة و هي في الحقيقة تعمل من أجل الآلهة , و إنما لا توجد طريقة أخرى للوصول إليهم ” إذ أنه من الصعب على الإنسان أن يلتقى في حضور مرئى بالإله ” , و تأكيدا ً لهذه الحقيقة ينسبون لبعض هذه التماثيل طاقات , و لنفحص القوى المتصلة بأسمائهم , و إنى اتضرع إليكم يا أعظم الاباطرة , و قبل أن أدخل في هذه المناقشة, أن تكونوا عطوفين على بينما اورد الأدلة الصادقة , لأنه ليس فى تخطيطى أن أظهر ضلال الاوثان , و لكن لدحض الافتراءات الموجهة ضدنا , و لنوجد تبريرا ً لأسلوب حياتنا , و ربما عندما تأخذون ذلك فى الاعتبار لأنفسكم , و تصبحون قادرين على اكتشاف ملكوت السموات أيضا ً , و حيث أن كل شىء خاضع لكم أبا ً و ابن , أنتم الذين تسلمتم الملك من فوق ” روح الملك فى يد اللـه ” كما يقول روح النبوة , لذا فالإله الواحد و للكلمة Logos المولود 14 منه , الابن و الذى ندرك أنه ليس بينهما أنفصال , فجميع الأشياء تخضع له , هذا ما أتوسل إليكم أن تولوه اعتباركم , فالآلهة – كما يؤكدون – لم يكونوا منذ البدء , بل كل منهم جاء للوجود كما جئنا نحن , و على هذا الرأى اتفق الجميع .
و هوميروس Homer يقول ” أوقيانوس Oceanus القديم سيد الآلهة و ثيتيسThytes ” و أورفيوس Orpheus ( الذى كان أول من ابتكر لهم الأسماء , و حسب حساب تواريخ ولادتهم , و قص علينا اعمال كل منهم , و المصدق عنه انه الذى تعامل معهم و مع الأشياء الإلهية بصدق يفوق الآخرين و الذى هوميروس Homerنفسه اقتضى أثره في أغلب الموضوعات و خاصة فينا يتصل بالآلهة ) و هو أيضا ً قد حدد أصلهم الأول بأنه من الماء .
أقيانوس Oceanus مصدر الكل لأنه و حسب ما ذكره فالماء هو البداية لكل شىء , و من الماء تتشكل الطين , و من الاثنين تكون حيوان تنين له رأس أسد , و فيما بين الرأسين كان وجه إله , سمى هيراكليس Heracles و كرونوس Kronos و هرقل Heraches هذا صنع بيضة هائلة الحجم , و عندما امتلات , و بقوة الاحتكاك , انقسمت إلى اثنين , الجزء العلوي أخذ شكل السماء و الجزء الأسفل أخذ شكل الأرض و الربة “جى” Ge اصبح لها جسم و اورانوس Uranus باتحاده بـ جى Ge , انجب اناثا ً هن كلوثو Clotho و لاخسيس Lachesis و اتروبوس Atropos و ذكور كوتيس Cottys ذو المائة يد و جيجس Gyges و برياريوس Briareus و الكيكلوبسCyclopes و برونتوس Brontes و استيروبيس Steropes و ارجوس Argos الذي قيده و قذف به إلى أسفل فى ترتاوس ( الجحيم ) Tartarus و عندما علم أنه سيخلع من حكمة عن طريق أولاده , و بينما كانت جى Ge و قد غضبن و أحضرت التياتين The Titans الربة جايا Gaia ( جى ) ولدت لـ أورانوس Ouranos المعظم , المتلالى بتاجه المصنوع من النجوم .
19 – الفلاسفة يتفقون مع الشعراء بخصوص الآلهة
هكذا كانت بداية وجود الهتهم و العالم , و الآن بماذا نخرج من كل هذا ؟ و لأن كل ما حسب للآلهة وصف بأنه موجود منذ الأزل , لأنهم ان كانوا جائوا للوجود , إذا ًكانوا من قبل غير موجودين و يعاملون كآلهة , فهي لم توجد كآلهة , فالشىء أما أن يكون غير مخلوق , أزلي أبدي أو مخلوق قابل للفناء , و لا أعتقد أني أؤمن بشىء و الفلاسفة بشىء آخر .
” ما هو هذا الذي يكون دائما ً و ليس له بداية , و ما هو هذا الذي كانت له بداية و لم يوجد أبدا ً ؟ “
و محدثا ً عن المعقول و المحسوس , علم افلاطون Plato ان هذا الذى يكون دائما ً , المعقول لم تكن له بداية و لكن الذي لم يكن المحسوس كانت له بداية , بدأ نوجد , و سوف يتوقف وجوده , و بأسلوب مشابه , قال الرواقيون The Stoics بأن كل الأشياء سوف تحترق , ثم تعود مرة أخرى للوجود , و بهذا يحظى العالم ببداية جديدة , و لكن – و حسب كلامهم – توجد علة ثنائية لكل شىء واحدة موجبة و حاكمة و تعني القدرة الإلهية , أو سالبة و متغيرة و نعني بها المادة و لكن و رغم ذلك فمن المستحيل للعالم , حتى و هو في رعاية القدرة العلوية , أن يبقى في نفس الحالة , لأنه مخلوق – كيف يستمر كيان هؤلاء الآلهة, الذين لم يوجدوا بذاتهم و لكنهم انشئوا ؟ و في أي شىء الآلهة أسمى من المادة , إذا انهم يستمدون تركيبتهم من الماء ؟ و إن لم يكن – حتى الماء حسب أقوالهم – هو البداية لكل شىء , و من العناصر البسيطة المتجانسة ما الذي يمكن أن يكون ؟ و أكثر من ذلك فالمادة تحتاج لمن يشكلها بفن , و الفنان يحتاج الى مادة اذا كيف تضع الاشكال دون مادة و دون فنان ؟ كما انه ايضا ً , ليس من المعقول أن المادة أقدم من اللـه , لأن العلة يجب بالضرورة أن توجد قبل الأشياء المصنوعة .
20 – تصوير الآلهة بما لا يقبله العقل
و إذا اقتصرت لا معقولية نظرتهم للآلهة على القول بآنها مخلوقة , و أن تكوينها كان من الماء , و إذا أوضحت أنه ليس هناك ما هو مصنوع إلا و هو قابل للانحلال , و أعود فاتناول باقي الاتهامات و لكنهم من ناحية قالوا كلاما عن هيئاتهما الجسدية , فقالوا عن هيركيليس Heracules – مثلا ً انه على شكل تنين ملتف حول نفسه , و عن آخرين ان لهم مائة يد , و عن ابنة زيوس Zeus التي أنجبها من أمة ريا Rhea او ديميتر Demeter التي لها عينان طبيعيتان و اخريان في جبهاتها , و وجه حيوات فى رقبتها من الخلف , و ان لها ايضا ً قرون لدرجة ان ريا Rhea قد أفزعها منظر طفلتها الفظيع – فهربت منها و لم تعطها ثديها لترضع , لذا سميت اثيلا Athela و بصفة عامة برسيفونى Phersephone و كورى Kore و ان لم تكن هى اثينا Athena و التى اطلق عليها اسم كورى Kore من انسان عينها , و هم من ناحية أخرى قد وصفوا إنجازاتهم الجديرة بالاعجاب , بينما هم يحكمون عليهم , و قد حكوا عنهم ما اعتقدوه فيهم – فمثلا ً – كيف قام كرونوس Kronos بتشويه أبيه و قذفه من عربته , و كيف قتل اطفاله و ابتلع الذكور منهم و كيف قيد زيوسZeus اباه , و قذف به إلى أسفل إلى تارتاروس Tartarus و مثل ذلك فعل اورانوس Ouranos – أيضا ً – بأبنائه , و حارب التياتن Titans من أجل الحكم , و كيف اضطهد أمه ريا Rhea عندما رفضت أن تتزوجه , و كيف أصبحت أنثى التنين فتحول هو إلى تنين , و قام بشد وثاقها بما سمى بعقدة هيركول Heraculeam Knot و قضى وطره منها , و من ذلك جاء ( قضيب هرمس ) رمزيا ً لذلك , و مرة أخرى كيف اعتدى على ابنته بيرسيفونية Phersephone متخذا ً أيضا ً شكل تنين و ذلك أصبح أبا لديونيسوس Dionysus .
و في مواجهة تلك الحكايات , فلا أقل من أن أقول ما فائدة هذا التاريخ , لكي يجعلنا نؤمن أن كرونوس Kronos و زيوس Zeus و كورى Kore و الباقين هم آلهة ؟ أهي أوصاف أجسادهم , و لماذا , و هل يصدق رجل له القدرة على التمييز أن أفعى تولد من إله , حسب أورفيوس Orpheus :
” و من الرقم المقدس ولدت فانيس Phanes ابنا ً آخر فظيع و متوحش أفعى مخيفة الشكل ينمو الشعر على رأسه , وجهه جميل , و لكن الباقي و من العنق و إلى أسفل , يحمل قسمات مرعبة لتنين مرعب “
و من الذي يوافق على أن فانيس Phanes نفسه , هو الإله الذى ولد أولا ً ” لأنه الذى خرج من البيضة ” له جسم أو هيئة تنين أو أن زيوس Zeus قام بابتلاعه , و هل زيوس Zeus بهذا القدر من الضخامة بحيث يبتلعه ؟
و هم بذلك لا يختلفون عن أدنى الوحوش ( لأنه من الواضح أن الإله يجب أن يختلف عن الأشياء الأرضية و ما هو مستخرج من المادة ) إنهم ليسوا آلهة و هنا أتسائل – كيف لنا – أن نتقرب إليهم مبتهلين و قد شابهت أصولهم البهائم , و هم أنفسهم لهم هيئات الوحوش قبيحة المنظر ؟
21 – أنواع الحب الدنس المنسوب إلى الآلهة
فإن قيل أنهم فقط لهم أشكال جسدية , و فيهم دماء و بذور ( حيوانات منوية ) فيهم مشاعر الغضب و الرغبة الجنسية , فلابد هنا أن نعتبر هذه المزاعم غير معقولة و سخيفة , لأنه لا يوجد في الآلهة غضب و لا شهوة و لا رغبة , و لا بذور تناسل , فليكن لهم أشكال جسدية و لكن ليرفعوا عن الحقد و الغضب حتى لا ترى أثينا Athena ” تغلى بالغضب و الحقد الدفين على جوبيتر Jove ” او هيراHera تبدو كالآتي : – ” لا يمكن لصدر جونو Juno أن يستوعب غضبها ” و ليكونوا أسمى من الحزن : –
منظرا مريعا ً شهدت عيناي رجلا ً أحبه مطاردا ً حول الأسوار قلبي يتمزق أسى على هيكتور Hector
لأنه حتى أولئك البشر الذين يتملكهم الغضب و الأسى أدعوهم وقحين و أغبياء , و لكن عندما ينوح ” أبو الآلهة و البشر ” على ابنه
ويحى ويحى أغلب حكم القدر على ساربيدون Sarpedon المحبوب حتى سقط بيد باتروكلوس Patroclus إذ ليس بمقدوره و هو ينوح عليه أن ينقذه من هلاكه ابن جوبيتر Jove و رغم ذلك فلم يستطيع أن يحفظ له حياته ” .
من الذي لا ينحى باللائمة على أولئك بغبائهم الذين و بعد أن يسمعوا تلك القصص هم محبون للآلهة – بل هم على الأرجح يعيشون دون إله ؟
و ليكن أشكال جسدية و لكن بما لا يجعل ديوميدس Diomedes يصيب افروديتىAphrodite بجرح في جسمها .
” ديوميدس Diomed(es) المتكبر ابن تيديوس Tydeus أصابنى بجرح “
و بآريس Ares فى روحها 15 حقا ً إبني أعرج و لكن ابنه زيوس Zeus افروديتAphrodite تهيننى بأستمرار . إنها تعشق آريس Ares الجميل المجهول .
و عن آريس Ares أن يمزق جلدها .
و ذلك الذي كان مخيفا ً في المعركة , خليف زيوس Zeus ضد التياتن Titans يبدو أضعف من ديوميدس Diomedes :
” و حمى غضبه و كأنه مارس Mars يلوح برمحه “
اصمت يا هوميروس Homer فالإله لا يأخذ الغضب , و لكنك تصف الإله لي موصوفا ً بالدموية لعنة للبشر .
” مارس Mars , مارس Mars مهلك البشر , ملطخا ً بالدماء
ويحى من زناه و علاقاته حينئذ – و بلا تردد – قاد الجميلة المفتونة إلى الفراش و سرعان ما انهارت مقاومتها “
ألم يغرقونا فى مثل هذه الأقوال البعيدة عن التقوى فيما يخص الآلهة ؟
أورانوس Ouranos يشوه ( يخصى ) كرونوس Kronos يقيد و يلقى به فى تارتاروس Tartarus , التياتن Titans يتمردون , ستايكس Styx يموت في المعركة , إنهم يصورون فانين يعشقون بعضهم بعضا ً , و يقعون في غرام البشر .
” ولدت إينياس Aeneas بين قمم جبل إيدا Ida البارزة , فينوس Venus الخالدة و هربت الى أنخيسيس Anchises “
ألم يعشقوا ؟ ألم يتألموا ؟ , و كيف وهم بالحقيقة آلهة لا تمسهم الشهوة , حتى و لو اتخذ إله جسدا ً – تنفيذا ً لإرادة علوية – أفيصبح عبدا ً للشهوة ؟
” لأنه لم يسب من قبل أن فيضا ً من الحب , لآلهة أو بشر – مثل هذا – افعم روحي ليس لزوجة إكسيون Ixion الفاتنة و التي ولدت بيرثيوس Pirithous الحكيم في المجلس كالآلهة .
و لا للعذراء دانى Danae ذات الاقدام المتقنة التركيب , ابنة أكريسيوسAcrisius تلك التى أنجبها بيرسيوس Perseus المرموقة من الجميع , و لا لطفلة فوينكس Phoenix النبيل و لا لسيميلى Semele و لا لسحر الكمينا Alcymena بطيبة و لا لكيريس Ceres ذات الجدائل الذهبية , و لا لبريق لاتونا Latona و لك أنت ذاتك ” .
” إنه مخلوق , إنه فان , بلا ذرة من الألوهية فيه , لا بل هم خدام مأجورون للبشر ” و رغم كوني إله كم عانيت من أبهاء ادميتس Admetus أخدم مائدته كأجير فقير ” .
و يرعون البهائم : ” و إذا جئت إلى هذه الأرض أطعمت البهائم و خدمت في بيته ذاك الذي استضافني “
و بذا كان أدميتس Admetus أرقى من الإله , أنت أيها النبي و الحكيم , و الذي لا يمكنك أن تتنبأ عما سيحدث للآخرين , إنك لم تترفع عن قتل من تحب , بل قتلته أنت بيديك , و هو العزيز عليك “
” و أمنت أن فم أبوللو Apollo المقدس , كان مليئا ً بالصدق كما هو بفن النبي “
” ايسخيلوس Aeschylos مؤنبا ً أبوللو Apollo لأنه كان نبيا ً كاذبا ً ” :
” إنه نفسه الذي غنى عندما كان في المأدبة ذاك الذي قال هذه الأشياء , إنه بعينه الذي قتل ابني “
22 – التفسيرات الرمزية التي يتظاهرون بها
و ربما كانت تلك شطحات شعرية , و هناك ما يمكن أن يفسرها , مثال ما قال إيمبيدوكليس Empedocles ” ليكن جوبيتر Jove هو النار و جونو Juno مصدر الحياة و بلوتو Pluto و نيستيس : Nestis الذي يغمر بالدموع ينابيع البشر “
فإن كان زيوس Zeus هو النار و لا هيرا Hera هي التراب , و أدونيوس Aidoneus الهواء و نيستيس Nestis الماء , و هذه هى العناصر – النار و الماء و الهواء – فليس واحد منهم إله لا زيوس Zeus و لا هيرا Hera و لا أدونيوس Aidoneus لأنهم من المادة التى قسمها اللـه إلى أجزاء , كان تكوينهم وأصلهم ” النار , و الماء , التراب , و الهواء الذي يرتفع في رقة و انسجام مع أولئك ” .
هنا نجد أشياء , لا بقاء لها بالانسجام و التآلف , و تنهار اذا ما دب بينها الشقاق فكيف لأحد أن يقول أنها آلهة , فالتآلف كما يذكر إيمبيدوكليس Empedocles له القدرة على التحكم , في الأشياء المركبة التى يجب أن يكون هناك سيطرة عليها , و الذى عليه أن يحكم , له الهيمنة حتى إذا جعلنا قوة الحاكم و المحكوم شيئا ً واحدا ً و نفس الشىء سنكون – و حتى دون شعور – قد وضعنا المادة الفانية , المتغيرة , المتارجحة , على قدم المساواة مع غير المخلوق , الابدى الازلى , اللـه لمتوافق مع ذاته ابدا ً , أما زيوس Zeus حسب اعتقاد الرواقيين The Stoicsالجزء الساخن من الطبيعة ( النار ) و هيرا Hera هى الهواء و الاسم نفسه اذا تم تجميعه يعنى بذلك بوسيدون Poseidon هو ما يشرب ( الماء ) و لكن هذه الاشياء يفسرها مختلف الأشخاص بأنها أشياء طبيعية بمختلف الطرق , البعض يسمون زيوس Zeus الهواء الجامع للذكور و الأنوثة , آخرون بالموسم الذى يأتي للجو العليل باعتبار أنه الوحيد الذي نجا من كرونوس Kronos و لكن بالنسبة للرواقيين : The Stoics يمكن أن يقال , إذا كنتم تعرفون إلها واحدا ً الأسمى , الغير مخلوق , الأبدي و لأنه توجد أقسام مركبة بقدر ما يوجد من اختلافات فى المادة , و إذ نقول أن روح اللـه التى تتخلل المادة , تتحد حسب تنوعاتها , أسماء مختلفة ستصبح أشكال المادة جسم الإله , و لكن عندما يتم تدمير هذه العناصر فى الحريق ستموت الأسماء بالضرورة مع الأشكال و تبقى روح اللـه وحدها : من الذي يصدق أن هذه الأجساد التى يعتريها التغيير الذى يعترى المادة , فهى لذلك حليفة الفساد , أنها الهة ؟ و بالنسبة لأولئك الذين يقولون بأن كرونوس Kronosهو الزمن و ريا Rhea و هي الأرض و أنها حملت من كرونوس Kronos , و بذا اعتبرت أما للجميع , و أنه ينجب و يلتهم نسله , و أن الإخصاء هو اللقاء الجنسي بين المرأة و الرجل , و الذى فيه تنتزع البذرة و تلقى في الرحم , و منها ينتج الكائن البشري , و الذي يحمل داخله الرغبة الجنسية و التى هى أفروديتىAphrodite و أن جنون كرونوس Kronos و هو تبدل الفصول , و الذي يدمر الكائنات الحية و الغير حية , و أن القيود و تارتاروس Tartarus هما الوقت و الذى يتبدل و يختفي , لأولئك الأشخاص نقول , إذا كان كرونوس Kronos هو الزمن فهو يتغير , و إذا كان فصلا ً , فهو يتبدل , فإذا كان الظلمة أو الجليد , الجزء الرطب من الطبيعة , فلا شىء من هذا يبقى , و لكن الإله غير فانى و غير قابل للتحريك , غير قابل للتحول , و بحيث أنه لا كرونوس Kronos و لا صورته يعتبر إله , أما بالنسبة لزيوس Zeus مرة أخرى أنه هواء مولود من كرونوس Kronos , و الذى فيه الجزء الذكري يسمى زيوس Zeus و الجزء الأنثوي يسمى هيرا Hera ” أخته و زوجته فى نفس الوقت ” فهو عرضة للتغيير , فإذا كان فصلا من الفصول فهو يتبدل , و لكن الإله لا هو يتغير و لا ينزاح عن مكانه .
و لكن لماذا أتطاول على سماحتكم بمزيد من القول , في حين أنكم تعلمون جيدا ً ما قالوه أولئك الذين أحالوا هذه الأشياء إلى الطبيعة , أو ما أعتقد فيه مختلف الكتاب بخصوص الطبيعة أو ماذا قالوا عن أثينا Athena , و التي يؤكدون أنها الحكمة التي تتخلل كل الأشياء , و فيما يختص بإيزيس Isis , و التى يقولون عنها انها مولد لكل الازمان 16 و التى منها نبع كل شىء , و التى بواسطتها توجد كل الأشياء , أما أوزيريس Osiris و هو الذى بعد أن قتله أخوه تيفون Typhon بحثت زوجته إيزيس Isis و ابنها حورس Orus عن أعضائه , و عندما وجدتها كرمتها بوضعها في ضريح و الذي يسمى حتى وقتنا هذا مقبرة ” أوزوريس ” Osiris .
و بينما هم يحومون , جيئة و ذهابا حول أشكال المادة , فإنهم يفوتهم أن يجدوا الإله الذي يمكن أن يدرك بالعقل , فبينما هم يؤلهون العناصر بأقسامها المختلفة مطلقين عليها أسماء مختلفة فى أزمنة مختلفة : يسمون بذر الحب – على سبيل المثال – أوزيريس Osiris ( إذ يقولون في الأساطير , إنه عندما عثر على أعضائه أو الثمار يوجه إلى إيزيس Isis القول : لقد وجدنا نطلب لك السعادة ) .
فاكهة الكرمة هي ” ديونيسوس ” Dionysus و الكرمة ذاتها ” سيميلى “Semele حرارة الشمس و الرعد , و رغم كل ذلك فإن الذين ينسبون الأساطير و الخرافات لآلهة حقيقين , لا يفعلون شيئا ً يضيف إلى طبيعتهم الالهية , لأنهم لا يدركون أنهم بدفاعهم عن الآلهة , هم يؤكدون الأشياء التي يتهموا بها .
و ما الذي ليوروبا Europa و الثور , و البجعة , و ليدا Leda للأرض و الهواء , و أن العلاقة الجنسية بين زيوس Zeus و بينها تؤخذ على أنها التزاوج بين الأرض و الهواء ؟ و لكنهم يفوتهم أن يكتشفوا عظمة اللـه , و لا يرتفع تفكيرهم لأنه ليس لديهم استعداد لتبؤ المكانة السماوية فهم يجوسون بين أشكال المادة , فى حين أن جذورهم ملتصقة بالأرض , و هم يؤلهون الصورة المتغيرة للعناصر , و كأنه إنسان يضع السفينة التي يبحر بها فى مكان ماسك الدفة , و حتى و لو كانت السفينة مجهزة تماما ً بكل شىء , فلا فائدة منها , إذا لم يكن لها من يمسك بدفتها , كذلك العناصر , و رغم أنها مرتبة أفضل ترتيب , فما جدواها بدون رعاية اللـه , إذ أن السفينة لن تبحر بذاتها , و العناصر – بدون صانعها – لا تتحرك .
23 – آراء طاليس Thales و افلاطون Plato
و لربما نتساءل , أنتم الذين تتفوقون على جميع الناس فى الفهم , كيف يتأتي أن بعض الأوثان تظهر قوة إن لم يكن أولئك الذين أقمنا لهم التماثيل آلهة ؟
لأنه ليس من المحتمل أن الطيور و الأشكال الخالية من الحياة أن تتمكن بذاتها , من أن تفعل شيئا ً بدون محرك , و نحن لا نفكر أنه فى بعض الأماكن و المدن و الأمم , تحدث بعض التأثيرات بإسم الأصنام و لا أريد أن أستزيد – إن كان هناك البعض الذين نالوا فائدة , و آخرون عانوا أذى , فلن تعزو هذه الآلهة بعضهم الذين أحدثوا الأثر في كلتا الحالتين .
و لكني أجريت فحصا ً دقيقا ً , محاولا ً أن أعرف لماذا نعتقد أن الأصنام لها هذه القدرة, و من هم أولئك – مستخدمين هذه الأسماء – يحدثون هذا التأثير لذا فقد كان من اللازم لى , و أنا أحاول أن أكشف عن أولئك الذين يحدثون الآثار التى تنسب لهذه الأصنام أن أرجع إلى بعض الشهود من الفلاسفة .
إذ أن طاليس Thales – بادىء ذى بدء – و كما يقرر أولئك الذين فحصوا آراءه بدقة يقسم ” المخلوقات العلوية ” إلى : اللـه , و الشياطين , و الأبطال , و هو يعتقد أن اللـه عقل ( vous ) العالم , و منهم الشياطين على أنها كائنات بها روح , أما الأبطال فهم أزواج البشر التي انفصلت , الطيبون أرواحهم طيبة , أما الأشرار فهم لا قيمة لهم .
و أفلاطون Plato – بدوره – متحفظا ً فى اقراره لنقاط اخرى , يقسم (الكائنات العلوية) إلى : الإله الغير مخلوق , و هؤلاء الذين صنعهم الغير المخلوق لزينة السماء , الكواكب السيارة , و النجوم الثوابت , و الشياطين , بالنسبة للشياطين فقد اعتقد أنه غير قادر على الإدلاء بشىء عنهم و لكنه يجد أنه من الجدير بالذكر أن يصغي لآخرين تكلموا عنهم .
” لكي أتحدث بقول يخص الشياطين الأخرى , و حتى نعرف أصثولهم , لما يفوق قدراتنا , و لكننا يجب أن نصدق أولئك الذين تكلموا من قبل – نسل الآلهة , كما يقولون و هم بالتأكيد يعرفون بطريقة أفضل أجدادهم , فمن المستحيل أن نكذب أبناء الآلهة رغم أن كلامهم يفتقر إلى البراهين المقنعة , و لكن ماداموا يعترفون مخبرين عن أمورهم العائلية لذا لزم علينا – جريا على العرف – أن نصدقهم و بهذه الطريقة دعنا نعرف و نتكلم عن أصول الآلهة أنفسهم .
فمن جى Ge و أورانوس Ouranos ولد أوقيانوس Oceanus و ثيتيس Thytes و من هذين جاء فوركس Phorcus و كرونوس Kronos و ريا Rhea و الباقون و من كرونوس Kronos و ريا Rhea جاء زيوس Zeus و هيرا Hera و الباقون كلهم و الذين سموا إخوتهم إلى جانب من تناسلوا منهم ” .
فهل – إذ ذاك – من يمعن الفكر في العقل الأزلي الأبدىي, و اللـه الذي يدرك بالعقل , الذي أعلن عن قدراته – وجوده الصادق , ببساطة طبيعية , و الخير الذي يتدفق منه , هو الحق و الذي أعطى درسا ً عن القوة الأولية و كيف أن ” كل الأشياء عن ملك الجميع و كل الأشياء مكرسة لوجوده و من أجله و هو العلة لكل شىء ” و عن اثنين و ثلاثة أنه ” الثاني المحرك للثواني , و الثالث للثوالث ” .
أفلا يتأمل هذا الرجل مفكرا ً , واجدا ً أنه لكي يعرف الحقيقة عن أولئك الذين قيل عنهم أنهم جاءوا من أشياء محسوسة الأرض و السماء على وجة التحديد لهو أمر يتخطى قدراته ؟ و هو ما لا يمكن تصديقه لأول وهلة , و لكن لأنه اعتقد أنه من غير الممكن أن يصدق أن الآلهة ينجبون , و يولدون , إذ أن كل ما له بداية له أيضا ً نهاية و أيضا ً (ذلك أكثر صعوبة) لكي يغير من آراء العامة الذين يتلقون الخرافات دون فحص في هذا الصدد , أعلن أن ذلك يفوق قدراته أى الحديث عن باقي الشياطين , إذ لم يقر أو يعلم أن الآلهة يولدون , و بالنظر إلى قوله ” الحاكم العظيم في السماء , زيوس Zeus يقود عربة مجنحة , تتقدم أولا ً , متحكما ً فى كل شىء , و يتبعه جماعة الآلهة و الشياطين ” : هذا لا علاقة له بزيوس Zeus الذي انبثق من كرونوس Kronos لأنه ها هنا أعطى الأسم لصانع هذا العالم , و كما أوضح أفلاطون Plato بنفسه : غير مستطيع أن يشير إليه بعنوان آخر يناسبه , استنادا ً من الاسم الشائع , لا لأنه خاص بإله و لكن للتمييز , لأنه ليس من السهل أن نوجه الخطاب عن اللـه لكل الناس بالقوة الواجبة , و أضاف إليه أيضا ً صفة ” العظيم ” لكي يميز ما هو سماوي عما هو أرضي , و غير المخلوق من المخلوق , الذي كان أصغر من الأرض و السماء , و أصغر من الكريتيين Cretans الذين سرقوه حتى لا يقتله أبوه .
24 – عن الملائكة و المردة
و ما الحاجة هنالك , و أنا أتكلم معكم يا من بحثتم فى كل قسم من أقسام المعرفة , لكي أذكر الشعراء أو أفحص آراء من نوع آخر ؟ فليكن ما قلت كافيا ً , إذا لم يؤمن الشعراء و الفلاسفة بأنه لا يوجد سوى إله واحد , بل آلهة , و فيما يختص بأولئك الآلهة لم يتفقوا على رأى واحد عنهم , إذ أن البعض يعتقد أنهم شياطين و البعض أنهم مصنوعين من المادة , و آخرون على أنهم كانوا فى يوم ما بشرا ً , لكان لنا قدر من المنطق لأن نكون تحت ضغط كما هو نحن الآن , أو نستخدم لغة تفرق بين اللـه و المادة و طبيعة كل منهما , إذ بينما نؤمن بإله , و ابن هو كلمتهLogos و روح قدس , متحدين فى الجوهر. الآب , الإبن , الروح ( القدس ) , لأن الإبن هو العقل , و الحجى و الحكمة للآب , و الروح هو فيض 17 Effluence كمثل النور , و كذلك نحن أيضا ً ندرك وجود قوى أخرى و التى بواسطتها , و على الأخص واحد منها , و هو معادى للـه , و إن لم يكن هناك ما يقف مضادا ً للـه فى الحقيقة , مثل ما يضاد الخصام الصداقة , حسب ما قال إمبيدوكليسEmpedocles و الليل للنهار حسب ظهور و اختفاء النجوم ( لأنه و حتى و إن كان هناك شىء قد وضع نفسه فى تضاد مع اللـه لكانت توقفت عن الوجود , إذ يتم تدمير تكوينه , بقوة اللـه و إرادته ) , و لكن من أجل الخير الذي فى اللـه , و الذى ينتمي بالضرورة إليه ” اللـه ” و يتواجد معه, كما يتواجد اللون مع الجسم , و الذي بدونه لا يكون له وجود ( ليس كجزء منه و لكن كخاصية مصاحبة , متحدة و مختلفة , مثلما هو طبيعي أن تكون النار صفراء , و الأثير أزرق غامق ) .
و عن الخير الذي في اللـه , أقول أنه الروح الذي يختص بالمادة التي خلقها اللـه , كذلك و مثلما خلق اللـه الملائكة الآخرين , و عهد لهم بالتحكم فى المادة و صور المادة التي ضدها , لأن هذا هو عمل الملائكة , ممارسة الرعاية الإلهية على الأشياء المخلوقة, و التي وضع اللـه نظامها , و حتى تكون للـه الهيمنة و الرعاية الشاملة لكل شىء , و بينما الأجزاء المحددة يعني بها بواسطة الملائكة , الذين وظفوا من أجلها , و تماما ً مثلما كان الأمر بالنسبة للبشر الذين منحوا الحرية فى الاختيار بين الفضيلة و الرذيلة ( لأنه لن تستطيع أن تحرم الطيب أو تجله , و أن تعاقب الردىء , ما لم تكون الفضيلة و الرذيلة في حدود طاقتهم , البعض منهم مخلصون فيما عهدت به إليهم و الآخرون خونة ) .
كذلك الأمر بين الملائكة , و بعض هؤلاء الوكلاء أحرار كما ستلاحظ , و الذين خلقهم اللـه , استمروا في تلك الاشياء التى من أجلهما خلقهم اللـه , و التي رتبها لهم , و لكن البعض الآخر انتهكوا كل من طبيعة تكوينهم و القانون الذي عهد به إليهم , و على التحديد , ذلك الحاكم على المادة و مختلف صورها , و آخرون من هؤلاء الذين أعطوا المرتبة الأولى ( أنت تعلم أننا لا نذكر شيئا ً دون شهادة و لكننا نقرر الأشياء التى أعلن عنها الأنبياء ) هؤلاء سقطوا فى خطيئة الحب الدنس للعذارى , و استعبدهم الجسد , و أصبح مهملا و خبيثا ً في إدارة الأشياء التي استؤمن عليها .
من هؤلاء الذين عشقوا العذارى , ولد أولئك الذين سموا المرده (العمالقة) , و إذا كان هناك شىء ما قاله الشعراء , أيضا عن المردة فلا تدهشن لذلك : الحكمة الدنيوية تختلف تماما عن تلك الإلهية , كما تختلف الحقيقة عن ما يبدو و أنه الحقيقة : الواحدة من السماء, و الأخرى من الأرض , و بالحقيقة حسب أمير المادة .
” نحن نعلم ( نعرف ) أننا أحيانا ً ما نتكلم بالأكاذيب التي تبدو و كأنها حقائق ” .
25 – الشعراء و الفلاسفة انطروا العناية الإلهية
هؤلاء الملائكة الذين سقطوا هاوين من السماء , و الذين يسكنون الهواء و الأرض , و الذين لم يعد باستطاعتهم أن يصعدوا مرة اخرى إلى كل ما هو سماوى , و أرواح المرده و هم الشياطين التى تحوم حول العالم , يقومون بأعمال مشابهة , البعض ( و هم الشياطين ) لطبائعهم التى تلقونها , و البعض الأخر ( و هم الملائكة ) للشهوات التي انهملوا فيها , و لكن أمير المادة كما يبدو من خلال ما يشف , يمارس تحكما ً و إدارة مضادة للخير الذي فى اللـه :
” في أحيان كثيرة ساور ذهني ذلك الفكر القلق
عما إذا كان اللـه , أو الصدفة التي تحكم
الشئون الصغيرة للبشر , و التي رغم
الرجاء , و العدالة , تقود إلى أن تلقى
بعيدا ً بالبعض , مجردين من كل مقومات الحياة .
بينما الآخرون لازالوا يتمتعون بالرفاهية . “
إن الرفاهية من ناحية , و المعاناة من ناحية أخرى , بالعكس من الأمل و العدل , جعلت من المستحيل على يوربيديس Euripides أن يقول لمن ينتمي لنظم و إدارة الأمور الأرضية , و التى هى من النوع الذى يجعل الإنسان يقول :
” كيف اذا ً , و بينما نشاهد تلك الأشياء , يمكننا أن نقول أن هناك جنسا ً من الآلهة أو تخضع للقوانين ؟ “
و قد أدى نفس الشىء بأرسطو Aristotle إلى أن يقول أن الأشياء التى تحت السماء لا تخضع للعناية الإلهية , رغم أن العناية الإلهية الأبدية , تهتم و بنفس القدر , بنا نحن الذين تحت السماء .
” فالأرض سواء حركتها الإرادة أم لم تحركها , فلابد لها أن تخرج للعشب و الذي يحفظ حياة قطعاني “
و تقدمه بنفسها لأولئك الذين يستحقون فردا ً فردا ً , حسب الحق , و ليس حسب الرأي و جميع الأشياء الأخرى , حسب القانون العام للطبيعة , يعتنى بها حسب قانون العقل . و لكن التحركات الشيطانية , و أعمال الأبالسة تنبع من أرواح ضالة مؤدية إلى تلك النزوات المنفلتة , هذه النزوات تحرك الناس بعض إلى طريق , و البعض إلى آخر , كأفراد و كأمم , متفرقين و جماعات فى توافق مع ميل المادة من ناحية , و القابلية لتقبل الإلهيات من ناحية أخرى , من الداخل و من الشياطين , – البعض ممن ليست لهم سمعة سيئة , لذلك ظنوا أن هذا العالم تم تكوينه بدون ترتيب محدد , و يتأرجح هنا و هناك , تحت رحمة الصدفة العفوية , و لكنهم لم يدركوا , من كل ما ينتمي إلى تكوين العالم بأكمله , لا يوجد هناك شىء خارج عن النظام أو مهمل , و لكن كل شىء ناتج عن العقل لذا فلا شىء يمكنه أن يتعدى النظام الموضوع له , و أن الإنسان نفسه – أيضا ً – في حدود اهتمام اللـه الذى خلقة به , فهو نظام محكم , سواء من خلال طبيعته الأصلية , و التي لها صفات عامة تشمل الكل , و كذلك بحكم تكوينه الجسدي , و الذي لا يمكنه تجاوز قانونه المفروض عليه و كذلك بإنهاء حياته , و التي تظل صفة عامة يتشابه فيها الجميع .
أما ذلك و حسب الطباع الخاصة به و أعمال الأمير الحاكم و الشياطين أتباعه , فهو مرغم و مدفوع في هذا الإتجاه أو ذاك , غير ملق بالا , أن الكل يملكون ملكية عامة , نفس التركيب الأصلي للعقل .
26 – الشياطين يضللون البشر ليعبدوا الأصنام
أولئك الذين يجرون الناس إلى الأصنام هم , الشياطين السابق ذكرهم , الشرهين لدماء الذبائح و يلعقون فيها , و لكن الآلهة التي تسعد بها العامة , و التى منحت أسماؤها للأصنام , كانوا بشرا ً كما يعرف من تاريخهم , كما و أن الشياطين الذين يعملون تحت أسمائهم , و كما ثبت من طبيعة أعمالهم , فالبعض يقومون بعملية الإخصاء مثل ريا Rhea و الآخرون يصيبون بالجراح و يقتلون مثل آرتميس Artemis الربة الثورية The Tauric goddess و التى كانت تقتل كل الغرباء , و سأتجاوز عن أولئك الذين يمزقون بالسكاكين و يطحنون العظام , و لن أحاول أن أصف جميع أصناف الشياطين , لأنه ليس دور الإله أن يحفز إلى أشياء ضد الطبيعة .
” لكن عندما يتآمر الشيطان ضد انسان فإنه , و قبل كل شىء , يوقع أذى بعقله “
و لكن اللـه لأنه كامل الصلاح فهو دائما ً يصنع الخير , و فوق ذلك و كما قدم البرهان القوى إلى كل من ترواس Troas و باريوم Parium على أن هؤلاء الذين يظهرون القوة ليسوا هم أنفسهم الذين تقام لهم التماثيل , فواحد منهم كان عنده تماثيل لنيريللينوس Neryllinus , و هو رجل ينتمى لزمننا هذا , أما باريومParium فلديه تماثيل لكل من الإسكندر Alexander و بروتيوس Proteus و ضريح الإسكندر Alexander , و تمثاله لازال فى البساحة , أما تماثيل نيريللينوسNeryllinus الأخرى فهى زينة عامة , فإذا كانت مدينة يمكنها ان تتزين بأشياء كهذه , و لكن واحد منها يفترض أنه ينطق بالنبؤات و يشفى المرضى , و على هذا الأساس يقدم مواطنو طروادة Troad القرابين لهذا التمثال و يغطونه بالذهب , و يعلقون عليه أكاليل الزهور .
أما عن تماثيل الإسكندر Alexander و بروتيوس Proteus ( و الأخير كما تعلم ألقى بنفسه في النار بالقرب من أوليمبيا Olympia ) فإن بروتيوس Proteus كما قيل , أن ينطق بالنبوات أما عن ذاك الذى للإسكندر Alexander يقال :
” باريس Paris الملعون , و لو أنه في الشكل كم كان جميلا ً , و لكنه عبدا ً للمرأة ” فالقرابين تقدم في الاحتفالات التى تقام على حساب الشعب , كما لو كانوا يفعلون لإله يمكن أن يسمع
هل – إذا – كل من نيريللينوس Neryllinus و برونتيوس Proteus و الاسكندرAlexander هم الذين يظهرون قوى فيما يتصل بالتماثيل , أم هل هي طبيعة المادة نفسها ؟
و لكن المادة هي البرونز , و ماذا يصنع البرونز من نفسه , و هو الذي يمكن تشكيله بشكل آخر , كما تعامل امازيس Amasis مع قاعدة بان Pan و كما ذكر هيرودوتس 18 و كذا فما هو نفع كل من نيريللينوس Neryllinus و بروتيوسProteus و الإسكندر Alexander للمرضى ؟ إذ أن ما يقال أن التمثال يستطيع عمله , كان أوجب أن يكون عندما كان نيريللينوس Neryllinus حيا ً و مريضا ً .
27 – خدع الشياطين
ثم ماذا فى المقام الأول , فإن تحركات الروح الخيالية , و اللامنطقية في شتى المعتقدات, تكون العديد من التخيلات من وقت لآخر , البعض يستنبطونها من المادة , و البعض الآخر يشكلونها و يستحضرونها لأنفسهم , و هذا يحدث لروح – خاصة عندما تشرك الروح بالمادة و تختلط بها ناظرة لا للأشياء السماوية و خالقها , و لكن إلى الأرض و الأشياء السفلية , كلية على الأرض و لأنها مجرد لحم و دم و ليست بعد روحا ً نقيا ً .
تلك التحركات اللامنطقية , الخيالية للروح حينئذ تولد تخيلات فارغة في العقل , و التى من خلالها نعتقد بجنون في الأصنام , و عندما يحدث لروح رقيقة و قابلة للإيحاء , ليس لها علم أو خبرة بعقائد أكثر عقلا ً ليست معتادة أن تتأمل الحقيقة , و أن تأخذ فى الاعتبار و في تفكر , الأب و الصانع الكل الأشياء , تتأثر بالآراء الخاطئة التى لا تحترم الا ذاتها , حينئذ فالشياطين التي تحوم حول المادة , شرهي لرائحة القاربين , و دم الضحايا , و المستعدة دائما ً لأن تقود البشر إلى الخطأ , تستفيد من هذه التحركات الخادعة لأرواح العامة , و أن تتملك على أفكارها , مسببة لأن تتسرب للعقل , تخيلات فارغة و كأنها تجىء من الأصنام و التماثيل , و عندما تتحرك روح من نفسها , و لأنها خالدة تتحرك بسهولة و يسر نحو العقل , مستشرقة المستقبل , أو شافية في الحاضر , يزعم الشياطين المجد لنفسهم .
28 – آلهة الوثنيين مجرد بشر
ربما كان من الضرورى , تأييدا ً لما ذكر من قبل , أن أقول شيئا ً قليلا عن أسمائهم , فإن كل من هيرودوتوس Herodotus و الاسكندر Alexander ابن فيليب Philip في خطابه لأمه ( و قد قيل أن كلا منهما تناقش مع الكهنة فى هيليوبوليس Heliopolis و منف Memphis و طيبة Thebes ) يؤكدون أنهم علموا منهم أن الآلهة كانت بشرا ً .
و هكذا تكلم هيرودوت Herodotus – و قد كانت طبيعة هؤلاء الذين – كما قالوا ” يمثلون بهذه الصور, فقد كانوا شديدى البعد حقا ً عن أن يكونوا آلهة , و لكن فى الوقت السابق لهم كان الأمر خلاف ذلك فقد كان لمصر ملوكها , الذين سكنوا على الأرض مع البشر , الواحد دائما ً يسمو على الآخرين , و كان آخر هؤلاء حورس Horus ابن اوزوريس Osiris و الذى سماه الاغريق ابوللو Apolloفقد خلع ( نحى ) تيفون Typhon عن العرش و حكم مصر كآخر ملك – إله – , و أوزوريس Osiris يسمى ديونيسوس Dionysus ( باخوس Bacchus ) لدى الإغريق ” .
” و جميع أسماء الآلهة – تقريبا ً – جاءت إلى اليونان من مصر ” “و كان أبوللوApollo ابنا ً لديونيسوس Dionysus و إيزيس Isis كما يؤكد هيرودوتHerodotus” ؛ ” و نقلا ً عن المصريين فأبوللو Apollo و ديانا Diana هما إبنا باخوس Bacchus و إيزيس Isis , بينما لاتونا Latona هى مرضعتهما و حاميتهما ” هذه التي اتخذوها ملوكا ً أوائل لهم , و بسبب الجهل بالعبادة الحقة للإله من جانب , و من جانب آخر لشعورهم بأفضالهم عليهم , و اعترافا ً لهم بالجميل لحكمهم , و اعتبروهم و زوجاتهم آلهة لهم ” نذكر البقر إن كان طاهرا ً, و ذكور العجول, و يقوم المصريون, بعامة بتقديمهم قربانا ً , و لكنهم لا يضحون بالاناث, لأنها مقدسة لإيزيس Isis , و تمثال هذه الربة على شكل امرأة و لكن لها قرون , كالبقرة تماثل تصور الإغريق عن يو Io ” و من يكون أجدر بالثقة فى ما جاؤا به , من هؤلاء الذين جعلوا مهنتهم وضع الأصنام فى موضع التقديس من البشر أن يؤكدوا كاذبين , أنهم كانوا بشرا ً , و إذا كان هيرودوت Herodotus – وحده – الذى قال إن المصريين تحدثوا فى تاريخهم عن الآلهة بصفتها بشرا ً , ” أما ما أخبروني به , خاصا ً بديانتهم , فهو ما لن أردده مرة أخرى, فيما عدا أسماء آلهتهم و هو شىء تافه لا أهمية له ” فليس لدينا ما نعتبره معه أن هيرودوتHerodotus كاذب , و لكن بما أن الاسكندر Alexander و هرميس Hermes الذى لقب بتريسميجيستوس Trismegistus (مثلث العظم) 19 و الذين يشترك معهم فى إدعاء الخلود , آخرون لا يحصون , و لا أريد أن أسميهم أفرادا ً (اعلن نفس الشىء) فليس هناك مكان للشك أنهم ملوك اعتبروا آلهة , أما عن كونهم بشرا ً فقد أقر ذلك المصريون و الأكثر علما ً , الذين قالوا أن الأثير و الأرض و الشمس و القمر هم آلهة , يعتبرون الباقي بشرا ً فانين , و المعابد أضرحة لهم . و قد أكد لهم و قد اكد ابوللودورس Apollodorus أيضا ً ذلك فى مقاله عن الآلهة , و لكن هيرودوت Herodotus يسمى ما عانوه أسرارا ً ” الطقوس فى عيد إيزيس Isisفى مدينة بوسيريس Busiris و قد سبق و ذكرناها , و هناك كان العامة يقومون , رجالا ً و نساء و عددهم بالآلاف بضرب أنفسهم في نهاية تقديم القربان , و تمجيدا ً لإله يمنعنى تدينى من ذكر اسمه , فإذا كانوا آلهة فهم أيضا ً خالدين و لكن إن كان الناس يضربون من أجلهم , و ما يعانوه من قبيل الأسرار فهم بشر , و كما يقول هيرودوت Herodotus نفسه ” و هنا – أيضا ً – فى الدار الخاصة بمينرفاMinerva فى سايس Sais توجد مقبرة لمن اعتقد أنه ليس من الصواب أن أذكر اسمه , في مثل هذا المقام , أنه يقف خلف المعبد مستندا ً للسور الخلفي و تغطيه تماما ً , و يوجد أيضا ً بعض المسلات الحجرية فى الداخل كما توجد بحيرة بالقرب منها , محلاة ببروز من الحجر و هي ( أى البحيرة ) 20 ذات شكل دائري , و بدت لى مساوية حجما ً للبحيرة التي فى ديلوس Delos المسماة هوب Hoop , و على البحيرة يقدم المصريون – ليلا ً – عرضا ً لمعاناته , ذاك الذى أتفادى ذكر اسمه و يسمون ذلك العرض أسرارهم “.
و ليس فقط ضريح أوزوريس Osiris و لكن جثمانه المحنط ( مومياءه ) ” عندما يحضرون إليهم جثمانا ً يعرضون على من يحمله عدة نماذج من الأجسام المصنوعة من الخشب , و الملونة لتماثل الطبيعة أو اكثرها دقة , يذكرون أنه من صنع ذلك الذي أظن أنه ليس أن أذكره متصلا ً بهذا الأمر “.
29 – برهان على نفس الشىء من أقوال الشعراء
و من بين الإغريق أيضا ً , فإن أولئك الذين هم بارزون فى الشعر و التاريخ يذكرون نفس الشىء :
و هكذا يقولون عن هيراكليس Heracles :
” الشقي الخارج عن القانون , ذلك الذى يملك قوة وحشية , صاما ً أذنيه عن صوت السماء و هو يتجاوز متعديا ً الطقس الاجتماعي “
هكذا كانت طبيعته , و استحق أن يصاب بالجنون , و استحق أيضا ً أن يشعل الكومة الجنائزية , و يحرق نفسه حتى الموت .
أما هيسيود Hesiod فيقول عن اسكليبيوس Asklepius : ” آب الآلهة و البشر القادر, امتلأ بالحنق و من أعلى أوليمب Olympuz مصاحبا ً الرعد المبرق قذف بإبن لاتونا Latona المحبوب و هكذا كان غضبه “
أما بيندار Pindar : ” حتى الحكمة سقطت فى شراك الكسب , و الرشوة الذهبية اللامعة فى راحة اليد حتى هو , و قد انحرف : لذلك بكلتا يديه كتم أنفاس ابن كرونوس Kronos و تأكد من هلاكه بدفعه فى النار “
و على ذلك فهم إما الآلهة لا يتهالكون على الذهب ” أيها الذهب – أحب ما يكافأ به البشر الفانين و الذي لا تماثله في السعادة أمومة , و لا أعزاز الأطفال “
أما الآلهة فهم لا يحتاجون لشىء , و يسمون على الشهوات الجسدية و لا هم يموتون , و لا ينجبون أولادا ً , فكيف هم أشرار , بسبب الحمق و الجهل , يغلبهم حب المال , لذا فأقول مشيرا ً لكاستور Castor و بوللوكس Pollux و أمفياراريوس Amphiaraus الذين ولدوا بالأمس بشرا ً من بشر , ينظر إليهم كآلهة حتى يتخيل إليهم أن أينو Ino بعد إصابتها بالجنون , و ما تبع ذلك من آلام , أن تصبح ربة .
” سوف يسميها الذين يجوبون البحار ليوكوثيا Leucothea ” و ابنها : ” أوغسطس بالايمون August Palaemon سوف يطلبه البحارة ” .
30 – الأسباب التي من أجلها نسبت الألوهية للبشر
و لأنه إن كان البشر المكروهين من الآلهة , و المرفوضين , اشتهروا بأن صاروا آلهة , مثلا سميراميس Semiramis ابنه ديركيتو Derceto , المرأة السبقة الدموية , تم تأليهها فى سوريا , و حسب ديركيتو Derceto فالسوريون Syriansيعبدون الحمائم و سميراميس Semiramis ( لأنه و هو الأمر المستحيل , فقد تحولت امرأة إلى حمامة , و القصة فى كتيسياس Ctestias ) فما الغريب في الأمر إن كان البعض يدعون آلهة شعوبهم , على أساس أنهم ملوك حاكمون ( سيبيل Sibyl , أتى ذكرها فى أفلاطون – أيضا ً قائلا ً :
” كان ذلك هو الجيل العاشر من أولئك الناس الذين منحوا النطق منذ كان الفيضان قد أغرق الناس في الأزمنة القديمة , و حكم كرونوس Kronos و جابيتوس apetus و التيتان Titanو هم الرجال من أورانوس Ouranos و جايا Gaia الذين اعتبروا أنبل الأولاد , و أطلقوا عليهم الأسماء و لأنهم كانوا الناس الذين منحوا نعمة الكلام
فقد كانوا هم الأول ” و آخرون , و بسبب قوتهم مثل هيراكليس Heracles و بيرسيوس Perseus , و آخرون لفنهم مثل اسكليبيوس Asclepius .
أولئك إذا الذين حصلوا على الاسم , البعض خوفا و الآخرون انتقاما , و على ذلك يا أنتينوس Antinous من خلال الأعمال الخيرة التى قام بها أسلافك نحو و رعاياهم , أصبحت تدعى الها ً , و لكن أولئك الذين جاءوا من بعد , تبنوا تلك العبادة بدون فحص ” الكريتيون Creatans دائما ً يكذبون , لأنهم – أيها الملك , بنوا قبرا ً لك أنت الذي لست بميت ” .
و أنت يا كاليماخوس Callimachus رغم أنك تؤمن بولادة زيوس Zeus إلا أنك لا تؤمن بضريحه , و بينما يدور تفكيرك حول اخفاء الحقيقة , انت فى الحقيقة تعلن عن موته , حتى لأولئك الجهلة , و عندما ترى الكهف , تتذكر ولادة طفل ريا Rhea , و لكن عندما ترى ” الناووس ” , تلقى بالظلال على موته , غير آخذ في اعتبارك أن غير المولود هو وحده الأزلى , و لذا فإنه إما أن القصص التى يرويها العامة و الشعراء عن الآلهة , غير جديرة بالثقة و ما يتم إظهاره لهم من تبجيل هم من قبيل المبالغة ” لأن هؤلاء لا وجود لهم , و ما يحكى عنهم من قصص غير حقيقى ” أو أن أحداث الولادة , و قصص الحب , و جرائم القتل , و السرقات , و الإخصاء , و انفجارات الرعد هى صادقة , فهم قد زالوا من الوجود , أو توقفوا عن الوجود منذ أن ولدوا , أي أنهم لم يوجدوا من قبل , و على أى أساس يجب أن نصدق بعض الأشياء و نكذب البعض الآخر , فى حين أن الشعراء كتبوا قصصهم ليكسبوا آلهتهم احتراما ً و تقديسا ً أكبر ؟
لأنه من المؤكد أن هؤلاء الذين , من خلالهم وجب أن نعتبرهم آلهة , أولئك الذين بذلوا جهدهم لإظهار أعمالهم جديرة بالاحترام , لم يكن بمقدورهم ابتكار آلامهم , أما و نحن لسنا بملحدين , بل نعترف باللـه خالق هذا العالم و كلمته Logos , فقد تم إثبات – حسب قدرت] – إن لم يكن حسب ما يحمله الموضوع من أهمية .
31 – إسقاط الاتهامات الأخرى التي توجه للمسيحيين
و لكنهم زعموا ضدنا , قصصا ً عن ولائم تتعارض مع التقوى و العلاقات الجنسية المحرمة بين الجنسين , و حتى يبرروا لأنفسهم أسس الكراهية , و لأنهم يعتقدون أن بالتخويف يمكنهم أن يدفعوننا بعيدا ً عن مسار حياتنا أو بتأليب ( بتهييج ) الحكام علينا و جعلهم قساة غير متسامحين لما قالوه لنا من اتهامات كبيرة .
و إن كانت جهودهم تبوء بالفشل مع أولئك الذين يعملون جيدا ً أنه منذ القدم – و ليس فقط في أيامنا تلك – فمن المعتاد أن الرذيلة تشن حربا شعواء على الفضيلة , حتى أن فيثاغورس Pythagoras و معه ثلاثمائة آخرين , اعدموا حرقا ً , و كذلك تم نفى هيراقليطوس Heraclitus و ديموقريطوس Democritus , واحد من مدينة الافسسيين Ephesians و الآخر من أبديرا Abdera لأنه اتهم بالجنون , و حكم الأثينيون Athenians على سقراط Socrates بالموت .
و لأنهم – لم يكونوا أقل سواءا – من ناحية الفضيلة , و حسب آراء العامة , كذلك فالاتهامات العشوائية من بعض الأشخاص لن يمكنها ان تلقى ظلا علينا فيما يتصل باستقامة حياتنا , لأننا مع اللـه نقف فى سيرة عطرة , و رغم ذلك سوف أتولى الرد على هذه الاتهامات أيضا ً , و إن كنت واثقا ً , أنما قلته حتى الآن , أوضح لك ما أريد , لأنكم و أنتم الذين تفوقون الناس كلهم ذكاء , تعرفون أن هؤلاء الذين يتوجهون بحياتهم إلى اللـه كقاعدة , حتى أصبح كل منهم بلا لوم , و لا تأنيب أمام اللـه , لا تراود ذهنهم أفكار حتى عن أبسط الخطايا , لأننا لو اعتقدنا أننا نحيا حياتنا هذه فقط لكان هناك شك في أننا نخطىء , لعبوديتنا اللحم و دم , أو قد تسيدت علينا محبة الكسب و الرغبة الحيوانية , و لكن لأننا نعلم أن اللـه شاهد على فكرنا و كلامنا ليلا و نهارا ً .
إذ أنه و هو النور يبصر ما فى قلوبنا , فنحن مقتنعون بأننا عندما نترك هذه الحياة الراهنة سنحيا حياة أخرى , أفضل من التي نحياها الآن , حياة سماوية و ليست أرضية ” لأننا سنسكن فى قرب اللـه , و مع اللـه , سنتحرر من كل تغيير أو ألم بالروح و ليس بالجسد رغم اننا سيكون لنا جسد , و لكن بصفتنا روح علوية ” و إلا سقطنا مع الباقين , بل و أسوأ منهم فى النار , لأن اللـه لم يخلقنا كغنم او كحيوانات , تلك التى تحمل الأثقال , كمجرد أداة عمل و أننا سنهلك و نصبح عدما ً , و بناء عليه فمن غير المحتمل أننا سنرغب في عمل الشر و حتى لا ندفع بأنفسنا أمام الديان ( القاضى ) الأعظم لنعاقب .
32 – سمو أخلاق المسيحيين
و ليس بمستغرب مهما كان الامر , أن يقصوا علينا قصصا مثل تلك التى قصوها عن آلهتهم نفسها , أولئك الذين يصنعون من وقائع حياتهم أسرارا ً , و كان واجبا عليهم , إن كانوا سيدينون العلاقات الجنسية الفاضحة الفوضوية , أن يكرهوا إما زيوس Zeus الذى انجب اطفالا ً من أمه ريا Rhea و ابنته كورى Kore و اتخذ أخته زوجته , أو أورفيوس Orpheus مؤلف هذه الحكايات , و الذي جعل زيوس Zeus أكثر إثما ً و مكروها ً أكثر من ثيستيس Thyestes نفسه , الذء فض بكارة ابنته طبقا ً لنبؤة الوحء , و ذلك عندما أراد أن يحصل على المملكة و ينتقم لنفسه .
و لكننا بعيدون تماما ً عن العلاقات الجنسية الغير منضبطة , حتى أننا نعتبره إثما أن ننظر في اشتهاء , لأنه يقول اللـه ” أما أنا فأقول لكم , إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه “ , هؤلاء الذين حرم عليهم أن ينظروا لأي شىء يتجاوز ذاك الذي من أجله صنع اللـه لهم عيونا ً , و التي قصد ( اللـه ) بها أن تكون نورا ً لنا , و الذين يعتبرون أن النظرة باشتهاء هي زنى إذ أن العينين قد صنعتا لأشياء أخرى , أولئك الذين طلب منهم أن يعطوا حسابا عن افمارهم فمن يشك في أنهم يمارسون على أنفسهم ضبط النفس ؟ إذ أن مسئوليتنا لا تقف عند حد قوانين البشر , و التي يمكن لإنسان شرير أن يخرج عليها ” منذ البداية قد اثبت لكم , ايها الملوك , إن عقيدتنا مستمدة من اللـه ” و لكن لنا قانوننا الذى يقيس مدى استقامتنا بمدى مطابقة تعاملنا مع جارنا كأنفسنا , و تبعا ً لذلك , و حسب السن ننظر إلى البعض أبناء و بناتا ً لنا , و البعض الآخر أخوة و أخوات , أما أولئك الذين تقدم بهم العمر نحترمهم بصفتهم آباء و أمهات , و نيابة عن هؤلاء الذين نسميهم أخوة و أخوات و نضفى عليهم باقى صفات القرابة , نراعى و إلى أقصى حد أن تظل أجسادهم غير مدنسة , طاهرة نقية , لأن اللـه الكلمة Logos يقول لنا مرة أخرى ” إذا قبل واحد منكم مرة ثانية , لأن القبلة لذت له فقد ارتكب خطيئة مضيفا ً ” لذا فالقبلة أو التحية يجب أن تقدم بغاية الحرص لأنها لو اختلطت بأقل قدر ممكن من الفكر الخبيث لحرمتنا من الحياة الأبدية ” .
33 – طهارة المسيحيين فيما يختص بالزواج
هكذا , لأن لنا الرجاء في الحياة الأبدية , احتقلانا الأشياء التي فى هذه الحياة , و حتى ما يختص بالمتع الخاصة بالنفس البشرية, إذ أن كلامنا يعتبر من تزوج حسب الشرائع التى وضعناها لانفسنا زوجة له ( امرأته ) من أجل إنجاب الأطفال فقط , إذ كما ينثر الزارع البذور فى التربة و ينتظر الحصاد , و لا يضع فوقها بذورا ً أخرى , لذلك فإن إنجاب الأطفال بالنسبة لنا هو المقياس الذي يحكم ممارستنا للشهوة الجنسية ليس هذا فقط , بل أيضا ً , كثيرا ً ما يحدث بيننا , رجالا ً و نساء , يتقدمون فى العمر دون زواج , بأمل أن يعيشوا فى شركة صحيحة مع اللـه , و لكن بالنسبة لاولئك الذين يواصلون سيرهم في البكارة , و يحيون في تقرب للـه كخصيان , إذ أن الإغراق في الأفكار الشهوانية و الرغبة الجسدية يبعدنا عن اللـه لذا فنحن ننحني بعيدا ً هذه الافكار , بل و نرفض هذه الممارسات , لأننا معطى ألبابنا لا لدراسة الكلمات , و لكننا نركز على الاداء و التمرس بالاعمال , لذا فإن ” أي شخص منا , إما يظل مثلما ولد ( طاهرا ) أو يكفى بزواج واحد , لأن الزواج الثاني ( بزوجة أخرى ) هو فى حقيقته زنى ” لأن الرب يقول ( من طلق زوجته و تزوج بأخرى يزنى ) , و بذا لا يسمح لرجل أن يطلق زوجته تلك التي فض بكارتها , و لا أن يتزوج بأخرى , لأن ذاك الذي يحرم نفسه من زوجته تلك التي فض بكارتها , و لا أن يتزوج بأخرى , لأن ذاك الذي يحرم نفسه من زوجته الأولى حتى لو ماتت فهو زان في الخفاء , و يقاوم إرادة اللـه , لأنه منذ البدء خلق اللـه رجلا واحدا ً و امرأة واحدة , فاصلا الرباط الوثيق للجسد بالجسد , و الذي وضع لبقاء الجنس الإنساني .
34 – الفرق الشاسع في الأخلاقيات بين المسيحيين و الذين يوجهون لهم التهم
و لكن برغم أن هذه طباعنا (ويحى , لماذا أتحدث بأشياء ليس من اللائق أن أنطق بها ؟) فما يقال عنا ينطبق عليه المثل ” العاهرة تؤنب الطاهرة ” لأن هؤلاء الذين أقاموا سوقا ً للجماع و أسسوا محلات يمارس فيها الشباب كل صور الخطيئة , و الذين حتى لا يمتنعون عن مضاجعة الذكور , حيث يقوم الذكور مع الذكور بارتكاب ما يصيب الإنسان بالصدمة , منتهكين الأجساد النبيلة الكلمة التكوين بكل الطرق , و هكذا يحطون من الجمال الذي صنعه اللـه ” لأن الجمال على الأرض لم يصنع ذاته و لكن جىء به إلى هنا , بعمل اللـه و إرادته ” هؤلاء يتهموننا بنفس الأشياء , التى يعلمونها عن أنفسهم و التى ينسبونها إلى آلهتهم , زاعمين أنها أعمال نبيلة جديرة بالآلهة , هؤلاء الزناة , يطلقون التشنيعات على خصيان اللـه , و الذين تزوجوا مرة واحدة ( بينما يعيشون كالأسماك يبتلعون كل ما يصادفهم , القوى يطارد الضعيف , كأنهم يقتاتون بلحم البشر , و يرتكبون اعمال العنف مخالفين القوانين , و التى قمتم أنتم و أسلافكم بسنها , مراعين تماما ً كل ما هو عدل و حق حتى أن حكام الأقاليم الذين ترسلونهم ليسوا بكافين لسماع الشكاوى ضدهم , أولئك ( المسيحيون ) و الذين بلا سند من قانون , إذا وجهت لهم ضربة , لم يمضوا فى مزيد من الضربات , و الذين إذا لعنوا باركوا , لأنه ليس بكاف أن يكون الإنسان عادلا ” و من العدل أن ترد الأذى بمثله ” و لكن من المفروض علينا أن نكون خيرين و صابرين في مواجهة الشر .
35 – المسيحيون يدينون و يرفضون كل قسوة
فمن يكون سوى العقل , و يمكنه أن يؤكد أننا قتله , و هو يعلم ما هي طباعنا ؟ إذا أن هذه التهمة الأولى كاذبة , أما بالنسبة للثانية , فهل رأوا عين ما يؤكد حدوثه . فلن نجد منهم من يستطيع في مواجهة أن يقول أنه قد رأى فعلا , و لكن , لأن لدينا عبيدا ً , للبعض كثير و للآخر قليل , و الذين لا يمكن نفادى رؤيتهم لنا , فلم يدعى واحد منهم مثل هذه الأشياء ضدنا لأنهم إذ يعلمون أننا لا نتحمل أن نرى إنسانا ينفذ فيه حلم الموت – بعد حكم عادل – فمن منهم يمكن أن يتهمنا بأننا قتلة و آكلي لحوم البشر ؟
و من الذي لا يعتبر أن مباريات المصارعين مع الوحوش من الأشياء الجديرة بالنظر , خاصة تلك التي تقيمونها أنتم ؟
و لكننا نبتعد عن هذه المناظر حيث أن رؤية إنسان يقدم للموت تساوي قتله , فكيف و نحن لا نجرؤ على مجرد النظر , حتى لا نلتقط عدوى الإثم و النجاسة , نقتل الناس ؟
و عندما نقول أن أولئك النسوة اللاتي يستخدمن العقاقير لكي يسببن الاجهاض يرتكبن جريمة القتل و سيقدمن حسابا ً للـه على ذلك الإجهاض , فعلى أى أساس نقتل ؟ لأنه لا يمكن أن يجتمع فى شخص ما الاعتقاد بأن الجنين في الرحم هو كائن مخلوق , لذا فاللـه يرعاه , و عندما يخرج للحياة , نقتله , و الذي لا يعرض الطفل الوليد للخطر لاعتقاده أن أولئك الذين يعرضون المواليد للخطر متهمين بالقتل , و من جانب آخر و بعد أن يكبر يهلكه , و لكننا في كل شىء متماثلين خاضعين لصوت العقل , غير متعالين عليه .
36 – أثر عقيدة القيامة على ممارسات المسيحيين
و من ذا الذي يؤمن بقيامة الموتى ( القيامة ) ثم يجعل من نفسه قبرا ً لأجساد ستقوم مرة ثانية ؟ لأنه هل يليق للأشخاص الذين يؤمنون أن أجسادنا ستقوم مرة أخرى أن يأكلوا هذه الأجساد كأنها لن تقوم , و الذين يعتقدون أن الأرض سترد الأجساد التي دفنت فيها , و لكن ما دفنه الأنسان داخله لن يطلب مرة أخرى ؟ و على العكس فمن المنطقي أن يفترض أن أولئك الذين يعتقدون أنهم لن يعطوا حسابا عن حياتهم الراهنة سواء كانت انقضت فى شر أو فى خير , و أنه لا توجد قيامة , و لكنهم يحسبون حساباتهم على أن الروح تفنى بفناء الجسد , إذ أنها متغلغلة فيها , يمتنعون عن أي فعل فيه تجاوز فى حين أن أولئك الذين اقتنعوا بأن لا شىء يفلت من عقاب اللـه , بل حتى الجسد الذى خضع للتأثيرات الغير منضبطة , النابعة من الروح , و لرغبتها سوف يعاقب معها , فليس من المحتمل أن يرتكبوا و لو أصغر و أتفه الخطايا , و لكن إن بدا لأي واحد أنه من الجنون المطبق , أن الجسد الذى تحلل تماما ً و اختفى إلى لا شىء , سوف يعاد بناؤه مرة أخرى فلن نتهم باى صورة , بأننا خبثتء بالمقارنة بأولئك الذين لا يؤمنون سوى فقط بالحمق , لأنه بالاراء التى نخدع بها انفسنا , لا نؤذى احد اخر و لكنه ليس معتقدنا وحدنا أن الأجساد ستقوم مرة أخرى , بل أن كثير من الفلاسفة يتفقون فى نفس الفكرة , و إن لم يكن هذا مكانه الآن , خوفا من أن يعتقد أننا نورد موضوعات لا علاقة لها بالموضوع الذي بين أيدينا سواء لو تحدثنا عن المعقول و المحسوس , و طبيعة كل منهما على حدة , أو قلنا ان اللا جسدي سابق لا جسدي و أن المعقول يسبق المحسوس و إن كنا تعرفنا على الأخير أولا ً . إذ أن العضوىيكون من غير العضوي باندماجه بالمعقول , و أن المحسوس تكون من المعقول , لأنه و حسب رأى فيثاغورس Pythagoras و أفلاطون Plato فليس ما يمنع – بعد انحلال الاجساد – أن يعاد ناؤها من نفس العناصر التي كانت مكونة منها من قبل , و لكن دعنا نؤجل الحديث فيما يختص بالقيامة .
37 – التماس لكي نحاكم محاكمة عادلة
و الآن انتم أيها المستقيمون تماما ً في كل شىء – سواء بالطبيعة أو بالدراسة ( بالعلم ) – المعتدلون الخيرون , المستحقون لأن تحكموا , و بعد أن تناولت الاتهامات العديدة , و أثبت أننا أتقياء و مهذبون دوو نفوس معتدلة ليس فيها تطرف , أرجو أن تؤمنوا برؤوسكم الملكية باستحسان , لأنه – من هنا أولى منا – أن ننال ما نطلب , نحن الذين , يصلون من أجل حكمكم , كي تتوارثوا الملك ابنا بعد أب , و أن تتسع امبراطوريتكم و تنمو و أن يخضع الكل لسلطانكم ؟ لأن هذا أيضا لفائدتنا حتى نحيا حياة سلام و هدوء و أن نقوم بتنفيذ كل ما نؤمر به .
الفصل الثالث
قيامة الموتى لأثيناجوراس
مقدمة عن مقال قيامة الموتى
يحوي هذا المقال 25 فصلاً، ويعتبر أول محاولة يقوم بها كاتب مسيحي ليؤكد عقيدة القيامة ببراهين فلسفية وليس بدلائل من الوحى وحده.. ويعتبر من أفضل ما كتب في هذا الشأن في الكتابات المسيحية الأولى. وبالرغم مما يشوبه من بعض العيوب، لكنه يكشف عن عمق في الإدراك ومهارة في التفكير.
أما سبب كتابة هذا المقال فهو نظرة رجال عصره إلى قيامة الأجساد في شئ من الشك، حتى كانت هذه العقيدة حجر عثرة أمام الناس في اعتناقهم الإيمان المسيحي. هذا ما نلمسه في ردود الفعل تجاه تصريحات الرسول بولس عن القيامة في محكمة أريوس باغوس بأثينا. كان بعضهم يهزأون، والآخرون يقولون سنسمع منك عن هذا مرة أخرى (أع 17 : 23). هذا وقد عرف المضطهدون أن سر قوة المسيحيين واحتمالهم العذابات بفرح هو رجاءهم في القيامة، لذلك كانوا يبذلون كل الجهد أن يبددوا ذخائر الشهداء لا ليحرموا المؤمنين من اقتنائها فحسب، إنما كانوا يظنون أنهم بهذا يبددون رجاء المسيحية في قيامة الأجساد.
وينقسم هذا المقال إلى جزئين رئيسيين: الأول (فصل 1 – 10) يمثل الجانب السلبي ألا وهو الرد على اعتراضات الفلاسفة ضد قيامة الأجساد. والثاني (فصل 11 – 25) يمثل الجانب الإيجابي ألا وهو تقديم البراهين على حقيقة القيامة. هذا ويمكن القول بأن الجزء الأول يعرض موضوع “الله والقيامة”، أما الثاني فيعرض “الإنسان وا لقيامة “.
في الجزء الأول أوضح أن اعتراضات الفلاسفة على القيامة تقوم إما بسبب نقص معرفة الله أو قدرته أو مشيئته في القيامة فمن جهة المعرفة فإن الله الذي يخلق الأجساد يعرف أن يقيمها. ومن جهة القدرة فإنه إذ يقدر أن يخلق من العدم ألا يقدر أن يعيد تكوينها حتى إن تحللت أو تناثرت أو اندمجت عناصرها في الأرض أو في النبات أو الحيوان أو في الإنسان. أما من جهة المشيئة، فإن الله لا يشاء القيامة إما خوفاً من أن يلحق بالقائم من الأموات ظلماً أو لأن في القيامة ما يشين الله. والحق أن القائم من الأموات لا يلحقه ظلم ولا تشين قيامته الله في شيء.
يعطي في الجزء الثاني دلائل على القيامة خلال علاقتها بالإنسان:
أ – القيامة ضرورية للإنسان الذي خلقه الله كائناً عاقلاً ليعيش إلى الأبد (11-13).
ب – يتكون الإنسان من الجسد والنفس، هذه الوحدة يحطمها الموت لتعيدها القيامة من جديد فيحيا إلى الأبد (14-17).
ج – ينبغي أن يشترك الجسد مع النفس في المكافأة في العالم الآتي كما اشتركا معاً في التصرفات هنا (18-22).
د – خلق الإنسان من أجل السعادة الأبدية التي لا تتحقق بوجوده هنا على الأرض، وإنما في الحياة الأخرى (24، 25).
نص مقال قيامة الموتى
ا – الدفاع عن الحق يجب أن يسبق المناقشات الخاصة به
أعتقد أنه يجب على من ينشغلون بهذه الأمور أن يتبنوا خطين للنقاش، أحدهما للدفاع عن الحق والأخر يختص بالحق. وأما الدفاع عن الحق، فهو لغير المؤمنين أو للمتشككين، وأما ما يختص بالحق فهو للمخلصين الذين يتقبلون الحق برضى ….
2 – القيامة ليست مستحيلة
بالحقيقة يعتبر الشيء مستحيلاً على الشخص، عندما يكون واحداً من اثنين: إما أن يكون على غير علم بما يجب عمله أو ليست لديه القدرة الكافية لعمل الشيء المناسب للموضوع المعلوم له……. ولكن ليس من الجائز على الله أن يكون جاهلاً لطبيعة الأجسام التي يراد إقامتها بالتفصيل… لأن الله، الذي لم يخفي عليه سابقاً، التكوين الخاص لكل شيء…. سيمكنه بجلاء، بعد تحلل الكل، أن يكون عالماً إلى أين نفذ كل من الأجزاء التي اتخذها لتكوين الجسم. لأنه بالنظر نسبياً إلى نظام الأشياء الحاصلة بيننا. والحكم الذي نكونه فيما يتعلق بالأمور الأخرى، فإنه من الأمور العظيمة، أن نعرف مسبقاً، الأمور التي لم تحدث بعد، ولكن بالنظر نسبياً إلى جلالة وحكمة الله، وكلاهما حسب الطبيعة، يتساويا في السهولة، أن يعرف الله مسبقاً الامور التي لم تحدث بعد، وأن يعرف أيضاً الأشياء التي قد تحللت.
3 – الذي يمكنه أن يخلق، يمكنه أيضاً أن يقيم الأموات
وفضلاً عن ذلك، فكون قوة الله كافية لإقامة الأجسام، يتبين من أنه خلق نفس هذه الأجسام. لأنه إذا كان، قبل أن توجد، عند تكوينها الأول، قام الله بعمل أجسام البشر وعناصرها الأولية، فإنه عندما تتحلل بأية طريقة قد تحدث، فإنه سوف يقيمها ثانية بنفس المستوى من السهولة، ممكن لديه.
وليس هناك ما يضر بالحجة، إذا افترض البعض، أن البدايات الأولى حدثت من المادة، أو أن أجسام البشر على الأقل قد اشتقت من العناصر، وتقسم البذرة التي كانت واحدة وبسيطة إلى كثرة، وتنظم ما لم يكن منظما، وتعطى حياة لما كان بغير حياة، نفس هذه القوة يمكنها أن توحد ما قد تحلل، وتقيم الراقدين، وتحي الميت، وأيضاً تحول الفاسد إلى عدم فساد، سينسب إلى نفس هذا الكائن ولنفس القدرة والحكمة، ما كسر وتوزع بين كثرة من الحيوانات من جميع الأجناس التي اعتادت الالتجاء إلى مثل هذه الأبدان لتشبع شهيتها بالتهامها، فهو يميز هذه ويوحدها ثانياً بأعضائها الخاصة وأجزاء الأعضاء، سواء كانت قد مرت إلى واحد من تلك الحيوانات أو إلى الكثير منها، ثم إلى حيوانات أخرى، أو بعد أن تكون قد تحللت مع هذه الحيوانات نفسها وعادت مرة ثانية إلى العناصر الأولية، وقد تحللت إلى هذه العناصر وفقاً لقانون طبيعي.
وهو أمر يبدو وقد حير إلى حد كبير بعض الناس، حتى ممن نالوا الإعجاب بسبب حكمتهم، والذين لا أدرى، لماذا يرون أن هذه الشكوك التي يبديها الكثيرون تستحق منهم انتباها جديا.
4 – اعتراض مبنبي على حقيقة أن بعض الأجسام البشرية قد أصبحت جزءاً من أجسام أخرى
هؤلاء الأشخاص يؤكدون أن الكثير من أجسام الذين صادفهم موت أليم في حوادث سفن أو غرقوا في أنهار، قد صارت طعاماً للسمك وكذلك فإن الكثيرين ممن يموتون في الحرب أو لسبب آخر مؤلم، وواقع سيء، يحرمون من دفن جثثهم، وتبقى معرضة لتصبح طعاماً لما يصادفها من حيوانات. وعلى هذا النحو تلتهم هذه الأجسام، وتنكسر الأعضاء والأجزاء المكونة لها، وتتوزع بين عدد كبير من الحيوانات، وعن طريق التغذية فإنها تتحد بأجساد تلك الحيونات التي تغذت عليها.
وهم يقولون بالدرجة الأولى، أن فصل هذه الأجسام عن بعضها هو أمر مستحيل، وعلاوة على ذلك، في المقام الثاني، فإنهم يقدمون حالة أكثر صعوبة، عندما يحدث أن حيوانات من آكلة لحوم البشر تتغذى على أجسام بعض الناس، وتمر هذه اللحوم في معدات تلك الحيوانات، وتصبح متحدة بأجسام تلك الحيوانات التي تناولت هذا الطعام، لأنه لابد بالضرورة، كما يقولون، أن أجزاء أجسام البشر التي أصبحت غذاء للحيوانات التي تناولت منها، أن تمر إلى أجسام بشر آخرين، حيث أن هذه الحيوانات التي تغذت على أجسامهم تنقل الغذاء المستمر من الذين تغذوا عليها إلى أولئك البشر الذين أصبحت هي غذاء لهم. ثم يضيفون بطريق مفجعة، ما يحدث من بعض الناس حين يقترفون حوادث أكل نسلهم في حالات المجاعات أو الجنون والأطفال الذين يأكلهم والديهم عند محاصرة الأعداء لبلادهم والاحتفال بالأعياد الوثنية، وولائم ثيستوس المفجعة. ثم يضيفون علاوة على ذلك، أشياء، مثل بعض الحوادث التي لم يسمع عنها والتي حدثت بين الإغريق والبرابرة، ثم يؤسسون على هذه الأمور حسب تفكيرهم، استحالة القيامة، على أساس أن نفس الأجزاء لا يمكن أن تقوم مرة ثانية مع جسم، وفي نفس الوقت مع جسم آخر، لأنه إما أن الجسم الخاص بالمالك الأول لا يمكن إعادة تركيبه نظراً لأن مكوناته قد أصبحت جزءاً من جسم آخر، أو أن هذه الأجزاء ستعاد إلى الجسم الأول، فإن أجزاء الجسم الثاني سوف تصبح ناقصة.
5 – مراجعة لعملية الهضم والتغذي
ولكن يبدو لي أن مثل هؤلاء الأشخاص، هم في المقام الأول، غير واعين لقدرة وحكمة الله الذي خلق ودبر الكون، والذي هيأ لطبيعة ونوع كل حيوان، التغذية التي تناسبه وتلائمه وهو لم يفرض أن كل طبيعة تتحد أو تمتزج بكل جسم، كما أنه من الممكن فصل ما تم اتحاده، دون ضرر. ولكنه يمنح لطبيعة كل من الكائنات أن تفعل أو تتحمل ما يناسبها، كما أنه في بعض الأحيان يعيق، أو يسمح أو يمنع ما يشاء وللغرض الذي يشاؤه. وبالإضافة إلى ما قد قلناه، فإن هؤلاء الأشخاص، لم يفكروا في ندرة وطبيعة كل من المخلوقات التي تأكل أو تطعم، وإلا لعرفوا أنه ليس كل ما يؤخذ كطعام تحت ضغط الضرورة الخارجية، يمكن أن يكون غذاء مناسباً للحيوان ولكن بعض الأشياء بمجرد أن تلامس ثنايا المعدة، فإنها عادة تفسد، وتتقيأ أو تفرغ، أو يتخلص منها بطريقه أخرى، حتى إنها لا تمر، ولا حتى لفترة قصيرة بعملية الهضم الأولى والطبيعى، وبالأولى لا يحدث أي اتحاد بينها وبين جسم من يأكلها كذلك فإن الأكل الذي تهضمه المعدة، وتحدث فيه التغيرات الأولية، لا يصل كله فعلاً إلى أجزاء جسم الذي يأكله، حيث أن بعضهم يفقد قوته الغذائية حتى في المعدة، والبعض خلال التغيير الثاني. كذلك فإن التغيير الذي يحدث في الكبد ينفصل، ويمر خلال شيء آخر يفتقد القوة على امتصاص الغذاء. إن هذا التغيير الذي يحدث في الكبد لا يتحول كله إلى غذاء للناس، ولكن المادة المحولة تفصل كنفاية طبقاً لما هو محدد لها طبيعياً، والغذاء الذي يبقى في الأعضاء والأجزاء نفسها التي يجب أن تتغذى، يتحول أحياناً إلى شيء آخر، وفقاً لما هو سائد، والموجود بأكثر أو أقل وفرة وعرضة للفساد أو يحول إلى نفسه ما يقترب منه.
6 – كل ما هو عديم الفائدة أو ضار يرفض
لذلك، حيث أنه يوجد اختلاف طبيعي كبير- بين جميع الحيوانات، وأن أي غذاء بعينه مما يتفق مع الطبيعة، يتغير ليناسب كل نوع من الحيوان وكذا الجسم الذي يتغذى عليه ونظراً لأن كل غذاء لأي حيوان يمر على ثلاث مراحل، للتنقية والفصل، فإنه يتبع ذلك أن أية مادة غريبة عما يأخذه الحيوان لغذائه، يجب أن تتلف كلية وتحمل بعيداً إلى مكانها الطبيعي أو تحول إلى شيء آخر إذ لا يمكنها الامتزاج بالحيوان، كما أن قوة الجسم المغذى يجب أن تتناسب مع طبيعة الحيوان المتغذى وتتناسق مع قواه، لأن هذه عند مرورها على الأعضاء التي تقوم بعمل المصافي والموجودة في الجسم لهذا الغرض يتم التخلص منها تلقائياً. وبعد تنقيتها بالطرق الطبيعية للتنقية، يجب أن تصبح إضافة أصلية للجوهر والشيء الوحيد، في الحقيقة، الذي يمكن لأي شخص يدعو الأشياء بأسمائها الصحيحة، أن يسميها تغذية في الواقع. لأنه يرفض كل ما هو أجنبي وضار بتكوين الحيوان المتغذي، وأن هذه الكتلة من المواد الناقلة قد أدخلت لملء المعدة وإشباع الشهية فقط. ولا يشك أحد أن هذه التغذية، تندمج بجسم المتغذى وتتداخل كالنسيج وتتآلف مع جميع الأعضاء وأجزاء الأعضاء. ولكن بخلاف وعلى عكس ما هو طبيعي من سرعة فسادها إذا لامست قوة أكبر، فإنها تتلف ما تتسلط عليه، وتتحول إلى أخلاط جسدية ضارة وأنواع سامة لأنها لا تحمل أشياء متجانسة أو متحابة مع جسم المتغذى. وأكبر دليل واضح على ذلك، هو أن الكثير من الحيوانات عندما تتغذى، يظهر عليها الألم أو المرض وربما الموت من تناول هذه الأطعمة، إذا ما تناولوا، نظراً لشهيتهم الشديدة الرغبة، أشياء سامة مختلطة بطعامهم، فإنه من الطبيعي أن يفضي ذلك إلى القضاء التام على جسم المتغذى، بمعنى أن المتغذى يتغذى بمواد متجانسة معه وتتفق مع طبيعته، ولكنه يهلك بتلك، ذات الطابع المختلف. وعلى ذلك، فإنه تبعاً للطبيعة المختلفة للحيوانات، قدمت أطعمة مختلفة مناسبة لطبيعتهم، لأنه لا يوجد ضمن ما تناوله الحيوان، ولا بطريق عرضي في جزء منه، ما يسمح بالامتزاج بجسم المتغذي ولكن فقط الجزء الذي تم تنقيته بعملية كاملة من الهضم، ويمر بعملية تغيير كاملة للاتحاد مع جسد معين، ويتآلف مع الأعضاء التي تتلقى الغذاء – فإنه من الواضح تماماً أنه ما من شيء مخالف للطبيعة يمكن أن يتحد بتلك الأجسام التي لا يناسبها ولا يعتبر غذاء متوافقاً معها، فإنه إما أن تتخطاه الأمعاء قبل أن ينتج أخلاطاً غير نقية وفاسدة، وإذا استمر لوقت أطول، فإنه يتسبب في معاناة أو مرض يصعب شفاؤه، يهلك في نفس الوقت الغذاء الطبيعي أو ربما الجسد نفسه المحتاج إلى التغذية. ولكن حتى في هذه الحالة فإنه يطرد في النهاية، ويتغلب عليه ببعض الأدوية أو بطعام أحسن، أو بالقوة الطبيعية، وحتى إذا تم ذلك فإنه لا يتم دون ترك ضرر كبير، إذ أنه لا يحمل واجهة سليمة تجاه ما هو طبيعي، حيث أنه لا يتلاءم مع الطبيعة.
7 -جسد القيامة يختلف عن الجسد الحالي
وإذا افترضنا أنه كان علينا أن نسلم بأن التغذية المستمرة من هذه الأشياء (ولنطلق عليها هذا الاسم، حيث أنه مناسب جداً مع طريقة الكلام العادية). ورغم كونها ضد الطبيعة، فإنها تفصل وتتغير إلى واحد من الرطب أو الجاف أو الدافئ أو البارد التي يحتويها الجسم، فإن معارضينا لن يكسبوا شيئا من هذا الغرض نظراً لأن الأجسام التي تقوم ثانية، يعاد تركيبها من الأجزاء التي تنسب إليها، في حين أنه ليس فيما ذكر مثل هذا الجزء، كما انه ليس فيه ما له شكل أو مكان الجزء، ولا يبقى دائماً مع أجزاء الجسم التي تتغذى، ولا يقوم ثانية مع الأجزاء التي تقوم، حيث لن يشترك دم، أو نخاع، أو مرارة، أو نفس، في الحياة، كما أن الأجسام لن تحتاج، مرة ثانية، حينئذ، نفس الغذاء الذي احتاجت إليه سابقاً، بالنظر إلى أنه مع الحاجة وفساد الأجسام المتغذية، فإن الحاجة أيضاً إلى هذه الأشياء التي كانت تتغذى عليها قد زالت. كما أنه يجب الإضافة إلى أننا لو افترضنا أن التغيير الذي يحدث من مثل هذه التغذية يتحلل إلى لحم، فإنه في مثل هذه الحالة أيضاً، لن تكون هناك ضرورة إذ أن هذا اللحم الذي قد تغير بطعام من هذا النوع، إذا اتحد مع جسم إنسان آخر، يجب أن يساهم في تكوين ذلك الجسم، حيث أنه لا الجسم الذي أخذه يحتفظ دائما بما أخذه، ولا يحتفظ اللحم الذي أندمج هكذا ويبقى مع ذاك الذي أضيف، لكنه معرض لتغيرات عديدة – فقد يتشتت عن طريق الكد أو الاهتمام أو يضيع بسبب الحزن أو الشدائد أو المرض أو بسبب توعك المزاج الناتج عن الشعور بالحرارة أو البرد الشديد، وتغيير أخلاط الجسد مع اللحم والدهن اللذان لا يتلقيان التغذية التي تساعدهما على البقاء على حالهما. ولكن، بينما تلك هي التغيرات التي يتعرض لها اللحم، فيجب علينا أن نعرف أن اللحم المتغذى بطعام غير ملائم له، يعانى منه بدرجة كبيرة جداً، ذلك بامتصاصه والنمو ببدانة نظراً لما تلقاه، ثم أيضاً بطرده بطريقة ما أو بأخرى، وينقص في الوزن بسبب واحد أو أكثر من الأسباب التي ذكرت سابقاً، وأن هذا وحده يبقى في الأجزاء المهيأة لتتحد معا، أو تعطى، أو تدفئ اللحم الذي اختارته الطبيعة، وينجذب إلى تلك الأجزاء التي تدعم الحياة التي تتوافق مع الطبيعة، وتتجاوب مع متطلبات هذه الحياة. وعلى ذلك، فإنه إذا كان البحث الذي انشغلنا به يحكم عليه بعدالة، أو أن الاعتراضات التي تحرض ضد اعتراضنا تقبل، فإنه في أي من الحالتين لا يمكن أن نوضح أن ما يقوله معارضونا صحيح، كما أنه لا يمكن لأجساد البشر أن تتحد مع من لهم نفس الطبيعة دائما، لأنهم في أي وقت، عن طريق جهل، أو عن إحساسهم بواسطة شخص آخر، إن أشخاصاًُ اشتركوا في مثل هذا الجسد أو بموافقتهم مدفوعين بالحاجة أو الجنون، فإنهم ينجون أنفسهم بجسد واحد من أمثال هؤلاء لأننا نعلم جيداً، أن بعض المتوحشين لهم هيئات إنسانية، أو لهم طبيعة مشتركة بين الإنسان والوحش، كما تعود أن يصور بعض الجسورين من الشعراء.
8- لحم البشر ليس هو الطعام الملائم أو الطبيعي للإنسان
هل هناك من ضرورة لأن نتحدث عن الأجسام غير المخصصة لأن تكون طعاماً لأي حيوان، والمقدر فقط أن تدفن في الأرض تكريماً للطبيعة إذ أن خالق هذا العالم لم يعين أي حيوان ما، ليكون طعاماً لمن هو من نفس نوعه، ولو أن البعض يتخذ طعاماً لمن هو من نوع آخر، وفقاً للطبيعة. فإذا أمكنهم حقاً أن يبينوا أن لحم الإنسان قد خصص كطعام للبشر، فإنه في هذه الحالة لا داعي لأن نخفي أنه من الأمور الطبيعية أن يأكل الناس بعضهم البعض، مثل أي شيء آخر مسموح به وفقاً للطبيعة، وليس هناك ما يمنع أولئك الذين يجسرون على قول مثل هذا الكلام، من أن يقيموا الولائم ويمتعوا أنفسهم بأجساد أصدقائهم الأعزاء، إذ أنها تناسبهم خاصة، وأن يستضيفوا أصدقاءهم الأحباء على نفس هذه الولائم. ولكن إذا كان من غير القانون، حتى مجرد الحديث عن هذه الأمور، وإذا كان تناول الإنسان للحم البشر هو أمر شديد الكراهية والشناعة، وأبغض من أي شيء قانوني وغير طبيعى سواء كطعام أو كفعل، وإن ما كان مضاداً للطبيعة لا يمكن أن يتحول إلى غذاء للأطراف أو لأجزاء الجسم التي تحتاجه كغذاء، لأن ما لا يتحول إلى غذاء لا يمكن أن يتحد مع الأجزاء الغير مهيأة لتتغذى إذاً لا يمكن لأجسام الناس أن تتحد مع أجساد من هم من نفس النوع والتي تعتبر غذاء ضد الطبيعة، حتى لو مرت عدة مرات داخل معداتهم، نتيجة سوء حظ شديد المرارة ولكن أزيحت بسبب تأثير قوة التغذية وبعثرت في تلك الأجزاء من العالم التي هي منها أصلاً لتتحد بها لمدة كافية حتى تصبح منها، وبذا تنفصل مرة ثانية بحكمة وقوة الله الذي ثبت طبيعة كل حيوان وأمدها بقوة خاصة بها، وتعود لتتوحد لتناسب كل نوع مع آخر. سواء أحرقوا بفعل النيران، أو تعفنوا بالماء، أو استهلكوا بالوحوش الضارية، أو انفصلوا عن بقية الجسم وتحللوا قبل الأجزاء الأخرى، ثم يتحدون ثانية بعضهم البعض، ويتخذون نفس المكان لتركيب تشكيل نفس الجسم بطريقة كاملة، ولقيامة وحياة ذاك الذي مات أو حتى تحلل كلية. وليس من المناسب أن نسهب في هذا الموضوع، حيث أن الجميع يوافقون في قرارهم تجاهه – على الأقل أولئك الذين ليسوا أنصاف وحوش.
9 – عبث المناقشة بالمقارنة بعجز الإنسان
نظراً لأن هناك الكثير من الأمور ذات أهمية أكبر بالنسبة للموضوع الذي نعالجه فإنى أرجو أن تسمحوا لي عذراً عن الإجابة، حالياً، على أولئك الذين يجدون مهرباً في أعمال الإنسان، حتى في الذين يصنعون هذه الأعمال، الذين لا يمكنهم أن يجددوا أياً من الأجزاء التي تتهشم قطعاً، أو التي تبلى بالوقت، أو حتى تتلف، ثم يحاولون على طريقة صانعي الفخار والنجارين أن يبينوا أن الله لا يريد، وحتى إذا أراد فإنه لا يمكنه أن يقيم جسماً قد مات أو تحلل – دون أن يقدروا أنهم بتفكيرهم هذا يسيئون إلى الله أكبر إساءة، واضعين بذلك على نفس المستوى قدرات من هم مختلفون تماماً، أو بالأحرى طبيعة الذين يستعملونها، ويقارنون عمل الفن بعمل الطبيعة. وإذا أعطينا أي انتباه جاد لمثل هذه المناقشات، فهو أنها لا تستحق النقد، لأنه من الحماقة أن نرد على مثل هذه الاعتراضات السطحية والتافهة. والأكثر احتمالاً، والصحيح بدرجة مطلقة، أن نقول أن ما ليس ممكناً عند الناس فهو مستطاع عند الله. وإذا كان بهذه الحقيقة نفسها كاحتمال، وبالبحث كله الذي شغلنا به، يبين العقل أنه ممكن، فإنه من الواضح تماماً أنه ليس مستحيلاً، كما أنه ليس شيئاً لا يريده الله.
10 – لا يمكن إثبات أن الله لا يريد قيامة
لأن ما لا يتفق مع إرادة الله، فإما لأنه ظلم لا يريده الله، أو لأنه غير مستحق. ومرة ثانية فإن الظلم يخص هذا الذي سيقوم ثانية، أو شخصاً آخر غيره، ولكن من الواضح أن أياً من الكائنات الأخرى الخارجة عنه والتي تعتبر من الأشياء التي لها وجود، لن يضار وكذلك فإن المخلوقات الروحية لا يمكن أن تضار من قيامة البشر، لأنه ليس في قيامة البشر أي عائق يضر بوجود هذه المخلوقات، ولن تتعرض لأية خسارة أو عنف بسبب هذه القيامة وكذلك فإن طبيعة الكائنات غير العاقلة، وغير الحية لن تتعرض لأي أذى، لأنه لن يكون لها وجود بعد القيامة، وبالطبع لا يحدث أذى لما لا وجود له. ولكن حتى إذا افترض أحد وجودها إلى الأبد، فإنها لن تقاسي أي أذى من تجديد الأجسام البشرية، لأنها في الوقت الحاضر، وهي خاضعة لطبيعة البشر واحتياجه لهم، والبشر محتاجون لها، وهي واقعة تحت نير العبودية وجميع أشكال الرق، فهي لا تحمل أي أذى، فكم بالحرى عندما يصبح البشر غير فاسدين، وليست لهم أية احتياجات، وفي غنى عن خدماتها، وعندما تتحرر هي نفسها من الاستعباد، فإنها بالطبع. لن تتحمل أي أذى.
فلو كان لها نعمة الكلام، لما أقامت ضد الخالق شكوى، إذ جعلها – ضداً للعدالة – في طبقة أدنى من البشر لأنها لم تشارك في نفس القيامة. لأن العادل، لا يحدد نهاية متماثلة للمخلوقات ذات الطبائع المختلفة. وعلاوة على ذلك، فليس للمخلوقات التي ليس لها تصور عن العدالة أن تشتكي من عدم العدالة أو الظلم، كما أنه لا يمكن القول بأن هناك ظلماً في قيامة البشر، لأنه يتكون من روح وجسد، وهو لا يقاسي أي أذى سواء للروح أو للجسد . ولا يمكن لأي شخص متمالك لقواه العقلية، أن يؤكد أن روحه تقاسي أذى، لأنه عندما يقول ذلك، فإنه لابد وأن يكون في نفس الوقت ودون قصد، يتأمل الحياة الحالية أيضاً، لأننا الآن ونحن نسكن في جسد تعرض للفساد والمعاناة، ولم يلحق روحه أي أذى، فما أقل ما يمكن أن نتعرض له من أذى حين نعيش في التحام مع جسد خال من الفساد والمعاناة. وكذلك فإن الجسد لن يتحمل أي أذى، إذ أننا الآن لا نتحمل أي أذى بينما يتحد جسد معرض للفساد مع روح غير معرضة لفساد، فإنه من الواضح أنه لن يتحمل أي أذى عندما يتحد جسد غير معرض للفساد مع روح غير معرضه للفساد. كما لا يمكن لأحد أن يقول أنه عمل غير خليق بالرب أن يقيم ويلم شتات جسد ثانياً، بعد أن تحلل إذ لو كان الأردأ، غير مستحق له، أي أن يخلق الجسد المعرض للفساد والمعاناة، فكم هو أجمل أن يكون مستحقاً، عندما يخلق جسداً غير معرض للفساد أو العذاب.
11 – الخلاصة:
على ذلك فلو اعتبرنا أولاً، ما يأتى بطريقة، ثم ما يتلوه،لا يتبين لنا أنه قد أمكن إثبات جميع النقاط التي بحثت. وأصبح واضحاً أن قيامة الأجساد المتحللة هو عمل ممكن للخالق إنجازه، ويريده وهو جدير به، لأنه بهذه الاعتبارات يتبين كذب الرأي المضاد وسخافة الموقف الذي يتخذه غير المؤمنين. لماذا يجب أن أتحدث عن موافقة الواحد مع الأخر أو الارتباط بين الواحد والآخر؟ إذ كان ولابد أن نستعمل كلمة الارتباط، كما لو كانوا منفصلين باختلاف ما هو طبيعي، ولا نقول بالأحرى، أن ما يمكن أن يقدر عليه الله، فهو أيضا يمكن أن يريده، وأن ما يمكن أن يريده الله، فهو من المؤكد قادر على فعله، وهذا يتلاءم مع كرامة الله الذي يريد. إن الحديث عما يتعلق بالحق شيء، والحديث عن الدفاع عنه شيء آخر. وقد تبين لنا هذا بطريقة كافية من الملاحظات التي أبديناها سابقاً، كذلك مما يتعلق بالاختلافات بينهما، ومتى ومع من تكون أكثر فائدة. لكن ربما لا يوجد هناك سبب لهذا، بالنظر إلى اليقين العام، وبالربط بين ما سبق ذكره وما يتبقى، فيجب ألا نبدأ بداية جديدة من نفس هذه النقاط، ومن تلك المتصلة بها. للدرب الواحد من المناقشة، من الطبيعي أن يعمل على أن يأخذ المركز الأسبق، على الآخر أن يتابع الأول ويوضح الطريق، وأن يزيح كل ما يعوق أو يعادي.
إن الحديث الخاص بالحق لكونه ضروريا لجميع البشر، ليكون لديهم اليقين والخلاص، يأتي في المقام الأول، في الطبيعة، أو الترتيب، أو الحاجة. في الطبيعة لأنه يمدنا بمعرفة الموضوع، وفي الترتيب، لكونه في هذه الأشياء وبجانب هذه الأشياء التي تخبرنا به، وفي الحاجة، لكونه ضمان اليقين والخلاص لأولئك الذين على دراية به.
وأما الحديث دفاعاً عن الحق، فيأتى في المرتبة الثانية، وهو أقل في الطبيعة والقدرة، لأن تفنيد الكذب أقل أهمية من بناء الحق، وهو يستخدم قدرته ضد هؤلاء الذين لهم آراء كاذبة، الآراء الكاذبة هي نمو لاحق لبذرة أخرى ومن فساد. ولكن على الرغم من ذلك، فإنه غالباً. ما يوضع في المقام الأول، وفي بعض الأحيان نجد أن هذا أكثر فائدة لأنه يزيح ويبدد مسبقاً عدم الإيمان الذي يزعج بعض العقول. وكذلك ما ظهر حديثاً من الشك والآراء الفاسدة. ولكن، على كل حال، فإن كلاً منهما يشير إلى نفس النهاية، لأن تفنيد الكذب، وتأسيس الحق، كلاهما له نفس الحق لفرضهما، ليس، بالتأكيد، لأنهما شيء واحد والشيء نفسه، بل لأن أحدهم كما ذكرت، ضرورى لكل الذين يؤمنون ولأولئك الذين يهتمون بالحق وخلاص نفوسهم، لكن الآخر أثبت أنه أكثر فائدة في بعض المناسبات ولبعض الأشخاص وعند التعامل مع البعض وكل هذا لتلخيص جميع ما ذكر. ويجب علينا الآن أن ننتقل إلى ما سبق اقتراحه، وأن نبين الحق في التعليم الخاص بالقيامة، من السبب نفسه، الذي بحسبه، ومن أجله، خلق الإنسان الأول وذريته، على الرغم من أنهما لم يأتيا إلى الوجود بنفس الطريقة، ومن الطبيعة المشتركة لكل الرجال كرجال، وعلاوة على ذلك، من حكم الله صانعهم عليهم، وفقاً للوقت الذي عاشه كل منهم، ووفقاً للنواميس التي نظر بموجبها كل منهم تصرفاته، حكم لا شك إنه سيكون عادلاً.
12 – مناقشة “القيامة” عن طريق التأمل في خلق الإنسان
إن المناقشة عن السبب، ستتضح، إذا تأملنا فيما إذا كان الإنسان، قد صنع بغير قصد أو عبثاً، أم لسبب معين، وإذا كان لسبب معين فهل هو ببساطة كي يعيش ويستمر في الحالة الطبيعية التي خلق عليها أو لحاجة أخرى، وإذا كان لحاجة فهل هذه لحاجة الله الخالق نفسه أو لشخص آخر من الكائنات التي تنتمى إليها والتي اعتبرها تستحق عناية أكبر.
والآن لو تأملنا هذا بطريقة عامة، نجد أن الإنسان العاقل الذي يتحرك لعمل أي شيء بتمييز منطقي، لا يفعل شيئاً عبثاً وهو يؤديه عن قصد، ولكن إما لفائدته أو لفائدة شخص آخر يهتم به أو بسبب العمل نفسه، تحركه في ذلك ميول طبيعية وحب لإنتاجه. فمثلاً (لنضرب مثلاً حتى نوضح المعنى) يبني الرجل منزلاً لاستعماله الخاص، ولكن للماشية والجمال وباقي الحيوانات التي يحتاج إليها فإنه يبني لها المأوى المناسب لكل منها، وليس لاستعماله الخاص، كما يبدو، ولكن لو أننا تأملنا في غاية ما يقصده وفي الهدف المباشر فإنه يقوم بذلك لاهتمامه بمن يعني به، كما أن لديه أطفال أيضاً، ليس لاستعماله الشخصي أو بسبب أي شيء خاص به، ولكن حتى يمكن لأولئك الذين ولدوا منه أن يبنوا ويستمروا لأطول مدة ممكنه، هكذا يتعاقب الأولاد والأحفاد يرتاح نفسياً بخصوص انتهاء حياته، أملاً بهذه الطريقة أن يخلد البشرية ذلك هو تفكير الإنسان. ولكن الله لا يمكن أن يكون قد عمل الإنسان عبثاً كما أنه لم يخلقه لحاجته لأن الله ليس محتاجاً لأي شيء. ولكن لأن الله حكيم، وعمل الحكمة لا يمكن أن يكون عبثاً بالنسبة للكائن الذي لا يحتاج شيئاً على الإطلاق، فإنه لا يمكن لأي شيء مما قام هو بصنعه أن يستفيد منه هو، كما إنه أيضاً لم يصنع الإنسان لصالح أي من الأعمال الأخرى التي صنعها.
لأنه لم يخلق من وهب العقل والحكمة ليستفيد منه آخر سواء أكان أقل أو أعلى منه، لكن بغرض حياة واستمرارية الكائن نفسه الذي خلق هكذا. لأن الفكر لا يمكن أن يكتشف أية فائدة يمكن أن تعتبر سبباً لخلق الإنسان، حيث أن الجماد ليس بحاجة لأي شيء وليس بحاجة لأي مساعدة من الإنسان لبقائه، كما أن الكائنات التي لا تعمل هي وفقاً لأحكام الطبيعة في حاله خضوع، وتؤدي خدماتها للإنسان كل كما هو معين له، ولكنها بدورها ليست معينة لتستفيد من الإنسان، لأنه لم يحدث كما أنه ليس صواباً أن نحط من يتحكم وله القيادة ليستفيد منه من هو أقل درجة، أو أن نخضع العاقل لغير العاقل وهو ما يتنافي مع القواعد. وعلى ذلك فإذا كان الإنسان لم يخلق بدون سبب أو عبثاً (لأنه لا يوجد عمل يؤديه الله عبثاً على الأقل بالنسبة لتأملنا لمقاصد الخالق)، ولا لكي يستفيد منه الله بنفسه ولا ليستفيد منه أي عمل من الأعمال التي صدرت عن الله، لذا فإنه من الواضح تماماً إنه بالرغم من النظرة الأولى والشاملة للموضوع، فإن الله صنع الإنسان لله نفسه، وطبقاً لطبيعته وحكمته التي هي واضحة على طول الخليقة، ومع ذلك، فإنه وفقاً للنظرة، التي تقترب أكثر، من الكائنات المخلوقة، فإن الله صنعه لحياة تلك الأشياء التي خلقت: التي لم تكن لتشتعل لفترة قصيرة ثم تخمد.لأنه بالنسبة للزواحف، على ما اعتقد، والطيور والأسماك أو بشكل أعم جميع الكائنات غير العاقلة، فإن الله قد عين لهؤلاء حياتهم تلك، ولكن أولئك الذين خلقوا على صورة الله نفسه، منحوا الفهم وبوركوا. بفكر عاقل، فإن الله قد عين لهم البقاء الأبدي، وذلك حتى إنهم عند تذكرهم لخالقهم، وقدرته ومهارته ويطيعون القانون والعدالة، فقد يمضون فترة حياتهم بلا معاناة، متملكين لتلك الصفات التي تحملوا بها بشجاعة حياتهم السابقة، رغم أنهم عاشوا في أجساد دنيوية قابلة للفساد. لأنه إذا خلق أي شيء إكراماً لشيء آخر فإنه عندما يتوقف عن الوجود ذاك الذي خلق الشيء من أجله فإن الشيء الذي خلق سيتوقف عن الوجود هو الآخر بالتبعية، ولن يستمر في الوجود عبثاً، إذ أنه، ضمن أعمال الله، فإن الشيء الذي لا فائدة له ليس له مكان، لكن هناك أمكنة لما خلق ليبقى لتكون له حياة مناسبة له طبيعياً، ويعرف فقط لارتباطه بالوجود نفسه، ولا يمكن أن يعترف بأي سبب يلاشي (يمحو) وجوده تماماً.
ولكن حيث أنه يتبين أن هذا السبب يقع في وجود مستمر، فإن الكائن الذي خلق هكذا يجب الحفاظ عليه أبد الدهر، يعمل ويباشر ما يتناسب مع طبيعته، يشارك فيهما (العمل والمباشرة) كل من الجزئين اللذان يتكون منهما هذا الكائن. وبذا يمكن للروح أن توجد وتبقى دون تغيير في الطبيعة التي صنعت فيها وتؤدي وظائفها الملائمة (مثل التحكم في اندفاعات الجسد والحكم على وتحديد ما قد يبدو من وقت لآخر، بالمعايير والمقايس الصائبة)، كما يحرك الجسد وفقاً لطبيعته في اتجاه أهدافه الصحيحة ويتحمل التغيرات التي حددت له، وكذا، ضمن باقي الأشياء، (الخاصة بالسن، أو الشكل أو المقاس) القيامة. لان القيامة نوع من التغيير، وآخرها وهو تغيير للأحسن لذلك الذي يتبقى موجوداً في ذلك الوقت.
13 – استمرار المناقشة
واثقين من هذه الأشياء، ليس أقل من وثوقنا من الأشياء التي أتت لتمر، وتنعكس على طبائعنا، فإننا راضون بحياة مقترنة بالحاجة وبالفساد، كما تتناسب مع حالتنا الحالية في البقاء، ونرجو بثبات استمرار البقاء في عدم الفساد، وهذا لا نقول به دون أساس، من اختراعات البشر، مغذين أنفسنا بآمال زائفة ولكن إيماننا يستند إلى أكبر ضمان منزه عن الخطأ، غرض الرب الذي شكلنا، الذي بموجبه جعل الإنسان بروح خالدة وجسد، وزوده بعقل وناموس طبيعي للحفاظ وتوفير السلامة لما وهبه الله بما يتناسب مع وجود ذكي وحياة عاقلة، لأننا نعلم جيداً أن الله ما كان ليشكل كائنا كهذا، ويزوده بكل ما يؤهله للدوام، ما لم يكن قد قصد أن ما خلق إنما خلق ليستمر إلى الأبد.
وعلى ذلك فإن صانع هذا العالم قد خلق الإنسان بقصد أن يشارك في هذه الحياة العقلية، ولأنه أصبح شاهداً على عظمة الله وحكمته الظاهرتين في جميع الأشياء، بأنه يمكنه أن يستمر في تأمل هذه، ثم وفقاً لغرض الصانع وللطبيعة التي تلقاها، فإن الغرض من خلقه هو وعد لاستمراره إلى الأبد. هذا الاستمرار هو وعد بالقيامة والتي بدونها لا يمكن أن يستمر. ولذا فإنه مما ذكر، فإنه واضح تماماً أن القيامة ثابتة ببساطة من الغرض من خلق الإنسان، وغرض الله الذي صنعه.
وبهذا التأصيل لطبيعة الغرض الذي من أجله خلق الإنسان في هذا العالم، فإن الأمر التالي الذي يتلوه مباشرة، فهو بالطبع أو وفقاً للترتيب المقترح، في بحثنا، فإن سبب خلق البشر يتلوه طبيعة هؤلاء الناس الذين خلقوا هكذا، وطبيعة أولئك الذين خلقوا، بحكم صانعهم العادل عليهم، وكل هذه، بالغاية من وجودهم. وإذا بحثنا النقطة التي جاءت أولاً من حيث الترتيب، يجب علينا أن ننتقل الآن لنبحث في طبيعة الإنسان.
14 – إن القيامة لا تستند فقط على حقيقة الدينونة المستقبلية
إن البرهان على العديد من التعاليم التي يتكون منها الحق، أو لأي موضوع مقترح للبحث، إذا كان له أن يحصل على ثقة ثابتة فيما يقوله، يجب أن نبدأ، ليس من شيء خارجاً عنه أو مما استحسنه بعض الأشخاص أو اعتقدوا به، ولكن من المعنى العام والطبيعي للأمر، أو من العلاقة بين الحقائق الثانوية مع الحقائق الأولية. لأن السؤال يتعلق إما بالمعتقدات الأولية، وبعد ذلك كل ما هو ضروري إنما هو تذكرة، حتى يحرك الفكر الطبيعي، أو يتعلق بأشياء تتبع الأول بطريقة طبيعية ووفقاً لتسلسلها الطبيعي.
وفي هذه الأشياء، يجب أن نتوخى النظام، مبينين بصرامة ما يتبع من الحقائق الأولية، أو من تلك التي توضع أولاً، حتى لا نكون غير متنبهين للحق، أو من تيقننا تجاهه، وحتى لا نخلط بين الأمور التي رتبتها الطبيعة وميزت كل أمر منها عن الآخر أو أن نكسر الترتيب الطبيعي. لذا فإنني أرى أنه يليق بمن يرغب في تناول الموضوع بطريقة عادلة، الذي يرى أن يكون نابهاً عما إذا كانت هناك قيامة أم لا، أن يتأمل بانتباه قوة المناقشات التي تشارك في إثبات ذلك، وأي مكانة يحتلها كل واحد منها – أيها أولاً وأيها ثانياً وأيها ثالثاً وأيها أخيراً. وعند ترتيبها، يجب أن يضع أولاً السبب في خلق البشر – بالذات قصد الله من صنع الإنسان، ثم يربط ذلك، كما هو ملائم، بطبيعة البشر الذين خلقوا هكذا، ليس على أنه الثاني في الترتيب، ولكن لأنه لا يمكننا أن نوقع حكمنا على كليهما في نفس الوقت، رغم أن بينهما أقوى ارتباط طبيعي، وهما قوتان متكافئتان بالنسبة للموضوع الذي أمامنا.
ولكن في حين أن من بين هذه البراهين، والتي هي براهين أولية، ولكونها مستمدة من عمل الخلق، فإن القيامة ثابتة بشكل جلي، إلا أنه لا يمكننا أن نكتسب اقتناعاً بها من المناقشات التي تؤخذ عن العناية – أعني من الثواب أو العقاب المستحق لكل شخص وفقاً لدينونة عادلة ومن غاية الوجود الإنساني.
لأن الكثيرين، عندما يناقشون موضوع القيامة، قد أسندوا السبب كله إلى الجزء الثالث فقط من المناقشة، معتبرين أن سبب القيامة هو الدينونة. ولكن خطأ ذلك يمكن توضحيه تماماً، من حقيقة أنه مع كون جميع البشر الذين يموتون يقومون ثانية، لكن ليس جميع من يقومون يدانون، لأنه لو كان الغرض من القيامة هو فقط الدينونة العادلة، فإنه يتبع ذلك بالطبع أن الذين لم يفعلوا شراً أو خيراً – وبالذات الأطفال الصغار جداً – فإنهم لا يقومون ثانياً، ولكن بالنظر إلى أن الجميع يقومون، فإن أولئك الذين ماتوا في طفولتهم، مثلهم مثل الآخرين، يبررون ما خلصنا إليه من أن القيامة لا تتم لغرض الدينونة كسبب رئيسي، ولكن كتابع لقصد الله في خلقه البشر، وطبيعة الكائنات التي خلقت هكذا.
15 – مناقشة القيامة من زاوية طبيعة البشر
وعلى الرغم من أن السبب المكتشف من أن خلق البشر هو بنفسه أمر كاف لإثبات أن القيامة تتبع بتسلسل طبيعي تحلل الأجساد، لكنه ربما يكون من الصواب ألا نتردد في تقديم أي من الحوادث المقترحة، بطريقة مقبولة مع ما سبق ذكره، لنوضح لأولئك الذين لم يتمكنوا من إدراكها بأنفسهم للمناقشات عن أي من الحقائق المنبثقة من الحقائق الأولية، أولاً وقبل كل شيء، طبيعة البشر المخلوقين، وهو ما يقودنا إلى نفس الفكرة ولها نفس القوة والحجة على القيامة.
لأنه إذا كانت الطبيعة الكلية للبشر هي عموماً مكونة من روح غير مائتة وجسم جعل مناسباً لها عند الخلق، وإذا كان الله لم يحدد لأي من طبيعة الروح وحدها، ولا لطبيعة الجسد بمفرده، خلقاً كهذا أو حياة كهذه وشوطاً كاملاً من الوجود كهذا، ولكن للبشر المكونين من الاثنين، حتى أنه عندما يمران خلال وجودهما الحالي، يصلان إلى نهاية مشتركة واحدة بنفس العناصر التي كون منها عند ميلادهما وخلال الحياة، فإنه لا مناص أن يتبع ذلك، حيث أن كائناً حياً واحداً تكون من الاثنين، يمارس ممارسات الروح وممارسات الجسد، يعمل ويؤدي ما تتطلبه أحكام الحواس والعقل، فلابد لمجموعة هذه الأشياء بأكملها أن تعاد إلى نهاية واحدة حتى يمكن أن تلاقي في توافق واحد نفس التجربة المشتركة، وذلك ككل، وبواسطة الكل وبالتحديد: خلق الإنسان، طبيعة الإنسان ومعاناته، مشواره في الوجود والنهاية المناسبة لطبيعته.
ولكن إذا كان هناك بعض التوافق والتجانس في التجربة الخاصة بالكائن ككل، سواء أكان بين الأشياء التي تنبع من الروح أو تلك التي يقوم بها الجسد، فإن نهاية كل هذا يجب أن تكون واحدة. والنهاية ستكون حتماً واحدة. إذا كان الكائن الذي ينتهي إلى هذه النهاية يبقى بنفس التركيب، وأن الكائن سيكون ذات الشيء تماماً، إذا كانت جميع الأشياء التي يتكون منها هذا الكائن هي نفسها. وسيكونون نفس الشيء في اتحادهم الخاص بهم، إذا اتحدت مرة ثانية الأجزاء التي تحللت لتعيد تركيب هذا الكائن.
إن تكوين نفس الأشخاص هو بالضرورة ما يثبت أن القيامة سوف تتبع الأجساد الميتة والمتحللة، لأنه بدون هذا فلا يمكن للأجزاء نفسها أن تتحد وفقاً لطبيعة الواحد مع الآخر، كما لا يمكن بطبيعة نفس الأشخاص أن يعاد تركيبها. وإذا كان كلا الفهم والعقل قد أعطيا للإنسان حتى يفرق بين الأشياء التي يمكن إدراكها بالفهم ليس بوجودها فقط، ولكن بإحسان وحكمة وعدل الله العاطى أيضاً، فإنه يتبع ذلك بالضرورة، إنه لما كانت هذه الأشياء تستمر بالغرض الذي من أجله أعطي الحكم الصائب، فإن الحكم الذي أعطي لهذه الأشياء يجب أن يستمر أيضاً. لكنه من المستحيل لهذا أن يستمر ما لم تستمر الطبيعة التي تلقته والتي التحم بها. ولكن الذي تلقى كلا الفهم والعقل هو الإنسان وليس الروح وحدها. وعلى ذلك، فإن الإنسان الذي يتكون من الجزئين يجب أن يستمر إلى الأبد. ولكن من المحال عليه أن يستمر ما لم يقم مرة ثانية. لأنه إذا لم تكن هناك قيامة، فإن طبيعة الإنسان كإنسان لن تستمر. وإذا لم تستمر طبيعة الإنسان، فعبثاً كانت مواءمة الروح مع احتياجات الجسد واختياراته، عبثاً كان تقييد الجسد حتى لا يتمكن من الحصول على ما يشتهيه، مطيعاً لأحكام الروح ومقودا بها كما لو كان ملجماً.
عبثاً كان الفهم، عبثاً كانت الحكمة، ومراعاة الاستقامة أو حتى مزاولة أية فضيلة وفرض وتطبيق القوانين -مما يمكن أن يقال جميعه في كلمة: كل ما هو نبيل في الإنسان أو لصالح الإنسان أو بالأحرى ذات خلق الإنسان وطبيعة الإنسان. ولكن إذا كان العبث مستبعداً تماماً من جميع أعمال الله. ومن جميع العطايا التي وهبها لنا، فإن النتيجة حتمية، وهي أنه مع البقاء اللانهائي للروح، فإن هناك استمراراً أبدياً للجسد وفقاً لطبيعته الذاتية.
16 – تشبيه الموت بالنوم والمناقشة الناجمة عن ذلك بالنسبة للقيامة
ولن ندع أحداً يظن أنه أمر غريب أننا عندما نقول كلمة حياة فإننا نعني أنها استمرارية للوجود يعترضها الموت أو الفساد، ولكن عليه أن يقدر أن هذه الكلمة ليس لها معنى واحد فقط، كما أنه ليس هناك مقياس واحد للاستمرارية، حيث أن طبيعة الأشياء التي لها استمرارية ليس واحدة.
إنه لو كان كل واحد من الأشياء التي تستمر، تستمد استمراريتها من طبيعتها الخاصة بها. فإننا لن نجد استمرارية، مثال استمراريتنا في أي حالة من تلك الكائنات الخالدة والتي لا تفسد، لأن طبيعة الكائنات الأعلى منزلة لا تكون في نفس مستوى الأقل منزلة، كما أنه لا يجوز بالنسبة للإنسان أن ينظر لاستمرارية ثابتة لا تتغير، كما بالنسبة للكائنات التي خلقت منذ البداية، خالدة وتستمر في البقاء بلا نهاية وذلك بالإرادة الخالصة لله الخالق. إن الإنسان فيما يتعلق بالروح كان لديه منذ نشأته الأولى استمرارية ثابتة، ولكن فيما يتعلق بالجسد فإنه يكتسب الخلود عن طريق التغيير.
هذا هو ما نعنيه بتعليم القيامة، وعند تأمل هذا فإننا ننتظر تحلل الجسم كنتيجة لحياة الاحتياج والفساد، ثم بعد ذلك نأمل في استمرارية مع الخلود دون أن نضع أياً من موتانا في نفس مستوى موت الحيوانات الغير عاقلة أو نضع استمرارية الإنسان مع استمرارية الخالدين، إلا إذا كنا، دون قصد، نضع بهذه الطريقة الطبيعة الإنسانية والحياة في نفس المستوى مع أشياء ليس من الصواب مقارنة بعضها بالبعض. ولذا فإنه إذا بدا أن هناك بعض عدم المساواة (عدم الانتظام) فيما يختص ببقاء الإنسان فإن ذلك لا يجب أن يثير عدم الرضا، ولا يسبب انفصال الروح عن أعضاء الجسم وتحلل أجزائه الذي يعترض استمرار الحياة، وأنه يجب علينا أن نفقد الأمل في القيامة. إذ أنه بالرغم من استرخاء الحواس والقوة البدنية الذي يحدث بطريقة طبيعية أثناء النوم، وكأنه يعترض الحياة الحسية، عندما ينام الإنسان على فترات منتظمة من الوقت، ثم يقوم ويعود ثانية إلى الحياة، لكننا لا نرفض أن نسميها حياة، ولهذا السبب فإنني أعتقد أن البعض يسمون النوم “شقيق الموت”، ليس على أنهم استمدوا أصولهم من نفس جدودهم وآبائهم، ولكن لأن أولئك الذين يموتون مثل الذين ينامون يتعرضون لحالات متشابهة، على الأقل بالنسبة إلى السكون وغياب جميع الحواس عن الحاضر والماضى أو بالأحرى عن الوجود نفسه وحياتهم ذاتها.
لذا فإننا إذا كنا لا نرفض أن ندعو “حياة ” حياة الإنسان المليئة بمثل عدم الانتظام هذا، من الميلاد إلى التحلل، والتي تعترضها كل هذه الأشياء التي ذكرناها سابقاً، فيجب علينا ألا نفقد الأمل في الحياة التي تلي التحلل، تلك التي تشمل القيامة، رغم أن انفصال الروح عن الجسد يعترضها في وقت ما.
17 – إن سلسلة التغيرات التي يمكن أن نلاحظها الآن في البشر تجعل القيامة ممكنة
لما كانت طبيعة البشر التي حدد لها عدم تساو (عدم انتظام) منذ البداية، ووفقاً لغرض خالقها، لها حياة واستمرارية غير منتظمة، متقطعة في وقت ما بالنوم وفي وقت آخر بالموت وبالتغيرات التي تحدث لكل فترة من الحياة، في حين أن أولئك الذين يتبعون الأول لا يرون بوضوح سلفاً.
هل يمكن لأحد أن يصدق، ما لم يتعلم بالتجربة، أن في البذرة اللينة المتشابهة في جميع أجزائها نوع مثل هذه الأنواع والأعداد من القوى الكبيرة أو من المقادير، التي تقوم بهذه الطريقة وتتقوى، أعني من عظام وأعصاب وغضاريف وأيضاً عضلات ولحم وأمعاء وباقي أجزاء الجسم؟ لأنه ليس في البذرة المنداه يوجد بعد أي شيء من هذه الأنواع بحيث يرى، كما أنه لا تبدو هذه الأشياء عند الأطفال مما يختص بها اليافعون ولا في وقت النضوج ما يختص به من فاتوا ربيعهم، ولا في هؤلاء ما يتعلق بمن بلغوا الكبر، ولكن رغم أن بعض الأشياء التي ذكرتها لا تبين أو تبين بطريقة ضعيفة، التسلسل الطبيعي والتغييرات التي تحدث لطبيعة البشر، إلا أن جميع من لم يفقدوا البصيره في حكمهم على هذه الأمور عن طريق الرذيلة أو البلادة، يعلمون أنه يجب أولاً أن توضع البذرة وأنه بعد الترتيب الكامل بالنسبة لكل عضو وجزء ثم يأتى النسل إلى الضوء، هناك يبدأ النمو الخاص بالفترة الأولى من الحياة. والنضوج الذي يتعهد النمو، ثم بعد النضوج يبدأ التراخي في القوى الجسدية حتى كبر السن، ثم عندما يبلى الجسم يتحلل.
وعلى ذلك، فإنه بالنسبة لهذا الموضوع، ورغم أن البذرة لم ينقش على سطحها لا تكوين ولا حياة الإنسان، كما أن الحياة لم تنقش التحلل إلى العناصر الأولية، فإن تتابع الأحداث الطبيعية تجعل من الأشياء التي لا يمكن تصديقها من الظواهر نفسها، تجعل منها أموراً قابلة للتصديق، وأكثر من ذلك بفعل التأمل، عند متابعة الحق من التسلسل الطبيعي فإنه يعطي أساساً للإيمان بالقيامة، إذ أنه أكثر تسلماً وأقوى من اختبار إثبات الحق.
18 – الدينونة يجب أن تشير إلى كل من الروح والجسد، لذا ستكون هناك قيامة
إن المناقشات التي عرضتها لتوي للاختبار، لإثبات حقيقة القيامة، هي جميعها من نفس النوع، إذ أنها جميعاً تبدأ من نفس النقطة، لأن نقطة بدايتها هي أصل الإنسان الأول عن طريق الخلق: ولكن بينما يستمد بعضها قوته من قوة البداية نفسها والتي منها يأخذون تقدمهم، فإن البعض الآخر تبعاً لطبيعة وحياة الإنسان، يكتسبون مصداقيتهم من عناية الله بنا، بالسبب الذي من أجله وبسببه جاء البشر إلى الوجود، وبكونه يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة البشر، فإنه يستمد قوته من الخلق ولكن المناقشة من زاوية العدالة، التي تصور الله وكأنه يحكم على الناس وفقاً للطريقة التي عاشوا بها خيراً أو شراً، فإنها تستمد قوتها من غاية وجودهم: لقد جاءوا إلى الوجود على الأساس السابق ولكن حالتهم تعتمد بالأكثر على عناية الله.
والآن بعد أن أوضحت، على قدر طاقتي، الأمور التي يجب أن تأتي أولاً، يتبقى أن نبرهن على اقتراحنا عن تلك التي تأتي بعدها – أعني عن الثواب والعقاب الذي ينتظر كل فرد وفقاً للدينونة العادلة، وبالسبب النهائي للوجود البشري، ومن هذه فإنني أضع في المقدمة تلك التي تأخذ القيادة بالطبيعة، وأسأل أولاً في الحجة المتعلقة بالدينونة:
مفترضاً فقط شيئاً واحداً، من جهة المبدأ الذي يتعلق بالأمور التي أمامنا، وبالنسبة للترتيب، فإنه يتحتم على أولئك الذين يعترفون بأن الله هو صانع هذا العالم أن يعزوا إلى حكمة الله وعدله الحفاظ والعناية بكل ما خلق، إذا أرادوا التمسك بمبادئهم، ولكن إذا كان كل من هذه الأشياء يتعلق بالإنسان بالطبيعة، وأنه يحتاج إلى طعام لحياته، ويقوم بالإنجاب لاستمرارية النوع، ويحتاج إلى حكم حتى يكون الطعام والإنجاب وفقاً لقانون، فإنه من الطبيعي أن يتبع ذلك، أنه نظراً لأن الطعام والإنجاب يسيران إلى بعضهما معاً، فإن الحكم يجب أن يشير إليهما أيضاً (بعبارة “بعضهما معاً” فإنني أعني الإنسان المكون من روح وجسد) وأن مثل هذا الإنسان يصبح مسئولاً عن جميع أعماله، ويتلقى عنها إما الثواب أو العقاب.
والآن إذا كانت الدينونة العادلة تحكم على كليهما معاً بجزائهما عن الأعمال التي اقترفت، وإذا لم يكن من العدل أن تتلقى الروح وحدها أجر ما اقترفته وهي على اتحاد مع الجسد (لأن هذا وحده لا يمت إلى الأخطاء التي اقترفت والتي تتعلق بلذة أو طعام أو تهذيب للجسد)، أو أنه يجب أن يتلقاها الجسد وحده (لأن هذا بنفسه غير قادر على تمييز القانون العادل)، ولكن الإنسان، المكون منهما، هو المعرض للدينونة عن كل عمل اقترفه، وإذا كان الفكر لا يجد أن هذا يحدث لا في هذه الحياة (لأن الجزاء وفقاً للعمل لا يحدث في الحياة الحالية، إذ أن العديد ممن ينكرون وجود الله ومن الأشخاص الذين يقترفون كل شر وخبث يعيشون حتى النهاية، دون أن يعتريهم أي أمر رديء، في حين أنه بالعكس من ذلك فإن أولئك الذين عاشوا بجلاء حياة مثالية بالنسبة إلى كل فضيلة، يعيشون في ألم، في هوان، في وشاية، في إساءة وألم من جميع الأنواع) أو بعد الموت. (لأنهما لا يبقيان معاً بعد، الروح وقد انفصل عن الجسد والجسم نفسه قد تحلل ثانية إلى المواد التي ركب منها، ولا يحتفظ بعد بأي من تركيبه أو تشكيله السابق، وبدرجة أقوى كثيراً فإنه لن يتذكر أفعاله).
فإن نتيجة ذلك واضحة جداً لكل فرد، أعني، أنه في لغة الرسول “لأن هذا الفاسد، لابد أن يلبس عدم فساد…، حتى أن الذين ماتوا، عند إعادتهم للحياة بالقيامة، والأجزاء التي كانت قد اقترفت وتحللت تماماً، قد اتحدت مرة ثانية، فإن كل واحد منها، يمكنه وفقاً للعدالة، أن يتلقى ما فعله كجسم، سواء أكان خيراً أم شراً.
19 – وضع الإنسان يكون أقل ملاءمة من الحيوان إذا لم تكن هناك قيامة
لذا، فإنه للإجابة على أولئك الذين يعترفون بعناية إلهية، ويقرون نفس المبادئ مثلنا، ولكنهم بطريقة ما يبتعدون عن افتراضاتهم، فإنه يمكن للمرء أن يستعمل بعض الأفكار مثل تلك التي ذكرت، والكثير غيرها لو أنه كان مستعداً لتقوية ما قيل، فقط بإيجاز وبطريقة سريعة.
ولكن عند التعامل مع أولئك الذين يختلفون معنا فيما يتعلق بالحقائق الأولية، فربما يكون من الأحسن أن نفرض مبدأ آخر سابقاً على هذه، منضماً إليهم في الشك في الأمور التي تتعلق بآرائهم، ونفحص الأمر معهم بهذه الطريقة، عما إذا كانت حياة البشر ونمط وجودهم بالكامل، قد أهمل وأن نوعاً من الظلام الدامس قد سكب على الأرض، مخفياً في جهل وسكون كلا من الناس وأعمالهم، أو أنه أكثر أماناً أن نكون من الرأي القائل بأن الله الخالق يشرف على الأشياء التي صنعها هو بنفسه، ملاحظاً كل الأشياء الموجودة مهما كانت، أو التي تأتى إلى الوجود، الرب الذي يحكم على كل من الأعمال والمقاصد.
لأنه إذا لم تكن هناك أحكام أياً كانت تصدر على أفعال البشر، فلن يكون هناك فضل للبشر عن الكائنات غير العاقلة، ولكن بالأصح كانت تسير بطريقة أسوأ، بقدر ما يمكنهم إبقاء شهواتهم مكبوحة ويشغلون أنفسهم بالتقوى، والبر والفضائل الأخرى.
وتكون الحياة المشابهة لأسلوب الوحوش هي الأفضل، الفضيلة تكون عبثاً، التهديد بالدينونة موضوع مزاح واسع، الانهماك في كل نوع من أنواع البهجة هو أكبر خير، والحل المشترك لكل هذه وقانونهم الواحد هو مبدأهم، عزيز جداً على المتطرف والفاجر “دعنا نأكل ونشرب لأننا غداً نموت”. لأن نهاية مثل هذه الحياة لن تكون مبهجة، كما يعتقد البعض ولكن مجرد جمود. ولكن إذا كان الله صانع البشر يبدي أي اهتمام نحو أعماله وهو أن التمييز يوجد في مكان ما بين أولئك الذين عاشوا عيشة حسنة والذين عاشوا عيشة سيئة، الذين ساروا في حياة الفضيلة أو الرذيلة، فلابد أن نكون في الحياة الحالية، بينما البشر لازالوا أحياء أو بعد الموت عندما يكون البشر في حالة انفصال وتحلل.
ولكن بالنسبة إلى أي من هذه الافتراضات لا نرى حدوث دينونة عادلة، لأنه لا يحدث لأي من الصالح في الحياة الحالية أن يحصل على جزاء الفضيلة، ولا الشرير ينال عقاب الرذيلة. ولن أتجاوز هذه الحقيقة، وهي أنه طالما أننا نحتفظ بطبيعتنا الحالية، فإن الطبيعة الأخلاقية لا يمكنها أن تتحمل عقاباً يتساوى مع الأخطاء كثيرة العدد أو شديدة الخطورة.
لأن السارق أو الحاكم أو الطاغية الذي أرسل بدون وجه حق، ربوات وربوات إلى موت لا يمكنه بموت واحد أن يرجع هذه الأفعال، كما أن الرجل الذي لا يعتقد اعتقاداً صادقاً بالله، بل يعيش في انتهاك وكفر، يحتقر الأمور الإلهية، يكسر القوانين، ويقترف الإثم مع الأولاد والنساء على السواء، يقوض المدن دون وجه حق، يحرق البيوت مع ساكنيها ويدمر بلداً وفي نفس الوقت يفني سكان المدن، كيف يمكن لجسد مصيره الموت أن يتحمل عقاباً يتناسب مع هذه الجرائم، حيث أن الموت يمنع العقاب المستحق، كما أن طبيعة من هم إلى موت لا تكفي لأي واحد من هذه الأفعال؟ ولذا، فقد ثبت أنه لا يوجد حكم يتناسب مع أعمال الإنسان لا في هذه الحياة الحالية ولا بعد الموت.
20 – يجب أن يكون الإنسان مكوناً من جسد وروح حتى يكون الحكم الذي يوقع عليه عادلاً
فإنه أما أن يكون الموت هو الخمود الكامل للحياة، بأن تتحلل الروح وتفسد مع الجسد أو أن تبقى الروح بنفسها، غير قادرة على التحلل والتشتت والفساد، في حين يفسد الجسد ويتحلل، غير محتفظ بأي ذكرى للأفعال السابقة أو بأي إحساس لما اختبره عند ارتباطه بالروح.
فإذا كانت حياة البشر تخمد نهائياً، فإنه من الواضح أنه لن يكون هناك اهتمام للبشر غير العائشين، لا دينونة لأولئك الذين عاشوا في فضيلة أو في رذيلة، ولكن هنا سوف يقتحم علينا ثانياً كل ما يتعلق بحياة بلا قانون وحشد السخافات الذي يتبع ذلك وهذا هو قمة الإلحاد الذي بلا قانون.
ولكن إذا كان الجسم سيفسد ويتغير كل جزء متحلل إلى العنصر المشابه له، على أن تبقى الروح نفسها خالدة فإنه ولا حتى على هذا الفرض ستجرى دينونة للروح، إذ يكون هناك عدم عدالة: لكنه ليس من الصواب أن نتوقع أي دينونة ممكن أن تصدر عن الله أو من الله وهي تفتقر إلى العدل.
ومع ذلك فالحكم لن يكون عادلاً، إذ لم يكن الكائن الذي مارس الصلاح أو لم يلتزم بالقانون، محفوظاً في الوجود!! لأن الذي مارس كل واحدة من هذه الأفعال في الحياة والتي يدان عليها، هو الإنسان، وليست الروح بمفردها.
ولتلخيص كل هذا في كلمة، فإن هذه الفكرة لا تنطوي بأية حال من الأحوال على العدالة.
21 – استمرار المناقشة
لأنه إذا كانت الأعمال. الجيدة ستكافأ، فإنه سيكون هناك خطأ في حق الجسد، فإنه بقدر ما شارك الروح في كدحها المرتبط بحسناتها، فإنه لا يشارك في مكافأة الأعمال الجيدة ولأنه بالرغم من أن الروح كثيراً ما يسامح على الأرض، من أخطاء معينه لاحتياجات الجسد وطلباته، فإن الجسم نفسه يحرم من أي نصيب في الأعمال الحسنة التي تمت رغم الكد الذي تسببت فيه هذه الأعمال والتي ساعد الجسم على تحملها أثناء الحياة. كما أنه أيضاً، لو أن الذنوب أدينت، فإن الروح لم تعامل معاملة عادلة، ونتركها وحدها لتدفع العقوبة عن الأخطاء التي اقترفت وهي متحدة مع الجسد والتي استدرجت إليها عن طريق شهوة الجسد ورغبته، أحيانا ممسك بها ومحمولة، وفي مرة ثانية مجذوبة بطريقة عنيفة جداً، ومرة ثالثة متفقة مع الجسد عن طريق الشفقة والاهتمام بالحفاظ عليه.
كيف يمكن أن يكون ذلك سوى عدم عدالة أن تدان الروح وحدها عن أشياء هي لا تشعر قِبَلها وفقاً لطبيعتها بأية شهية، أي تحرك، أي دافع مثل التهور أو العنف أو الجشع أو الظلم أو الأعمال الخاطئة التي تنتج من هذه؟ لأنه إذا كانت أغلبية مثل هذه الشرور يقترفها رجال ليست لديهم قدرة على التحكم في الشهوات التي تغريهم، وتغريهم احتياجات ومطالب الجسد، والعناية والاهتمام به (لأن هذه هي الدوافع وراء كل تملك لصفة وخاصة استعمالها، وأيضاً الزواج وجميع أعمال الحياة، التي بهذه الأشياء وبالعلاقة بها، يرى ما هو خطأ وما هو ليس كذلك)، كيف يمكن أن يكون عدلاً أن تدان الروح وحدها عن هذه الأشياء، التي كان الجسم هو أول من يحس بها والذي يجر الروح إلى التعاطف والمشاركة في أعمال بالنظر إلى أشياء يحتاجها الجسد، وأن الشهوات والمسرات، وعلاوة على ذلك المخاوف والأحزان، التي إذا زاد أي منها عن الحد يكون خاضعاً للدينونة، يجب أن توضع في حركة بواسطة الجسم، ورغم ذلك فإن الخطايا التي تنتج عن ذلك والعقوبات على هذه الخطايا المقترفة، يجب أن تقع على الروح بمفردها، التي لا تحتاج إلى شيء من هذا القبيل من رغبات أو مخاوف أو معاناة أو أي شيء من تلك الأشياء التي اعتاد الإنسان على مكابدتها؟ ولكن حتى إذا تمسكنا بأن هذه العواطف لا تختص بالجسد وحده، بل للإنسان، الذي إذا قلناه فيجب أن يكون قولاً صحيحاً، لأن حياة الإنسان واحدة، رغم أنها مكونه من الاثنين، ورغم ذلك فإننا يقيناً لا يمكن أن نؤكد أن هذه الأشياء تنتمى إلى الروح، إذا نظرنا ببساطة إلى طبيعتها الخاصة.
لأنها قطعاً ليست في حاجة إلى طعام، ولا يمكن أن تكون راغبة في تلك الأشياء التي لا تحتاج إليها بالمرة من أجل بقائها، كما لا يمكن أن تشعر بأي دافع من تلك الأشياء التي هي غير معدة لاستعمالها، ولا أيضاً يمكن أن تظلم باحتياجها للنقود أو أية ممتلكات، إذ أن هذه لا تتفق معها. وإذ كانت أيضاً، غير معرضة للفساد، فإنها لا تخشى شيئاً أياً كان إذا كان مدمراً بذاته، ليس لديها خوف من الجوع أو المرض أو العطب أو من النار أو من السيف، حيث إنها لا تقاسي أي أذى أو ألم من هذه، لأنه لا الأجسام ولا القوى الجسمانية تمسها بأي سوء. ولكن إذا كان لغواً أن نلصق الأهواء بالروح، كأنها منتسبة إليها خاصة، فإن ذلك يكون أعظم درجات الظلم ومما لا يتفق مع حكم الله، أن نلقي على الروح وحدها الخطايا التي تنبع منها والعقاب الذي يستتبع ذلك.
22 – استمرار المناقشة
علاوة على ما ذكر، أليس من العبث. أنه بينما لا يمكننا حتى أن نأخذ بفكرة أن الفضيلة والرذيلة موجودتان منفصلتان في الروح (لأننا نعترف بأن الفضيلة “هي فضيلة” الإنسان وبأسلوب مماثل فإن الرذيلة المضادة لها، لا تنتسب إلى الروح منفصلة عن الجسد وموجودة بنفسها) فكيف نجعل ما ينتج عنها من ثواب أو عقاب، واقعاً على النفس وحدها؟ كيف يمكن لأي إنسان حتى أن تكون لديه الفكرة بأن الشجاعة أو الجلد موجود في الروح وحدها نظراً لأنها لا تخشى الموت أو الجراح أو الجوع أو الخسارة أو سوء المعاملة أو الألم من أي من هذه أو المعاناة التي تنتج عنها؟
وماذا نقول عن ضبط النفس والاعتدال عندما لا تكون هناك رغبة تستميلها إلى الطعام أو المخالطة الجنسية، أو أية مسرات أو متع أو أي شيء آخر يغريها من الداخل أو يثيرها من الخارج؟
ثم ماذا عن الحكمة العملية، عندما لا يقترح عليها أشياء يمكن أو لا يمكن أن تنفذ، أو أشياء للاختيار أو لنتحاشاها، أو عندما لا يكون لديها أية حركة أو دافع طبيعي لعمل أي شيء؟ وكيف يمكن بأي معنى أن تكون العدالة هي إحدى خواص الأرواح، إما بين الواحدة والأخرى أو لأي شيء آخر، سواء كانت من نفس النوع أو من أنواع مختلفة، حيث أنها غير قادرة من أي مصدر أو بأية طريقة أن ترتب ما هو متساو حسب الأهلية أو التشابه، باستثناء الكرامة المرجعة إلى الله.
علاوة على ذلك، ليس لديها أي باعث أو حركة نحو استعمال حاجتها الخاصة بها أو الإمساك عن تلك التي للآخرين، حيث أن استعمال هذه الأشياء التي وفقاً للطبيعة، أو الإمساك عنها، يعتبر، بالنسبة لأولئك الذين عينوا هكذا لاستعمالها، في حين أن الروح ليست في حاجة إلى أي من هذه الأشياء أو أنها نصبت لتستعمل أية أشياء أو أي شيء واحد، وعلى ذلك فإن ما يسمى بالإجراء المستقبلي للأجزاء لا يمكن أن يوجد في الروح المشكلة هكذا.
23 – استمرار المناقشة
لكن أكثر الأشياء لا منطقية هو: أن تسن قوانين مشروعة بطريقة صحيحة لتطبيقها على البشر، ثم تحدد على أرواحهم فقط تلقى الجزاء على أعمالهم الموافقة أو المخالفة للقانون.
لأنه كما كان الذي تلقى القوانين يجب كما يقضي العدل أن يتلقى الجزاء على انتهاك القوانين، وإذا كان الإنسان هو الذي يلقي القوانين، وليست الروح وحدها، فيجب على الإنسان إذاً أن يتحمل الجزاء على الآثام التي ارتُكبت وليس الروح وحده، وحيث أن الله لم يحتم على الأرواح أن تمسك عن الأشياء التي لا علاقة لها بها، مثل الزنا والقتل والسرقة والنهب وإهانة الوالدين وعموماً أي رغبة قد تؤدي إلى الإضرار بجيراننا أو خسارتهم، لأنه لا الوصية “أكرم أباك وأمك” وضعت لتطبق على الأرواح فقط، لأن مثل هذه الأسماء لا تنطبق عليها، لأن الأرواح لا تلد أرواحاً حتى يمكنها أن تسمى أباً أو أماً، ولكن الرجال ينجبون رجالاً، كذلك فإن الوصية “لا تزني”، لا يمكن أن توجه بصواب إلى الأرواح أو حتى مجرد التفكير بهذه الطريقة، لأن الفرق بين الذكر والأنثى لا وجود له بينها.
كما أنه لا يوجد بينها استعداد لاختلاط جنسى ولا اشتهاء له، حيث لا اشتهاء لا يكون اختلاط بالمرة، وحيث لا يوجد اختلاط بالمرة، لا يمكن أن يكون هناك اختلاط شرعي وبالذات زواج، وحيث لا يوجد اختلاط قانوني كما أنه لا يمكن أن يكون هناك اشتهاء غير قانوني له أو اشتهاء الاختلاط الجنسي بزوجة رجل آخر، وهو ما يسمى بالزنا.
كذلك، أيضاً، تحريم السرقة، أو الرغبة في تملك أكثر، لا ينطبق على الأرواح، لأنها لا تحتاج لهذه الأشياء، وعن طريق الحاجة إليها، بسبب العوز الطبيعي أو الحاجة، فقد اعتاد الناس على سرقة أو نهب الأشياء مثل الذهب أو الفضة أو حيوان أو أشياء أخرى تصلح طعاماً أو مأوى أو لأي استعمال، لأن طبيعتها خالدة فإن كل ما يشتهيه المحتاج لا قيمة له لديها البتة.
ولكن لندع المناقشة الكاملة لهذه الأمور ولنتركها لأولئك الذين يرغبون في بحث كل نقطة بدقة أكبر أو الذين يجادلون معارضيهم بطريقة أكثر حماساً. ولكن، حيث أن ما قيل تواً، وما يتفق معه لضمان القيامة يكفينا، فإنه لا يعتبر وقتاً مناسباً أن نمعن النظر فيها أطول من ذلك، إذ أنه لم يكن من أغراضنا أن نغفل شيئا من الممكن ذكره ولكن أن نوضح بإيجاز لأولئك الذين جمعوا ما يمكن أن يفكر فيه مما يتعلق بالقيامة، وأن نوائم إلى الأحياء الحاليين المناقشات التي تدور حول هذا السؤال.
24 – مناقشة القيامة من ناحية الغاية الرئيسية لدى الإنسان
بعد أن ناقشنا إلى حد ما النقاط المطروحة للبحث، يبقى أن نختبر المناقشة من نقطة الغاية أو الغرض الأصلي (الهدف الحقيقي)، والذي لا شك أنه قد ظهر فيما ذكر، ولكنه يحتاج فقط إلى عناية كبيرة ومناقشة أطول مما يمكننا من تحاشي الظهور بترك أي من الأمور وكأنها بحثت باقتضاب، وبذا نسبب ضرراً، بطريق غير مباشر، للموضوع أو الجزء من البحث الذي تم منذ البداية.
لذا فإنه من أجل الجيل الحاضر، ولآخرين ممن قد يبدون اهتماماً بهذا الموضوع، فقد يكون من الأصوب تماماً أن نوضح أن أياً من تلك الأشياء التي كونتها الطبيعة، ومن تلك الأشياء التي صنعت بفن، يجب أن تكون لها غاية خاصة بها، كما تعلمنا حقاً بالإدراك العام لدى جميع الناس ونقرر بالأشياء التي تمر أمام أعيننا. ألا نرى أن للزارع غاية وللطبيب غاية أخرى، وأيضاً الأشياء التي تنبت من الأرض لها غاية مختلفة، وكذا الحيوانات التي نقتات عليها والتي جبلت وفقاً لسلسلة طبيعية معينة، غاية مختلفة؟
إذا كان هذا واضحاً وطبيعياً إن القوى الطبيعية والأفعال الناتجة عنها، يجب أن تنتهي إلى غاية تتفق مع طبيعتها، فإنه من الضروري حتماً أن غاية الإنسان، وهو ذو الطبيعة الخاصة، يجب أن تكون منفصلة عن مجموع الباقين، لأنه ليس منطقياً أن نفترض غاية متماثلة لكائنات محرومة من الفكر المنطقي تلك التي تنتظم أعمالها تحت القانون الفطري أو لسبب، وبين كائنات تعيش حياة عاقلة وتراعي العدالة.
لذا فإن التحرر من الألم لا يمكن أن يكون الغاية الصحيحة للأخيرة، لأنه بهذا يتساوى مع مخلوقات خالية من الشعور، كما أنه لا يشمل على ما يمتع الجسد عن طريق الأشياء التي تنعشه أو تبهجه، أو في وفرة المسرات، بمعنى آخر حياة تشبه حياة الوحوش يجب أن تأخذ المكانة الأولى بينما المنضبطة بالفضيلة ليس لها هدف نهائي. لذا فإننى أعتقد، أن غاية كهذه تكون خليقة بالوحوش والماشية ولكنها لا تليق للبشر الذين لديهم روح خالدة وحكم عقلي.
25 – استمرار المناقشة وختامها:
كما أنه ثانياً، ليست سعادة الروح. أن تنفصل عن الجسد، لأننا لا نبحث عن الحياة أو الهدف النهائي لأي من الجزئين اللذين يتكون منهما الإنسان، ولكن في الكائن الذي يتشكل من كليهما لأن هكذا هو كل إنسان له نصيب في الوجود الحالي، ويجب أن تكون هناك غاية لائقة مقترحة لهذه الحياة.
ولكن إذا كانت هذه هي غاية الجزئين معاً، وهذا لا يمكن اكتشافه في أي الحالات، سواء أكان على قيد الحياة في الحالة الحاضرة للوجود، وذلك لما ذكرناه سابقاً من أسباب متعددة، أو حتى عندما تكون الروح في حالة انفصال، لأنه لا يمكن القول بأن الإنسان موجود إذا كان الجسم قد تحلل وطبعاً تبعثر خارجاً حتى ولو كانت الروح مستمرة بنفسها، إنه من الضروري أن غاية وجود الإنسان يجب أن تظهر بطريقة ما من إعادة تركيب الاثنين معاً ولنفس الكائن الحي.
وحيث أن هذا ينبع عن ضرورة، فيجب بكل الطرق أن تكون هناك قيامة للأجسام التي ماتت أو حتى تحللت تماماً، ونفس الناس يجب أن يتشكلوا من جديد، نظراً لأن قانون الطبيعة يفرض أن الغاية ليست مطلقة كما أنها ليست غاية أي إنسان مهما كان ولكن لنفس الرجال الذين مروا خلال الحياة السابقة، لكنه من المستحيل أن يعاد تشكيل نفس الرجال ما لم تعاد نفس الأجسام إلى أرواحها.
ولكن أن يحصل الروح على نفس الجسد هو أمر مستحيل بأي طريقة أخرى، ولكنه ممكن فقط عن طريق القيامة، لأنه إذا حدث هذا، فإن غاية مناسبة لطبيعة البشر تكون قد حدثت. ولا يكون من الخطأ أن نقول أن الهدف النهائي لحياة واعية وتفكير واع أن نهتم بلا انقطاع بهذه الأمور التي يتلائم معها أساسياً وبصفة خاصة السبب الطبيعي، أن نسر بصفة دائمة في التفكير في “الله الذي هو” وفي أحكامه، ومع ذلك فإن أغلب الناس، لأنهم متأثرون بقوة وبعنف بأشياء في الدنيا، فإنهم يعبرون الحياة دون أن يحصلوا على هذا المأرب. لأن الكثيرين الذين يخفقون في الوصول إلى هذه الغاية التي تختص بهم لا يلغون المجموعة ككل، نظراً لأن الاختيار يتعلق بالأفراد، والثواب أو العقاب لحياة عاشت في خير أو شر تتناسب مع استحقاق الكل.
No Result
View All Result
Discussion about this post