إرشاد رسولي
وَجّهه
يوحنا بولس الثاني
الحبر الأعظم
إلى
أساقفة الكنيسة الكاثوليكية جمعَاء
وكهَنَتها ومؤمنيهـا
في واجب تلقين التعليم المسيحي
في عَصرنـا
Catechesi Tradendae
1979
أيها الإخوة الأجلاء والأبناء الأعزاء،
السّلام والبركة والرسولية
مقدمـة
وصيّة السيد المسيح الأخيرة
1- تلقين التعليم المسيحي مهمة دأبت الكنيسة دائماً في الاضطلاع بها، اعتباراً منها أنها إحدى المهام الجسام الملقاة على عاتقها. ذلك أنّ السيّد المسيح القائم من بين الأموات أوصى الرسل، قبل عودته إلى أبيه، وصية أخيرة وهي أن يتلمذوا كلّ الشعوب ويعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصاهم به (1).
وقد ألزم هؤلاء الرسل بواجب وآتاهم القوة للقيام به وهو أن يعلنوا على الناس ما سمعوا ورأوا بأعينهم وتأمّلوا ولمسوا بأيديهم من كلمة الحياة (2). وخوّلهم في الوقت عينه، عندما ألزمهم بهذا الواجب وآتاهم القوة للقيام به، أن يشرحوا، بسلطان، ما علّمهم، أعني كلامه وأعماله وإشاراته ووصاياه، ولكي يقوموا بهذه الرسالة أعطاهم الروح القدس.
وما لبث أن سمّي تعليماً مسيحياً هذا المجهود الذي بذل في الكنيسة لإيجاد تلاميذ وتعليمهم ولمساعدة الناس لكي يؤمنوا بأنّ يسوع هو ابن الله حتى إذا آمنوا به كانت لهم باسمه الحياة (3). ولكي يتربّوا ويتثقّفوا في هذه الحياة فيبنى هكذا جسد المسيح. وما فتئت الكنيسة تبذل كل ما أوتيت من قوى في هذا السبيل.
اهتمام بولس السادس
2- وقد خصّ الأحبار الرومانيّون الذين تعاقبوا في هذه السنوات الأخيرة التعليم المسيحي بجانب كبير من اهتمامهم الرعويّ. فأدّى سلفنا المبجّل بولس السادس في هذا المجال خدمة جلّى بما قام به من أعمال رائعة وألقى من مواعظ وأعطى من شروح أسندها إلى تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني الذي عدّه أكبر تعليم مسيحي في عصرنا. وصدّق في 18 آذار سنة 1971 على “الدليل العامّ للتعليم المسيحي” الذي أعدّه مجمع الإكليروس والذي يبقى وثيقة أساسيّة غايتها العمل على تجديد التعليم المسيحي في الكنيسة وتوجيهه. وأنشأ سنة 1975 اللجنة الدولية للتعليم المسيحيّ وحدّد دور هذا التعليم ومدلوله في حياة الكنيسة ورسالتها تحديداً واضحاً، لمّا تحدّث في 25 أيلول سنة 1971 (4) إلى المشتركين في المؤتمر الدوليّ الأول للتعليم المسيحي، وعاد مجدداً وبجلاء إلى هذا الموضوع في الإرشاد الرسولي المعروف “بواجب التبشير بالإنجيل” (5) وشاء أن يكون التعليم المسيحي وعلى الأخصّ تعليم الأولاد والشبّان موضوع الدورة الرابعة لمجمع الأساقفة (6) التي انعقدت في تشرين الأول سنة 1977 وقد سعدنا بأن تأتّى لنا أن نشترك فيها.
مجمع مثمر
3- وفي نهاية المجمع رفع الأساقفة إلى الحبر الأعظم مجموعة ضخمة من الوثائق التي تحتوي على مختلف الخطب التي ألقوها في الاجتماعات والاستنتاجات التي توصّلت إليها فئات العمل والرسالة التي وجهّوها، بموافقته، إلى شعب الله (7) ولاسيّما لائحة الاقتراحات الطويلة التي ضمنّوها آراءهم في التعليم المسيحي المتعدّد الوجوه في عصرنا.
وقد عمل هذا المجمع عملاً دائباً ناشطاً، رافعاً آيات الشكر لله في جوّ مشبع بالأمل. ورأى أن تجديد التعليم المسيحي هو خير عطية جاد بها الله بواسطة روحه القدوس على كنيسة عصرنا، وهي عطية قابلتها الجماعات المسيحية من كل الطبقات والنزعات في العالم أجمع بسخاء كبير وعزم أكيد خصيب أثارا الإعجاب. فكان إذ ذاك بالإمكان القيام بعملية الانتقاء اللازمة بالاستناد إلى مادة حيّة وبالاعتماد على الثقة بأنّ الشعب المسيحيّ سيتجاوب عن إرادة وتصميم ونعمة الله، وسيعمل بروح الطاعة بتوجيهات السلطة الكنسية التعليمية.
غاية هذا الإرشاد
4- وقد رأينا في هذا الجوّ المشبع بالإيمان والرجاء أن نوجّه إليكم اليوم، أيّها الإخوة الأجلاّء والأبناء الأحبّاء، هذا الإرشاد الرسولي. وإنا سنقصر البحث فيه على بعض جوانب هذا الموضوع الواسع وهي جوانب تتلاءم والحالة الراهنة وتُعتبر ذات أهميّة كبرى، وذلك تأكيداً لما أتى به المجمع من ثمار يانعة. وقد استعدنا في هذا الإرشاد معظم المواضيع التي أعدّها البابا بولس السادس مستنداً، إلى حدٍّ كبير، إلى الوثائق التي تركها المجمع. وكان يوحنا بولس الأول الذي أثار إعجاب الجميع بما فُطر عليه من دأب في إلقاء التعليم المسيحي، قد جمعها وهمّ بنشرها بالطبع، وإذا بالمنية تفاجئه فتحول دون رغبته في تنفيذ ما عزم عليه، وقد أعطانا مثلاً في كيفيّة إلقاء التعليم المسيحي الشعبيّ المركّز على الأمور الجوهرية. وقد استعمل له إشارات وعبارات بسيطة أخذت بمجامع القلوب. وإنّا بعودنا إلى الإرث الذي خلّفه لنا هذان الحبران، نستجيب لمطلب أعرب عنه الأساقفة في ختام دورة المجمع الرابعة العامّة، ورحّب به البابا بولس السادس في الخطاب الختاميّ الذي ألقاه في ذاك الإجتماع (8). وإنّا، إذ نفعل ذلك، نقوم بواجب خطير تمليه علينا مهمتنا الرسولية ونحن من أولينا دائماً التعليم المسيحي كل اهتمامنا يوم كنّا نمارس وظيفتنا الكهنوتية والأسقفية.
وإنّا لنتمنىّ أن يزيد هذا الإرشاد الرسولي الذي نوجّهه إلى الكنيسة جمعاء في صلابة الإيمان والحياة المسيحيّة، ويمدّ المبادرات القائمة بدفع جديد، ويشحذ العزائم لاستنباط أساليب حديثة في هذا المجال، مع مراعاة ما ينبغي من يقظة، ويسهم في إشاعة هذا الفرح في الجماعات المسيحية الذي يمكّنها من إشراك العالم في سرّ المسيح.
-1-
ليس لنا إلا معَلّم واحد
هو يسوع المسيح
إشراك في شخص المسيح
5- غالباً ما شدّدت الجمعيّة الرابعة العامة لمجمع الأساقفة على أن كل تعليم مسيحيّ جدير بهذا الاسم، إنما “محوره المسيح”. ولهذا يمكننا أن نتوقف على مدلولي هذه اللفظة اللّذين لا يتعارضان ولا يتنافيان، بل بالأحرى يتداعيان ويتكاملان.
بداءة بدء يجب التأكيد أننا نجد في صميم التعليم المسيحيّ شخصاً بالأحرى هو شخص يسوع المسيح الناصريّ “ابن الآب الوحيد المملوء نعمةً وحقاً” (9) الذي تألّم ومات من أجلنا وقام الآن وهو حيّ معنا إلى الأبد. وهو “الطريق والحق والحياة” (10)، وتقوم الحياة المسيحية على اللحاق به، أي على السير على “طريق المسيح”.
إنّ موضوع التعليم المسيحي الأساسيّ والأولّي – لكي نستعمل كلمة عزيزة على القديس بولس ولاهوتيّي عصرنا – إنّما هو “سرّ المسيح”. وتلقين التعليم المسيحي معناه حمل الناس، نوعاً ما، على تفحّص هذا السرّ من جميع وجوهه: أي “تبيان ما هو تدبير هذا السرّ للجميع… ومع جميع القدّيسين لكل ما عند الله من سعة” (11). وهذا معناه الكشف في شخص المسيح عن قصد الله الشامل الأزليّ الذي تمّ فيه والإكباب على تفهّم حركات المسيح وكلامه والإشارات التي قام بها بما أنها تحتوي على سرّه وتظهره. فإذا قُبل التعليم المسيحي على هذا الوجه، كانت غايته الأخيرة لا وصل الناس بيسوع المسيح وحسب بل إشراكهم معه بحيث تقوم بينهم وبينه الفة تامة. ذلك أنه هو وحده يمكنه أن يقودهم إلى محبّة الآب بالروح وإلى إشراكهم في حياة الثالوث الأقدس.
نقل عقيدة المسيح
6- القصد من التركيز في التعليم المسيحيّ على شخص المسيح إنّما هو نقل من يلقّن هذا التعليم لا عقيدة خاصّة به أو بسواه من المعلّمين، بل عقيدة يسوع المسيح، أي الحقيقة التي يبلّغنا إياها المسيح أو بعبارة أدقّ، الحقيقة التي هي هو (12). لذلك يجب التأكيد على أن في التعليم المسيحي إنّما المسيح، الكلمة المتأنّس، وابن الله هو من يُعَلَّم، أما ما عداه فلا يُعَلَّم إلا بقدر ما يمتّ إليه بصلة، وأنّ المسيح هو وحده من يُعّلِّم وإنّ كل من علّم سواه إنّما يُعَلِّم بقدر ما يكون ناطقاً باسمه ومترجماً له، وبقدر ما يتكلّم المسيح بفمه ولسانه. وكل معلّم للتعليم المسيحيّ، أيّاً كانت وظيفته في الكنيسة لا بدّ له من أن يسعى جاهداً لكي ينقل، بطريقة تعليمه وتصرّفه، المسيح وحياته. وعليه ألاّ يسترعي إليه انتباه من يعلّمه التعليم المسيحيّ وألاّ يجذب إليه عقله وقلبه أو يوجّههما إلى ما له من آراءٍ واختيارات وطريقة تفكير، وعليه على الأخصّ ألا يفرض هذه الآراء والاختيارات كما لو كانت تعرب عن عقيدة المسيح وما في حياته من عبر وعظات. ويجب أن ينطبق على كلّ من علّم التعليم المسيحيّ كلام السيّد المسيح المثقل بالمعاني: “ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني” (13). وهذا ما فعله القديس بولس عندما عالج موضوعاً بهذه الأهميّة فقال: “إني تلقيّت من الرب ما بلّغته إليكم” (14). فكم ينبغي لمعلّم التعليم المسيحي أنّ يكبّ على درس كلام الله الذي نقلته إليه السلطة الكنسيّة التعليمية، وأيّة ألفة يجب أن يكون له مع المسيح وأبيه، وكم عليه أن يواظب على الصلاة وكم عليه أن يتجرّد عن ذاته ليمكنه أن يقول: “ليس تعليمي من عندي”.
المسيح المعلّم
7- وليست هذه العقيدة مجموعة حقائق مجردّة، لكنها إبلاغ سرّ حيّ هو سرُّ الله. ذلك أن لدى من يعلّمها وفي طبيعتها بالذات من السموّ ما يفوق إلى حدٍّ كبير ما لدى “المعلّمين” في إسرائيل وفي طبيعة عقيدتهم من سموّ، لما هناك من رابطة مميزّة تجمع بين المسيح المعلّم وبين ما يقول ويعمل. ويتبيّن أحياناً وبوضوح من الإنجيل أن يسوع “علّم”. وبهاتين اللّفظتين: “إنّ يسوع عمل وعلّم” (15): اللّتين يبدأ بهما كتاب أعمال الرسل، جمع القديس لوقا في آن وميزّ واقعين برزا في رسالة السيّد المسيح.
وممّا لاشكّ فيه أن يسوع علّم، وهذا ما شهد به لنفسه فقال: “كنت كل يوم في الهيكل جالساً أعلّم” (16). وقد لاحظ الإنجيليون ذلك بإعجاب فدهشوا لرؤيتهم إيّاه يعلّم في كل زمان ومكان وبسلطان لم يعرف من ذي قبل: “واحتشدت أيضاً إليه الجموع وكعادته أخذ أيضاً يعلّمهم” (17). “ودهشوا من تعليمه: لأنّه كان يعلّم كذي سلطان” (18). وهذا ما فهمه أعداؤه فاتخذوا منه حجّة ليشكوه ويحكموا عليه: “لأنّه يثير الشعب بتعليمه في اليهودية كلّها ومن الجليل إلى هنا” (19).
المعلّم الأوحد
8- ومن علّم هذا التعليم استحقّ وحده لقب “معلّم”. وكم مرّة أطلقت عليه هذه التسميّة في العهد الجديد وعلى الأخصّ في الإنجيل (20). وقد ناداه الاثنا عشر وباقي التلاميذ وجماهير المستمعين “المعلّم” (21) بصوت ملؤه الإعجاب والثقة والمحبّة الرقيقة. وإنّ الصدّوقيّين أنفسهم ومعلّمي الشريعة واليهود على وجه الإجمال لم ينكروا عليه هذا الاسم فقالوا له: “يا معلّم، نريد منك أن تُرينا آية” (22)، “يا معلّم، ماذا أصنع لأرث الحياة الأبديّة” (23)؟ وفضلاً عن ذلك إن يسوع المسيح عينه سمّى نفسه معلّماً على الأخصّ في بعض مناسبات احتفالية لها مدلول خاص فقال: “أنتم تدعوني “معلّماً” و”ربّاً”، وحسناً تقولون، لأني ما تقولون” (24). وقد جاهر بما تتميّز به صفة المعلّم لديه من طابع فريد فقال: “إن معلّمكم واحد وهو المسيح” (25). ولهذا أنا ندرك كيف أن أناساً من جميع الطبقات والأنواع والجنسيّات قد دعوه باحترام بهذا الاسم مستعملين جميع اللغات على مدى ما يقارب الألفي سنة، مردّدين، كل منهم على طريقته، قول نيقوديموس: “نحن نعلم أنّك جئت من قبل الله معلّماً” (26).
ويطيب لنا في مستهلّ هذه الخواطر التي نبديها حول واجب تلقين التعليم المسيحيّ أن نستعيد بالذاكرة صورة السيّد المسيح، وهو يعلّم، وهي صورة تحيط بها هالة من جلال ودالّة في وقت معاً، وتحرّك المشاعر وتهدّئها في وقت معاً، وتثير اهتماماً كبيراً بعد أن رسم خطوطها الإنجيليّون: وغالباً ما مثّلها فن صنع الأيقونات منذ عصور المسيحية الأولى (27).
علّم من خلال حياته بمجملها
9- وإنّا لا ننسى، ونحن مكبّون على هذه المسألة، أن عظمة المسيح المعلّم وتماسك عقيدته وما فيها من قوّة إقناع ناشئ عن استحالة الفصل بين كلامه وأمثاله ومجادلاته وبين حياته وشخصه. فمن نظر إلى هذه المسألة هذه النظرة، ظهرت له حياة المسيح بمجملها وكأنها تعليم متواصل: سكوته، عجائبه، صلاته، حبه للناس، حدبه على الوضعاء والفقراء، ارتضاؤه التامّ ذبيحة الصليب افتداءً للناس وأخيراً قيامته، كل هذا إنّما هو تجسيد لكلامه وإتمام للنبؤات. ولهذا يبدو الصليب للمسيحيّين أجمل صورة للمسيح المعلّم وأشهرها على الإطلاق.
وإن جميع هذه الاعتبارات التي هي من صميم التقاليد في الكنيسة تزيدنا حماساً للإقبال على المسيح المعلّم الذي كشف الله للناس وكشف الإنسان للإنسان والذي يخلّص ويحفظ ويقدّس ويدبّر والذي هو حيّ يتكلم ويستحث ويؤثر ويقوّم الإعوجاج ويحاكم ويحكم ويغفر ويسير كل يوم معنا على طريق التاريخ. إنه المعلّم الذي أتى وسيأتي بالمجد.
ولهذا فإنّ معلمّي التعليم المسيحيّ، إذا انضموا إليه واتحدوا به اتّحاداً وثيقاً، وجدوا لديه النور ونهلوا من معينه القوّة ليعملوا على تجديد التعليم المسيحيّ تجديداً أصيلاً مرتقباً.
-2-
اختبار قديم قِدَم الكنيسة
رسالة الرسل
10- وانطبعت صورة المسيح المعلّم في أذهان الرسل الإثني عشر والتلاميذ الأوّلين، ووجّه أمرُه إليهم يوم قال لهم: “امضوا وتلمذوا كل الشعوب” (28) حياتهم كلّها. وهذا ما شهد به القديس يوحنا في إنجيله عندما أورد كلام يسوع فقال: “لا أدعوكم بعد عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيّده، بل أدعوكم أحبّائي، لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من الآب” (29). وفي الواقع ليسوا هم من عقدوا العزم على اتّباع يسوع، ولكنه هو من اختارهم واستصحبهم وأقامهم، قبل الفصح، ليذهبوا ويأتوا بثمار وتدوم ثمارهم” (30). ولهذا السبب أرسلهم علناً بعد القيامة ليجعلوا لهم تلاميذ من جميع الشعوب. ويشهد كتاب أعمال الرسل بكامله على أنّهم كانوا أمناء للدعوى وللرسالة اللّتين قبلوهما. وكان أعضاء الجماعة المسيحية الأولى “يتابعون تعليم الرسل، والحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة” (31). وما من شكّ في أنّنا نتبيّن هنا صورة ثابتة عن كنيسة تنهل من معين ما علّم الرسل فتولد من كلام الرب وتتغذّى منه دونما انقطاع، وهكذا تحتفل به في ذبيحة الإفخارستيا وتشهد له في العالم بما تأتيه من أعمال محبّة.
وعندما أثار الرسل شكوك خصومهم بما أبدوه من نشاط، اشتكى هؤلاء من أنّهم “يعلّمون الشعب” (32)، ومنعوهم من الكلام والتّعليم باسم يسوع (33). وأنا لنعرف أن الرسل، في حقل التّعليم هذا، اعتبروا أنّه أولى بهم أن يطيعوا الله من أن يطيعوا الناس (34).
التعليم المسيحيّ في العهد الرسوليّ
11- وما لبث الرسل أن تقاسموا وسواهم خدمة الرسالة (35). فنقلوا بعدئذ إلى خلفائهم مهمّة التعليم فوكلوها إلى الشمامسة فور إقامتهم إيّاهم: وما انفك اسطفانوس “الممتلئ نعمة وقدرة” يعلّم فيما تقوده حكمة الروح (36). واتّخذ (37) الرسل تلامذة “كثيرين سواهم” “استعانوا بهم في مهمة التّعليم واتّخذوا حتّى مسيحيّين عاديّين كان قد شردّهم الاضطهاد “فساروا من مكان إلى آخر مبشّرين بالكلمة” (38). وكان القديس بولس أبرز المنادين بهذه البشارة من إنطاكية إلى روما وقد مثّله كتاب أعمال الرسل متمكثّاً في روما، وهو “يبشّر بملكوت الله ويعلّم رابط الجأش، العلم الذي يعود إلى الرب يسوع المسيح” (39). وتواصل رسائله الكثيرة تعليمه وتعرضه بوضوح. وما كانت رسائل بطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا سوى شواهد على ما كان عليه التّعليم المسيحيّ في العهد الرسولي.
والأناجيل التي كانت، قبل أن تكتب، مجموعة عقائد انتقلت إلى الجماعات المسيحيّة، تظهر بحدّ ذاتها، على قدر متفاوت من الوضوح، بنية التّعليم المسيحي. أو ليس ما أورده القديس متى قد دعي إنجيل معلّم التعليم المسيحيّ وما أورده القديس مرقس إنجيل الموعوظ؟
لدى آباء الكنيسة
12- وتواصل الكنيسة القيام بمهمّة التعليم التي اضطلع بها الرسل ومعاونوهم الأولون. وكما كانت تتتلمذ يوماً فيوماً على الربّ، فقد دعيت بحق “أمّاً ومعلّمةً” (40)، وقد ترك عهد ما بعد الرسل مباشرةً من اكليمنضوس الروماني إلى أوريجانوس (41) مؤلّفات قيّمة في هذا المجال. وجاء بعد ذلك ما هزّ المشاعر ألا وهو مشهد أساقفة ورعاة أعلام، على الأخصّ في القرنين الثالث والرابع، يقومون بواجب تلقين التعليم المسيحيّ الشفهيّ ويضعون فيه مؤلّفات اعتباراً منهم أن ذلك يشكّل جانباً هاماً من مهمتهم الأسقفية. وقد برز آنذاك كيرللّوس الأورشليميّ ويوحنا فم الذهب وامبروسيوس واغسطينوس، ودبّج في تلك الأيام قلم كثيرٍ من الآباء كتابات لا نزال نرى فيها أمثلة رائعة.
ويستحيل التوقّف هنا ولو قليلاً لكي نظهر كيف أن التّعليم المسيحيّ ساعد على انتشار الكنيسة وازدهارها في مختلف العهود وفي جميع الأقطار والأحوال الاجتماعية والثقافية ولدى جميع أنواع الشعوب. وبرغم الصعوبات، تابع كلام الله سيره، عبر العصور، وانتشر محاطاً بالإكرام، على ما يقول بولس الرسول (42).
انطلاقاً من المجامع والنشاط الإرسالي
13- وتستمدّ خدمة التعليم المسيحي دائماً قوى جديدةً من المجامع، ومن بينها المجمع التريدنتيني الذي يشكّل مثلاً رائعاً في هذا المجال، وقد أحلّ في دساتيره وقراراته التعليم المسيحيّ محلّ الصدارة، فكان “التعليم المسيحيّ الرومانيّ” الذي سمّى باسمه، الينبوع والأساس وهو مؤلّف اشتهر بإيجازه العقيدة المسيحية واختصاره اللاهوت التقليدي الموروث عن السلف لاستعمال الكهنة، وقد حثّ على تنظيم التعليم المسيحيّ في الكنيسة تنظيماً رائعاًَ وخصّ الكهنة على ممارسة واجب تلقين التعليم المسيحيّ وعمل، بفضل اهتمام لاهوتيّين قديسين من مثل القدّيس كارلوس بوررومايوس وروبرتس بللرمينوس وبطرس كانيزيوس، على نشر كتب في التعليم المسيحيّ جاءت أمثلة حقيقيّة في تلك الحقبة من الزمن. فعسى أن يتمكّن المجمع الفاتيكاني الثاني من أن يثير مثل هذا الحماس في أيّامنا ويدفع إلى مثل هذا الإنجاز.
وتشكل الإرساليات المقدسة أيضاً حقلاً مختاراً يمكن أن تزدهر فيه أعمال التعليم المسيحيّ. وهكذا ما انفك شعب الله، بعد مضي ما يقارب الألفي سنة، يتثقّف في الإيمان وفقاً لصيغ تنسجم ومختلف حالات المؤمنين وتتفق والظروف الكنسيّة المتعدّدة.
ومن الواضح أن التعليم المسيحيّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الكنيسة كلّها. ويتوقّف عليه، لا انتشار الكنيسة الجغرافي ونموّها العددي وحسب، بل على الأخص، ازدهارها الداخليّ وتجاوبها ومقاصد الله. ومن بين القضايا التي أقرّها الاختبار وطاب لنا أن نتوقف عليها من تاريخ الكنيسة، بعض عبر، بين الكثير وسواها، تستحقّ أن تسلّط عليها الأنوار.
التعليم المسيحيّ واجب الكنيسة وحقّها
14- وممّا لا يحتاج إلى برهان أنّ التعليم المسيحيّ كان دائماً بالنسبة إلى الكنيسة واجباً مقدساً وحقاً ثابتاً لا يمكنها أن تتخلّى عنه. فهو من جهة واجبٌ ناشئ عن وصية الرب ويلزم على الأخصّ الذين قبلوا الدعوة إلى خدمة الرّعاة، ويمكننا من جهة ثانية أن نتحدث عنه كحقّ، فإذا نظرنا إليه نظرة لاهوتيّة تبيّن لنا أن لكل معمّد، بحكم عماده، الحق في ثقافة وتربية تساعدانه على بلوغ حياة مسيحيّة حقّ. وأمّا في ما خصّ حقوق الإنسان، فإن لكل شخص بشريّ الحق في أن يبحث عن الحقيقة الدينية وأن يعتنقها بحريّة، وهذا معناه أنّه يحقّ “لجميع الناس أن يتمتّعوا بالحصانة أمام كل ضغط يوقعه عليهم الأفراد أو الجماعات أو أية سلطة بشرية، بحيث إنّه، في المسائل الدينية، لا يكره أحد على أن يتصرّف ضد ضميره أو يمنع من التصرّف وفقاً لما يمليه عليه ضميره” (43).
ولهذا فإن القيام بواجب تلقين التعليم المسيحيّ يجب أن يتمّ في ظروف مؤاتية – من حيث الزمان والمكان واستعمال وسائل الإعلام وجميع الوسائل الملائمة للقيام به – دونما تمييز يستهدف الوالدين أو من يتلقّون هذا التّعليم أو يلقّنونه.
وقد تزايد حالياً الاعتراف بهذا الحقّ، دونما شك، على الأقل على صعيد مبادئه الكبرى، على ما تشهد به الإعلانات والإتّفاقات الدولية التي _ أية كانت الحدود المقامة – يمكننا أن نستمع من خلالها إلى صوت ضمير العديد من أبناء عصرنا (44). ولكن هناك دولاً كثيرة تخرق هذا الحقّ بحيث تجعل من تلقين التّعليم المسيحيّ أو تلقّيه جرماً يطاله العقاب. ولهذا إنّا نرفع الصوت عالياً، مع آباء المجمع، احتجاجاً على كل تمييز غير منصف في مجال التّعليم المسيحيّ ونناشد في الوقت عينه بإلحاح جميع المعنيّين الإقلاع عن جميع الضغوط التي تكبت الحريّة الإنسانية ولاسيما الحرية الدينيّة.
أولوية هذه المهمّة
15- وتتناول الأمثولة الثانية المقام الذي يحتلّه التعليم المسيحيّ في مشاريع الكنيسة الرعوية ومخطّطاتها. وبقدر ما تظهر الكنيسة المحليّة والجامعة بأنَّها تولي التعليم المسيحيّ الأولوية وتفضّله على ما سواه من أعمال ومشاريع قد تكون دانية الثمار، فإنها تجد بالقدر عينه في التعليم المسيحي ما يوطّد حياتها الداخلية بوصفها جماعة مؤمنين، ويركّز نشاطها الخارجي بوصفها إرسالية. وفي هذا القرن العشرين المشرف على النهاية، يدعو الله الكنيسة، كما تدعوها الأحداث، وهي نداءات صادرة عنه، إلى تجديد ثقتها بالنشاط المبذول في سبيل التعليم المسيحيّ بما أنّه يشكّل جانباً هاماً من مهمتها. والكنيسة مدعوّة إلى تكريس خير ما عندها من قوى، بشراً وإمكانات، للتّعليم المسيحيّ غير مدّخرة وسعاً ولا جهداً ولا طاقات ماديّة بغية تنظيمه وتهيئة أناس أكفّاء يتولّون تلقينه. وليس هذا حساباً بشرياً، لكنه موقف إيمان، وتشد إلى موقف الإيمان هذا دائماً أمانةٌ لله الذي ما تغاضى يوماً عن الجواب.
مسؤولية مشتركة، متميّزة
16- وهناك أمثولة ثالثة، وهي أنّ التعليم المسيحيّ كان دائماً وسيبقى عملاً يجب أن تشعر الكنيسة جمعاء بأنّها مسؤولة عنه، راغبة فيه. ولكن لأعضائها مهمّات متميزة نابعة من دعوة كل منهم. فالرعاة يمارسون بحكم وظيفتهم، على مختلف المستويات، سلطاناً أعلى على تطوير التّعليم المسيحيّ وتدبيره وتنسيقه، والحبر الأعظم يعرف حقّ المعرفة ما يقع على عاتقه، في هذا المجال، من مسؤوليات خطيرة، وهو إذا كان يشعر بما يجب عليه أن يوجّه من عناية ويبذل من جهد، قياماً بهذه المسؤوليات، فإنه يجد في ذلك ما يحمل على الفرح والأمل. وإن الكهنة، فضلاً عن ذلك، والرهبان والراهبات يجدون في التعليم المسيحيّ حقلاً خصيباً لممارسة أعمال الرسالة. وأمّا الوالدون فيتحملون، على صعيد آخر، مسؤولية فريدة في هذا المجال. وبعد فإنّ الأساتذة وخدمة الكنيسة على اختلاف درجاتهم ومعلّمي التّعليم المسيحيّ وجميع العاملين في قطاع الإعلام – إنّ هؤلاء جميعاً، كل من موقعه – يضطلعون بمسؤوليات محدّدة في تثقيف ضمير المؤمن، وهذا له تأثير كبير في حياة الكنيسة، لكيلا نقول في حياة المجتمع بالذات. وخير ما ستأتي به جمعية المجمع العامّة التي دارت على التعليم المسيحيّ من نتائج، إنها ستوقظ، في الكنيسة جمعاء، وفي كلّ من قطاعاتها، ضمائر حيّة فاعلة، على هذا الواجب المشترك المتميّز.
تجديد متواصل متوازن
17- ويحتاج التعليم المسيحيّ أخيراً إلى تجديد مستمرّ يتناول توسيع مفهومه على نحوٍ ما، وطريقة تعليمه، والعمل على الاهتداء إلى لغة ملائمة له، واستعمال الوسائل الحديثة لنقل البشارة استعمالاً مثمراً مجديا. ولكن هذا التجديد لم يكن دائماً متساوي القيمة، وقد اعترف آباء المجمع، والحقّ يقال – فضلاً عما أُحرز من تقدّم لا سبيل إلى إنكاره في العمل الناشط الخاص بالتّعليم المسيحيّ وفي المبادرات التي تبشّر بالخير – بالتقصير وحتّى “بالنقص” في ما أنجز حتى الآن في هذا المجال (45). ويصبح هذا التقصير خطيراً إذا مسّ سلامة العقيدة. وهذا ما أشارت إليه بوضوح الرسالة الموجّهة إلى شعب الله حول التعليم المسيحيّ وقد جاء فيها: “إن التكرار الذي يصبح عادة تمتنع على كل تجديد، والتصرّف الطائش الذي تواجه معه المسائل دون رويّة، أو الارتجال، كلاهما خطر” (46) . ذلك أن العادة المتأصلة والطرق المطروقة تولّد الجمود والشلل وتشكّل بالنهاية عائقاً كبيراً. والاستهداء بوحي الساعة والارتجال يزرعان القلق والاضطراب في نفوس من يتلقّون التعليم المسيحيّ وفي نفوس والديهم إذا كان أولئك صغاراً، ويؤدّيان إلى كل أنواع الأضاليل وفصم الوحدة وقطعها نهائياً. ولهذا إنّه من الأهميّة بمكان أن تبرهن الكنيسة – في أيامنا هذه كما فعلت في العهود الغابرة من تاريخها – عن حكمة وشجاعة وأمانة إنجيلية لدى بحثها عن طرق جديدة وأساليب حديثة للتّعليم المسيحيّ تضعها موضع العمل.
-3-
التعليم المسيحي
في نشاط الكنيسة الرعوي والارسالي
التعليم المسيحيّ مرحلة في نشر الإنجيل
18- لا يمكن فصل التعّليم المسيحي عن نشاط الكنيسة الرعويّ والإرسالي ككلّ. وهو مع ذلك يمتاز بخاصة غالباً ما تفحّصتها الجمعية الرابعة العامّة لمجمع الأساقفة إبّان إعدادها وانعقادها. وتثير هذه القضية اهتمام الرأي العام داخل الكنيسة وخارجها.
ولا مجال هنا إلى إعطاء تحديد دقيق رسميّ للتّعليم المسيحيّ وهو تحديد عرضه “دليل التّعليم المسيحي العام” عرضاً وافياً (47). ولأهل الخبرة والاختصاص أن يتعمقوا في بحث ماهيّته وأقسامه.
ولهذا وأمام ما يطرأ غالباً على هذه القضايا لدى الاستعمال اليومي، من تغيير وتبديل، نرى هنا أن نعيد إلى الأذهان، بكل بساطة، الخطوط العقائدية الكبرى، المثبتة في الوثائق الكنسيّة، بغية تفهّم التعليم المسيحيّ على وجهه الصحيح. وهي خطوط، إذا سقطت قد يتعذّر إدراك ماهية التعليم المسيحي وأهميّته.
ويمكن التأكيد على وجه الإجمال أن التعليم المسيحيّ هو تربية الأولاد والشبّان والبالغين في الإيمان، وعلى الأخص تعليمهم العقيدة المسيحية تعليماً غالباً ما يكون متساوقاً منتظماً، قصد أن يدركوا، وهم مؤمنون، ملء الحياة المسيحية. ويتضمن هذا التّعليم عدّة عناصر من رسالة الكنيسة الرعوية تشبه من بعض الوجوه التّعليم المسيحي وتوطّئ له أو تنتج عنه، برغم أنها لا تندمج به. وهذه العناصر هي: الإعلان الأول عن الإنجيل أو الوعظ الإرسالي عن طريق التبشير قصد إثارة الإيمان، والمنافحة عن الإيمان أو البحث عن الأسباب التي تحمل عليه، واختبار الحياة المسيحيّة، والاحتفال بالأسرار، ومشاركة الجماعة الكنسيّة التامة وأخيراً شهادة حياة رسولية إرسالية.
ولنذكّر، قبل كل، بأنّ لا مجال للفصل أو التناقض والدمج بين التعليم المسيحيّ والتبشير بالإنجيل، بل هناك ترابط وثيق وتكامل بينهما.
لقد أبان، بحق، الإرشاد الرسوليّ “واجب التبشير بالإنجيل” الصادر في الثامن من كانون الأول سنة 1975 الذي يبحث في التبشير بالإنجيل، إنّ هذا التبشير – الذي يهدف إلى حمل البشارة إلى جميع الناس ليحيوا منها – هو واقع غنيّ، مركّب، حيوي، مؤلّف من عناصر أساسية يختلف أحدها عن الآخر، علينا أن نلفّها بنظرة وجدانية واحدة (48). والتّعلم المسيحيّ هو، في الحقيقة، عنصر من هذه العناصر التي تشكّل مسار التبشير بالإنجيل.
التعليم المسيحيّ وأول إعلان عن الإنجيل
19- إنّ ما للتّعلم المسيحيّ من طبيعة خاصة تميّزه عن أوّل إعلان للإنجيل وتؤدّي إلى الاهتداء إلى الإيمان، يتوخّى أمرين: البلوغ بالإيمان الناشئ في النفس إلى حالة النضج وتثقيف تلميذ المسيح الحقيقيّ بمعرفة شخص المسيح ربّنا معرفة أكثر عمقاً وانتظاماً (49).
لكن طريقة التعليم المثلى هذه، يجب أن تحسب حساباً، في الاستعمال اليوميّ، لهذا الواقع وهو أنّه غالباً ما لا يكون قد تمّ أول إعلان للإنجيل، لأن هناك بعضاً من الأولاد المعمّدين، في مستهل طفولتهم، يتلقّون التّعليم المسيحيّ الرعويّ دون أن يكونوا قد اطّلعوا على مبادئ الإيمان ودون أن تقوم بينهم وبين السيد المسيح أية رابطة شخصية واضحة، ولكنّهم أوتوا القدرة على الإيمان بفضل العماد وحضور الروح القدس المفاض عليهم. ولا يلبث ما تشربّوه في عائلاتهم المتراخية في مسيحيّتها من أفكار معادية للدين، وما تلقّوه من تربية مشبعة بروح ما يسمّى “بالفلسفة الوضعيّة”، أن يثير في النفوس الحذرة الممانعة والنفور. وينضاف إلى هؤلاء غيرهم من الأولاد الغير معمّدين الذين لا يرضى آباؤهم بأن يتلقّوا التّعليم المسيحيّ إلاّ بعد أن يكونوا قد كبروا، وهذا ما يفضي بهم غالباً، لأسباب واقعيّة، إلى قضاء جانب كبير من المرحلة الإعدادية لقبول الإيمان، في التّعليم المسيحيّ العادي. وبعد، فهناك عدد كبير من المراهقين أو من هم دون سنّ المراهقة، يتردّدون طويلاً – برغم أنّهم معمّدين، وقد تعلّموا التّعليم المسيحي بطريقة مضطردة، ويتقبّلون الأسرار – في وقف حياتهم على السيد المسيح، هذا إذا لم يسعوا بحجّة المحافظة على حريّتهم إلى التملّص من التربية الدينية. وأخيراً، إنّ البالغين أنفسهم ليسوا في مأمن من تجارب الشكّ وفقدان الإيمان، على الأخصّ بسبب المجتمع الملحد الذي يعيشون فيه. وهذا معناه أنه يجب على “التّعليم المسيحي” ألا يعني بتغذية الإيمان وتلقينه وحسب، بل أن يستثير هذا الإيمان ويبعثه، بمساعدة النعمة، وأن يفتح القلوب ويرشد إلى سُبل الهداية ويعمل، إذا كان هناك من هم على عتبة الإيمان، على حملهم على اتّباع يسوع المسيح دونما تحفّظ. وتشمل هذه العناية وتوجّه، إلى حدّ، التعليم المسيحيّ واللغة المستعملة له وأسلوب تلقينه.
غاية التعليم المسيحي الخاصة
20- غاية التعليم المسيحيّ الخاصّة هي السعي، بعون الله، إلى دفع الإيمان الناشئ إلى التقدّم وتسيير الحياة المسيحية، لدى المؤمنين، من كل الأعمار، على طريق الكمال وتعهدّها بالغذاء اليوميّ. فالقضية إذن هي قضية العمل، سواء أكان عن طريق المعرفة أم الممارسة، على تنمية بذار الإيمان التي يبذرها الروح القدس مع أول إعلان للإنجيل والتي نقلها العماد بطريقة فعّالة.
فالتعليم المسيحيّ يرمي إذن إلى تعميق فهم سرّ المسيح، على ضوء الكلمة التي يستضئ الإنسان كلّه بنورها، حتى إذا جلبته النعمة وأصبح خليقة جديدة، ابتدأ يتبع المسيح ويتعلّم في الكنيسة، يوماً بعد يوم، كيف يفكّر مثله ويحكم مثله ويسير بمقتضى وصاياه ويأمل على نحو ما يدعونا هو إلى الأمل.
ونعلن بعبارة أدقّ أن التعليم المسيحي يسعى، ضمن إطار العمل على التّبشير بالإنجيل، إلى أن يكون مرحلة تثقيف وإنضاج، أعني فترة من الزمن يسعى المسيحي فيها، بعد أن تقبّل السيّد المسيح واعترف به ربّاً أوحد وعزم على اتّباعه عزماً صادقاً صادراً عن قلب اهتدى بإخلاص، إلى تعميق معرفته بيسوع هذا الذي استسلم له: أي معرفة “سرّه” وملكوت الله الذي يعلن عنه والمتطلّبات والمواعيد التي تنطوي عليها بشارته الإنجيلية، والطرق التي يرشد إليها جميع الذين يريدون اتّباعه.
وإذا صحّ أن يكون الإنسان مسيحياً معناه التسليم للمسيح، فلا بدّ من الإقرار بأنّ هذا التسليم يتمّ على صعيدين وهما: لا الاستسلام لكلمة الله والاتكال عليها وحسب، بل السعي أيضاً كل يوم إلى الغوص على ما في هذه الكلمة من معانٍ سامية.
ضرورة تلقين التعليم المسيحيّ تلقيناً مضطرداً
21- في الخطاب الذي ألقاه البابا بولس السادس في ختام الجمعية الرابعة العامة لمجمع الأساقفة، هنّأ الآباء المجتمعين بقوله: “يسرّنا جداً أن نلاحظ أن الجميع شدّدوا على الحاجة الملحّة إلى تلقين التعليم المسيحي تلقيناً منتظماً مضطرداً لأن الغوص على السرّ المسيحيّ والتأمّل فيه يميّزان أساساً التعليم المسيحيّ عما سواه من سائر أنواع التبشير بكلمة الله” (50).
ولما كانت الصعوبات تنشأ عادة لدى الممارسة فتحسن الإشارة إلى بعض من الخصائص التي تميّز هذا التعليم دون التوقّف على ما سواها:
– يجب أن يكون تعليماً منتظماً مستنداً إلى بعض قواعد، أي أن يلّقن وفقاً لمنهج موضوع، فلا يكون مرتجلاً، بل يلقى وفقاً لنظام محدّد يمكن معه بلوغ الغاية المبتغاة.
– أن يعالج الأمور الهامّة والضرورية دون أن يتعرّض لجميع القضايا المختلف عليها ودون أن يصبح بحثاً لاهوتياً أو شرحاً علمياً.
– أن يكون وافياً بحيث لا يكتفي بإعلان أوّلي مبدئي عن السرّ المسيحيّ الذي قبلناه عن طريق التبشير الأول بالإنجيل.
– أن يكون تعريفاً كاملاً بالدين المسيحيّ يشمل جميع عناصر الحياة المسيحية.
ولهذا أنّا، دون أن نهمل ما لمختلف المناسبات في الحياة الشخصية والاجتماعية والكنسيّة من أهميّة يجب الاستفادة منها لتلقين التّعليم المسيحيّ، – و هذا ما سنتحدث عنه في القسم الرابع – نشدّد على ضرورة تلقين التّعليم المسيحيّ تلقيناً منتظماً وفقاً لمنهج موضوع، ذلك أنّنا نسمع من هنا وهناك أصواتاً يعتبر أصحابها أن التّعليم المسيحيّ أمر لا طائل تحته.
التعليم المسيحيّ والاختبار الحياتيّ
22- وممّا لا شكّ فيه أنّ معارضة التصرّف السليم بالعقيدة السليمة محاولة لا جدوى منها لأن الدين المسيحي يشمل كلا الأمرين ويربط بينهما برباط وثيق، ما دامت هناك قناعات راسخة متأصلّة في الوجدان تحمل على العمل بجرأة واستقامة، وما دام الجهد المبذول لتربية المؤمنين بالمسيح لكي يعيشوا اليوم عيش تلامذة المسيح، يقضي بتسهيل التعمّق في معرفة “سرّ المسيح”.
وممّا لا جدوى فيه أيضاً الإعراض عن درس رسالة المسيح درساً عميقاً منظّماً لاستبداله بخطّة تتركّز على الاختبار الحياتي. ومن الثابت أنه “ما من أحد يمكنه أن يبلغ الحقيقة التامة بالاستناد إلى مجرّد اختبار بسيط خاص، أي دون شرح وافٍ لرسالة المسيح الذي هو “الطريق والحقّ والحياة” (يو 14، 6) (51).
فلا يتجاسرنّ أحدٌ إذن على وضع التعليم المسيحي النابع من الحياة في مقابل التعليم المسيحيّ التقليدي العقائدي الملّقن تلقيناً سليماً منتظماً (52).
إن التعليم المسيحي الحقّ هو دائماً ذاك الذي يمكن المرء معه أن يطلّع اطلاعاً أكيداً منتظماً أسلوبياً على الوحي الذي أعلن الله فيه عن ذاته بيسوع المسيح والذي تختزنه الكنيسة في أعماق الذاكرة وتنشره باستمرار، عن طريق “التّقليد” الحيّ الفعّال، على أجيال الناس. ولا سبيل إلى فصل هذا الوحي عن الحياة ولا إلى وضعه وضعاً مصطنعاً في مقابلها. ذلك أنّه يتناول الغاية الأخيرة من وجود الإنسان ومعنى هذا الوجود وينيره بكامله لكي يحفزه إلى الأمام أو يناقشه الحساب، على ضوء الإنجيل.
ولهذا يمكننا أن نطبّق على معلمّي التّعليم المسيحيّ هذه العبارة المثقلة بالمعاني التي أوردها المجمع الفاتيكاني في معرض كلامه، على وجه الخصوص، عن التّعليم المسيحيّ الذي يلقيه الكهنة بقوله عنهم: “ليكونوا مربّي الإنسان والحياة الإنسانيّة… في الإيمان” (53).
التعليم المسيحيّ والأسرار
23- يرتبط التّعليم المسيحيّ بطبيعته بجميع الاحتفالات الطقسيّة ولاسيما تلك التي توزّع فيها الأسرار، لأن السيد المسيح يعمل في الأسرار، وعلى الأخصّ في سرّ الإفخارستيا، على أفضل وجه على تغيير الناس.
ولهذا كان، في عهد الكنيسة الأول، الإعداد لاعتناق الدين المسيحي والاستعداد لاقتبال سرّي العماد والإفخارستيا، أمرين متلازمين. وحتى اليوم، برغم أن الكنيسة خرجت، في هذا المجال، في البلدان المتقادمة العهد بالمسيحية، على العادة المألوفة قدماً، فإن الإعداد لاعتناق الدين المسيحيّ لم يلغَ، لا بل أنه يزدهر (54)، وهو غالباً ما يمارس في كنائس الرسالات الحديثة. وعلى كل حال، إن التعليم المسيحيّ يحتفظ دائماً بما يشدّه إلى الأسرار من رباط. فمن جهة إن خير صيغة للتعليم المسيحيّ هي تلك التي تؤهّب النفوس لاقتبال الأسرار، وكل تعليم مسيحيّ يقود حتماً إلى أسرار الإيمان، ومن جهة ثانية ما من سبيل إلى ممارسة الأسرار ممارسة صحيحة ما لم يسبقها نوع من التّعليم المسيحيّ، وبعبارة أخرى، إن الحياة النابعة من الأسرار تعتلّ وسرعان ما تصبح ممارسة فارغة جوفاء، ما لم تستند إلى معرفة أكيدة حقيقية لمعنى الأسرار، والتعليم المسيحيّ عينه يرتدي طابعاً نظرياً ليس إلاّ، ما لم يتغذّ بممارسة الأسرار.
التعليم المسيحيّ والجماعة الكنسيّة
24- ويرتبط التّعليم المسيحيّ أخيراً ارتباطاً وثيقاً بما يلزم واجب الضمير الكنيسة والمسيحيّين في العالم بالقيام به من عمل. فمن اتبع المسيح عن إيمان وسعى إلى توطيد هذا الإيمان بالاستناد إلى التعليم المسيحيّ ألجأته الحاجة إلى مخالطة من سلكوا الطريق عينه ومشاركتهم. ويخشى أن يصاب التعليم المسيحيّ بالعقم إن لم تحتضن الجماعة المسيحيّة التي تحيا إيمانها، الموعوظ الذي يكون قد قطع مرحلة في تلقّن التّعليم المسيحيّ.
فعلى الجماعة المسيحيّة إذن، أيّاً كان مستواها، أن تؤدّي، في ما يتعلّق بالتّعليم المسيحيّ، هاتين الخدمتين وهما: العمل على تفقيه أعضائها في شؤون الدين وتوفير بيئة لهم إنسانية وطبيعية يتمكّنون معها من المحافظة على ما تلقّنوه بعيشهم إيّاه على أكمل وجه.
ويسعى التعليم المسيحيّ أيضاً إلى الاندفاع في حقل الرسالة، فإذا تلقّنه المسيحيّون على وجه صحيح، تاقوا من صميم قلوبهم إلى تأدية الشهادة عن إيمانهم وإلى نقله إلى أبنائهم والكشف عنه لسواهم من الناس وإلى خدمة المجتمع بجميع الطرق.
الحاجة إلى التعليم المسيحيّ، بمعناه الواسع من أجل إنضاج الإيمان وتقويته
25- وهكذا يعمل التعليم المسيحيّ إذن على تعميق فهم أوّل تبشير بالإنجيل شيئاً فشيئاً – وهو تبشير حرّك يوماً أعماق الإنسان، بما فيه من زخم وقوّة، فحمله على الاستسلام بالإيمان إلى يسوع المسيح – وعلى تنميته بما ينجم عنه من نتائج “ضمنيّة” وعلى شرحه شرحاً يعتمد على العقل ويقود إلى ممارسة الحياة المسيحية في الكنيسة والعالم. وإن هذا كلّه لا يقلّ مضموناً إنجيلياً عن أول تبشير بالإنجيل، مهما قال من يظنّون أن التّعليم المسيحي يضحي حتماً، بهذه الطريقة، عقلياً، جافاً، ويطفئ ما كان في التبشير الأول بالإنجيل من حياة وعفوية وحرارة. فالحقائق المكتنهة اكتناهاً عميقاً في التّعليم المسيحيّ هي التي أخذت بمجامع قلب الإنسان لدى سماعه إياها لأول مرّة. وما كان التعمّق في معرفتها ليقضي عليها أو يضعفها أو يجفّفها، بل إنه يزيدها زخماً وتأثيراً في الحياة.
ويحافظ التعليم المسيحيّ، وفقاً لما عرضناه له من مفهوم، على طابعه الرعويّ الذي رآه المجمع من زاويته. ولا يتنافى هذا المفهوم الواسع للتّعليم المسيحيّ وهذا التعليم بالذات إذا أخذناه بمعناه الحصريّ الذي كان غالباً ما يؤخذ به في الماضي لدى العرض التّعليمي: أي هذا التعليم البسيط الذي تعبّر فيه عن الإيمان صيغٌ تشمله بكامله وتتعدّاه.
وإذا أردنا أن نوجز فنقول إن التعليم المسيحي ضروري للبلوغ بإيمان المسيحيين إلى حالة النضج، وفي الوقت عينه لتمكين هؤلاء من تأدية الشهادة في العالم. وهذا يرمي إلى تمكيننا، نحن معشر المسيحيّين من أن “نصل بأجمعنا إلى وحدة الإيمان بابن الله ومعرفته ونصير الإنسان الكامل ونبلغ القامة التي توافق سعة المسيح” (55)، ونردّ على من يطلب منّا دليل ما نحن عليه من الرّجاء (56).
-4-
نهل النبأ المفرح بكامل من معينه
محتوى الرسالة
26- لمّا كان التّعليم المسيحيّ جزءاً أو وجهاً من التبشير بالإنجيل، فلا يمكن أن يكون محتواه العقائدي غير محتوى التبشير بالإنجيل كاملاً تامّاً: أي الرسالة عينها – نبأ الخلاص المفرح – التي طرقت الآذان مرّة ومئات المرّات وتقبلّتها الجوانح وتناولها البحث دونما انقطاع في التّعليم المسيحيّ تأمّلاً وتمحيصاً منتظماً وتجديداً لوعي ضميريّ – يزداد مع الأيام الزاماً – لمفاعيلها بالنسبة إلى حياة كل من الناس بمفرده ويشمل هذا البحث اندراجها في محيط متماسك متآلف هو محيط الحياة المسيحية في المجتمع والعالم.
الينبوع
27- وينهل التعليم المسيحيّ دائماً مادّته ومحتواه من الينبوع الحيّ، ينبوع كلمة الله التي انتقلت عن طريق التقليد والكتاب المقدّس، لأنّ “التقليد والكتاب المقدس يكوّنان وديعة واحدة هي وديعة كلام الله المعهود بها إلى الكنيسة”، على ما يذكّر به المجمع الفاتيكاني الثاني، متمنياً في الوقت عينه أن “تغتذي خدمة الكلمة، أعني الكرازة الرعوية والتّعليم المسيحيّ وكل إرشاد مسيحيّ غذاءً سليماً وتتجدّد بالقوّة المقدسة من كلام الكتاب المقدّس عينه” (57).
والكلام عن التقليد والكتاب، على أنّهما ينبوع التعليم المسيحيّ، لا يعني التأكيد على أن هذا التعليم يجب أن يتملأّ ويتشبّع من الأفكار والروح والنظرة الكتابية والإنجيلية باستعمال النصوص عينها استعمالاً متواصلاً وحسب، بل يعني أيضاً التذكّر أن التّعليم المسيحيّ يزداد غنىً وفعالية بقدر ما يقبل على قراءة الكلمات بذهنيّة الكنيسة وروحها مستلهماً تفكيرها وحياتها على مدى ألفي سنة.
وتنبع عقيدة الكنيسة وطقوسها وحياتها من هذا الينبوع وترجع إليه برعاية الرعاة وعلى الأخصّ السلطة التّعليمية التي تعلّم العقيدة التي وكلها إليها الرب عينه.
“قانون الإيمان” خير تعبير عن العقيدة
28- إن خير تعبير عن الإرث الحيّ الذي تقبّله هؤلاء الرّعاة، ليحافظوا عليه، نجده في “قانون الإيمان” أو بعبارة أوضح في قوانين الإيمان التي أوجزت إيمان الكنيسة، في أحرج الأوقات، وأفرغته في نصوص مختصرة رائعة. وقد أصبح “تسليم موجز الإيمان” مع تعاقب العصور، جزءاً هاماً من التعليم المسيحي، وعقبه تسليم الصلاة الربية. وقد عاد تعليم الموعوظين في أيّامنا هذه إلى هذه الرتبة التي تعني الكثير (58). أفلا ينبغي التوسّع في استعمال هذه الرتبة استعمالاً يتلاءم والعصر الحاضر بحيث تشكّل مرحلة هامّة، إلى جانب ما سواها من مراحل، يتلقّن فيها تلميذ المسيح الجديد عن وعي تام وشجاعة كاملة محتوى ما سيكون لديه موضوع درس وبحث جديين؟
وقد جمع سلفنا بولس السادس في “قانون إيمان شعب الله” الذي أعلنه بمناسبة مرور تسعة عشر قرناً على استشهاد الرسولين بطرس وبولس، أهم عناصر الإيمان الكاثوليكي، ولاسيمّا تلك التي فيها بعض الصعوبة أو يخشى إساءة فهمها (59). وما لاشك فيه أن في هذا القانون عقيدة يفيد منها التّعليم المسيحيّ.
عناصر لا يمكن إهمالها
29- وبعد فقد ذكّر الحبر الأعظم عينه في القسم الثالث من الإرشاد الرسولي “وجوب التبشير بالإنجيل” بالعناصر الأساسية أو الجوهر الحيّ للتبشير بالإنجيل (60). ولذلك يجب في التعليم المسيحي ترسيخ كل من هذه العناصر في الذاكرة، كما يجب ترسيخ المختصر الحيّ الذي انسكبت فيه (61).
وحسبنا أن نذكر هنا بعضها (62). يدرك الجميع مثلاًُ كم يهم شرح “ما يمكن معرفته عن الله” (63) للولد والمراهق ولكل من يتقدّم في الإيمان، ليصبح بالإمكان أن يقال لهم على نحوٍ ما: “أنا أبشّركما بذاك الذي تعبدونه ولا تعرفونه” (64)، وكم يهمّ تعريفهم بوجيز العبارة (65) بسرّ كلمة الله الذي صار إنساناً وأتمّ خلاص البشر بفصحه، أي بموته وقيامته، وكذلك بكرازته وبما أتاه من عجائب وبأسرار حضوره الدائم فيما بيننا. ولقد كان آباء المجمع حقاً ملهمين حين طالبوا بوجوب الحذر من قصر السيّد المسيح على إنسانيّته، وقصر رسالته على بعدها الأرضي فقطن وشدّدوا على وجوب الاعتراف به ابناً لله ووسيطاً يفتح لنا، بالروح القدس، الطريق حراً إلى الله (66).
وإنه لمن الأهمية بمكان أن يُبسَط أمام العقل والقلب، على ضوء الإيمان، سر حضوره هذا الذي هو سرّ الكنيسة، أي جماعة الناس الخطأة وفي الوقت عينه المقدّسين الذين يؤلّفون عائلة الله التي جمعها الرب برعاية أولئك الذين جعلهم “الروح القدس حراساً ليرعوا كنيسة الله” (67).
ومن المستحسن كذلك أن يعلّم أن الله أخذ على عاتقه، بابنه يسوع المسيح، تاريخ البشر بما يتميّز به من نعمة وخطيئة وعظمة وحقارة وهو “يعطي بذلك صورة ظليّة عن الدهر الآتي” (68).
ويجب أخيراً الكشف بوضوح عن المقتضيات – بما فيها من نكران ذات وغبطة – التي يفرضها ما طاب لبولس الرسول أن يدعوه “جدّة الحياة” (69)، و”خليقة جديدة” (70) والكينونة أو الحياة في المسيح (71)، و”الحياة الأبدية في المسيح يسوع” (72)، وما هو إلاّ الحياة في هذا العالم ولكنها حياة يحياها من يحياها وفقاً للتطويبات فتمتدّ، على ما هي معدّة له، وتتحوّل في السّماء.
ومن هنا، في التعليم المسيحيّ، أهميّة المقتضيات الأخلاقية الشخصية المتلائمة والإنجيل وطرق التصرّف المسيحيّة في الحياة والعالم، سواء أ كانت بطوليّة أم بسيطة، فإنا ندعوها فضائل مسيحيّة إنجيلية. ومن هنا أيضاً حرص التّعليم المسيحيّ، في ما يبذله من جهود بغية تربية الإيمان، على عدم إغفال بعض قضايا، لا بل على بسطها بوضوح – على ما ينبغي – من مثل عمل الإنسان على تحريره التام (73) والسعي إلى بناء مجتمع أكثر تضامناً وتآخياً والنضال من أجل تحقيق العدالة والسلام.
ويجب ألاّ يسود الاعتقاد، من جهة ثانية، أن نظرة التّعليم المسيحيّ هذه هي جديدة كل الجدّة، وقد سبق في عهد آباء الكنيسة للقديس أمبروسيوس والقديس يوحنا فمّ الذهب – لكيلا نذكر سواهما – أن أبرزا ما ينجم عن مقتضيات الإنجيل من نتائج اجتماعية. وفي العصر الحديث، أدرج التّعليم المسيحيّ المعروف باسم البابا بيوس العاشر القديس في لائحة الخطايا التي تستدعي الانتقام من الله، الجور على الفقراء وحرمان العمّال أجرهم العادل (74). وعلى أثر صدور الرسالة البابوية “الشؤون الجديدة” وجّه الأحبار الرومانيّون والأساقفة اهتماماً كبيراً إلى القضايا الاجتماعية في ما قاموا به من تعليم مسيحي. وطالب بإلحاح كثيرٌ من آباء المجمع وبحقّ باستعمال ما في وثائق الكنيسة من تراث غني حول القضايا الاجتماعية استعمالاً صحيحاً ملائماً في تربية المؤمنين تربية دينيّة عامة.
سلامة المحتوى
30- في ما خصّ مادة التعليم المسيحيّ أو مواضيعه، هناك ثلاث نقاط تستوجب في أيّامنا اهتماماً كبيراً. أولى هذه النقاط تتناول سلامة العقيدة. من حقّ تلميذ المسيح لكي تكون ذبيحة إيمانه (75) كاملة، ألا يقبل “كلام الإيمان” (76) مبتوراً، مشوّهاً، منقوصاً، بل كاملاً، سليماً بكل ما فيه من دقّة وقوّة. والانتقاص، من بعض الوجوه، من سلامة الرسالة، معناه تفريغ التّعليم المسيحيّ عينه من مضمونه تفريغاً خطراً يؤدّي إلى المجازفة بالثمار التي من حقّ السيّد المسيح والجماعة الكنسيّة أن ينتظراها منه. وليس من باب الصدفة ولاشك، أن ترتدي وصيّة المسيح الأخيرة في إنجيل متى طابع الشّمول، وقد جاء فيها قوله: “أعطيت كل سلطان… علّموا جميع الأمم… علّموهم أن يحفظوا جميع…. وسأكون معكم جميع الأيام…” ولهذا السبب لا يمكن، بأية حجّة كانت، حرمان من نفذ إلى “معرفة يسوع المسيح السامية” (77) التي جاءت عن طريق الإيمان، أي جزء من هذه المعرفة، فيما هو يتشّوق، ولو بطريقة غير واعية، إلى التبسّط والتعمّق فيها بواسطة الوعظ والتّعليم “وفقاً للحقيقة التي في المسيح” (78). وأي تعليم مسيحيّ يكون ذاك الذي لا يحتلّ فيه المكان اللائق خلقُ الإنسان وخطيئته، وعزم الله على الفداء والإعداد الطويل له بمحبّة، وتحقيقه، وتجسّد ابن الله، والبتول مريم البريئة من الخطيئة أم الله الدائمة البتولية التي صعدت بالجسد والنفس إلى المجد السماويّ ودورها في سرّ الخلاص، وسرّ الإثم الذي يعمل في حياتنا (79)، وقوّة الله التي حرّرتنا منه، والحاجة إلى التوبة وممارسة التقشّف والأسرار والرتب الطقسيّة، وحقيقة الوجود القرباني، والمشاركة في الحياة الإلهيّة على هذه الأرض وبعد الموت وما شابه؟ وما من معلّم للتّعليم المسيحيّ جدير بهذا الاسم يجوز له، بالاستناد إلى رأيه الخاصّ أن ينتقي من وديعة الإيمان ما يحسبه مهماً وغير مهمّ فيعلّم ذاك ويهمل هذا.
اعتماد أساليب تعليميّة ملائمة
31- ومن ثم تجب الملاحظة ثانياً أنه قد تنصح الظروف الراهنة المتعلّقة بالتّعليم المسيحيّ وطريقة تلقينه وأسلوبه بتفضيل هذه الطريقة على تلك لنقل كنوز العقيدة المسيحيّة. وبعد فإن سلامة التّعليم لا تعفي البتة من واجب اعتماد التوازن ولا من تنسيق الأمور تنسيقاً ملائماً وإدراجها في سلّم الأولويّات بحيث يتاح لكل أن يولي الحقائق الواجب تلقينها والقواعد الواجب نقلها ونمط الحياة المسيحيّة الواجبة الإشارة إليه ما يستأهل من أهميّة. وقد يتفّق أن يكون استعمال هذا النوع من الكلام لنقل هذه العقيدة من عقائد التعليم المسيحي أكثر ملاءمة لبعض الناس أو بعض الفئات. ويسمح بهذا الانتقاء للعقائد بقدر ما لا يكون ذلك عن آراء شخصية وأحكام ذاتية مسبقة تحمل طابع بعض النظريات، بل يكون الدافع إليه الاهتمام، عن تواضع، بإدراك الحقيقة التي يجب أن تبقى سالمة إدراكاً أعمق، ويجب بالتالي اعتماد أسلوب التّعليم والكلام على أدوات تنقل لا جزءاً بل كامل “كلام حياة الأبد” (80) أو “طرق الحياة” (81).
البعد المسكونيّ للتعليم المسيحيّ
32- إن هذه الحركة الواسعة التي أثارها، دونما شكّ، روح يسوع، الذي دفع، منذ عدّة سنوات، الكنيسة الكاثوليكية إلى السعي مع سواها من الكنائس والمذاهب المسيحيّة إلى استعادة الوحدة الكاملة التي أرادها الرب، تهيب بنا إلى التحدث عن الطابع المسكونيّ للتّعليم المسيحيّ. وقد نهلت هذه الحركة قوتها من معين المجمع الفاتيكاني الثاني (82)، وعرفت بعد المجمع انتشاراً جديداً جسّده عدد من الوقائع الشهيرة والمبادرات التي أصبحت معروفة لدى الجميع.
وممّا لا ريب فيه أنّ التعليم المسيحيّ لا يمكنه أن يكون غريباً عن هذا البعد المسكوني، فيما يُدعى جميع المؤمنين، كلٌ حسب طاقته وحالته، إلى الاشتراك في هذه الحركة نحو الوحدة (83).
ويتّخذ التعليم المسيحي بعده المسكونيّ في الواقع إذا كان، وهو لا يفتأ يعلّم أن ملء الحقائق الموحاة ووسائل الإخلاص التي وضعها المسيح هي موجودة في الكنيسة الكاثوليكية (84)، يفعل ذلك بما يجب من الاحترام الخالص، قولاً وفعلاً، للجماعات الكنسيّة التي لا تعيش بعد في مشاركة تامة مع هذه الكنيسة بالذات.
وإنّه لمن المهمّ جداً في هذا المجال أن تعطى صورة صحيحة صادقة عن باقي الكنائس والجماعات الكنسيّة التي لا تأبى روح المسيح استخدامها لحمل الخلاص بواسطتها. “وفضلاً عن ذلك، يمكننا أن نجد خارج نطاق الكنيسة الكاثوليكية المنظور بعضاً لا بل الكثير الممتاز من العناصر أو المقوّمات الخيّرة التي يبني مجموعها الكنيسة ويحييها” (85). والحقّ يقال إن صورة هذه الكنائس، بقطع النظر عمّا سوى ذلك، تساعد الكاثوليك من جهة على التعمّق في إيمانها الخاص، ومن جهة ثانية على معرفة الأخوة المسيحيين أفضل معرفة، وبالتالي على تقديرهم، وهذا ما يسهل عليهم البحث معاً عن طريق يقود إلى وحدة الحقيقة الكاملة. وممّا لا شكّ فيه أن هذا التعارف يسعف أيضاً غير الكاثوليك على تفهّم الكنيسة الكاثوليكية خير تفهّم وعلى تقديرها وتقدير السبب الذي من أجله قد رسخ في يقينها أنها هي وسيلة “الإسعاف العام للخلاص”.
ويتّخذ التعليم المسيحيّ، علاوة عن ذلك، بعداً مسكونياً، إذا أثار رغبة صادقة في الوحدة وغذّاها، لا بل إذا دعا إلى بذل جهود حثيثة جديّة – ومن بينها العمل، كل بمفرده، على تطهير الذات بالتواضع وحرارة الروح بغية شقّ الطريق إلى الوحدة – لا من أجل نوع من المسألة السهلة القائمة على إهمالات وتنازلات على الصعيد العقائدي، بل من أجل هذه الوحدة الكاملة، متى وكيفما يريدها الرب.
ويكون التعليم المسيحيّ أخيراً مسكونياً، إذا عمل على إعداد الأولاد والشبّان وحتى البالغين من الكاثوليك على العيش مع غير الكاثوليك، على أن يثبتوا في الوقت عينه، هويتهم الكاثوليكية واحترامهم لإيمان الآخرين.
التعاون المسكونيّ في حقل التعليم المسيحيّ
33- لمّا كان هناك عدة أديان تتعايش، قد يرى الأساقفة أنّه من المستحسن أو بالأحرى من الضروري أن تتضافر الجهود بين الكاثوليك وباقي المسيحيّين في مجال تلقين التّعليم المسيحيّ، وهذا يكون اتماماً للتّعليم المألوف الذي لابدّ للكاثوليك، في كلّ حال، أن يتلقنوه من باب الضرورة.
ولهذه الاختبارات أساس لاهوتيّ في العناصر المشتركة بين جميع المسيحيّين (86) ولكن، لمّا كانت هذه المشاركة بين الكاثوليك وباقي المسيحيين غير تامة وكاملة، لما لا يزال بينهم من خلافات كبيرة حول بعض القضايا، فإنّ التعاون الذي تحدّثنا عنه هو بالنتيجة محدود من طبعه، ولا يمكن البتة ردّه مثلاً إلى بعض عناصر قليلة مشتركة. وفضلاً عن ذلك، إن التعليم المسيحيّ لا يقوم على نقل العقيدة، بل على الدفع إلى الالتزام بالحياة المسيحيّة الشاملة وما يرافقها من اشتراك في أسرار الكنيسة. ولذلك ينبغي السهر، حيثما يقوم التعاون في مجال التعليم المسيحيّ، على تأمين تثقيف الكاثوليك على أفضل وجه في الكنيسة، في كل ما يتعلّق بالعقيدة والحياة المسيحية. وقد أشار بعض الأساقفة، إبّان انعقاد المجمع، إلى حالات لا تزال تتكاثر، على ما أعلنوا، توجب فيها السلطة المدنية أو ظروف أخرى تلقين التّعليم المسيحيّ في مدارس بعض البلدان تلقيناً مشتركاً، من حيث الكتب المستعملة والتوقيت وما شابه من أمور، بين الكاثوليك وغير الكاثوليك. وما من حاجة إلى القول أن هذا التعليم ليس بالتّعليم المسيحيّ الصحيح.
ولكنّ مثل هذا التعليم بإمكانه أن يتّخذ أهميّة مسكونيّة، إذا عرض العقيدة الكاثوليكية بأمانة. وحيثما تفرض الظروف مثل هذا النظامن لابدّ من العمل على تأمين التّعليم المسيحيّ بطريقة أخرى وإيلائه المزيد من العناية ليكون تعليماً كاثوليكياً جديراً بهذا الاسم.
مشكلة الكتب المتعلّقة بمختلف الأديان
34- وإلى ذلك تجب إضافة ملاحظة مماثلة، ولو من زاوية مختلفة. قد يحدث أن تقدّم المدارس للتلامذة كتباً تعرض مختلف الأديان بما فيها الدين الكاثوليكي، وذلك بغية توفير ثقافة لهم إنسانية في الشؤون التاريخية والأخلاقية والأدبية. وما من شكّ في أن عرض القضايا التاريخية والأديان المختلفة والمذاهب المسيحية المتنوعة عرضاً موضوعياً يمكنه أن يؤدي إلى تعارف أفضل، لكما يجب السهر وبذل قصارى الجهد ليكون العرض موضوعياً خالياً من النظم الأسلوبية العقائدية والسياسية أو من أضرار العقائد المزيّفة التي تعودّت أن تشوّه معناه الحقيقي.
ومهما يكن من أمر، إن هذه الكتب لا يمكن اعتبارها مؤلّفات في التّعليم المسيحيّ لافتقارها إلى شهادة مؤمنين يعلّمون الإيمان سواهم من المؤمنين، ولخلوّها من تفهّم الأسرار المسيحيّة وممّا يميّز الدين الكاثوليكي من طابع نابع من داخل الإيمان.
-5-
الجميع يحتاجون إلى تلقُّن التعليم المسيحي
أهميّة الأولاد والشُبّان
35- كان عنوان الموضوع الذي حدّده سلفنا بولس السادس للجمعية العامة لمجمع الأساقفة “في واجب تلقين التعليم المسيحيّ في عصرنا على الأخص للأولاد والشبّان”. لاشكّ في أن تزايد الشبان يحمل معه ولا ريب أملاً كبيراً، لكنّه في الوقت عينه، يتسبّب بقلق قسم كبير من عالمنا المعاصر. إن نصف السكّان في بعض بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، على الأخصّ، هم دون سن الثامنة عشرة أو الثلاثين. وهذا يعني أن هناك ملايين من الأولاد والشبّان باتوا يستعدّون ليحيوا حياة النضج والمستقبل. وهذا هو التقدير العددي وحسب، لكن هناك، فضلاً عن ذلك، الأحداث الأخيرة والأنباء اليومية التي تدلّ على أن هذه الكثرة التي لا تحصى من الشبّان – برغم ما يساورها هنا وهناك من شكّ وخوف وبرغم ما يغريها من هروب إلى الحياة الرخيّة واللامبالاة وتعاطي المخدرّات، وحتى برغم ما تنساق إليه من نزعة فوضوية مدمّرة وعنف – تشكّل في غالبّيتها السواد الأعظم من الناس الذين، على ما في ذلك من مخاطر كثيرة، يعقدون العزم على بناء مدنيّة المستقبل.
وإنّا أمام ما يثقل كاهلنا من مسؤولية رعوية، لنتساءل: كيف السبيل إلى الإعلان عن المسيح يسوع، الإله المتأنّس، لهذه الحشود من الأولاد والشبّان، والإعلان عنه لا تلبيّة لنزوة جانحة ناجمة عن أول لقاء عابر، بل عن طريق معرفة تتعمّق يوماً بعد يوم وتنير شخص المسيح ورسالة الله وقصده الذي أعلن عنه والنداء الذي يوجّهه إلى كل من الناس وتنير أخيراً ملكوته الذي شاء أن يقيمه في هذا العالم لدى “القطيع الصغير” (87) من المؤمنين والذي لن يتمّ إلاّ في الأبدية؟
وهناك ملاحظات لا بدّ منها حول الخصائص التي يتميّز بها التعليم المسيحيّ وفقاً لمختلف أطوار الحياة.
الأطفال
36- إنّها لفترة مهمّة، في غالب الأحيان، تلك التي يتلقّى فيها الطفل من والديه ومحيطه العائلي أولى مبادئ التّعليم المسيحيّ التي قد لا تكون سوى انفتاح بسيط على الآب السماوي الصالح العطوف الذي يتعلّم الطفل أن يوجّه إليه قلبه. وإن الصلوات القصيرة التي يتمتمها تشكّل بدء حوار ودّي مع الله المحجوب الذي يتعّود فيما بعد سماع كلامه. ولا يسعنا إلا أن نلحّ على الوالدين لكي يفقّهوا باكراً أولادهم في التعليم المسيحيّ لأنَّه بالنسبة إلى الوالدين المسيحيين يشكّل المجال الذي تنتظم فيه قوى الطفل وترتبط ارتباطاً حيوياً بالله. وهذا هو عمل عظيم يتطلّب محبّة سخيّة واحتراماً عميقاً للطفل الذي له الحقّ في عرض بسيط صادق للإيمان المسيحيّ.
الأولاد
37- وسرعان ما يحين الوقت، بعد ذلك، لتلقين التعليم المسيحي في المدرسة والكنيسة، في الرعية أو لدى المرشدين الروحيّين في المعهد الكاثوليكي أو المدرسة الرسمية. وفيما تنفتح بيئة الولد الاجتماعية وتتّسع، يُدخله التّعليم المسيحي بطريقة منتظمة مرتبّة في حياة الكنيسة ويؤهبّه للاحتفال بالأسرار دونما إبطاء، ويكون هذا التعليم قريب المتناول، لكنه موجّه صوب تأدية الشهادة للإيمان، ويكون أولياً، ولكن غير مجزّأ، ذلك أنه يجب أن يفتح – ولو بطريقة بدائية – جميع أسرار الإيمان المهمة ويبيّن أثرها على حياة الولد الأخلاقية والدينية. ويضفي أيضاً هذا التّعليم معنى على الأسرار عينها، ولكنه يتلقّى في الوقت عينه من الأسرار المعاشة زخماً حيوياً يحول دون بقائه عقيدة نظرية وحسب ويحمل إلى الولد هذا الفرح الذي يصبح معه شاهداً للمسيح في محيط حياته.
المراهِقون
38- وتأتي بعدئذ سنّ البلوغ والمراهقة وما تجرّه معها من قضايا كبيرة وخطيرة. وهو الزمن الذي يكتشف فيه الإنسان نفسه وعالمه الداخلي ويأخذ فيه المقاصد الكبرى السخية وتظهر مشاعر الحب ونزوات الجنس الطبيعية. إنه الزمن الذي تتقّد فيه الرغبة في اللقاءات الاجتماعية ويشعر فيه المرء بفرح عظيم يرتبط باكتشاف الحياة وما يرافقه من نشوة خارقة. وهذه السن هي غالباً ما تكون سنّ التساؤلات الدقيقة والأبحاث المقلقة وحتى المخيّبة، وسنّ الحذر والانكفاء الخطر على الذات، سنّ الاخفاقات الأولى أحياناً والخيبات المرّة. ولا يمكن التعليم المسيحيّ أن يهمل هذه الحالات السريعة التقلّب في هذه الفترة الصعبة من العمر. وباستطاعة التعليم المسيحيّ أيضاً أن يقوم بدور حاسم يقود المراهق إلى إعادة النظر في حياته الخاصة وإقامة حوار لا يتجاهل الأسئلة الخطيرة التي يطرحها على نفسه وهي: بذل الذات، الثقة، الحب ونقله بالمشاركة، أي الجنس، وإظهار يسوع المسيح صديقاً وهادياً ومثلاً جديراً بالإعجاب ومع ذلك قابلاً للاقتداء به، والإعراب عن رسالته التي تعطي جواباً عن هذه التساؤلات الأساسية وتبيان ما للمسيح المخلّص من قصد مفعم حباً يعرب عن الحب الوحيد الصادق الذي يمكنه أن يجمع بين الناس وإن هذا كله يصلح أن يكون أساساً لتربية صحيحة في الإيمان. ويمكن أسرار آلام المسيح وموته، على الأخصّ، التي عزا إليها القديس بولس فضل قيامته المجيدة أن تحدّث كثيراً ضمير المراهق وقلبه وتلقي ضوءاً على آلامه الأولى وآلام العالم الذي يكتشفه.
الشبّان
39- ويأتي بعدئذ، مع سنّ الشباب، زمن القرارات الأولى المهمّة. فينبغي على الشاب أن يبحث غالباً في مصيره ويتّخذ بشأنه القرار الضميريّ الحاسم، وذلك ربّما بمعاونة ذويه وأصدقائه ولكن بالاعتماد على نفسه وبالاستناد إلى ضميره، الذي خلا به وحده. ويشتدّ الصراع دائماً في داخله بين الخير والشرّ، النعمة والخطيئة، الحياة والموت كمبادئ أدبيّة – على ما هو واضح – ولكن أيضاً وعلى الأخصّ كاختيارات أساسية عليه أن يقبلها أو يرفضها عن وعي تامّ وشعور بالمسؤولية. ومن الواضح أن التعليم المسيحيّ الذي يقبّح الأنانيّة فيما هو يلقّن مكارم الأخلاق والذي يضفي على العمل والخير العام والعدالة والمحبّة ما لها من معنى ويعلّم السلام بين الشّعوب وينمّي الشعور بالكرامة الإنسانية وروح التحرّر، على ما ورد في الوثائق الكنسيّة الأخيرة (88)، يكمّل على أحسن وجه في أذهان الشباب ما أحسن تلقينهم إيّاه التعليم المسيحيّ من شؤون دينيّة بحصر المعنى لا يمكن إهمالها البتة. وهكذا يتخذ التعليم المسيحيّ أهمية كبرى، لأنه الزمن الذي يتيسر فيه عرض الإنجيل وتفهّمه واقتباله بحيث يعطي الحياة معناها ويلهم من المشاعر والمواقف ما يستحيل بدونه شرحه من مثل: بذل الذات والتجرّد والحلم والعدالة والالتزام والمصالحة ومعنى المطلق وغير المنظور وما شابه. وهذه كلّها خصائص تتيح لهذا الشاب أن يتميّز عن أقرانه بوصفه تلميذ يسوع المسيح.
ويعدّ التعليم المسيحيّ أيضاً للقيام بالواجبات المسيحية الخطيرة في سنّ البلوغ. وإذا نظرنا مثلاً إلى الدعوات الكهنوتية والرهبانية، فممّا لا شكّ فيه أنّا نرى أن الكثير منها قد نشأ بوحي من التّعليم المسيحيّ الملقّن في سنّ الطفولة والمراهقة.
وهكذا نرى أنّ التعليم المسيحيّ يصبح، من سنّ الطفولة حتى عتبة البلوغ، مدرسة دائمة، فيتابع مراحل الحياة كمصباح ينير طريق الطفل والمراهق والشاب.
تكييف التعليم المسيحيّ وفقاً للشبّان
40- وإنّا في الواقع قد اغتبطنا عندما لاحظنا إبان انعقاد الجمعية العمومية للمجمع وخلال السنوات التي تلته أن الكنيسة شاطرت مشاطرة واسعة عميقة في حمل هذا الهمّ هو: كيف العمل على تلقين الأولاد والشبّان التعليم المسيحيّ؟ رسّخ الله طويلاً في ضمير الكنيسة هذه العناية التي استيقظت فيه. لقد أفاد المجمع الكنيسة، بهذه الطريقة، إفادة كبرى، عندما سعى إلى رسم وجه شبيبة اليوم، على ما فيه من غموض، رسماً دقيقاً، وعندما أظهر أن هذه الشبيبة تستعمل لغة يجب الاعتصام بالصبر والتحلّي بالحكمة لمعرفة نقل بشارة يسوع المسيح بها دونما تشويه، وعندما أبان، خلافاً للظواهر، أن ليس للشبّان من استعداد الإرادة وانفتاح الذهن وحسب – ولو بطريقة غامضة – بل من الرغبة الصادقة أيضاً ما يدفعهم إلى معرفة من هو “يسوع هذا المدعوّ المسيح” (89)، وعندما أشار أخيراً إلى أنّ التعليم المسيحيّ، إذا كان هناك من يرغب في القيام به قياماً جدياً وبروح دينية، إنما هو عمل أصبح اليوم أشقّ وأصعب من ذي قبل لما يعترضه من عراقيل ويعتوره من صعوبات من كل نوع. ولكنّه في الوقت عينه ينبوع تعزية متزايدة لما يعطيه الأولاد والشبّان من أجوبة عميقة على ما يطرحه عليهم من أسئلة. وهذا هو كنز يمكن الكنيسة ويجب عليها أن تعتمد عليه في السنين المقبلة.
وفضلاً عن ذلك إن هناك فئات من الشبّان ممّن يتلقّون التعليم المسيحيّ يحتاجون إلى عناية بهم خاصة، لما هم فيه من حالة معيّنة.
المُعاقون
41- وإنَّا نفكّر أولا بالمعاقين جسماً وعقلاً. إن لهؤلاء مثل سواهم من أمثالهم حقاًَ في معرفة “سر الإيمان”. وما كان ما يعترضهم من صعوبات متزايدة إلا ليزيد ما لهم ولمعلّميهم من فضل في ما يبذلون من جهود. ولقد سرّنا أن نعرف أن هناك مؤسسات كاثوليكية تعنى على الأخصّ بالشباب المعاقين قد مدّت المجمع بما جنت في هذا المجال من ثمرة اختبار وأخذت من المجمع تصميماً جديداً على مواجهة هذه المشكلة بطريقة أجدى. وإنّا نريد أن نشجّع هذه المؤسسات ونثبّتها في هذا القصد.
شبّان دون مساعدة دينيّة
42- وتتجّه أفكارنا عندئذ إلى الأولاد والشبّان – وقد تكاثر عددهم – الذين ولدوا وتربّوا في بيت غير مسيحيّ أو على الأقلّ لا ممارسة دينية فيه، وهم يرغبون في معرفة الإيمان المسيحيّ. فيجب أن يعدّ لهؤلاء تعليم مسيحيّ يتفّق وحالتهم ليتمكنّوا من أن يترعرعوا ويكبروا في الإيمان برغم حاجتهم إلى مساعدة وحتى ولو لاقوا مقاومة في بيئتهم.
البالغون
43- وإنّا فيما نستعرض فئات الذين يجب أن يلقّنوا التعليم المسيحيّ، لا يمكننا أن نتجاهل همّاً هو من أكبر هموم آباء المجمع، وهو همّ نشأ عن الاختبار وأصبح في العالم أجمع مقلقاً ملحّاً، عنينا به مشكلة تلقين البالغين التعليم المسيحيّ. وصيغة هذا التعليم هي أهمّ الصيغ لأنها تتناول أشخاصاً ينهضون بمسؤوليات كبيرة وبمقدورهم أن يعيشوا البشارة المسيحيّة وأن يعيشوا بملئها (90). ولا تستطيع الجماعة المسيحيّة أن تعلّم التعليم المسيحيّ باستمرار ما لم تستعن استعانة مباشرة بالبالغين وبما لهم من خبرة، سواء من تلقنّه منهم أو من عمل على تنشيطه. ذلك أن العالم الذي ينبغي على الشبّان أن يعيشوا فيه ويشهدوا للإيمان الذي يتعمّق فيه التعليم المسيحيّ ويوطّده، إنّما هو عالم يقع في معظمه تحت سيطرة البالغين. لذلك وجب أيضاً أن يستنير إيمان هؤلاء دونما انقطاع ويستمرّ ويتجدّد لينفذ إلى الشؤون الزمنية من خلال الأعمال التي يتولّى إدارتها البالغون. ولهذا يجب أن يستمرّ التعليم المسيحي لكي يكون فاعلاً، وإذا وقف على عتبة سنّ البلوغ، كان عديم الفائدة، وقد اتّضح أنه لا بدّ منه للبالغين ولو كان، طبعاً، في صيغة مغايرة.
أشباه موعوظين
44- وتتجه عنايتنا الرعوية الإرسالية، بين مَن مِن البالغين يحتاجون إلى التّعليم المسيحيّ، إلى الذين ولدوا وتربّوا في أصقاع لم تتأثر بالدين المسيحي بعد، فلم يتمكنّوا من التعمّق في العقيدة المسيحية التي حملتهم ظروف الحياة يوماً على اكتشافها، وتتّجه إلى الذين تلقّوا التعليم المسيحي في سنّ الطفولة وفقاً لعمرهم، لكنهم ابتعدوا، فيما بعد، عن كل ممارسة دينيّة فبدوا في سنّ البلوغ وهم لا يملكون إلاّ معلومات دينية بدائية، وتتجه إلى الذين تلقّوا التعليم المسيحي باكراً ولاشكّ، ولكنه تعليم أسيء شرحه فهمه، وتتجه إلى الذين، وإن أبصروا النور في بلد مسيحيّ وحتى في محيط مسيحيّ من الناحية الاجتماعية، لكنهم لم يتربّوا في الإيمان بحصر المعنى فظلّوا، وهم بالغون، موعوظين.
صيغ تعليم مسيحيّ منوعّة ومتكاملة
45- إن البالغين، أيّاً كان عمرهم، والشيوخ أنفسهم الذين يجب أن توجّه إليهم عناية خاصة، نظراً إلى ما لهم من خبرة ولما يواجهون من مشاكل، يتلقّون التعليم المسيحيّ كالأطفال والأولاد والشبّان. ويجب، فضلاً عن ذلك، أن نذكر الجوّالين والنازحين والذين جعلهم التطوّر العصري هامشيّين والذين يعيشون في أحياء المدن الكبرى ولا كنائس فيها ولا أمكنة ولا ترتيبات مؤاتية…
نتمنّى أن تتكاثر، من أجل هؤلاء جميعاً، المبادرات التي ترمي إلى تثقيفهم ثقافة مسيحية بالاعتماد على الوسائل المؤاتية (من مثل الأدوات السمعيّة البصرية والكتيّبات واللقاءات والمحاضرات) لكي يستطيع الكثيرون من البالغين، إما أن يتمّوا ثقافتهم الدينية العرجاء أو الناقصة، وإمّا أن يستكملوا، على وجه لائق ومستوى أرفع، تلك التي تلقّوها أولاداً، وإما أيضاً أن يستزيدوا من هذه الثقافة بحيث يتمكنون من أن يساعدوا سواهم مساعدة أجدى وأفيد.
ومن الأهمية بمكان ألاّ يكوّن التعليم المسيحي للأولاد والشبّان، والتّعليم المسيحي المستمر، والتّعليم المسيحيّ للبالغين، قطاعات منفصلة لا اتصال بينها. لكنّه من المهمّ ألا ينقطع أحدها عن الآخر، لا بل يجب أن تتكامل في ما بينها، ذلك أن البالغين بإمكانهم أن يعطوا الشبّان والأولاد الكثير… في مادّة التعليم المسيحي، مثلما بإمكانهم أن يتلقّوا الكثير منهم ممّا يساعدهم على تنمية حياتهم المسيحية.
وإنّا لنجرؤ على القول أخيراً إنَّ ما من أحد في كنيسة يسوع المسيح باستطاعته أن يعتبر نفسه معفى من واجب تلقّن التعليم المسيحيّ. ونفكّر هنا أيضاً بالطّلاب الإكليريكيين الشبّان وأعضاء الرهبانيات الشبّان وبجميع الذين يجري إعدادهم للقيام بوظيفة رعاة ومعلّمي التعليم المسيحي. وإنّهم ليحسنوا القيام بهذه الوظيفة على قدر ما يضعون أنفسهم بتواضع في مدرسة الكنيسة التي هي، في وقت معاً، خير من علّم وتعلّم التعليم المسيحيّ.
-6-
بعض طرق ووسائل للتعليم المسيحي
وسائل الإعلام
46- منذ أن كان الرسل يعلّمون تعليماً شفهياً، وكانت الرسائل تتلى في الكنائس، حتى أيّامنا هذه التي تُستخدم فيها جميع أنواع الوسائل الحديثة، ما فتئ التّعليم المسيحيّ يبحث عن الطرق والأدوات التي تتلاءم ورسالته كل الملاءمة، وذلك بمشاركة الجماعات مشاركة دائبة وبتشجيع الرعاة. وتجب مواصلة هذه الجهود.
وتتبادر إلى الذهن الإمكانات الكبيرة التي تقدّمها سواء أكان وسائل الإعلام الاجتماعي، أم وسائل الاتّصال بالمجموعات، أي التلفزيون والراديو والصحافة والاسطوانات الصوتية والأشرطة المسجّلة وجميع الأدوات السمعيّة البصرية. ومن شأن هذه الجهود المبذولة في هذا المجال أن تبعث فينا أكبر الآمال، وقد دلّت الاختبارات مثلاً على ما للتّعليم عن طريق الراديو والتلفزيون من أثر فعّال، شرط أن يجمع بين العمل الفنيّ الجمالي الرفيع المستوى وبين الأمانة التامة لتعليم السلطة الكنسيّة. وتجد الكنيسة مناسبات كثيرة في هذه الأيّام لتعالج هذه الأمور – بما فيهم الأيام المحددّة للاحتفال بوسائل الإعلام الاجتماعي -، ولهذا ما من حاجة إلى التبسّط فيها هنا، برغم ما لها من أهمية كبرى.
استخدام مختلف الأمكنة والمُناسبات واللقاءات
47- وتتبادر أيضاً إلى الذهن المناسبات الفريدة الكبرى التي يجد فيها التعليم المسيحيّ مكانه الخاص، مثل الزيارات التقوية الجماعية التي تقوم بها أبرشية أو منطقة أو شعب، وهي تأتي بفائدة روحية كبرى، فيما لو تركّزت على موضوع واحد مهمّ يستعرض على الأخص حياة السيّد المسيح والطوباوية مريم العذراء والقديسين، وتتبادر إلى الذهن الرسالات التقليدية التي سرعان ما أُهملت على الغالب، والتي ليس ما يقوم مكانها لتجديد الحياة المسيحية، بصورة دورية، والتي تجدر العودة إليها وتجديدها. ثمّ هناك حلقات الكتاب المقدّس التي يجب أن تتخطّى شرح النصّ لتحيي بكلام الله، ولقاءات الجماعات الكنسيّة الناشئة عن القاعدة على قدر ما تتفّق والقواعد التي وضعها الإرشاد الرسولي: واجب نشر الإنجيل (91). ولنذكر فضلاً عن ذلك جمعيّات الشبّان التي تتكاثر وتزدهر وكأنّها في ربيع، في بعض المناطق بأسماء وأشكال مختلفة – لكن غايتها هي دائماً واحدة وهي العمل على التعريف بالمسيح والحياة وفقاً للإنجيل، وهذا ما يحمل تعزية كبيرة إلى الكنيسة – وهي جمعيّات العمل الكاثوليكيّ، والجمعيّات الخيريّة، وجمعيّات الصلاة، وجمعيات التأمّل المسيحيّ وما شاكل. وهذه الجمعيّات هي مبعث أمل كبير لكنيسة الغد. وإنّا لنستحلف، باسم يسوع، الشبّان الذين يؤلفّونها والمسؤولين عنهم والكهنة الذين يكرّسون لهم القسم الأكبر من خدمتهم، قائلين لهم: لا تسمحوا البتة بأن تفتقر هذه الجمعيات – وهي تشكّل مناسبات ممتازة للاجتماع، مناسبات زاخرة بكنوز الصداقة والتضامن بين الشبّان، والفرح والحماس والتفكير في الوقائع وشؤون الحياة – إلى درس العقيدة المسيحية درساً جدياً عميقاً. وإلاّ كان هناك خطر – وهذا ما حدث غالباً ويا للأسف – لكي تمني بالخيبة المنضوين إليها والكنيسة بالذات.
وأنّ ما يبذل من جهد، في هذه الظروف وفي سواها في سبيل التعليم المسيحيّ، يصادف نجاحاً باهراً ويأتي بثمر وفير، بقدر ما يحافظ على ما يميّز هذه الظروف من طابع خاص. ولهذا إذا اندرج هذا الجهد، بصورة فطنة، في هذه الظروف حقّق مبدأ اللقاءات والارتباطات على ما فيه من تنّوع وتكامل، وأتاح الفرصة لشرح ما في معنى التعليم المسيحيّ من غنى ولتطويره وتقدمه بفضل ثلاث وهي: الكلمة والذاكرة والشهادة أي العقيدة والاحتفال التقويّ والقيام بالواجب في الحياة. وهذا ما أبانته بوضوح الرسالة التي وجّهها المجمع إلى شعب الله (92).
العظة
48- وتصحّ هذه الملاحظة أكثر ما تصحّ في التعليم المسيحي الذي يصير في الاحتفالات الطقسية ولاسيّما في الاجتماعات التي تحتفل بالإفخارستيا. وإذا روعي في هذه الاجتماعات ما لها من طابع خاص ونظام متّبع في رتب من هذا النوع، فإن العظة تعاود السير على طريق الإيمان الذي رسمه التعليم المسيحي وتصل به إلى حدّه الطبيعي. وهي تحمل كذلك تلاميذ الرب على معاودة سيرهم الروحي، كل يوم، على طريق الحقيقة والعبادة ورفع آيات الشكر. وإذا فُهم الأمر على هذا الوجه، يمكن التأكيد أن أسلوب التعليم المسيحيّ التربوي يجد هو أيضاً مبتداه ومنتهاه في دورة السنة الطقسية الكاملة.
ومن مفاعيل الوعظ المركّز على نصوص الكتاب المقدس أنه يتيح الفرصة للمؤمنين، على طريقته، لكي يطلّعوا اطلاعاً أوفى وأعمق على جميع أسرار الإيمان وقواعد الحياة المسيحية. ويجب إعارة العظة كل انتباه والسهر على ألاّ تكون طويلة ولا قصيرة، وعلى إعدادها دائماً بكل عناية، وعلى أن تكون مثقلة بالمعاني، ملائمة للسامعين ومقصورة على خَدَمة الأقداس. ويجب أن تحتلّ مكانها في كل احتفال بالإفخارستيا أيّام الآحاد والأعياد الواجبة ولدى الاحتفال بالعماد وبرتبة التوبة والزواج والدفن. وهذه إحدى فوائد التجديد الطقسي.
كتب التعليم المسيحيّ
49- بين مجموعة الطرق والوسائل – إنّ كل نشاط تقوم به الكنيسة يحمل في الحقيقة همّ التّعليم المسيحيّ – لم تفقد الكتب المنشورة في التّعليم المسيحيّ ما لها من أهمية وحسب، بل اكتسبت بالأحرى زخماً جديداً. ومن أبرز علامات تجديد التعليم المسيحيّ اليوم إعادة تأليف كتب هذا التعليم والإكثار منها، على ما حدث تقريباً في كل مكان في الكنيسة. وقد ظهرت مؤلّفات عديدة من هذا النوع، وهي تشكّل كنزاً حقيقياً موضوعاً في خدمة هذا التّعليم، غير أنه لا بدّ لنا في الوقت عينه من الاعتراف ببساطة وتواضع بأنّ هذه التآليف، وعلى رواجها ووفرتها، جاءت بشروح مبهمة وبكتب مضرّة بالشبّان وحتى بحياة الكنيسة. وقد أدّى بعض هذه الكتب هنا وهناك، في غالب الأحيان، من جرّاء السعي بها إلى الاهتداء إلى أفضل التعابير أو إلى اتباع طرق جديدة من حيث الأساليب التربوية، إلى بعث القلق في نفوس الشبّان وحتى البالغين، إمّا لأنها أهملت، عن وعي أو غير وعي، قضايا أساسية من إيمان الكنيسة، وإمّا لأنّها أعارت بعض المسائل أهميّة كبرى على حساب سواها، وإمّا لأنها، على الأخصّ، ابتعدت عن تعليم السلطة الكنسيّة بإعطائها نظرة شاملة أو أفقية، على ما يقال، عن هذه المسائل والقضايا.
لذلك لا يكفي الإكثار من كتب التّعليم المسيحيّ، لكن لابدّ، لكي تنسجم هذه الكتب وغايتها الخاصة، من عدة شروط وهي:
أ- أن ترتبط بواقع حياة من توجّه إليهم فتستهدي عن كثب بما يساورهم من قلق ويواجههم من تساؤلات ويعصف بهم من نزاعات ويحدوهم من أمل.
ب- أن تحرص على استعمال لغة يفهمها أناس هذا العصر.
ج- أن تسهر على إعلان بشارة المسيح وكنيسته بكاملها دون أن تسقط منها شيئاً ولا أن تشوّه شيئاً، وأن تعرضها تامة وفقاً لطريقة أو صيغة تبرز المسائل الجوهرية.
د- أن تحفز قرّاءها على معرفة أسرار المسيح معرفة أوفى ينجم عنها اهتداء صحيح وحياة تكون ، فيما بعد، أكثر تلبية لإرادة الله.
نصوص التعليم المسيحيّ
50- لا يمكن جميع الذين يأخذون على عاتقهم المهمة الخطيرة القائمة على إعداد أدوات التعليم المسيحيّ وعلى الأخصّ نصوصه، أن يفعلوا ذلك دون موافقة الرعاة الذين يعود إليهم حق إعطائهم، ودون أن يتقيّدوا، من وجه الدقة والضبط، بتوجيهات “دليل التعليم المسيحي العام” الذي يجب أن يرجعوا إليه رجوعهم إلى قاعدة ثابتة (93).
ويطيب لنا في هذا المجال أن نشجّع، كل التشجيع المجالس الأسقفية في كل العالم، على القيام بصبر وثبات، بالاتفاق مع الكرسي الرسولي، بإنجاز هذا العمل الخطير الذي لابدّ من إنجازه. أي بتأليف كتب قيّمة في التعليم المسيحيّ تتضمّن بصراحة محتويات الوحي الأساسية. وتتميّز بأسلوب يفي بحاجات العصر وتمتاز بإخراج تستطيع معه أن تربّي الأجيال المسيحية الطالعة في إيمان راسخ.
ولا يستنفذ هذا الوصف السريع لأدوات التعليم المسيحيّ وطرقه العصرية جميع الاقتراحات، وهي كثيرة، التي أعرب عنها الآباء في المجمع. وإنه لمن دواعي الرضى أن تقوم اليوم على ما نعرف، نهضة رائعة، في كل بلد من بلدان العالم، لإيجاد صيغ جديدة للتّعليم المسيحيّ تكون أوفى تنسيقاً وتتناول بالتأكيد مختلف جوانب العقيدة التي يجب تلقينها. وما من شكّ في أنّ الكنيسة تجد، بعون الله، الخبراء والوسائل المؤاتية، بغية سدّ الحاجات العديدة التي يفرضها الاتصال بأناس العصر.
-7-
كيفية تليقين التعليم المسيحي
اختلاف الأساليب
51- لكي يدرك التعليم المسيحي غايته الخاصة أي التربية في الإيمان، يجب أن يتّخذ طرقاً مختلفة تبعاً لسنّ الموعوظين وتطوّرهم العقلي ونضجهم الكنسيّ والروحيّ وباقي الظروف الخاصة بكل منهم. واختلاف الطرق هذا، إذا نظرنا إلى الأمر نظرة شاملة، تقضي به البيئة الاجتماعية الثقافية التي تقوم الكنيسة فيها بتلقين التعليم المسيحي.
وما كان هذا الاختلاف في الطرق الواجب اتّباعها إلا ليل حياة وغنى. وهذا ما أدركه أيضاً الآباء الذين اشتركوا في الجمعية العامة لمجمع الأساقفة، وقد نبّهوا إلى شروط لا بدّ منها ليكون اختلاف الطرق مفيداً، غير مضرّ بالوحدة التي يجب أن ينتقل معها الإيمان الواحد.
في خدمة الوحي والاهتداء
52- المسألة الأولى التي تجب معالجتها هي عدم الانسياق، عن هوس وتهوّر، إلى خلط التعليم المسيحي، دون وجه حقّ، بالقضايا العقائدية، ظاهرة كانت أم مستترة، ولاسيمّا ما يحمل منها طابعاً سياسياً اجتماعياً، أو بالقضايا التي اتخذت لها خياراً شخصياً في الحقل السياسي. وعندما تؤثّر قضايا من هذا النوع في البشارة الأساسية التي يجب نقلها، تأثيراً يجعلها غامضة وينحدر بها إلى المرتبة الثانية ويقضي عليها حتى بخدمة هذه القضايا، فإن التعليم المسيحي يكون، إذ ذاك، قد تعطّل وتشوّه في أساسه. وقد نبّه المجمع، بحقّ وصواب، إلى ضرورة إبقاء التّعليم المسيحيّ في مقامه الرفيع بحيث يتسامى على الآراء المتضاربة الخاصة بهذه أو تلك من الفئات – أي أن يجانب “مبدأ المناصفة” – حتى عندما يتعلّق الأمر بالتفاسير اللاهوتية التي تشرح مسائل مشابهة. ولهذا يجب أن يراعي التعليم المسيحيّ جانب الوحي، ونقول الوحي، على ما ينقله سلطان الكنيسة التعليمي العام، سواء أكان بطريقة احتفالية أم بطريقة عادية. وهذا الوحي يكشف عن الله الخالق والفادي الذي جاء ابنه إلى الناس فأخذ جسدهم وما دخل تاريخ كل منهم وحسب، بل التاريخ البشري الذي أصبح منه المحور. ويهدف هذا الوحي إلى تغيير الناس والكون تغييراً عميقاً، وإلى تبديل ما يؤلّف الوجود البشري برعاية إنجيل يسوع المسيح. وأنّ تعليماً مسيحياً يُقبل على هذا الوجه يتعالى على القواعد الأدبية التي تبالغ في التقيّد شكلياً بالفرائض الخارجية، ولو تضمّن مبادئ أدبية سليمة. وهو يتجاوز على الأخص كل “مسيحانية” زمنيّة واجتماعية أو سياسية، ليبحث في عمق أعماق الإنسان.
تجسيد الرّسالة في الثقافات
53- وهناك مسألة ثانية تجب الآن معالجتها: إن لفظة “التأقلم الثقافي”، و”لو جديدة، على ما قلنا لأعضاء لجنة الكتاب المقدّس، توضح جلياً عنصراً من عناصر سر التجسد الكبير” (94). ويمكننا أن نؤكّد أن التعليم المسيحي، كالتبشير بالإنجيل، بوجه عام، مدعو إلى إدخال قوة الإنجيل في صميم الثقافة البشرية وفي صميم أشكال هذه الثقافة عينها. وإدراكاً لذلك، يجب أن يطلّع التعليم المسيحيّ على الثقافات وعناصرها الأساسية وأن ينفذ إلى ما يعبّر عنها خير تعبير ويحترم ما عندها من قيم وغنى. وهكذا يمكنه أن يؤدي بأناس من مختلف أنواع الثقافة البشرية إلى معرفة السر الخفيّ (95) وأن يساعدهم لكي يستخرجوا من التقليد الحي الخاص بهم صيغاً مبتكرة تعرب عن الحياة المسيحية والاحتفال بالأقداس وطريقة التفكير. ولهذا يجب أخذ أمرين بعين الاعتبار، في هذا المجال:
لا يمكن من جهة فصل البشارة الإنجيلية بسهولة عن الثقافة التي اندمجت بها أساساً ((أي عالم الكتاب المقدس وعلى وجه التحديد البيئة الثقافية الإنسانية التي عاش فيها يسوع الناصري، ولا دون خسارة فادحة، عن صيغ الثقافة التي نقلت فيها على مر العصور. وهي لا تنبت عفواً من تربة الثقافة، ولكنّها تنتقل دائماً عن طريق حوار رسولي يندرج حتماً في نوع من حوار الثقافات.
وينبغي التأكيد، من جهة ثانية، أن قوّة الإنجيل، حيثما كانت، تبدّل وتولّد مجدداً. وهل من عجب، إذا دخلت إحدى الثقافات وحوّلت الكثير من عناصرها؟ ولا يكون الإنجيل الإنجيل إذا تبدّل لدى احتكاكه بالثقافات.
وإذا طوى النسيان هذا الواقع، حدث ما يسميّه القديس بولس بعبارة معبّرة كل التعبير “إبطال صليب المسيح” (96). ولكن الأمر يختلف في الحقيقة، عندما تُستخدم، عن حكمة وفطنة، عناصر دينيّة أو سواها، تشكّل جزءاً من تراث ثقافي خاص بجماعة أو فئة من الناس، بغية مساعدتهم على تفهّم السرّ المسيحيّ بكامله تفهّماً أفضل. ويعرف معلّموا التعليم المسيحي الأصلاء، حق المعرفة، أن هذا التعليم يندرج في مختلف أشكال الثقافة البشرية أو في مختلف الأوساط: ويكفي أن نفكر بالشعوب، على ما بينها من فوارق، وبالأولاد وشبّان اليوم وبمختلف الأحوال والأمكنة التي يعيش فيها أناس هذا العصر الذين لا يرضون جميعهم بأضعاف التعليم المسيحي بحيث يصيب البشارة التي يحملها تخاذل أو جمود أو بحيث يتكيّف، حتى من حيث اللغة والتّعبير، تكيّفاً يفضي إلى تهديد سلامة “وديعة الإيمان” (97)، أو يتساهل كثيراً في مجال الإيمان والأخلاق. وإنهم لمقتنعون أن التعليم المسيحي الصحيح يغني الثقافات، بمساعدته إيّاها على تجاوز ما فيها من نواقص وحتى ما فيها ممّا هو غير إنسانيّ، وبإضفائه ، على ما فيها من قيم مشروعة، ملء المسيح (98).
مساهمة العبادات الشعبيّة
54- وهناك مسألة أخرى تتعلّق بطريقة استخدام عناصر التقوى الشعبيّة السليمة، على أفضل وجه، في التعليم المسيحي. ونفكّر هنا ببعض عبادات يمارسها الشعب المؤمن، في بعض المناطق، بحرارة قلب وصفاء نيّة، وتؤثّر في النفوس، برغم أنه يجب تنقية هذا الإيمان الذي يساندها وحتى تصحيحه من عدّة جوانب. وتتبادر إلى الذهن بعض صلوات سهلة الفهم يردّدها، بطيبة خاطر، كثير من الناس البسطاء. ويتبادر إليه أيضاً بعض أعمال تقويّة تمارس عن رغبة خالصة في القيام بالتوبة وبغية الظفر بمرضاة الله. وفي القسم الأكبر من هذه الصلوات والأعمال عناصر – باستثناء تلك التي يجب رذلها – إذا أحسن استعمالها ، ساعدت على التعمّق في فهم سرّ المسيح وهي: محبّة الله ورأفته، تجسّد المسيح، صليبه الفادي وقيامته، عمل الروح في كل من المسيحيّين وفي الكنيسة، عالم ما بعد الموت، الفضائل الإنجيلية التي تجب ممارستها، وجود المسيحييّن في العالم وما شابه. ولماذا نستخدم إذن عناصر غير مسيحية وحتى معادية للمسيحية ونُعرض الاعتماد على عناصر – وإن وجبت إعادة النظر فيها وتشذيبها – في جذورها ما هو مسيحيّ؟
الاستذكار
55- والمسألة الأخيرة التي تتعلّق بالطريقة والتي يجب على الأقل توضيحها – وقد ناقشها المجمع مراراً – هي مسألة الاستذكار. في بدء التّعليم المسيحيّ، عندما كانت الثقافة البشرية والمدنيّة تلقّن على الأخصّ بواسطة الصوت، جرت إذ ذاك، طويلاً، عادة استذكار الحقائق الكبرى. وإنّا لنعرف أن هذه الطريقة لا تخلو من المساوئ وليس أقلّها أتاحتها المجال إلى فهم ناقص، وأحياناً إلى استحالة الفهم تقريباً، فتقتصر المعرفة في غالب الأحيان إلى استحالة الفهم تقريباً، فتقتصر المعرفة في غالب الأحيان على ترداد صيغ لم يُتعمّق في فهمها. وكان من نتائج هذه المساوئ، بالإضافة إلى مختلف خصائص ثقافتنا المدنيّة، أنها أدّت هنا وهناك إلى الاستغناء استغناءً كاملاً تقريباً – ومنهم من يقولون، ويا للأسف، إلى الأبد – عن استعمال الذاكرة في التّعليم المسيحيّ. ولهذا نبّه كبار أولياء السلّطة، في الجمعية العموميّة الرابعة للمجمع، إلى وجوب إقامة توازن فطن بين دور التفكير والعفويّة، الحوار والصمت، العمل الكتابي والذاكرة. وبعد فإنّ الاعتماد على الذاكرة، في بعض الثقافات لا يزال معمولاً به إلى حدٍّ كبير.
وفيما تتعالى الشكاوى وتتكاثر، يوماً بعد يوم، في قطاع التّعليم غير الدينيّ، في بعض البلدان، حول الأضرار الناجمة عن إهمال هذه الوظيفة التي هي الذاكرة، لماذا لا نعمل بجدّ على إيلائها مجدّداً ما لها من أهميّة، بطريقة فطنة وحتى فذّة، في التّعليم المسيحيّ، وعلى الأخص لأنّ الاحتفال بأبرز وقائع الخلاص أو “ذكرى” هذه الوقائع تقضي بمعرفتها معرفةً دقيقة؟ أن هذا التمرين الذي تقوم به الذاكرة، عندما تستظهر أقوال يسوع المسيح، وأهمّ مقاطع الكتاب المقدّس، والوصايا العشر، وقوانين الإيمان، والنصوص الطقسيّة، وأهمّ الصلوات ومختصر العقيدة المسيحيّة، لا ينال من كرامة الشبّان المسيحيّين وحسب، ولا يحول دون الحوار الخاصّ مع الله، لكنّه أمر لابدّ منه ولا مندوحة عنه. ويجب النظر في واقع الأمور. إن أ زاهير هذا الإيمان وهذه التقوى، إذا جاز التعبير على هذا الوجه، لا تنبت في صحراء التعليم المسيحيّ التي لا تعمل فيها الذاكرة. أما المهمّ فهو أن يعي المتعلّم هذه النصوص التي حفظتها الذاكرة ويعقلها في الوقت عينه شيئاً فشيئاً ويستوعبها وينفذ إلى أعماقها، لكي تصبح ينبوع حياة للأفراد والجماعات.
وأن يكون هناك طرق متعدّدة لتلقين التعليم المسيحيّ في أيامنا، فهذا قد يكون علامة نشاط ودليل ابتكار. وتجب العودة، على كل حال، بالطريقة التي اختيرت إلى القاعدة الأساسيّة التي تربط حياة الكنيسة، وهي قاعدة الأمانة لله وللإنسان ينمّ عنها موقف واحد، هو موقف المحبّة.
-8-
فرح الإيمان في عالم مضطرب
تثبيت الهويّة المسيحيّة
56- إنّا نعيش في عالم صعب يولّد فيه القلق الناشئ عن تفلّت أروع اختراعات الإنسان من يده وارتدادها عليه، حالةً من عدم الاستقرار (99). فينبغي على التّعليم المسيحيّ في هذا العالم أن يسعف المسيحيين على أن يكونوا “نوراًَ” و”ملحاً” (100) فيعدّوا لنفوسهم الفرح ويخدموا غيرهم من الناس. وهذا ممّا لا شكّ فيه، يتطلّب من التّعليم المسيحيّ تثبيت المسيحيين في هويّتهم وبقاءه هو في منأى عن التردّد والإبهام و التفاهة التي تكتنف ما حوله هنا وهناك. ومن بين الصعوبات التي تشكّل تحدّيات للإيمان، إنّا نشير إلى بعضٍ منها، بغية مساعدة التّعليم المسيحيّ على التغلّب عليها.
في عالم غير مُبال
57- لبضع سنوات مضت، كثر الحديث عن عالم “علماني”، عن عهد “ما بعد المسيحية”. وسقطت هذه النزعة، غير أنه بقي واقع أكيد عميق. لذلك يجب على مسيحي اليوم أن يُنشّأوا تنشئة يعرفون معها أن يعيشوا في عالم يجهل الله في معظمه، أو أنه لا يقيم، في ما يتعلّق بالشؤون الدينية، حواراً جديّاً أخوياً يستثير جميع الهمم، لكنه ينزلق غالباً إلى هوّة اللامبالاة التي، على ما يقال، تساوي بين جميع الأشياء، وتعتصم بعقلية فيها ازدراء واتهام فتعلن “بشروح علمية” ما حقّقته من تقدّم. ولكي نبقى ثابتين في هذا العالم، ولكي نفسح في المجال، أمام الجميع، للقيام “بحوار خلاصي” (101) يحافظ فيه كل على كرامته الأساسية، كرامة باحث عن الله، إنّا بحاجة إلى تعليم مسيحيّ يتعلّم معه الشبّان والبالغون من جماعاتنا، الوعي والثبات في الإيمان، والمجاهرة، بطمأنينة بال، بهويّتهم المسيحيّة والكاثوليكية، و”رؤية غير المرئي” (102)، ويعتصمون هكذا بالله الذي هو مطلق ليستطيعوا أن يشهدوا له في مدنيّة مادية تنكر وجوده.
مع علم تربية الإيمان وميزته الخاصّة
58- ويستتبع الهويّة المسيحية المميّزة، التي لا يجوز أن يدركها الوهن، ويتفرغ عنها بالمقابل كشرط لا بدّ منه، علم تربية الإيمان وهو علم ممّيز فريد. ويعتبر علم التربية ولاشكّ أهم العلوم البشرية العديدة الرائعة التي أحرزت في أيامنا تقدّماً كبيراً. ويستفيد استفادة عظيمة ممّا اكتسبه غيره من علوم كعلم الكائنات الحيّة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وما كان الأسلوب التربويّ وفن التّعليم إلا موضوع نقاش دائم يعمل على تكييفهما وجعلهما أكثر فعاليّة، غير أن نتائج هذه الجهود جاءت متباينة.
وبعد، فهناك أيضاً علم تربية الإيمان، ولا يمكن التحدث كفاية عن الفوائد التي يمدّ بها استخدامه التّعليم المسيحيّ. وطبيعي أن تطبّق فنون التّعليم، التي تطوّرت تطوراً كبيراً وأصبحت مجربّة، على طريقة التربية في الإيمان، على أن يراعى دائماً ما يتميّز به الإيمان من خاصة أساسية. وعندما تكون القضية قضيّة علم تربية الإيمان. فإنّ ما يجب تلقينه ليس معرفة بشرية، ولو كانت أسمى المعارف، بل وحي الله ووحيه الكامل. ولقد استخدم الله ذاته، عبر التاريخ المقدس بكامله، وعلى الأخصّ في الإنجيل، علم التربية الذي يجب أن يُتخّذ مثلاً في فن التربية في الإيمان. وكل وسيلة تكون صالحة مفيدة للتّعليم المسيحيّ، على قدر ما تؤدي إلى الإيمان الذي يجب تلقينه وتربيته. وإذا حدث عكس ذلك، فلا فائدة فيها.
اللغة المناسبة في خدمة “قانون الإيمان”
59- وهناك مسألة مماثلة للسابقة تتعلّق باللغة، وهي مسألة ما من أحدٍ يجهل ما فيها من صعوبة في هذه الأيام. أفلا نلاحظ بذهول أن اللغة، فيما تعيرها الدروس العصرية في حقل الإعلام، وعلم معاني الألفاظ، وعلم الرموز، أهميّة بالغة، يساء استعمالها فتُحمل على خدمة أغراض عقائدية خدّاعة، وقولبة العقول وتوحيد التفكير لدى الناس، والانحدار بالإنسان إلى مستوى شيء؟
إن هذا كلّه له تأثير شديد على التّعليم المسيحيّ، الذي يجب أن يهتدى إلى لغة تناسب، بوجه عام، الأولاد وشبّان اليوم وجميع فئات الناس: ونقول لغة خاصّة بالطلاّب والملافنة، بالعلماء والأمييّن أو ذوي الثقافة البسيطة، بالمعاقين أو المتخلّفين عقلياً وأشباههم. وقد سبق للقديس أغوسطينوس أن شعر، منذ زمن بعيد، بهذه المشكلة وحاول أن يساهم في إيجاد حل لها في زمانه فوضع مؤلّفه الشهير بشأنها الذي أسماه “في واجب تلقين الجهّال والمغفّلين التعليم المسيحي” ذلك أن مسألة اللغة في التعليم المسيحيّ، كما في اللاهوت، هي، ولا شكّ، مسألة أساسية. وليس من النافل التّذكير هنا بأن على التعليم المسيحيّ ألا يستعمل لغة، أياً كان السبب، ولو علمياً، تؤدي إلى تشويه محتوى قانون الإيمان. ولا يليق استعمال لغة فيها خداع وإغراء. وأما القاعدة الكبرى فهي وضع ما أحرزته اللغة من تقدّم عظيم في خدمة التعليم المسيحيّ ليتمكن، حقاً و فعلاً، من أن “يحدّث” الأطفال والأولاد والشبّان والبالغين في هذا العصر عن عقيدة الإيمان “وينقلها” إليهم دونما تزييف.
البحث عن الإيمان ويقينه
60- وهناك خطر أشدّ وأدهى ينشأ أحياناً عن طريقة وعي الإيمان، وهو أن بعض المدارس الفلسفية المعاصرة التي يبدو أن لها تأثيراً كبيراً على بعض المعاهد اللاهوتية والمجاري الفكرية، وبالتالي، على العمل الرعوي، تؤكّد، بطيبة خاطر، أن نزعة الإنسان العقلية الأساسية تهدف إلى بحث لا ينتهي، وأن هذا البحث لا يدرك غايته البتة. وانطلاقاً من هذه النظرة المسلّم بها في اللاهوت، يصبح الإيمان، دونما شكّ، لا يقيناً بل تساؤلاً، لا نيّراً، بل ظلاماً يسلّم إليه المرء نفسه.
إن طرق تفكير من هذا النوع تذكّر على وجه التأكيد – وهو تذكير في محلّه – بأن الإيمان يتناول أموراً لم تتمّ بعد، لأنهّا مرجوّة، ولا تُرى إلا من خلال “مرآة رؤية متلبّسة” (103)، وإن الله يسكن دائماً نوراً لا يُقترب منه (104)، وهي تسعفنا على ألاّ نجعل من الإيمان المسيحيّ موقفاً متجمّداً، بل بالأحرى سيراً إلى الأمام على مثال إبراهيم. ولذلك يجب، بأولى حجّة، الحذر من عرض أمور غير راهنة كأنّها راهنة.
غير أنه يجب تحاشي الوقوع في الخطأ المناقض، وهذا ما يحدث غالباً. إن الإيمان، وفقاً لما ورد في الرسالة إلى العبرانييّن، “هو ضمان الخيرات التي تُرجى، وبرهان الحقائق التي لا ترى” (105). وبرغم أنّا لا نملك تماماً بعد، فإنّ لنا ضماناً وبرهاناً. وعندما نربّي إذن الأولاد والفتيان والشبّان، فلا نقدّمن لهم، عن الإيمان، مفهوماً ينسخه وينفيه، كما لو كان في الأمر جهل مطبق، ونوع من العمى، وعالم يلفه الظلام، بل يجب أن نظهر لهم أنّ البحث المتواضع الواثق الذي يقوم به المؤمن، لا ينطلق من لا شيء، ولا من تصوّر خاطئ للأشياء، ولا من آراء فاسدة، ولا من تردّد وترجرج في الرأي، بل من الاستناد إلى كلام الله الذي لا يغشّ ولا يُغشّ، وهو يبني باستمرار على صخرة هذه الكلمة التي لا تتزعزع. هكذا بحث المجوس، والنجم هاديهم (106) وعن هذا البحث كتب بلاز باسكال يقول – وهو قول فيه عمق – مردّداً عبارة القديس أغوسطينوس: “لو لم تجدني، لما كنت تبحث عنّي” (107).
ومن أهداف التعليم المسيحي أيضاً، اشراب الموعوظين هذه المبادئ الأكيدة البسيطة – ولكنها راهنة – التي تساعدهم على الاستزادة من معرفة الرب.
التعليم المسيحي واللاّهوت
61- ويبدو لنا من الأهميّة بمكان، في هذا المجال، أن تُفهم الرابطة القائمة بين اللاهوت والتعليم المسيحيّ، حق الفهم. وتظهر هذه الرابطة بوضوح، عميقة، حيّة، لمن يدرك أن وظيفة اللاهوت التي لا بدّ منها إنما هي في خدمة الإيمان. فلا عجب إذا ما كان لكلّ اضطراب يحدث في حقل اللاهوت، انعكاسه في حقل التعليم المسيحي. وقد نشأ، في الكنيسة، في فترة ما بعد المجمع بحث لاهوتيّ له أهمية كبرى، لكنّه محفوف بالمخاطر. ويجب القول عينه عن علم تفسير الكتاب المقدس بالنسبة إلى شرح نصوصه وألفاظه.
وقد تطرّق بعض آباء المجمع المتوافدين من جميع أقطار العالم إلى هذه المسألة بعبارات واضحة، فتحدثوا عن “توازن غير مستقرّ” قد ينتقل من اللاهوت إلى التعليم المسيحي، وشدّدوا على وجوب مداواة هذا الداء. وقد عالج الحبر الأعظم البابا بولس السادس هذه المسألة بعبارات لا تقلّ وضوحاً، في مقدّمة اعترافه الاحتفالي بالإيمان (108)، وفي الإرشاد الرسولي الذي أصدره، بعد مضيّ خمس سنوات على انتهاء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (109).
ويجب التنبيه إلى هذا الأمر مجدّداً. على اللاهوتيّين وشرّاح الكتاب المقدس، و هم يعون ما لأبحاثهم وإثباتاتهم من تأثير على التعليم المسيحي، أن يحذروا كل الحذر من أن يتصرفّوا تصرّفاً يحمل على التسليم، وكأنّها حقائق ثابتة، بتلك التي ليست، على العكس من ذلك، سوى آراء أو جدلٍ بين خبراء. وعلى معلّمي التعليم المسيحي أن يجمعوا، بكل فطنة، من حقل البحث، اللاهوتي ما يمكنه أن ينير تفكيرهم وتعليمهم، فينهلوا، كاللاهوتيّين، من الينابيع الحقيقية، بتوجيه السلطة الكنسية التعليمية. وعليهم ألا يزرعوا القلق في نفوس الأولاد والشبّان الذين بلغوا هذه المرحلة من التعليم المسيحيّ، بآراء غريبة، ومسائل باطلة، ومجادلات فارغة، غالباً ما رذلها القديس بولس في رسائله (110).
إن أثمن هديّة يمكن الكنيسة أن تقدّمها لعالم اليوم التائه، المضطرب، هي أن تثقّف فيه مسيحيين راسخين في ما هو جوهري، سعداء، في تواضع، بالإيمان. ويعلّمهم التعليم المسيحي هذا، وينتفع هو به أولاً: “إن الإنسان الذي يتوق إلى معرفة أغوار نفسه، لا وفقاً لمقاييس عابرة ناقصة وفي غالب الأحيان خارجية وحتى ظاهرية، أو وفقاً لقواعد حياته فقط، عليه أن يلوذ بالمسيح حاملاً إليه قلقه وشكّه، ضعفه وخبثه، حياته وموته. عليه أن “يمتلك” ويتّخذ لذاته حقيقة التجسّد والفداء بكاملها، لكي يعود فيجد نفسه” (111).
-9-
المهمة تعنينـا جميعاً
تشجيع جميع المسؤولين
62- وإنّا لنرغب الآن، أيّها الإخوة والأبناء الأعزّاء، أن تلهب قلوبكم هذه العبارات التي نوجّهها إليكم، بمثابة إرشاد خطير، حارّ – فيما نقوم بخدمتنا بوصفنا راعي الكنيسة جمعاء – على مثال رسائل القديس بولس الموجّهة إلى رفيقيه في التبشير بالإنجيل، تيطس وثيموتاوس، أو على مثال المقالة القيّمة التي وضعها القديس أغوسطينوس في فرح تلقين التعليم المسيحي وأرسلها إلى الشمّاس شكر الله الذي ثبطّت عزيمته الصعوبات، عندما كان يقوم بمهمة تلقين هذا التعليم (112). أجل، إنا نريد أن نُدخل القوّة والرجاء والحميّة إلى قلوب جميع الذين – وهم كثرة متنوعّة – يكبّون على تلقين العقيدة الدينية ، وعلى ترويض النفوس على العيش وفقاً للإنجيل.
المطارنة
63- وإنّا لنتوجّه إليكم، قبل كل، أيّها الإخوة في الأسقفية: لقد سبق للمجمع الفاتيكاني الثاني أن نبّهكم إلى واجبكم في حقل التّعليم المسيحي (113)، بعبارات واضحة، أثبتها آباء الجمعية العمومية لمجمع الأساقفة وشدّدوا عليها.
لقد وُكلت إليكم، في هذا المجال، أيها الإخوة الأحبّاء، رسالة خاصة في كنائسكم التي أنتم فيها أول من يلتزم بواجب تلقين التعليم المسيحي، وخير من يعلّم هذا التعليم. وبعد فإنكم، مع الحبر الأعظم، وفقاً لمبدأ مشاركة الأساقفة، أنتم من يجب أن تضطلعوا بمهمّة إلقاء التعليم المسيحي في الكنيسة جمعاء. فدعونا إذن نخاطبكم بقلب مفتوح.
إنّا نعرف جيداً أن الخدمة الأسقفية التي عليكم أن تنهضوا بها، أصبحت، يوماً بعد يوم، معقّدة مرهقة. وهناك آلاف الواجبات التي تتوزّع نشاطكم، من واجب تنشئة الكهنة الجدد، إلى واجب حضوركم الفعّال بين جماعات المؤمنين، إلى الاحتفال بالشعائر الدينية وبالأسرار احتفالاً فيه حياة وجلال، إلى الاهتمام بالعمل على التطوّر الإنساني والدفاع عن حقوق الإنسان. أمّا واجب الاهتمام بتلقين التعليم المسيحي، تلقيناً فاعلاً ناجعاً، فيجب أن يفوق أي اهتمام آخر، أياً كان. وليحفزكم هذا الاهتمام على نقل عقيدة الحياة بذواتكم إلى أبنائكم المؤمنين، وليحملكم أيضاً، انسجاماً مع ما يرسم المجلس الأسقفي الذي أنتم أعضاء فيه، على تولّي إدارة التعليم المسيحي العليا، في أبرشيّاتكم، متّخذين لكم، في عملكم، معاونين مجرّبين، جديرين بالثقة.
وأبرز مهامّكم، عملكم على إذكاء نار الحمية وإبقائها مشتعلة في أبرشيّاتكم، في ما خصّ التعليم المسيحي، وهي حمية تتمثّل بتنظيم مؤاتٍ، فعّال، وتشمل الأشخاص والوسائل والأدوات وكذلك الأموال اللازمة، وتعمل على تطوير هذا كلّه. وكونوا مقتنعين بأن سائر الأمور تتسهل، إذا تمّ تلقين التعليم المسيحي، كما يجب، في الكنائس المحلية. وبعد – وهل من حاجة إلى أن نقولها – إذا كانت غيرتكم توجب عليكم، أحياناً، الاضّطلاع بمهمة مزعجة في التنديد بالمتجاوزين وإصلاح الضالين، فإنكم تشعرون، في غالب الأحيان، بالفرح، عندما ترون كنائسكم مزدهرة بفضل تلقين التعليم المسيحيّ فيها، وفقاً لإرادة الله.
الكَهَنة
64- أمّا أنتم، أيها الكهنة، فهوذا أمامكم حقل، أنتم فيه أقرب المعاونين لأساقفتكم. لقد دعاكم المجمع “مربّي الإيمان” (114). أفلا تكونونهم، على أفضل وجه، إذا بذلتم أقصى الجهد للعمل على تنمية جماعاتكم في الإيمان؟ إنّ الكنيسة لترغب في ألاّ تدّخروا وسعاً في سبيل تنظيم التعليم المسيحيّ أحسن تنظيم وتوجيهه أحسن توجيه، سواء أكنتم تخدمون رعيّة، أم كنتم مرشدين روحيّين في المدارس، أو المعاهد، أو الجامعات، أم كنتم تعنون بالشؤون الرعوية، على أي مستوى كان، أم كنتم مسؤولين عن جماعات صغيرة أو كبيرة، ولاسيمّا فئات الشبّان منها. وإنّ الشمامسة أو من سواهم من الخَدَمة، إذا تأتّى لكم أن يكون عندكم منهم، هم، بطبيعة الحال، معاونوكم في هذا المجال. ذلك أن لجميع المؤمنين الحق في تلقّن التعليم المسيحي، وعلى جميع الرعاة واجب تأمينه لهم. وإنا نسأل الحكّام المدنيّين دائماً أن يحترموا حريّة تلقين التعليم المسيحي. وأمّا أنتم، يا خَدَمة المسيح، فنستحلفكم، بكل قوانا، بألاّ تسمحوا، لتقاعس الهمّة ونقص الغيرة أو بسبب بعض الآراء المسبقة المضرّة، بأن يُحرم المؤمنون التعليم المسيحيّ. فلا يقالنّ: “الأطفال طلبوا خبزاً، ولم يكن من يكسره لهم” (115).
الرُهبان والراهبات
65- لقد نشأت رهبانيات كثيرة للرجال والنساء وغايتها تلقين الأولاد والشبّان ، ولاسيّما المهملين منهم، التعليم المسيحيّ. وقد تطوّع، على مرّ التاريخ، كثير من الرهبان والراهبات، للعمل في حقل التعليم المسيحي في الكنيسة، فقاموا في هذا المجال، بعمل، والحقّ يقال، مؤات، فعّال. أما الآن وقد راحت تتوطّد العلاقة بين الرهبان والرّعاة، ويُرغب، بالتالي، في حضور الرهبانيّات وأعضائها في ما تقوم به الكنائس المحلية من مشاريع رعوية، أنّا نحثّكم، من صميم القلب – أنتم الذين يحملكم التكريس الرهباني على أن تكونوا مستعدّين كل الاستعداد لخدمة الكنيسة – على أن تتأهبّوا، على أحسن وجه، للقيام بمهمّة التعليم المسيحي، وفقاً لدعوات رهبانياتكم المختلفة، ووفقاً للمهمّات الموكولة إليكم، حيثما يطلب منكم ذلك. وإنّا لنتمنىّ أن تحشد الجمعيّات ما عندها من طاقات فكريّة ووسائل لهذا العمل الخاصّ بالتعليم المسيحيّ.
العلمانيّون، معلّمو التعليم المسيحيّ
66- إنّا، باسم الكنيسة جمعاء، نشكركم، أنتم، معلّمي التعليم المسيحي، العلمانييّن، رجالاً ونساءً – والنساء أكثر عدداً – الذين تتفانون في العالم أجمع، في سبيل تأمين التعليم الديني لأجيال عديدة. أن عملكم، الذي غالباً ما يكون وضيعاً، خفياً، ولكنكم تنجزونه بغيرة متّقدمة وطيبة خاطر، إنما هو أبرز أنواع رسالة العلمانيّين، وله أهمية خاصة حيثما لا يلقى، لمختلف الأسباب، الأولاد والشبّان في عائلاتهم، ثقافة دينية لائقة. وما أكثر الذين بيننا تشرّبوا مبادئ التعليم المسيحي، على يد أناس مثلكم، وتأهبّوا لاقتبال سرّ التوبة والمناولة الأولى والتثبيت. إن الجمعية العمومية الرابعة لمجمع الأساقفة لم تنسكم وإنّا معها نحضّكم على مواصلة المساهمة في حياة الكنيسة.
ويُدعى، بنوع خاص وبحصر المعنى، معلّمي التعليم المسيحي، أولئك الذين يقيمون ويعملون في مناطق الرسالات. إنهم، بعد أن ولدوا في عائلات مسيحية أو اعتنقوا، قديماً، الإيمان المسيحي وتعلّموا على يد المرسلين أو معلّم آخر التعليم المسيحي، يقفون حياتهم، على مدى سنوات طويلة، على أولاد بلدانهم وشبابها. وما من شك في أن الكنائس المزدهرة اليوم، ما كانت لتبنى لولاهم. وقد سرّنا أن يكون المجمع المقدس لتبشير الأمم بالإنجيل أو نشر الإيمان قد بذل ويبذل جهد الطاقة لكي يوفّر لهؤلاء المعلّمين الذين يلّقنون التعليم المسيحي ثقافة تتطوّر مع الأيام. وإنّا لنذكر بعاطفة عرفان الجميل أولئك الذين نقلهم الله إليه من غربة الدنيا، ونسأل شفاعة أولئك الذين أولاهم أسلافنا شرف الارتفاع إلى مقام طوباويّين وقدّيسين. وإنّا نشجّع من صميم القلب جميع الذين يعملون الآن في هذا الحقل، ونتمنّى أن يخلفهم الكثيرون غيرهم وأن يزداد عددهم للقيام بعمل لا غنى عنه للرسالات.
في الرَعيَّة
67- ونودّ الآن أن نتحدّث عن النطاق الحسيّ الواقعي الذي يعمل فيه عادة جميع معلّمي التعليم المسيحي، وباختصار عن “أمكنة” التعليم المسيحي التي ذكرنا بعضها في الفصل الرابع وهي الرعيّة والعائلة والمدرسة والمنطقة.
إذا صحّ أنه بالإمكان تلقين التعليم المسيحي في كل مكان، فيجب مع ذلك أن ننّبه – تأييداً لما أعرب عنه الكثير من الأساقفة من رغبة – أن الجماعة الرعوية، بما أنها موجودة في مكان واحد، يجب أن تبقى هي التي تشجّع على هذا التعليم وتستحث الهمم على تلقينه. ولا ريب في أن الرعية قد بدت في مناطق عديدة وكأنّها مزعزعة البنيان من جرّاء تضخّم المدن المتفاقم. وقد تسرّع بعضهم فحكم بأن عهدها ربّما قد باد وبأنها صائرة حتى إلى الزوال، وبأنّه يجب إنشاء جماعات صغيرة تقوم مقامها وتكون أوفى بالمقصود وأكثر فعالية. ولكن الرعية، شاؤوا أم أبوا، تبقى المكان الذي يشدّ إليه، بأوثق رباط، الشعب المسيحي وحتى من لا يمارسون الفرائض الدينية. ويقضي الرأي السديد المستند إلى الحقيقة والواقع، كما تقضي الحكمة بعقد العزم على مدّ هذه الرعية، لدى الحاجة، بهيكليّات أكثر ملاءمة، وبالأخصّ، على إعطائها دفعاً جديداً عن طريق ادخال مؤمنين إليها يمتازون بالفهم والخبرة وبوعيهم الواجبات وبتحلّيهم بالأخلاق الكريمة وذلك بأعداد متزايدة. وبعد أن قلنا ما قلناه، وبعد أخذ الأمكنة، على اختلافها – وهو اختلاف لابدّ منه – التي يلقّن فيها التعليم المسيحي، بعين الاعتبار، يجب أن تتّجه جميع الطرق الخاصة بالتعليم المسيحي – سواء أكان في الرعية عينها أم في العائلات التي تضمّ الأولاد والشبّان أم المراكز المعنيّة بالشؤون الرعوية في المدارس الرسمية، أم في المعاهد التربوية الكاثوليكية أم في المنظمّات المخصصّة للرسالة التي تفرد وقتاً للتعليم المسيحي، أم في النوادي التي تفتح أبوابها لجميع الشبّان، أم في رحلات نهاية الأسبوع المخصصة للثقافة الروحية أم سواها – نحو الاعتراف بإيمان واحد، وبطاعة واحدة للكنيسة وبالعمل في المجتمع بروح إنجيلي واحد: “رب واحد، إيمان واحد، عماد واحد، إله واحد وأب للجميع” (116). ولهذا يجب على كل رعية كثيرة العدد، وعلى جميع الرعايا الصغيرة التي تؤلّف مجموعة واحدة، أن تلتزم، وهو التزام خطير، بتثقيف أولئك الذين – كهنة ورهباناً وراهبات وعلمانييّن – يكبّون، بكلّ قواهم، على استثارة الهمم لتلقين التعليم المسيحي، وأن تعمل على إعداد ما يلزم له، من جميع الوجوه، وتكثير أمكنة التعليم وتهيئتها، على قدر المستطاع وعلى قدر ما في ذلك من فائدة، وأن تحرص على تنشئة مختلف الفئات تنشئة دينية ممتازة ودمجها في الجسم الكنسيّ.
وباختصار – ودون أن تُرد كل الأمور إلى نمط واحد تفرضه إرادة واحدة، أو أن يُراد لها صيغة موحّدة – يجب، على ما أشرنا إليه سابقاً، أن تبقى الرعيّة المكان المفضّل الذي يلقّن فيه التعليم المسيحي. ويجب أن تستعيد الرعية دورها مجدّداً فتكون بيت التجمع العائلي الأخوي، المضياف، حيث يشعر المعمّدون والمثبتون بأنهم شعب الله. وهناك يكسر لهم خبز العقيدة السليمة وخبز الإفخارستيا بسخاء في عمل عبادة إلهيّة واحد (117). ومن هناك ينطلقون، كل يوم، للقيام بمهامهم الرسولية إلى كل مكان ينبض فيه العالم بالحياة.
في العائلة
68- للتّعليم المسيحي الذي يُلقّن في العائلة، طابع خاص، ما من شيء يمكنه، نوعاً ما، أن يقوم مقامه، وهو طابع شدّدت عليه الكنيسة بحقّ، وعلى الأخصّ المجمع الفاتيكاني الثاني 18). وتتوفر هذه التربية في الإيمان التي يقوم بها الوالدان – ويجب أن تبدأ منذ سني حداثة الأولاد – (119) إذا تعاون أفراد العائلة فيما بينهم، على التنامي في الإيمان، بما يؤدّون من شهادة حياة مسيحية، غالباً ما تكون صامتة، ولكنّها متواصلة، من خلال تصرفّاتهم اليومية وفقاً للإنجيل. وتتوطّد هذه التربية، إذا كان هناك حرص، بمناسبة الأحداث العائلية، من مثل اقتبال الأسرار والاحتفال بالأعياد الطقسيّة وولادة ولد أو حداد، على شرح معنى هذه الأحداث شرحاً مسيحياً أو دينياً. ولكن يجب القيام بما هو أعظم من ذلك وهو أنّ على الوالدين المسيحيّين أن يُعنوا بمتابعة هذا التثقيف وتكراره في نطاق الحياة العائلية، بعد أن يكونوا قد تلقّوه بطريقة أخرى. وتتأثر نفوس الفتيان والفتيات بطريقة غالباً ما تكون حاسمة، وعلى مدى الحياة، عندما تعالج مجدّداً هذه الحقائق التي تتعلّق بأبرز قضايا الإيمان والحياة المسيحية ضمن نطاق عائلي يتميّز بالمحبّة والاحترام ويعود هذا الجهد بالفائدة على الوالدين أنفسهم الذين يفرض عليهم، من جرّاء ذلك، لأنه، في مثل هذا الحوار الذي يقام حول التعليم المسيحيّ، لا بد لكل من القائمين به أن يأخذ ويعطي.
وهكذا يتقدّم التعليم المسيحي العائلي كل صيغة أخرى، أياً كانت، من صيغ هذا التعليم، ويتبعها ويوسّعها. وفضلاً عن ذلك، تبقى هذه العائلة التي تشبه “معبداًَ بيتياً” (120)، المكان الوحيد الذي يتمكّن الأولاد فيه والشبّان من تلقّي التعليم المسيحي الأصيل، حيثما تمنع القوانين، المناوئة للدّين، التربية في الإيمان، وحيثما يتعذّر النموّ الحقيقي في الدين بسبب انتشار الإلحاد وطغيان العلمنة. فالوالدون المسيحيون إذن لن يبذلوا أبداً ما ينبغي من الجهد لكي يعدّوا ذواتهم لمهمة تلقين أبنائهم التعليم المسيحي وللقيام بهذه المهمة بغيرة لا تعرف الكلل. ويجب تشديد عزيمة الذين – أناساً ومعاهد – يساعدون الوالدين على القيام بهذا الواجب، سواء أكان بالاتصال بهم مباشرة، أم باللقاءات والاجتماعات أم بكلّ أنواع الوسائل التربوية: إنهم في الواقع يخدمون التعليم المسيحيّ أجلّ خدمة.
في المدرسة
69- إلى جانب العائلة، وبالارتباط معها، تقدّم المدرسة، للتعليم المسيحي، إمكانات لا يستهان بها. ففي الدول – وهي للأسف آخذة بالتضاؤل – التي يمكن فيها تأمين التربية في الإيمان ضمن نطاق المدرسة بالذات، على الكنيسة أن تقوم بهذا الواجب خير قيام. وهذا يتعلّق طبعاً، وقبل كل شيء، بالمدرسة الكاثوليكية: وهل يستأهل بعد اسمها هذا، إذا امتازت بمستوى تعليمي عال في المواد غير الدينية، وعيب عليها، لسبب له ما يبّرره، إهمالها التعليم الدينيّ بحصر المعنى أو تحريفها إيّاه. ولا يقولنّ أحد أنّه مؤمّن دائماً ضمناً أو بطريقة غير مباشرة. إن ما تمتاز به المدرسة الكاثوليكية وما يبرّر وجودها، وما من أجله ينبغي على الوالدين الكاثوليك أن يفضّلوها على سواها، إنما هو نوعيّة التربية الدينية التي تدخلها في إعداد الطلاّب إعداداً شاملاً.
إذا كان لابدّ للمعاهد الكاثوليكية من احترام حريّة الضمائر – أعني رفض كل ضغط يقع عليها من الخارج سواء أكان مادياً أم معنوياً -، وعلى الأخص في ما يتعلّق بممارسة الأولاد والشبّان الواجبات الدينية – فإنّها ملزمة إلزاماً خطيراً بتوفير ثقافة دينية لهم تتلاءم وحالات الطلاّب على اختلافها، وبإشرابهم إيّاها: إن صوت الله الداعي إلى خدمته بالروح والحقّ، وفقاً لوصاياه ورسوم الكنيسة، لا يرغم الإنسان، لكنّه يلزمه إلزاماً ضميرياً.
وإنّا نفكر كذلك بالمدرسة غير الطائفية، كما يقولون، أو المدرسة العامة الرسمية، ونتمنىّ، من صميم القلب أن يُسمح، إقراراً بما للشخص البشري والعائلات من حق صريح، وتأكيداً على احترام ما للجميع من حرية دينية، لجميع الطلاّب الكاثوليك أن يتقدموا في ثقافتهم الروحية بفضل التربية الدينية التي تعود إلى الكنيسة، والتي يمكن، حسب البلدان، أن توفّرها المدرسة أو أن تتوفر ضمن نطاق المدرسة، أو كذلك إذا تمّ تلقين التعليم المسيحي في الرعية فقط أو في مركز رعويّ آخر، وفقاً لاتّفاق يعقد مع السلطات العامة على أوقات الدراسة. ويجدر، في الواقع، حتى حيث تقوم صعوبات موضوعية – مثلاً عندما يكون الطلاّب من مذاهب مختلفة – أن تنظّم أوقات الدروس بحيث يستطيع الكاثوليك أن يتعمّقوا في إيمانهم وخبرتهم الدينية، بمعاونة أساتذة أكفّاء، كهنة وعلمانيّين.
وفضلاً عن المدرسة ذاتها، هناك عدَّة عناصر أخرى حية تعمل، دونما شكّ، على التأثير في عقول الشبّان، من مثل أنواع التسلية، والبيئة الاجتماعية، وأوساط العمل. وأمّا الذين يحصّلون الدروس، فإنّهم يتأثّرون حتماً بهذه الدروس، ويُحملون على الأخذ بالقيم الثقافية والأخلاقية التي يرعاها المعهد الذي يتربّون فيه، ويحاولون ممارسة المبادئ العديدة التي تلقّوها في المدرسة. وهذا يتطلّب من التعليم المسيحي أن يحسب حساباً لهذا “الجوّ المدرسي”، وأن يجمع بين باقي عناصر المعرفة والتربية بغية إدخال مبادئ الإنجيل في أذهان التلامذة، في حقل الثقافة، وقصد توفير الانسجام بين عناصر هذه الثقافة، على ضوء الإيمان. وإنا نشجّع إذن الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين الذين يعملون على مساندة تلامذتهم وتثبيتهم في الإيمان، وننتهزها فرصةً لنؤكّد، مجدّداً، أنا مقتنعون كل الاقتناع بأن احترام إيمان الشبّان الكاثوليكي، وتوفير ما يسهّل عليهم التربية في الإيمان والتعمّق فيه، وتوطيده، والاعتراف به، وممارسته، لمّا يشرّف، ولا ريب، كل نظام، أيّاً كان نوع الحكم والمبدأ اللذين يستند إليهما أو العقيدة التي تسيّره.
في المنظمَّات
70- ومن المهمّ، أخيراً، تنشيط الجمعيّات والحركات والنوادي التي ينضوي إليها المؤمنون، سواء أكانت غايتها الممارسة التقوية، أم الرسالة المباشرة أم أعمال البرّ والإحسان، أم الحضور المسيحيّ في شؤون هذا العالم الزمنية. وهي تتمّ غايتها جميعاً، على أحسن وجه، وتخدم الكنيسة أجل خدمة، إذا فسحت في تنظيمها الداخليّ وفي طريقة عملها، مجالاً واسعاً لتثقيف أعضائها تثقيفاً دينياً جدياً. فعلى كل جمعيّة من جمعيّات المؤمنين، في الكنيسة، أن تكون بهذه الطريقة، أخيراً، بحدّ ذاتها، معلّمة في الإيمان.
وهكذا يتضح دور العلمانّيين في التعليم المسيحيّ في هذا العصر، بإشراف أساقفتهم، على ما شدّدت عليه، مراراً، الاقتراحات التي أعلن عنها مجمع الأساقفة.
معاهد الثَّقافة
71- إن ما يقدّمه العلمانيّون من مساهمة في هذا المجال، يوجب علينا أن نرفع آيات الشكر لله عنه، ويحفزنا في الوقت عينه، كرعاة، على القيام بما علينا من مسؤوليات. لذلك يجب السهر على تثقيف هؤلاء العلمانيّين الذين يعلّمون التعليم المسيحي ليقوموا بمهمة، إن لم تكن خدمة أنشئت رسمياً، فإن لها في الكنيسة، على الأقلّ، قدراً كبيراً. ولكنّ هذه التربية تتطلّب منا إنشاء مراكز ومعاهد ملائمة يسهر عليها الأساقفة بعناية وانتباه فائقين. وهذا قطاع يظهر فيه التعاون داخل الأبرشيّة وبين الأبرشيات الأخرى وحتى على الصعيد الوطني مثمراً خصيباً. وهنا كذلك يُثبت ما تقدّمه الكنائس الغنية لأخواتها الكنائس الفقيرة من مساعدات مالية، ما له من فعالية كبيرة. وماذا بإمكان كنيسة أن تقدمه لأخرى أثمن من مساعدة تستطيع معها هذه أن تنمو ككنيسة قائمة بذاتها.
إنّا نود أن نذكّر أخيراً كلاّ من الذين نذروا نفوسهم بسخاء لخدمة الإنجيل، والذين أعربنا لهم هنا بحرارة عن تشجيعنا، بنصيحة أو وصيّة عزيزة على سلفنا المبجّل بولس السادس، وهي أنه “علينا، بما أنّنا نبّشر بالإنجيل، أن نقدم للمؤمنين بالمسيح… صورة أناس ثابتين على الإيمان، يعرفون في وقت معاً أن يلتقوا، متعالين على المشاحنات التي تنجم من هنا وهناك، على البحث المشترك، الخالص، الهادئ، عن الحقيقة. أجل، إنّ مصير التبشير بالإنجيل مرتبط كل الارتباط بشهادة الوحدة التي تظهرها الكنيسة. وهذا منبع مسؤوليات جسيمة، خطيرة، ولكنّه منبع تعزية أيضاً” (121).
خاتمـة
الروح القدس، المعلّم الباطني
72- إنّا، إذ نختم هذا الإرشاد، نتّجه بالروح والقلب، إلى ذاك الذي هو أساساً صانع كل عمل تعليمي مسيحي، ومعلّم الذين يقومون بهذا العمل: أي روح الآب والابن، الروح القدس.
إن السيد المسيح، عندما وصف المهمّة التي كان على هذا الروح أن يقوم بها في الكنيسة، استخدم هذه العبارات المعبّرة كل التعبير، فقال: “هو يعلّمكم كل شيء”، ويذكّركم بكل ما قلته لكم” (122). وأضاف: “فحين يجيء ذاك، روح الحق، يقودكم إلى كل الحق… ويطلعكم على كل ما سيكون” (123).
إن الكنيسة وكلاّ من المؤمنين قد وُعدوا بهذا الروح الذي، شأن معلّم باطني، يعمل في قرارة الضمير والقلب على تفهيم ما قد سُمع وتعذّر فهمه. وهذا ما قال عنه القديس أغوسطينوس: “هو… الروح القدس الذي يعلّم منذ الآن المؤمنين، على قدر ما يستطيع كل منهم أن يستوعب الروحيات، ويلهب قلوبهم برغبة أشدّ، إذا كان يتقدّم كل منهم في هذه المحبّة التي يحبّ معها ما يعرف ويرغب في معرفة ما يجب أن يعرف” (124).
وفضلاً عن ذلك إن مهمة الروح تقوم على تحويل التلاميذ إلى شهود للمسيح: “فهو يشهد لي، وأنتم أيضاً ستشهدون” (125). ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. بحسب القديس بولس الذي يوجز، فيما يتعلّق بهذا الأمر، نوعاً من اللاهوت الخفيّ في كل العهد الجديد، أن “الكيان المسيحي” بكامله معناه أن تكون الحياة كلّها مسيحية، حياة أبناء الله الجديدة، وهي الحياة وفق الروح (126). الروح وحده يسمح لنا بأن نقول: “أبّا، أيها الأب” (127). وبدون الروح لا يمكننا أن نقول: “الرب يسوع” (128). ومن الروح تفيض أخيراً جميع النعم أي الهبات التي تبني الكنيسة، أي جماعة المسيحيين (129). وبهذا المعنى أوصى القديس بولس جميع تلاميذ المسيح هذه الوصية: “دعوا الروح يملأكم” (130).
وقد تكلّم القديس أغوسطينوس عن ذلك بوضوح، فقال: “كلا الأمرين (أي أن نؤمن وأن نعمل) صادران عنّا في اختيار حرّ من الإرادة وكلاهما، مع ذلك، عطية من روح الإيمان والمحبّة” (131).
فالتعليم المسيحيّ إذن هو نمو في الإيمان وحياة مسيحية آخذة في النضج نحو ملئها، وهو بالتالي عمل الروح القدس الذي باستطاعته وحده أن يحفز على هذا العمل ويسانده. ولهذا فإن جميع ما تفهّمناه لدى قراءتنا هذه النصوص التي أشرنا إليها سابقاً وسواها الكثير من العهد الجديد، يقنعنا بأمرين:
من الواضح، بداءة بدء، أن الكنيسة، عندما تقوم بمهمتّها كمعلمة تلقّن التعليم المسيحي – وبعد ككل مسيحي يعمل جاهداً في الكنيسة وباسم الكنيسة – يجب أن تعي أن عليها أن تتصرّف كأداة حيّة طيّعة للروح القدس، ويجب أن تسعى الكنيسة المعلّمة، هي وجميع معلّمي التعليم المسيحي إلى دعوة الروح باستمرار، وإلى الاشتراك معه دائماً، وإلى بذل ما بالوسع من جهد لتفهم إلهاماته الحقيقية.
وهذا التوق الكبير إلى تفهّم عمل الروح القدس تفهّماً أعمق وإلى الاستسلام له استسلاماً مطلقاً – لأننا، على ما أكدّ سلفنا بولس السادس في إرشاده الرسولي “واجب التبشير بالإنجيل” (132)، نلاحظ عهداً فريداً في الكنيسة، هو عهد الروح القدس – ويجب أن يبعث بعدئذ على نهضة جديدة في حقل التعليم المسيحي. ذلك أن “التجديد في الروح” يكون حقيقياً، ويحدث في الكنيسة خصباً أكيداً، لا بقدر ما يستثير هبات وعطايا، خارقة، بل بقدر ما يقود الكثير من المؤمنين على دروب الحياة اليومية إلى بذل جهد جلود، وضيع، ثابت للاستزادة من معرفة سرّ المسيح والشهادة له. إنّا نستمطر إذن هنا على الكنيسة، معلّمة التعليم المسيحي، روح الآب والابن هذا، ضارعين إليه أن يجدّد فيها القوّة الحية التي تحملها على القيام بواجب التعليم المسيحي.
مريم، أُمّ التلميذ ومثاله
73- عسى أن تنال لنا عذراء الناصرة هذا بصلواتها. لقد كانت، بفضل اختيار فريد، ترى ابنها “يسوع ينمو بالحكمة والقامة والنعمة” (133). لقد وضعته على ركبتيها ثم علّمت، طوال الحياة الخفيّة التي أمضتها في الناصرة، هذا الابن الذي كان وحيد الآب، المملوء نعمةً وحقاً، وفقّهته في معرفة الكتب المقدسة معرفةً بشرية، وفي تاريخ قصد الله، بشأن الشعب المختار، في عبادة الآب… (134). وبعد، لقد كانت أولى تلاميذه: الأولى في الزمن، لأنها، عندما وجدت ابنها الصبيّ في الهيكل، تلقّت منه أمثولات حفظتها في قلبها (135). ولكنّها الأولى، على الأخصّ، لأنه ما من أحد جُعِلَ “قابلاً لفهم الله” مثلها وفي مثل هذا العمق (136). وهي “أم وتلميذة”، على ما أكّد بشأنها القديس أغوسطينوس، وأضاف بصراحة وجرأة قائلاً: “إن مريم كانت تلميذة للمسيح أكثر منها أمّاً للمسيح” (137). وما دعيت مريم في قاعة المجمع، دونما سبب، “تعليماً مسيحياً حياً” و”أمّ معلّمي التعليم المسيحي ومثالهم”.
وإنّا نتمنّى إذن على الروح القدس الحاضر، أن يمنّ، بفضل صلوات مريم، على الكنيسة، بنهضة لم يسبق لها مثيل، في عمل التعليم المسيحي الذي لا غنى لها عنه. وإذ ذاك تتمّ الكنيسة بطريقة فعالة، في زمن النعمة هذا، ما وكل إليها معلّمها من رسالة شاملة لا عودة عنها، عندما قال: “اذهبوا إذن وعلّموا جميع الأمم” (138).
ونمنحكم أخيراً بركتنا الرسولية.
أعطي في روما، قرب مار بطرس، في 16 تشرين الأول 1979، الثانية لحبريّتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) راجع متى 28، 19 وما يتبع.
2) راجع 1 يو 1، 1
3) راجع يو 20، 31
4) راجع مجلة الكرسي الرسولي 63 (1971) ص. 758 – 764
5) راجع عدد 44؛ وكذلك الأعداد 45 – 48 و 54: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976) ص. 34 – 35؛ 35 – 38؛ 43
6) معلوم أنه وفقاً للإرادة الرسولية المبدوءة بالعبارة “الاهتمام الرسولي” الصادرة في 15 أيلول سنة 1965 (مجلة الكرسي الرسولي 57، 1965 ص. 775 – 780) يمكن لمجمع الأساقفة أن يعقد جمعية عامة أو جمعية خارقة العادة أو جمعية خاصة. في هذا الإرشاد تشير دائماً الألفاظ “المجمع” أو “آباء المجمع” أو “قاعة المجمع” – ما لم يعلن خلاف ذلك – إلى الجمعية العامة الرابعة لمجمع الأساقفة المنعقدة في روما في تشرين الأول سنة 1977 بشأن التّعليم المسيحيّ.
7) راجع مجمع الأساقفة “في وجوب تلقين التعليم المسيحيّ في عصرنا على الأخصّ للأولاد والشبّان، ورسالة إلى شعب الله” حاضرة الفاتيكان 28 تشرين الأول سنة 1977، وراجع “صحيفة الرقيب الروماني” (30 ت1 سنة 1977) ص. 3 – 4
8) راجع مجلة الكرسي الرسولي 69 (1977) ص. 633
9) راجع يوحنا 1، 14
10) يو 14، 6
11) أفسس 3، 9 – 18 وما يتبع.
12) راجع يو 14، 6
13) يو 7، 16. هذا الموضوع غالباً ما يعود في الإنجيل: راجع يو 3، 34؛ 8، 28؛ 12، 4 وما يتبع؛ 14، 24؛ 17، 8 . 14
14) 1 كور 11، 23؛ إن لفظة “بلّغ” التي استعملها بولس الرسول هنا ردّدها غالباً الإرشاد الرسولي “واجب التبشير بالإنجيل” للتعبير عن عمل الكنيسة في نشر الإنجيل كما في الأعداد 4، 15، 78، 79
15) أعمال 1، 1
16) متى 26، 55؛ راجع يو 18، 20
17) مر 10، 1
18) مر1، 22؛ راجع أيضاً متى 5، 2؛ 11، 1؛ 13، 54؛ 22، 16؛ مر 2، 13؛ 4، 1؛ 6، 2 . 6؛ لو 5، 3 . 17؛ يو 7، 14 يو 7، 14؛ 8، 2 الخ.
19) لو 23، 5
20) هناك ما يقارب الخمسين موضعاً في الأناجيل الأربعة يطلق فيها على يسوع المسيح هذا الاسم الذي أقرّه التقليد اليهودي الشامل وهو يتّخذ هنا معنى جديداً غالباً ما وضعه السيّد المسيح عينه موضع الصدارة.
21) راجع في ما تراجع متى 8، 19؛ مر 4، 38؛ 9، 38؛ 10، 35؛ 13، 1؛ يو 11، 28
22) متى 12، 38
23) لو 10، 25؛ راجع متى 22، 16
24) يو 13، 13 وما يتبع؛ راجع أيضاً متى 10، 25، 26، 18 ومواضع مشابهه.
25) متى 23، 8 استعاد القديس اغناطيوس الأنطاكي هذه العبارة وشرحها على الوجه التالي: “بهذا السر (أي سر موت المسيح) تلقينا الإيمان ولهذا نحن ثابتون عليه لنكون تلاميذ يسوع المسيح، معلمنا الأوحد” (رسالة إلى أهل مغنيزيا، 9، 1: فونك 1، ص. 239).
26) يو 3، 2
27) ظهرت صورة المسيح المعلّمن وقد مثلّته وهو يعلّم، في الدياميس الرومانية. وكثيراً ما أوردها الفن الروماني البيزنطي في ما أنجز من أعمال فسيفساء في القرنين الثالث والرابع. وقد أصبحت بعدئذ تمثالا طاب للنحّاتين في الأجيال الوسطى نحته في كبريات الكاتدرائيات المعروفة بأنها بنيت وفقاً للفن الروماني أو الغوطي.
28) متى 28، 19
29) يو 15، 15
30) راجع يو 15، 16
31) أعمال 2، 42
32) 4، 2
33) راجع 4، 18؛ 5، 28
34) راجع 4، 19
35) راجع أعمال 1، 25
36) راجع أعمال 6، 8 وما يتبع؛ وقصة فيليبوس الذي علّم التعليم المسيحي أحد موظفيّ ملكة الحبشة: أعمال 8، 26 وما يتبع.
37) راجع أعمال 15، 35
38) أعمال 8، 4
39) راجع أعمال 28، 31
40) راجع رسالة البابا يوحنا 23 “أم ومعلمة” (مجلة الكرسي الرسولي 53، سنة 1961 ص. 401): الكنيسة “أمّ” لأنها تلد دونما انقطاع بالعماد بنين جدداً وتعمل على تنمية عيال الله، وهي “معلمة” لأنها تسعى إلى رؤية أبنائها ينمون بنعمة العماد وهي تغذّي “حس الإيمان” عندهم بتعليمهم حقائق الإيمان.
41) راجع مثلاً: رسالة القديس اكليمنضوس الروماني إلى أهل كورنثيا، تعليم الرسل، رسالة الرسل، كتابات القديس ايريناوس أسقف ليون (بيان التبشير الرسولي ضد الهرطقة)، ترتليانوس (في العماد)، اكليمنضوس الاسكندري المعلّم)، القديس قبريانوس (شهادات إلى كورينيوس)، اوريجانوس (ضد شلسوم) الخ.
42) راجع 2 تسا 3، 1
43) المجمع الفاتيكاني الثاني: إعلان في الحرية الدينية، الكرامة الإنسانية، عدد2: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 930
44) راجع إعلان حقوق الإنسان (منظمة الأمم المتحدة) 10 كانون الأول سنة 1948 بند 18: ميثاق دولي بشأن الحقوق الدينية المدنية والسياسية (منظمة الأمم المتحدة) 16 كانون الأول سنة 1966 بند 4؛ المؤتمر العام بشأن الأمن والتعاون في أوروبا مقطع 8
45) مجمع الأساقفة، “في وجوب تلقين التعليم المسيحي في عصرنا على الأخصّ للأولاد والشبّان، ورسالة إلى شعب الله”، عدد 1 و 4 الموضع عينه، ص. 3 – 4 و 6 – 7؛ راجع صحيفة “الرقيب الروماني” (30 تشرين الأول 1977)، ص. 3
46) الموضع عينه، عدد 6 الموضع المشار إليه ص. 7 – 8
47) مجلة الإكليروس المقدس، دليل التعليم المسيحي العام، عدد 17 – 35؛ مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص. 110 – 118
48) راجع عدد 17 – 24: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976) ص. 17 – 22
49) راجع مجمع الأساقفة “في وجوب تلقين التعليم المسيحي في عصرنا على الأخص للأولاد والشبّان، ورسالة لشعب الله” عدد 1: الوضع عينه ص 3 وما يتبع؛ راجع صحيفة “الرقيب الروماني” (30 تشرين الأول 1977) ص 3
50) خطاب بمناسبة اختتام المجمع 29 تشرين الأول سنة 1977: مجلة الكرسي الرسولي 69 (1977) ص. 634
51) الموضع عينه.
52) دليل التعليم المسيحي العام، عدد 40 و 46: مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص. 121 و 124 وما يتبع.
53) قرار في خدمة الكهنة وحياتهم “درجة الكهنوت”، عدد 6: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966) ص. 999
54) راجع كتاب اطلاع البالغين على أصول الدين المسيحي.
55) أفسس 4، 13
56) راجع 1 بطرس 3، 15
57) راجع دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله”، عدد 10 و 24: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 822 و 828 وما يلي؛ راجع أيضاً مجمع الإكليروس المقدس، “دليل التعليم المسيحي العام”، عدد 45: مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص. 124 حيث تظهر بجلاء مصادر التعليم المسيحي الرئيسية والتكميلية.
58) راجع كتاب اطلاع البالغين على أصول الدين المسيحي، عدد 25 – 26، 183 – 187
59) راجع مجلة الكرسي الرسولي 60 (1968) ص. ص. 436 – 445، فضلا عن الاعترافات بالإيمان الهامة هذه، هناك اعترافات شعبية انتقلت عن السلف ورسخت في الحضارة المسيحية التقليدية في بعض البلدان، راجع ما قلناه في 4 حزيران 1979 لشبّان غنيازنو عن الأنشودة – الرسالة المسماة “بوغوردودزيغا”: “ليست هذه أنشودة وحسب، ولكنها اعتراف بالإيمان، رمز “لقانون الإيمان البولوني”، إنها تعليم مسيحي ووثيقة تربوية مسيحية. إنها تشتمل على حقائق الإيمان الأساسية ومبادئ الأخلاق، وليست موضوعاًُ تاريخياً وحسب، بل وثيقة حياة (وقد دُعيت هذه الأنشودة أيضاً “التعليم المسيحيّ البولوني”. راجع مجلة الكرسي الرسولي 71 (1979) ص. 754
60) عدد 25 مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص. 23
61) الموضع عينه، وعلى الأخص الأعداد 26 – 39: المكان المشار إليه، ص. 23 – 25، “شرح العناصر الجوهرية” للرسالة المسيحية بطريقة منتظمة في “الدليل العام للتعليم المسيحي”، أعداد 47 – 69: مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص. 125 – 141، حيث توجد القاعدة العقائدية الجوهرية التي يشتمل عليها التعليم المسيحي.
62) تجب مراجعة الفصل الذي يبحث في هذه النقطة من “الدليل العام للتعليم المسيحي”، عدد 37 – 46 (المكان المشار إليه، ص. 120 – 125).
63) روم 1، 19
64) أعمال 17، 23
65) راجع أفسس 3، 3
66) راجع أفسس 2، 18
67) أعمال 20، 28
68) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم “فرح وأمل”، عدد 39: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 1056 وما يلي.
69) روم 6، 4
70) 2 كور 5، 17
71) راجع الموضع عينه.
72) روم 6، 23
73) راجع بولس السادس، إرشاد رسولي، “وجوب التبشير بالإنجيل”، عدد 30 – 38: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976) ص. 25 – 30
74) راجع التعليم المسيحي الكبير، قسم 5، فصل 6، عدد 965 – 966
75) راجع فيلبي 2، 17
76) روم 10، 8
77) فيلبي 3، 8
78) أفسس 4، 20 وما يلي.
79) راجع 2 تسالونيكي 2، 7
80) يو 6، 69: راجع أعمال 5، 20؛ 7، 38
81) راجع أعمال 2، 28، حيث أوردت عبارات المزامير 16، 11
82) راجع قرار في المسكونية بكامله “استعادة الوحدة”: مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965) ص. 90 – 112
83) راجع الموضع عينه، عدد 5: المحل المشار إليه، ص 96، راجع أيضاً المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي: إلى الأمم، عدد 15: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966) ص. ص 963 – 965؛ مجمع الإكليروس المقدس، دليل التعليم المسيحي العام، عدد 27: مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص 115
84) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في المسكونية إعادة الوحدة، عدد 3 – 4: مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965) ص. ص 92 – 96
85) الموضع عينه، عدد 3 المحل المشار إليه، ص 93
86) راجع الموضع عينه، راجع أيضاً دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 15: مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965)، ص 19
87) لو 12، 32
88) راجع مثلاً، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم “فرح وأمل”: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. ص. 1025 – 1120؛ البابا بولس السادس رسالته “ترقي الشعوب”: مجلة الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص. ص. 257 – 299: كتابة رسولية “بمناسبة الثمانين”: مجلة الكرسي الرسولي 63 (1971) ص. ص. 401 – 441؛ إرشاد رسولي، “واجب التبشير بالإنجيل”: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976) ص. ص. 5 – 76
89) متى 1، 16
90) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في مهمة الأساقفة الرعوية في الكنيسة، “المسيح الرب”، عدد 14: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 679؛ قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي، إلى الأمم عدد 14: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966) ص. 962 – 963؛ مجمع الإكليريكيين المقدس، دليل التعليم المسيحي العام، عدد 20: مجلة الكرسي الرسولي 64 (1972 ص. 112؛ راجع أيضاً نظام إطلاع البالغين على الدين المسيحي.
91) راجع عدد 58: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976) ص. 46 – 49
92) راجع مجمع الأساقفة، في واجب تلقين التعليم المسيحي في عصرنا على الأخص، للأولاد والشبان، رسالة إلى شعب الله، عدد 7 – 10؛ المحل عينه، ص. 9 – 12؛ راجع صحيفة “الرقيب الروماني” (30 ت1 1977) ص. 3
93) راجع مجمع الاكليريكيين المقدس، “دليل التعليم المسيحي العام”، عدد 119 – 121؛ 134: مجلة الكرسي الرسولي (1972)، ص. ص. 166 – 167؛ 172
94) راجع مجلة الكرسي الرسولي 71 (1979) ص. 607
95) راجع روم 16، 25؛ افسس 3، 5
96)راجع 1 كور 1، 17
97) راجع 2 تيمو 1، 14
98) راجع يو 1، 16؛ افسس 1، 10
99) رسالة “فادي الإنسان”، عدد 15 – 16: مجلة الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص. 286 – 295
100) راجع متى 5، 13 – 16
101) البابا بولس السادس، رسالة “كنيسته” القسم 3: مجلة الكرسي الرسولي 56 (1964)، ص. 637 – 659
102) راجع عبر 11، 27
103) 1 كور 13، 12
104) راجع 1 تيمو 6، 16
105) عبر 11، 1
106) راجع متى 2، 1 وما يلي.
107) بلاز باسكال، سر المسيح: أفكار، عدد 553
108) البابا بولس السادس، “الاعتراف الاحتفالي بالإيمان”، عدد 4: مجلة الكرسي الرسولي 60 (1968) ص. 434
109) البابا بولس السادس، إرشاد رسولي، “بعد خمس سنوات”: مجلة الكرسي الرسولي 63 (1971) ص. 99
110) راجع 1 تيمو 1، 3 وما يلي؛ 4، 1 وما يلي؛ 2 تيمو 2، 14 وما يلي؛ 4، 1 – 5؛ تيطس 1، 10 – 12؛ راجع أيضاً إرشاد رسولي، “واجب التبشير بالإنجيل، عدد 78: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص. 70
111) رسالة “فادي الإنسان”، عدد 10: مجلة الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 274
112) في واجب تلقين الجهّال والمغفّلين التعليم المسيحي: الآباء اللاتين 40، ص. 310 – 347
113) راجع قرار في مهمة الأساقفة الرعوية في الكنيسة: “المسيح الرب”، عدد 14: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 679
114) قرار في خدمة الكهنة وحياتهم: “الدرجة الكهنوتية”، عدد 6: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 999
115) مرائي 4، 4
116) افسس 4، 5 وما يلي.
117) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور في الليترجيا المقدسة، المجمع المقدس، عدد 35، 52: مجلة الكرسي الرسولي 56 (1964)، ص. ص. 109، 114؛ راجع أيضاً التصميم العام للقداس الروماني، مرسوم مجموع الطقوس المقدس المذاع في 6 نيسان 1969، عدد 33، وما قيل أعلاه في الفصل السادس عن العظة.
118) منذ مستهل الأجيال الوسطى، نبهت المجامع الإقليمية إلى الواجب الذي يقيّد الوالدين بما خص تربية أبنائهم في الإيمان: راجع مجمع أرل السادس (813)، قانون 19، مجمع مايانس (813)، قوانين 45، 47؛ مجمع باريس السادس (829)، الكتاب الأول الفصل 7: مانسي، مجموعة المجامع المقدسة الجديدة والموسّعة، 14، 62، 74، 542؛ بين الوثائق الأخيرة يجب ذكر هذه : البابا بيوس الحادي عشر، رسالة ذاك المعلم الإلهي، 31 كانون الأول 1929: مجلة الكرسي الرسولي 22 (1930)، ص. ص. 49 – 86؛ خطب البابا بيوس الثاني عشر العديدة ورسائله؛ وعلى الأخص وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عدد 11، 35: مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965)، ص. ص. 15، 40؛ قرار في رسالة العلمانيين، النشاط الرسولي، عدد 11، 30: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. ص. 847، 860؛ دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عدد 52: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 1073؛ ولاسيمّا إعلان في التربية المسيحية، التربية واجب خطير، عدد 3: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص. 731.
119) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار في التربية المسيحية، التربية واجب خطير، عدد3: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 731
120) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، عدد 11: مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965)، ص 16؛ راجع قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، عدد 11: مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 848
121) إرشاد رسولي: واجب التبشير بالإنجيل، عدد 77: مجلة الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص 69
122) يو 14، 26
123) يو 16، 13
124) في مقالة في إنجيل يوحنا، 97، 1: آباء لاتين 35، 1877
125) يو 15، 26 – 27
126) راجع روم 8، 14 – 17؛ غلا 4، 6
127) روم 8، 15
128) 1 كور 12 ، 3
129) راجع 1 كور 12، 4 – 11
130) افسس 5، 18
131) كتاب الرفض 1، 23، 2 الآباء اللاتين 32، 621
132) عدد 75: مجلة الكرسي الرسولي 68(1976)، ص 66
133) راجع لو 2، 52
134) راجع يو 1، 14؛ عبر 10، 5؛ مار توما 3، مسألة 12، 1، 2؛ 1، 3، اب 3
135) راجع يو 2، 51
136) راجع يو 6، 45
137) راجع عظة 25، 7: آباء لاتين 46، 937 – 938
138) متى 28، 19
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post