32- المرحلة الثانية من الصراع بين الإمبراطورية والبابوية
مر قرابة قرن من الزمان ووصل إلى كرسي البابوية البابا ادريان الرابع Pope Adrian IV ووصل إلى الإمبراطورية فردريك الأول، وجعل كل منهما يسعى لتقوية مركزه خصوصًا وإن كلا منهما كانت له شخصيته القوية بالإضافة إلى الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) التي كانت رحاها دائرة في الشرق.
فلما بدأ الإمبراطور يجور على حقوق البابا حتى أنه حبس كبير أساقفة لوند الذي كان صديقًا حميمًا للبابا أدريان الرابع، وعندما دخل مندوب البابا على الإمبراطور عام 1157 حياه بعبارة غريبة هي “أن البابا يحيك كوالد والكرادلة يحيونك كاأخوة”.
فدهش فردريك من هذه التحية التي جعلت من الكرادلة أخوة مساويين للإمبراطور، كما أن الإمبراطور دهش من رسالة البابا المرسلة إليه والتي احتوت عبارة مؤداها أن التابع الإمبراطوري يعتبر منحه من البابا، فالبابا بذلك يمنح الإمبراطورية للإمبراطور، فثار لكرامته وأيده الأساقفة الألمان في ذلك (لاحظ انقسام الكنيسة بين كنيسة ألمانية تتبع الإمبراطور وأخرى في روما تتبع البابا) أدرك الإمبراطور أن قبوله لهذه الرسالة هو تنازل عن حقه وإعلان تبعيته لهذا البابا، ولذلك رد مدافعًا عن حقه ” أننا نتسلم الإمبراطور من الله عن طريق انتخاب الأمراء، فأن شريعة الله تقضي بأن يكون حكم العالم بواسطة سيفي الإمبراطورية والبابوية، كما قضت تعاليم القديس بطرس، بأنه يجب على الناس أن يخافوا الله ويكرموا الملك (رسالة بطرس الأولى الآية 17) وعلى هذا فإن كل ما يقوله بأننا تسلمنا التاج الإمبراطوري إقطاعا من البابا يعتبر باطل العقيدة لأنه يخالف أوامر الله وتعليم بطرس الرسول.
وقع هذا الرد وقع الصاعقة على رأس البابا، وكان عليه أن يتجنب سوء الصدام بينهما ولو أن سوء النية قد توافر بين الطرفين، وان هذا الحادث قد كشف النقاب عن حقيقة شعور كل منهما تجاه الأخر ومهد الطريق لصدام قريب بينهما.
فالإمبراطور بدأ يدخل بنفوذه في منطقة نفوذ البابا في شمال إيطاليا وساعده على ذلك خوف بعض الآراء وضعفهم هناك بالإضافة إلى ضعف البابا نفسه لكبر سنة وتوفي في 1159 وخلفه الكاردينال رولاند باسم البابا اسكندر الثالث وظل في منصبه قرابة 22 سنة (1159- 1181) تمسك أثناءها بحقوق الباباوية ودخل النزاع إلى مرحله العنف بين الإمبراطور وبينه، لاسيما وأنه كانت تحكمها علاقات سيئة قديمة بينهما، فاستعمل البابا في روما سلاح الحرمان ضد بابا ألمانيا مما آثار الإمبراطور، وأراد أن يكسر أنيابه حتى بالسلاح لو استطاع، إلا أن أساقفة ألمانيا أنفسهم وهم التابعون له لم يوافقوه على أن يشهر السلاح ضد الكنيسة مهما كان الأمر، فتألف حلف علماني بزعامة الإمبراطور الذي ثار لكرامة الإمبراطورية، وعقد رجال الإكليروس في روما حلفًا واحد برئاسة البابا اسكندر قرارًا بحرمان الإمبراطور من رحمه الكنيسة.
وهنا نفذ الإمبراطور فكرته وهو استعمال القوه العسكرية فزحف على روما بجيش جرار، فهرب البابا إلى جنوب إيطاليا حيث النورمان المحاربين الأشلاء بالإضافة إلى انتشار مرض الطاعون في جيشه ففتك بالكثير من رجاله ولم يستطع العودة عندما حوصر من الجنوب بالنورمان ومن الشمال بتحالف دويلات شمال إيطاليا والطاعون ينهش رجاله فهزم أسس حلفاء البابا في هذا المكان مكانًا باسمه واعتبروها معجزه على يديه وسمي المكان بمدينة الإسكندرية نسبه إلى البابا اسكندر شمالي مدينه جنوا.
أخيرا لم يجد الإمبراطور فردريك مفرًا من الخضوع والتسليم، فدخل البندقية منكس الأعلام حيث كان البابا اسكندر الثالث في انتظاره يحيط به جموع حافلة من الكرادلة تلمع عيونهم بالفرحة بهذا الانتصار الذي عدوه انتصار ألهيا، ولم تلبث أن تكررت تمثيلية كانوسا بعد مرور مائة عام، فآتي الإمبراطور فردريك الأول العظيم حليفه فتجرد شارلمان كما كان ينادي ليرتمي بين قدمي البابا اسكندر الثالث باكيًا طالبا منه الصفح والغفران، مثلما فعل سلفه العظيم هنري الرابع مع البابا جريجوري السابع 1077.
وهكذا تم الصلح بين الإمبراطورية والبابوية في أغسطس عام 1177 أي بعد مائة عام بالتمام فوافق فردريك الأول على رد جميع الأراضي المغتصبة من الباباوية، وتعهد كل من الطرفين بمساعده الطرف الآخر ضد أي عدو يهدده، علاوة على عما وافق عليه الإمبراطور من عمل هدنة مع حلفاء البابا النورمانديين في صقلية لمده خمس عشره سنه. وهدنة أخرى مع المدن اللمباردية في شمال إيطاليا لمده ست سنوات وقبل أن تنتهي هذه الهدنة الأخيرة مع المدن اللمباردية ثم توقيع صلح كونستانس سنة 1083 بين المدن اللمباردية والإمبراطور، وهو الصلح الذي نص علي أن تتمتع هذه المدن بجميع أركان الاستقلال السياسي والقضائي والاقتصادي والعسكري، مع احتفاظ الإمبراطور ببعض المظاهر التي تصور سيادته اسميًا، مثل موافقته على تعيين حكام المدن وفرض الضرائب البسيطة للمساهمة في نفقات جيوش الإمبراطورية.
على أنه من الواضح أن هذه الشروط لا تحفي الحقيقة الواقعة وهي أن المدن اللمباردية أصبحت دويلات مستقلة بمقتضى معاهده كونستانس وأن نفوذ الإمبراطور في شمال إيطاليا أصبح اسميًا وان الباباوية قد أخذت وضعها بشكل كبير.
ومن هنا نرى في هاتين الحلقتين من الصراع بين الإمبراطورية والبابوية أن:
1- إن الكنيسة كانت سلطه وكانت إقطاعية تبحث عن نفوذها السياسي والاقتصادي ولو بحد السيف أو الثورات.
2- الإمبراطورية تبحث عن نفوذها وتقويته حتى باندلاع الحروب الصليبية في الشرق التي خاب أثرها وتركت الكنيسة الشرقية المظلومة تدفع قسطًا كبيرًا من الثمن.
3- أن الباباوات في انتصاراتهم على الأباطرة دخلهم الزهو والافتراء فتركوا جانب الروح وبحثوا عن لذة الجسد فتركوا الكتاب المقدس وبحثوا عن المال والسيف.
4- ذهبت نفوس الشعب المسكين تحت أرجل هؤلاء وأولئك دون تقديم أي عمل روحي.
No Result
View All Result
Discussion about this post