كان هم ما أثار مارتين لوثر Martin Luther هو موضوع الغفران، فقد آمن الكاثوليك أن كل أعمال الشر تنال جزاءها أما في هذه الحياة أو في تلك الفترة التي تعقب الموت والتي سموها (المطهر) والتي تتأهب فيها النفس للسعادة الخالدة، وقد آمنوا أن البابا يستطيع أن يقصرها نتيجة الغفران للأحياء والأموات، وكانت تلك الغفرانات تُباع بالمال، على أن وكلاء البابوية أساءوا استخدام هذه أيضًا، واتخذوا منها وسيلة لابتزاز الأموال، وكانت أمورًا رديئة وفاسدة تؤلم قلب الله وتُخْجِل الكنيسة، وقد دخل كثيرون من أخيار الكاثوليك ضد هذه المساوئ، وسفهوا علنًا تصرفات بائعي صكك الغفران.
وفي سنة 1517 أصدر البابا ليون العاشر غفرانًا عامًا للشعب، شاملًا العالم المسيحي كله! وإن كان الغرض منه الحصول على المال اللازم لإتمام بناء كنيسة القديس بطرس في روما!! وكان رئيس الأساقفة البرت منيز وكيلًا عن البابا في بيع الغفرانات في بعض أجزاء الإمبراطورية الألمانية يومئذ، ولكن قيل أن نصف الأموال التي جمعها من الأبرشية اغتصبها لنفسه وسدد بها بعض الديون التي كان قد افتراضها، ومن تم نري هذا النظام الذي وضعته القرون الوسطى يتحول الآن إلى تجارة حقيرة كان لوثر في ذلك الوقت راهبًا حسب نظام القديس اغسطينوس كما كان أستاذًا لعلوم الدين وراعيًا لكنيسة ويتبرج، وكان يرى التائبين الذين يعترفون له بخطاياهم، والذين اشترط عليهم الندم والتوبة وانسحاق القلب، يقدمون له صكوك غفرانهم بديلًا، فأحس بأنه فقد هيبته في خدمته وفي أقداس واجباته، وكان قد معهم في صراع روحي، وبوحي رئيسه وبعض زملائه، فيحاول أن يوضح أن الإيمان هو الشرط الكافي الوافي للتبرير، “وقد اشمأزت طبيعته الدينية من تدنيس هذه الظواهر الروحية الداخلية، ومن “بيع النعمة بالذهب”. وفي قمة حماسه أعلن بابا كنيسة ويتنبرج بحوذته الخمسة والتسعين عن منح الغفران، وكان قد كتبها باللاتينية، وعلى حسب عادة ذلك الزمان تحدى فيه الخصوم ودعاهم إلي حوار علني، وكانت مكتوبة بأسلوب وصياغة تثير تفكير الخاصة من العلماء دون العامة في الشعب الألماني، وقال أن غفران الخطايا يمنح لكل مسيحي يتوب ويندم بدون الحاجة إلي صك، وإن غفران البابا ليس إلا إعلانًا للغفران الإلهي، وأن إنجيل نعمة الله يأبى التصرفات المخزية التي يقترفها تجار منح الغفران ولم يكن لوثر يقصد مهاجمة البابا أو نظام الكنيسة، ولكنه أحس أن الحبر الأعظم حين يقف على المخازي التي يقترفها وكلاؤه في حق الناس يؤثر أن تهدم كنيسة الفريسي بطرس وتحرق بالنار على أن تبنى على دماء الشعب وعظامه.
أحس الراهب لوثر أنه يدافع عن وجهة نظر البابا ويفضح المتاجرين بالأمر، ولكن المعركة التي اضطر إلى خوضها في سبيل عقيدته ساقته سوقًا إلى الشطط الذي آل فيما بعد، واضطر إلى أن يعلن جهره بالإيمان الذي استقاه من الأسفار المقدسة، والذي بات مصدر قوته وحياتها يناقض العقائد التي اندست في خلال القرون الوسطى وقبل نظام الكنيسة الحالي كله، أنه مع ذلك ارتضى بناء على رجاء بوعدهم وطلبوا أقامه مناقشة علينة له في ليبنرج، (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا
في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فأحس لوثر أنه أصبح في حِل من تعهده وراح يقارع خصومه وجهًا لوجه، واضطر أن يصرح علانية أن سلطة البابوية ليست ذات مصدر إلهي وأنها من ابتكارات تطور التاريخ أشبه بسلطة الإمبراطور الألماني وأن الاعتراف بهذه السلطة ليس من مقتضيات الخلاص.
اتخذ لوثر الخطوة الحاسمة وبعد أن رفض المثول بين يدي البابا الذي استدعاه في روما، وبعد أن جاهَر في مناظرة خصومه بأن لا يؤمن بالسلطة البابوية وبعد أن نشر عقائد إيمان الكنيسة باللغة الألمانية لكي يفهمها الشعب، وبعد كل هذا لم يكن هناك بد من اللجوء إلى الشعب الألماني ذاته بألفاظ تستعر بنار الحماس مناديا إياه أن يطالب بحرية الفرد في الدين.
والذي هدف إليه لوثر الآن هو إنشاء كنيسة ألمانية قومية مستقلة وحرية الأفراد في كثير من الشئون الدينية فقد أعلن مثلًا أن الرجال والنساء، يكونوا رهبانا وراهبات إذا شاءوا ولكن من حقهم أيضًا أن يهجروا الأديرة إذا لم تطمئن نفوسهم إلى هذه الحياة. وأصر على أن خلاص الناس رهين بالإيمان بالله لا بالأعمال الصالحة التي يعملونها.
وقال أن صلوات البشر وأعمالهم ينبغي أن تصدر عن وازِع محبة الله والاعتراف بفضله، وهو المشفق الرحوم غافر الذنوب ولم يقبل، تكون الصلوات والأعمال الحسنة بمثابة رصيد حساب روحي يستعين على نيل الخلاص.
ومما عَلَّمَ به أن حياة الرهبان والراهبات ليست اسمي من الذين يخدمون الله بأعمالهم اليومية في مفترق الحياة، آمن بأن الكهنة رجال عاديون أختيروا لتمثيل الشعب وقيادته في العبادة فقط وليسوا أشخاصا خلقت عليهم الكنيسة نقودا وخواصا لن تنزع منهم.
وكان من جراء هذا كله أن حرمه البابا، وأمر بإحراق كل كتاباته. فما كان من لوثر إلا أن أحرق كتاب (قانون الكنيسة) وانثني طلابه ومريدوه في انفعال شديد يحرقون الرسالة البابوية ومؤلفات خصوم زعيمهم في مدينة ويتنبرج.
وعند ذاك كان الأمراء الألمان السبعة الذين حولهم اختيار الإمبراطور قد بايعوا تشارلز الخامس ملكا عليهم، فاستدعي تشارلز لوثر إليه ليجهر بعقائده أمام الجمعية الوطنية (مجلس النواب الألماني) في مدينة (درمس)، فانطلق مع بعض أنصاره في عربة مغطاة وأمامهم المنادي الإمبراطوري وقد رفع علمه الأصفر ذا النسر المزدوج دلاله على أنهم في حصن الإمبراطور، وكان لوثر يخطب في الناس في كل مكان يقف فيه في الطريق، فأثار حماس الجماهير الصاخبة واندفع الناس من بيوتهم يحيونه وهو داخل المدينة وفي أثناء انعقاد مجلس النواب كتبت على الجدران عبارات تهديد تنبئ بأن الثورة ستكون مسلحة إذا أصاب لوثر مكروه وعندما وقف لوثر أمام الإمبراطور في اليوم التالي قرر في غير مواربة أنه لا يتقيد لا بأوامر البابا ولا بقرارات المجامع العامة، وهو لا يخضع إلا لضميره ولأسفار الكتاب المقدس وختم كلامه قائلًا “علي هذا عاهدت نفسي وسأكون على العهد مقيمًا أعانني الله”.
ثم عاد لوثر إلى مقره، وكان الإمبراطور تشارلز الخامس يلتمس في ذلك الوقت فضلًا من البابا فعزل الأمراء الالمان الذين انتصروا للراهب مارثن لوثر، ثم استدعى الباقين وأعلن لهم أن لوثر خارج على القانون وقد حدث ذلك قبل أن تمضي عشرون يومًا على مبادرة لوثر المدنية.
على أن المجموعة كانوا متأهبين، وبينما كان في طريقه خرجت مجموعه الخيالة من غابة، وأوقعوا العربة وحملوه معهم وهناك في قلعه ورتبرج الكبرى أخفاه آمر ساكوني ووضعه تحت حمايته وقد بقي مدة متخفيا في بذله فارس فقير، ومن مخبأة كتب رسائل إلى أصدقائه وأنصاره وهناك شرع أيضًا في ترجمه العهد الجديد إلى اللغة الألمانية بعبارة سهلة الفهم وترجم فيما بعد بمعونة علماء آخرين أسفار العهد القديم أيضا.
وكانت ألمانيا في ذلك الحين على حال من الفوضى والاضطراب، فالإمبراطور كان أكثر الوقت متغيبًا في أملاكه، وكل أمير مستقلًا في إمارته أما الفلاحين الكادحون والفرسان الفقراء فقد انطوت نفوسهم على التمرد والمرارة وعضد الناس لوثر مسوقين إلى ذلك بعوامل متباينة، فبعضهم ناصره لكراهيتهم الضرائب التي فرضها البابا ورغبتهم في أن يديروا ألمانيا الحرة المتحدة والبعض الأخر كالفلاحين توسموا أن تكون مناداته بالحرية المسيحية وسيلة لإعتاقهم من أغلال العبودية وآخرون يهدفون إلى أن يهدموا كل الأشياء من النظم القديمة وخلق عالم جديد.
أغلقت الجامعة في ويتبرج وعطلت العبادة في الكنيسة واضطهد الرهبان والراهبات وبات لوثر في موقف حرج خانق، فهو لم يرد أن يحطم كل النظم القديمة ولا أن يفرض تعاليمه على الشعب فرضا وخشي نشوب ثورة اجتماعية تذهب بكل جهوده وتعاليمه، فاضطر أن يخرج من مخبأه ويهدئ ثائرة الشعب في ويتنبرج حتى عادت الأمور إلى مجاريها، وجاهد لإخماد ثورة الفلاحين، على أنه حينما فشل في ذلك واشتدت الثورة وهاجم الثوار القلاع والأديرة حرص الأمراء على قتلهم وإخماد ثورتهم في غير هوادة ولا رحمه. ولكن لوثر ندم على ذلك فيما بعد وأنب نفسه على هذه الغلطة.
غرست الآراء التي أذاعها لوثر في أوراق كثيرة من ألمانيا، وراح هو بقيه حياته يعلم وينشر دعوته وينظم الكنيسة الجديدة ويتعهد حياتها وثقافتها، وقد تزوج من (كاترين فون بورا) التي كانت راهبة، وعاش وإياها حياة هنية مع أطفالها في البناء الذي كان قبلًا ديرًا له في ويتنبرج. وهناك كتب المؤلفات الدينية ونظم الترانيم التي يرددها البروتستانت الآن.
ولما تفشي الطاعون في ويتنبرج ظل لوثر فيها بين الشعب، وهكذا نشأت الكنيسة البروتستانتية نتيجة عيوب رجال الإكليروس الكاثوليك وشطرت الكنيسة الغربية شطرين ولم ينقضي وقت طويل حتى ساءت العلاقات بين الفريقين وشك كل واحد في نوايا الأخر وبدأت تفرق أوروبا في حروب دينية اتسعت بها الهوة وانتشر التعصب الديني.
وبعد موت مارثن لوثر خرج شخص أخر ليخلق نظاما جديدًا يؤكد به حق الكنيسة المطلق في الحرية والاستقلال عن الدولة وهذا الشخص هو.
No Result
View All Result
Discussion about this post