ليس الشيطان فكرة بل كائن ولا أرهب !
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
..وكان، بعدما اعتمد الربّ يسوع المسيح من يوحنّا المعمدان،
أن أخرجه الروح، لوقته، إلى البرّية. هناك جرّبه الشيطان أربعين يوماً (مر 1: 12 ? 13).
هل الشيطان موجود فعلاً أم هو مجرّد فكرة معبَّرٍ عنها بلغة الشخص؟
ثمّة مَن ينفي، اليوم، وجود الشيطان والأبالسة جملة وتفصيلاً. كيف نقطع في الأمر؟
ما المقياس؟
المقياس هو الخبرة لا الفكرة.
وحده مَن خبِر وجود الشيطان، وكان أهلاً للثقة، يقدر أن يُخرجنا من الجدل إلى اليقين، إذا ما شَهِد.
في نهاية المطاف يبقى هناك قوم لا يصدّقون. ولو قام واحد من بين الأموات لا يصدِّقون!
نيقولاوس الكسندروفيتش موتوفيلوف، الذي اعتبر نفسه خادم القدّيس الروسي سيرافيم ساروفسكي (+ 1833 م)،
ومَنّ عليه الربّ الإله بخبرة الكينونة في الروح القدس،
بعدما دخل مع القدّيس سيرافيم في حوار بشأن الغرض الأساس من الحياة المسيحية،
وهو اقتناء الروح القدس، هذا الإنسان كان ملاّكاً مثقّفاً ومفتّشاً عاماً لمدارس مقاطعة سيمبيرسك الروسية.
وقد شهد، بعد وفاة القدّيس سيرافيم، لخبرة مهمّة في شأن وجود الشيطان، وكذا لما كان قد سبق للقدّيس سيرافيم أن قاله له في شأنه.
كل هذا نورده كما دوّنه موتوفيلوف.
نشأ موتوفيلوف، بعامة، في أجواء غير كنسيّة وكانت له شكوكه في شأن وجود الشياطين.
أطلعه القدّيس سيرافيم، مرّة، على صراعه الرهيب ضدّ الشياطين على مدى ألف نهار وليلة.
وقد تمكّن القدّيس بقوّة الكلمة وسلطان القداسة التي استبعدت، تماماً، إمكان تعاطيه الكذب أو المبالغة في الكلام،
أقول تمكّن القدّيس من إقناع موتوفيلوف بوجود الشياطين، لا باعتبارها أشباحاً أو من اختلاق المخيّلة بل من حيث هي واقع صارخ مرّ.
وقد أثّر فيه كلام القدّيس سيرافيم لدرجة أنّه هتف من أعماق نفسه عن طياشة: “كم أرغب، يا أبي، أن أدخل في مبارزة مع الأبالسة!”
فقاطعه القدّيس سيرافيم: “أنتَ لا تدري عمّا تتكلّم! لو كنتَ تعلم أنّ بإمكان أقلِّها أن يقلب العالم رأساً على عقب… لما كنتَ تتحدّاها“.
ثمّ تابع: “…يمثّلونها بحوافر وقرون وأذناب لأنّه ليس في وِسْع المخيّلة أن تتصوّر بشاعتها…
فهي على ظلمة وشناعة لا مثيل لهما بين الناس…
فقط النعمة الإلهية للروح القدس تطيح خداع العدو وحِيَله”.
رغم ذلك تخلَّل نفسَ موتوفيلوف شعورٌ غريب بالتحدّي!
وكان بعد وفاة قدّيس الله أن شرع موتوفيلوف في جمع المعلومات عنه: طفولته وشبابه.
لهذا ذهب إلى كورسك، مسقط رأس القدّيس.
هناك أنجز ما أمكنه ثمّ غادر إلى فورونيج.
في طريق العودة هبّت عاصفة فأمضى ليلته، مرغماً، في إحدى محطّات البريد.
في تلك الليلة شرع، على ضوء الشمعة، يتصفّح المخطوطات التي جمعها.
إحدى المدوّنات تضمّنت وصفاً لشفاء سيّدة، كريمة المحتد، من الشيطان الذي كان يقيم فيها.
تعجّب موتوفيلوف وتساءل: “كيف يمكن لإنسان أرثوذكسي يساهم القدسات المحيية أن يسكن فيه الشيطان فجأة ولفترة ثلاثين سنة؟!”
قال في نفسه: “هذا لا معنى له! هذا غير ممكن! لَكَم أرغب في أن أرى كيف يجرؤ الشيطان على السكنى فيّ، خصوصاً وأنّي أُساهم القدسات بتواتر!”
في تلك اللحظة بالذات، أحاطت به غيمة رهيبة، باردة باردة، تفوح منها رائحة النجَس.
هذه شقَّت طريقها إلى فمه فيما كان يتشنّج ويبذل كل ما في وسعه ليحفظ فمه مقفلاً!
عبثاً جاهد محاولاً أن يَقي نفسَه صقيعَ الغيمة المتجمِّد ونتنَها إذ تسلّلت تدريجاً إلى داخله.
رغم كل الأتعاب التي بذلها دخلت إلى داخله بالكامل!
كانت ذراعاه كأنهما مشلولتان، ولم يعد في وسعه أن يرسم على نفسه إشارة الصليب.
تجمّد عقله رعباً ولم يعد بإمكانه أن يتذكَّر الاسم المخلّص ليسوع.
أمر رهيب مثير للإشمئزاز حصل. خَبِرَ نيقولاوس عذاباً مروِّعاً!
دونك ما كتبه بخط يده واصفاً العذابات التي خضع لها:
“لقد منحني الربّ أن أختبر في جسدي، لا في حلم ولا في ظهور ما، عذابات جهنّم الثلاثة.
الأوّل كان عذاب النار التي لا تضيء والتي لا تقدر أن تنطفئ إلاّ بنعمة الروح الكليّ قدسه وحده.
استمرّ هذا العذاب ثلاثة أيام.
أحسستُ بأنّي أحترق، لكنْ دون أن أَتْلَف.
عشر مرّات أو إحدى عشرة مرّة في اليوم، كان عليهم أن يكشطوا سخام (شومار) الجحيم الذي غطّى كل جسدي وكان ظاهراً للعيان.
لم يتوقّف هذا العذاب إلاّ بعد أن اعترفتُ بخطاياي وساهمتُ القدسات،
بصلوات رئيس الأساقفة أنطوني فورونيج الذي أمر برفع الطلبات إلى الله، على نيّة عبد الله المتألِّم نيقولاوس، في الكنائس السبعة والأربعين والأديرة التابعة له.
“ثمّ عُذِّبتُ يومين بصقيع طرطروس الذي لا يُحتمَل، حتى لم تكن النار لتُحرقني أو تُدفئني.
وبناء لرغبة سيادة رئيس الأساقفة… جعلتُ يدي فوق شمعة مدّة نصف ساعة.
ومع أنّها تغطّت بطبقة من السخام لم تَدْفَأ البتّة.
وَصَفْتُ هذا الاختبار في ورقة كاملة وختمتها بيدي المغطاة بالسخام.
كِلا هذَين العذابَين كان بيِّناً للعيان.
فقط بعون القدسات الإلهيّة أمكنني أن أتناول الطعام والشراب وأنام قليلاً”.
أما العذاب الثالث الذي كان أقصر بنصف يوم من سابقه،
إذ استمرّ يوماً ونصف اليوم (أو ربما أقل قليلاً)، فقد تسبَّب لي برعدة عظيمة وألم وكان غير قابل للوصف ولا للإدراك.
لا شكّ أنّها عجيبة أنّي بقيت حيّاً! هذا العذاب، أيضاً، توارى بعدما اعترفتُ وساهمتُ القدسات.
هذه المرّة، رئيس الأساقفة أنطوني ناولني القدسات بيدَيه.
كان هذا العذابُ عذابَ الدود الذي لا ينام في جهنّم.
الدود، في هذه الحالة، كان منظوراً لعينَي رئيس الأساقفة ولعينَيّ.
كان كل جسدي في حيرة وكان الدود الخبيث يدبّ من خلالي كلّي ويقرض، على نحو مخيف لا يوصف، أعضائي الحيويّة (كالدماغ والقلب).
ومع أنّه كان يخرج من أنفي وفمي وأذنيّ فإنه كان يعود ويدخل من جديد. وقد أعطاني الله القدرة عليه فتمكّنت من إمساكه بيدي وبَسْطِه وكأنّه مطّاطي.
أشعر بأنّي مُجبَر على أداء هذا التصريح لأنّ الله لم يمنحني هذه المعاينة للاشيء.
لا يظنّن أحد أنّي أجرؤ على اتخاذ اسم إلهي عبثاً.
في يوم الدينونة الرهيبة سوف يشهد ? وهو إلهي ومعيني وحافظي ? أنّي لم أكذب ضدّ إلهي وربّي، ولا ضدّ عمل نعمته الإلهيّة التي تمّت فيّ”.
بعد هذا الامتحان الرهيب بفترة وجيزة،
عاين موتوفيلوف شفيعه القدّيس سيرافيم الذي عزّاه ووعده بأن يبرأ متى عُرضَتْ رفاتُ القدّيس تيخون زادونسك، وأنّه، إلى ذلك الحين،
لن يعاني من عذاب الشيطان المقيم فيه بالقدر عينه الذي عرفه بدءاً.
وبالفعل عانى موتوفيلوف ثلاثين سنة من وجود الشيطان فيه.
وقد كاد أن ييأس. ثمّ في العام 1865 م، أثناء عرض رفات القدّيس تيخون زادونسك، كان واقفاً في الهيكل يبكي بمرارة لأنّ الربّ الإله لم يمنحه الشفاء على حسب وعد القدّيس سيرافيم.
فجأة، أثناء ترتيل الشاروبيكون تطلّع إلى العرش الأسقفي فعاين القدّيس تيخون هناك.
للحال باركه وتوارى، فشفي موتوفيلوف للحال!
No Result
View All Result
Discussion about this post