كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الأول:
الفصل السابع
في فوائد وحلاوات العزلة
العبد
أيتها البتول القديسة: لقد أمضيتِ في الهيكل أياماً هدائة صاحية، وتذوقتِ فيه بسلام وهناء طعم إيحاءاته تعالى، وأعددتِ له في باطنكِ هيكلاً أسمى وأكثر لياقة به من ذلك الهيكل الأرضي الذي عشتِ فيه. إن إستحضار الله كان يشغل فكركِ بلا إنقطاع، وكنتِ تتأملين دائماً عظمته وكمالاته. الحبيب كان بكليته لكِ وأنت ِ له! وكل ما في وسع العالم أن يقدمه من غنى وجمال كان لديكِ عدماً
مريم
يا بني: إن النفس المنعزلة تقضي حقيقة أياماً سعيدة بعيدة عن العالم وخيراته، غير مهتمة إلا بالله كأن لا شيئ في العالم يحتاطها سواه. فكرها يكون دائماً مختلياً للإصغاء إلى صوته تعالى ولا شيئ يمكنه أن يقطع عنه عز وجل صوت قلبها الذي تسمعه إياه بلا إنقطاع. تجد لذتها كلها في كلماته القصيرة التي تود تردادها وهي: إن مجدي وغناي وفرحي ونصيبي في الله إلى الأبد. وتجلس كعروس الكتاب المقدس في ظل حبيبها ملقية نظرة إشفاق على ما يتكبده البشر ليضحوا كبار وأغنياء، ولا يمكنها أن تفهم إمكانية الحياة بحب غير ما تحبه هي. كل ما يحدث على الأرض يهمها قليلاً. إن الذي تحبه دائماً هودائماً كما هو، وسيبقى دائماً قدوساً ومستحق المحبة كما هو، وتجد في هذا الفكر موضوع فرح جديد . عندما يريد الرب أن يمنح نفساً تعاليمه الإلهية يقودها الى العزلة. فأطلب منه يا بني هذا ذوق الإختلاء، روح العزلة الذي كان للقديسين . أحبب العيش بعيداً عن العالم ولا تظهر فيه إلا وقت الحاجة. وإذا أحوجتك الضرورة إلى الظهور في العالم تشبه بالحمامة التي اٌجبرت على ترك الفُلك، فعادت إليه مسرعة حيث لم تجد خارجاً عنه محلاً تستريح فيه.
إذاً لا تتجنب العالم بإجتهاد فستتعود على أذواقه، ومتى تعودت عليها لن تعد تشعر بلذة أمور الله. إن عروس نشيد الأنشاد فتشت على حبيبها في وسط أزقة أورشليم فلم تجده. عليك أن تعترف مقراً بأنك لم تخرج من محادثات العالم إلا وأنت أكثر الماً أمام الله ممكنا كنت عليه قبل دخولك فيها. إن حب الإختلاء واجب إذا أردنا أن نكون أمينين على ذاتنا لدى ظهورنا أمام الناس، إذ إن الإختلاء يعلم الإنسان كيف يتكلم في وسط العالم. إن حياة العزلة هي من الوسائط الأكثر فعالية لحفظ البرارة ولا شيئ يضعف الفضيلة في الإنسان مثل المعاشرة الكثيرة للناس. هل للإنسان أن يستنشق هوآء معدياً كهواء العالم دون ان يشعروا بالعدوى؟ اكثِر إذاً من خلوتك لتستنشق هواء أكثر نقاء. يعترف القديسون المتوحدون بأنهم لم يتمكنوا قط من التحدث بدالة مع الله إلا منذ أن إبتعدوا عن عشرة العالم وإنشغالاتهم به.
يا بني: إن تنعم الرب في أن يكون معك، فإجعل إذاً تنعمك أن تكون معه . ولن تجده أفضل مما تجده في العزلة. ففي العزلة يعطى لك أن تكشف له أفكارك الباطنية بحرية أكثر مما في أي محل آخر، وأن تعبر له عن عواطفك بسهولة وبحرية واثقة. هناك في العزلة ستتولد بسهولة في عقلك تلك الأفكار التي تحلي مرارة عيشك وتهدي مخاوفك وتبدد شكوكك وتريك الطرق الأمينة للسير بحكمة في كل شيئ. وهناك أخيراً في الخلوة سيسمع قلبك صوته الخفي الخاص به، ويكلمك بلهجة لا يفهمها إلا احباؤه، ويطبع في نفسك حقائق تكون معرفتها ثمرة محضة لحبه.
No Result
View All Result
Discussion about this post