كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الأول:
الفصل الحادي عشر
عن العظمة الحقيقية
إنه لفرق شاسع بين العظمة التي يمنحها العالم وتلك التي تعكسها النعمة علينا. عظمة الملوك تبرز بوفرة المال وفخامة القصور وتعدد الخدم، أما عظمة البار فتظهر في إحتقاره العالم وكراهيته للخطيئة ومحبته لله! فإن مجد الإنسان وإستحقاقه الحقيقي يتوقفان على إتقاء الله وحفظ وصاياه.
إن الملاك الذي أرسله الله إلى مريم بادرها بهذا الكلام: السلام لكِ يا ممتلئة نعمة الرب معك: أفهل كان في وسعه أن يمتدحها بأعظم من هذا؟
ذاك يستحق مديح البشر والملائكة من يمكن أن يقال له: لقد وجدت نعمة عند الله وأنت مقبول لديه. حين أرسل الملاك الى مريم كان أوغسطس قيصر وهيرودس متربعين على العروش، وكانا يعرفان بالعظيمين والمقتدرين والشريفي النفس. ولكن ما كانت حالهما أمامه تعالى، الحاكم العادل الوحيد المقرر عن الشرف الحقيقي؟ عذراء شافية مختفية في عزلة الناصرة كانت أكثر إستحقاقاً منهما، بما لا حد له، لكل هذا المدح العظيم. إن العظمة الراسخة الحقيقية لا تقاس بأفكار البشر الباطلة بل بأفكار الله العظيم الأوحد الذي لا عظمة حقيقية إلا منه!
ماعسى أن يكون الأبطال الذين يعجب العالم بهم إذا ما قورنوا بالرجال العظام اللذين تكونهم الديانة بالفضيلة؟ إن كبح الأميال لأعظم من كبح الشعوب ولايكلف الإنسان تغلبه على خصمه مثلما يكلفه تغلبه على ذاته.
ليس المسيحي الحقيقي كسائر الأبطال المدينين في عظمتهم لظروف معينة موآتية والذين هم عظماء لمدة فقط، إن المسيحي بطل في كل حياته، وعظمته مبنية على قهر كل الموانع التي تعترض سيره في طريق الفضيلة، وغايته هي إقتناء الله والإستراحة فيه. وهل من شرف أعظم من أن يخدم الإنسان ربه منخرطاً في عداد المنتمين إليه؟ إن خدمته تعالى هي تملك شريف. حين يتكلم الكتاب عن إبراهيم وموسى وداوود الذين كانوا من أعظم الرجال البارزين على الأرض يلقبهم بإسم: عبيد الله ، الإسم الذي يحوي كل الأسماء الأخرى! بل وإن الأسماء الأخرى ليست بشيئ بالنسبة إليه، إذ إن اسم عبد الرب يسمو على اسم الملك والسلطان بقدر ما يسمو تعالى على الملوك والسلاطين.
أيها الملك غير المائت والسيد الأعظم للكون بأسره، إنك خلقتني لك ولك وحدك. هل يا ترى من الممكن أن يعرفك الناس ثم يعودون فينطيون شرفهم وعظمتهم بكائن آخر؟ هل يمكن أن يعرفوك ولا يقدروا عظمة اللذين يخدمونك؟
يا لشرف الإنسان المخلوق الوضيع في ذاته حين يعطى له أن يتوق إلى شرف خدمتك ومحبتك! اجعل يارب أن أفهم بعون نعمتك بأن الذي يسعى في تكميل إرادتك وفي سبيل خدمتك بأمانة في ظلمات حياة منعزلة مثلما عملت مريم يكون قد أتى عملاً أعظم من كل ما يعتبر عظيماً ومجيداً في نظر عالم أعمى وعديم الصواب. وليلهمني المجد والرف المرتبطان بخدمتك عظمة نفس سخاء وثباتاً لائقين بالسيد الذي أخدمه في وسط جميع أفعالي وإنشغالاتي.
No Result
View All Result
Discussion about this post