كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الأول:
الفصل الثالث عشر
في أن المجد الراسخ هو في التواضع المسيحي
إن العبارات التي استخدمها الملاك في تحدثه مع مريم لم تكن لتتفق في نظرها مع الأفكار التي كانت لها عن ذاتها فقد إستحوذ على نفسها خوف مقدس، كأنها خشيت أن تكون هذه الأشياء التي تحدث أمامها نوعاً من خداع الحواس أو فخاً ينصبه لها الروح المجرب.
أسمعها الملاك بأنها مباركة في النساء، أما هي فحيث إنها كانت تعتبر ذاتها آخر النساء لم تكن تفهم كيف أمكن أن تخص بهذا المدح العظيم. فأخبرها الملاك أنها قد وجدت نعمة عند الله بكذا درجة حتى إنها إذا أبدت إستعدادها فستكون اُماً له. ومريم تتواضع أمام هذه المرتبة السامية التي تدعي إليها، وترى ذاتها سعيدة في أن تحمل على ذاتها لقب خادمة له عز وجل.
فيا أنتم الذين تركضون مجدين وراء المجد، ها إن مريم ترشدكم الى محل وجوده. إن المجد الحقيقي الراسخ قائم في أن يجعل الإنسان ذاته صغيراً. هذا هوحكم الله الذي قال: الأصغر بينكم هوالأعظم. وهذه العظمة لا تكون فقط راسخة ثابتة، وفي مأمن أيضاً من أن ينازعك فيها أحد أوأن يسعى في إنتزاعها منك. إنك بصيرورتك أصغر الكل، تضحي أعظم الكل إذ إن هذا الإتضاع الذي يولد فيك الإقتناع بأنك لست بشيئ في ذاتك وبأنك لا تستطيع شيئاً من ذاتك سيرتفع بك إلى الله الذي سترى فيه مصدر الخيرات الأعظم. حينئذ سيكون في وسعك الإعتماد على قدرة الله، وإنما بأنه يسر في تقوية الضعفاء. هذا وأن التواضع ينقذك من جهة اٌخرى من الدناءات التي يقود إليها الطوح والكبرياء. وهل من نفس أكثر إنحطاطاً من تلك التي يكون شوق الارتفاع وحب التظاهر قد تملكها؟
التواضع يحررك من الحياء البشري ومن التأثر بأحكام البشر، فيكون في وسعك أن تقول مع الرسول: أما أنا فلا يهمني أن تحكموا عليّ، إن الذي يحكم عليّ هوالرب. التواضع يتيح لك النظر بعدم الإكتراث إلى الشرف الدنيوي، إذ يمكنك من الوقوف على غروره وبطلانه الباديين في ثنايا فتنته وجاذبيته.
التواضع سيحملك لا على أن تقيس ذاتك بالقريب بل على أن تحترمه، متحققاً دون أي تأثر بأنه أفضل منك أكان ذلك بالمرتبة أم بالإعتبار. يبدوالتاوضع للإنسان ذلاً، وما ذلك إلا لأن الإنسان يحكم على كل شيئ بنظر الحواس ولا يتأثر إلا بالخيرات الحسية. مع ذلك فالتواضع من أهم الفضائل الداخلة في تكوين القلوب الشريفة والعظيمة. إن التواضع، أكثر من أي فضيلة اُخرى، يخلف في أفكار الإنسان رسوخاً وفي نفسه ثباتاً. وأهم من هذا كله إنه يطبع فينا علامات التشبه الجميلة بيسوع الإله والإنسان ومبدأ كل عظمة ومجد حقيقين. يسموالإنسان عظمة ومجداً حين يسعى إلى التشبه بالمثال الإلهي. ولا يقترب من هذا المثال إلا حين يكون متواضعاً ومحباً للهوان.
أحب يسوع الهوان مدركاً كم أنه يمجد الله بتواضعه هذا. وبالحقيقة أن الآب الأزلي لم يعلن للملأ بأنه يضع في يسوع كل سروره، والملائكة لم تنشد: المجد لله في العلا إلا في وسط الهوان الذي أكتنف يسوع الحبيب. إذا كنت متواضعاً على مثال يسوع فالله يتمجد فيك، وهل من مجد أعظم من تمجيد الله؟!
ياملكة السماء التي كملت فيكِ بنوع عجيب هذه العبارة الإنجيلية: من يتضع يرتفع، يامن كوفئ تواضعك ِ بإرتفاع أعظم، إستمدي لي النعم الضرورية لأهدم أسس الكبرياء المتأصلة في نفسي.
آهاً! إنني لم أحصل حتى الآن على ظواهر الإتضاع، ولم أتظاهر بهذه الفضيلة إلا سعياً وراء تقدير العالم الذي يرذل المتكبرين بالرغم من فساده هو.
نالي لي تواضعاً صادقاً يجعلني أقتنع بضعفي وأنسب كل شيئ إلى الله على مثالكِ، وأنتظر كل خير منه وأتعلق به في كل شيئ، فأضحي بذلك أهلاً لتقدير الرب ذاته الذي هووحده ينبوع العظمة والشرف.
No Result
View All Result
Discussion about this post