كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الأول:
الفصل الخامس عشر
في فطنة الإيمان
يذكر لنا الإنجيل عن مريم بأنها فكرت عندما نقل إليها الملاك كلام الرب. إن تفكيرها هذا كان ثمرة تواضعها وإيمانها. إن هذه البتول الكلية الفطنة كانت تعرف جيداً إن ملاك الظلمة يتحول أحياناً إلى ملاك نور، وإن صوت روح الضلا يتمثل أحياناً بصوت روح الحق. لذا فهي تسأل الملاك منتظرة جوابه لترى فيما كان هذا الجواب مطابقاً لما ورد في الأنبياء عن المسيح ولمبادئ ديانتها. وبعد أن تكلم الملاك مجيباً على سؤالها لم تجد ذاتها بحاجة الى قاعدة اُخرى تسيرها لأنها وجدت كلام الله في كلام الملاك. هناك فطنة تقود للخضوع للإيمان ولا تقاومه.
فالفطنة تفتح العيون أولاً ليتحقق الإنسان من صحة الوحي، والخضوع يغلقها بعد هذا التحقق ليؤمن الإنسان إيماناً أعمى، لايجب أن أصدق كل نوع من الأروح.إنني لا أريد أن أؤمن بما يعرض عليّ من أمور الدين مالم يكن مطابقاً لما قاله الله إما رأساً وإما بواسطة كنيسته التي هي عامود الحق وقاعدته. إن الله أعطانا وسائط متعددة لمعرفة ما قد أوحاه. فلما أتأكده من معرفة الوحي، علي حينئذ أن أحرم كل من يريد أن يعلمني خلافاً لما يعلمه هذا الوحي، حتى ولوكان ملاكاً. إنني أؤمن بكل ما تعلمه الديانة لأنها لاتعلمني إلا ما قاله الله، وأي شي أصح مما قاله الله الذي هوالحق بالذات؟ ولا يمكن حتى ولا أن أخدع، حيث إن الله لا يمكن أن يغش ولا أن يُغش.
إنه لجنون أن أؤمن بلا أسباب كافية بأن الشيئ الفلاني هوكلام الله، وهوجنون الوثنين والكثيرين من المسيحيين أيضاً. إلا إنه من أعظن دلائل الحكمة أن أؤمن بأن الشيئ الفلاني هوكلام الله إستناداً على أسباب كافية. إن الإيمان الثابت بالحقائق التي أوحى بها الله إن هوإلا مشاركة الله في عصمته وعدم قابليته للضلال. إن الفحص الذي نجريه على أمور الديانة بالطريقة التي أجرتها مريم سيولد فينا حتماً تذبذب في الإيمان. غير إنه يوجد من يقوم بهذا الفحص رغية منه في المحافظة على ضلال أحبه، وليس معرفة ما يجب أن يؤمن به وأن يحبه. غاية هؤلاء ليس أن يجدوا، إذا أمكنهم، أسباباً للشك بالحقائق التي لا يطيقون حملها. إنهم لا يفتشون على قواعد أمينة لمعرفة ما يجب أن يؤمنوا به أو كيف يجب عليهم أن يعيشوا. الغاية من بحوثهم أن يعيشوا في الإثم بلا تبكيت الضمير. إن مبدأ عدم التدين من أذواق الأشخاص الذين يضايقهم الإيمان. لا يتشبه الإنسان بأمور الدين إلا عندما تضحي له غير مريحة. فقداسة حكمها تثير الكفرة أكثر مما تفعله عدم قابلية إدراك أسرارها. أما أن يكفر الإنسان بشهواته أوأن يتحمل المخاوف وتوبيخ الضمير المتواصل، فيقرر حينئذ لذاته عدم الإيمان بشيئ من الأشياء، أو أن يلتجئ إلى إثارة الشك حول كل شيئ، مستثنياً من هذا الشك الإنحراف الذي يرغب العيش به.
No Result
View All Result
Discussion about this post