كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الأول:
الفصل الثامن والعشرون
عن الثقة بالله والإستسلام لعنايته
إن الثقة بالله لهي أعظم مايمكن أن نقدمه لكمالات الله من إكرام. بقدر ما تكون ثقتنا بالله مطلقة وبلا تحفظ بقدر ذلك يكون إكرامنا إياه عظيماً. بهذه الثقة نعترف به كائناً سامياً يقدر على كل ما يريد، وإرادته الصالحة تعادل قدرته. وهذه الثقة من الوسائط الأكثر فعالة لنيل نعم عديدة وأفضال معتبرة من السماء. إن مريم قد قدمت لنا أكثر من مثال في هذا الموضوع، غير أن إيداعها للرب مسألة الدفاع عن شرفها هومن أمثلتها الأكثر بروزاً. تولدت في خطيبها الذي عين حافظاً لبتوليتها أفكاراً لم تكن صالحة، ففكر بنتيجتها بأمر تخليتها سراً.
أما مريم فلم تضطرب البتة بل إنتظرت منه تعالى بخضوع أن تتدخل عنايته، واضعة فيه كل ثقتها. ولم تخب ثقتها هذه إذ إن العناية الإلهية تدخلت حين شاءت وأنارت يوسف بأنوار من العلا بددت شكوكه وجعلته ألا يتردد من بعد ذلك وألا يخف من أن يتعلق بخطيبته تعلقاً لا رجوع عنه، وملأته تقديراً لفضيلة هذه الخطيبة. من هذا يظهر كم أنه مفيد أن نثق بالله وأن نسلم بين يديه كل مصالحنا. كل شيئ هوموعود للثقة، طل السماء وخصب الأرض، فوائد الزمان وخيرات الأبدية. من إتكل على ذراع من لحم يشبه الأريقى النابتة في البادية، نصيبه يكون اليبس، أما الذي يضع ثقته في الله متخذاً إياه مسنداً له يشبه إحدى هذه النباتات الخصبة النامية على ساحل المياه، أوراقها ستكون محمية من هبوب أي ريح محرقة، وستحافظ على خضرتها ولن تكف عن الإثمار. كل شيئ يحملنا على الثقة بالله. صلاحه تعالى وقدرته ومواعيده وأمانته ومعرفته لإحتياجاتنا وضعفنا الشخصي والإختبار البارز يومياً عن عدم مقدرة البشر بل وعن خيانتهم.
عليك إذاً بالثقة بالله في جميع ضيقاتك مهما كان نوعها، إنك تتشكى من كون أن الله لا يمنحك عونه في وقت أحزانك، غير أنه عليك أن تعلم بأنه تعالى ينتظر من ثقتك أن تقودك إليه لتطلب منه هذا العون فيعطيك إياه حينئذ. إنه يعرف بلا شك حالتك التعيسة التي توجد فيها، ولكن إذا ثقتك به لا تكلمه عن هذه التعاسة فسيتصرف معك كأنه لايعرف عن تعاستك شيئاً. إنك تستسلم للقلق ولقلة الشجاعة كأنه لا يوجد إله في إسرائيل. آهاً! إننا نجهد ذاتنا غالباً ونقلق فزعين بينما فعل ثقة واحد في وسعه أن يعيد الهدوء والسلام إلى نفسنا. ففي الأخطار المحدقة بك وفي وسط إرتيابك وأحزانك إتخذ التدابير وفتش عن الوسائط وأطلب المشورات، على أن يكون الله معتمدك الأول قبل كل شيئ.
ليس في وسع البشر أن يساعدوك ولا أنوار لهم لذلك، بل ولا يريدون ذلك إلا بقدر ما يمنحهم الله. لا تبلغ ثقتك بالله درجة الأفراط إلا عندما تكون مدعاة للزهووالجسارة. بمقدار مايكون الإنسان ضعيفاً بمقدار ذلك يضحي قوياً بالله الذي يثق به، ومهما أضعفت الظروف صحتك فقدرة الله الذي يقدر أن يعيدها إليك لم تضعف. وإذا فقدت شخصاً كان يعيلك فأعلم بأنك لم تفقد معه ذاك الذي كان يسير دائماً ذلك الشخص ليقوم بما كان يفعله معك. إذا أمعنا النظر ملياً في الأمر سيتحقق لدينا كون إن عون الله لم ينقص فينا إلا عندما أضحينا غير مستحقين لهذا العون لعدم ثقتنا به.
No Result
View All Result
Discussion about this post