كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثاني:
الفصل التاسع عشر
عن الحياة الباطنية
كل مجد ابنة الملك من الداخل. إن هذه شهادة الروح القدس تليق بنوع أكمل بالبتول القديسة. إن ما نعرفه عن أعمالها الخارجية ليس بشيئ بالنسبة إلى ما كان يجري في باطنها. لنتمثل هذه الأم البتول في بيت الناصرة، لنلج حتى باطنها لندرسه جيداً. من يقدر أن يعرب عن ماهية عواطفها ومودتها وأشواقها؟ ومن يستطيع أن يعبر عما كان يجري في هذا المقدس السامي؟ أنت وحدك يارب كنت تشغل قوى نفسها، أنت وحدك كنت مبدأ وغاية كل أعمالها. كنت حاضراً دائماً في فكرها، وكانت تعاينك في كل خلائقك. لاشيئ كان في وسعه أن يشغلها عنك، لأنك كنت لها كلاً في الكل. أحكامها كانت متزنة بمبادئ حكمتك الأبدية، وخطواتها كانت مسددة بروحك،، ومحادثاتها كانت متقدة بمحبتك. إن مريم كانت مستسلمة لله ولخدمها البيتية بحرية نفس مجردة عن كل نظر وإعتبار دنيوي، بعيدة عن العلاقات غير الروحية. وبالرغم من سيطرتها التي كانت لها، بفضل نعمة خاصة، على كل حركات قلبها، فقد كانت تتخذ التدابير الأكثر دقة لتسد أبوابه عن كل موضوع خارجي، لم تكن تتحمل محبة أو نية أو شوقاً إلا ويتجه نحو الله ونحو مجده، من مثل العذراء هذا نقدر أن نعرف الشيئ الذي تتوقف عليه الحياة الباطنية: إنها تتوقف على أن يسهر الإنسان على قلبه كي تكون جميع عواطفه مخصصة لله وحده، وعلى عقله كي يستخدم كل شيئ للارتفاع بأفكاره نحوه تعالى.
هذا السهر كعين يقظة، تميز ماهو متأت عن الطبيعة فتكبحه، وما يأتي عن النعمة فتحرض على تنفيذه. بهذا السهر ينال الإنسان النعمة والقوة ليقوم بكل أفعاله بطريقة تحفظه من الانحدار إلى دناءة الغايات الطبيعية . ومن دون هذا السهر فلا بد للإنسان من أن يقع في غلطات متعددة وخسارات عظيمة، أما بواسطة هذا السهر ففي وسعه أن يأتي بأفعال فضيلة عظيمة ومتواترة من دون أن يأتي بأفعال خارقة العادة. كم من المتزحدين والبتولات توصلوا إلى الدرجة الأولى بين الطوباويين بفضل حياتهم الباطنية. إنك لن تقدر أن تتذوق السلام والفرح المتأتي من روح القدس مالم تكن إنساناً باطنياً. الإنسان الباطني يعرف كيف يسيطر على ذاته. وحيث أنه يسهر على نفسه ليقيها من من التعلقات التي تستهوي النفس وتكبلها، لذا فإنه يحتفظ بسلام القلب حتى في وسط الحوادث التي في وسعها أن تزعزع صبراً اعتيادياً.
أما الإنسان الخارجي فهو بالعكس من ذلك، أي أنه يثور ويضطرب وينشغل بالآف المواضيع التافهة التي لا تستحق منه كل هذا الاهتمام فيفقد رتحته وهدوءه. إن الإنسان الباطني لا يعرف حكمة أخرى غير تلك التي هي حسب روح الله، أعني الحكمة التي ترتفع بفكره ونظره إلى التأمل بالأمور السماوية بعد أن تكشف له بطلان الأرضيات. أما الانسان الخارجي فلا يستشير إلا بفطنة الجسد، وكل مابدا له متباعداً عن هذه الحكمة اعتبره ظلمة بل وجنوناً. الإنسان الباطني يتحفظ دائماً من غش وخداع الحواس، بخلاف الإنسان الخارجي الذي يحكم عن كل شيئ بواسطة الحواس التي يوجه نحوها كل شيئ. ضع لذتك في التفكير بالله وبالتفتيش عليه في كل شيئ وفي توجيه كل شيئ نحوه تعالى. حينئذ ستحصل على ملكوت الله في باطنك، وستضحي ذاك الساجد الحقيقي الذي تكلم عنه يسوع والذي يسجد لله بالروح والحق.
ما هو السبب في أن يوجد أغلب البشر في وسط الاضطراب والتذمر؟ السبب في ذلك هو لأنهم يعيشون حياة خارجية محضة ولا يهتمون إلا بما هو أرضي. فأشخاص كهؤلاء، وإن ظهروا لنا بطريقة معيشتهم بأنهم متحدون مع الله، ألا أنهم ليسوا على ما يظهرون. أن قلبهم موزع بين تعلقات عديمة الفائدة، وعقلهم مشتت بشتى الأفكار الباطلة. الله وحده يمنح الاستقرار لأفكار الإنسان الباطني، ويثبت نيات قلبه. أما الأمور الأخرى فلا تنال من هذا الإنسان شيئاً مهما بدت له زاهية. علينا أن ننظم الخارج بالباطن. مع ذلك فأغلب البشر يعكسون الأمر، إذ يفرضون على الخارج أن يكون منظماً للباطن. تعود إذاً على الكفاح الباطني، ولاتعر ذاتك للخارج إلا بقدر ما يسمح لك الله به.
وإذا كان ولابد أن تعر ذاتك للخارج بأسم الوظيفة، فما عليك حينئذ إلا أن تتبع جاذبية النعمة التي تدعوك إلى الاختلاء الباطني كي تفحص هنالك ما يكون قد طرأ عليك من عواطف ونيات أثناء العمل.لاتظن بأن الحياة الباطنية هي خاصة بحالة من الحالات دون الأخرى أو لوقت من الأوقات دون الآخر. إنها تتماشى مع واجبات كل الحالات مهما كانت انشغالاتها. وممارستها ممكنة في العسر كما في اليسر، في المرض كما الصحة، في التعب كما في الراحة، في وقت العواصف والتجارب كما في وقت الهدوء والسلام. ما من حالة في حياة الإنسان إلا وتتيح له المجال كي يلج إلى بالباطن فيفحص ما يحدث فيه. وعليك على الأخص أن تستلم لممارسات الحياة الباطنية حين يدعوك الله إلى أعمال الغيرة، وإذا أهملت هذه واسطة الكمال في تلك المناسبة فستتشتت كثيراً في الخارج، وستفتش على ذاتك أكثر من تفتيشك عليه جل وعلا. ولن يستخدمك الله حينئذ للمساهمة في تقديم النفوس في الفضيلة، إذ لن يكن في وسعك أن تحمل الآخر على ممارسة ما لاتعرفه إلا بالكاد.
No Result
View All Result
Discussion about this post