كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثاني:
الفصل الثامن عشر
عن الحياة الخفية
العبد
تنازلي أيتها البتول القديسة واشرحي لي سر الحياة المظلمة والخفية التي عشتها في الناصرة. إنك كنت قادرة على أن تكسبي ليسوع كثيراً من القلوب المحبة لوكنت قد ظهرت للناس.
مريم
يا بني: كنت أجعل كل فخري في أن أقتدي بيسوع ذاته الذي أراد أن يكون على الأرض لمدة طويلة إلهاً محجوباً. إنه جاء إلى هذا العالم ليرشد البشر بتعليمه على الانهزام من الزهو وعلى اتباع التواضع. إلا أنه طيلة حياته الخفية في الناصرة قد أراد أن يسبق تعليمه بمثله. لقد شاء الآب السماوي أن يتمجد بحياة يسوع الخفية، ويسوع ذاته فضل هذه الحياة المحتجبة على العجائب التي كان في وسعه أن يعملها. لقد أفهمنا بأن الكمال والاستحقاق للقسم العظيم من البشر لا يتوقف على أن يقدموا أعمالاً عظيمة، بل في أن يهتموا بالأعمال اليدوية والأشغال الوضيعة في نظر العالم لأنه هكذا أراد منهم. كما وأراد أيضاً أن يبدد غرور أولئك الذين يجعلون القداسة متوقفة عادة على الفضائل الرنانة.
إلا أنه يشجب بعمله هذا خاصة التهافت العظيم الذي يدفع بالبشر إلى الظهور وشوقهم إلى أن يكونوا معتبرين، محترمين. أحبب يا بني الحياة الخفية المجهولة المنسية طالما يؤيدك الله فيها، وماذا يهمك تأييد العالم؟ العالم يزول ومعه يزول كل شيئ. في الناصرة كنت حاصلة على يسوع وعلى محبته وهوكان حاصلاً على محبتي. فما الذي ينقص الإنسان ليكون سعيداً؟ زاوية صغيرة تعتزل فيها لقضاء حياة خفية يجب أن تفضل لديك على كل قصور الملوك. هناك في الحياة الخفية ستجد ينبوع الدموع والانسحاق فتغسل خطاياك يوماً فيوماً. هناك تتذوق من الآن حلاوات السماء باتحادك المتواصل بيسوع. إذا بدت لك الحياة المخفية كئيبة فلأنك لم تذق قط حلاوتها. لوذقت هذه الحلاوات لوجدت بأن عظمة العالم وملذاته باطلة حقاً، وأن الذين يفتشون عليها هم أيضاً باطلون. صحيح هوبأن حياة كهذه تتعرض غالباً لسخرية أهل العالم الذين يستغربون من شجب لهواتهم.
إلا أن هذه السخرية لها فائدتها العظمى إذ تتحد القلب بنوع أقوى بيسوع الذي عليه وحده تفتش النفس. يابني: قليلون هم الذين يعيشون في وسط السلام، وقليلون هم ذووالحياة الروحية والباطنية. لان قليلون هم الذين يحبون الابتعاد عن الناس ليحافظوا على الاتحاد بيسوع وحده. بل ويوجد من يدعي بالتخصص للفضيلة وهو عار عن التقوى الؤاسخة، وما ذلك إلا لأنه مشتت كثيراً في الخارج ويحب الظهور كثيراً. روحانيته ليست إلا بالكلام فقط، ويتكلم عنا أكثر مما يطبقها بالعمل. النعمة لا تثبت طويلاً في نفس طائشة ترغب في أن تجتذب الى ذاتها أنظاراً هي غير أنظار الختن السماوي. أطلب من يسوع إحدى هذه الأنوار التي أفاضها على قديسيه والتي أنارتهم حول سعادة الحياة المستترة في الله مع يسوع المسيح.
No Result
View All Result
Discussion about this post