كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثاني:
الفصل الحادي والعشرون
عن اتحاد النفس بالله
العبد
لتكن مباركاً إلى الأبد يا إله المحبة والمودة لأجل العلاقات الصميمة التي أنشأتها بيني وبينك هذه البتول التي اخترتها أماً لمخلصنا. وأنت أيتها البتول القديسة اقبلي تقريضنا البنوي الذي تستحقينه بسبب مجاوبتك الأمينة على النعم التي خصك بها العلي. إنني لن أكل من الثناء على فضائلك السامية. إلا أن ما يثير عجبي هو الاتحاد الوثيق والمتواصل الذي ربطك دائماً بالله! إن قلبك الخالي عن كل تعلق بالخلائق كان بمثابة سماء باطنية وسرية جعلها الرب مقراً لسكناه وتمتعت فيها بسلام حضوره. لم يكن للنوم أن يقطع هذه الصلة الحلوة، وكان في وسعك أن ترددي كلام عروسة الأنشاد، إني نائمة وقلبي مستيقظ. ليتني أبقى متحداً هكذا معه تعالى، وألا أبقى على الأرض إلا بسبب قيود الجسد التي تربط وجودي فيه.
مريم
إن الله صنع معي نعمة عظيمة وهي ألا أفقده ابداً. فإذا كنت تتشوق إلى عين الانعام، عليك أن تبداً بتحرير نفسك من كل حب أرضي ومن كل ما ليس هوالله. إن هذا سيكلفك حقاً، إلا أن أجرك في بذل جهودك وتضحياتك هذه لن يكن بالشيئ الزهيد. استخدم كل ما حواليك في رفع ذاتك إلى الله، وستجد في كل جهة آلاف المواضيع التي تمجده وتسبحه! فالفلك الذي يدور بعظمة فوق رآسك يخبرك عن مجده، وبريق النجوم يعطيك صورة عن ضيائه، واتساع البحار ينبئك عن عظمته، وكل الكائنات المنتشرة في الطبيعة تكلمك عن كمالاته، وحتى أصغر ورود الحقل، هو كتاب مفتوح أمام عينيك يدوعوك إليه. إنك تقدر أن تجد ربك دون أن تخرج عن ذاتك، إذ لا حياة لك ولا وجود إلا به. وهو ينير عقلك ويحرك إرادتك ويقرع باب قلبك، ويطلب منك هذا القلب بحنو ومحبة. إن هذا إله كل جودة وصلاح هو الذي يسهر على حفظك، ويأمر الطبيعة كي تقدم لك احتياجاتك، فلست بحاجة إلى أن تفتش عليه خارجاً عنك. ادخل في ذاتك وانتبه لحضوره فيجعلك تشعر به بشتى الطرق. وسيتم هذا تارة بأنوار قوية وتوضيحات فجائية، وأخرى بتأثيرات خفية وعواطف تقوية، وأحياناً بتأنيبات حبية يعاتبك بها على عدم أمانتك معه. واحذر من أن تضع عائقاً لهذه عمليات النعمة المختلفة بخفة عقل أو بتعاجز إرادي.
استسلم للممارسات التي تقود بالأكثر نحو الله. وافعل ذلك بروح تدين عميق. ففي الأعمال الاعتيادية وأثناء القيام بأعباء وظيفتك كن سهل الانقياد لطرق العناية الإلهية التي هي قد عينت لك هذا الانشغال اليومي. لاتعمل شيئاً بتسرع، فإن التهور حتى في الأمور القدسية، لايمكن أن يخلو من أضرار للروحية الباطنية التي يتحد بها الإنسان مع الله. لاتتبع قط حركات الطبيعة سواء أكان ذلك في الأفراح أم الأتراح، ولا تفتح قلبك للخلائق بل لله فقط. عود ذاتك على أن تطلعه تعالى على ما يسرك وما يحزنك، معتبراً إياه اباً وصديقاً في وسعك أن تسر إليه بثقة بكافة مواضيع أفراحك وأحزانك. بواسطة هذه الثقة الصحيحة ستسميل قلبه تعالى إليك وستتقدم في هذا الاتحاد المقدس الذي هو أحلى شغف تشعر به النفس المسيحية في حياتها.
No Result
View All Result
Discussion about this post