الاقتداء بمريم 2/ 28: عن أن الفضيلة لا تتنافى مع واجبات اللياقة المدنية

كتاب 

الإقتداء بمريم

لمؤلف مجهول

الكتاب الثاني:

الفصل الثامن والعشرون

عن أن الفضيلة لا تتنافى مع واجبات اللياقة المدنية

إن عوامل المحبة هي التي دفعت يسوع ومريم إلى الاشتراك في أفراح عرس قانا. إن مريم كانت تفضل دون شك أن تبقى في بيتها في الناصرة، مستسلمة بهدوء لحلاوات حياة التأمل، إلا أنها لم ترد أن تحزن الخطيببين برفض دعوتهما. من ها نفهم كيف إن الفضيلة لاتتعارض مع واجبات المجاملة، لا بل إنها تفرض علينا احترامها، ولا شيئ يضاهيها في حمل الناس على تكميل واجبات المحاملة بقداسة. وحتى تتشبه بمريم في كل شيئ تأمل في كيفية تصرفها في هذه المناسبة. أي تحفظ في الكلام، وأي احتشام في النظرات! إن تصرفها الرشيد في هذه الفرصة يقدم لك درساً عن الاحتشام والتأدب الواجبة مراعاتهما حتى في وسطة الأفراح الشريفة البريئة. يجب أن نميز جيداً بين شرائع المجتمع وشرائع العالم. فالفضيلة تنافي هذه الأخيرة وتحاربها، أما الأولى فالفضيلة تحافظ عليها بقدر المستطاع طالما لاتنطوي على ما ينتفي شرائعه تعالى. لا بل إن الامتناع عن كل تسلية مما قد يلحق بالتقوى بعض الأضرار، إذ يساعد على تقوية سوء الظن المتولد في الكثيرين عن أن الفضيلة تجعلنا عديمي التمدن. كلا: ان العبادة الحقيقية لاتجعل الإنسان عديم التمدن، وفي مقدور الإنسان دائماً أن يتمسك بقواعد الآداب الاجتماعية دون أن يضحي بتقواه.

ثم إن التقوى الحقيقية تفطن كيف تشرف حتى الأفعال التي لا قيمة أدبية لها في حد ذاتها، وذلك بواسطة الغايات التي تتوخاها وبالبواعث التي تدفع الإنسان إلى التقوى. فهي تفرض علينا أن ننقطع إلى اللهو وقتياً ومجاراة للغير، لا أن نستسلم له استسلاماً، مهما كان بريئاً. ودفعاً لكل طياشة قد يسببها لك اللهوالذي تدعوك المجاملة الى الاشتراك فيه، عليك أن تستحضر الله من وقت الى آخر، وأن تتصرف في ذلك اللهو باحتشام وتحفظ كما كنت فاعلاً لوكان يسوع ومريم حاضرين. تظاهر في اللهو كأنك تعمل مثل الجميع، كما فعل الملاك رافائيل مع طوبيا، طالما ترى الحاضرين لا يأتون عملاً غير جائز، واتخذ لك على مثال عين الملاك قوتاً غير منظور ينعش نفسك. وجه أنظارك نحوالسماء وفكر في أفراحها التي يتمتع بها القديسون والتي هي مكافأة عدم اكتراثهم بملذات الأرض. ارفع عقلك وقلبك نحوالرب معلناً له بأن كل ملذات العالم لا تقدر أن تنسيك الحلاوات النقية التي يتذوقها الإنسان في خدمته تعالى. قل له بأنك مستعد بعون نعمته لأن تضحي لأجل ذرة من محبته كل ما قد يمكن أن يلذ لك بالأكثر على هذه الأرض.