كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثالث:
الفصل الرابع
عن أن الله يحتفظ غالباً بأعظم الآلام لخدامه الأكثر أمانة معه
لم يكن إذاً كافياً يا إلهي أن تكون مريم قد حملت في قلبها مدة ثلاث وثلاثين سنة صورة العذابات التي كان ابنها يسوع مزمعاً أن يتكبدها، بل وجب أن تكون ايضاً معاينة لموته! إنك لم تفرض على سارة أن ترى بأعينها محرقة ابنها اسحق التي طلبتها من ابراهيم! آهاً انني لفاهم معنى ذلك يا إلهي! اي نعم، كان يجب على مريم سلطانة القديسين أن تكون لها حصة أكثر من جميعهم في هذه شركة الآلام التي يتكلم عنها رسولك والتي أردتها أن تكون بينك وبين المنتخبين. وعليه فلا يجب أن أستغرب لدى رؤيتي آلام الكثيرين من الأبرار تزداد بازدياد أمانتهم في خدمتك، بل علي أن أعتبر ما يكابدونه أحياناً من الآلآم العظيمة كنعم فائقة تخصهم بها دون غيرهم. إنك تكاف أمانتهم معك بهذه الآلام التي تجعلهم متشبهين أكثر فأكثر بالمثال الإلهي الذي تقدمه لهم الجلجلة. إن الأشخاص الذين كنت تخصهم بمحبة زائدة والذين كانوا يحبونك محبة أعظم كانوا ماثلين فوق الجلجلة بالقرب من الصليب. إنه لشرف عظيم لنا أن نعتبر مستحقين للاشتراك بنوع خاص بآلامك المرة. كل تلميذ يكون مثل معلمه، فيسوع معلمنا الذي يجب أن نسعى في الوصول إلى كماله قد اجتاز أعظم المحن والشدائد، وما من نفس ماتت في فضائلها إلا واختبرت اختباراً قوياً. لقد ابتدأت هذه الأنفس بأن تكون فاضلة ثم قدمت أنت يارب لها ما به أضحت كاملة بواسطة محبتها الكبيرة. حيث أنك كنت مقبولاً لدى الله، يقول الملاك رافائيل لطوبيا، كان ولا بد أن تمتحن بتجربة.
يارب: في وسع الإنسان أن يبرهن لك عن محبة سخية بواسطة الفضائل المتألمة أكثر مما بالفضائل العاملة، ومتى تمكنت النفس من القول مع مارب بطرس الرسول، يارب أنت عارف بأنني أحبك، تكون قد توصلت إلى إزداء أعظم شهادة مسلية عن صلاحها! إننا لانكون قد فهمنا جيداً معنى محبتنا لك مالم نتعلم كيف نتحمل لأجلك. وماقلناه حتى الآن لايعني بأنه من الضروري أن تكون العذابات المدمية أوالسجون والأمراض القاسية والطويلة الأمد نصيب قديسيك على الأرض، إنك تعرف كيف تهيئ لهم غيرها من الصلبان التي، وإن لم يكن لها هذا المظهر المرعب، إلا أنها ليست بأقل فعالية لجعلهم يموتون عن أنفسهم. ليس من الممكن أن نقف على كل الكفاحات القاسية التي تعانيها النفوس التي تريد أن تنقيها وترفعها إلى درجة سامية من القداسة، وحين تبدو في خارجها راتعة في حياة هادئة تحسد عليها قد تكون معانية في باطنها صراعاً مؤلماً قاسياً.
يارب: إنك كثيراً ما تثير العناصر وخبث البشر ضد عبيدك الأمناء، وحين لا تفعل ذلك تسمح غالباً لقوات الجحيم بشن الغارات عليهم بغية تقديسهم، إذ بقدر ما يكافحون بقدر ذلك تتطهر فضيلتهم وتتكمل. فالإيمان يتقوى فيهم ويزداد بسجودهم لإرادتك أنت أيها الكائن الأسمى، وبخضوعهم لها خضوعاً كاملاً، وباعترافهم بك اباً حكيماً يعذب أبنائه لأنه يحبهم. ورجاؤهم كذلك يشتد في وسط محنهم فإن معرفتهم لجودك غير المتناهي تحملهم على الوثوق بك بأنك لن تسلمهم لحنق أعدائهم بل تسرع لإغاثتهم. فضلاً عن أن شجاعتهم تشتد في القتال حين يفكرون بأن الأحزان الحاضرة تنشيئ لهم وزناً ابدياً للمجد. كما وأن محبتهم أيضاً تزداد في وسط المحن إذ تعلمهم أن يعيشوا متجردين عن الخلائق، واهبين ذاتهم لمن هواله قلوبهم ونصيبهم إلى الأبد. وكذلك أمانتهم تمجدك في وسط محنهم أكثر مما في أي وقت آخر، فإن عبادة البشر لك في وسط التسليات قد لاتخلو من أغراض لهم، وأما أمانتهم معك في وسط الأحزان وحين يمتلئ القلب مرارة فهي برهان ساطع عن محبة ثابتة راسخة.
يا إلهي: إن أحزاني قد دفعتني أحياناً إلى أن أجسر على نكران محبتك. أما من الآن فصاعداً فسأردد هذا الكلام في وسط أحزاني، الشكر لله حيث أن هذا الضيق هوهبة محبته لي. إن عبيده الأمناء وأصدقائه وقديسيه قد عانوا أشد مما أعاني أنا لأنهم أكثر مني استحقاقاً لعنايته ونعمه. فلنتألم إذاَ بصبر وخضوع القديسين لننال التألم أكثر فأكثر.
No Result
View All Result
Discussion about this post