كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل العاشر
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: “يا مريم الحلوة اللذيذة”:
وفيه: يبرهن كم هو عذبٌ حلاوةً وطيبٌ لذةً اسم مريم.
في مدة الحياة وفي ساعة الموت
إن الإسم العظيم الذي خصصت به والدة الإله أي مريم لم يخترع من أحدٍ في الأرض. ولا أبدعه عقلٌ ما إنساني، حسبما حدث ويحدث في اختراع الأسماء الأخرى المستعملة من البشر، بل إن هذا الإسم قد جاء من السماء ورسم بأمرٍ إلهيٍ خاص، كما يشهد القديسون أيرونيموس وأبيفانيوس وأنطونينوس وغيرهم كثيرون. ثم أن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس يقول: أن اسمكِ يا مريم الجليل المحبوب قد خرج من كنز اللاهوت إلى خارجٍ. لأن الثالوث الأقدس بجملته قد أعطاكِ هذا الإسم. الذي بعد اسم ابنكِ الإلهي يسمو متراساً على الأسماء كلها، وزينه بمعنى الجلالة والاقتدار، مريداً أن يكرمه الجميع منحنين عند التلفظ به من السماويين والأرضيين حتى الجحيم نفسه: ولكن فيما بين الأشياء الأخرى الجليلة التي بها زين الرب اسم مريم هو العذوبة الكلية الحلاوة، التي بها يشعر عباد هذه السيدة عند تلفظهم به في مدو حياتهم وساعة موتهم كما يأتي الشرح.*
فنظراً إلى عذوبة هذا الإسم عند المتعبدين لمريم في مدة حياتهم يقول القديس أونوريوس السائح: أن اسم مريم هو مملوء من العذوبة الإلهية! بنوع أن أنطونيوس البدواني المجيد يتحقق في اسم مريم العذوبة نفسها، التي يلاحظها القديس برنردوس في اسم يسوع، لأن هذا القديس أي برنردوس يقول عن اسم يسوع: أنه هو ابتهاجٌ للقلب وشهد العسل للفم وعذب الصوت للأذن: وهذا عينه يقوله القديس أنطونيوس البدواني عن اسم مريم. فقد ذكر في سيرة حيوة الطوباوي الأب يوفيناله أنجينا أسقف سالوتسو، إنه حينما كان يسمي مريم، كان يشعر بحلاوةٍ حسيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى أنه كان يمص شفتيه كمدهونتين بالشهد. ويقرأ عن امرأةٍ في بلاد كولونيا أنها قالت يوماً ما للأسقف مرسيليوس، أنها كل مرةٍ كانت تلفظ اسم مريم فكانت تستطعم في فمها بحلاوةٍ أكثر من العسل، وإذ بدأ الأسقف المذكور أن يتلفظ بهذا الإسم فهو نفسه صار يشعر بتلك الحلاوة. ثم أنه قد يستدل من كلمات سفر النشيد الآتي إيرادها، أن الملائكة عند صعود والدة الإله إلى السماء قد سألوا ثلاث مراتٍ عن إسمها بقولهم: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخورٍ: (ص3ع6): من هي هذه المستشرفة كمطلع الصبح: (ص6ع9): من هي هذه الصاعدة من البرية مدللة مستندة على حبيبها: (ص8ع5) فهنا يستفهم ريكاردوس الذي من سان لورانسوس بقوله: لماذا الملائكة يسألون مراتٍ مترادفةً عن اسم هذه السيدة والسلطانة المجيدة مع كونه هو معروفاً منهم: ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن اسم مريم هو مملوءٌ من العذوبة والحلاوة لدى الملائكة أنفسهم، حتى أنهم كرروا السؤال تواتراً ليسمعوا بالجواب ذكر اسمها ملفوظاً به على سماعهم.*
ولكن أنا لا أتكلم هنا عن الحلاوة الحسية المختصة بهذا الإسم المجيد. لأن هذه العذوبة الحسية لا تعطى عموماً للجميع. بل أتكلم عن حلاوةٍ خلاصيةٍ مسببة الطمأنينة والشجاعة والقوة. التي بوجه العموم يستفيدها من ذكر اسم مريم كل أولئك الذين يتلفظون به بروح الديانة وحسن العبادة. فاذ يتكلم عن ذلك الأنبا فرانكونه يقول: أنه بعد اسم يسوع المقدس فاسم مريم هو غنيٌ بالخيرات بهذا المقدار، حتى أنه في السماء وعلى الأرض لا يرعد اسمٌ آخر سواه، منه تحصل أنفس العباد على نعمةٍ ودالةٍ ورجاءٍ وطمأنينةٍ وافرةٍ لأن اسم مريم يحوي ضمنه نوعاً من الجاذبية للحب. ومن الحلاوة المنعشة الفؤاد. ومن موضوعاتٍ إلهيةٍ، حتى أنه حسبما يليق أن تشعر به قلوب محبينها يحرك فيهم عطراً زكي العرف عذب النشر. وأما الأمر العجيب المختص بهذا الإسم العظيم فهو أنه إذا ما سمع مقولاً مراتٍ لا تحصى عدداً من محبين هذه السيدة الشريفة. فدائماً هم يصغون لسماعه كأنه جديدٌ. إذ أنهم يشعرون بالعذوبة عينها كل مرةٍ يسمعون نغمة التلفظ به. والطوباوي أنريكوس صوزونه أيضاً بتكلمه عن هذه العذوبة يقول: أنه عند سماعه تسمية مريم. كان يشعر بذاته متوطداً في الرجاء بهذا المقدار، حتى أنه فيما بين سيمات الابتهاج القلبي وحرارة الحب مع الدموع الهاطلة من عينيه حين تلفظه بهذا الإسم المجيد المحبوب، كان يشتهي أن قلبه يخرج من مركزه إلى فمه. لأن اسم مريم الكلي الحلاوة كان نظير شهد العسل ينحل في أقصى جوارح نفسه، ولذلك يهتف نحو والدة الإله صارخاً: يا له من اسمٍ كلي القداسة. فترى ماذا تكونين أنتِ يا مريم في ذاتكِ أن كان اسمكِ وحده هو هكذا موضوعٌ للحب والإنعطاف القلبي ومملوءٌ من النعم.*
ومن ثم يلتفت القديس برنردوس نحو أمه المغرم هو بمحبتها قائلاً لها: يا مريم البتول الكلية القداسة، يا عظيمةً يا رؤوفةً يا مستحقةً كل التسابيح وسائر التقريظات ومجموع المدائح، أن اسمكِ هو عذبٌ حلوٌ محبوبٌ بنوعٍ هذا حده، حتى أنه لا يمكن أن يسمى ملفوظاً به من أحدٍ من دون أن يشتعل في قلبه لهيب نار الحب نحو الله ونحوكِ، بل بأكثر من ذلك أنه يكفي لاسمكِ أن يستحضر بإزاء عقل أحدٍ من محبينكِ. لكي يضرم فيه زيادة المحبة لكِ والتعزية له: ويقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه أن كان المال يعزي الفقراء لأنه يزيح عنهم شقاهم، فكم بأبلغ من ذلك يعزينا نحن البائسين اسمكِ يا مريم، إذ أنه أفضل جداً من خيرات الأرض ينعش قلوبنا ويزيح شدائدنا ويخفف عنا ثقل مشقات هذه الحياة.*
وبالإجمال إن اسمكِ يا والدة الإله موعبٌ بجملته من النعم والبركات الإلهية، حسبما يخاطبكِ القديس متوديوس، بنوع أنه، كشهادة القديس بوناونتورا، لا يستطاع أن يلفظ اسمكِ من أحدٍ بالعبادة الواجبة من غير أن يجلب له نعمةً ما. ويقول أيديوطا: فليؤت بإنسانٍ ممن تصلبت قلوبهم كالجلمود، وممن قد يئسوا من الرجاء فإذا كان هذه الإنسان يسميكِ يا بتولاً كلية رأفتها، فإسمكٍ هو ذو قوةٍ مقتدرةٍ تستطيع أن تلين صلابة ذاك القلب، لأنكِ أنتِ هي تلك التي تشجعين الخطأة على الثقة، وتنعشين في قلوبهم الرجاء الوطيد بنوال الغفران وبأكتساب النعمة: ثم أن القديس أمبروسيوس يهتف قائلاً: أن اسمكِ الكلية حلاوته يا مريم هو مسحةٌ ذات عرفٍ زكيٍ تجلب نشر رائحة النعمة الإلهية. ولذلك يتضرع هذا القديس نحو الأم الإلهية قائلاً: فلتنحدر إذاً إلى أنفسنا هذه المسحة الخلاصية. أي كأنه يقول هكذا: أيتها السيدة صيرينا أن نتذكر مراتٍ مترادفةً في أن نلفظ اسمكِ بحبٍ ودالة. من حيث أن تسميتكِ على هذه الصورة هي علامةٌ توضح أما أننا ممتلكون نعمة الله، وأما أننا من دون إبطاءٍ نكتسبها جديداً بعد فقدها، ولذلك يكون ذكر اسمكِ عربوناً لنا في اكتسابنا إياها.*
أما لاندولفوس الذي من ساسونيا فيقول: أن التذكر في اسمكِ يا مريم يعزي المحزونين، ويرد إلى السلوك في محجة الخلاص الأمينة أولئك الذين خرجوا عنها تائهين، ويشجع الخطأة لكيلا يهملوا ذواتهم أن يسقطوا في خطية قطع الرجاء من الخلاص. وقال الأب بالبارتوس: أنه كما أن يسوع المسيح قد أشفى العالم كله من شروره ودثاره بواسطة الخمس جراحات التي احتملها بجسده المقدس، فهكذا مريم بواسطة اسمها المثلثة قداسته المركب من خمسة أحرفٍ (كما هو باليوناني واللاتيني) تجلب يومياً الغفران للخطأة عن مآثمهم:.*
ومن ثم قد شبه اسم مريم المقدس في سفر النشيد بالزيت إذ يقال: أن اسمكِ دهنٌ مهراق لهذا أحبتكِ الشباب: (ص1ع2) فيفسر هذا النص الطوباوي الانوس: بأنه كما أن الدهن يشفي السقماء ويبعث رائحةً زكيةً، ويضرم اللهيب. فكذلك اسم مريم يشفي الخطأة من أسقامهم الروحية، وينعش القلوب، ويضرم فيها نار الحب الإلهي. ولهذا يحرض ريكاردوس الذي من سان لورانسوس الخطأة مشجعاً إياهم على أن يبادروا إلى الاستغاثة بهذا الاسم العظيم، لأن به كفاءةً لأن يبرئهم من أدواء عزائهم الرديئة كافةً، إذ أنه لا يوجد مرضٌ بهذا المقدار عضالٌ حتى أنه لا يشفى من قوة اسم مريم المجيد.*
وبضد ذلك، كما يبرهن توما الكامبيسي: أن الشياطين يخافون مرتعدين من سلطانة السماء بنوعٍ هذه صفته. حتى أنهم بمجرد ذكر اسمها العظيم يهربون من أمام ذاك الذي يلفظه بفمه كالهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ. ثم أن البتول المجيدة هي عينها أوحت للقديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في هذا العالم خاطئٍ ما بارد القلب بالكلية من محبة الله، ويستغيث باسمها مع قصده على الرجوع إلى الله بالتوبة، من دون أن يبتعد عنه الشيطان حالاً: كما أنها أثبتت ذلك مرةً أخرى بقولها للقديسة المذكورة: أن الشياطين جميعاً يهابون اسمها ويخافونه ويحترمونه بنوع أنهم حالما يستموعونه ملفوظاً فيهملون تلك الأنفس التي يكونون مقيدينها بمخاليبهم ويهربون عنها.*
وكما أن الملائكة الأشرار يبتعدون عن الخطأة الذين يستغيثون بأسم مريم. فهكذا بالعكس يقترب الملائكة الأبرار بأبلغ نوعٍ نحو أنفس أولئك الذي يستدعون لمعونتهم هذا الإسم بعبادةٍ، كقول والدة الإله عينها بالوحي للقديسة بريجيتا (حسبما هو مدون عند ديونيسيوس كارتوزويانوس) ويشهد القديس جرمانوس: بأنه نظير ما أن التنفس هو علامة وجود الحياة. فكذلك تكرار اسم مريم مراتٍ مترادفةً هو علامةً تشير إما إلى أن النفس هي حيةٌ بالنعمة الإلهية. وإما أنها من غير تأخيرٍ تحيى ثانيةً باكتساب نعمة التقديس، لأن هذا الإسم المقتدر له قوةٌ على أن يستمد المعونة والحياة لمن يستغيث به بحسن تدينٍ: وبالإجمال أن هذا الإسم العجيب هو نظير البرج الشاهق الحصين الذي إذ يحتمي فيه الخاطئ فينجو من الموت. من حيث أن هذا البرج السماوي المنيع يحمي الخطأة بأمنٍ ويخلصهم ولئن وجدوا من الميؤوسين: (هذا ما يقوله ريكاردوس الذي من سان لورانسوس).*
ثم أن هذا البرج الحصين ليس فقط ينجي الخطأة من أن يحل بهم العقاب، بل أيضاً يحمي ضمنه الأبرار من وثبات الجحيم ضدهم. كما يورد ريكاردوس عينه مبرهناً: بأنه بعد اسم يسوع لا يوجد اسمٌ آخر يحوي المعونات القوية. ويجلب للبشر الأشفية العجيبة بمقدار ما هو اسم مريم المجيد. لا سيما لأنه أمرٌ معروفٌ عند الجميع بما أن التجربة تحققه، هو أن المتعبدين لمريم يجدون في أسمها المقدس قوةً عظيمةً لإبادة التجارب الدنسة، ومن ثم يتفلسف المعلم المذكور عينه عند تفسيره هذه الكلمات المدونة من القديس لوقا الإنجيلي (ص1ع27) وهي: واسم العذراء مريم: إذ يقول: أن هاتين اللفظتين أي عذراء ومريم الموردتين من الإنجيلي البشير متحدتين معاً من دون افتراق أحدهما عن الأخرى. توضحان لنا هذا الأمر وهو أن اسم هذه البتول الكلية الطهارة لا ينبغي أن يكون منفصلاً أصلاً عن العفة. ولذلك يقول القديس بطرس الذهبي نطقه: أن اسم مريم هو دليل الطهارة والعفة: مريداً أن يعني بهذا أن ذاك المسيحي الذي يكون تجرب بأفكارٍ ضد العفة، وحصل مرتاباً، هل أنه قبلها أو أستلذ بها أم لا. فإن كان يعرف ذاته أنه حين التجربة ذكر اسم مريم مستغيثاً بمعونتها فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه لم يتدنس بزلةٍ ضد العفة في تلك التجربة.*
فلأجل ذلك ينبغي لنا أن نتمسك بمشورة القديس برنردوس القائل: أفتكر يا هذا في مريم، وأستغث بها في حين الأخطار والشدائد والارتيابات، ولا تبعدن مريم لا عن فمك ولا عن قلبك. وكان هذا القديس يقول: فلنفتكر في مريم حين حصولنا في أي خطرٍ كان من شأنه أن يورطنا في خسران النعمة الإلهية، ولنستغث باسمها جملةً مع استغاثتنا بأسم يسوع، لأن هذين الاسمين يستعملان دائماً متحدين أحدهما مع الآخر. وليستمرا باتصالٍ في قلوبنا وفي أفواهنا من دون أن يفارقانا زمناً مستطيلاً، لأن لهذين الاسمين الكلية قداستهما قوةً عظيمةً لأن يحفظانا من السقوط بالخطيئة. ولأن يجعلانا ظافرين بكل التجارب: فالنعم الموعود بها من يسوع المسيح لأولئك الذين يكرمون اسم مريم هي جليلةٌ ساميةٌ، لأنه إذ كان تعالى نفسه متكلماً مع والدته المجيدة قد صير القديسة بريجيتا أن تفهم حسناً في الوحي، أن كل من يستغيث باسم مريم بثقةٍ ورجاءٍ وبعزمٍ على إصلاح سيرته، يفوز ب 3 أنعامات خصوصية وهي: التوجع الكامل على خطاياه، والوفاء عنها، ثم التقوى المؤدية إلى الكمال المسيحي، وبعد ذلك أخيراً ينال السعادة الأبدية. لأنه يضيف إلى هذا المخلص نفسه في الوحي بقوله: أن كلماتكِ يا أمي هي عزيزةٌ لدي ومحبوبةٌ مني جداً حتى أني لا أقدر أن أنكر عليكِ إيهاب شيءٍ مما تطلبينه. أما القديس أفرام السرياني فقد اتصل إى ليقول: أن اسم مريم هو مفتاح باب السماء لذاك الذي يتلفظ به بحسن عبادةٍ. ولهذا بالصواب يلقب القديس بوناونتورا مريم البتول: بأنها خلاص المستغيثين بأسمها أجمعين. كأن مجرد الاستغاثة بهذا الإسم المجيد يستمد لهم نوال الخلاص الأبدي. كما أن العلامة أيديوطا يثبت: أن الإستغاثة باسم مريم المقدس تقود إلى إكتساب نعمةٍ فائقةٍ في السخاء والفاعلية في هذه الحياة، وإلى نوال مجدٍ سامٍ في الدهر العتيد.*
وأما توما الكامبيسي فيختتم كلامه في هذا المعنى مع القارئين قائلاً لهم: فإن كنتم يا إخوتي ترغبون إذاً أن تصادفوا التعزية في أية شدةٍ وتجربةٍ تصيبكم، فبادروا بالإلتجاء إلى مريم البتول، واستغيثوا باسمها وكرموها وسلموا ذواتكم لعنايتها، فأفرحوا مع مريم، وأبكوا معها، وأمشوا برفقتها، ومعها فتشوا على يسوع. وأخيراً اهتموا في أن تعيشوا مع يسوع ومريم جملةً، وفي أن تموتوا بين أيدهما. فإذا فعلتم ذلك فلا ريب في أنكم تتقدمون دائماً ناجحين في طريق الرب، لأن مريم بكل طيبة خاطرٍ تتوسل من أجلكم لدى ابنها الإلهي الذي خلواً من أشكالٍ يستجيب طلبات هذه الأم المجيدة.*
فإذاً عذبٌ هو جداً في هذه الحياة وكلي الحلاوة في قلوب عبيد مريم وفي أفواههم ذكر اسمها المقدس، لأجل النعم العزيزة التي تكسبهم إياها أستغاثتهم به حسبما لاحظنا آنفاً. ولكن هذا الاسم يعود لديهم أكثر عذوبةً وحلاوةً عند ساعة موتهم، لأجل فوزهم بميتةٍ مقدسةٍ مملوءةٍ من التعزية باستغاثتهم حينئذٍ به. فالأب سارتوريوس كابوتوس اليسوعي يحرض جميع أولئك الذين يوجدون حاضرين عند المدنفين من الموت، على أن يذكروهم باسم مريم مستدعينه بأفواههم مراتٍ مترادفةً مبرهناً بأن اسم الحياة هذا الموعب من الرجاء، إذاً لفظ به بمجرد اللفظ ساعة الموت فيكفي لأن يبدد الأعداء الجهنميين، ولأن يشجع المنازعين ويعينهم في جميع شدائدهم الأخيرة. وكذلك القديس كاميلوس دالاليس قد ترك لرهبانه وصيةً وكيدةً، في أنهم حين مساعدتهم المنازعين يذكرونهم مراتٍ كثرةً بأسم يسوع واسم مريم، حسبما هو نفسه قد استعمل ذلك دائماً مع الآخرين وأخيراً بكل حلاوةٍ وعذوبةٍ استخدمه في ذاته ساعة انتقاله من هذه الحياة. إذ أنه (بموجب ما هو مدون في سيرة حياته) كان في تلك الساعات الأخيرة يتلفظ بهذين الاسمين المحبوبين منه في الغاية بخشوعٍ هذا حده، حتى أن السامعين كانوا يلتهبون حباً نحوهما، وبعد ذلك إذ كانت عيناه محدقتين بأيقونتهما المقدسة والصليب في يده على صدره، قد أغرب نظره مغلقاً إياه ورقد مائتاً كنائمٍ ببهجةٍ وتعزيةٍ لا يمكن وصفهما بكفايةٍ. هذا بعد أن كانت كلماته الأخيرة التي أغلق شفتيه بها، ألفاظ استغاثته بهذين الاسمين المجيدين يسوع ومريم الكلية حلاوتهما. ثم يقول توما الكامبيسي: إن هذه الصلاة الوجيزة المتضمنة كلمتين فقط وهما يسوع ومريم: استغاثةً بهما، فبمقدار ما هي ساهلةٌ أن تحفظ غيباً، فبأكثر من ذلك هي حلوةٌ في تأملها وعذبةٌ في تلفظها ومقتدرةٌ معاً لأن تحمي المستغيث بها من هجمات أعداء خلاصنا.*
أما القديس بوناونتورا فيقول: مغبوطٌ هو ذاك الذي يحب اسمكِ المملوء حلاوةً يا مريم والدة الإله، لأن اسمكِ هو هكذا مجيدٌ وعجيبٌ حتى أن كل أولئك الذين يستدعونه ذاكرينه بأفواههم إستغاثةً به عند ساعة موتهم، فلا يعود يلم بهم خوفٌ ما من هجمات الأعداء كافةً.*
فيا لسعادة من يحصل على الحظ الطوباوي في أن يموت نظير ما رقد بالرب الأب فولجانسيوس الراهب الكبوجي الذي من أسكولى. لأنه قد مات وهو مرتلٍ هذه الكلمات بأبتهاجٍ هاتفاً: يا مريم يا مريم يا من هي أعظم جمال يفهم، أريد الذهاب معكِ وها أنا برفقتكِ. أو نظير مارقد بالرب الطوباوي أريكوس الراهب الجيستارجيانسي (الموردة بأعمال حياته في تاريخ رهبنته تحت سنة 1159) الذي آخر كلمةٍ أغلق فمه عليها مائتاً كانت اسم مريم. فلنصل إذاً أيها القارئ الحبيب متضرعين لدى الله في أن يهبنا هذه النعمة وهي أن تكون كلمتنا الأخيرة ساعة موتنا التلفظ بأسم مريم الحلو، كما كان يشتهي راغباً القديس جرمانوس، ويلتمسه طالباً بقوله: يا لها من ميتةٍ حلوةٍ ورقودٍ أمينٍ تلك الميتة وذاك الرقود المرافقان والمحميان من الاستغاثة باسم مريم الخلاصي، الذي لا يمنح الله قوماً أن يستغيثوا به ساعة موتهم. إلا أولئك الذين هو تعالى يريدهم أن يخلصوا بإرادةٍ خصوصيةٍ.*
فأنا أحبكِ كثيراً يا سيدتي وأمي. ولأجل محبتي إياكِ أحب اسمكِ المقدس أيضاً. قاصداً بعزمٍ أكيدٍ وراجياً بمعونتكِ أن أستغيث به دائماً في مدة حياتي وفي ساعة موتي. فلنختتم إذاً الإيراد بتلك الصلاة الخشوعية التي للقديس بوناونتورا قائلاً كلٌ منا: أيتها السيدة المباركة لأجل مجد اسمكِ أحضري أنتِ لتستقبلي نفسي بعد خروجها من هذا العالم، وأنتِ أعتنقيها بيديكِ… فلا تأنفي يا مريم من أن تأتي لتعزيها بحضوركِ المملوء حلاوةً، بل كوني لها سلماً ومحجةً وصراطاً مستقيماً تبلغ به إلى السماء، مستمدةً لها من ابنكِ نعمة الغفران والراحة الأبدية (كما يلتمس منكِ القديس المذكور عينه مختتماً قوله هكذا) يا مريم شفيعتنا إنه يخصكِ أن تحامي عن عبيدكِ، وأن تتخذي على ذاتكِ دعوى خلاصهم أمام منبر ابنكِ يسوع المسيح الديان الإلهي.*
* نموذجٌ *
أن الأب روه في تكلمه عن السبوت، والأب ليراوس في تأليفه الملقب بالتريضاجيون المريمي يخبران، بأنه في بلد غالدريا قد حدث سنة 1655 أن ابنةً ما اسمها مريم قد كانت أرسلت من عمها إلى مدينة نيماغا، لتشتري من هناك من السوق المتجرية التي كانت تصير في يومٍ معلومٍ بعض مصالح لازمة. محتماً عليها بأن تبيت تلك الليلة في بيت عمتها القاطنة في المدينة المذكورة. فالجارية قد أطاعت إرادة عمها، ولكنها إذ مضت إلى هناك وانطلقت مساءً إلى بيت عمتها، فهذه قد طردتها بجفاوةٍ ولم تقبلها عندها. فمن ثم اضطرت الفتاة لأن تأخذ بالرجوع عند عمها مسافرةً في الطريق ليلاً، ولكنها من شدة غيظها من عمتها قد استدعت الشيطان بحماقةٍ. وهذا العدو الجهنمي قد ظهر لها حالاً بصورة رجلٍ واعداً إياها بأن يساعدها، بحيث أن توافقه في قضيةٍ واحدةٍ. فالابنة الميؤوسة أجابته بأنها تعمل كل شيءٍ يريده منها. أما هو فقال لها: أنا لا أطلب منكِ شيئاً آخر سوى أنكِ منذ الآن فصاعداً لا عدت ترسمين ذاتكِ بإشارة الصليب، وأن تغيري اسمكِ: فأجابته الشقية بقولها: أنه نظراً إلى رسم الصليب فأنا أبطله ولا أستعمله بعد، وأما نظراً إلى أسمي مريم فهذا لأنه عزيزٌ جداً على قلبي لا أريد أن أغيره. فقال لها الشيطان: ولا أنا أعينكِ. فبعد مجادلةٍ ومقاومةٍ كثيرةٍ قد أتفقا أخيراً على هذا، وهو أن الفتاة تحفظ لذاتها أول حرفٍ فقط من اسم مريم وهكذا تدعى بهذا الحرف وهو الميم. فأنطلقا جملةً إلى مدينة أنفارسا، وهناك مكثت هذه المنكودة الحظ مدة ست سنوات عائشةً بسيرةٍ ممقوتةٍ مملؤةٍ من القبائح، حتى أنها أضحت حجر عثرةٍ وصخرة شكٍ للجميع مع رفيقها إبليس اللعين. فيوماً ما قالت مريم لهذا العدو الجهنمي أنها كانت تشتهي أن تنظر مكان مولدها غالدريا، فالشيطان ولئن ظهر في الأول ممانعاً لطلبها هذا، قد اضطر أخيراً للارتضاء به ولذلك سافرا من مدينة أنفارسا وإذ جاءا إلى مدينة نيماغا قد وجدا هناك في مكان المفترج المشاع مباشراً احتفال مشهدٍ يتضمن جانباً من قصة حياة مريم البتول الكلية القداسة، فميم لما نظرت الاحتفال قد تحركت من قبل العبادة القليلة التي لم تكن ذالةً منها بالكلية نحو والدة الإله وبدأت تبكي، فالشيطان أخذ يحرضها على الخروج من ذاك المكان بقوله لها: ما لنا والأقامة ههنا، أهل يلزمنا أن نصنع مرسحاً خصوصياً. أخرجي من هنا: ومن ثم مسكها بيدها مغتصباً إياها على الخروج. إلا أنها لم ترد أن تطاوعه ولهذا إذ رأى ذاته مغلوباً منها وعرف أنها فلتت من يده، فكيداً ورجزاً قد حملها إلى الفضاء وطرحها في وسط ذاك المحفل، فحينئذٍ هي أخبرت الحاضرين بقصتها، ثم انطلقت عند الكاهن لتعترف بخطاياها، إلا أنه أي الخوري قد أرسلها إلى أسقف كولونيا ليتبصر بأمرها، وهذا الأسقف قد أعرض واقعة الحال للحبر الروماني الذي أمر بأحضارها إليه، وهو نفسه سمع اعترافها ووضع عليها القانون للتوبة أن تحمل دائماً ثلاثة أطواقٍ من حديد، الأول في عنقها والثاني في يدها اليمين والثالث في يدها الشمال، فمريم هذه التائبة أرتضت بذلك، وحينما جاءت إلى ماستريك قد دخلت إلى دير الراهبات التائبات حيث عاشة أربع عشرة سنةً بأفعال توبةٍ شاقةٍ. وأخيراً إذ نهضت يوماً ما صباحاً من فراشها قد رأت الثلاثة الأطواق الحديد من ذاتها مكسورةً ومطروحةً من عنقها ومن يديها، وبعد ذلك بمدة سنتين قد توفيت بميتةٍ صالحةٍ بصيت القداسة. ودفنت مع الأطواق الحديد نفسها التي بها من حال كونها أسيرةً للجحيم قد تحررت وصارت أسيرة الفردوس بشفاعة والدة الإله سميتها التي اعتقتها وخلصتها.*
خاتمة القسم الأول
No Result
View All Result
Discussion about this post