كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل التاسع
فيما يلاحظ هذه الكلمة وهي: “يا شفوقة يا رؤوفة”
وفيه يبرهن عن كم هي عظيمة شفقة والدة الإله ورأفتها
أن القديس برنردوس إذ يتكلم عن عظمة حنو مريم وإشفاقها نحونا نحن الأشقياء البائسين، يقول: أن هذه البتول هي الأرض الموعود بها من الله التي تقطر لبناً وعسلاً: ولهذا قال القديس البابا لاون الكبير: أن البتول المجيدة هي مالكة قلباً وأحشاءً رحومةً شفوقةً بهذا المقتدار، حتى أنها ليس فقط تستحق أن تسمى أم الرحمة، بل ينبغي أيضاً أن تدعى الرحمة بالذات: والقديس بوناونتورا إذ يلاحظ أن مريم قد اختيرت والدةً لله لسبب شقاوة المساكين، وأنها قد أقيمت بوظيفة أن توزع المراحم على الجميع، متأملاً أيضاً في الاهتمام العظيم الذي عندها في أن تسعف البائسين كافةً، وكيف أن ذلك يجعلها غنيةً بهذا المقدار بالرأفة والإشفاق، حتى أنه يبان أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن تعين المحتاجين وتسعف المعوزين وتساعد المساكين وتحسن إلى البائسين. فمن ثم يقول: أنه حينما ينظر إلى مريم فكأنه لا يعود يشاهد في الوجود العدل الإلهي، بل الرحمة الإلهية فقط.*
وبالإجمال إن إشفاق والدة الإله ورأفتها هي هكذا عظيمة: حتى أن أحشاءها الرؤوفة، كما يقول الأنبا غواريكوس، لا تعرف أن تمكث برهةً ما من دون أن تفيض نحونا مجاري حنوها. وتبيح لنا أثمار إشفاقها: والقديس برنردوس يهتف قائلاً: أهل يمكن أن يجري فائضاً من يبنبوع الرأفة شيءٌ آخر غير الرأفة. ولهذا لقبت هي بالزيتونة، كما قيل عنها: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع: (أبن سيراخ ص24ع19) فكما أنه من الزيتزن لا يخرج شيءٌ آخر إلا الزيت (الذي هو رسم الرحمة) هكذا من يدي مريم لا يخرج شيءٌ آخر إلا النعم والمراحم: ولذلك بكل عدلٍ (يقول المكرم لويس دابونته) يليق أن تسمى مريم: أم الزيت: إذ أنها هي أم الرحمة. فإذا ما ألتجأنا نحن إلى هذه الأم طالبين منها زيت رأفتها فلا نخاف من أنها يمكن أن تنكره علينا، كما نكرت إعطاء الزيت الخمس العذارى الحكيمات للخمس الجاهلات قائلات لهن: ليس لنا ما يكفينا وإياكن: (متى ص25ع9)، كلا، بل أن هذه السيدة هي غنيةٌ بزيت المراحم، كما ينبه القديس بوناونتورا، ولذلك تدعوها الكنيسة المقدسة: عذراء كلية الحكمة: لكي نفهم من ثم (حسبما يقول أوغون الذي من سان فيتوره) أن مريم هي بهذا المقدار ممتلئةٌ نعمةً وإشفاقاً، حتى أنها تقدر أن تسعف الجميع بسخاء رأفتها من دون أن تفرغ كنوز غناها.*
ولكني أسأل مستفهماً لماذا يقال في النص المتقدم ذكره: أنا مثل الزيتون الجميل في البقاع، ولا تقول بالأحرى: أنا زيتونةٌ ضمن بستانٍ أو كرمٍ مسيجٍ بالجدران محفوظةٌ داخل السياج، لا في البقاع الشائبة للخطف؟ فيجيب الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: أن هذه الزيتونة إنما هي في البقاع ليمكن لكل أحدٍ بسهولةٍ أن يشاهدها، ومن دون مانعٍ يدنو منها ليستمد علاجاً لاحتياجاته: ويثبت هذا التفسير الجليل القديس أنطونينوس بقوله: أنه حينما تكون زيتونةٌ ما مغروسةً في الحقل خارج الحيطان والسياج، فيستطيع كل أحدٍ من غير حاجزٍ أن يذهب إليها ويقطف أثمارها. ولهذا أن الجميع يقدرون أن يلتجئوا إلى مريم أبراراً وأشراراً ليستمدوا زيت رحمتها: فكم وكم من الأحكام الانتقامية المعطاة من العدل الإلهي ضد الخطأة قد عرفت هذه البتول الكلية القداسة أن تنال بواسطة تضرعاتها عدم وضعها بالعمل، مخلصةً منها الأشرار الذين ألتجأوا إليها مستغيثين بها. ويقول توما الكامبيسي: أي ملجأ أكثر أمناً نستطيع نحن أن نجد خارجاً عن حضن مريم وأحشائها المملوءة رأفةً، لأنه هناك يجد الفقير إسعافه، والمريض علاجه، والحزين تعزيته. والمرتاب إقناعه، والمشكك هدؤه بالمشورة الصالحة، والمهمل إعانته، والمحتاج كفاية.*
فيا لتعاستنا لولا نكون حاصلين على أم الرحمة هذه المتهتمة والمعينة دائماً في إسعافنا وسد عوزنا في شدائدنا وشقاوتنا. على أن الروح القدس يقول بفم ابن سيراخ (ص36ع27): أنه حيث لا توجد الامرأة ينوح الفقير: فالقديس يوحنا الدمشقي يبرهن أن هذه الامرأة هي مريم البتول، وحيث لا توجد هي فيضام الجميع لأن الله أراد أن النعم كلها تتوزع باسطة تضرعاتها لديه. فإذا نقص وجودها فلا ريب بنقصان الرجاء عن نوال الرحمة، كما أوحى الرب للقديسة بريجيتا بقوله: حيث لم توجد صلوات مريم بالتضرعات فلا رجاء لنوال الرحمة.*
ولكن أهل أننا نخاف من أن هذه الأم الحنونة لا تنظر إلى شقاوتنا ولا تتوجع لنا، كلا، بل أنها هي تلاحظ وترثي لنا من أجلها أكثر مما نحن أنفسنا نلاحظها ونتوجع من جرائها. فيقول القديس أنطونينوس: من هو ذاك الذي فيما بين القديسين كافةً يشفق علينا ويحنو مترأفاً وينعطف متريثاً لحالنا نظير مريم: وحسبما يورد ريكاردوس الذي من سان فيتوره بقوله: أن مريم حيثما تشاهد الشدائد، وأينما تنظر المسكنة والشقاء، فلا تقدر أن تهملها من دون أن تسعف الكائنين فيها! ويثبت ذلك العلامة ماندوتسا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ أيتها البتول المباركة توزعين بيدٍ طلقةٍ سخيةٍ مراحمكِ أينما لاحظتِ الاحتياج والضرورة ملمةً بنا. فأمنا هذه الصالحة لا تكف أصلاً عن ممارسة ما هو متعلقٌ بوظيفتها في توزيع المراحم، كما تعلن هي نفسها عدم انتقاصها، بل دوام خدمتها هذه الرحومة بقولها هكذا: أنني إلى الدهر المزمع لا أنقص، لقد خدمت أمامه في القبة الطاهرة: (أبن سيراخ ص24ع14) فيشرح هذه الكلمات الكردينال أوغون بأن مريم تقول: أنني إلى حد نهاية العالم لا أهمل أبداً أن أعتني بإسعاف البشر في شدائدهم، ولا أتغافل أصلاً عن التضرعات من أجل الخطأة لكي ينالوا الخلاص ناجين من الشقاء الأبدي.*
فقد كتب المؤرخ سفاطونيوس عن الملك تيطس قيصر، أنه بهذا المقدار كان منصّباً بانعطافٍ وشوقٍ لأن يمنح النعم للذين كانوا يلتمسونها منه، حتى أنه كان يقول عن ذاك اليوم الذي لم يكن فيه يتقدم لديه أحدٌ ما في طلب نعمةٍ من النعم: أنه يومٌ ضائعٌ ونهارٌ فاقد الثمر لي. لأني اجتزته من غير أن أسعف فيه أحداً بنعمةٍ ما: فتيطس ربما كان يقول ذلك بروح المجد الباطل وبقصد أن يكتسب لذاته ريادة مديح الشعوب. واعتبارهم جودة صفاته أحرى مما بروحٍ صادقٍ لمحبة القريب، وأما ملكتنا مريم فلو أتفق أن يمر يومٌ ما من دون أن تلتمس منها نعمةٌ ما، أو من غير أن تهب هي فيه رحمةً ما، فلكانت تقول ذلك لهذه العلة وحدها، وهي لكونها أنما هي ممتلئةً من الحب الصادق نحو البشر، ومن الشوق الأكيد إلى أن تصنع معنا الخير: بنوع أنها كما يقول القديس برنردينوس البوسطى. توجد هي شائقةً ومتعطشة لأن تهبنا النعم. أفضل شوقاً وتعطشاً منا نحن أنفسنا لاقتبال هذه النعم، ولذلك كل مرةٍ نحن نلتجئ إليها فنجدها دائماً مملوءة اليدين من المراحم ومن المواهب السخية التي تريد أن تمنحنا إياها.*
فأمنا رفقا إنما كانت رسما لأمنا البتول المجيدة، فرفقا حينما طلب منها غلام ابراهيم أن تسقيه قليلاً من الماء الذي كان في الجرة التي هي أملأتها من العين، فليس أنها أسرعت إليه هو فقط ووضعت الجرة على ساعدها وأسقته قائلةً له: أشرب يا سيدي: بل أنها بعد أن شرب قالت له أيضاً: أنني أستقي ماءً للجمال التي معك حتى تشرب كلها: وهكذا أفرغت الماء في المستقى. وأعجلت راجعةً الى البئر ثانيةً وأملأت فأسقت جميع الجمال (سفر التكوين ص24ع18 الخ) فمن ثم يلتفت القديس برنردوس الحسن التعبد لمريم البتول مخاطباً إياها هكذا: أنكِ أيتها السيدة رؤوفةٌ وأكثر سخاءً من رفقا. ولذلك أنت لا تكفين بأن توزعي نعم رحمتكِ الغير المحدودة على غلمان ابراهيم فقط، المفهوم بهم عبيد الرب الأمناء في خدمته تعالى، بل أنكِ تهبين هذه النعم للجمال أيضاً التي هي رسمٌ للخطأة، وكما أن رفقا قد أعطت أكثر مما طلب منها، فعلى هذه الصورة أنتِ تهبين أكثر من الشيء الذي يلتمس منكِ: ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن سخاء مريم يشابه سخاء ابنها الإلهي الذي يعطي دائماً أكثر مما يطلب منه، ولهذا يقول عنه القديس بولس الرسول أنه مستغنٍ في جميع المستغيثين به: (روميه ص10ع12) أي هو غنيٌ بالنعم نحو جميع الذين يلتجئون إليه بالصلوات، ولهذا يقول نحو البتول المجيدة أحد العلماء العباد هكذا: صلي من أجلي أنتِ يا سيدتي، لأنكِ تطلبين لي النعم بأعظم عبادةٍ مما أنا أعرف أن أصنع، وأنتِ تنالين من الله نعماً ومواهب أعظم وأوفر من تلك التي أنا أستطيع أن ألتمسها.*
فالقديسان الرسولان يعقوب ويوحنا عندما شاهدا أن أهل قرية السمرة لم يريدوا أن يقبلوا يسوع عندهم، قد احتدا بالغيرة قائلين: يا رب أتريد أن نقول فتنحدر نارٌ من السماء وتفنيهم، فألتفت هو ونهرهما قائلاً لستما تعرفان أي روحٍ أنتما: (لوقا ص9ع52 ألخ) فكأنه تعالى يقول لهما: أنني بهذا المقدار أنا رحومٌ رأوفٌ شفوقٌ عذبٌ حتى أني نزلت من السماء لكي أخلص الخطأة لا لكي أعاقبهم، وأنتما تريدان أن تشاهداهم هالكين، فماذا تقولان عن نارٍ وعن انتقامٍ، اسكتا ولا تتكلما بعد في أمر عقابٍ وقصاصٍ لأن هذا ليس هو روحي. فمن حيث أن روح مريم العذراء بجملته هو شبيهٌ بروح ابنها فلا نقدر أن نرتاب في أنها هي بكليتها متعطشةٌ بإنعطافٍ لأن تصنع الرحمة، لأنها (كما أوحت للقديسة بريجيتا) قد دعيت أم الرحمة، بل أن رحمة الله عينها قد صنعتها هكذا شفوقةً حنونةً عطوفةً حلوةً رأوفةً نحو الجميع، ولذلك قد شاهدها القديس يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس. كما يقول في سفر الأبوكاليبسي (ص12ع1): وظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء امرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس: ففيما يلاحظ هذه الكلمات يخاطب القديس برنردوس والدة الإله قائلاً: أنكِ أيتها السيدة قد ألبستِ الشمس أي كلمة الله جسداً إنسانياً، إلا أنه تعالى قد ألبسكِ هو رحمته واقتداره.*
فبهذا المقدار إذاً هي حنونةٌ متعطفةٌ شفوقةٌ هذه الملكلة (يقول القديس برنردوس عينه) حتى أنها حينما ترى أحد الخطأة مهما كان، ملتجئاً إليها ومستغيثاً برحمتها. فلا تتوقف هي فاحصةً عن استحقاقاته أو عدمها أي أن كان يستحق هو أن يستجاب مطلوبه أم لا، بل أنها تستجيب الجميع وتقبل طلباتهم من دون استثناءٍ. ولأجل ذلك يلاحظ مبرهناً القديس أيدالبارتوس بقوله: أن مريم قد دعيت: جميلةً مثل القمر: (نشيد ص6ع9) على أنه كما أن القمر لأجل قربه من كرة الأرض ينير أولئك السكان في قطب الأرض السفلي الذين لا تظهر لهم الشمس إلا أزمنةً قليلةً في دور السنة. فهكذا مريم تسعف الخطأة الأكثر شقاءٍ والأشد احتياحاً والأوفر أعداماً للاستحقاقات: ثم أن القمر ولئن كان يتخذ أنواره من الشمس فمع ذلك مفعولاته تكمل بأكثر سرعةٍ من الشمس، لأن الشيء الذي تعمله الشمس في مدة سنةٍ يعمله القمر في مدة شهرٍ (كما يقول المعلم يوحنا ديمينان في تكلمه عن الفلك في الرأس 3من الكتاب 1) ومن ثم يورد القديس أنسلموس: بأننا بعض الأحيان نستمد النجاة بواسطة أستغاثتنا بمريم بأكثر سرعةٍ مما نستمدها بأستغاثتنا بيسوع: ولهذا يحرضنا أوغون الذي من سان فيتورة على: أنه اذا أتفق لنا أن كثرة خطايانا تسبب لنا الخوف من أن ندنوا من الله ملتجئين إليه، لأنه تعالى ذو عزةٍ متناهيةٍ قد أهينت منا بأفعال الآثام، فلا نبغي لنا حينئذِ أن تتوقف عن أن نبادر بالاستغاثة نحو مريم، لأننا لا يمكن أن نجد فيها شيئاً ما يخيفنا. لأنه أي نعم أنها هي كلية القداسة بريةٌ من العيب سلطانة العالم، وهي نفسها والدة للإله عظيمة الجلالة، إلا أنها هي من لحمنا ودمنا وهي ابنة آدم نظيرنا.*
وبالإجمال يقول القديس برنردوس: أن كل شيءٍ يختص بمريم، هو مملوء من النعم والمراحم. لأنها هي بحسب كونها أم الرأفة. قد صيرت ذاتها كلاً للكل. وبحسبما هي موعبةٌ من الحب الشديد نحو الجميع، قد اقتبلت أن تصير مديونةً للأبرار والأشرار معاً بصنيع الرحمة معهم. ولهذا هي تفتح للكل أحضان رحمتها حتى يتمتع بذلك الجميع. كما أن الشيطان. كقول القديس بطرس الرسول: يجول حول البشر زائراً كالأسد يلتمس من يبتلعه: (بطرس أولى ص5ع8) فهكذا بالضد مريم تجول مفتشةً من دون أنقطاعٍ على أن تعطي الحياة والخلاص لمن تقدر هي أن تصنع معه ذلك. حسبما يورد ريكاردوس البوسطي.*
ثم يلزمنا أن نعرف جيداً أن اقتدار والدة الإله في المحاماة عنا هو أعظم جداً مما نستطيع نحن أن ندركه بعقولنا. كما يقول القديس جرمانوس. فمؤلف الكتاب المدعو بوماريوس يسأل كمستفهمٍ. عن كيف أن ذاك الرب الذي كان في الناموس القديم بهذا المقدار صارماً في أطلاق القصاصات والعقابات عاجلاً. فالآن هو تعالى عينه يستعمل المراحم مع الأثمة الأكثر خطأً من أولئك القدماء، ثم يجيب هو نفسه عن ذلك قائلاً: أن الله يفعل الأن هذه المراحم كلها حباً بمريم وتكريماً لاستحقاقاتها: والقديس فولجانسيوس يقول:” أنه لقد كان العالم من دون ريب انقلب حاصلاً في الاندثار الكلي، لولا تكون مريم مسندةً إياه بقوة شفاعاتها”. إلا أننا نقدر أن نذهب مطمئنين أمام الله (يتبع القول القديس أرنولدوس كارنونانسه) وأن نترجا مؤملين نوال كل خيرٍ إذ أننا حاصلون على الابن الإلهي وسيطاً بنا لدى أبيه الأزلي، وعلى الأم الإلهية وسيطةً بنا لدى هذا الأبن السرمدي. فكيف يمكن أن الآب لا يستمع طلبات الأبن الذي يظهر لديه الجراحات التي ألم هو بها من أجل خلاص الخطأة. وكيف هو من المحتمل أن الأبن لا يستجيب تضرعات الأم عندما تظهر هي لديه ثدييها اللذين بهما أقاتته بالحليب مغذيةً. أما القديس بطرس الذهبي النطق فيورد عبارةً جليلةً بقوله عن العذراء المجيدة هكذا: أنه اذ قدمت لله هذه الجارية البتول أحشاها الفائقة الطهر نظير فندقٍ سكن فيه تعالى في مجيئه الى العالم. فلذلك هي تطلب منه عز وجل بمنزلة أجرةٍ عن سكناه فيها. السلام للعالم والخلاص للخطأة الميؤوسين والحياة للموتى.*
فكم هو عظيمٌ عدد الذين استحقوا أن يحكم عليهم بالهلاك (يقول الأنبا جالاس) من أولئك الذين فازوا بالخلاص، لولا تدركهم مراحم مريم العذراء لأنها أنما هي كنز الله وخازنة جميع النعم ومن ثم أن خلاصنا هو متعلقٌ بها وكائنٌ بين يديها: فلنبادر إذاً دائماً إلى أم الرأفة هذه ونترجى خلاصنا بكل تأكيدٍ بواسطة شفاعاتها. إذ أنها (كما يشجعنا على الثقة بها برنردينوس البوسطي) هي خلاصنا وحياتنا ورجانا ومشيرتنا وملجانا ومعونتنا: ويقول القديس أنطونينوس: أن مريم هي ذاك العرش، أي عرش النعمة الذي يحرضنا الرسول الإلهي على أن نتقدم اليه بثقةٍ لنستمد الرحمة الإلهية، مع كل المعونات الضرورية لخلاصنا، كما يقول في رسالته إلى العبرانيين (ص4ع16) هكذا: فلنتقدم بدالةٍ الى عرش النعمة لنأخذ نعمةً ونجد رحمةً لمعونةٍ نستفرصها: ولهذا القديسة كاترينا السيانية تسمي والدة الإله: موزعة المراحم الإلهية.*
فلنختتم القول بتلك الكلمات العذبة المملؤة حلاوةً التي يخاطب بها القديس برنردوس هذه الأم الرؤوفة هاتفاً: أنكِ يا مريم أنتِ حليمةٌ نحو الأشقياء رأوفةٌ نحو المستغيثين بكِ، عذبةٌ حلوةٌ مع محبينكِ، شفوقةٌ مع التائبين. حنونةٌ مع الساعين في نجاحهم لطيفةٌ مع الكاملين. فأنتِ توضحين ذاتكِ رؤوفةً باستنقاذكِ إيانا من العقابات، وشفوقةً بتوزيعكِ علينا النعم، وحلوةً لذيذةً بإيهابكِ ذاتكِ لكل من يطلبكِ.*
* نموذج *
أن الأب كارلوس بوفيوس يخبر بأنه كان في مدينة دومانس من مملكة فرنسا رجلٌ. الذي مع كونه مقترناً بسر الزواج قد كان معاشراً إحدى النساء عشرةً دنسةً فسقيةً. فامرأته العارفة ذلك إذ لم يمكنها منعهما عنه فلم تكن تصنع شيئاً آخر سوى أن تطلب لهما من الله القصاصات المريعة، لا سيما أنها ذهبت يوماً ما إلى إحدى الكنائس وامتثلت أمام هيكل والدة الإله، ملتمسةً منها إجراء صرامة العدل ضد تلك الامرأة الأثيمة المانعة عنها رجلها. غير أن الامرأة الخاطئة عينها كانت من عادتها أن تذهب يومياً إلى تلك الكنيسة، وتصلي أمام أيقونة والدة الإله نفسها السلام الملائكي. فليلةً ما قد ظهرت في الحلم هذه الأم الرؤوفة لامرأة الرجل المومى إليه، التي حالما رأتها شرعت مثل عادتها تطلب القصاصات قائلةً: اصنعي العدل يا والدة الإله أنصفي بالقسط للمظلومة: إلا أن العذراء المجيدة أجابتها بقولها: أنكِ تطلبين مني قيام العدل وإجراء صرامة القسط فتضلين، لأنكِ إن أردتِ ذلك فأذهبي إلى آخرين غيري يصنعونه لكِ، فأنا لا أستطيع أن أتتم مرغوبكِ، ثم قالت لها: أعلمي أن تلك الامرأة الخاطئة عينها تتلو أمامي كل يومٍ ذاك السلام الذي من يكرمني بتلاوته، فمهما كان هو، أنا لا أحتمل أن أراه مصاباً بعقابٍ ما، ولا ساقطاً في القصاصات لأجل خطاياه. فلما أصبح النهار نهضت هذه الامرأة ومضت إلى تلك الكنيسة فحضرت القداس… وفيما هي خارجةٌ من الكنيسة صادفت الامرأة الخاطئة داخلةً إليها، فشرعت تشتمها وتقول عنها أنها هي ساحرةٌ قويةٌ في هذه الصنعة، حتى أنها اتصلت إلى أن تسحر مريم العذراء وتجعلها محاميةً عنها. فالناس الذين سمعوها متكلمةً هكذا نهروها قائلين: اسكتي ماذا تقولين؟ أما هي فأجابتهم بقولها: كيف أريد أن أسكت عن أن أقول ما هو حقيقي جداً، لأن مريم العذراء قد ظهرت لي في هذه الليلة، وإذ طلبت منها أن تنصفني بالعدل من هذه الامرأة الفاجرة، فأجابتني بأنها لا تقدر أن تصنع لي ذلك، من كون هذه الامرأة الشريرة تتلو أمامها كل يومٍ سلاماً ما يجعلها غير مستطيعةٍ أن تعاقبها! فالناس حينئذٍ سألوا تلك الخاطئة ما هو السلام الذي كانت هي تصليه أمام أيقونة العذراء، فقالت لهم أنه هو السلام الملائكي. غير أنها أي الامرأة الخاطئة عندما سمعت وتحققت أن البتول القديسة لأجل هذه العبادة الجزئية التي كانت هي تقدمها لها. قد صنعت معها هذا السخاء بحفظها إياها من العقاب المستحقته خطاياها، فدخلت الكنيسة وانطرحت أمام أيقونتها المقدسة طالبةً من الشعب الغفران عن الشكوك التي سببتها هي لهم، ونذرت أن تحفظ العفة الدائمة، ثم بعد ذلك خلعت عنها الأثواب العالمية. وتردت بالثوب الرهباني وعمرت لها قلايةً بالقرب من تلك الكنيسة، حيث اجتازت الزمن الذي بقي لها من العمر بأفعال إماتاتٍ وتقشفاتٍ، وبأعمال التوبة الصارمة إلى أن فارقت هذه الحياة.*
† صلاة †
يا أم الرحمة إنكِ من حيث أنتِ بهذا المقدار رؤوفةٌ وذات إشتياقٍ لأن تصنعي الخير معنا نحن الأذلاء الأشقياء ولأن تتممي مرغوباتنا التي نطلبها منكِ، فأنا الذي هو الأشقى فيما بين البشر أجمعين ألتجئ إليكِ مستغيثاً برأفتكِ لكي تهبيني ما ألتمسه منكِ. فلتستمد الناس من رحمتكِ ما يرغبون، صحةً جسديةً، أملاكاً زمنيةً، سعاداتٍ أرضيةً، أما أنا فآتي إليكِ أيتها السيدة طالباً تلك الأشياء التي أنتِ نفسكِ ترغبينها لي أكثر مني، وهي بكليتها مطابقةٌ لمشيئة قلبكِ الكلية القداسة فأنت كنت على الأرض متواضعةً هكذا، فاستمدي لي إذاً فضيلة التواضع ومحبة الاحتقار. أنتِ كنتِ بهذا المقدار صبورةً في احتمال شدائد هذه الحياة، فألتمسي لي فضيلة الصبر لأحتمل كل شيءٍ مضادٍ. أنتِ وجدتِ ممتلئةً حباً متقداً نحو الله، فاكتسبي لي موهبة الحب المقدس النقي. أنتِ صودفتِ موعبةً محبةً نحو القريب بكليتكِ، فاطلبي لي فضيلة الحب نحو الجميع، لا سيما نحو أولئك الذين يبغضوني ويضادوني. أنتِ كنتِ جزيلة التسليم لإرادة الله، فأستمدي لي حسن الخضوع التام والتسليم العام لكل ما يريد الله أن يفتقدني به. أنتِ بالإجمال هي الأكثر قداسةً فيما بين جميع المخلوقات يا مريم المجيدة، فصيريني قديساً، لأنه لا ينقصكِ حبٌّ وكل شيءٍ لديكِ هو ممكنٌ وأنتِ ترغبين أن تكتسبي لي كل شيءٍ يوافقني خلاصاً، إلا أن شيئاً واحداً يمكن أن يوجد مانعاً عني نوال مسألتي وهو، أما التهاون في الالتجاء المتصل إليكِ، وأما ضعف الرجاء في حنوكِ ومقدرة شفاعاتكِ، غير أن هذا الالتجاء الدائم إليكِ وهذا الرجاء الوطيد فيكِ يلزم أن تستمديهما لي أنتِ نفسكِ من أبنكِ. فهاتين النعمتين العظيمتين ألتمس منكِ، وأريدهما حقاً وأطلبهما بثقةٍ يا مريم أمي ورجائي وحياتي وملجأي وتعزيتي. آمين.*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post