كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثامن
في شأن ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: “فأرينا بعد هذا المنفى يسوع ثمرة بطنكِ المباركة”
† الجزء الثاني †
في أن مريم البتول تسعف أنفس المتعبدين لها بعد الموت في المطهر
أنهم بالحقيقة لسعيدون جداً هم عباد هذه الأم الكلية الرأفة، لأنهم يسعفون ويعانون منها ليس في هذا العالم فقط بل في المطهر أيضاً يفوزون بمساعدتها لهم وبتعزيتها إياهم. ومن حيث أن الأنفس في المطهر هن أكثر احتياجاً إلى الإسعاف، لأنهن يوجدن هناك متكبداتٍ عذاباتٍ شديدةً جداً من دون أن يقدرن على أن يسعفن ذواتهن بذواتهن فبأبلغ من ذلك تتلألأ مفاعيل شفقة أم الرحمة نحوهن باجتهادها في إعانتهم. فيقول القديس برنردينوس السياني: أن الكلية القداسة مريم لها سلطةٌ وسلطانٌ مطلقٌ في ذاك الحبس المطهري المحبوسة فيه الأنفس اللواتي هن عروسات يسوع المسيح. على أن تسعفهن وأن تخلصهن أيضاً من تلك العذابات:*
فنظراً إلى إسعاف مريم هذه الأنفس فالقديس برنردينوس عينه إذ يخصص بمريم تلك الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ وهي: في أمواج البحر مشيت: (ص24ع8) يقول: أن عذابات المطهر تسمى أمواجاً لأنها عذباتٌ عابرةٌ وقتيةٌ خلافاً لعذبات جهنم الثابتة الأبدية، وإنما تدعى عذابات المطهر أمواج البحر، لأنها مرةٌ جداً كمياه البحر، فالأنفس المتعبدة لمريم إذ يكن مملوءاتٍ من الحزن جداً فيما بين أمواج تلك العذبات المرة فهذه السيدة تزورهن مراتٍ كثيرةً وتسعفهن: وهنا يقول نوفارينوس: هوذا البرهان الذي يوضح كم يجب أن يعتبر ويحب التعبد لمريم السيدة الصالحة. لأنها لا تعرف أن تنسى تلك الأنفس المتعبدة لها، ولا تهمل أن تساعدهن حينما يتعذبن في ذاك اللهيب. على أنه ولئن كانت هذه السيدة تسعف بوجه العموم كل الأنفس الكائنة في المطهر، إلا أنها مع ذلك تسعف أنفس أولئك الذين في هذا العالم كانوا متعبدين لها عبادةً خصوصيةً إسعافاً خصوصياً.*
فهذه البتول المجيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: إني أنا أمٌ لكل الأنفس الكائنة في المطهر، ففي الوقت الذي فيه هن يتعذبن بشدةٍ بكل تلك العذابات المتوجبة على الخطايا المفعولة منهن في العالم، ففيه أنا في كل ساعةٍ أخففها عنهن طالما هن هناك بواسطة صلواتي من أجلهن. ثم أن هذه الأم الشفوقة لا تأنف من أنها تأتي بذاتها بعض الأحيان إلى ذلك السجن المقدس لكي تزور الأنفس بناتها وتعزيهن. كما جاء عنها القول في حكمة أبن سيراخ (ص24ع8): أني دخلت سالكةً في عمق الغمر: حيث أن القديس بوناونتورا يخصص الكلمات المذكورة بوالدة الإله مضيفاً إليها قوله عن لسانها: أنا دخلت في عمق ذاك الغمر أي المطهر لكي أسعف بحضوري هناك تلك الأنفس البارة: أما القديس فينجانسوس فرارى فيقول: أن مريم هي مفيدةٌ للأنفس الكائنة في المطهر. لأنهن يحصلن بواسطتها على الإسعاف الكلي. فيا لعظمة حنو هذه البتول القديسة الكلية الإشفاق نحو تلك الأنفس المتكبدات العذابات في المطهر، اللواتي هن على الدوام يشعرن بمفاعيل المعونات والإسعافات التي تمارسها هي نحوهن.*
لأنه أية تعزيةٍ لهن في حال ضيقتهن سوى مريم وإسعافها لهن إذ هي أم الرحمة، فالقديسة بريجيتا يوماً ما سمعت يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنكِ يا أمي أنت هي أم الرحمة وأنتِ هي تعزية الأنفس الكائنة في المطهر. بل إن البتول الطوباوية عينها قالت للقديسة بريجيتا: إنه كما أن المريض الفقير المطروح على الفراش مسكيناً يكون مملوءاً من الحزن لمشاهدته ذاته متروكاً مهملاً، إلا أنه يحصل على تعزيةٍ وافرةٍ عندما يسمع كلمةً ما تنذر بإسعافه، فهكذا تلك الأنفس المطهرية يشعرن بتعزيةٍ جزيلةٍ بمجرد سماعهن ذكر اسمي. فإذاً مجرد ذكر اسم مريم (الذي هو اسم رجاءٍ وخلاص) يسبب للأنفس المسجونة في المطهر تعزيةً وافرةً عندما تلفظه بأفواههن بناتها هؤلاء المحبوبات منها. أما نوفارينوس فيقول: أن هذه الأم المملوءة من الحب عندما تسمع الأنفس المطهرية يستغثن باسمها، تضاعف هي تضرعاتها لدى الله الذي إجابةً لمطلوبها يترأف عليهن بالإسعاف، نظير النداء المنحدر من السماء ليبرد عنهن سعير تلك النيران الملتهبة.*
غير أن مريم العذراء لتظهر عنايتها نحو أنفس المتعبدين لها ليس فقط في تعزيتهن وإسعافهن في مدة إقامتهن في المطهر، بل في إنقاذهن أيضاً من ذلك السجن بواسطة شفاعتها. ففي يوم صعود هذه القديسة والدة الإله المجيد من الأرض إلى السماء جميع الأنفس اللواتي كن وقتئذٍ في المطهر خلصن منطلقاتٍ معها إلى السعادة البدية، كما كتب العلامة جرسون بقوله: أن سجن المطهر في ذلك اليوم حصل فارغاً من الأنفس التي كانت فيه.*
ويثبت ذلك نوفارينوس مبرهناً عنه بأقوال كتبةٍ كنائسيين كثيرين معتبرين جداً وهو: أن والدة الإله في حين انتقالها من الأرض إلى السماء التمست من ابنها الإلهي هذه النعمة، وهي أن تخلص جميع الأنفس الكائنة في ذلك اليوم مسجونةً في المطهر وتقودهن صحبتها الى النعيم: فيقول جرسون: أن البتول المجيدة من ذلك النهار أخذت سلطان التملك على هذه الخصوصية الممنوحة لها من الله وهي أن تخلص من المطهر أنفس المتعبدين لها: وهذا يؤكده لنا تأكيداً مطلقاً القديس برنردينوس السياني بقوله: أن البتول الطوباوية هي حاصلة على هذه السلطة والتفويض المطلق، وهو أنها بواسطة تضرعاتها، وكذلك بتخصيصها استحقاقاتها الذاتية إسعافاً للأنفس المطهرية، لا سيما أنفس المتعبدين لها، تخلصهن من تلك العذابات: وهذا عينه يقوله نوفارينوس معتبراً أنه لأجل استحقاقات والدة الإله الخصوصية ليس فقط تعود العذابات المطهرية لطيفةً عذبةً على تلك الأنفس، بل أيضاً تجعلها مختصرةً بزمنٍ أقل من المرسوم عليهن، لأنها بتوسلاتها من أجلهن تنقص عنهن زمن العذابات ليخلص بسرعةٍ.*
ثم أن القديس بطرس داميانوس يخبرنا عن امرأةٍ اسمها ماروتسا، بأنها قد ظهرت لاشبينتها بعد موتها وقالت لها، أنها في يوم عيد صعود مريم البتول إلى السماء قد خلصت هي من عذابات المطهر، جملةً مع أنفسٍ كثيرة تفوق عدداً على جميع الشعب الروماني، حيث انطلقن كلهن إلى السماء. وكذلك يقول القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن والدة الإله في كل يومٍ من يومي هذين العيدين السنويين أي الميلاد والقيامة تنحدر بذاتها إلى المطهر مرافقةً من أجواقٍ ملائكيةٍ كثيرةٍ وتخلص من السجن المطهري أنفساً عديدةً. ثم أن نوفارينوس يبرهن في أن هذه الطوباوية تصنع ذلك في كل يوم عيدٍ من أعيادها هي أيضاً الأحتفالية السنوية.*
وما عدا هذا لشهيرٌ ومعروفٌ بكفايةٍ هو الوعد الذي وعدت به السيدة المجيدة للبابا يوحنا الثاني والعشرين، الذي ظهرت هي له وأمرته بأن يعلن لجميع أولئك الذين يحملون على ذواتهم ثوبها المسمى ثوب سيدة الكرمل، أن أنفسهم يخلصن من المطهر في يوم السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم: فالحبر الأعظم المذكور كما يورد الأب كراسات قد أشهر ذلك وأعلنه لجميع المؤمنين في منشوره الباباوي الذي أبرزه في هذا الشأن، وقد أثبت المنشور المومى إليه الباباوات ألكسندروس الخامس، وأكليمنضوس الثامن وبيوس الخامس، وغريغوريوس الثالث عشر، وبولس الخامس، الذي سنة 1612 أبرز منشوراً وبه أعلن قائلاً: أن الشعب المسيحي يستطيع أن يعتقد بحسن عبادةٍ بأن البتول الطوباوية تسعف بشفاعاتها المتواصلة وباستحقاقاتها الذاتية وبحمايتها الخصوصية بعد الموت وخاصةً في يوم السبت (المكرس لعبادتها من الكنيسة) أنفس الإخوة المشتركين بأخوية سيدة ثوب الكرمل، الذين تنفصل أنفسهم عن أجسادهم من هذه الحياة وهم في حال نعمة الله ويكون هؤلاء الأخوة. حملوا على ذواتهم ثوبها بحفظ واجبات فضيلة الطهارة بقدر واجب التزمات دعوتهم الخصوصية، ويكونون تلوا الفرض المختص بهذه السيدة، وإذا لم يكونوا استطاعوا تلاوة هذا الفرض فيكونون حفظوا الصيامات االكنائسية، وامتنعوا عن أكل اللحم نهار الأربعاء، ما عدا يوم عيد الميلاد: ثم في خدمة الفرض الاحتفالي المختص بعيد سيدة الكرمل يقرأ هكذا: أنه يعتقد الاعتقاد التقوى بأن البتول القديسة تعزي بحبٍ والديٍ في المطهر أنفس المشتركين بهذه الأخوية، وأنها من دون إعاقةٍ تخلصهن بواسطة شفاعاتها من تلك العذابات، وتقودهن إلى الوطن السماوي. (كما هو مدون تحت اليوم السادس عشر من شهر تموز في عيد سيدة الكرمل) فكيف لا نستطيع نحن أيضاً إن كنا متعبدين لهذه الأم الصالحة أن نرجوا لذواتنا النعم والإسعافات المقدم ذكرها. وكيف لا نقدر أن نؤمل أننا بعد موتنا نذهب إلى السماء من دون الدخول إلى المطهر، مترجين نوال هذه النعمة لأجل خدمتنا والدة الإله وعبادتنا لها بحبٍ خاص، كما أن والدة الإله أرسلت الراهب أبونضوس الى الطوباوي غوديفرادوس قائلةً له: امض فقل للأخ غوديفرادوس أنه إن كان يتقدم نامياً في الفضيلة، سيكون مختصاً بابني وبي أنا أيضاً، وحينما تخرج نفسه من جسده فأنا أصيرها أن لا تمضى إلى المطهر بل أني آخذها أنا وأقدمها أمام ابني.*
فإن كنا إذاً نريد أن نسعف الأنفس المطهرية فلنجتهدن في أن نتوسل إلى والدة الإله من أجلهن في صلواتنا كافةً المقدمة منا في إسعافهن، مخصصين إياهن بنوعٍ متميزٍ بصلوة المسبحة الوردية المقدسة، التي تجلب لهن إسعافاً عظيماً حسبما يبان من النموذج الآتي إيراده.*
* نموذجٌ *
أن الأب أوسابيوس نيارامبارك يخبرنا (في الرأس 29 من الكتاب4 على الأنتصارات المريمية) بأنه كانت في مدينة أراغونا ابنةٌ فتاة أسمها ألكسندرا، التي إذ كانت شريفة الأصل وجميلةً جداً في الخلقة فتعلق نحوها بنوعٍ ممتاز عن الآخرين حب اثنين من الشبان بشدةٍ، ولأجل الغيرة التي اتقدت حرارتها فيما بين هذين الشابين أحدهما ضد الآخر من جرى حبهما الزائد لتلك الفتاة قد تضاربا بالأسلحة والاثنان سقطا على الأرض مقتولين. فحينئذٍ أقرباء هذين الشابين لشدة حزنهم على فقدهما وثبوا على الفتاة ألكسندرا عينها، فقتلوها لأجل أنها صارت علةً لموت ذنيك التعيسين، ثم قطعوا رأسها وطرحوه في بئرٍ عميقةٍ، فبعد أيامٍ من ذلك إذ كان القديس عبد الأحد ماراً بالقرب من البئر، فبإلهام خصوصي من الله قد دنا من البئر عينها وقال: ألكسندرا اخرجي خارجاً: وإذا بالرأس المقطوع صعد من البئر ولبث على حافتها متوسلاً للقديس بأن يستمع اعترافها، فالقديس استمع اعتراف ألكسندرا ونقل القربان الأقدس وناولها إياه زوادةً أخيرةً بمحضر الشعب الغفير، الذي تقاطر إلى هناك من كل ناحيةٍ من المدينة لمشاهدة هذا العجب. وبعد ذلك القديس طلب من ألكسندرا أن تخبره كيف ولأية حجةٍ هي نالت من الله هذه النعمة، فأجابته بأنها حينما أماتها القاتلون وقطعوا رأسها قد كانت هي حاصلةً في حال الخطيئة المميتة، ولكن والدة الإله الكلية القداسة مكافأةً لعبادتها لها بتلاوتها المسبحة الوردية قد حفظتها في الحياة. فقد استمر رأس ألكسندرا حياً عند حافة تلك البئر مدة يومين مشاهداً من جميع الذين كانوا يأتون إلى هناك. وبعد ذلك ذهبت نفسها إلى المطهر. غير أنها عقيب خمسة عشر يوماً قد ظهرت للقديس عبد الأحد جميلةً متلألئةً بالضياء نظير كوكبٍ مشعشعٍ وقالت له: أن الإسعاف الأخص الذي يحصل للأنفس المطهرية في تلك العذابات هو تلاوة المسبحة الوردية من أجلهن، وأن هذه الأنفس إذ يخلصن من المطهر بمفعول صلاة الوردية، فحالما يبلغن إلى السماء يمارسن تقدمة التوسلات لله من أجل أولئك الذين يكونون أسعفوهن بتقدمتهم لأجلهن هذه الصلاة الكلية الفاعلية على تخليصهن من المطهر: قالت هذا ثم صعدت أمام عيني القديس إلى السماء متهللةً بفرحٍ لا يوصف لتتمتع بالسعادة الطوباوية.*
† صلاة †
يا سلطانة السماوات والأرض يا أم مخلص العالم مريم المجيدة. أيتها المخلوقة الأعظم والأسمى والأجمل والأحب من كل المخلوقات، أي نعم أن كثيرين على الأرض لا يحبونكِ ولا يعرفونكِ، ولكن توجد ألوفٌ وربواتٌ وكراتٌ ومليوناتٌ فائقة الإحصاء من الملائكة ومن الطوباويين في السماء يحبونكِ ويسبحونكِ دائماً، ثم في هذه الأرض أيضاً كم وكم من الأنفس السعيدة تلتهب اتقاداً في نيران حبها إياكِ، وتعيش مغرمةً في صلاحكِ! فليتني أحبكِ أنا أيضاً يا سيدتي المحبوبة في الغاية، وأكون دائماً في إتمام خدمتي إياكِ وفي مديحكِ وتكريمكِ، وفي الاجتهاد بأن تكوني محبوبةً من الجميع. أنتِ قد صيرتِ الإله نفسه متعلقاً بحب جمال نفسكِ حتى أنكِ، لكي أقول هكذا، قد اجتذبتيه من حضن أبيه الأزلي إلى أحشائكِ الكلي الطهر متجسداً من دمائكِ وصائراً ابناً حقيقياً لكِ، أفهل أنني أنا الدودة الحقيرة لا ألتهب حباً بكِ، أي نعم يا أمي الكلية الحلاوة أنا أيضاً أريد أن أحبكِ حباً شديداً. وأقصد أن أفعل كل ما أقدر عليه لكي أجعل الآخرين أيضاً أن يحبوكِ. فأقبلي إذاً يا مريم شوقي المتقد نحو حبكِ وساعديني على أن أضعه بالعمل، فأنا أعلم أن المغرمين بحبكِ هم مقبولون لدى عيني إلهكِ، لأنه تعالى بعد الشيء المختص بمجده لا يرتاح الى شيءٍ آخر بمقدار أرتياحه إلى أن تكوني ممجدةً مكرمةً محبوبةً من الجميع، فأنا أرجو منكِ أيتها السيدة كل التوفيقات والسعادات. فيخصكِ أن تستمدي لي غفران خطاياي كلها، ونعمة الثبات على الخير. وأن تساعديني في ساعة موتي. وبعد ذلك أن تخلصيني من العذابات المطهرية. وأخيراً أن تقوديني إلى الفردوس السماوي، فهذه الأشياء يترجاها منكِ محبونكِ ولا يخيبون من أملهم، فأرجوها منكِ أنا أيضاً الذي أحبكِ حباً شديداً فوق كل شيءٍ بعد حبي لله آمين.
†
Discussion about this post