كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل السابع
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي “فأنعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا”
وفيه يبرهن بأن مريم البتول هي بجملتها نظرٌ للتوجع من أجلنا نحن الأشقياء لكي تعيننا.
فالقديس أبيفانيوس يسمي مريم: ذات الأعين الكثيرة: وذلك لأجل اهتمامها الكلي في ملاحظتنا وإعانتنا ما دمنا في هذه الأرض. فيوماً ما إذ كان أحد المقسمين يقسم على أحد المعترين من الشيطان فسأل المقسم هذا الروح النجس أن يخبره ماذا كانت تصنع مريم العذراء فأجابه العدو الجهنمي: أنها تنزل وتصعد: مريداً أن يشير بذلك إلى أن هذه السيدة الحنونة لم يكن لها اهتمامٌ آخر سوى في أن تنزل إلى الأرض، جالبةً للبشر النعم التي تكون استمدتها لهم من الله، ثم تصعد إلى السماء لكي تكتسب الرضوان الإلهي نحو تضرعاتهم، فإذاً بالصواب يسمي هذه البتول المجيدة القديس أندراوس أفالينوس: خدامة السماء أو عمالة الفردوس: لأنها على الدوام توجد مباشرة أعمال الرحمة باستمدادها النعم للجميع أبراراً وأشراراً. فداود النبي يقول: عينا الرب على الصديقين وأذناه الى طلبتهم: (مزمور 34عدد16) أما ريكاردوس الذي من سان لورانسوس فيقول: أن عيني هذه السيدة هما مفتوحتان على الصديقين وعلى الخطأة بنوعٍ متساوٍ، لأن عينيها هما عينا أمٍ، والحال أن الوالدة تحدق بنظرها إلى طفلها ملاحظةً إياه بعنايةٍ ليس فقط كيلا يسقط، بل أيضاً إذا سقط لتساعده منهضةً وتقيمه من سقطته.*
وهذا الأمر قد أوضحه بكفايةٍ مخلصنا يسوع المسيح بنفسه بما أوحاه لأمته القديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعته تعالى يخاطب والدته المجيدة قائلاً لها: اطلبي مني يا أمي كل ما تشتهينه: (الأمر الذي على الدوام يصنعه عز وجل مسروراً في أن يرضي قلب هذه الأم المحبوبة منه في الغاية بتكميله كل ما هي تطلبه) ولكن ترى ما الذي التمسته مريم من ابنها الإلهي بعد سؤاله إياها كما تقدم القول، فالقديسة بريجيتا نفسها سمعت مريم تطلب منه تعالى هذا الشيء بقولها له: يا ابني أنكَ أنتَ قد أقمتني بصفة أم الرحمة وبوظيفة شفيعة عن البائسين وملجأً للخطأة، والآن تقول لي ماذا أشتهي منكَ، فأنا أطلب إليك أن تصنع الرحمة مع المحتاجين. فمن ثم يقول القديس بوناونتورا مخاطباً والدة الإله هكذا: أنكِ يا مريم أنتِ بهذا المقدار ممتلئةٌ من الرحمة، وحريصةٌ على أن تسعفي المساكين، حتى أنه يبان كأنه ليس لكِ أهتمامٌ آخر. سوى أن تكرمي على المساكين وترحمي البائسين وتشاهدي الأشقياء مكللين بالرحمة: ومن حيث أنه فيما بين جميع المساكين الفقراء توجد الخطأة في أول رتبة من الشقاوة والتعاسة فمريم (كقول بيدا المكرم في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة القديس لوقا) تستمر على الدوام متوسلةً لدى ابنها من أجلهم.*
بل إن هذه السيدة منذ كانت عائشةً على الأرض حسبما كتب القديس أيرونيموس (في رسالته الى البتول أوسطوكيوس) قد كان قلبها كلي الانعطاف والحب نحو البشر، بنوع أن توجعها وغمها من أجل مصيبة الغير لم يكن يشعر بهما صاحب المصيبة عينه نظيرها: وقد أظهرت حقائق ذلك واضحاً في حادث عرس قانا الجليل (كما أشرنا عن هذا الأمر في الفصول السابقة): حيث أنه إذ نقص الخمر عن أرباب الوليمة، فلإشفاقها عليهم من دون أن يلتمس أحدٌ منها أسعافاً قد باشرت وظيفة معزيةٍ مملوءةٍ من الحنو في قضاء احتياجهم، كما يورد القديس برنردينوس السياني، وبمجرد توجعها لذنيك العروس والعروسة قد استمدت من ابنها الإلهي فعل تلك الآية التي بها أحال المياه إلى خمرٍ جيدٍ.*
ثم إن القديس بطرس داميانوس يخاطب هذه البتول المجيدة هكذا قائلاً: أفهل أنكِ لأجل كونكِ ارتقيتِ إلى مرتبة ملكة السماوات قد نسيتينا نحن الأذلاء المساكين، كلا، لا يمكن هذا الفكر في عقل أحدٍ أصلاً، لأنه أمرٌ غير لائقٍ هو أن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه كما هو قلب مريم الكلية الرحمة، يتناسى شقاء حال أناسٍ مملؤين من الفقر والمسكنة نظيرنا، ومن ثم ليس له مدخل عند هذه السيدة المثل الدارج وهو: إن الكرمات تغير الصفات. لأن هذا المثل هو جارٍ بالعمل فيما بين أهل العالم الذين إذا أرتقى أحدهم إلى مقامٍ ما شريفٍ، فيمتلئ تغطرساً مستوعباً من الكبرياء ويتناسى بالكلية أصدقاءه الأولين الفقراء، وأما مريم فبخلاف ذلك أنها تبتهج بحال كونها ارتقت إلى مرتبةٍ تستطيع بها بأبلغ نوعٍ وبأكثر سخاءٍ وبأشد استطاعةٍ أن تسعف المحتاجين. الأمر الذي إذ كان يتأمله القديس بوناونتورا، قد خصص هذه البتول المجيد بالكلمات التي قالها بأعاز لراعواث وهي: بارك الرب عليكِ يا ابنتي لصنعكِ الأخير أفضل من صنيعكِ الأول: (راعوث ص3ع10) مريداً أن يبين بهذا الأمر ما شرحه هو نفسه فيما بعد، أي أنه من حيث أن قلب مريم وهي عائشةٌ في العالم قد كان بهذا المقدار مملوءاً من الرأفة نحو المحتاجين، فهو الآن أعظم من ذلك إشفاقاً في حال كونها سلطانة السماء، ثم أن القديس يورد البرهان عن ذلك بقوله: أن هذه الأم الإلهية تظهر الآن حقائق رحمتها الفضلى متعاظمةً بكثرة النعم الفائقة الإحصاء التي تستمدها لنا، لأنها الآن تعرف أفضل معرفةً حال شقائنا وشدة احتياجنا، وكما أن أشعة الشمس تسمو متفاضلةً على أشعة القمر، فهكذا رحمة مريم الآن إذ هي في السماء تسمو متفاضلةً على رحمتها التي كانت لها نحونا قبلاً في مدة حياتها على الأرض، فمن هو الذي يحيا في العالم ولا يتمتع بأشراق نور الشمس، ومثله من هو الذي لا يلمع فوق رأسه ضياء رحمة مريم.*
لأجل ذلك قيل عن هذه السعيدة: إنها منتخبةٌ كالشمس: (نشيد ص6ع9) لأنه لا يوجد أحدٌ في العالم مستثنى من حرارة هذه الشمس، كما يقول عنها القديس بوناونتورا: إن ليس أحدٌ يختفي من سخونتها. وهذا عينه أوحت به القديسة أنيسا من السماء للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن سلطانتنا التي هي الآن متحدةٌ بابنها في السماء، لا يمكنها أن تنسى صلاحها الخاص بها، ومن ثم تستعمل هي خيريتها مع كل أحدٍ حتى مع الخطأة الأكثر شراً والأشد نفاقاً بنوع أنه، كما أن الشمس تنير الأجرام السماوية والأرضية معاً، فهكذا لا يوجد أحدٌ في العالم لا يشترك بعذوبة قلب مريم متمتعاً بواسطتها بالرحمة الإلهية: (أن كان هو يلتمس ذلك) ففي بلاد فالانصا قد كان موجوداً إنسانٌ ما خاطٍ جداً، الذي ليأسه من الخلاص ولزعمه أن يهرب من حكومة العدل المتوجب عليه قد اعتمد على أن يتبع مذهب الهاجريين، ففي ذهابه نحو المينا ليسافر بحراً اجتاز من أمام كنيسةٍ كان يعظ فيها الأب أيرونيموس لويس اليسوعي في شأن الرحمة الإلهية، فالرجل المومى إليه إذ أستمع تلك العظة قد رجع إلى الله بالتوبة، واعترف بخطاياه عند الأب أيرونيموس المذكور، فهذا الأب لانذهاله من حال الغيير العجيب الذي حصل عليه ذاك الخاطئ التائب. قد سأله مستفهماً أن كان هو معتاداً على أفعال عبادة ما مقبولةٍ لدى الله، ومن أجلها قد وهبه تعالى النعمة الخصوصية الفعالة رحمةً مجانيةً. فأجابه الرجل بأنه لم يكن يصنع شيئاً أخر سوى أنه يومياً كان يلتجئ إلى مريم العذراء طالباً منها أن لا تهمله، ثم أن هذا الأب الواعظ عينه قد وجد هناك في البيمارستان رجلاً كان له خمسة وخمسون سنةً ما اعترف بخطاياه قط. ولم يكن يمارس شيئاً آخر من أفعال الديانة والعبادة سوى أنه كل مرةٍ كان يشاهد أيقونةً ما لوالدة الإله، فكان يلتمس منها ألا تدعه أن يموت في حال الخطيئة المميتة، وهو ذاته أخبر باعترافه، بأنه مرةً ما إذ وجد هو مع عدوٍ كان له يتضاربان بالسيوف، ففي المعركة قد اقتدر عليه عدوه وأخذ منه سيفه وبالتالي حصل لا محالة في خطر أن يقتل من عدوه، فحينئذٍ هتف هو نحو والدة الإله قائلاً” أواه أني الآن أنا عدت مقتولاً وهكذا أمضي هالكاً، فيا أم الخطأة عينيني. فعندما قال هذا قد رأى ذاته من دون أن يعلم كيف قد أخذ من المكان الذي كان هو فيه الى محلٍ بعيدٍ أمين للغاية من عدوه، وبعد هذا أعترف أعترفاً عاماً ومات مقتبلاً الأسرار المقدسة. أما القديس برنردوس فيقول: أن مريم قد أقامت ذاتها كلاً للكل في كل شيءٍ، وتفتح باب رحمتها لكل واحدٍ لكي يدخل الجميع في هذا الباب وكلٌ يجد ما يلائمه، فالأسير يصادف إنقاذه من الأسر، والسقيم الشفاء، والمحزون التعزية، والخاطئ الغفران، والله المجد، وهكذا إذ أن مريم هي الشمس فلا يوجد من يختفي من سخونتها: لأنه من تراه يكون على الأرض، يهتف القديس بوناونتورا، ولا يحب هذه الملكة الكلية الحب، فهي أبهى من الشمس جمالاً، وأطيب من الشهد حلاوةً، وهي كنزٌ من الصلاح، وموضوعٌ لحب الجميع، والكل يشعرون بعذوبة معاملها. فأنا أحييكِ بالسلام يا سيدتي وأمي بل قلبي الخاص ونفسي، فسامحيني يا مريم إن كنت أقول لكِ أني أحبكِ، لأني إن كنت أنا لست أهلاً لأن أحبكِ فأنتِ لن تزالي أهلاً لأن تحبي مني.*
ثم إنه يورد في الرأس 53 من كتاب4 من سيرة حياة القديسة جالتروده ما أوحي به لهذه القديسة بأنه حينما تقال من المؤمنين هذه الكلمات نحو والدة الإله وهي: فأصغي إذاً إلينا يا شفيعتنا وانعطفي بنظركِ الرؤوف نحونا. فلا تقدر هذه السيدة أن لا تنعطف لإجابة من يتوسل إليها بهذه الصلاة: فأي نعم أن عظمة رحمتكِ قد املأت الأرض كلها (يقول القديس برنردوس) أيتها السيدة: ولهذا كتب القديس بوناونتورا قائلاً: أن هذه الأم الشديدة الحب هي متعطشة بأشواقٍ قلبيةٍ لأن تصنع الخير مع الجميع، حتى أنه يقال عنها بالصواب أنها تهان ليس فقط من أولئك الذين يفترون عليها بألفاظٍ نفاقيةٍ ذاتياً (كما يفعله البعض الذين هم ذووا نفوسٍ سيئةٍ لا سيما المتملكة فيهم رذيلة اللعب تحت مكسب وخسارة الذين مراتٍ كثيرةً من شدة يأسهم يجدفون على هذه السيدة المجيدة) بل أيضاً تهان من أولئك الذين لا يتوسلون إليها طالبين منها نعمةً ما، ولهذا يخاطبها القديس أيدابارتوس قائلاً: أنكِ أنتِ تعلمينا أيتها السيدة أن نرجوا منكِ إنعاماً تفوق استحقاقاتنا، لأنكِ لا تكفين على الدوام من أن توزعي علينا نعماً متزايدةً جداً جداً عما يمكن نحن أن نستحقه.*
فالنبي أشعيا قد سبق متنبئاً بأنه بواسطة السر العظيم المتضمن افتداء البشري كان يلزم أن يهيأ لنا نحن الأشقياء المحاربين كرسيٌ الرحمة بقوله: ويستعد بالرحمة الكرسي ويجلس عليه حقاً في مسكن داود حاكماً وطالباً للحكم ويجازي سريعاً ما هو في العدل: (أشعيا ص16ع5) فمن هو هذا الكرسي. فيجيب القديس بوناونتورا قائلاً: إن هذا الكرسي هو مريم التي فيها يجد الجميع أبراراً وأشراراً الرحمة والشجاعة. لأنه كما أن السيد هو كلي الرحمة، فهكذا السيدة هي كلية الرأفة والحنو، وكمثل الأبن هي أمه سيدتنا لا ينكران رحمتهما على أحدٍ من الملتجئين إليهما: ومن ثم يقول الأنبا غواريكوس مصيراً يسوع أن يخاطب والدته هكذا: أنني أضع فيكِ يا أمي كرسي مملكتي في الوقت الذي فيه بواسطتكٍ أنا أصنع الرحمة واهب النعم التي تطلب مني. فأنتِ قد اعطيتيني الكون الإنساني من دمائكِ، وأنا أعطيكِ الكون الإلهي، أي الاقتدار على كل شيءٍ. الأمر الذي بواسطته تستطيعين أن تسعفي مخلصةً كل من تريدين أن يخلص.*
فيوماً ما حينما كانت القديسة جالتروده تتلو هذه الكلمات وهي: فانعطفي بنظركِ الرأوف نحونا: قد شاهدت مريم البتول الكلية القداسة حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، حيث أومت بيدها للقديسة الى عيني أبنها يسوع قائلةً لها: أن هاتين هما العينان المملؤتان رحمةً ورأفةً اللتان أنا أقدر أن أعطفهما لخلاص كل أولئك الذين يستغيثون بي: ثم أن مرةً ما كان أحد الخطأة ماثلاً أمام أيقونة والدة الإله في أحد الأمكنة ومتوسلاً إليها بدموعٍ حارةٍ بأن تستمد له من الله غفران خطاياه، فشاهد هذه الأم الحنونة التفتت نحو ابنها الكائن في حضنها قائلةً له: يا ابني هل إن دموع هذا الخاطئ تمضي خائبةً. وحينئذِ سمع الخاطئ جواب يسوع لأمه بقوله: قد غفرت له.*
فكيف يمكن أن يخيب ضائعاً من يلتجئ إلى هذه الأم الصالحة، بعد أن ابنها الإله بالذات قد وعد بأن يصنع حباً بها الرحمة بقدر ما تريده، هي مع كل أولئك الذين يبادرون إليها طالبين الإسعاف، فهذا الأمر قد أوحى به الرب للقديسة بريجيتا إذ صيرها أن تسمع هذه الكلمات المقالة منه لأمه مريم هكذا:” إنني أهبكِ يا أمي العزيزة من سلطان قدرتي على كل شيءٍ أن تغفري الخطايا لجميع الأثمة الذين بحسن عبادةٍ يلتجئون إليكِ مستغيثين برحمتكِ، وذلك بأي نوعٍ أنتِ تريدين ويرضيكِ”. ومن ثم إذ كان يتأمل الأنبا آدم بارسانيوس في عظم الرأفة التي لهذه الأم الإلهية نحونا، هتف نحوها قائلاً: يا أم الرحمة أن عظمة اقتداركِ هي موازيةٌ لعظمة رحمتكِ، لأنكِ بمقدار ما أنتِ مستطيعةٌ على أن تستمدي الغفران، فبمقدار ذلك أنتِ رحومةٌ في أن تهبيه. لأنكِ، كيف يمكن أن لا تتوجعي مشفقةً على الأشقياء المساكين أنتِ التي هي أم الرحمة؟” وهل يمكن ألا تقدري أن تعينيهم أنتِ التي هي أم الإله ىالقادر على كل شيءٍ، كلا، بل أنكِ أنتِ بالسهولة عينها التي بها تدركين جيداً وتعرفين حسناً حال شقاوتنا نحن البائسين، فبها نفسها أنتِ تنالين لنا من الله كل ما تريدين.*
وهنا يهتف الأنبا روبارتوس نحو هذه السيدة قائلاً: تمتعي إذاً أيتها الملكة العظيمة بمجد ابنكِ في العلاء واشبعي من هذا المجد، وارتضي بأن ترسلي إلينا نحن عبيدكِ وأولادكِ المساكين الكائنين ههنا أسفلاً الفضلات التي تزيد عنكِ، متنازلةً لهذا الصنيع ليس كأنه لنا به أستحقاقٌ ما نحن الأثمة، بل رحمةً منكِ وأشفاقاً علينا لنشترك بهذه الفضلات.*
ثم إذا اتفق لنا أن كثرة خطايانا تسوقنا إلى ضعف الرجاء بالغفران، فليقل كل منا نحو هذه السيدة مع غوليالموس الباريسي هكذا: لا توردي أيتها الملكة المجيدة خطاياي ضدي، لأني أنا أورد رأفتكِ ضد هذه الخطايا، ولا يكن أصلاً أن يقال أن مآثمي تستطيع أن تقاوم في المحاكمة رحمتكِ التي هي أقوى منها اقتداراً بما لا يحد على أن تكتسب لي الغفران، أكثر مما تقدر خطاياي على أن توجب عليَّ الهلاك.*
* نموذج *
أنه يوجد مدوناً في الرأس الحادي عشر من القسم الأول من تاريخ الرهبنة الكبوجية أنه كان في مدينة البندقية رجلٌ وظيفته محاماة الدعاوي في المحاكم. شهير الاسم جداً إلا أنه بكثرة الغشوش والأختلاسات الخفية ضد العدل قد صار مثرياً بغنى واسع وبالتالي كان يعيش بإطلاق العنان لشهواته بسيرةٍ رديئةٍ للغاية وربما لم يعد باقياً فيه من أفعال الديانة سوى أنه كان معتاداً على أن يتلو يومياً صلاةً ما خصوصيةً تكريماً لوالدة الإله. ومع ذلك قد وجدت هذه العبادة الضعيفة فيه كافيةً لأن تنقذه برحمة هذه الأم الصالحة من الموت الأبدي. وتم ذلك على النوع الآتي ايراده: وهو أن الرجل المومى إليه لحسن حظه قد أكتسب معرفةً وصداقةً مع الأب الكبوجي متى باسوس ومن ثم قد توسل بلجاجة إلى هذه الأب في أن يأتي إليه يوماً ما يغتدي معه في بيته. فالأب المذكور قد ارتضى أخيراً إجابةً لتوسلاته المتكررة. وذهب عند الرجل الذي حالما رآه في بيته قال له: أنني قبل كل شيءٍ أريد أن أريك أيها الأب موضوعاً ربما قط لم تشاهده في حياتكَ، وهو أنه يوجد عندي سعدانٌ يخدمني في البيت بنوع أفضل من أنسانٍ فهيمٍ، لأنه يغسل لي الكؤوس على المائدة وينقل الصحون للأكل ويفتح لي الباب ويغلقه. فأجابه الأب متى بقوله: تأمل يا أخي في أنه ربما لا يكون هذا السعدان حيواناً محصناً بل شيئاً آخر مزاداً عليه. فكيفما كان الأمر أحضره إلى ههنا: فبدأ الرجل يستدعي السعدان مثل عادته وبأسمه، فلم يأتِ، وإذ فتشوا عليه في كل مكانٍ من الدار، قد وجدوه أخيراً مختفياً تحت السرير في مكانٍ أرضيٍ من أسفل البيت، إلا أنهم ماكانوا يقدرون أن يخرجوه من تحت السرير. فأخيراً قام الأب متى من محله ومضى مع الرجل إلى حيثما كان السعدان مختفياً، وعند وصوله إليه قال له بمحضر الجميع: أني آمرك أيها الوحش الجهنمي بأن تخرج خارجاً، وأحتم عليك من قبل الله بأن تخبرنا عن ذاتك من أنت: فالسعدان أجابه بأنه هو الشيطان وبأنه أنما كان مقيماً في ذاك البيت منتظراً الرجل محامي الدعاوى العائش بالخطيئة، حتى أنه متى أهمل في يومٍ ما تلاوة تلك الصلاة التي كان هو يكرم بها والدة الإله، فحالاً بموجب الأذن الذي وهب له من الله يثب عليه فيخنقه ويأخذ نفسه الى جهنم!
فلما سمع الرجل هذا الكلام أمتلأ خوفاً وأنطرح على قدمي الأب متى طالباً الإغاثة، فهذا الأب البار قد شجعه بكفايةٍ، ثم التفت نحو الشيطان قائلاً له: أني آمرك بسلطان الرب بأن تخرج من هذا البيت من دون أن تصنع ضرراً ما بالكلية، ولكنني أسمح لك بأن تنقب أحد حيطان الدار علامةً لتأكيد خروجك وابتعادك من هنا: فحالما قال هذا وإذا بالشيطان قد فتح في الحائط نافذةً كبيرةً بزلزلةٍ مهولةٍ وخرج، وقد شاء الله أن يبقى ذكر هذا الحادث زمناً مديداً. وذلك لأنه كل مرةٍ كانوا يريدون أن يسدوا تلك النافذة بموادٍ ما فكانت تستمر مفتوحةً. إلى أن وضعوا أخيراً بمشورة الأب متى عينه رخامةً منقوشةٌ عليها صورة ملاكٍ، أما الرجل محامي الدعاوى فقد رجع إلى الله تائباً ونؤمل أنه يكون أستمر ثابتاً على التوبة إلى الموت.
† صلاة †
Discussion about this post