كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثامن
في شأن ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: “فأرينا بعد هذا المنفى يسوع ثمرة بطنكِ المباركة”
† الجزء الثالث †
في أن مريم العذراء تقود عبيدها إلى الفردوس السماوي
فيا لها من علامةٍ جليلةٍ للانتخاب إلى المجد هي الحاصل عليها عبيد مريم البتول بتعبدهم لها. على أن الكنيسة المقدسة تخصص بهذه الأم الإلهية الكلمات المدونة في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع11) وهي: قد طلبت في جميع هؤلاء راحةً وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً: فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا النص: طوباوي هو ذاك الذي يجد مريم البتول المثلثة الغبطة راحةً في بيته، فمريم لأجل أنها تحب الجميع، تهتم في أن العبادة لها تنتشر عند الجميع. ولكن كثيرون أما أنهم لا يقبلون هذه العبادة، وأما أنهم لا يحفظونها، فمغبوطٌ هو الذي يقتبلها ويحفظها: ويضيف إلى ذلك الرجل العلامة باجيوكالى هذا التفسير أيضاً وهو: أن قولها وأنا في ميراث الرب أحل ساكنةً، إنما هو أنها تسكن في من هم ميراث الرب المنتخبون، لأن العبادة لمريم البتول إنما تحل ساكنةً في جميع أولئك الذين هم ميراث الرب، أي الذين سيكونون في السماء ساكنين يسبحونه تعالى إلى الأبد. ثم أن الطوباوية والدة الإله تتبع كلماتها السابقة بهذه اللاحقة قائلةً: عند ذلك أمرني خالق الجميع والذي خلقني استراح في مسكني وقال لي، اسكني في أل يعقوب ورثي في إسرائيل وفي مختاري اجعلي أصولكِ: (ص24ع12). فتريد أن تعني بقولها هذا معلنةً “أن خالقي قد تنازل لأن يأتي فيستريح ساكناً في أحشائي، وقد أراد مني أن أحل قاطنةً في قلوب جميع المختارين (الذين جاء رسمهم في شخص يعقوب وهم ميراث هذه البتول) وقد رسم أن في جميع المنتخبين للمجد تتأصل عبادتي ويتأسس فيهم الرجاء والحب نحوي.*
فكم وكم من الطوباويين الكائنين الآن في السماء لما كانوا وجدوا هناك لولا تكون إقادتهم إلى تلك السعادة مريم بقوة شفاعاتها المقتدرة، لأن الكردينال أوغون يجعل هذه السيدة متكلمةً عن ذاتها بما جاء في العدد السادس من الإصحاح 24 عينه من حكمة ابن سيراخ وهو: وأنا جعلت أن يشرق في السماء ضوءٌ باقٍ: أي أنني قد صيرت أن يتلألأ مشرقاً في السماوات عددٌ وافرٌ من المصابيح الأبدية، بمقدار ما هو عدد عبيدي الحسني العبادة نحوي. ومن ثم يتبع الكردينال المذكور كلامه بقوله: لأن قديسين كثيرين هو الآن في السموات الذين لكانوا عدموا أن يوجدوا فيها، لولا تكون مريم أوصلتهم إلى هناك بمفعول شفاعاتها: ويقول القديس بوناونتورا: أن باب السماء يفتح لكل أولئك الذين يحسنون رجاهم بثقةٍ في شفاعات مريم. لكي يقبلوا في السعادة الأبدية. ولذلك سمى القديس أفرام السرياني العبادة نحو هذه الأم الإلهية أفتتاح أبواب الفردوس. وكذلك بلوسيوس المتعبد إذ يخاطب والدة الإله يقول هكذا: أنها قد سلمت ليدكِ أيتها السيدة مفاتيح الملك الطوباوي وخزائنه: ولهذا يلزمنا أن نتوسل إلى هذه السيدة على الدوام مكررين نحوها كلمات القديس أمبروسيوس وهي: أفتحي لنا يا مريم أبواب الملكوت، لأنكِ أنتِ حافظةٌ بيدكِ مفاتيحه. بل أنكِ نفسكِ هي باب الملكوت، كما تدعوكِ الكنيسة المقدسة في طلباتها هاتفةً: يا باب السماء صلي لأجلنا:*
ولهذه العبادة تسمي الكنيسة المقدسة هذه الأم العظيمة: نجمة البحر: لأنه (حسبما يقول القديس توما اللاهوتي في كتيبه الثامن): كما أن المسافرين في البحر يستدلون على المينا المقصود وصولهم إليه من قبل نجمة البحر، فهكذا المسيحيون هم مقادون ومرشدون في بحر هذا العالم للبلوغ إلى مينا الخلاص وللدخول إلى الفردوس بواسطة مريم البتول:*
وكذلك من هذا القبيل يسمي القديس بطرس داميانوس والدة الإله: سلم السماء، لأنه بواسطتها قد انحدر الله من السماوات إلى الأرض لكي يستحق البشريون بواسطتها أن يصعدوا من الأرض إلى السماء. ثم يقول القديس أنسطاسيوس مخاطباً هذه البتول الطوباوية هكذا: أنكِ لأجل هذه الغاية عينها أنتِ أيتها السيدة قد صيرتِ ممتلئةً نعمةً، وهي لكي تكوني لنا طريقاً لبلوغنا إلى الخلاص. ومصعداً لارتقائنا إلى الوطن السماوي. ومن ثم القديس برنردوس يلقب مريم: بالمركبة الناقلة من الأرض إلى السماء والقديس يوحنا جاوماترا أيضاً يسميها كذلك قائلاً لها: السلام عليكِ أيتها المركبة الكلية الشرف التي بواسطتها تنقل عبادكِ من الأرض إلى الفردوس السماوي: ولهذا يهتف نحوها القديس بوناونتورا صارخاً: أنهم الطوباويون هم أولئك الذين يعرفونكِ يا والدة الإله. إذ أن المعرفة بكِ هي المحجة التي يبلغ السائرون فيها إلى الحياة العديمة الموت، وإذاعة فضائلكِ هي السبيل للوصول إلى الخلاص الأبدي.*
ففي تاريخ الرهبنة الفرنسيسكانية (ك1 ق1 رأس35) يوجد مدوناً عن الراهب لاوُن: أنه شاهد مرةً ما سلماً حمراء كان واقفاً عليها يسوع المسيح. ونظر سلماً أخرى بيضاء كانت واقفةً فوقها أمه تعالى البتول القديسة، ثم نظر أن كثيرين كانوا يبتدئون أن يصعدوا على السلم الحمراء، ولكن بعد ذلك كانوا يسقطون من عليها إلى الأرض مراتٍ مترادفةً كثيرةً، بمقدار المرات التي بها كانوا يحاولون أن يصعدوا إليها، ولهذا وجد من حرضهم على الذهاب نحو السلم البيضاء ليصعدوا فوقها، فشاهدهم هو من ثم أنهم مضوا إليها وبكل سهولةٍ ارتقوا صاعدين عليها، إذ أن والدة الإله نفسها كانت تمد يدها فتمسكهم وتسندهم، وبهذا النوع كانوا يبلغون أمينين إلى الفردوس السماوي! فيسأل هنا القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس قائلاً: من هو الذي يخلص، ومن يبلغ إلى الملكوت السماوي، (وهو ذاته يجاوب على سؤاله بقوله): أن أولئك الذين تهتم من أجلهم أم الرحمة هذه بتضرعاتها، هم الذين يخلصون ويبلغون إلى الملك السماوي آمنين، وهذا الأمر عينه تثبته مريم نفسها بقولها: بي تتملك الملوك: (أمثال ص8ع15) أي بواسطة شفاعاتي تملك الأنفس أولاً في هذه الحياة الزائلة على الأرض، بتسلطهم على آلامهم وشهواتهم كمنتصرين غالبين، وبعد ذلك ينطلقون إلى السماء ليملكوا أبدياً حيث يصيرون جميعاً ملوكاً (كما يقول القديس أوغوسطينوس). وبالإجمال أن مريم الطوباوية. كقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس، هي سيدة الفردوس السماوي، لأنها هناك تأمر حسبما تريد وبما تشاء وتدخل إليه من تريدهم. ولهذا يخصص هو بها كلمات ابن سيراخ (ص24 ع15) وهي: وكان أمري نافذاً في أورشليم، ولذلك من دون ريبٍ أنا أمر بما أشاء وأدخل إلى هناك من أريد. ومن حيث أنها هي والدة رب الملكوت السماوي فبالصواب والعدل هي سيدة الفردوس حسبما يقول روبارتوس.*
ثم أن هذه الأم الإلهية قد نالت لنا بواسطة صلواتها المقتدرة وإسعافاتها الفعالة الملك السماوي، أن كنا لا نضع من قلبنا مانعاً ما لامتلاكه، كما يقول القديس أنطونينوس. ومن ثم أن الإنسان الذي يخدم هذه السيدة وهي تتشفع من أجله، فهو حاصلٌ على وثيقةٍ أكيدةٍ في نوال الفردوس، كأنه حقاً هو كائنٌ فيه (حسبما يورد الأنبا غواريكوس) ويضيف إلى ذلك القديس يوحنا الدمشقي بقوله: أن الخدمة لمريم المجيدة والكيان من عدد عبيد بلاطها، هو سيمة الشرف الأعظم الذي يمكننا أن نحصل عليه، لأن الخدمة لملكة السماء هي امتلاك السماء، والعيشة تحت أوامرها هي أعظم من التسلط الملوكي. وبضد ذلك أن الذين لا يخدمونها لا يخلصون، من حيث أن الذين هم معدومون إسعافات هذه الأم العظيمة، هم مهملون متروكون من معونات ابنها ومن مساعدة أهل البلاط السماوي بأسرهم.*
فلتكن على الدوام مسبحةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية، لأنه رتب راسماً وأقام مريداً في السماوات شفيعةً لنا مريم الطوباوية، حتى أنها بحسب كونها والدة للقاضي الديان وأماً للرحمة، تتعاطى معاطاةً فعالة بواسطة شفاعاتها ومحاماتها دعوى خلاصنا الأبدي. وهذا هو تعليم القديس برنردوس، ويقول الأب يعقوب الراهب العلامة فيما بين الآباء اليونانيين: أن الله قد جعل مريم نظير جسر للخلاص الذي إذا ما اجتزنا فوقه ناجين من أمواج بحر هذا العالم، فنقدر أن نبلغ إلى المينا المغبوط الذي منه ندخل الى الفردوس السماوي: ولذلك يهتف اقديس بوناونتورا قائلاً: اسمعوا يا معشر الشعوب فأنتم الذين تشتهون امتلاك الفردوس الأبدي، اخدموا مريم وكرموها فتصادفون الحياة السرمدية من دون ريبٍ.*
فلا ينبغي لأحدٍ مطلقاً أن ييأس من نوال السعادة الأبدية حتى ولو كان هو من عدد الذين قد استحقوا جهنم بخطاياهم. لأن هؤلاء أنفسهم إذا أخذوا أن يخدموا مريم بأمانةٍ فلا يفقدون خلاصهم. ثم يقول القديس جرمانوس مخاطباً العذراء هكذا: ترى كم وكم من الخطأة قد اهتموا في أن يجدوا الله بواسطتكِ يا مريم وقد أدركوه وخلصوا: أما ريكاردوس الذي من سان لورانسوس فيتأمل فيما هو مدون في الأبوكاليبسي (ص12ع1) وهو: أن القديس يوحنا الإنجيلي قد شاهد هذه الامرأة الكلية القداسة، مكللةً على رأسها بإكليلٍ مركبٍ من اثنتي عشر كوكباً: وبضد ذلك أن سفر النشيد (ص4ع8) يوضح هذه العروسة الإلهية مكللةً من وحوشٍ ضاريةٍ أسودٍ ونمورةٍ إذ يخاطبها عروسها الإلهي قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة: فكيف إذاً ينبغي أن يفهم هذا. فيجيب ريكاردوس عينه: بأن هؤلاء الوحوش الضارية هم الخطأة الذين بواسطة شفاعات مريم من أجلهم وبمساعدتها إياهم يستحيلون إلى نجومٍ سماويةٍ وكواكب أبديةٍ. وهؤلاء يليقون أن يكونوا إكليلاً لهامة ملكة الرحمة هذه أفضل لياقةً من أن تتوج هي بكواكب السماء المادية كلها: ثم أن عبدة الرب الأخت الراهبة سيرافينا البتول التي من كابري. إذ كانت يوماً ما تتوسل إلى الطوباوية مريم العذراء في الأيام المتقدمة على عيد انتقالها إلى السماء (كما يقرأ في سيرة حياة هذه الراهبة) قد التمست منها أن تستمد من الله نعمة التوبة لألف واحدٍ من الخطأة، ولكن لما بدأت تخاف من أن تكون طلبتها تزايدت عن الحدود، قد ظهرت لها العذراء المجيدة وهذبت فيها هذا الخوف الباطل قائلةً لها: لماذا تخشين، أهل أنني ربما لا أستطيع أن أنال من أبني نعمة الخلاص لألف واحدٍ من الخطأة، فهوذا أني قد استمديت لكِ تمام الطلبة: قالت هذا وأخذتها بالروح إلى السماء وهناك أرتها عدداً فائق الإحصاء من الأنفس الأثيمة اللواتي كن استحقين جهنم بخطاياهن. وبعد ذلك بواسطة شفاعات هذه الأم الإلهية قد نالوا الخلاص وبدأن يتمتعن بالسعادة الأبدية.*
فأي نعم أنه لا يوجد إنسانٌ أصلاً طالما هو في قيد الحياة الزمنية يقدر أن يكون متأكداً تأكيداً مطلقاً خلاصه الأبدي العتيد، كما كتب: لن يعرف الإنسان إن كان هو مستوجباً المحبة أم البغضة، كل شيءٍ محفوظٍ للمستقبل غير يقين: (سفر الجامعه ص9ع1) ولكن مع ذلك فالنبي داود طلب من الله قائلاً: يا رب من يسكن في مسكنك أو من يحل في جبل قدسك: (مزمور 15ع1) فيجيب القديس بوناونتورا في تفسيره هذا النص مخاطباً الأثمة بقوله: يا معشر الخطأة فلنتبع أثر خطوات مريم، ولننطرح على قدميها المغبوطين، ولا نتركها إن لم تباركنا هي. لأن بركتها إيانا تؤكد لنا نوال الملكوت. ويقول القديس أنسلموس: أنه يكفينا أيتها البتول السيدة أنكِ تريدين أن تخلصينا، لأنه حينئذٍ لا يمكن لنا أن لا نكون خالصين. ويضيف إلى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن الأنفس المحامي عنهن من مريم يخلصن بالضرورة ومن دون كل ريبٍ.*
فبالصواب إذاً يقول القديس أيدالفونسوس: أن البتول الكلية القداسة قد سبقت وتنبأت عن ذاتها بقولها: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال: (لوقا 1ع48) لأن جميع المختارين ينالون بواسطتها الطوبى الأبدية: أما القديس متوديوس فيخاطب هذه المباركة في النساء قائلاً نحوها: أنكِ أنتِ هي أيتها الأم العظيمة ابتداء سعادتنا، ووسطها، ونهايتها، فالبداية لأنكِ تستمدين لنا نحن الخطأة نعمة غفران مآثمنا. والوسط لأنكِ تنالين لنا نعمة الثبات على الخير. والنهاية لأنكِ أخيراً تستمدين لنا نعمة البلوغ إلى الفردوس والدخول إلى السعادة الأبدية: فبواسطتكِ أيتها السيدة قد فتح باب السماء يقول نحوها القديس برنردوس، وبكِ فرغ الجحيم وبوساطتكِ قد أخصب الفردوس، وبالإجمال أنه بكِ قد أعطيت الحياة الأبدية لعددٍ فائق الإحصاء من الأشقياء الذين كانوا مستحقين الموت السرمدي:*
إلا أن الأمر الذي يشجعنا بأبلغ من كل ما سواه على أن نوطد رجانا متأكدين نوال الفردوس، هو الوعد الجميل الذي وعدتِ به هذه الأم الطوباوية لكل أولئك الذين يكرمونها، لا سيما الذين يجتهدون بواسطة أقوالهم ونموذجاتهم الصالحة في أن يجعلوها معروفةً ومكرمةً من الآخرين أيضاً. وهذا الوعد هو المدون في حكمة أبن سيراخ (ص24ع30) بقولها: أن الذين يعملون بي لا يخطئون. ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية. فمن ثم يهتف القديس يوناونتورا قائلاً: أنهم لسعيدون هم بالحقيقة أولئك الذين يحصلون على إنعطاف مريم نحوهم محاميةً عنهم، لأن الطوباويين في السماء يعدون هؤلاء رفاقهم العتيدين من دون ريبٍ، إذ أن من يحمل على ذاته علامة تعبده لمريم يكون اسمه مدوناً في مصحف الحياة. ماذا يفيد التعب والقلق في الفحص عن الأحكام والآراء المدروسة. وهل أن الإنتخاب إلى المجد يصدر قبل سابق النظر إلى الاستحقاقات الخصوصية أم بعد تأمل هذه الأستحقاقات!” هل أن أسماءنا هي مكتوبةٌ في سفر الحياة أم لا؟ فنحن أن كنا عبيداً حقيقيين لمريم والدة الإله وفائزين بحمايتها، فمن دون أشكالٍ بل بكل تأكيدٍ أسماؤنا هي مسجلة في مصحف الحياة، لأنه كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله لا يمنح نعمة العبادة نحو والدته القديسة إلا لأولئك الذين يريدهم مخلصين: ويبان أن هذا هو مطابقٌ لما أعلنه عز وجل واضحاً بواسطة رسوله القديس يوحنا في سفر الجليان قائلاً: أن الذي يغلب… أنا أكتب عليه اسم إلهي واسم المدينة الجديدة التي لإلهي: (أبوكاليبسي ص3ع12) أي أن الذي يكون غالباً ومخلصاً يحمل على قلبه مكتوباً اسم مدينة الله، فمن هي مدينة الله هذه إلا مريم حسبما يفسر القديس غريغوريوس الكبير في شرحه كلمات النبي داود هذه: أنه قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور86ع3) فيمكننا حسناً أن نقول اذاً مع القديس بولس الرسول: لكن أساس الله الوطيد قد وقف ثابتاً وعليه هذا الختم، أن الرب قد عرف الذين له: (تيموتاوس ثانية ص2ع19) فالذي يكون عليه هذا الختم أي عبادته لمريم قد عرفه الرب أنه له وخاصته، ولذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التعبد لوالدة الإله هو ختمٌ وعلامةٌ كلية التأكيد لنوال الخلاص الأبدي: ثم أن الطوباوي الانوس إذ يتكلم بخصوص السلام الملائكي يقول: أن كل من يكرم البتول مراتٍ كثيرةً بتلاوة السلام الملائكي، يحوي في ذاته علامةً عظيمةً لانتخابه الى المجد. ويقول هو عينه في محلٍ آخر: أنه يفوز بذلك أولئك أيضاً الذين يثابرون بثبات على تلاوة المسبحة الوردية المقدسة يومياً. وبأبلغ من هذا يورد الأب نيارامبارك قائلاً: أن عبيد والدة الإله هم ذووا اختصاصاتٍ أكثر وأفضل، ليس في مدة حياتهم فقط في هذا العالم، بل أنهم في السماء أيضاً سيكونون مكرمين بنوعٍ متميزٍ جداً عن الآخرين، ومتردين بحللٍ شريفةٍ تعلنهم واضحاً أنهم حواص ملكة السماء وأهل بلاطها كما قيل عنهم: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضعفةً: (أمثال ص31ع21)*
فالقديسة مريم مادلينا داباتسي قد شاهدت في وسط البحر مركباً حاوياً ضمنه عبيد مريم العذراء أجمعين، ورأت هذه السيدة ماسكةً في يدها دفة تدبير المركب، ومهتمة في أن تقود هؤلاء الركاب كافةً بكل طمأنينةٍ وتأكيدٍ إلى مينا الخلاص، وقد حصلت القديسة المذكورة على تفسير هذه الرؤيا وهو: أن كل أولئك الذين يعيشون في الحيوة الحاضرة تحت حماية والدة الإله، خم ناجون من غرق الخطيئة في بحر هذا العالم الجزيل الأخطار، وفائزون بالنجاة من الهلاك، لأنهم يقادون بمعوناتها وحمايتها بنوعٍ أمينٍ الى مينا الفردوس السماوي. فلنجتهد إذاً في أن نصعد إلى هذا المركب المغبوط الذي هو كنف حماية أم الرحمة. وفيه نكون مطمئنين على البلوغ إلى الغبطة الأبدية، إذ أن الكنيسة المقدسة ترتل في تسابيحها قائلةً نحو هذه السيدة هكذا: أن كل أولئك العتيدين أن يشتركوا في النعيم الأبدي، هم ساكنون فيكِ أيتها القديسة والدة الإله، لأنهم يحيون تحت كنف حمايتكِ.
* نموذج *
أن كيساريوس يخبرنا (في الرأس3 من كتابه7) عن توما أحد الرهبان الجيستاررجيانسيين أنه كان حاراً جداً في العبادة لوالدة الإله، وكان يشتهي أن تزوره هي مرةً ما، ولذلك كان يتوسل إليها على الدوام في أن تهبه هذه النعمة. فليلةً ما إذ قد خرج إلى بستان الدير، وكان يتفرس في السماء ويتنهد بتحسراتٍ قلبيةٍ متقدةٍ بحرارة الشوق لمشاهدة سيدته، وإذا به ينظر منحدرةً من السماء امرأةً كلية الجمال متلألئةً بالضياء قد جاءت إليه وسألته قائلةً له: أتحب يا توما أن تسمع صوت ترتيلي: فأجابها: أي نعم إني أرغب ذلك: فحينئذٍ تلك البتول رتلت بنغمةٍ كلية العذوبة بعض تراتيل، التي عند سماعها أضحى الراهب توما البار يظن ذاته كأنه في الفردوس السماوي، فلما انتهى الترتيل غابت هي عنه وتركت أشواقه متقدةً لأن يعرف من كانت هي بالحقيقة. ففيما هو غائصٌ في تلك الأفكار وإذا ببتولةٍ أخرى ذات جمالٍ عظيم كالأولى قد جاءت أمامه ونظير تلك أسمعته صوت ترتيلها، فهو لعدم استطاعته أن يمسك ذاته عن أن يعرف من كانت هي تلك البتول، قد سألها عن اسمها، وهي أجابته قائلةً: أن البتول التي جاءت إليك قبلي هي القديسة كاترينا، وأما أنا فأسمي أنيسا، وكلتانا بتولان شهيدتان ليسوع المسيح، قد أرسلتنا إليك سيدتنا لكي نعزيك، فأشكر هذه الأم الإلهية وأستعد متأهباً لاقتبال نعمةٍ أعظم: قالت له هذا وأغربت عنه، فالراهب بقي تحت الرجاء العظيم في أن يشاهد ملكته المحبوبة، ولم يخب هو من أمله، لأنه بعد ذلك ببرهةٍ قد رأى إشراق ضياءٍ عظيمٍ أبرق واستوعب منه قلبه ابتهاجاً كلي العذوبة. وإذا بوالدة الإله قد ظهرت له من باطن ذلك الضياء محاطةً من أجواقٍ من الملائكة. وهي ذات جمالٍ فائق بما لا يحد ولا يوصف على جمال تلك البتولتين اللتين ظهرتا له قبلاً، ثم قالت له: أنني قد اقتبلت منك يا عبدي وابني العزيز، التعبد الذي خدمتني به، واستجبت صلواتك، فأنت قد اشتهيت أن تراني، وهوذا أنا جئت إليك وأريد أن أسمعك أنا أيضاً ترتيلي: قالت هذا وبدأت ترتل، فقد كان ابتهاج قلب توما بهذا المقدار عظيماً حتى أنه غاب عن حواسه. وسقط على الأرض منكباً وبقي هكذا. فلما قرع ناقوس الصلاة السحرية واجتمع الرهبان حسب عادتهم في الخورص ولم يجدوا فيما بينهم توما أخذوا يفتشون عليه في قلايته وفي أمكنةٍ أخرى إلى أن وجدوه أخيراً في البستان مطروحاً على الحضيض كمائتٍ، فأقاموه وأدخلوه داخلاً، وإذ رجع إلى ذاته قد حتم عليه الرئيس بأمر الطاعة المقدسة بأن يخبرهم بجميع ما حدث له. فحينئذٍ لاضطراره من قبل أمر الطاعة قد أخبرهم بكل ما رآه وسمعه وبما أنعمت عليه به هذه الأم الإلهية.*
† صلاة †
يا سلطانة الفردوس السماوي أم الحب المقدس أنكِ إذ كنتِ فيما بين المخلوقات كلها أنتِ هي المحبوبة من الله أكثر حباً، كما أنكِ أنتِ هي المحبة إياه الأولى أشد حباً، ارتضي بأن يحبكِ هذا الخاطئ الحقير أيضاً الأكثر كفراناً بالجميل والأشد شقاءً من جميع أهل الأرض، الذي عند مشاهدته ذاته معتوقاً من الهلاك الجهنمي بواسطتكِ، ومن دون استحقاقٍ منه منعماً عليه منكِ إنعاماتٍ هكذا عظيمة، فقد أشتعل قلبه غراماً بمحبة صلاحكِ وقد وضع فيكِ رجاه كله، فأنا هو هذا الخاطئ ومن ثم أحبكِ يا سيدتي وأتمنى أن يكون حبي إياكِ أكثر مما أحبكِ به القديسون الأشد غراماً بمحبتكِ. وأشتهي من كل قلبي لو أكون قادراً على أن أجعل كل البشر الذين لا يعرفونكِ أن يفهموا جيداً كم أنتِ مستحقة المحبة. لكي يكرمكِ الجميع ويحبكِ الكل، بل أني أرغب أن أموت من أجل حبكِ بمحاماتي عن دوام بتوليتكِ، وعن حال كونكِ والدة الإله حقاً، وعن الحبل بكِ البريء من دنس الخطيئة الأصلية، هذا أن كان يحتاج الأمر لأن أقدم حياتي فداءً بالمحاماة عن خصوصياتكِ هذه ذات الاعتبار والقيمة، فأقبلي مني يا أمي العزيزة المحبوبة عواطف تعلقي القلبي بكِ، ولا تسمحي بأن أحد عبيدكِ الذي يحبكِ يكون عدواً لإلهكِ المحبوب منكِ بهذا المقدار العظيم. فالويل لي لأني في وقتٍ ما كنت كذلك حينما أهنت سيدي. إلا أنني وقتئذٍ لم أكن أحبكِ يا مريم وكنت قليلاً أهتم في أن أكون محبوباً منكِ، أما الآن فأنا لا أتمنى شيئاً بعد نعمة الله أكثر من أن أحبكِ وأن أحصل منكِ محبوباً. ثم ولا يضعف رجائي في ذلك من قبل خطاياي الماضية، إذ أنني أعلم جيداً أنكِ سيدةٌ كلية الحنو والرأفة، ولا تأنفين من أن تحبي الأشد شقاوةً فيما بين الخطأة أيضاً الذين يحبونكِ، بل أنكِ لا تدعين أن يسمو أحدٌ بحبه على حبكِ، فأنا أريد أن آتي إلى الفردوس لأحبكِ هناك أيتها الملكة الجليلة، لأني حينما أبلغ لأن أضبط قدميكِ فأعرف أفضل معرفةً كم أنتِ مستحقةً من المحبة، وكم صنعتِ من العناية إلى أنكِ خلصتيني. ولهذا أحبكِ هناك أشد حباً طول أزمنة الأبدية من دون خوفٍ أصلاً من أن أعدم هذا الحب أو أنتزح عنه، فأنا أرجو يا مريم رجاءً أكيداً أن أفوز بالخلاص بوساطتكِ. ومن ثم أسألكِ أن تصلي من أجلي لدى ابنكِ يسوع ولا أريد أكثر من ذلك. لأنه يخصكِ أن تخلصيني وأنتِ هي رجائي ولهذا أمضي على الدوام مرتلاً، يا مريم رجائي أن خلاصي هو متعلقٌ بكِ. آمين.
†
No Result
View All Result
Discussion about this post