كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل السادس
فيما يخص هذه الكلمات وهي: “فأصغي إذاً إلينا ياشفيعتنا”.
† الجزء الثالث †
في أن مريم العذراء وسيطة الصلح فيما بين الله وبين الخطأة
إن نعمة الله هي كنزٌ عظيمٌ فائق الثمن مشتهى بأشواقٍ متقدةٍ من كل نفسٍ، فالروح القدس يسمي كنز النعمة كنزاً غير متناهٍ، لأننا بواسطة نعمة الله نحن قد ارتقينا إلى مرتبة خلان الله وأصدقائه كقوله تعالى: لأنها عند الناس كنزاً غير متناهٍ والذين استعملوه بلغوا الى محبة الله محمودين من أجل الأشياء الموهوبة لهم من الآب (سفر الحكمة ص7 ع14) فمن ثم مخلصنا يسوع المسيح الذي هو إلهنا لم يرتب في أن يسمي أصدقاه وأحباه أولئك الذين هم في حال النعمة قائلاً لتلاميذه: لا أسميكم الآن عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يصنع سيده بل سميتكم أحبائي: (يوحنا ص15ع14) فلتكن ملعونةً الخطيئة لأنها تلاشي رباط هذا الحب والصداقة مع الله، كما يقول أشعيا النبي (ص59ع2): إن أثامكم فرقت فيما بينكم وبين إلهكم: بل إن الخطيئة تجعل النفس مبغوضةً من الله كقوله عز وجل: أن المنافق ونفاقه هما مبغوضان على حدٍ سواء عند الله: (سفر الحكمة ص14ع9) وهكذا من حال الصداقة لله تنتقل النفس إلى حال العداوة له تعالى. فماذا ينبغي إذاً أن يفعله الخاطئ الذي لتعاسته يحصل في وقتٍ ما عدواً لله، أنه يلزمه أن يجد له وسيطاً يمكنه أن يستمد له من المراحم الإلهية الغفران، ويجعله أن يكتسب من جديد صداقة الله ومحبته التي خسرها. فهنا القديس برنردوس يهتف قائلاً نحو الخاطئ الذي هذه الصفة صفته هكذا: افرح متعزياً أيها المسكين الذي خسرت الله، لأن سيدك هذا نفسه قد أعطاك الوسيط وهو ابنه يسوع المسيح الذي يستمد لك منه كل شيءٍ تريده.*
ثم أن هذا القديس يتأوه من تصرف البعض قائلاً: أواه كيف أن البشر يقدرون أن يعتبروا صارماً هذا المخلص الذي هو كلي الرأفة والحنو نحونا بهذا المقدار، حتى أنه أباح حياته ولا شيء ذاته من أجل خلاصنا، فترى لماذا يظنون مخوفاً ذاك الذي هو العذوبة والمحبة بالذات، فيا معشر الخطأة الميؤوسين أي شيءٍ أنتم تخافون، فإن كنتم إنما تخشون لأجل أنكم أغظتم الله وأهنتموه، فأعلموا أن يسوع قد سمر خطاياكم على الصليب مبجنةً مع يديه نفسيهما، ومن حيث أنه وفى عنها الوفاء التام للعدل الإلهي، فقد نزعها من أنفسكم ملاشياً، ولكن إن كنتم تخافون من أنكم تلتجئون إلى يسوع المسيح، لأن عظمة جبروته وعزة ربوبيته تخيفكم، من حيث أنه ولئن كان هو تأنس متجسداً فلم يزل إلهاً حقاً. فهل تريدون لكم وسيطاً آخر يدخل بكم أمام هذا الوسيط الإلهي، فألتجئوا إلى مريم لأنها هي تتشفع منأجلكم لدى ابنها الذي من دون ارتيابٍ يستجيب طلباتها، وهو حينئذٍ يشفع فيكم لدى أبيه الذي لا يمكنه أن ينكر عليه شيئاً: فهذه الأم الإلهية يا أولادي (يختتم القديس برنردوس كلامه قائلاً) هي سلم الخطأة الذين بواستطها يصعدون جديداً إلى علو نعمة الله، وهذه هي رجائي الأعظم وهي أساس ثقتي كلها وبرهان إتكالي بجملته.*
فهوذا الألفاظ التي تتفوه بها عن ذاتها من قبل الله مريم البتول قائلةً: أنا سورٌ وثدياي كبرجٍ، فكنت أنا في عينيه كواحدة سلامٍ: (نشيد ص8ع10) أي أنها تقول أني أنا حصنٌ منيعٌ محامية عن أولئك الذين يلتجئون اليَّ، ورحمتي هي لخيرهم نظير البرج لحمايتهم، ولهذا أنا قد أقمت من سيدي وسيطةً للصلح والسلام فيما بين الله والبشر. ثم يقول الكردينال أوغون في تفسيره كلمات النشيد المقدم ذكرها: أن مريم هي الوسيطة العظيمة للصلح التي تستمد من الله السلام للأعداء وتفوز لهم بالصلح، وتكتسب الخلاص للخطأة الهالكين، وتنال الغفران للأثمة، وتستمد الرجاء للميؤوسين: ومن ثم قد دعيت هذه العروسة من عروسها الإلهي: جميلةً مثل سرداق سليمان: (نشيد ص1ع5) على أن سرادق داود الملك كانت سرادق الحرب، وأما سرادق سليمان فلم تكن إلا سرادق السلام والصلح. وبهذا يشير إلينا بكفايةٍ الروح القدس على أن أم الرحمة هذه لا تتعاطى شيئاً مختصاً بالحرب وبالانتقام من الخطأة بل إنما تتعاطى الصلح والسلام فقط. وتهتم في اكتساب الغفران لهم عن جميع مآثمهم*
ولذلك قد جاء رسم مريم وتمثالها في حمامة نوح، التي بعد خروجها من السفينة قد رجعت إليها وفي فمها عودٌ من الزيتون فيه ورقةٌ، الأمر الذي كان علامة الصلح والسلام الممنوح من الله للبشر بعد اتقاد نار غضبه ضدهم، ولذلك يخاطب القديس بوناونتورا البتول المجيدة هكذا قائلاً: أنتِ هي الحمامة الأمينة التي إذ تداخلت واسطةً في البشر أمام الله، قد اكتسبت للعالم الهالك السلام والصلح والخلاص. فمريم إذاً هي تلك الحمامة السماوية التي اجتلبت للعالم الهالك عود الزيتون علامة الرحمة والرضى. لأنها أعطتنا يسوع المسيح ينبوع الرحمة واكتسبت لنا بعد ذلك باستحقاقات هذا الابن الإلهي كل النعم التي يمنحها الله، حسبما يقول الأب سبينالي. ثم أن القديس أبيفانيوس يلاحظ هذه القضية وهي: كما أنه بواسطة مريم أعطى السلام من السماء للعالم، فكذلك بواسطتها ما زال الخطأة على الدوام يستمدون الصلح مع الله: ولهذا الطوباوي ألبرتوس الكبير يجعل مريم متكلمةً هكذا: أني أنا هي حمامة نوح التي جلبت للكنيسة السلام التام والصلح العام:*
وعلى هذه الصورة قد كان رسماً لمريم البتول ذاك القوس الذي رآه القديس يوحنا الإنجيلي في جليانه محيطاً بالعرش الإلهي كقوله في سفر الأبوكاليبسي (ص4ع3): وكان قوس قزحٍ فيما حول الكرسي شبيهاً بمنظر زمردٍ: فالكردينال يتأله في تفسيره هذا النص يقول: أن مريم هي تلك التي تجول دائماً حول كرسي الله في ديوان المحكمة الإلهية، لكي تهتم في تخفيف صرامة العدل، وفي تلطيف الأحكام كيلا تعاقب الخطأة بحسبما تستحق أعمالهم السيئة: ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول: أن هذه البتول هي ذاك القوس الذي عنه خاطب الله نوح قائلاً: أن هذه هي علامة الموثق الذي أقرره بيني وبينك وبين كل نفسٍ حية توجد معكم الى الأجيال الدهرية. أن أجعل قوسي في السحاب، فيكون علامة موثقي الذي أقرره بيني وبين الأرض… ويكون قوسي في السحاب وأبصره لأذكر الموثق الأبدي: (تكوين ص9ع13 وما يتلوه) فمريم هي هذا القوس الذي هو علامة الصلح والموثق الأبدي: ويقول القديس المذكور نفسه: أنه بالنوع الذي به حينما ينظر الله القوس في السحاب يذكر عهد الصلح وموثق السلام الذي صنعه مع الأرض، فبهذا النوع حينما تتضرع إليه مريم يغفر هو للخطأة الإهانة المصنوعة منهم في حقه، ويوطد فيما بينه وبينهم الصلح والصداقة:*
ومن ثم قد مثلت مريم بالقمر كما قيل عنها: أنها جميلةٌ مثل القمر: (نشيد ص6ع9) فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو متوسط فيما بين الشمس والأرض، فهكذا مريم تدخل واسطةً فيما بين الله والناس الخطأة، لكي تهدئ غضب الرب عنهم، ولكي تنيرهم بالرجوع إلى الله: فالوظيفة الأخص التي أعطيت من الله لمريم في وضعه إياها على الأرض هي قائمةٌ بالنوع الذي به جاء الخطاب عنها في سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: أرعي الجداء التي لكِ: (ص1ع8) فكأنه تعالى حين خلقته مريم قال لها الكلمات المقدم ذكرها، لأنه أمرٌ واضحٌ يعرفه الجميع هو أن الخطأة قد مثلوا بالجداء، فكما أن الأبرار الذين مثلوا بالخراف يقامون من عن يمين الديان في حين الدينونة العامة، فهكذا الجداء يقامون من عن شماله، ثم أن غوليالموس الباريسي يخاطب والدة الإله قائلاً: أن هؤلاء الجداء قد سلموا لرعايتكِ أيتها الأم العظيمة مريم. لكي تحيليهم الى خرافٍ، ومن حال كونهم مستحقين لأجل خطاياهم أن يقاموا في يوم الدين من عن شمال الديان. فبواسطة تضرعاتكِ من أجلهم يحصلون على أن يقاموا من عن يمينه تعالى: ثم أن الرب قد أوحى للقديسة كاترينا السيانية بأنه قد خلق ابنته المحبوبة مريم نظير طعمٍ لذيذٍ يجتذب البشر بواسطته كمن بشبكة الصيد، لاسيما الخطأة مكتسباً إياهم للرجوع إليه. ولكن ينبغي هنا أن ننبه عن العبارة الجليلة التي يوردها غوليالموس أنكليكوس فيما يلاحظ كلمات سفر النشيد وهي: أرعي الجداء التي لكِ: بقوله: أن الله يوصي مريم برعاية الجداء، لأن مريم لا تخلص الخطأة أجمعين، بل أولئك فقط الذين يخدمونها ويكرمونها متعبدين لها، وبالضد هو أن الخطأة الذين يعيشون في آثامهم ولا يكرمونها تكرمةً خصوصيةً ولا يلتجئون إليها طالبين شفاعتها ليخرجوا من حال الخطيئة، فهؤلاء ليسوا من جداء بها بل أنهم في يوم الموقف العظيم هم عتيدون أن يطردوا إلى صف الشمال مع الأبالسة: فيوماً ما إذ كان أحد الأشراف لثقل جملة خطاياه الكثيرة على منكبيه حاصلاً في القلق الذي دنا به الى اليأس من الخلاص. فأحد الرهبان المطلع على حاله السيئة قد شجعه لأن يلتجئ إلى والدة الإله أمام إحدى أيقوناتها الكائنة في كنيسةٍ ما أشار هو إليه عنها، فاقتبل الرجل المشورة الصالحة وذهب إلى تلك الكنيسة، وعندما شاهد عن بعدٍ الأيقونة المنوه عنها شعر حالاً في ذاته كأن البتول المجيدة كانت تدعوه بعذوبةٍ لأن يأتي أمامها بثقةٍ، فأسرع هو إليها منطرحاً لدى قدميها، ثم دنا منها ليقبلها، لأن الأيقونة كانت تمثالاً مجسماً، فالأم الرؤوفة مدت حينئذٍ يدها إليه ليقبلها، أما هو فرأى مكتوباً على تلك اليد: أنا أخلصك من محزنيك. وكأنها كانت تقول له: يا ابني لا تيأس فأنا أنزع عنك خطاياك وقلق ضميرك وتوبيخاته التي تعذبك: فيقال في هذه الخيرية أن ذاك الإنسان عند قراءته تلك الكلمات قد شعر بانفعالات ندامةٍ شديدةٍ على خطاياه، وبحبٍ ملتهبٍ نحو الله ونحو والدته المجيدة حتى أنه لم يمكنه أن يعيش بعد ذلك اليوم بل تنيح قدمي هذه الأم الحنونة. فكم وكم من الخطأة يرجعون إلى الله بالتوبة يومياً بواسطة هذه السيدة التي تجتذبهم كالحجر المغناتيس، حسبما أوضحت ذلك هي نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها في الوحي: أنه كما أن حجر المغناطيس يجذب إليه الحديد، فهكذا أنا أجذب إلى قلوب الناس الأشد قساوةً في الخطايا لكي أصالحهم مع الله: فهذا الأمر العجيب لا يحدث نادراً بل أن التجربة اليومية تؤكده علانيةً، أما أنا فيمكنني أن أقدم شهادةً صادقةً على حوادث كثيرةٍ مثل هذه تمت في أزمنة معاطاتنا الرسالات والرياضات الروحية للشعب. حيث أتفق مراتٍ عديدةً أن كثيرين من الخطأة المصرين على أثامهم. بعد أنهم يكونون استمعوا عظاتنا الأخر من دون أدنى إفادةٍ لهم، ومن غير أن يتحركوا إلى التوبة. فعند استماعهم العظة المختصة برحمة والدة الإله كانوا يبادرون إلى منبر التوبة راجعين الى الله بندامة القلب. ثم أن القديس غريغوريوس الكبير يخبر في كتابه الثالث من أدبياته عن الوحش المسمى ليونكورنوس أو الأسد المقرن بأنه بهذا المقدار هو شرسٌ كاسرٌ، مفترسٌ قويٌّ، حتى أنه لمن المستحيل أن يقدر أحد الصيادين أن يقتنصه. ولكن التجربة قد علمت الصيادين بالأمتحان طريقةً سهلةً لمسك هذا الوحش من دون خطرٍ أو تعبٍ، وهي أنهم يرسلون اليه شابةً بتولاً التي عندما تراه وتصرخ به، فهو حالما يسمع صوتها يدنو منها طائعاً ويسلم ذاته هادياً بين يديها لأن تربطه وتسوقه معها: فكم وكم من الخطأة الأشد شراسةً من الحيوانات البرية والوحوش الضارية في المآثم يهربون من وجه الله، ولكن عند سماعهم عذوبة صوت هذه البكر الكلية الطهارة يبادرون إلى حمايتها ويسلمون ذواتهم بين يديها مرتضين بأن الله يربطهم برباطات حبه المقدس.*
وأما القديس يوحنا فم الذهب فيقول: إن مريم قد اختيرت والدة للإله حتى أن أولئك الخطأة المساكين الذين لأجل سيرتهم الردية لا يمكنهم أن يفوزوا بالخلاص بموجب العدل الإلهي، فبحسب رأفتها وعذوبتها وبقدرة شفاعاتها تستمد لهم النعمة التي بها يخلصون: والقديس أنسلموس يثبت ذلك بقوله: أن مريم قد أقيمت مرتفعةً إلى رتبة والدة الإله لأجل خير الخطأة أكثر مما لأجل خير الأبرار، لأن فادينا يسوع المسيح قد أعلن واضحاً أنه إنما جاء إلى العالم لأجل خلاص الخطأة. إذ يقول: أني لم آتِ لأدعو الصديقين بل الخطأة إلى التوبة: ولهذا الكنيسة المقدسة تقول نحو والدة الإله هاتفةً: أنكِ أيتها البتول لا تكرهين الخطأة الذين لولاهم لما كنتِ صرتِ قط أماً مستحقةً لابنٍ هكذا كلي العظمة: ولذلك يخاطب غوليالموس الباريسي هذه الطوباوية قائلاً: أنكِ لملتزمةٌ أنتِ يا مريم بأن تساعدي الخطأة، لأنكِ بسببهم قد حصلتِ على الحال الجليلة التي أنت فيها، وأن يكن مباحاً لي فأقول أنكِ لمديونةٌ أنتِ للخطأة بكل ما أنتِ حاصلةٌ عليه من المواهب والنعم والعظمة، أي حال كونكِ والدة الإله، لأنكِ بسبب الخطأة قد خلقتِ من الله منتخبةً، وأهلتِ منه لأن تستحقي أن تحصلي على الإله ابناً لكِ: وهنا القديس أنسلموس يستنتج مبرهناً بقوله: فإذاً إن كانت مريم بسبب الخطأة حصلت على حال كونها والدة الإله. فكيف يمكنني ولو كانت خطاياي بهذا المقدار عظيمةً أن أيأس من نوال غفرانها.*
فالكنيسة المقدسة في الصلاة المختصة ببارامون عيد انتقال والدة الإله إلى السماء التي تقال في القداس توضح: أن هذه الأم الإلهية قد انتقلت من الأرض إلى السماء لكي تتوسط لدى الله بثقةٍ، ولكي تقبل بطمأنينةٍ أكيدةٍ وساطتها ومطلوباتها من أجلنا. ولذلك القديس يوستينوس يسميها: المفوضة المطلقة. أي بمنزلة قاضيةٍ مختارةٍ، نظير ذاك الشخص الذي الجهتان المختاصمتان تضعان في يده أن يتأمل حقوق كلٍ منهما، وأن يحكم عليهما بما يراه صواباً وحسبما يشاء: وإنما يريد هذا القديس أن يعني بذلك أنه كما أن المسيح هو وسيط الناس لدى الله أبيه، فهكذا مريم هي وسيطتهم أمام ابنها، الذي يترك لها كل الحقوق ويسلمها ما يحق له عليهم بحسبما هو ديانهم مفوضاً الأمر لإرادتها.*
أما القديس أندراوس الأقريطشي فيسمي مريم: ضمنية صلحنا مع الله: وبهذا يريد أن يرشدنا معلماً إيانا بأن الله الذي برحمته الغير المتناهية يسعى راغباً رجوع الخطأة إليه بالتوبة، لكي يصالحهم بإيهابه إياهم الغفران، فحتى أنهم يكونون على ثقةٍ وطمأنينةٍ به تعالى، يقدم لهم والدته بمنزلة ضمينةٍ، وكعربونٍ لتحقيق المغفرة، ومن ثم يحييها هذا القديس بالسلام قائلاً لها: السلام عليكِ يا صلح الله مع البشر: ومن هذا القبيل يأخذ القديس بوناونتورا بالتكلم نحو كلٍ من الخطأة بقوله: فإن كنت يا هذا تخاف من أن يكون الله لأجل مآثمك مستعداً لأن ينتقم منك. ترى ماذا تصنع أنه يلزمك أن تبادر نحو تلك التي هي رجاء الخطأة أي نحو مريم، ولكن أن كنت تخاف من أنها لا تريد هي أن تأخذ على ذاتها حمايتك وإسعافك، فأعلم أنها لا تقدر هي أن ترفض التجاءك إليها أو قبول المحاماة عنك، لأن الله نفسه قدر رتب عليها هذا الأمر وأقامها في هذه الوظيفة وهي أن تسعف الخطأة البائسين:*
وهنا يقول الأنبا آدم: أهل يلزمه ربما أن يخاف من أن يذهب هالكاً ذاك الخاطئ الذي تقدم له ذاتها أم القاضي عينها لأن تكون أماً له وشفيعةً ومحاميةً عنه، أو هل أنكِ أنتِ يا مريم الملقبة عدلاً بأم الرحمة يمكن أن تأنفى من أن تتضرعي لدى ابنكِ الإلهي الذي هو القاضي والديان، من أجل ابنٍ آخر من أولادكِ الذي هو الخاطئ الملتجئ إليكِ، أممكنٌ هو لك أن ترفضي أن تعتني في خير نفسٍ مفتداةٍ بدم ابنكِ، أو أنكِ لا تدخلين من أجلها واسطةً عند الفادي نفسه الذي لأجل ذلك مات على عود الصليب أي ليخلص الخطأة، كلا، أنكِ لن ترفضي هذا العمل بل أنكِ بحبٍ كليٍ تقدمين ذاتكِ لأن تصلي من أجل كل أولئك الذين يسرعون الى كنف وقايتكِ، عالمةً أن ذاك الإله الأزلي الذي أقام ابنه الوحيد وسيطاً فيما بينه وبين الإنسان، فهو تعالى نفسه قد أقامكِ وسيطةٍ فيما بين القاضي والمذنب: فمن ثم يعطف القديس برنردوس خطابه نحو الخاطئ قائلاً: أنك مهما كنت أيها الأثيم غارقاً في بحر حمأة الرذائل، ومنغمساً شايخاً في الملكات الرديئة، فلا تقطع رجاك بل اشكر سيدك الذي لرغبته في أن يستعمل معك الرحمة، فليس فقط أعطاك ابنه نفسه شفيعاً بك لديه، بل أيضاً لكي يهبك شجاعةً وطمأنينةً أفضل وعلةً أكيدةً للرجا فقد دبر لك وسيطةً مقتدرةً على أن تستمد لك بواسطة صلواتها من أجلك كل ما هي تريده لك، فإذاً قم مسرعاً وأمضِ إلى مريم مستغيثاً بها وهكذا تعود خالصاً ناجياً:*
* نموذج *
أن روبانسا وبونيفاسيوس يخبراننا بما يأتي ذكره وهو أنه قد كانت في مدينة فلورنسا ابنةٌ شابةٌ اسمها بناديكتا أي مباركة. ولكن الأفضل هو أن تسمى ملعونةً لأجل السيرة الرديئة الدنسة المشككة القبيحة التي كانت هي حينئذٍ مستيسرةً بها في تلك المدينة. فلأجل حسن حظ هذه الشقية قد جاء وقتئذٍ القديس عبد الأحد ليكرز في المدينة المذكورة، فبناديكتا بمجرد روح البحث والتفرج قد ذهبت يوماً ما لتستمع وعظ القديس، غير أن الرب قد عطف قلبها إلى الندامة عند سماعها تلك العظة، حتى أنها بعد الكرز قد تقدمت حالاً إلى منبر الاعتراف أمام القديس المذكور عينه مقرةً لديه بخطاياها بدموعٍ سخيةٍ، فالقديس اقتبل اعترافها وحلها من مآثمها وواضعاً عليها القانون الوفائي بأن تصلي المسبحة الوردية. إلا أن هذه الامرأة التعيسة قد رجعت لأجل الملكات السيئة المتأصلة فيها إلى خطاياها السابقة. فلما سمع ذلك عنها القديس عبد الأحد ذهب إليها مؤنباً إياها واجتهد في أنها اعترفت عنده مرةً أخرى. ثم أن الباري تعالى لكي يوطدها في طريق التوبة قد كشف لها يوماً ما منظر جهنم، وهناك أراها هالكين البعض الذين هي كانت علة سقوطهم في الخطايا. وبعد هذا قد فتح أمامها سجلاً كانت مدونةً فيه خطاياها كلها، فعند ذلك أستوعبت بناديكتا خوفاً ورعدةً من هذا وذاك، وبادرت نحو مريم العذراء مستغيثةً بها لكي تعينها، وحينئذِ هي شاهدت أن هذه الأم الإلهية كانت متوسلةً لله من أجلها طالبةً منه عز وجل أن يهبها زمناً كافياً فيه تبكي على مآثمها وتصنع أعمال التوبة الواجبة. فالرؤيا قد انتهت على هذه الصورة وبناديكتا شرعت تعيش بسيرةٍ صالحةٍ، ولكن من حيث أن السجل الذي كانت رأت فيه مدونةً قبائحها لم يعد يزول من فكرها، وكان يسبب لها خوفاً شديداً، فيوماً ما ألتجأت هي الى شفيعتها الحارة ومعزيتها الوحيدة مريم قائلةً لها: أي نعم أني لأجل مآثمي الباهظة قد أستحقيت أن أكون الآن مدفونةً في قعر الجحيم، ولكن من حيث أنكِ أنتِ يا سيدتي قد استمديتِ لي زمناً لعمل التوبة وهكذا خلصتني من جهنم، فالآن أنا ألتمس منكِ يا كلية الرأفة هذه النعمة أيضاً وهي أن خطاياي المدونة في ذاك المصحف الذي رأيته، فهذه التي أنا لا أكف أصلاً من أن أبكي عليها فلتصير بقوة شفاعتكِ ممحيةً من السجل المذكور: فعند نهاية هذه الصلاة ظهرت لها والدة الإله وقالت لها: أنه لأجل نوال مطلوبها كان يلزمها أن لا تغفل فيما بعد عن التذكر بخطاياها ولو كانت محيت، وإلا تفتر من التأمل في سمو رحمة الله المستعملة نحوها. وأيضاً أن تفتكر مراتٍ كثيرةً في الآلام المقدسة التي تكبدها من أجل خلاصها فادي العالم، وأن تتأمل في أن كثيرين قد هلكوا في الدركات الجهنمية مع أنهم ارتكبوا خطايا أقل جداً من مآثمها، ثم أخبرتها بأنه في ذاك اليوم عينه قد كان مات طفلٌ أبن ثمان سنين فقط بعد ارتكابه خطيئةٍ واحدةٍ مميتةٍ لا غير ولأجلها حكم عليه بالهلاك الأبدي: فبناديكتا إذ أنها بكل أمانةٍ أطاعت البتول قد ظهر لها بعد ذلك مخلصنا يسوع المسيح مقدماً لها ذاك المصحف المدونة فيه خطاياها وقال لها: هوذا السجل، فانظري أن خطاياكِ قد محيت منه وهو الآن أبيض كما تشاهدينه، فأكتبي فيه منذ الآن فصاعداً أفعال الحب والفضائل: وبالحقيقة أن بناديكتا قد عاشت باقي أيامها عيشة مقدسة استحقت بها ميتةً صالحةً فائزةً بالخلاص الأبدي.*
† صلاة †
أنه إذ كانت إذاً وظيفتكِ يا سيدتي الكلية الحلاوة هي كما يقول غوليالموس الباريسي أن تدخلي وسيطةً فيما بين الله وبين الخطأة. فأنا أقول لكِ مع القديس توما الفيلانوفي أسرعي نشيطةً في تكميل واجبات وظيفتكِ هذه في شأني أنا أيضاً. فلا تقولي لي أن دعواي هي عسرةٌ جداً أن تكتسب على صالحي، لأني أعرف جيداً (وهكذا الجميع يقررون لي) أن كل الدعاوى التي أنت حاميتِ عنها لم تخسر منها واحدةٌ قط. ولو مهما وجد الرجاء مقطوعاً منها فهل دعواي وحدها تضيع، كلا، فأنا من ذلك لا أخاف، بل أني أخشى من شيءٍ واحدٍ وهو كيلا يدخل عندي الارتياب في أنكِ ترتضين بالمحاماة عني، عند تأملي كثرة خطاياي وقبحها، إلا أنني إذ ألاحظ من جهةٍ أولى عظمة رحمتكِ واتساعها. ومن جهةٍ أخرى شدة رغبتكِ القلبية المستوعب منها حنانكِ الكلي الإشفاق في أن تعيني الخطأة الأكثر احتياجاً. فلذلك أنا لا أخاف ولا من هذا الحادث أيضاً. لأنه ترى من هو ذاك الذي مضى خازياً وأنتهى هالكاً بعد أن كان التجاء إليكِ. فإذاً أنا أدعوكِ لإغاثتي وإسعافي يا شفيعتي العظيمة وملجأي وسندي ورجائي وأمي. وأستودع في يدكِ دعوى خلاصي الأبدي مسلماً إياكِ نفسي بجملتها. فهذه النفس هي هالكةٌ ولكن يخصكِ أنتِ أن تخلصيها، إلا أن نوعاً واحداً من الخوف بقي يحزنني ياملكتي العزيزة وهو من أن يعتريني ربما هذا الشقاء بأن أتغافل يوماً واحداً عن أن أجدد ثقة رجائي فيكِ، ومن ثم أتوسل إليكِ يا مريم شفيعتي بحق الحب الشديد الذي أنتِ تحبين به ابنكِ يسوع المسيح، أن تحفظي بي رجائي في شفاعتكِ مزداداً يوماً فيوماً ثقةً وطمأنينةً، لأني أرجو بوساطتكِ أن أكتسب الصلح مع الله وأدوم في هذه النعمة العظمى وهي صداقته تعالى التي فيما مضى قد أحتقرتها وخسرتها بحماقتي، وإذ أني أؤمل أن أكون نلتها جديداً بواسطتكِ، فأرجو أيضاً أن أحفظها في المستقبل دائمةً، وإذا ما فزت بنعمة حفظها فأستطيع أخيراً أن آتي يوماً ما إلى السماء، حيث أقدم لكِ الشكر من أجلها. وهناك أسبح رحمة الله ورحمتكِ إلى الأبد. هكذا أؤمل وكذلك فليكن لي.*
†
Discussion about this post