كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل السادس
في ما يخص هذه الكلمات وهي: “فأصغي اذاً إلينا ياشفيعتنا”.
*وفيه ثلاثة أجزاء *
† الجزء الأول †
في أن مريم العذراء هي شفيعةٌ قادرةٌ أن تخلص الجميع
أن السلطة التي للأمهات على أولادهن هي بهذا المقدار عظيمةٌ، حتى أنه ولئن كان البنون ملوكاً ولهم السلطان على جميع الشعوب الخاضعين لممالكهم، فلا يمكن على الإطلاق أن أمهاتهم يكن مخضعاتٍ لولايتهم كأنهن من الرعايا، فأي نعم أن يسوع المسيح هو الآن كائنٌ في السماء جالساً من عن ميامن الله الآب، أي بحسبما هو إنسان أيضاً (كما يفسر القديس توما اللاهوتي) له سلطانٌ أعلى مطلقٌ كلي الاقتدار على جميع الكائنات والمخلوقات، حتى على مريم العذراء أيضاً، بحسبما أن ناسوته هو متحدٌ من دون انفصالٍ مع لاهوته ومتقنمٌ بأقنومه الإلهي الذي هو أقنوم الكلمة الأزلي. فمع ذلك أمرٌ حقيقيٌ هو على الدوام أنه تعالى وقتاً ما، أي حينما كان عائشاً بالجسد في الأرض، قد أراد أن يواضع ذاته ويكون خاضعاً لمريم أمه كمرؤوس لها، كما يشهد لنا القديس لوقا الإنجيلي (ص2ع51) بأن يسوع كان يعيش مع أمه مريم ومع خطيبها القديس يوسف في الناصرة خاضعاً لهما، بل بأكثر من ذلك يقول القديس أمبروسيوس: أنه من حيث أن يسوع ارتضى بأن يختار مريم أماً له فصار بالحقيقة ملزوماً بأن يطيعها خاضعاً لها. ولذلك يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: إنه يقال عن القديسين الآخرين أنهم كائنون مع الله. إلا أنه عن مريم وحدها يمكن أن يقال أنها حصلت على الحظ السعيد، وهو أنها ليس فقط وجدت مخضعةً لإرادة الله بل أيضاً أن الله قد أخضع ذاته تحت إرادتها… وفي الوقت عينه الذي فيه مكتوبٌ هو عن العذراى الآخرات أنهن يتبعن الخاروف إلى حيثما يسير (أبوكاليبسى ص14ع4) ففيه نفسه يمكن أن يقال عن الخروف الإلهي عينه أنه كان يتبع مريم في هذه الأرض، لأجل أنه كان أخضع ذاته لها وصار مرؤوسها.*
فمن ثم نقول أن مريم ولئن لم تكن في السماء أيضاً قادرةً على أن تأمر ابنها. فمع ذلك أن تضرعاتها لديه هي دائماً تضرعات والدةٍ، ولهذا هي تضرعاتٌ كلية الاقتدار على أن تنال كل ما تطلبه، فيقول القديس بوناونتورا: ان مريم هي حاصلةٌ على هذا الأختصاص عند أبنها وهو أنها كلية الأقتدار على ان تستمد منه كل شيء تريده: ولما ذلك، أنه بالحصر هو للسبب الذي أشرنا إليه آنفاً والذي بعد قليلٍ نفحص عنه بأسهابٍ. أي لأن تضرعات مريم لديه تعالى هي تضرعات أمٍ له، ولأجل هذه العلة يقول القديس بطرس داميانوس: أن مريم العذراء تقدر على كل ما تريد كما في السماء كذلك على الأرض، اذ أنها تستطيع أن تعضد برجاء الخلاص المقطوعين من الرجاء أنفسهم. ثم يقول أيضاً: انه حينما تلتمس هي نعمةً ما لأجلنا من أبنها يسوع المسيح (المسمى من هذا القديس هيكل الرحمة حيث يفوز الخطأة من الله بالغفران) فأبنها الإلهي يعتبر بهذا المقدار تضرعاتها ويكرمها، ويريد أرادةً مطلقةً أن يرضيها، حتى أنها حينما تتوسل هي، فيظهر أنها تأمر أحرى من أن تتضرع، وتبان أنها سيدةٌ أحرى من عبدةٍ: فعلى هذه الصورة يريد يسوع أن يكرم هذه الوالدة العزيزة التي قد كرمته هي في مدة حياتها تكرمةً كلية القبول لديه، بأنه حالاً يستجيب طلباتها بقدر ما تشاء وبحسبما تشتهي، الأمر الذي يوطده القديس جرمانوس بألفاظٍ جليلةٍ (في ميمره على نياحها) قائلاً نحوها هكذا: أنكِ أنتِ هي والدة الإله الكلية الاقتدار على خلاص الخطأة. ولا تحتاجين لدى الله إلى شيءٍ آخر يجعل كلامكِ مقبولاً عنده بعد أنكِ إنما أنتِ هي أم الحياة.*
ولأجل هذا لم يجد القديس برنردينوس السياني صعوبةً في أن يعطي هذه الحكومة قائلاً: أنه حينما تبرز مريم أوامرها، فالجميع يطيعون حتى الله عينه: مريداً بالحقيقة أن يقول، أن الله يستجيب تضرعاتها كأنها أوامر وليس كتوسلاتٍ، ولهذا يكتب القديس أنسلموس مخاطباً والدة الإله بهذه الألفاظ وهي: أن الرب قد رفعكِ أيتها العذراء القديسة إلى مقامٍ وحالٍ هذا عظم سعادتهما، بنوع أنكِ بواسطتهما تقدرين على أن تستمدي منه كل النعم الممكن منحها لعبيدكِ. لأن حمايتكِ هي كلية الاقتدار، أي نعم إن حمايتكِ هي قادرةٌ على كل شيءٍ يا مريم. كما يدعوكِ القديس قزما الأورشليمي، وحسبما يتبع ذلك ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: حقاً أن مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ، من حيث أن الملكة بقوة كل الشرائع لها أن تتمتع بالاختصاصات عينها التي يتمتع بها الملك: فعلى هذه الصورة يقول القديس أنطونينوس: إن الله قد وضع الكنيسة الجامعة كلها ليس فقط تحت حماية مريم بل أيضاً تحت ولايتها وسلطانها*
فإن كان يلزم إذاً أن تكون الوالدة حاصلةً على سلطانٍ نفسه المختص بابنها، فبالصواب يسوع الذي هو بذاته قادرٌ على كل شيءٍ قد صير والدته مريم قادرةً على كل شيءٍ، ولكن بهذا التمييز وهو أن يسوع هو قادرٌ على كل شيء طبيعياً ومن قبل لاهوته ذاتياً. وأما مريم فخصصت بهذه الصفة نعمةً منه تعالى. وهذا يتحقق بالعملية وهو أن كل سيءٍ تطلبه الوالدة فلا يمكن أن ينكر عليها منه شيئاً الابن. كما أوحى للقديسة بريجيتا التي يوماً ما سمعت يسوع مخاطباً مريم هكذا: إنكِ تعلمين يا أمي كم أني أحبكِ، فإذاً اطلبي مني كل شيءٍ حتى مهما كانت مسألتكِ عظيمةً فأنا لا يمكن أصلاً أن لا أقبلها، لأنكِ حينما كنتِ معي في الأرض لم تنكري قط شيئاً أن تعمليه حباً بي، فالآن إذ أنا كائنٌ في السماء فأمرٌ عادلٌ هو أن لا أنكر أن أصنع كل ما أنتِ تريدينه مني ملتمسةً: فإنما مريم تسمى قادرةً على كل شيء بالنوع الذي يمكن أن تحصل عليه خلقةٌ ما لم تكن موضوعاً قابلاً بذاتها لأن تملك صفةً إلهيةً، فهذا النوع مريم هي قادرةٌ على كل شيءٍ أي أنها بواسطة تضرعاتها تقدر أن تنال كل ما تطلبه*
فبالصواب إذاً يقول نحوكِ يا شفيعتنا العظيمة القديس برنردوس هكذا: ريد ما تحبين، فكل شيءٍ يتم كمرادكِ، ريد أن ترفعي الخاطئ الأكثر إثماً والأشد يأساً إلى أعظم درجةٍ من القداسة، ففي سلطانكِ أن تصنعي ذلك. ثم أن الطوباوي ألبرتوس الكبير فيما يخص هذا الموضوع يجعل مريم متكلمةً هكذا أنه يلزمني أن أكون مسؤولةً بتضرعات الغير لدي في أن أريد. لأني إن أردت فأمرٌ ضروريٌ هو أن يصنع ما أريده: فمن ثم إذ كان يتأمل القديس بطرس داميانوس هذه المقدرة العظيمة التي لمريم، فبتوسله نحوها في أن تترأف علينا يخاطبها قائلاً: يا مريم شفيعتنا العزيزة. إنه من حيث أنكِ حاصلةٌ على قلبٍ هكذا حنون حتى أنكِ لا تعرفين بل لا تقدرين أن تشاهدي الفقراء المحتاجين من دون أن تتوجعي لهم مشفقةً. وفي الوقت عينه أنتِ مالكةٌ استطاعةً بهذا المقدار عظيمةً أمام الله على أن تخلصي كل أولئك الذين أنت تحامين عنهم. فلا تأنفي إذاً مشمأزةً من أن تتخذي على ذاتكِ المحاماة عن دعوانا نحن أيضاً الأشقياء البائسين الواضعين رجانا بأسره فيكِ. فإن كانت صلواتنا وتضرعاتنا لا تحرككِ لذلك. فليعطفكِ نحونا قلبكِ الرؤوف، ولتحرككِ قلما يكون سلطتكِ، لأن الله لأجل هذه الغاية قد أغناكِ باقتدارٍ هذا عظم حده، حتى أنكِ بمقدار ما أنتِ غنيةٌ مستطيعةٌ على إسعافنا، فبأكثر من ذلك تكونين رحومةً مريدةً أن تساعدينا. ثم أن القديس برنردوس يؤكد لنا هذا الموضوع حسناً بقوله هكذا: أن مريم كما في الاقتدار كذلك في الرحمة هي عنيةٌ بنوعٍ لا حد له، فبحسبما أن حبها هو كلي الاقتدار، كذلك هي كلية الإشفاق لأن تحنو علينا راحمةً. وعمليتها المتصلة معنا تبرهن حقائق الأمر.*
فمن حينما كانت مريم عائشةً في الأرض لم يكن لها اهتمامٌ بالوجه الأول من بعد عنايتها فيما يخص مجد الله. سوى في أن تعين المحتاجين، ونحن نعلم أنها منذ ذلك الوقت قد تمتعت من قبل الله بهذه الخاصة. وهي أن تستجاب طلباتها في كل شيءٍ كانت تلتمسه. وهذا هو معروفٌ لدينا من الحادث المكتمل في عرس قانا الجليل حينما نقص الخمر، فوقتئذٍ لإشفاقها وتوجعها من جرى الخجل الذي اعترى أهل البيت. قد طلبت من ابنها أن يعزيهم بصنيعه أعجوبةً قائلةً له: أن ليس عندهم خمر، أما يسوع فأجابها بقوله: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فتأمل أيها القارئ كيف أنه يبان من جوابه تعالى عدم إرادته حينئذٍ أن يصنع تلك المعجزة، بل كأنه أراد أن يقول لوالدته المجيدة: ما الذي يهمني ويعنيكِ بنقصان الخمر من عندهم، فالآن ليس هو بلائقٍ بي أن أمارس صنع العجائب إذ لم يكن جاء زمن كرازتي بالإنجيل، الزمن الذي فيه ينبغي لي أن أثبت حقائق تعليمي بعجائب ظاهرةٍ. ولكن مع ذلك جميعه فمريم كأنها فازت منه بمطلوبها، قالت للخدام اصنعوا كل ما يأمركم به: أي أسرعوا فأملأوا الأجانين ماءً فتنظرون كيف أنها مزمعةٌ أن تحصل التعزية للجميع، وبالحقيقة أن مخلصنا لكي يرضي والدته ويتمم مرغوبها قد أحال تلك المياه إلى خمرٍ جيدٍ، فكيف تم هذا. أي إن كان الزمن المعين منه تعالى لصنيع العجائب لم يكن جاء بعد لأنه حفظ إلى حين الكرازة بالإنجيل، فكيف الآن فعل هو هذه الآية خلافاً للمراسيم الإلهية السابق تحديدها، فيجاب على ذلك، كلا، أي أن هذا العمل لم يكن مضاداً لترتيب الله، لأنه ولئن لم يكن جاء بعد الزمن الذي فيه اعتيادياً كان ينبغي صنيع المعجزات فمع ذلك كان الله منذ الأزل بقوة مرسومٍ آخر حدد، أن جميع ما كانت مريم المصطفاة منه عتيدةً أن تطلبه، فلن ترد مسألتها به فارغةً، ومن ثم إذ لم تكن مريم تجهل هذه الخاصة والنعمة الجليلة الممنوحة لها، فمع أنه استبان لها من جواب ابنها أن مطلوبها لم يكن مستجاباً.
فمع ذلك قالت هي للخدام أن يفعلوا كل ما كان يأمرهم به. بألفاظٍ تدل واضحاً على نوالها النعمة التي التمستها، وهذا هو معنى ما يفسر به القديس يوحنا فم الذهب الكلمات المقدم ذكرها وهي المقالة من فادينا نحو والدته: ما لي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فيقول: أن مخلصنا ولئن كان أجابها هكذا نفياً فمع ذلك لكي يكرم هو هذه الأم الإلهية لم يتأخر عن أن يطيعها مكملاً ما طلبته منه: وهذا عينه قد أيده القديس توما اللاهوتي حيث قال: إنه بهذه الكلمات وهي: أنه لم تأتِ ساعتي بعد أراد أن يبين أنه لقد كان أخَّر صنيع تلك الآية، لو كان أحدٌ آخر غير أمه طلب منه هذه النعمة، ولكن إذ أن والدته ألتمستها منه، فحالاً هو صنع الأعجوبة. ثم أن القديسين كيرللس وأيرونيموس يفسران هذا النص كما تقدم القول حسبما يورد البرادي. ومثلهما كتب الفاندافانسه في شرحه معنى كلمات الإنجيل المار ذكرها إذ يقول: أن المسيح لكي يكرم والدته قد سبق زمن صنيع العجائب.*
وبالإجمال أنه لأمرٌ أكيدٌ هو أنه لن توجد خليقةٌ ما تقدر أن تستمد لنا من الله نحن الأشقياء مراحم ورأفات هكذا غنيةً، نظير هذه الشفيعة الصالحة التي قد كرمها الله بذلك، ليس فقط بحسبما هي آمته المحبوبة منه بل أيضاً بحسبما هي أمه الحقيقية، وهذا عينه يقوله غوليالموس الباريسي، فإذاً يكفي أن تتكلم مريم ليتمم ابنها كل ما تريده منه. ففي تكلم الرب مع عروسة النشيد المفهوم بها والدة الإله يقول نحوها هكذا: أنتِ الجالسة في البساتين الأصحاب يصغون. فسمعيني صوتكِ: (نشيد ص8ع13) فالأصحاب إنما هم القديسون الذين حينما يطلبون نعمةً ما راجعةً لخير المتعبدين لهم. فينتظرون أن ملكتهم تستمدها من الله وتنالها، لأنه (كما أوردنا في الفصل السابق) لا تتوزع نعمةٌ ما من النعم إلا بواسطة شفاعة مريم. فكيف تستمد هي هذه النعم، إنه يكفي أن تتكلم لأن الابن حالاً يستجيب لها، وهذه هي ألفاظ غوليالموس الباريسي في تفسيره كلمات سفر النشيد المقدم ذكرها حيث يجعل المسيح مخاطباً والدته هكذا: أنتِ التي تسكنين في البساتين السماوية تشفعي بدالةٍ ورجاءٍ من أجل من تريدين. لأني لا أستطيع أن أنسى حال كوني ابناً لكِ، وبالتالي لا أقدر أن أنكر عليكِ الشيء الذي تطلبينه مني أنتِ التي هي أمي، بل إنه يكفي لقبول ما تلتمسينه أن تلفظي الكلمة فأستجيبها أنا ابنكِ.*
ثم يقول الأنبا غوفريدوس: أن مريم ولئن كانت تستمد من الإله ابنها النعم متوسلةً، فمع ذلك هي تتضرع إليه على نوعٍ ما بروحٍ رئاسي بحسبما هي والدته. فإذاً نحن من دون ريبٍ مطلقاً يلزمنا أن نعتبر، أن كل ما هي تطلبه منه تعالى لأجلنا وجميع ما ترغبه هي لنا فنحصل عليه أكيداً من دون ريبٍ.*
أما فالاريوس مكسيموس فيخبرنا بأن كوريولانوس حينما كان محاصراً مدينة روميه، فلم تكن تؤثر في قلبه حركة حنوٍ ورأفةٍ ما تضرعات أصدقائه وسكان المدينة بأسرهم، ولكن حينما ظهرت أمامه فكتوريا والدته لتتضرع إليه من أجلهم، فوقتئذٍ ما عاد هو استطاع أن يستمر ثابتاً على رفض المطلوب بل حالاً رفع الحصار عن المدينة، إلا أن تضرعات مريم لدى يسوع هي بما لا يحد أكثر قبولاً من تضرعات فكتوريا لدى كوريولانوس بمقدار ما أن هذا الابن الإلهي هو مكافئ عادلٌ ومحبٌ عظيمٌ لأمه هذه الجليلة. على أن الأب يوستينوس فيكوفيانسه قد كتب قائلاً: إن تنهدةً واحدةً من الطوباوية مريم لها قبولٌ واستحقاقٌ أمام الله أكثر مما تستطيع عليه لديه تعالى توسلات جميع القديسين معاً: وهذا الأمر عينه قد اعترف به الشيطان نفسه للقديس عبد الأحد مضطراً من قبل ما حتم به عليه هذا القديس عينه، حينما كان يخرجه من إنسانٍ معترى منه، حسبما يخبر الأب باجيوكالى، أي أنه قال له أن تنهداً واحداً مصنوعاً من والدة الإله له مفعولٌ أمام الله أفضل من صلوات جميع القديسين والقديسات وتضرعاتهم وتوسلاتهم لديه عز وجل.*
ثم يقول القديس أنطونينوس: أن صلوات البتول مريم الطوباوية إذ أنها هي صلوات أمٍ، فلها نوعٌ من حق التآمر ولهذا فلمن المستحيل أن لا تقبل طلبتها حينما تتضرع: ولذلك يخاطب البتول المجيدة القديس جرمانوس مشجعاً كل الخطأة بأن يلتجئوا إلى هذه الشفيعة الحارة وقائلاً نحوها: أنكِ يا مريم إذ كنتِ حاصلةً على السلطان الوالدي نحو الله فتستمدين الغفران للخطأة الأكثر إثماً والأشد قبحاً، لأن ذاك الرب الذي في كل شيء يعرفكِ أماً حقيقيةً له. فلا يمكنه أن لا يهبكِ كل شيءٍ تسألينه: ولهذا القديسة بريجيتا قد سمعت القديسين في السماء يتكلمون مع والدة الإله قائلين لها: أيتها السيدة المباركة، ما هو الشيء الذي أنتِ لا تقدرين أن تصنعينه، لأن الشيء الذي تريدينه فهذا هو الشيء الذي يعمل. ومن ثم يصادق هذا الكلام ذاك القول الشهير وهو: أن السلطة التي لله هي لصلاتكِ أيتها العذراء ويقول القديس أوغوسطينوس: أفهل أنها لا تكون لائقةً بخيرية صلاح الرب هذه القضية، وهي أن يحفظ شرف مقام والدته والحال أنه تعالى يعلن واضحاً أنه لم يأتِ إلى الأرض ليحل الناموس بل ليتممه، والحال أن إحدى وصايا هذا الناموس هي الحتم على الأولاد بأن يكرموا والديهم: بل أن القديس جاورجيوس رئيس أساقفة نيكوميديه يضيف إلى ذلك قائلاً: أن يسوع المسيح لكي يفي على نوعٍ ما الالتزام الذي عليه لهذه الأم الإلهية، لأجل أنها أعطته بواسطة ارتضائها بسر التجسد الكون الإنساني من دمائها، فيكمل هو جميع ما تطلبه منه: وهنا يهتف القديس متوديوس الشهيد صارخاً: افرحي يا مريم لأنكِ حصلتِ على الحظ السعيد في أن يكون مديوناً لكِ ذاك الابن الذي هو يعطي الجميع ولا يقبل من أحدٍ شيئاً، فنحن كلنا مديونون لله في جميع ما عندنا على الإطلاق، لأن كل شيءٍ هو ممنوحٌ منه هبةً لنا، وأما أنتِ فأراد الله نفسه أن يكون مديوناً لكِ بأخذه منكِ الناسوت، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: إن مريم إذ استحقت أن تعطي الناسوت للكلمة الأزلي. وبهذا الناسوت تم افتداء الجنس البشري وصرنا نحن ناجين من الموت الأبدي، فلهذا مريم هي مقتدرةٌ أكثر من الجميع على إسعافنا لأن نحصل على الخلاص الأبدي. وكذلك كتب القديس ثاوفيلوس الأسقف الاسكندري الذي كان عائشاً على زمن القديس أيرونيموس قائلاً هكذا: أن الابن يسر مرتضياً بأن والدته تتوسل إليه، لأنه يريد أن يهبها جميع ما تشاء مانحاً إياها ذلك حباً بها واعتباراً لها، وبهذا يريد أن يكافئ النعمة التي هو كان اقتبلها من هذه الأم الإلهية بإعطائها إياه الجسم الإنساني، فمن ثم يلتفت القديس يوحنا الدمشقي نحو العذراء مخاطباً إياها بهذه الكلمات وهي: فأنتِ إذاً يا مريم بحسب كونكِ والدة الإله تقدرين أن تخلصي الجميع بواسطة صلواتكِ التي لها قيمة سلطان أمٍ وحاصلة على اعتبار سطوة والدةٍ,*
فلنجز القول بألفاظ القديس بوناونتورا الذي عند تأمله في مقدار عظمة الخير المصنوع من الله معنا بمنحه إيانا مريم شفيعةً بنا، يخاطب هذه البتول المجيدة قائلاً: يا لسمو خيرية صلاح إلهنا الفائقة الإدراك بالحقيقة، والعديمة التناهي، لأنه أراد أن يهبنا نحن الأثمة الأشقياء شفيعةً جليلةً التي هي أنتِ أيتها السيدة المعظمة، لكي تستطيعي بواسطة شفاعتكِ المقتدرة أن تستمدي لنا من الخير والنعم بمقدار ما أنتِ تريدين… وبالعظمة رأفة الرب الملك، كيلا نهرب نحن خوفاً من الحكومة المزمعة أن تبرز على دعوانا في ديوانه الإلهي، قد أقام لنا محاميةً وشفيعةً والدته نفسها التي لها السلطان على النعم.*
* نموذج *
أن الأب راتسي الراهب الكامندولازي يخبرنا (في الأعجوبة 47 من كتابه على عجائب العذراء) بأنه كان شابٌ ما الذي بعد وفاة والده قد أرسلته والدته إلى بلاط أحد المسلطين ليخدم هناك، إلا أن هذه الأم الحسنة العابدة نحو والدة الإله قد ألزمت ابنها قبل سفره من عندها بأن يعطيها وعداً في أنه كل يومٍ يتلو السلام الملائكي وعند نهاية تلاوته إياه يقول هذه الكلمات وهي: أيتها البتول المباركة عينيني في ساعة موتي. فبعد أن وصل الشاب إلى مكان الخدمة التي مضى ليمارسها قد أتبع طريق الرذيلة وتفتعال المآثم، حتى أن سيده اضطر لأن يطرده من خدمته، ومن ثم لنظره ذاته في تك الحال السيئة عادم القوت الضروري لحياته، شرع كمقطوع الرجا يطوف في البراري لصاً قاتولاً، غير أنه وهو في تلك الظروف لم يكن يتغافل عن إتمام ما كان وعد به أمه ملتجئاً مراتٍ كثيرةً إلى شفاعة أم الرحمة، فأخيراً يوماً ما قبض عليه خدام الشريعة وأعطى ضده حكم الموت، ففي اليوم المتقدم على وضع الحكومة بالعمل إذ كان هو في السجن غائصاً في بحرٍ من الحزن، عند تأمله من جهةٍ أولى شقاوة سيرته وثقل خطاياه وحكومة الموت ضده، ومن جهةٍ أخرى مرارة حزن والدته عند سماعها بموته على هذه الصورة المفضوحة الصيت، فالشيطان لنظره إياه ميؤوساً من شدة الغم قد ظهر له بصورة شابٍ جميلٍ، ودنا منه موعداً إياه بإطلاقه من السجن وبخلاصه من الموت إن كان يفعل كل ما كان هو يريده منه، وإذ وعده الشاب بذلك فحينئذٍ هو أخبره عن ذاته بأنه كان الشيطان وبأنه قد جاء لمعونته، ولكن هذا العدو الجهنمي قد طلب منه قبل كل شيء أن ينكر يسوع وأسرار الديانة المسيحية، فالشاب الشقي قد نكرها، إلا أنه إذ طلب منه الشيطان أن ينكر مريم العذراء فأجابه، كلا، إن هذا الأمر لا يمكن أن أفعله، وحينئذٍ التفت هو أي الشاب نحو والدة الإله قائلاً لها تلك الصلاة التي كان تعلمها من أمه وهي: أيتها البتول المباركة عينيني في ساعة موتي: فعند تلفظه بهذه الكلمة غاب عنه الشيطان، غير أن الشاب بقي مملوءاً من مرارة الحزن على كونه زاد على خطاياه السابقة هذه الأخيرة الأشد شناعةً ونفاقاً من جميعها، وهي نكرانه يسوع المسيح وأسرار ديانته، ولكنه إذ واظب الالتجاء إلى شفاعة الأم الإلهية فهي استمدت له نعمة الندامة على خطاياه كلها، ولذلك قد اعترف في منبر الذمة بها بدموعٍ غزيرةٍ وبتوجعٍ مرٍ، فحينما أخرجه خدام الشريعة بعد ذلك من الحبس ليمضوا به إلى مكان القتل، ففي الطريق إذ شاهد هو أحد تماثيل والدة الإله مجسماً، قد حياها بالسلام الملائكي حسب عادته مضيفاً إليه تلك الكلمات وهي: أيتها البتول المباركة عينيني في ساعة موتي: فالتمثال عند ذلك أحنى له رأسه بنوعٍ قد شاهده الشعب كله، كأن العذراء المجيدة قد سلمت عليه شاكرةً معروفه، فالشاب حينئذٍ ازداد تخشعاً وطلب من الجنود أن يسمحوا له بأن يدنو من ذلك التمثال ويقبل قدمي العذراء ففي الأول توقفوا عن السماح له بهذا، لأنه خارج عن الرسوم إلا أنهم خوفاً من الشعب الذي كان شاهد الأعجوبة وبدأ يصرخ ضدهم، أقادوا الشاب أمام التمثال المقدس، فيا للعجب أنه عندما ناطرح هو مقبلاً قدمي البتول، فهي مدت يدها ومسكته شديداً بنوع أنه لم يعد ممكناً تخليصه منها، فحينئذٍ صرخ الشعب كله: نعمةً نعمةً: وهكذا صار، وأعطيت النعمة للشاب بأنه خلص ناجياً من الموت، فرجع إلى وطنه وأستسار سيرةً مسيحيةً فاضلةً، مستحراً في التعبد لمريم التي أنقذته على هذه الصورة من الموت الزمني ومن الموت الأبدي أيضاً.*
† صلاة †
إنني أخاطبكِ يا والدة الإله العظيمة الشأن بألفاظ القديس برنردوس قائلاً: أن ابنكِ هو سريع الإصغاء إلى طلباتكِ، وكل شيءٍ تسألينه فهو حالاً يعطيكِ إياه، فتكلمي إذاً تكلمي لديه يا مريم شفيعتنا في خيرنا نحن الأشقياء الذليلين، متذكرةً أنكِ إنما حصلتِ منه تعالى مفوضةً هذا السلطان والاقتدار لأجل خيرنا، لأن الله نفسه لهذه الغاية قد صير ذاته مديوناً لكِ مرتضياً بأن يأخذ منكِ الكون متجسداً بالناسوت. لكي تستطيعي حسب مشيئتكِ أن توزعي على المساكين غنى المراحم الإلهية. فنحن هم عبيدكِ ومختصون بنوعٍ متميزٍ بالتعبد لكِ. وفيما بين الآخرين أؤمل أن أكون أنا واحداً منهم، ونحن نفتخر بأننا عائشون تحت كنفكِ فائزين بحمايتكِ، فإن كنتِ أنتِ تصنعين الخير مع الجميع حتى مع أولئك الذين لا يعرفونكِ، أو لا يكرمونكِ بل بالأحرى يهينونكِ ويجدفون عليكِ، فكم من الرجاء يلزمنا نحن أن نؤمل منكِ عنايةً أفضل، ومن جودكِ سخاءً أجزل، ومن رحمتكِ (التي تفتش من تلقاء ذاتها على المحتاجين لتسعفهم) حنواً أعظم بعد أننا نحبكِ ونكرمكِ ونثق بكِ متكلين عليكِ. فأي نعم أننا خطأة جداً. ولكن الله قد أغناكِ بالرأفة وفوضكِ استطاعةً مطلقةً تفوق كثيراً على عدم استحقاقنا. وتسمو بما لا يحد على كثرة خطايانا، فأنتِ تريدين خلاصنا وتقدرين عليه، ونحن بأكثر من ذلك موملونه، وفيكِ مترجون أن نفوز به بمقدار ما نحن غير مستحقين له، لكي نمجدكِ في السماء بأفضل نوعٍ حينما نبلغ إليكِ بواسطة مفعول شفاعتكِ من أجلنا. والآن نحن نقدم لديكِ يا أم الرحمة أنفسنا التي في وقتٍ ما كانت جميلةً مغتسلةً بدم يسوع المسيح. ولكنها فيما بعد قد تدنست بالمآثم، فأنتِ الآن أهتمي في تطهيرها مستمدةً لنا من الله رجوعاً صادقاً إليه تعالى تائبين عن الخطيئة، ومستميحةً لنا نعمة الحب له عز وجل، ونعمة الثبات على الخير، ثم نعمة الخلاص الأبدي، فأي نعم إن مطاليبنا هذه منكِ هي عظيمةٌ، ولكن هل أنكِ لا تقدرين أن تناليها لنا كلها، أو هل أنها هي زائدةٌ بالنسبة للحب الذي يحبكِ به الله، والحال أنه يكفي لذلك أن تفتحي فمكِ متوسلةً لدى أبنكِ، وهو لا ينكر عليكِ شيئاً مهما كان. فتوسلي إذاً يا مريم وصلي من أجلنا، ومن دون ريبٍ أنتِ تنالين ما تطلبينه ونحن نفوز بالخلاص حقاً.*
†
Discussion about this post