كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الرابع
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: إليكِ نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء
* وفيه جزءان*
† الجزء الأول †
كم هي مستعدة مريم الطوباوية لأن تعين من يصرخ إليها
فيا لشقاوتنا نحن الذين إذ كنا أولاداً لأمنا حواء التعيسة. ولأجل ذلك نحن مدنسون أمام الله بجريرة خطيتها نفسها، ومحكومٌ علينا بالعقاب عينه الذي حكم به عليها، فنسير تائهين في وادي الدموع هذا منفين من وطننا، باكين محزونين من قبل أوجاع كثيرة ملمة بأنفسنا وبأجسدنا. ولكن لمغبوطٌ هو ذاك الذي فيما بين هذه الشقاوات يلتجئ مراتٍ مترادفةً إلى معزية العالم، ملجأ المساكين والدة الإله متعبداً لها يدعوها مستغيثاً بها كما قيل عنه: مغبوطٌ الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (أمثال ص8ع34) فتقول مريم مغبوط من يصغي إلى مشورتي، ولا يهمل أن يواظب على الدوام الالتجاء إلى أبواب رحمتي مستغيثاً بشفاعاتي وملتمساً معونتي. فمن ثم تعلمنا حسناً أمنا الكنيسة المقدسة كم يلزمنا أن نلتجئ برجاءٍ واهتمامٍ إلى هذه المحامية عنا المقتدرة المملوءة حباً نحونا، راسمةً علينا نحن أولادها بأن تكون عبادتنا خصوصيةً نحو هذه الكلية القداسة ومتميزةً جداً، وأمرتنا بأن نحتفل في مدار السنة بأعيادٍ كثيرة لتكريمها، وبأن يوماً واحداً من كل سبتٍ يكون مختصاً بها ومكرساً بنوعٍ خاص لأجلها، وبأن جميع الأكليروس العلماني والقانوني يتلون يومياً في الفرض الإلهي نيابةً عن الشعب المؤمن كافةً الكلمات المختصة بالاستغاثة بها وباستدعائها لمعونتنا، وبأن ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أي صباحاً وظهراً ومساءً عند قرع الناقوس يحييها المؤمنون بالسلام الملائكي. ثم لقد كان يكفي لكي يفهم ذلك واضحاً أن يصير التأمل في أن كل مرةٍ تحدث الشدائد العمومية. فدائماً تمارس الكنيسة الطلبات والسهرات والزيحات وزيارات المعابد والأيقونات المختصة بهذه السيدة الجليلة، التي إنما تريد هي منا هذه العبادات ليس كأنها محتاجةٌ إليها، ولا تكريماً لشخصها ترغب هكذا أن ندعوها باتصالٍ ونستغيث بها، لأن هذه جميعها هي شيء جزءي حقير بالنسبة إلى شرفها ومقامها الكلي العظمة، بل لكي ينمو فينا نحوها الرجاء وحسن الاتكال وحرارة العبادة والحب، وبذلك يمكنها هي أن تسعفنا بأبلغ نوع وتعزينا. كما يقول القديس بوناونتورا هكذا: إنها هي تطلب أولئك الذين يقدمون إليها بحسن عبادةٍ وباحترامٍ لأنها تحب هؤلاء وتعولهم وتقبلهم بصفة بنين لها:.*
ثم يقول القديس بوناونتورا عينه: أن الامرأة راعوث التي يفسر اسمها ناظرةً ومسرعةً كانت رسماً لمريم البتول، على أن مريم هذه المجيدة إذ تنظر حال شقاوتنا وذلنا وأعوازنا فتسرع مهتمة في أن تسعفنا برحمتها: وكذلك نوفارينوس يضيف إلى هذا قائلاً: أن مريم لأجل رغبتها وأشواقها إلى عمل الخير معنا، لا تعرف أن تتأخر أصلاً عن ذلك، ومن حيث أنها لم تكن بخيلةً في حفظها أنهامها، فبحسب كونها أم الرحمة لا تقدر أن تمسك ذاتها عن أن تسكب بكل سرعةٍ ممكنةٍ على عبيدها خزائن سخائها.*
فيا لحسن استعداد هذه الأم الصالحة لإسعاف من يستدعيها لمعونته، كما قيل عنها: ثدياكِ كخشفي ظبيةٍ توأمين: (نشيد ص4ع5) فريكاردوس الذي من سان لورانسوس إذ يفسر هذه الكلمات يقول: أن ثديي مريم هما مهيئان لأن يفيضا بسرعةٍ لبن الرحمة لكل من يلتمسها نظير أسراع خشف الظبية: ثم أن المعلم المذكور يؤكد لدينا أن رأفة مريم تباح منها نحو كل أحدٍ يستمدها. ولئن لم يكن يستعمل هو نحوها في التماسه الرحمة تضرعاتٍ أو ابتهالاتٍ أخرى سوى السلام الملائكي، ولذلك يشهد نوفارينوس بأن مريم لا تسرع فقط بل تطير أيضاً لمساعدة من يستغيث بها، فهي عند استعمالها الرحمة لا تعرف أن تبتعد عن أن تتشبه بإلهها، فكما أن الرب يسوع كأنه طائرٌ ليعين حالاً أولئك الذين يستمدون منه الإسعاف، لأنه كلي الأمانة في إتمام مواعيده التي وعدنا بها قائلاً: أسألوا تعطوا: فهكذا مريم حينما تستدعى فحالاً توجد حاضرةً لأن تعين من يستغيث بها متضرعاً: وبهذا يفهم من هي تلك الامرأة التي قيل عنها في الأبوكاليبسي (ص12ع14) هكذا: فأُعطيت الامرأة جناحي نسرٍ عظيم لتطير إلى البرية. فالمعلم ريبايرا يفسر ذلك بأن هذين الجناحين هما الحب الذي به مريم البتول طارت إلى الله: إلا أن الطوباوي أماديوس يقول: أن هذين الجناحين اللذين هما جناحا النسر يفسران السرعة الكلية التي إذ تفوق بها مريم على خفة جولان السيرافيم أنفسهم فتسعف من ثم أولادها على الدوام بمعوناتها:*
فلأجل ذلك إذ يخبرنا القديس لوقا البشير في الإنجيل المقدس، عن سفر الطوباوية مريم لزيارة نسيبتها القديسة أليصابات، ولكي تملأ تلك العيلة كلها من النعم، لم تستعمل الإبطاء في مسيرها، بل كما يقول هذا الإنجيلي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً إلى الجبل إلى مدينة يهوذا: (لوقا ص1ع39) الأمر الذي لا يذكر أنها فعلته عند رجوعها، ولذلك يقال عن مريم: أن يديها هما مخروطتان من ذهب: (نشيد ص5ع14) فيقول ريكاردوس: أنه كما أن الأعمال التي تمارس بواسطة صنعة الخراطة هي الأكثر سهولةً وسرعةً في إنجازها، فهكذا مريم هي الأكثر استعداداً وسرعةً من جميع القديسين في إعانة المتعبدين لها وفي إسعافهم: فهي حاصلةٌ على أشواقٍ عظيمةٍ دائماً لتعزية الجميع، وحالما تسمع صوت من يستغيث بها، فعلى الفور تقتبل التضرع وتقضي الحاجة بكل انعطافٍ (حسبما يقول بلوسيوس) فبالصواب إذاً يسميها القديس بوناونتورا: خلاص من يستغيث بها: مريداً أن يعني بأن من يشاء أن يفوز بالخلاص، فيكفيه أن يلتجئ إلى هذه الأم الإلهية التي على قول ريكاردوس أنها تهيئ ذاتها دائماً لإسعاف من يدعوها. لأن برنردينوس البوسطي يورد: أن هذه السيدة العظيمة تشتهي أن تهبنا نعماً أشد اشتهاءً من رغبتنا نحن أن نقبل النعم لذواتنا.*
ثم إن كثرة خطايانا لا ينبغي أن تضعف رجانا في أن تستجيب مريم طلباتنا حينما نلتجئ لدى قدميها. فهي أم الرحمة، والحال أن الرحمة لا يعود لها مكانٌ عندما لا يوجد معوزون يفتقرون إليها. ومن ثم كما أن الأم الصالحة لا تأنف مستكرهةً من أن تضع دواءً شافياً لابنها المبتلي بداء الجرب، ولئن كانت مداواته صعبةً محركةً إلى الاستكراه والنفور، فهكذا أمنا هذه الحنونة لا تعرف أن تهملنا حينما نستغيث بها، ولئن كانت وافرةً هي نتانة خطايانا التي تشفينا هي منها. فهذا هو ما يورده ريكاردوس، وهذا ما قد قصدت أن تشير إليه هذه الأم الإلهية نفسها حينما أظهرت للقديسة جالتروده، كيف أنها كانت تبسط برفيرها لكي تقتبل تحت حمايتها كل من يأتي إليها، وحينئذٍ قد فهمت هي أي القديسة جالتروده أن الملائكة كافةً يهتمون في أن يحاموا عن المتعبدين لمريم ضد قوات الجحيم.*
فبهذا المقدار هي عظيمةٌ الرأفة الكائنة في قلب هذه الأم الصالحة نحونا، وهكذا هو شديدٌ الحب الذي تحبنا به، حتى أنها لا تنتظر تضرعاتنا لتعيننا. فقيل في سفر الحكمة (ص6ع14): أنها هي تبادر إلى من يشتهيها وتظهر لهم هي أولاً: فالقديس أنسلموس يخصص هذه الكلمات بمريم، ويقول أنها هي تسبق وتبادر لتعضد الذين يشتهون حمايتها، وبذلك يلزمنا أن نفهم أنها هي تستمد لنا من الله أنعاماً كثرةً قبل أن نطلبها نحن منها. ولهذا يقول ريكاردوس الذي من سان فيتورة: أن مريم تسمى قمراً، لأنها هي ليس فقط مثل القمر قريبةً منا وسريعة الإجابة لمن يستغيث بها، بل بأكثر من ذلك هي محبةٌ خيرنا بهذا المقدار حتى أنها في احتياجاتنا تسبق هي تضرعاتنا، ورحمتها هي مستعدةٌ لإعانتنا أكثر من حركتنا نحن لأن نستمد منها الرحمة. وهذا إنما يصدر (يتبع قوله ريكاردوس عينه بقوله) من قبيل أن صدر مريم هو مملوء من الرأفة والإشفاق. ولذلك حالما تشعر هي باحتياجاتنا فلا يتأخر هذا الصدر السخي عن أن يفيض حالاً لبن الرحمة، لأن هذه الملكة الحنونة لا تقدر أن تعلم افتقار نفس أحدٍ إلى الإسعاف ووجودها في حال الضرر ولا تمد هي يدها لمعونتها وقضاء حاجتها.*
فهذه الأم الرؤوفة من حينما كانت عائشةً على الأرض، قد أعطتنا هذا البرهان أيضاً، فيما بين البراهين الأخرى الدالة على أنها هي نفسها من شدة إشفاقها علينا تسبق، وتهتم في سد أعوازنا وإسعافنا في احتياجاتنا قبل أن نتوسل إليها، والبرهان هو المورد عنها من القديس يوحنا الإنجيلي في الإصحاح الثاني من بشارته في خبرية عرس قانا الجليل، أي أن هذه الأم الشفوقة عندما شاهدت حينئذٍ الغم الحاصل للعروس ولعروسته، من قبل نقص الخمر من ذلك العرس إذ لم يعد لهما استطاعة على إحضار خمرٍ آخر لأهل الوليمة بعد نهاية الخمر الأول، ومن ثم استحوذ عليهما الخجل من المجتمعين إلى العرس، فتحركت هي إلى الشفقة عليهما من دون أن يلتمسا منها إعانةً ما، بل بمجرد نظرها إياهما في تلك الحال وأسرعت لإسعافهما، لأنها لا تقدر أن تشاهد أحداً معوزاً ولا تبادر لمساعدته، فلهذا توسلت إلى ابنها يسوع بأن يعزيهما مخبرةً إياه بأحتياجهما وقائلةً: أن ليس عندهم خمرٌ: فبعد هذا لكي يعزي مخلصنا تلك الجمعية وبنوع خاص لكي يرضي قلب والدته المملوء حنواً نحوهم قد صنع الأعجوبة المشهورة بإحالته إلى خمرٍ الماء الموعب في الأجاجين. فهنا نوفارينوس يبرهن مستنتجاً بأنه: إن كانت مريم هي مستعدةً بهذا المقدار لأن تسعف المحتاجين الذين لم يلتمسوا منها الإعانة، كما تم في الحادث المذكور، فكم هي بأبلغ نوعٍ وبأعظم إشفاقٍ مستعدةٌ دائماً لأن تعزي من يستغيث بها. ويلتجئ إليها ملتمساً منها المعونة.*
ومن ثم البابا أينوشانسيوس الثالث يوبخ ذاك الإنسان الذي يدخله الريب في مساعدة هذه السيدة إياه مبرهناً بقوله: أترى ممكنٌ هو أن يوجد في الكون إنسانٌ ألتمس من هذه السيدة العذبة مريم المجيدة معونةً ولم تسعفه هي. وكما يقول الطوباوي أوتيكيانوس: ترى من هو ذاك الذي يلتجئ اليكِ أيتها البتول الطوباوية بأمانةٍ، ويرجع خازياً مهملاً من حمايتكِ وعنايتكِ التي تقدر أن تعين كل أحدٍ من الأشقياء البائسين. وتخلص الخطأة الميؤوسين والأكثر خطراً للهلاك. فهذا الحادث ما أتفق قط ولن يكون أبداً وهو أن ترفضي أحداً من المتكلين عليكِ. ويقول القديس برنردوس: أنني أرتضي كل الرضا بأن لا يعود يتكلم خيراً ولا يمدح رحمتكِ أيتها البتول القديسة. ذاك الذي يكون استغاث بكِ في احتياجاته ويفتكر بأنه لم ينل منكِ الاهتمام بقضاء حاجته، هذا أن أمكن أن يوجد إنسانٌ كذا.*
وبأشد بلاغةٍ يقول العابد بلوسيوس: إنه لأسهل هو أن تخرب السماوات والأرض، من أن مريم ترفض أن تعين من يتضرع إليها بنيةٍ صالحةٍ طالباً مساعدتها وواثقاً بها برجاءٍ ثابت: ثم أن القديس أنسلموس يضيف إلى ذلك ما يزيد اتكالنا واعتمادنا على هذه السيدة الرحومة بقوله: إننا عندما نلتجئ إلى هذه الأم الإلهية يلزمنا ليس فقط أن نكون مطمأنين في مفاعيل حمايتها إيانا، بل أيضاً إننا بعض الأحيان نصدق أن طلبتنا تقبل ونفوز بالخلاص بأكثر سرعةٍ بالتجائنا إلى مريم مستغيثين باسمها المقدس، من أن نستغيث بأسم يسوع مخلصنا، والسبب في ذلك أي بمصادفتنا الخلاص بأوفر سرعةٍ بالتجائنا إلى الأم مما بالتجائنا إلى الابن هو، لا كأن مريم هي أكثر اقتداراً من ابنها الإلهي على خلاصنا، إذ أننا نعلم أن يسوع هو مخلصنا الوحيد، الذي باستحقاقاته هو فقط قد اكتسب ويكتسب لنا الخلاص، بل من حيث أننا إذ نتقدم إلى يسوع بالالتجاء، ونتأمل وقتئذٍ في كيف أنه هو دياننا أيضاً المختص به أن يعاقب الخائنين ناكرين الجميل. فيمكن أن ينقص فينا من ثم حسن الرجاء الضروري لنوال مطلوباتنا، إلا أننا حينما نتقدم إلى مريم التي لم تكن لها وظيفةٌ أخرى سوى أن تشفق علينا بحسب كونها أم الرحمة، وأن تحامي عنا بحسب كونها شفيعتنا، فيبان أن رجانا وثقتنا واتكالنا يكون بأوفر طمأنينةٍ وبأعظم ثباتٍ: على أنه يتفق ليس نادراً أن أشياء كثيرةً تلتمس من الله فلا تعطى، وتلتمس من مريم فتعطى، فكيف يكون هذا، فيجيب نيكيفوروس: بأن هذا يحدث لا كأن مريم هي أعظم استطاعةً وقدرةً من الله، بل لأن الله نفسه قد حكم ورسم بأن يكرم والدته على هذه الصورة.*
على أنها لذيذةٌ ومسرةٌ هي المواعيد التي وعد الرب عينه بأن يصنعها وهي أنه يقرأ في الرأس الثمانين من الكتاب الأول من الأوحية الصائرة للقديسة بريجيتا، أنه يوماً ما قد سمعت هذه القديسة يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: اطلبي مني يا أمي كل ما تريدين لأني لا أنكر عليكِ أعطاء شيءٍ ما من جميع ما تسألينه، واعلمي أن كل أولئك الذين يطلبون مني شيئاً من النعم حباً بكِ. حتى ولئن كانوا خطأة بحيث أن تكون فيهم إرادةٌ للرجوع عن الخطيئة، فأنا أعدهم بأن أستجيب لهم: وهذا نفسه قد أوحى به إلى القديسة جالترودة حينما سمعت مخلصنا عينه قائلاً لوالدته، بأنه بحسب قدرته الضابطة الكل قد منح أن يستعمل الرحمة مع أولئك الخطأة الذين يستغيثون بها، بأي نوعٍ وطريقةٍ تشاء هي أستعمال الرحمة معهم. فليقل اذاً كل أولئك الذين يستدعون مريم أم الرحمة لمعونتهم برجاءٍ عظيم، ما كان يقوله نحوها القديس أوغوسطينوس هكذا: اذكري أيتها السيدة الرؤوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني إن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان التعيس الأول. أي بعد أن ألتجئ إليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ فارغاً:*
* نموذجٌ *
فالقديس فرنسيس سالس قد أختبر في ذاته حسناً مفاعيل الصلاة المقدم ذكرها، كما يورد في الرأس الرابع من الكتاب الأول من سيرة حياته. على أن هذا القديس قد كان في السنة السابعة عشرة من عمره تقريباً مقيماً في مدينة باريس مهتماً في درس العلوم. في الوقت عينه الذي فيه كان غرامه ولذته الانعكاف على أفعال التعبد والحب المقدس لله، الأمر الذي وجد لديه نعيماً فردوسياً على الأرض. فالباري تعالى لكي يختبره بأفضل نوعٍ ويضمه بأشد تعلقٍ نحو حبه، قد سمح بأن الشيطان يصور له مجيِّداً في عقله أن جميع ما كان هو يمارسه من الخير لم يكن يفده بتةً، من حيث أنه هو بموجب سابق علم الله وحكمه أحصي في عدد المرذولين، فتبرقع العقل واليبس الروحي اللذان تركه فيهما الله بإرادةٍ مقصودةٍ في هذا الزمن عينه، حتى أنه كان يوجد حينئذٍ هو عديم الحس في جميع التصورات الأكثر عذوبةً، التي كانت تستحضر منه في شأن خيرية صلاح الله وجوده الغير المتناهي، قد أوقعاه بزيادة الحزن، وأعطيا التجربة قوةً أعظم لأن تفعم جوف هذا الشاب مرارةً علقميةً، بنوع أنه لخوفه وارتيابه المومى إليهما قد عدم شاهية الأكل، وفقد راحة النوم، وتغيرت سحنة وجهه، وابتعدت عنه إمارات التعزية والفرح متى أن كل من يراه في تلك الحال لم يكن يمكنه ألا يتوجع له من أجلها*
ففي مدة دوام هذه الزوبعة المهيلة لم يكن يعلم هذا القديس أن يفتكر في شيءٍ آخر أو أن يفه بكلمات أخرى سوى فيما يزيده توجعاً وغماً وضعف رجاءٍ، ومن ثم كان يقول هكذا: فإذاً أنا سأكون معدوماً نعمة إلهي الذي فيما مضى قد أظهر لي ذاته بهذا المقدار موضوعاً شهياً للحب والعذوبة، فيا أيها الحب ويا أيها الجمال اللذان أنا كرست لكما عواطف قلبي كلها فهل لا أعود أتمتع بعد بتعزياتكما، يا والدة الإله العذراء أيتها الفائقة جمالاً على بنات أورشليم كلهن. أهل أنني لا أقدر إذاً أن أشاهدكِ في الفردوس السماوي، آواه أيتها السيدة أن كنت أنا لست بعتيدٍ أن أرى وجهكِ الكلي الجمال، فقلما يكون لا تسمحي بأني في جهنم ألعنكِ وأجدف عليكِ: فهذه الأقوال كانت حينئذٍ ثمرة انفعالات قلبٍ نعم أنه مغرم في الحب لله وللبتول الطوباوية، إلا أنه مفعمٌ من الحزن الشديد. فالتجربة المذكورة قد استمرت مستحوذةً على هذا البار مدة شهرٍ كاملٍ، الا أن الرب قد تنازل أخيراً لأن يمنجيه منها بواسطة معزية العالم مريم الكلية القداسة. التي كان قبلاً هذا القديس كرس بتوليته تكريماً لها، وكان من عادته أن يقول أنه وضع فيها رجاه كله، فيوماً ما عند رجوعه مساءً نحو مكان سكناه قد دخل الى كنيسةٍ، وهناك شاهد لوحاً معلقاً على الحائط مكتوبةً فيه الصلاة السابق ذكرها المقالة من القديس أوغوسطينوس وهي: أذكري أيتها السيدة الرؤوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان الأول التعيس، أي بعد أن ألتجئ إليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ مرذولاً: فتقدم القديس فرنسيس أمام هيكل والدة الإله في تلك الكنيسة وتلى هذه الصلاة بعواطف حبٍ مضطرم، وجدد هناك نذر حفظ البتولية لهذه الأم الإلهية موعداً بأن يتلو يومياً مسبحتها الوردية. ثم أضاف إلى ذلك جميعه قائلاً: كوني محاميةً عني يا ملكتي لدى أبنكِ الذي أنا لا أجسر أن ألتجئ إليه، فإن كنت أنا التعيس يا أمي لا أستطيع في العالم الآتي أن أحب سيدي الذي أنا أعلم أنه بهذا المقدار هو مستحقٌ أن يحب، فقلما يكون أستمدي لي أنتِ هذه النعمة وهي أن أحبه تعالى في هذا العالم أعظم حباً أقدر عليه. فهذه الموهبة أطلبها منكِ وأرجو نوالها: قال هذا وأسلم ذاته بكليتها بين يدي الرحمة الإلهية خاضعاً كل الخضوع لمشيئة الله. ولكن عندما أنهى صلواته المقدم ذكرها قد خلصته حالاً أمه الإلهية الكلية العذوبة من تلك التجربة، وفاز بالسلام الباطن تماماً ومعاً شفي من مرضه الجسدي، ومن ثم داوم مستسيراً بحسن العبادة لمريم التي بعد ذلك لم يعد يكفف مدة حياته كلها، عن أن يذيع تسابيحها ومدائحها ومفاعيل رحمتها وينذر بها في مواعظه وتأليفاته الجليلة.*
† صلاة †
يا والدة الإله ملكة الملائكة ورجاء البشر أنصتي إلى من يدعوكِ وأصغي إلى من يناجيكِ. فهوذا أني اليوم منطرحٌ على قدميكِ أنا الشقي المستأسر من الجحيم. مريداً أن أكرس ذاتي عبداً لكِ على الدوام موعداً بأن أخدمكِ وأكرمكِ في جميع أيام حياتي بكل استطاعتي. فأنا ألاحظ جيداً أن عبودية أسيرٍ هكذا دنيءٍ عاصٍ مثلي لا تكرمكِ، إذ أني قد أهنت كثيراً ابنكِ ومخلصي يسوع، ولكن أنتِ إذا قبلتِ عبداً لكِ أسيراً عديم الاستحقاق، وبواسطة شفاعاتكِ غيرتِ حاله السيئة مصيرةً إياه أهلاً لخدمتكِ، فرحمتكِ هذه عينها المستعملة منكِ نحوه بهذا النوع تعطيكِ الكرامة التي أنا الحقير الذليل لا أقدر أن أكرمكِ بها. فأقبليني إذاً ولا ترفضيني يا أمي، فالكلمة الأزلي قد أنحدر من السما إلى الأرض ليطلب هذه الأغنام الضالة، وإذا أراد أن يخلصها قد صيركِ أمه بتجسده منكِ، أفهل أنكِ تحتقرين خروفاً من هذه الأغنام يلتجئ إليكِ لكي يجد بواسطتكِ يسوع. فالثمن قد دفع لأجل خلاصي من الأسر ولنوالي الحياة الأبدية. لأن مخلصي قد سفك دمه الذي هو كافٍ لأن يفدي عوالم غير متناهي عددها. ولم يعد باقياً سوى أن استحقاقات هذا الدم تتخصص بي أنا أيضاً. ولكن كما يقول لي القديس برنردوس أنه متعلقٌ بكِ أيتها البتول المباركة. أن توزعي الاستحقاقات المذكورة على من تريدين. ومختصٌ بكِ كرأي القديس بوناونتورا أيضاً هو أن تخلصي من تشائين. فإذاً عينيني يا ملكتي وخلصيني يا سلطانتي، فأنا أسلمكِ نفسي الآن بجملتها. وأنتِ أفتكري في أمر خلاصها، فيا خلاص من يستغيث بكِ حسبما يقول القديس المذكور عينه أنتِ خلصيني. آمين.
†
Discussion about this post