الفصل الثالث
السلام عليك يا رجانا
وفيه جزءان
† الجزء الأول †
في أن مريم البتول هي رجاء الجميع
أن الأراتقة المتأخرين لا يستطيعون أن يحتملوا منا أن نسلم على والدة الإله. بتسميتنا إياها رجانا. ويقولون أن الله وحده هو رجاؤنا. وأن من يصنع رجاءه في الخليقة فهو ملعون من الله عينه على لسان أرميا النبي القائل: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (ص17ع5) فيصرخون بأن مريم هي مخلوقةٌ. فكيف يمكن للخليقة أن تكون رجانا هذا ما تقوله الأراتقة. ولكن مع ذلك فالكنيسة المقدسة تريد أن كلاً من الكنائسين ومن الرهبان يرفع صوته نيابةً عن المؤمنين كافةً، ويستدعي مريم بهذا الإسم الحلو قائلاً: السلام عليكِ يا رجانا أجمعين:*
فالقديس توما المعلم الملائكي يبين أنه على نوعين يمكننا أن نضع رجانا في شخصٍ ما، وهما بحسب كونه علةً أصليةً وبحسبما هو علة الواسطة، فأولئك الذين يرجون من الملك نعمةً ما فيرجونها منه بحسبما هو سيدٌ مطلقٌ، ثم يرجونها من أحد وزرائه أو من أحد المحبوبين لديه، بحسبما هو شفيعٌ ووسيطٌ عند الملك في نواله إياها لهم، فاذا منحت تلك النعمة، فتكون منحت من الملك بحسبما هو علةٌ أصليةٌ، ولكنها إنما تتصل الى المنعم عليهم بها بواسطة الشخص المقبول لديه، ومن ثم ليس من دون حجةٍ، ذلك الذي يطلب النعمة يسمي الرجل المتوسط والمتشفع في نوالها رجاءه. فالملك السماوي الذي هو الجودة المحضة الغير المتناهية، يرغب جداً أن يغنينا بخيرية صلاحه وبأنعامه، ولكن من حيث أنه من قبلنا أمرٌ ضروري لذلك هو أن يوجد فينا الرجاء وحسن الإتكال، فلكي يمني عز وجل فينا هذا الأمل والثقة، قد أعطانا والدته عينها أماً وشفيعةً ووسيطةً، مانحاً إياها كل الأستطاعة في أن تسعفنا وتعيننا، ولهذا يريد تعالى الى أن نضع فيها وعليها رجاء خلاصنا الأبدي وأمل كل خيرنا، أما أولئك الذين يضعون رجاهم في المخلوقات فقط، من دون أن يكون هذا الرجاء متعلقاً بالله وراجعاً اليه، كما يفعل الخطأة الذين يكتسبوا الصداقة والخير لذواتهم من إنسانٍ ما فيرتضون بأن يغيظوا الله، فهؤلاء هم بالحقيقة ملعونون من الله، كما يقول أرميا النبي، وأما أولئك الذين يرجون مريم واضعين فيها رجاءهم بحسب كونها والدة الإله، المقتدرة على أن تستمد لهم منه جلت خيرية صلاحه النعم والحياة الأبدية. فهؤلاء هم مباركون، وبذلك يسرون قلب الله، الذي يريد أن يشاهد بهذا المقدار مكرمةً من خليقته، تلك المخلوقة التي أحبته في هذا العالم أكثر من جميع البشر والملائكة.*
فمن ثم نحن بكل صوابٍ وعدلٍ نسمي هذه البتول القديسة رجانا، اذ نرجوا أن ننال بواسطة شفاعتها، ذاك الشيء الذي لا يمكننا أن نناله بواسطة مجرد صلواتنا (كما قال الكردينال بالارمينوس) ثم يقول القديس أنسلموس: انما نتوسل الى العذراء حتى أن علو مقام هذه المتشفعة عنا يكمل نقصنا ويسد عن دناءتنا وعدم استحقاقنا. وأن تقديم تضرعاتنا للبتول القديسة برجائنا فيها ليس هو قطع الرجاء من رحمة الله، بل هو خوفٌ من نقص أستعدادنا وتأهبنا.*
فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ، الكنيسة المقدسة تخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في حكمة ابن سيراخ وهي: أنا هي أم الرجاء المقدس: (ص24ع24): وانما تدعوها بهذا اللقب، لأنها تصير أن يتلد فينا الرجاء ولكن لا الرجاء في خيرات هذه الأرض الفاسدة العابرة، بل الرجاء المقدس في خيرات الحياة الأبدية، أي الخيرات المغبوطة العديمة الفناء والفائقة الإدراك. فالقديس أفرام السرياني (في مديحه على البتول المجيدة) يحيي هذه الأم المباركة هكذا قائلاً: السلام عليكِ يا رجاء نفسي، يا خلاص المسيحيين الأكيد، يا غياث الخطأة ومعونتهم، يا حماية المؤمنين وملجأهم، يا خلاص العالم: والقديس باسيليوس الكبير ينبهنا على أنه بعد الله لم يكن يوجد لنا رجاءٌ ما في أحدٍ، الا في مريم العذراء ولذلك كان يدعوها هكذا: يا رجانا الوحيد بعد الله: والقديس أفرام في المكان المذكور آنفاً، بعد أن يتأمل في ترتيب العناية الإلهية الحاضر الذي به رسم الله (كما يقول القديس برنردوس، وحسبما نحن مزمعون أن نبين ذلك في محله) أن كل أولئك الذين يفوزون بالخلاص. فيحلصون عليه بواسطة مريم البتول، يهتف نحوها هكذا مخاطباً: أيتها السيدة لا تهملي أن تحفظينا، وأن تضعينا تحت ذيل حمايتكِ، لأنه بعد الله ليس لنا رجاءٌ آخر سواكِ. وهذا عينه يقوله القديس توما الفيلانوفي مسمياً إياها: ملجانا الوحيد، وعوننا الفريد، وحمايتنا وحصننا الوطيد.*
ويبان أن القديس برنردوس يشير عن العلة في ذلك بقوله: تأمل يا أنسان الرسم الإلهي، الذي قد صنعه الله، ليوزع علينا بواستطه رحمته بأكثر سخاءٍ وبأوفر طلاقةٍ، لأنه اذ أراد أن يفدي الجنس البشري، فقد وضع قيمة الفداء كلها في يد مريم لكي توزعه هي حسبما تشاء وتحب.*
فالباري تعالى قد أمر نبيه موسى بأن يصنع المغتفر كله من ذهبٍ نقي، مبيناً له أنه من فوق المغتفر كان مزمعاً أن يخاطبه، كما هو مدون في سفر الخروج (ص25ع17ع22) هكذا: وتصنع موضع الغفران من ذهبٍ نقي… ومن هناك أنا أوصيك وأكلمك من فوق الغشاء. فيقول أحد العلماء (وهو باجيوكالي): أن هذا المغتفر هو مريم الطوباوية، التي بواسطتها يكلم الله البشر، ومن هناك يهبنا الغفران والنعم والعطايا: ولذلك يقول القديس ايريناوس (في الرأس33 من كتاب3 ضد فالنتينانوس): أن الكلمة الإلهي قبل أن يتجسد في أحشاء مريم، قد أرسل اليها رئيس الملائكة جبرائيل، لكي يطلب رضاها بذلك، لأنه أراد أن من مريم يبلغ الى العالم سر التجسد: ومن ثم يقول أيديوطا: أن الخيرات كلها، والمعونات بأسرها، والنعم كافةً، التي أقتبلها من الله البشريون فيما مضى، والعتيدون أن يقتبلوها الى حين نهاية العالم، فهذه كلها قد أتصلت وتتصل اليهم بواسطة شفاعات مريم وبوساطتها: فاذاً ليس من دون حجةٍ راهنةٍ يهتف بلوسيوس المتعبد لها صارخاً: ترى من هو ذاك الأحمق والتعيس معاً الذي لا يحبكِ يا مريم، أنتِ التي هي بهذا المقدار موضوعٌ شهي للمحبة، وحسنة المكافأة لمحبيكِ، فأنتِ في حال الشك والأرتياب والقلق، تنيرين عقول أولئك الذين يلتجئون اليكِ حين شدائدهم، وتعزين الحزان الذين يتكلمون عليكِ عند وجودهم في الأخطار، وتسعين كل من يدعوكِ مستغيثاً بكِ، فأنتِ هي بعد أبنكِ الإلهي خلاص عبيدكِ الأمنا الأكيد، فالسلام عليكِ اذاً يا رجا الميؤوسين، يا معونة المهملين، أنكِ لقادرةٌ على كل ما تشائين يا مريم، لأن أبنكِ يريد أن يكرمكِ بصنيعه حالاً كل ما تريدينه منه.*
والقديس جرمانوس لمعرفته أن مريم هي بمنزلة ينبوعٍ لكل خيرٍ، وعلة للنجاة من كل شرٍ، فيستدعيها لمعونته قائلاً هكذا: يا سيدتي أنكِ أنتِ هي السند الوحيد المعطى لي من الله، وأنتِ قيادي ورشدي في مدة غربتي هذه، وأنتِ قوةٌ لضعفي، وغنى عظيم لفقري ومسكنتي. ونجاةٌ لي من قيودي، وأنتِ هي رجاء خلاصي. فأتضرع إليكِ بأن تستجيبي طلباتي، وبأن تشفقي على تنهداتي، اذ أنكِ أنتِ هي ملكتي وملجأي وحياتي، ومعونتي ورجائي وحمايتي وحصني.*
ثم بالصواب اذاً يخصص القديس أنطونينوس بهذه السيدة، الكلمات المدونةفي سفر الحكمة وهي: قد جاءتني الخيرات كلها معها: (ص7ع11) قائلاً: فمن حيث أن مريم هي والدة الإله وموزعة كل الخيرات، فيمكن حسناً أن يقول العالم، وبنوعٍ أخص أولئك الذين في العالم يحيون متعبدين لهذه الملكة. أنهم جملةً مع العبادة لها قد فازوا بالخيرات كلها: ومن ثم يقول الأنبا جالانسه قولاً مطلقاً: أن من يصادف مريم فيصادف كل الخيرات والنعم والفضائل: لأنها تستمد هي له بواسطة شفاعاتها المقتدرة، كل شيء يحتاج اليه لأن يصير غنياً بالنعمة الإلهية. فهي توضح لنا أنها حاويةٌ عندها خزائن غنى الله، أي الرحمة الإلهية. لكي توزعها في أسعافات محبينها: فعندي الغنى والمجد وأقتناء العظمة والعدل… لكيما أغني الذين يحبونني: (أمثال ص8ع18ع21) ولهذا كان يقول القديس بوناونتورا: أنه يلزمنا جميعاً أن نرفع أعيننا دائماً الى يدي مريم. لكي نقتبل بواسطتها ذاك الخير الذي نبتغيه.*
فكم وكم من المتكبرين قد أقتنوا بواسطة عبادتهم لمريم فضيلة التواضع، والغضوبون الحلم، والعميان النظر، والميؤوسون الرجاء والهالكون الخلاص! وهذا هو بالحصر الأمر الذي سبقت هذه البتول الطوباوية، وقالته هي نفسها في بيت نسبيتها القديسة أليصابات، حينما تلفظت بتلك التسبحة الجليلة قائلةً: فها منذ الآن يعطيني الطوبى سائر الأجيال” (لوقا ص1ع48) فهذه الكلمات اذ كررها القديس برنردوس في عظته الثانية على العنصرة قد قال: هوذا أن الشعوب كلهم يدعونكِ طوباويةً. لأنكِ أعطيتِ الشعوب كافةً الحيوة والمجد، لأن الخطأة بكِ يصادفون الغفران والصديقين بكِ يجدون الثبات في حال نعمة الله. ومن ثم يقول الرجل العابد لانسبارجيوس، مصيراً كأن الرب يخاطب البشر هكذا: أيها الناس المساكين أولاد آدم العائيشون فيما بين أعداءٍ كثيرين، والمحاطون من كل ناحيةٍ بالشدائد والأحزان، أجتهدوا في أن تكرموا بعبادةٍ خصوصيةٍ وبمحبةٍ متقدةٍ والدتي وأمكم. لأني أنا قد منحت العالم هذه الأم نموذجاً، لكي تتعلموا منها أن تعيشوا كما يجب عليكم، أعطيتكوها ملجأً، لكي تسرعوا اليها مستغيثين بها في أحزانكم، فأنا خلقت هذه الأبنة بالصفات الحاصلة هي عليها. بنوع أنه لا يوجد أحدٌ يخاف من أن يتقدم اليها، أو أنه يمسك ذاته عن الأستغاثة بها، ولذلك قد كونتها بخلقةٍ ذات أشفاقٍ وتعطفٍ ورحمةٍ بهذا المقدار من الكمال، حتى أنها لا تعرف أن ترفض أحداً أو تأنف منه، أم تتغاضى عنه من الملتجئين اليها، ولا تعلم أن تنكر أحسانها على أحدٍ مطلقاً من الطالبين معونتها، فهي دائماً توجد باسطةً رداء رحمتها، ولا تسمح بأن يمضي أحدٌ من أمام قدميها غير معتزٍ: فلتكن اذاً على الدوام مباركةً خيرية صلاح إلهنا الغير المتناهية. على إيهابه إيانا هذه الأم الإلهية والمحامية الشفوقة الكلية الحب.*
ثم أن القديس بوناونتورا المغرم بشدة الحب ليسوع المسيح ولوالدته المجيدة يقول هكذا:” أنه ولو أن الرب قد رذلني حد الرذل، فأنا أعلم أنه لا يمكنه أن يرفض من يحبه ومن يطلبه من كل قلبه، فأنا أمسكه بحبي إياه ولا أطلقه أن لم يباركني، وهو من دوني لا يمكنه أن يبتعد عني، فاذا لم أقدر أن أفعل شيئاً آخر، فقلما يكون أختفي في جراحاته، واذ أكون هناك، فهو لا يستطيع أن يراني خارجاً عن ذاته”. وأخيراً يضيف الى ذلك هذا القول: فأن كان مخلصي يطردني من أمام قدميه بسبب خطاياي. فحينئذٍ أنا أنطرح على قدمي والدته مريم، وهناك أستمر جاثياً من دون أن أفارقها، أ، لم تستمد هي لي الغفران، لأن أم الرحمة هذه لا تعرف، بل وقط لم تعلم أن لا تشفق على المساكين البائسين، أو لا تعضد المستغيثين بها المضنوكين المستمدين منها الأعانة، ولهذا اذا لم يكن من قبل الألتزام، فقلما يكون من قبل الشفقة تجتذب أبنها لأن يهبني الغفران.*
فلنختتم اذاً الإيراد مع العلامة أفتيموس قائلين: أنظري إلينا بعينيكِ الشفوقتين يا أمنا الكلية الرأفة، لأننا نحن عبيدكِ. وفيكِ قد وطدنا رجانا بأسره.*
نموذج
أنه يوجد مسطراً في خبرية الأعجوبة الخامسة والثمانين، من التأليف الملقب: بكنز الوردية: أن رجلاً ما شريف الحسب والوظيفة، قد كان كلي التعبد لهذه الأم الإلهية، ومن ثم كان شيد داخل داره الواسعة كنيسةً صغيرةً، وهناك كان من عادته أن ينفرد مصلياً أمام أيقونة والدة الإله المصورة فيها ببراعةٍ. ولم يكن يمارس هذه الصلوات نهاراً فقط بل في زمن الليل أيضاً، معدماً ذاته لذة النوم ساعاتٍ بجملتها ليكرم سيدته المحبوبة منه. فأمرأة هذا الرجل الشريف، مع أنها هي أيضاً كانت من النساء الأكابر الحسنات الديانة، قد دخل عندها الشك وروح الغيرة، عند ما كانت تلاحظ رجلها هذا ينهض من فراشه في الساعة الأكثر هدواً من زمن الليل، ويخرج من مكان رقاده الى خارجٍ، ولا يرجع الا بعد زمنٍ ليس بقليل، فلما أزداد يوماً فيوماً الأرتياب في عقل هذه المسكينة، قد فكرت لنجاة قلبها من هذه الشوكة أن تسأل قرينها هذا بجرأةٍ، أن كان يوجد في قلبه حبٌّ ما لأمرأة أخرى غيرها؟ فالرجل الجليل أجابها مبتسماً بقوله: أعلمي أنني أحب أمرأةً سيدةً لا يوجد في العالم مثلها موضوعٌ شهيٌ للحب الشديد، وقد وهبتها قلبي بجملته، ولقد يمكنني أن أموت بالأحرى قبل أن أنتزح عن حبي أياها، ولو أنكِ تعرفينها، لقلتِ لي أنتِ نفسكِ أن أحبها بأبلغ نوع مما هي الآن محبوبةٌ مني! وأنما كان يشير بذلك جميعة عن البتول الكلية القداسة، التي حقاً كان هو يحبها بهذا المقدار. غير أن أمرأته عند سماعها منه هذا القول، قد توطد أرتيابها السابق بزيادةٍ ولكنها لكي تتحقق الأمر أفضل تحقيقاً، قد سألته أيضاً، أن كان سبب قيامه من فراشه ليلاً، وخروجه من البيت هو لكي يمضي عند هذه الأمرأة؟ فالرجل الذي لم يكن يعلم روح الغيرة والشك الكائن في قلب أمرأته قد أجابها، أي نعم أن الأمر هو كذلك. فترى ماذا صنعت هذه الزوجة التي عمي عقلها بتصديق أرتيابها الكاذب، لأنها ليلةً ما عندما نهض رجلها حسب عادته من فراشه، وذهب خارجاً الى المصلى السابق ذكره، فهي من زيادة الغم أخذت السكين كمقطوعة الرجاء، وجزت بها عنقها ذابحةً ذاتها حيث بعد برهةٍ ماتت، أما الرجل فعند نهاية صلواته قد رجع الى خدره لينام، ولكنه شعر بالفراش مغرقاً كأنه بمياه غزيرة، فصرخ الى أمرأته بأسمها، واذ لم ترد عليه جواباً، أوقد المصباح وحضر إليها، واذ هي مذبوحةً، والمرقد عائمٌ بالدم، فحينئذٍ فكر بالصواب أنها ذبحت نفسها بروح الغيرة ميؤوسةً. فما الذي فعله هو حينئذٍ. أنه أغلق باب الحجرة على أمرأته، ورجع الى المصلى حيث جثا أمام أيقونة والدة الإله الكلية القداسة، وأبتدأ يقول لها هكذا بدموعٍ منحدرةٍ من عينيه تياراتٍ: أنظرتِ يا أمي في أية حالٍ من الحزن أنا كائنٌ، فان كنت لا تعزيني أنتِ فالى من التجئ لأفوز بالتعزية منه، فافتكري بأنه لأجل مجيئي الى هنا لكي أكرمكِ، قد أحاقت بي هذه المصيبة العظمى، وهي أن أشاهد قرينتي مذبوحةً وهالكةً أيضاً، فأنتِ قادرةٌ يا أمي على مداواة الأمر: فحقاً أن من يتضرع الى أم الرحمة هذه بحسن الرجاء فينال كل ما يبتغيه، لأن هذا الرجل الشريف عندما أنهى صلاته المقدم إيرادها، سمع صوت واحدةٍ من جواريه تقول له: يا سيدي أرجع الى حجرتك، لأن سيدتي أمرأتك تدعوك اليها. فالرجل خرج من المصلى حالاً، لكنه من زيادة الفرح لم يصدق ما قيل له، بل لأجل الأمتحان طلب من الجارية أن تذهب ثانيةً الى الحجرة، لترى أن كانت حقاً سيدتها تريد رجوعه الى هناك، فالجارية مضت وعادت اليه مؤكدةً له أن زوجته طلبت ذهابه إليها عاجلاً لأنها تنتظره بشوقٍ، فأنطلق حينئذٍ هو بثقةٍ وفتح باب الخدر فرأى أمرأته حيةً، التي قد أنطرحت على قدميه باكيةً ومتوسلةً اليه بأن يغفر لها قائلةً له: أواه يا قريني العزيز أن والدة الإله لأجل تضرعاتك لديها من أجلي قد خلصتني من جهنم، وهكذا أثناهما معاً مضيا الى المصلى بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح، ليقدما الشكر الواجب للبتول الكلية الأقتدار، ثم أن الرجل في اليوم المقبل صنع وليمةً لجميع الأقرباء والأنسباء، وصير أمرأته أن تخبرهم بالحادث كما تم، وهي شرحت لهم حقائقه مريةً إياهم في عنقها علامة الجرح، الذي حفظ ظاهراً لتأكيد الأعجوبة، ومن ثم قد أزدادت في الجميع حرارة العبادة والحب نحو هذه السيدة والأم الإلهية.*
† صلاة †
يا أم الحب المقدس، يا حياتنا وملجانا، أنكِ لتعلمين أن أبنكِ يسوع، اذ لم يكتف بأن يقيم ذاته شفيعاً أبدياً فينا ومن أجلنا لدى أبيه الأزلي، قد أراد أنكِ أنتِ أيضاً تهتمين بعنايتكِ نحوه هو ذاته، في أن تستمدي لنا منه الرحمة الإلهية، فهو قد رسم ورتب أن صواتكِ وتضرعاتكِ تفيدنا للخلاص، وقد منح توسلاتكِ قوةً عظيمةً لأن تنال كل ما تطلبينه. فاذاً أنا الخاطئ المسكين اليكِ التجي يا رجاء المويسين. وهكذا أرجو يا سيدتي أن أنال الخلاص بأستحقاقات أبنكِ يسوع المسيح، وبقوة شفاعاتكِ، فهذا هو رجاي، وأنا واثقٌ به ومتكل عليكِ بهذا المقدار بأمانة، حتى أن خلاصي لو كان الآن هو في يدي لكنت أسلمكِ إياه، لأني أعتمد على مفعول رحمتكِ وحمايتكِ أفضل من أعتمادي على أعمالي كلها، فلا تهمليني يا أمي ورجاي كما أستحق، بل لاحظي شقاوتي وأنعطفي مشفقةً عليَّ بأعانتكِ إياي لكي أنال الخلاص. فأنا أعترف بأني مراتٍ كثيرةً قد أغلقت باب قلبي ضد الأنوار السماوية، وضد المعونات الإلهية التي قد أستمديتيها لي من الرب. ولكن أشفاقكِ نحو البائسين، وأقتدارات شفاعاتكِ لدى الله تفوق عدد خطاياي كلها، وتسمو على شرها وخباثتها، فأمرٌ معلومٌ هو عند أهل السماء والأرض، أن من تحامي أنتِ عنه لا يمكن أن يهلك، فليهملني اذاً الجميع وينسوني، بحيث أنكِ لا همليني أنتِ يا والدة الإله المقتدرة على كل شيءٍ، قولي لله أنني أنا عبدكِ، وأنكِ محاميةٌ عني وهذا يكفيني لأن أفوز بالخلاص، فأنا أتكل عليكِ يا مريم رجائي، وفي هذا الرجاء أعيش وبه أريد أن أموت كما أؤمل. ومن ثم لا أكف أصلاً من أن أقول، أن يسوع هو رجائي الوحيد، وبعد يسوع رجائي الوحيد هو في مريم البتول.*
†
† الجزء الثاني †
في أن مريم العذراء هي رجاء الخطأة
أن الله بعد أن خلق الأرض قد أبدع نيرين ليضيئا عليها، كما هو مدون في سفر التكوين: أن الله صنع نيرين عظيمين، فالنير الأكبر لسلطان النهار، والنير الأصغر لسلطان الليل: (ص1ع16) أي الشمس والقمر، فيقول الكردينال أوغون في تفسيره هذا الاصحاح: أن الشمس هي رسمٌ ليسوع المسيح الذي تتمتع الأبرار بنوره اذ يحيون في نهار النعمة الإلهية. وأما القمر فهو رسمٌ لمريم البتول التي بواسطتها يستنير الخطأة العائشون في ليل المآثم: فمن حيث اذاً أن مريم هي هذا القمر السعيد المفيد للخطأة الأذلاء فاذا أتفق لأحدهم، كما يقول البابا أينوشانسيوس الثالث (في عظته على نياح البتولة) أن يوجد ساقطاً في ليل الخطيئة، ترى ماذا يصنع بعد أن يكون فقد نور الشمس بفقدانه النعمة الإلهية. فليلتجِ الى نور القمر. أي فليتوسل الى مريم وهي تنيره ليعرف شقاوة حاله، وتهبه قوةً لأن يخرج سرعةً من طريق الأثم: ويقول القديس متوديوس: انه بواسطة صلوات مريم الطوباوية يرجع الى الله بالتوبة على الدوام عددٌ غير محصى من الخطأة.*
فأحدى الصفات والنعوت التي الكنيسة المقدسة تصيرنا أن نلتجئ الى هذه الأم الإلهية، والتي تشجع الأثمة البائسين بأبلغ نوعٍ على الرجوع الى التوبة. هي هذه الصفة أو التسمية أي: ملجأ الخطأة: التي بها تستدعيها هي بالطلبات، فبموجب رسوم العهد العتيق قد كانت في بلاد اليهودية مدينةٌ تسمى الملجأ، حيث أن المذنبين الذين كانوا يفرون هاربين من الأمكنة التي فيها أرتكبوا الذنب الى تلك المدينة، فكانوا ينجون بدخولهم اليها من القصاصات المرسومة ضد ذنوبهم، أما في الزمن الحاضر فلم تعد توجد مدن الملجأ كما كانت سابقاً، ولكن عندنا واحدة فقط، وهي مدينة الله مريم التي يشير اليها النبي والملك داود هاتفاً: قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله: (مزمور87 عدد3) الا أنه يوجد هذا الفرق فيما بين مدن الملجأ القديمة وبين هذه المدينة، وهو أنه في تلك لم تكن الخطأة كافةً ولا المذنبون بكل أنواع المآثم يجدون الحماية وحق اللجاية، وأما في هذه المدينة، أي تحت كنف حماية مريم العذراء فبالخلاف تجد الخطأة أجمعون، والمذنبون بأنواع الفواحش والسيئات كافةً، ملجأً أميناً وحصناً منيعاً. متى هربوا محتمين بها، كما يسميها القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الثاني على نياحها) متكلماً عن لسانها بقوله: أني أنا هي مدينة الملجأ لجميع أولئك الذين يأتون اليَّ من دون أستثناء.*
فيكفي للهارب أن يبلغ الى هذا الملجأ لأن ذاك الذي يكون حصل على الحظ السعيد بأن يدخل ضمن هذه المدينة، لا يعود محتاجاً للتكلم عن شيء لكي يفوز بالخلاص، حسبما يقول أرميا النبي (ص8ع14): لماذا نجلس، أجتمعوا وندخل القرية الحصينة ونسكت هناك: فيفسر هذا النص الطوباوي ألبرتوس الكبير قائلاً: أن هذه القرية الحصينة هي القديسة مريم البتول المحصنة بالنعمة والمجد: وكذلك يقال في التفسير الملقب غلوسا عن لفظة: ونسكت هناك: أننا لأجل كثرة خطايانا اذ ليس عندنا جرأةٌ ولا لنا دالةٌ لأن نطلب من الرب الغفران، فيكفينا أن ندخل هذه المدينة الحصينة، ونسكت هناك، لأن مريم حينئذٍ تتكلم هي وتتوسل من أجلنا. ولذلك يحرض الخطأة كافةً أحد العلماء (وهو بناديكتوس فارناندس) على أن يهربوا ملتجين تحت كنف حماية مريم قائلاً: أهرب يا آثم ويا حواء ويا جميع أولادهما كلكم الذين قد أغظتم الله، أهربوا وفوزوا بالنجاة، بألتجائكم الى حماية هذه الأم الصالحة. وهكذا القديس أوغوسطينوس يقول: الا تعلمون أن مريم هي مدينة الملجأ الوحيدة. وملجأ الخطأة الفريد.*
فمن ثم يهتف القديس أفرام السرياني (في مديحه البتولة) قائلاً: أنتِ هي المحامية الوحيدة عن الخطأة. والمناضلة الوحيدة عن أولئك الذين لا معين لهم. فالسلام عليكِ يا ملجأ الخطأة وسندهم ومأواهم، الذي فيه وحده يمكنهم أن يجدوا الحماية والمهرب الأمين. وهذا هو ما يتأمل به أحد الكتبة بأن الملك والنبي داود قصد أن يشير اليه بهذه الكلمات وهي: لأنه أخفاني في خيمته، وفي يوم ضري سترني في ستر مظلمته (مزمور27ع5) فيقول أن الرب أخفاني في خيمته، فترى من هي خيمة الله الا مريم البتول حسبما يدعوها القديس جرمانوس بقوله: أن مريم هي الخيمة المصنوعة من الله التي لم يدخل اليها الا العلي وحده، لكي يكمل فيها عمل الخلاص السري بأفتداء الجنس البشري. وفي هذا الشأن قال معلم الكنيسة العظيم القديس باسيليوس: أن الله قد أعطانا مريم العذراء بمنزلة بيمارستان عمومي مشاع حيث يمكن لجميع المرضى والمسقومين الذين هم فقراء وعادمون كل المعونات أن يجدوا فيه مأواهم وراحتهم. فالآن أنا أسأل مستفهماً، بأنه اذ كانت البيمارستانات أنما تشيدت لتقبل فيها المساكين، فمن هم أولئك الذين لهم حق أصرم ممن سواهم على أن يقبلوا فيها الا أولئك الأكثر فقراً والأجزل أحتياجاً والأوفر سقماً والأشد مرضاً؟.*
فمن ثم أن من يوجد حاصلاً على شقاوةٍ أبلغ، لأجل أنه يكون أشد فقراً من الأستحقاقات، والمثقل بأمراض النفس والأكثر خطراً وهذ أنما يكون من مصاف الخطأة فيبان أنه يمكن له أن يقول نحو مريم: يا سيدتي أنتِ هي البيمارستان ملجأ المرضى المساكين. فلا تطرديني اذاً في الوقت الذي أنا فيه لأجل أني أكثر فقراً من الآخرين وأشد شقماً منهم فيوجد لي الحق بأبلغ نوع وبأكثر صرامة من البقية على أن أقبل في هذا البيمارستان: فلنقل اذاً ما قاله القديس توما الفيلانوفي: يا مريم أننا نحن الخطأة الأذلاء البائسين لا نعرف. ولا يمكننا أن نجد ملجأً آخر سواكِ، أنتِ هي رجاؤنا الوحيد الذي فيه نضع أمر خلاصنا الأبدي، لأنكِ أنتِ هي المحامية الوحيدة عنا لدى يسوع المسيح، وإليكِ نهرب كلنا مستغيثين بكِ.*
ففي أحد الأوحية التي حصلت عليها القديسة بريجيتا تسمي مريم: النجم المتقدم أمام الشمس: وهذا يرشدنا لكي نفهم أنه حينما توجد في نفس أحدٍ من الخطأة علاماتٌ ظاهرةٌ تدل على أن ذاك الإنسان هو متعبد لهذه الأم الإلهية، فهذا هو دليلٌ أكيدٌ على أنه بعد قليلٍ من الزمن تحصل تلك النفس غنيةً من النعمة الإلهية. أما القديس بوناونتورا المجيد فلكي ينعش في قلوب الرجاء في حماية مريم، يصور لنا بحراً ما مزيداً مختبطاً هائجاً بعواصف شديدةٍ، حيث يوجد الخطأة الذين سقطوا فيه من سفينة النعمة الإلهية غارقين فيما بين تموج قلق الفكر، وأختباط الأرادة، وعواصف توبيخ الضمير، وبين أنزعاج الخوف من دينونة العدل الإلهي، تائهين من دون قائدٍ، وخلواً من نورٍ يرشدهم، حاصلين على أواخر أنفاس الرجاء وعلى قرب الأبادة باليأس، فعلى هذه الصورة اذ يبان أن القديس المذكور يريد أن يظهر للخطأة كيف أن مريم هي نجمة البحر، كما يدعوها الجميع بهذه الصفة، فمن ثم يعلى صوته صارخاً نحوهم هكذا: أيها الخطأة المساكين المنزعجون الحاصلون في الأبادة، لا تيأسوا ولا يضعف رجاؤكم، بل أرفعوا عيونكم الى هذه النجمة البهية الجميلة، وأهجعوا من أختباطكم مستنشقين النسمة وأطمأنوا بثقةٍ، لأن هذه النجمة هي تصيركم أن تخرجوا من الغرق وتبلغكم الى مينا الخلاص.*
وبهذا الروح نفسه القديس برنردوس يخاطب الخاطئ قائلاً له: فأن كنت لا تريد أن تهلك غارقاً في العاصفة، فأتجه نحو النجمة وأدعُ الى معونتك مريم لأجل أنها (كما يقول العابد بلوسيوس) هي السند الوحيد والدواء الشافي لخلاص أولئك الذين سقطوا في حال أغاظة الله بالخطيئة، وهي ملجأ جميع المجربين والمصابين: فأم الرحمة هذه هي محسنةٌ عذبةٌ لطيفةٌ رأوفةٌ بكليتها ليس نحو الصديقين فقط، بل نحو الخطأة الميؤوسين أيضاً. ولذلك أنها حينما ترى هؤلاء يقصدون معونتها بألتجائهم اليها، وتلاحظ أنهم حقاً يصنعون هذا قلبياً، فحالاً تساعدهم وتعينهم وتستمد لهم من أبنها الغفران، ومن عادتها الا ترذل أحداً. ولا تتغاضى عن مطلوبه ولو مهما كان هو عديم الأستحقاق، ولذلك لا تنكر على أحدٍ مطلقاً حمايتها وعنايتها، بل تعزي الجميع، ويكفي مراتٍ كثيرةً أنها تستدعى ويستغاث بها فتوجد حالاً مكملةً مرغوب من يقصدها، وبواسطة عذوبتها تجتذب الخطأة الى التعبد لها، وتيقظهم من رقاد الخطيئة، ولو كانوا من أولئك المعدومة منهم محبة الله والمتمرغين في حماة الرذائل، وهكذا بواسطة أفعال التعبد لها يتأهبون لأن يقتبلوا النعمة الإلهية، وأخيراً يصيرون أهلاً لنوال المجد الأبدي. على أن الله قد كوَّن أبنته هذه المحبوبة منه تكويناً مملوءاً من الرأفة والعذوبة والرفق والحلم، بنوعٍ أنه لا يوجد أحدٌ يمكنه أن يرتاب في أنها تقبله، متى التجأ إليها لأنها لا تعرف أن ترد أحداً خائباً من مفاعيل شفاعاتها من أجله. ثم ينهي إيراده الكاتب العابد المقدم ذكره بقوله أخيراً: أنه ليس هو من الممكن أن يمضي هالكاً من يمارس بأتضاعٍ وأهتمامٍ، واجبات العبادة لهذه الأم الإلهية.*
ثم أن هذه السيدة قد سميت في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) بشجرة الدلب، لأنه كما أن شجرة الدلب تعطي تحتها وفي ظلها ميداناً، لألتجاء المسافرين من حرارة الشمس، فهكذا مريم عندما تشاهد نار غضب العدل الإلهي متقدةً ضد الخطأة، فتدعوهم لأن يستظلوا في ظل حماية شفاعاتها. فالقديس بوناونتورا يتأمل في كيف أن النبي أشعيا كان يتشكى في أزمنته قائلاً: ها أنتَ غضبتَ يا رب فأخطأنا نحن… ليس من يدعو بإسمكَ ومن يقوم ويمسككَ: (ص64ع5وع7) أي أنكَ أنتَ يا رب مغتاظٌ بكل عدلٍ وحقٍ من الخطأة: ولا يوجد من يمكنه أن يسترضيكَ عنا ويرجوكَ بالرضى علينا. فبكل صوابٍ قال النبي هذه الكلمات من حيث أنه في ذلك الوقت لم تكن بعد جاءت مريم الى العالم. وأما الأن فاذا كان الباري تعالى مغتاظاً ضد أحد الخطأة، ومريم شرعت تستعطفه محاميةً عن ذاك الخاطئ فلا ريب في أنها تهدئ غضب أبنها الإلهي عن أن يعاقبه وهكذا تخلصه، بل الأبلغ من ذلك (يتبع القديس بوناونتورا كلامه بكلامه) هو أنه لا يمكن أن يوجد أحدٌ أكثر أستطاعةً من مريم على المحاماة عنا، حتى أنها تمد يدها وتمسك سيف العدل الإلهي مانعةً إياه عن أن ينقض فوق عنق الخاطئ. ثم أنه حسب الفاظ هذا القديس يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قبل ميلاد مريم البتول في العالم كان يشكو من أنه لم يكن يوجد وقتئذٍ من كان يهدئ غضبه عن أن ينتقم من الخطأة، كما يقول تعالى على لسان حزقيال النبي (ص22ع30): أني قد طلبت فيهم رجلاً يتواسط بالسياج ويقاومني عن الأرض كيلا أخربها فلم أجد: الا أنه بعد أن جاءت مريم الى الدنيا، فهي التي تستعطفه جلت خيرية صلاحه وتهدئ غضبه بوساطتها:*
فلهذا القديس باسيليوس الكبير يشجع الخطأوة (في خطبته على عيد البشارة) قائلاً: لا تيأس أصلاً أيها الخاطئ بل التجِ الى مريم في أحتياجاتكَ كلها، وأستدعيها الى معونتكَ، فتجدها مستعدة على الدوام لمساعدتك، لأن هذه هي الإرادة الإلهية، أي أن مريم تعضد الكل معينةً إياهم في كل شيءٍ يحتاجون إليه ضرورةً: فأم الرحمة هذه تحب من كل قلبها راغبةً أن تخلص الخطأة الأشقياء الميؤوسين، رغبةً هكذا متقدةً حتى أنها هي نفسها تفتش عنهم مجتهدةً في إعانتهم، ولذلك اذاً أستغاثوا بمساعدتها مستدعينها لأسعافكم فهي تعرف حسناً أن تجد الطريقة التي بها تصيرهم مقبولين لدى الله ومحبوبين منه. فأسحاق رئيس الآباء اذ كان يشتهي أن يغتذي بلحوم بعض الحيوانات البرية، قد طلب من أبنه عيسو أن يصطاد له منها ما يمكنه. ويصلحها له أطعمةً موعداً إياه بأن يمنحه البركة الأبوية، الا أن رفقا زوجته أم عيسو نفسه لآرادتها في أن أسحاق يمنح البركة لأبنها الآخر يعقوب لا لعيسو، فطلبت من يعقوب قائلةً له: أمضِ الى الغنم وأتنني بجديين رخصين، فأصلحهما أطعمةً لأبيكَ على نحو ما يحب ليأكل منها وتباركك نفسه قبل مماته: (تكوين ص27ع9) فيقول القديس أنطونينوس: ان رفقا كانت رسماً لمريم التي تقول للملائكة أيتوني بالخطأة (الذين قد مثلوا بالجداء) لكي أصلحهم أنا بطريقةٍ ملائمةٍ (أي بأكتسابي لهم نعمة الندامة والعزم على عدم الرجوع الى الخطيئة) وأجعلهم مقبولين مستحبين لدى سيدي: ثم أن الأنبا فرانكونه اذ أتبع هذا التفسير يقول: أن مريم تعرف جيداً أن تصلح هؤلاء الجيداء أطعمةً لذيذةً، بنوع أن ذوقهم ليس فقط يماثل ذوق لحمان الخشف والغزلان والأيل، بل أيضاً مراتٍ كثرةً يفوقها لذةً.*
على أن البتول الكلية الطوبى عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا بأنه لا يوجد في العالم خاطٍ ما مهما كان بأثمه عدواً لله. يلتجئ إليها مستمداً منها المعونة، الا ويرجع اليه تعالى تائباً ويكتسب ثانيةً نعمته الإلهية التي كان فقدها: والقديسة بريجيتا نفسها قد سمعت يوماً ما يسوع المسيح مخاطباً والدته الطوباوية، بأنها تستطيع هي أن تنال منه عز وجل لصالح لوسيفوروس عينه، أن يرجع الى حال النعمة الإلهية، أن كان هو يتضع ويلتجئ إليها طالباً منها المعونة، فأي نعم أن أركون الظلام هذا، الروح المتعجرف لا يمكن أن يواضع ذاته لأن يلتمس حماية مريم. ولكن اذا فرضنا هذا الحادث الغريب، وهو لو أمكن للوسيفوروس أن يتواضع مستغيثاً بمريم، فهي لكانت تحنو عليه، وبقوة صلواتها الفعالة لكانت تستميح له من الله الغفران والخلاص، غير أن الشيء الذي لا يمكن حدوثه مع الشيطان، فهذا بلا ريب يبلغ مفعوله مع الخطأة الذين يلتجئون الى أم الرحمة هذه.*
ثم أن سفينة نوح قد كانت توجد بالصواب رسماً لمريم المجيدة. فكما أنه في تلك السفينة كانت توجد حيوانات الأرض كلها جنسياً ونوعياً، فهكذا تحت أذيال حماية مريم يجد ملجأً أميناً الخطأة أجمعون الذين لأجل رذائلهم وعوائدهم الوحشة وخطاياهم اللحمية هم شبيهون بالوحوش والحيوانات الأخرى، ولكن بهذا الفرق، كما يقول أحد العلماء (وهو باجيوكالى): أي أن الوحوش كما دخلت السفينة كذلك خرجت منها وحوشاً من دون تغييرٍ، اذ أن الذئب الذي دخل اليها خرج منها ذئباً، والنمر أستمر نمراً، وأما تحت حماية مريم فالذئب يستحيل الى خروفٍ، والنمرة تصير حمامةً. فيوماً ما القديسة جالتروده قد شاهدت في الرؤيا عدةً من الوحوش، أسوداً، دبباً، نموراً، كائنةً تحت برفير مريم البتول المفتوح للجميع، ولاحظت أن مريم ليس فقط لم تكن تطرد عنها تلك الوحوش، بل بأكثر من ذلك كانت بيدها الجوادة تلمها وتملسها، ثم أخبرت هذه القديسة أي جالتروده بأن تلك الحيوانات هي الخطأة الأشقياء البائسون، الذين حينما يلتجئون الى مريم، فهي تقتبلهم بعذوبةٍ ورأفةٍ ومحبةٍ.*
فاذاً بالصواب أمكن للقديس برنردوس أن يهتف نحو هذه الأم المجيدة قائلاً: انكِ أيتها السيدة لا ترذلين أحداً من الخطأة، مهما كان عاتياً منافقاً رديئاً، متى قصدكِ مقترباً منكِ لجايةً، واذا التمس منكِ المعونة فلا تأنفين مستكرهةً من أنكِ تمدين يدكِ ذات الأشفاق وتخرجينه من عمق يأسه ومن أقصى شقاوته: فليكن مباركاً على الدوام وممجداً بالشكر الواجب إلهنا الصالح، الذي صنعكِ يا مريم المحبوبة في الغاية، مملوةً من الحلاوة والأنعطاف. حتى نحو الخطأة الأكثر شقاوةً، فحقاً أنه تعيسٌ هو ذاك الذي لا يحبكِ ومع أنه يستطيع أن يلتجئ اليكِ، فمع ذلك لا يتكل عليكِ ولا يثق بكِ. لأن من لا يستغيث بمريم يمضي هالكاً، وبالعكس من هو الذي خاب من رجائه وأدركه الهلاك من الذين تمسكوا بها:.*
فالكتاب المقدس يخبرنا في الاصحاح الثاني من سفر راعوث بأن بأعاز قد سمح لهذه الأمرأة راعوث بأن تتبع الحصادين المستأجرين منه في أراضيه، وتلتقط لذاتها السنبل الذي كان يسقط من أيديهم على الأرض، فيقول القديس بوناونتورا (في تفسيره هذا النص): أنه كما أن راعوث قد وجدت نعمةً في عيني باعاز فهكذا مريم قد وجدت نعمةً في عيني الرب بأن تستطيع أن تجمع ملتقطةً السنبل الذي يهمله الحصادون مطروحاً في الأرض، فالحصادون أنما هم الفعلة الأنجيليون، المرسلون، الواعظون، المرشدون، المعرفون الذين يومياً يجمعون الأنفس لله ويكتسبونها له تعالى، ولكن توجد بعض الأنفس عاصيةً عليهم ومصرةً على الأثم حاصلةً في قساوة القلب ولذلك تهمل من هؤلاء الحصادين، فسمح لمريم وحدها الأقتدار على أن تخلص بقوة شفاعاتها، هذه السنبلات المهملة المتروكة من الفعلة الأنجيليين، الا أنهم لتعيسون بالحقيقة أولئك الخطأة الذين هذه صفتهم، أن كانوا لا يتركون مريم أن تلتقطهم، لأنهم حينئذٍ من غير شكٍ يضحون ملعونين هالكين، وبالعكس لمغبوطين هم أولئك المهملون الذين يستغيثون بمريم الأم الصالحة: لأنه (كما يقول العابد بلوسيوس) لا يوجد في العالم خاطٍ بهذا المقدار هالكٌ في حماة المآثم، ويرذل من مريم مطروداً، بل اذا أقبل نحوها طالباً منها المعونة، فهي كأمٍ حنونةٍ تقدر جيداً وتعرف حسناً، وتريد حقاً، أن تصالحه مع أبنها وتكتسب له المغفرة.*
فبمواجب الأستئهال يسلم عليكِ أيتها الملكة سيدتي القديس يوحنا الدمشقي هاتفاً: السلام عليكِ يا رجا مقطوعي الرجاء. وكذلك القديس لورانسوس يوستينياني يسميكِ: رجاء عمال الأثم: والقديس أوغوسطينوس يدعوكِ: ملجأ الخطأة الوحيد: والقديس أفرام يلقبكِ: بمينا الخلاص الأمين للمسافرين في البحر العالمي: وهو نفسه في مكانٍ آخر ينعتكِ: بمحامية عن الهالكين: وهكذا القديس برنردوس يحرض الخطأة حتى القاطعين رجاهم على أن لا ييأسوا، ومن ثم يهتف نحوكِ مملوءاً فرحاً بكِ أنتِ أمه المحبوبة منه في الغاية صارخاً: ترى من يمكنه أيتها السيدة أن لا يثق بكِ متكلاً عليكِ بحسن الرجاء بعد أنكِ تسعفين المقطوع رجاهم أنفسهم، فأنا لا أرتاب أصلاً بأننا حالما نحن نلتجئ اليكِ فدائماً نفوز بكل ما نبتغيه، فليرجوكِ اذاً المقطوع رجاهم: ثم أن القديس أنطونينوس يخبرنا بأنه اذ كان يوماً ما أحد الخطأة حاصلاً في حال الأثم معدوماً نعمة الله، قد رأى ذاته حاضراً في المحكمة الإلهية أمام يسوع المسيح، وشاهد الشيطان يقدم عليه الشكايات، ومريم البتول تحامي عنه ضدها، فالعدو الجهنمي قدم حينئذٍ سجلاً مدونةً فيه مآثم هذا الخاطئ كلها، واذ وضع ذاك السجل في ميزان العدل الإلهي بأزاء الأعمال الصالحة التي كان هو فعلها، قد وجد أثقل بما يجد من تلك الأعمال، فماذا صنعت وقتئذٍ مريم المحامية العظيمة عن الخاطئ، فقد مدت يدها الحلوة على كفة الميزان فوق الأعمال الصالحة وجذبتها، فوجدت أثقل كثيراً من سجل الخطايا، وبذلك أوضحت للخاطئ في تلك الرؤيا، أنها هي تستمد له من الله الغفران أن كان يغير هو سيرته الأثيمة، كما تم الأمر حقاً، بأن الخاطئ المومى اليه حينما رجع الى ذاته قد تاب عن خطاياه بسيرةٍ صالحة.*
نموذجٌ
لقد أخبرنا الطوباوي يوحنا أرولتوس الملقب تواضعاً بالتلميذ. عن رجل مقترن بسر الزيجة كان عائشاً في الخطيئة معدوماً نعمة الله، فأمرأته التي كانت صالحةً اذ لم يمكنها أن تجلبه الى ترك الخطيئة، قد توسلت اليه بأن يمارس، وهو في تلك الحال الشقية قلما يكون هذه العبادة نحو والدة الإله، وهي أنه كل مرةٍ يجتاز من مكان توجد فيه أيقونةً ما لهذه السيدة، فيتلو تكريماً لها: السلام لكِ يا مريم الخ: فالرجل المومى اليه قد أبتدأ أن يمارس ذلك، فليلةً ما اذ كان هذا المنافق ذاهباً ليصنع الخطيئة قد شاهد أمامه نوراً لامعاً. واذ حدق به فرآه مصباحاً متقداً أمام أيقونةٍ لمريم البتول مصورةٍ حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي يسوع. فحينئذٍ حسب عادته صلى السلام الملائكي، ولكن ماذا رأى، أنه شاهد الطفل يسوع مكسى الجسم، بجراحاتٍ متخنة تقطر دماً جارياً منها، فللوقت هو أستوعب أنذهالاً وتوجعاً معاً بأفتكاره في أن كثرة خطاياه كانت علةً لجراحات المخلص، فطفق يبكي بدموعٍ غزيرةٍ، الا أنه لاحظ أن الطفل الإلهي كان يعطيه ظهراً غير مريدٍ أن ينظر اليه، الأمر الذي أملأه من القلق والغم، ومن ثم أتجه نحو والدته المجيدة متضرعاً اليها بقوله: أن أبنكِ يطردني من أمامه يا أم الرحمة، فأنا لا أقدر أن أجد محاميةً عني ذات أقتدارٍ ورأفةٍ مثلكِ لديه، اذ أنكِ أمه، فعينيني أنتِ يا ملكتي وصلي من أجلي أمامه: فالأم الإلهية قد أجابته من تلك الأيقونة قائلةً: أنكم أنتم أيها الخطأة تسموني أم الرحمة، ولكن في الوقت عينه لا تهملون أن تجعلوني أم الشقاوة، بتجديدكم آلام أبني وأوجاعي معاً: الا أنها مع ذلك لحنوها العظيم الذي من أجله لا تعرف أن تصرف أحداً من الملتجئين اليها من غير تعزيةٍ. قد التفتت الى أبنها وشرعت تتوسل اليه من أجل ذاك الخاطئ بأن يغفر له، فيسوع أستمر يظهر نفوراً من هذه الطلبة، فحينئذٍ البتول قد وضعت الطفل في تلك الحنية التي كانت نظير هيكلٍ، وسجدت أمامه قائلةً له: أنني لا أنهض من أمام قدميكَ يا أبني أن لم تغفر لهذا الخاطئ: فوقتئذٍ أجابها يسوع بقوله: أنه لا يمكنني يا أمي أن أنكر عليكِ شيئاً. أفتريدين أن أغفر له. فأنا حباً بكِ أسامحه عن ذنوبه، فأدعيه الى ههنا ليقبل جراحاتي. فالخاطئ تكميلاً لأمره الإلهي تقدم باكياً مرتعداً وبدأ يقبل تلك الجراحات واحدة بعد الأخرى، وفي حين تقبيله كلاً منها كان يشفى الجرح، وأخيراً الطفل الإلهي عانقه علامةً للغفران وهكذا رجع ذاك الخاطئ الى بيته متعزياً، وغير سيرته الرديئة وعاش بالصلاح مغرماً بالحب لوالدة الإله التي أستمدت له هذه النعمة العظيمة.*
† صلاة †
أنني أسجد يا مريم البتول الكلية الطهارة لقلبكِ المثلث القداسة. الذي صودف بيت راحةٍ وموضوع تنعمٍ لله الضابط الكل، قلباً مملوءاً من التواضع والنقاوة والحب الإلهي. فأنا الخاطئ التعيس آتي اليكِ بقلبٍ موعبٍ آلاماً رديئة وحماةً، ولكن ليس لأجل ذلك تستنكفين يا أم الرأفة مني، بل أنعطفي بأوفر أشفاقٍ نحوي وعينيني، ولا تطلبي فيَّ لكي تساعديني، لا أستحقاقاتٍ ولا فضائل، فأنا أنسانٌ ضال لا أستحق سوى الجحيم، ولكني أتوسل اليكِ بأن تلاحظي فيَّ هذا الأمر فقط. وهو الرجاء الذي لي فيكِ. والأرادة الحقيقية في أن أتوب عن شروري، فأنظري ما الذي صنعه وأحتمله من أجلي يسوع أبنكِ. وحينئذٍ أهمليني أن كنت تقدرين أن تهمليني، فأنا أضع أمامكِ كل آلام حياته، البرد الذي تكبده في الأسطبل، السفر الذي صنعه بذهابه الى مصر، الدم الذي سفكه، الفقر الأعراق، الأحزان، الموت الذي أحتمله حباً بي بحضوركِ، وهكذا أكراماً لحبكِ أبنكِ أهتمي بخلاصي، فأنا لا أريد أن أخاف يا أمي، بل ولا أقدر أن أخشى من أنكِ تطرديني الأن أنا ألتجئ اليكِ طالباً أن تسعفيني، لأني لو كنت أرتاب في ذلك لصنعت أفتراءً على رحمتكِ التي تفتش على البائسين لتساعدهم، فلا تنكري أيتها السيدة رأفتكِ على من لم ينكر عليه يسوع أبنكِ دمه. ولكن أستحقاقات هذا الدم لا تتخصص بي أن كنتِ لا تتوسلين أنتِ من أجلي لدى الله، فأنا منكِ أرجو خلاصي، في الوقت الذي فيه أنا لا أطلب لا أموالاً ولا كراماتٍ، ولا شيئاً آخر من خيرات الأرض، بل ألتمس منكِ نعمة الله، والحب لأبنكِ، وتكميل أرادته، والفردوس السماوي، لكي أحبه هناك الى الأبد. فهل يمكن أن لا تقبلي طلبتي هذه كلا، أني أؤمل أن تستجيبيني، فصلي لأجلي بأن أنال النعمة التي طلبتها، وأقبليني تحت كنف وقايتكِ. ولا تتركيني يا أمي، بل داومي التضرع من أجلي طالما لا تشاهديني بلغت الى السما مخلصاً، حيث أنطرح على قدميكِ لكي أبارككِ وأشكركِ الى الأبد آمين.
†
No Result
View All Result
Discussion about this post