“أمّ ومُعـَلمة”
Mater et Magistra
أصدرها في 15 أيار سنة 1961
صاحب القداسة
يوحنا الثالث والعشرون
بالعناية الإلهية بابا
إلى الإخوة المحترمين
البطاركة والجثالقة ورؤساء الأساقفة والأساقفة
وإلى
سائر الرؤساء الكنسيين الحاصلين على السلام
والشركة مع الكرسي الرسولي
وإلى
المؤمنين في العالم كلّه
في تطورات المعضلة الاجتماعية الحديثة على ضوء العقيدة المسيحية
أيها الإخوة المحترمون والأبناء الأعزاء
السلام والبركة الرسولية
1- أمّ ومعلمة لجميع الشعوب هي الكنيسة الجامعة التي أسسها يسوع المسيح لكي يجد جميع الناس، على مرّ العصور، في حضنها وفي محبتها الكمال لحياةٍ أسمى والضمان لخلاصهم.
إلى هذه الكنيسة “عمود الحق وقاعدته” (1) وكل مؤسسها القدوس مهمة مزدوجة: إيلاد البنين، وتربيتهم وإرشادهم، ساهرة بعناية والدية على أفرادٍ وشعوب احترمت دوماً وصانت باجتهاد كرامتهم.
إن المسيحية، في الواقع، تصل الأرض بالسماء من حيث إنّها ترى، في الإنسان، حقيقته الملموسة: روحاً وجسداً، عقلاً وإرادةً وتدعوه إلى أن يرفع فكره عن حالات الحياة الأرضية المتقلّبة نحو ذرى الحياة الأبدية في اكتمالٍ من دون نهاية للسعادة والسلام.
2- ومع أن مهمّة الكنيسة المقدسة هي، أولاً، تقديس النفوس وإشراكها في خيور النظام الفائق الطبيعة، فهي، إلى هذا، مهتمة بمقتضيات حياة الناس اليومية فيما يتعلق بغذائهم وأحوالهم الحياتية، وبالعمران أيضاً والحضارة على تنوع نواحيها وفي مختلف العصور.
3- وإذ تحقق الكنيسة كل هذا، تطبق عملياً وصية مؤسسها المسيح الذي يلمح بنوع خاص إلى خلاص الإنسان الأبدي عندما يقول: “أنا الطريق والحق والحياة” و”أنا نور العالم” ولكنه في موضع آخر، يهتف ملتاعاً وهو ينظر إلى الجمع الجائع “إنني أتحنن على هذا الجمع” مقيماً هكذا الدليل على أنه يهتم أيضاً بمقتضيات الشعوب الأرضية. وأبانَ الفادي الإلهي بأقواله، بل وبأمثلة حياته أيضاً اهتمامه هذا إذ كثّر الخبز بطريقة عجائبية أكثر من مرّة، لكي يشبع الجمع الجائع. وبهذا الخبز المعطى غذاءً للجسد أراد أن يبشرنا بذلك القوت السماوي، قوت النفوس الذي كان سيعطيه الناس في عشية آلامه.
4- فلا عجب إذن أن تكون الكنيسة الكاثوليكية، تمثلاً بالمسيح وإطاعة لأمره، في خلال ألفي سنة، منذ أن أنشأت فرقة الشمامسة القدامى حتى أيامنا، قد أَعلت مشعل المحبة بوصاياها بل أيضاً بأفعالها التي لا عدّ لها. وهذه المحبة، إذ توفّق بين وصايا المحبة المتبادلة بوضعها موضع العمل، تحقق، على وجه عجيب، وصية هذه العطية المزدوجة التي توجز عقيدة الكنيسة وعملها الاجتماعي.
5- وكشهادة ساطعة إذن على العقيدة وعلى العمل الذي تمرست به الكنيسة على مر العصور، نستطيع بدون ريب أن نعتبر الرسالة الخالدة “الشؤون الحديثة” (2) التي أذاعها، لسبعين سنة خلت، سلفنا السعيد الذكر لاوون الثالث عشر لإعلان المبادئ التي يستطاع بفضلها حلّ المعضلة الاجتماعية بطريقة مسيحية.
إنه لمن النادر أن يكون لصوت بابا، صدىً كالذي كان لصوته يومئذٍ، بهذا المقدار عامّ لا لعمق المواضيع المطروقة واتساعها وحسب بل لقوة الصدمة التي أحدثتها أيضاً. وفي الواقع لقد كان لتلك التوجيهات ولذلك التذكير بالتعاليم من الأهمية ما جعلها أبداً في مأمنٍ من النسيان فانفتحت طريق جديدة أمام على الكنيسة. وإذ قد تبنّى الراعي الأعظم آلام الوضعاء والمظلومين وشكاويهم وأمانيهم انتصب مرة أخرى مدافعاً عن حقوقهم.
6- واليوم، حتى بعد مرور زمن طال أمده، لا تزال آنيّة هذه الرسالة واقعيّة. واقعية في وثائق البابوات، خلفاء لاوون الثالث عشر الذين يرجعون دائماً، في تعليمهم الاجتماعي، إلى الرسالة اللاوونية تارة ليستوحوها، وتارة ليشرحوا مراميها وأبداً ليقتبسوا منها ما يشجع الكاثوليك على العمل. وهي واقعية أيضاً حتى في أنظمة الشعوب. وفي هذا دليل على أن المبادئ التي دُرست فيها، في عمق ودقة، وأن التوجيهات التاريخية والتنبيهات الأبوية التي تضمنتها رسالة سلفنا القيّمة لا تزال تحتفظ حتى اليوم بجدتها ومكانتها وتوحي بقواعد جديدة وحالية يستطيع الناس، بفضلها، أن يسبروا غور القضية الاجتماعية، كما هي اليوم، ويعتزموا الاضطلاع بمسؤولياتهم حيالها.
القسم الأول
تعاليم الرسالة العامة “الشؤون الحديثة” وشروحها المؤاتية
في تعليم بيوس الحادي عشر وبيوس الثاني عشر
عهد الرسالة “الشؤون الحدثية”
7- أذاع لاوون الثالث عشر رسالته في عصر انقلابات جذرية ومضادات صارخة وانتفاضات عنيفة. فما كانت ظلمات تلك الأيام إلا لتمكننا من أن نقدر النور الذي انبثق من تعليمه حق قدره.
كان مفهوم العالم الاقتصادي الأكثر شيوعاً آنذاك والمجسّد في الأفعال على الوجه مفهوماً طبيعياً ينكر كل صلة بين السنة الأدبية والاقتصاد. فالباعث الوحيد الأعم على العمل الاقتصادي كانت المصلحة الشخصية، والشريعة العظمى التي تنظم العلاقات بين العناصر الاقتصادية كان المنافسة الحرة، المطلقة، اللامحدودة. وفائدة رأس المال وإثمان الخيرات والخدمات والربح والأجرة كانت تحددها شرائع السوق فقط دون غيرها وبطريقة آلية. أما الدولة فكان عليها أن تمتنع عن كل تدخل في الحقل الاقتصادي، وأمّا النقابات فكانت، تبعاً للبلدان، إمّا ممنوعة وإمّا مرخصاً بها وإمّا معتبرة شخصيات شرعية من ذوات الحق الخاص.
ففي عالم اقتصادي هذا مفهومه كانت شريعة الأقوى تجد ملء تبريرها على الصعيد النظري وكانت هي النافذة في العلاقات الراهنة بين الناس. فنشأ من ذلك نظام اجتماعي مضطرب من أساسه وفاسد في مقوماته.
8- فبينما كانت ثروات طائلة تتراكم بين أيدي القلة كانت الجماهير ترزح تحت وطأة عوزٍ يتفاقم مع الأيام: أجور ضئيلة لا تغني فتيلاً أو أجور مجاعة؛ شروط عمل منهكة لا مراعاة معها للصحة الجسدية ولا للأخلاق ولا للعقيدة الدينية؛ لا إنسانية، بوجه خاص، شروط العمل التي كانت تُفرض على الأولاد والنساء؛ وشبح البطالة دائماً يتهدّد؛ والعيلة معرّضه لتيّار التفكك.
أما العاقبة فكانت أن اجتاح الطبقات الكادحة إستياء عميق، وتسرب إلى صفوفها وراح يتعاظم روح النقمة والتمرد؛ وهذا ما يفسِّر لنا الحظوة العظيمة التي كانت تلقاها، في تلك الطبقات، النظريات المتطرفة العارضة أدويةً شرّاً من الأدواء.
السبل إلى تجديد البنيان الاجتماعي
9- في هذه الفوضى كان للبابا الثالث عشر أن أذاع رسالته الاجتماعية المرتكزة على طبيعة الإنسان والمتغلغلة فيها مبادئ الإنجيل وروحه؛ رسالة أثارت، منذ أن ظهرت، حتى في أوساط من كانت اعتراضاتهم متوقَّعة، إعجاباً شاملاً وحماساً بالغاً.
أجل لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يهتم فيها الكرسي الرسولي بالمصالح المادية دفاعاً عن الوضعاء؛ فهناك وثائق أخرى للبابا لاوون الثالث عشر عينه سبقت فمهّدت الطريق. غير أن هذه تضمّنت مجموعة نظامية من المبادئ ونظرة تاريخية واسعة الآفاق إلى حدّ أن جعلت من رسالته “الشؤون الحديثة” موسوعة كاثوليكية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
أنه عمل لا يخلو من الشجاعة. ففيما كان أناس يتجاسرون على أن ينعموا على الكنيسة اكتفاءها، أمام المعضلة الاجتماعية، بحثّ الفقراء على الصبر وحضّ الأغنياء على السخاء، هبّ لاوون الثالث عشر يطالب بحقوق العامل المشروعة ويدافع عنها.
وفيما كان يتهيأ لشرح مبادئ العقيدة الكاثوليكية حول الشؤون الاجتماعية أعلن رسمياً: “إننا بثقة تامة نتطرق إلى هذا الموضوع وبملء حقنا نعالجه لأن المعضلة التي تقلق العالم هي من الخطورة بحيث يستحيل أن يوجد لها يوماً حلّ فعّال ما لم يُستعَنْ بالدين وبالكنيسة” (3).
10- إنها معروفة عندكم، أيها الإخوة المحترمون، تلك المبادئ الأساسية التي عرضها الحبر الخالد الذكر، بوضوح وسلطان، متعادلين، وبمقتضاها يجب أن يعاد تنظيم القطاع الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع البشري.
فهي تُعنى، أول ما تُعنى، بالعمل الذي يجب أن يُنظر إليه ليس كما يُنظر إلى سلعة بل كما يُنظر إلى تعبير عن الشخص البشري. لأن العمل هو، للسواد الأعظم من الناس، المّعين الأوحد الذي يغرفون منه وسائل العيش فلا يمكن بالتالي أن تترك أجرته لحركة نواميس السوق الذاتية بل يجب، على العكس، أن تُعيّن طبقاً لمقتضيات العدل والإنصاف وإلاّ ظل العدل والانصاف منتهكَيْ الحرمة حتى ولو تمَّ عقد العمل بحرية تامة بين الفرقاء.
11- فالملكية الفردية حتى ملكية خيرات الانتاج هي حق طبيعي لا تستطيع الدولة أن تلغيه. ولهذه الملكية، من طبيعتها، وظيفة اجتماعية؛ فهي إذن حق يمارس لمصلحة المالك ولفائدة الآخرين.
12- على أنه يمتنع على الدولة، بما أن علة وجودها هي تحقيق الخير العام في النظام الزمني، أن تكون غائبة عن العالم الاقتصادي؛ فحتم عليها أن تكون حاضرة لكي تدفعه، بالطرق المؤاتية، إلى إنتاج كمية كافية من الخيور المادية “الضروريّ استخدامها لممارسة الفضيلة” (4) ولكي تذود عن حقوق جميع المواطنين ولاسيما الضعفاء منهم كالعمال والنساء والأولاد، كما أن واجبها اللازم أن تساهم بفعالية في تحسين أحوال العمال الحياتية.
13- ومن واجب الدولة أيضاً أن تسهر على أن تتطوّر علاقات العمل وفقاً لمقتضيات العدل والانصاف وعلى أن لا تُمتهن في أوساط العمل كرامة الشخص البشري جسداً ونفساً. وفي هذا المجال وضعت رسالة لاوون خطوطاً استوحاها التشريع الاجتماعي في الدول المعاصرة وكان لتلك الخطوط، كما أشارت إلى ذلك رسالة بيوس الحادي عشر “الأربعين سنة” (5) أثر فعّال في خلق وإشاعة فرح جديد في علم الحقوق ألا وهو: قانون العمل.
14- أمّا العمال فتقرّ لهم الرسالة بحقهم الطبيعي في أن ينشئوا جمعيّات للعمال وحدهم أو للعمال ولأرباب الأعمال معاً، كما تقر لهم أيضاً بالحق في أن ينظموها التنظيم الداخلي الذي يرونه أوفق لملاحقة مصالحهم المشروعة: الاقتصادية منها والمهنية؛ وبحقهم في أن يعملوا، بطريقة مستقلة، ومن تلقاء أنفسهم، في داخل هذه الشركات بغية ملاحقة مصالحهم.
15- وعلى العمال وأرباب العمل أن ينظموا علاقاتهم مستوحين مبدأ التضامن البشري والإخوة المسيحية؛ لأن المنافسة بالمعنى الذي لها في المذهب الاقتصادي الحرّ، وصراع الطبقات بالمعنى الذي له في الماركسية كلاهما يضادان الطبيعة ويتنافيان والمفهوم المسيحي للحياة.
16- هذه هي، أيها الإخوة المحترمون، المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها نظام اقتصادي واجتماعي سليم.
فلا ينبغي إذن أن نعجب إذا كان الأعيان الكاثوليك، وقد أثرت فيهم تنبيهات الرسالة، قد خلقوا مشاريع كثيرة ليجسدوا تلك المبادئ في الأفعال، وفي الاتجاه عينه وبضغط مقتضيات الطبيعة الموضوعية تحرك أيضاً أناس من ذوي الإرادة الصالحة في جميع بلدان العالم. لذلك كانت الرسالة لا تزال تُعدّ بحقٍ “الشرعة العظمى” (6) لإعادة البنيان الاقتصادي والاجتماعي في الأزمنة المعاصرة.
الرسالة العامة “لأربعين سنة خلت”
17- احتفل سلفنا الصالح الذكر بيوس الحادي عشر، غب مرور أربعين سنة، بذكرى الرسالة العامة “الشؤون الحديثة” بوثيقة جديدة رسمية هي الرسالة العامة “لأربعين سنة” (7).
ففي هذه الوثيقة يذكّر الحبر الأعظم بالحق الذي للكنيسة وبالواجب الذي عليها في أن تساهم مساهمة لا تقوم مقامها مساهمة في حلّ موفّق للمعضلات الاجتماعية الأكثر خطورةً وإحراجاً التي تقض مضاجع العيلة البشرية. فيثبت من جديد المبادئ الأساسية والتوجيهات التاريخية التي تضمنتها رسالة لاوون الثالث عشر ويغتنمنها فرصة للتدقيق في بعض نقاط عقائدية حامت حولها شكوك بين الكاثوليك أنفسهم ولشرح الفكرة الاجتماعية المسيحية بالنظر إلى ظروف العصر الجديد.
18- أما الشكوك المنوّه عنها فكانت تدور بوجه خاص حول الملكية الفردية ونظام الأجور وموقف الكاثوليك حيال شكلٍ من الاشتراكية المعتدلة.
فبشأن الملكية الفردية يؤكد سلفنا من جديد طابعها، طابع الحق الطبيعي، ويشدد على وجهها ووظيفتها الاجتماعية.
19- وأما بشأن نظام الأجور فيرفض النظرية القائلة بأنه نظام بطبيعته جائر؛ ويشجب مع ذلك الأشكال اللا إنسانية والجائرة المستخدمة بعض الأحيان في تطبيقه. ويكرّر ويتبسّط في شرح القواعد التي ينبغي أن يستوحيها والظروف التي يجب أن يراعيها لكيلا ينتهك حرمة العدل والإنصاف.
20- وفي هذا الموضوع يوضح سلفنا أنه من المناسب، نظراً للظروف الراهنة، أن يُعدّل عقد العمل بعناصر تُقتبس من عقد الشراكة “بحيث يُدعى العمال والمستخدَمون إلى الاشتراك في ملكية المؤسسة وفي إدارتها، وعلى نوع ما، في الأرباح التي تنتجها” (8).
21- ويجب أن يعتبر من الأهمية العقائدية والعملية العظمى التأكيد أنه من المستحيل أن يُقدر العمل حق قدره وأن يمنح أجرة سديدة إذا ما أغفل اعتباره من ناحيتيه الفردية والاجتماعية معاً” (9).
ومن ثمَّ فلكي تُحدّد أجرة العمل يقضي العدل، يقول البابا، بأن يُحسب حساب لا لحاجات العمال ومسؤولياتهم العيلية فقط بل لوضع المؤسسة التي يشتغل فيها العمال ولمقتضيات الاقتصاد العام أيضاً (10).
22- بين الشيوعية والمسيحية، يذكّر البابا بأن التناقض هو أصيل؛ ويضيف أنه من غير الجائز، ولا بشكل من الأشكال، أن يقبل الكاثوليك بالاشتراكية المعتدلة أمّا لأنها مفهوم حياة مغلق على الزمني يعتبر فيها الرفاه غاية المجتمع القصوى؛ وإمّا لأنها تسعى جادّة إلى تنظيم اجتماعي للحياة العامة على مستوى الانتاج فقط دون سواه بصرف النظر عما يلحق تنظيمها من أذىً جسيم بالحرية البشرية، وإما لأنها تخلو من أي مبدأ سلطة اجتماعية حقّة.
23- على أنه لا يفوت بيوس الحادي عشر أن الوضع التاريخي، منذ إذاعة رسالة لاوون الثالث عشر، في أربعين سنة، قد تطوّر عميقاً. وفي الواقع فإن المنافسة الحرة، بقوة منطقها الذاتي، انتهت او كادت أن تنتهي إلى ملاشاة ذاتها؛ لقد جرّت إلى حشد للمال عظيم وإلى حصر سلطة اقتصادية هائلة بين أيدي بعض أفراد “ليسوا عادة بالمالكين بل هم مؤتمنون ووكلاء على رأس مالٍ يديرونه على هواهم” (11).
24- وفي هذه الأثناء، كما يشير الحبر الأعظم بثاقب بصره، “خلفت حرية السوق ديكتاتورية اقتصادية” وشهوة الكسب أخلت المكان لطموح طليق العنان إلى السيادة، فأمست الحياة الاقتصادية كلها، وبشكل مرعب، شاقة عنيفة قاسية (12) قاضية باستعباد السلطات العامة لمصالح فئاتٍ، ومؤدّية إلى هيمنة المال هيمنة دولية.
25- فلمعالجة هذا الوضع عيّن الراعي الأسمى، كمبادئ أساسية، العودة إلى دمج العالم الاقتصادي في النظام الأدبي، وإدخال السعي وراء المصالح – فردية أم جماعية – في دائرة الخير العام؛ وهذا يقتضي، طبقاً لتعليمه، إعادة تنظيم الحياة العامة بواسطة الرجوع إلى إقامة أجهزة متوسطة مستقلة ذات غاية اقتصادية ومهنية لا تفرضها الدولة بل يخلقها أعضاؤها من تلقاء أنفسهم، واسترجاع السلطات العامة سلطانها لتؤمّن المهام التي تعود إليها في تحقيق الخير العام، والتعاون الاقتصادي على الصعيد العالمي بين الجماعات السياسية.
26- على أن في رسالة بيوس الحادي عشر القيمة موضوعين أساسيين كلاهما خليقان برويّتنا وتبصّرنا.
الأول ينهي نهياً باتاً عن أن تتخذ قاعدة قصوى لنشاطات العالم الاقتصادي ومنظماته المصلحة الفردية أو الجماعية، أو التنافس الحر، أو الهيمنة الاقتصادية، أو نفوذ الدولة وقوّتها، أو قواعد أخرى من هذا النوع.
بل على العكس من ذلك، يجب أن يُعتبر كقواعد عُليا لتلك النشاطات والأنظمة العدل والمحبة الاجتماعيان.
27- والثاني يوصي بخلق نظام شرعي، قومي ودولي، تمهره قوانين ثابتة عامة وخاصة: يستوحي العدل الاجتماعي وله ينقاد الاقتصاد؛ وهكذا تقلّ الصعاب في طريق العوامل الاقتصادية إلى العمل في إنسجام مع مقتضيات العدل في نطاق الخير العام.
رسالة بيوس الثاني عشر الإذاعية في عيد العنصرة سنة 1941
28- وبيوس الثاني عشر، سلفنا السعيد الذكر، ساهم كثيراً هو أيضاً في تحديد التعليم الاجتماعي المسيحي وتطويره. ففي أول حزيران عام 1941، في عيد العنصرة، أذاع رسالة من محطة الفاتيكان ليلفت انتباه العالم الكاثوليكي إلى ذكرى سنوية تستحقّ أن تدوّن بأحرف من ذهب في سجلّ عظمات الكنيسة – الذكرى الخمسينية لنشر الرسالة الاجتماعية الأساسية “الشؤون الحديثة” (13) لواضعها لاوون الثالث عشر – 15 أيار 1891؛ وليشكر الله الكلي القدرة … على النعمة الممنوحة للكنيسة برسالة نائبه على الأرض وليشيد بنعمة الروح القدس المجدِّد الذي أفاض بواسطتها مواهبه، وما أنفك يفيضها منذ ظهور الرسالة إلى اليوم بغزارة على البشرية جمعاء” (14).
29- يطالب الحبر الأعظم، في رسالته الإذاعية هذه بصلاحية الكنيسة التي لا جدل فيها… لتحكم فيما إذا كانت أسس نظام اجتماعي معيّن مطابقةً لنظام الأشياء الثابت الدائم الذي أعلنه الله الخالق والفادي، بواسطة الحق الطبيعي والوحي” (15)؛ ويثبت ثانية الحيوية الخالدة، حيوية تعاليم الرسالة العامة “الشؤون الحديثة” وخصبها الذي لا ينضب، وينتهز هذه الفرصة “ليذكر بالمبادئ التوجيهية، مبادئ السنة الأدبية، حول قيم ثلاث أساسية للحياة الاجتماعية والاقتصادية… وهذه العناصر الثلاثة الأساسية التي تتلاقى وتتحد وتتساند هي: استخدام الخيور المادية والعمل والعيلة” (16).
30- ففيما يتعلق باستخدام الخيور المادية يؤكد سلفنا أن الحق الذي يملكه كل إنسان في استخدام هذه الخيور للقيام بأوده هو حقّ أوليّ بالنسبة إلى كل حق آخر اقتصادي بطبيعته، وحتى بالنسبة إلى حق الملكية عينه. أكيد، يضيف سلفنا، أن حق الملكية الخيور هو أيضاً حق طبيعي؛ غير أنه بموجب النظام الموضوعي الذي سنّه الله يجب أن يُحدّد حقّ الملكية بحيث لا يشكّل عقبةً في سبيل المطلب الممتنع الإبطال: أن الخيرات التي خلقها الله لأجل جميع الناس يجب أن تكون في خدمة جميع الناس بطريقة منصفة طبقاً لمبادئ العدل والمحبة” (17).
31- وبشأن العمل عاد بيوس الثاني عشر إلى مسألة عولجت في رسالة لاوون الثالث عشر فذكّر بأن العمل هو، في وقت واحدٍ، واجب وحقّ لكل كائن بشري. ومن ثمَّ يعود إلى الناس، في المقام الأول، أن ينظموا علاقاتهم المتبادلة بشأن العمل. وفي حال تمنّع المعنيين عن القيام بمهمتهم أو في حال عجزهم عن القيام بها، عندئذ وعندئذ فقط “يدخل في خصائص الدولة أن تتدخل في هذا المجال وفي تقسيم العمل وتوزيعه بالشكل وبالقدر اللذين يقتضيهما الخير العام بمفهومه الشرعي” (18).
32- وأمّا بشأن العيلة فيؤكد الحبر الأعظم أن الملكية الفردية للخيور المادية يجب أن تعتبر المدى الحيويّ للعيلة أي كوسيلة قمينة بأن تضمن لرب العيلة الحرية السليمة التي يحتاج إليها ليتمكن من القيام بالواجبات التي فرضها عليه الخالق لرفاه العيلة المادي والروحي والديني” (19).
33- وهذا يقتضي أيضاً حق العيلة في الهجرة. وعن هذا الحق في الهجرة قال سلفنا أنه عندما تعمل الدول – تلك التي تجيز الهجرة كالتي تستقبل المهاجرين – كل ما تستطيع لنبذ ما يمكن أن يمنع قيام أو نموّ ثقة حقيقية في ما بينها، (20) تحصل على منفعة متبادلة وتسهم معاً في ازدياد رفاه البشرية كما تسهم في تقدم الثقافة.
التطورات الأخيرة
34- إن الوضع الذي كان تطور حتى يوم أحيا بيوس الثاني عشر الذكرى، طرأت عليه أيضاً في عشرين سنة تطوّرات عميقة أن في داخل الدول وإن في علاقاتها المتبادلة.
35- ففي ميدان العلم والتكنيك والاقتصاد: اكتشاف الطاقة الذرية وتطبيقاتها الأولى لغايات حربية؛ واستخدامها المطّرد لأهداف سليمة؛ الإمكانيات اللامحدودة التي أدخلتها على الكيمياء المنُتجات التركيبية؛ تكاثر المحركات الذاتية في دنيا الصناعة وفي حقل الخدمات؛ “عصرنة” القطاع الزراعي، القضاء الكامل تقريباً على المسافة في المواصلات بفضل الراديو والتلفزيون بوجه خاص؛ سرعة في النقل متزايدة، البدء في غزو الفضاء الخارجي.
36- وفي دنيا الاجتماع: تطور التأمينات الاجتماعية، وفي بعض البلدان النامية اقتصادياً أكثر من غيرها، إقامة أنظمة للضمان الاجتماعي: وخلق موقف من المسؤولية واتساعه في الحركات النقابية بإزاء المعضلات الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية: ارتفاع الثقافة الأساسية بإطراد؛ انتشار الرخاء في العيش يوماً بعد يوم؛ حركة عظيمة وتقلب سريع في الحياة الاجتماعية وانخفاض الحواجز بين الطبقات؛ اهتمام الإنسان ذي الثقافة المتوسطة في الاحداث اليومية ذات المدى العالمي. وعلاوة على هذا كله فإن مضاعفة فعالية الأنظمة الاقتصادية في عدد من البلدان الآخذة بالازدياد تبيّن بجلاء عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين القطاع الزراعي من جهة والقطاع الصناعي والخدمات من جهة أخرى؛ بين المناطق النامية اقتصادياً والمناطق ذات الاقتصاد الأقل تطوراً في داخل كل بلد؛ وعلى الصعيد العالمي عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي بوجه أوضح أيضاً بين البلدان المتطورة اقتصادياً والبلدان التي هي في تطورٍ اقتصادي.
37- وفي دنيا السياسة: اشتراك عدد أكبر من المواطنين من منابت متنوعة في الحياة العامة وفي بلدان عديدة، اتساع عمل السلطات العامة وتغلغله في دنيا الاقتصاد والاجتماع. وإلى هذا يضاف على الصعيد الدولي ميلان الأنظمة الاستعمارية إلى الزوال، وحصول شعوب آسيا وأفريقيا على استقلالها السياسي.
تكاثر العلاقات بين الشعوب وتشابكها؛ والتعمق في ترابطها الاستقلالي؛ خلق شبكة تتكاثف دائماً من المنظمات ذات المدى العالمي تهدف إلى أن تستوحي مقاييس تتعدّى حدود القوميات والأوطان؛ منظمات ذات غايات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية.
مواضيع الرسالة الجديدة
38- لذلك نشعر نحن أيضاً بالواجب وهو أن نبقي على الشعلة التي أضرمها سلفاؤنا حيّة ونحضّ جميع الناس على أن يستخرجوا منها حميّة ونوراً ليحلوا المعضلة الاجتماعية بطريقة أوفق لعصرنا.
وهكذا يسعدنا أيضاً، ونحن نحتفل بذكرى رسالة لاوون الثالث عشر، أن ننتهز الفرصة لنذكر بالنقاط العقائدية التي عرضها سلفاؤنا فنوضحها وفي الوقت عينه لنشرح فكرة كنيسة المسيح في معضلات اليوم الجديدة والأكثر أهمية.
القسم الثاني
توضيح وتبسّط في التعاليم التي تضمّنتها الرسالة العامة:
“الشؤون الحديثة”
الحافز الشخصي وتدخل السلطات العامة في الحقل الاقتصادي
39- ليكن مقرّراً، قبل كل شيء، أن العالم الاقتصادي هو وليد حوافز الأفراد الشخصية، سواء أعملوا منفردين أم مشتركين بوجه من الوجوه، للسعي وراء مصالح مشتركة.
40- على أنه، بقوة البواعث التي قبل بها سلفاؤنا، من واجب السلطات العامة، من جهة أخرى، أن تكون حاضرة حضوراً فعليّاً لكي تدفع الإنتاج في طريق النمو بالنسبة إلى التقدم الاجتماعي وإلى منفعة جميع المواطنين. أمّا طابع عملها فهو طابع توجيهٍ وتنشيطٍ ونيابةٍ وتكميلٍ؛ وعليه أن يستوحي “مبدأ الاستطراد” (21) الذي عبر عنه بيوس الحادي عشر في الرسالة العامة “الأربعين سنة”: “مما لا جدل فيه أنا لا نستطيع أن نغيّر أو نزعزع هذا المبدأ الخطير جداً في فلسفة الاجتماع فكما أنه لا يمكن أن تُنزع من الأفراد، لتحوّل إلى الجماعة، المهام التي هم قادرون على قضائها ببادرتهم وحدها ووسائلهم الخاصة؛ كذلك هو ضرب من الظلم، وفي الوقت عينه بلبلة تلحق ضرراً جسيماً بالنظام الاجتماعي، أن تُنتزع من الجماعات الدنيا، لتُوكل إلى جماعات أوسع منها وأعلى، المهام التي تستطيع تلك القيام بها بنفسها، ذلك لأن الغاية الطبيعية من وراء كل تدخل في الحقل الاجتماعي هي مساعدة أعضاء الجهاز الاجتماعي لا القضاء عليه ولا ابتلاعه” (22).
41- لا ريب في أن تطور العلوم وتكنيك الإنتاج في أيامنا يفسح أمام السلطات العامة من المجالات أوسعها لتعمل على تخفيض عدم التوازن القائم بين قطاعات الإنتاج المختلفة، وبين مختلف المناطق في داخل الجماعات السياسية، وبين مختلف البلدان على الصعيد العالمي. ويتيح لها أيضاً أن تضع حدّاً للاهتزازات التي تنتاب الأوضاع الاقتصادية من حين إلى آخر، وأن تجبه حوادث البطالة الجماعية مع نظرة واسعة إلى النتائج الإيجابية، وبالتالي لا تستطيع السلطات العامة، وهي المسؤولة عن الخير العام، إلاّ أن تشعر أنها مدعوة لتمارس في الحقل الاقتصادي عملاً متنوع الأشكال، عملاً أكثر اتساعاً وعمقاً وتنظيماً، وتطبّق هي نفسها، بلوغاً إلى هذه الغاية، الأنظمة والصلاحيات والوسائل والطرائق.
42- ولكن لا بدّ لنا هنا من أن نذكّر تكراراً بهذا المبدأ وهو أن تدخّل الدولة في الحقل الاقتصادي، أياً كان اتساعه وتغلغله، ليست غايته الحدّ شيئاً فشيئاً من نطاق حرية المبادرة الشخصية التي هي للأفراد؛ بل غايته، على العكس من ذلك، أن يضمن لحقل العمل هذا أوسع مدى ممكن بالعمل على حماية فعالة لحقوق الشخص البشري الجوهرية للجميع ولكل فرد. ومن بين هذه الحقوق ينبغي أن نتمسك بالحق الذي يعود لكل شخص بشري في أن يكون وأن يظل عادة المسؤول الأول عن معيشته وعن القيام بأود عيلته وهذا يقتضي أن تتاح وتسهل، في أي نظام اقتصادي، الممارسة الحرة للأعمال المنتجة.
43- إن مجرى التاريخ عينه يظهر كل يوم بأكثر جلاء أنه من غير الممكن أن تقوم حياة عامة منظمة ومجدية ما لم تتضافر جهود الأفراد والسلطات العامة في الحقل الاقتصادي، تضافراً يتحقق في آنٍ واحد وفي وئام بنسبٍ تتجاوب مع مقتضيات الخير العام ومع مراعاة الأوضاع المتقلبة والأحوال البشرية المتلوّنة.
44- وفي الواقع، كما يعلّمنا الاختبار، أنه حيث تنقص مبادرة الأفراد الشخصية يذر الاستبداد السياسي قرنه، بل وتضعف القطاعات الاقتصادية الموَّجهة بوجه خاص لإنتاج مجموعة لا حدّ لها من خيور الاستهلاك والخدمات، خيور تسد الحاجات المادية وعلاوة عليها ترضي مطالب الروح: خيور وخدمات تجند بنوع خاص عبقرية الأفراد الخلاّقة. في حين أنه حيث ينقص عمل الدولة اللازم تقوم بلبلة لا دواء لها ويستغل الضعفاء أقوياءٌ لا يتقيدون بأحكام الضمير ينبتون في كل أرض وفي كل زمان كالزؤان بين القمح.
الاتجاه الاشتراكي المعاصر (Socialisation)
منشأ هذه الظاهرة واتساعها
45- الاتجاه الاشتراكي ميزة من ميزات عصرنا، فهو تكاثر مطرد للعلاقات في الحياة العامة ويقتضي أشكال حياة مختلفة ونشاطاً مشتركاً وإقامة مؤسسات نظامية. هو واقع يتغذى من معين عوامل تاريخية عديدة من بينها ينبغي أن نعدّ التقدم العلمي والتطورات التكنيكية، وفعالية مثمرة أعظم، ومستوى حياةٍ عند الناس أرفع.
46- إن الاتجاه الاشتراكي المعاصر هو علة ونتيجة معاً لتدخل السلطات العامة المتزايد حتى في الميادين الأكثر دقة وحساسية: كالعناية الطبية وتثقيف الأجيال الجديدة وتربيتها والتوجيه المهني وطرق إصلاح الناقصين وإعادة تدربهم، وهو أيضاً ثمرةٌ وتعبيرٌ عن ميل طبيعي في الناس، تقريباً لا يُقاوم: ميلٍ إلى التشارك لبلوغ أهدافٍ تتعدى قوى الأفراد والوسائل التي يستطيعون أن يستخدموها. نزعة خلقت، ولاسيما في عشرات السنين الأخيرة، مجموعةً من الجماعات، والشركات والمؤسسات ذات غايات اقتصادية وثقافية واجتماعية ورياضية وترفيهية ومهنية وسياسية سواء أكان في داخل الجماعات السياسية أم على الصعيد العالمي.
تقدير
47- من البين أن الاتجاه الاشتراكي وفقاً لهذا المفهوم، تتأتى عنه منافع كثيرة. إنه، في الواقع، يتيح للناس أن يتمتعوا بحقوق شخصية عديدة ولاسيما بتلك التي تدعى حقوقاً اقتصادية واجتماعية، مثال ذلك الحق في الوسائل الضرورية للبلوغ إلى عيش إنساني حقاً؛ والحق في العناية الطبية، وفي ثقافة أساسية أعلى وفي تدريب مهني أكمل، والحق في السكن والعمل والراحة اللائقة والترويح عن النفس؛ وما عدا هذا كلّه، وبفضل تنظيم أكمل للوسائل العصرية المتعلقة بنشر الفكر – الصحافة والسينما والراديو والتلفزيون – يصير من السهل على كل شخص أن يشترك في معرفة الأحداث والتقلبات البشرية على نطاق عالمي.
48- غير أن الاتجاه الاشتراكي هذا يكثر من مذاهب التنظيم ويجعل التنظيم القانوني للعلاقات البشرية يزداد دقة يوماً بعد يوم فيضيّق بالتالي في مجال العمل الحرّ عند الأفراد؛ ويستعمل أساليب ويخلق أجواء تجعل من الصعب على الإنسان أن يكوّن لنفسه فكرة مستقلة عن التأثيرات الخارجية وأن يقوم بفعل تلقائي خاص ويضطلع بمسؤولياته ويثبت وجوده ويغني شخصيته. فهل يُستخلص من هذا كله أن الاتجاه الاشتراكي المعاصر، بامتداده اتساعاً وعمقاً، يحوّل الناس حتماً إلى آلات متحركة؟ لا بدّ من الجواب بالنفي عن هذا السؤال.
49- فلا يجوز أن يعتبر الاتجاه الاشتراكي المعاصر نتيجة لقوى طبيعية تحركها الحتمية بل هو، على العكس من ذلك، كما سبقنا وقلنا، من صنع أناس عاقلين واعين، وأحرار، فطروا على تحمل مسؤولية أعمالهم حتى ولو كانوا ملزمين في عملهم بأن يعترفوا بنواميس التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي ويحترموها إذا تعذر عليهم التملص من ضغط محيطهم تملصاً ناجزاً.
50- ومن هنا نخلص إلى القول بأنه من الممكن بل من الواجب أن يُحقق الاتجاه الاشتراكي بطريقة تكفل الإفادة ممّا يحمل من منافع، وتلافي مفاعيله السلبية أو كبحها.
51- وبلوغاً إلى هذه الغاية من الواجب على الأشخاص المتولين سلطة عامة أن تعمر صدورهم بمفهوم للخير العام صحيح وسليم. والخير العام يقتضي سلسلة من الأحوال الاجتماعية التي تتيح للناس وتهوّن عليهم تكميل شخصيتهم تكميلاً تاماً.
52- وعلاوة على هذا، نعتبر أنه من الضروري أن تتمتع الأجهزة المتوسطة والحوافز الاجتماعية المتنوعة التي يظهر بواسطتها بنوع خاص الاتجاه الاشتراكي ويتحقق، باستقلال فعّال بإزاء السلطات العامة وأن تسعى وراء مصالحها الخاصة بتعاون صادق فيما بينها وبخضوعها لمتطلبات الخير العام.
وليس بأقل ضرورة أن تظهر هذه الأجهزة الاجتماعية في شكل جماعة حقيقية وهذا يعني أن يُعتبر أعضاؤها ويُعاملوا كأشخاص مدفوعين إلى الاشتراك في حياتهم بهمّة وحمية.
53- إن منظمات المجتمع المعاصر تتطور: والنظام يتحقق فيها أكثر فأكثر بفضل توازن دائماً في تجدد. وهذا يتطلب من جهة تعاوناً مستقلاً يقوم به المعنيّون أفراداً كانوا أم جماعات؛ ومن جهة أخرى، تنسيقاً يتم في الوقت المناسب، وتوجيهاً من قبل السلطات العامة.
54- فلو كان الاتجاه الاشتراكي المعاصر يُمارس في النظام الأدبي وفقاً للخطوط المشار إليها لما كان يحمل، بطبيعته، أخطار تضييق خطيرة على حساب الأفراد بل لكان، على العكس من ذلك، يعزز فيهم الصفات الخاصة بالشخص البشري، ولكان يعيد حتى تنظيم الحياة العامة كما سبق فنادى به شرطاً لا بدّ منه لإرضاء مطالب العدالة الاجتماعية سلفنا بيوس الحادي عشر في الرسالة العامة “لأربعين سنة خلت” (23).
أجرة العمل
قواعد العدل والإنصاف
55- يحزّ الألم في قلبنا أمام مشهد محزن جداً: مشهد جموع من العمال، في بلدان عديدة وفي قارات برمتها، يُعطون أجرة توجب عليهم، وعلى عيالهم، أحوالاً حياتية لا تليق بالإنسان. ومردّ هذا أيضاً، من دون ريب، إلى أن التصنيع في تلك البلدان والقارات لا يزال في مهده أو هو في مرحلةٍ تقدّمها هو دون الكفاءة.
56- على أنه، في بعض من تلك البلدان، صارخ ومهين هو التضاد القائم بين بؤس الكثيرين وسعة العيش والبذخ الطليق عند بعض المحظوظين. وفي بلدان أخرى يُرغم الجيل الطالع على معاناة حرمان لا إنساني ابتغاءً لزيادة فعالية الاقتصاد الوطني بانتهاج سرعة لا تتناسب مع مقتضيات العدل والإنسانية؛ وفي غيرها تنفق كمية باهظة من الدخل لاستثمار أو لتقوية نفوذ قومي أُسيءَ فهمه، ومبالغ طائلة تصرف على التسلّح.
57- وإلى هذا، ليس من النادر أن تمنح، في البلدان المتطورة اقتصادياً، أجور مرتفعة جداً لخدمات تافهة لا تتطلب تعباً أو لخدمات ذات قيمة مشكوك فيها بينا فئات بكاملها من المواطنين الشرفاء والمعتكفين على العمل لا يعطون لأجل نشاطهم المتواصل والمجدي إلاّ أجوراً جد ضئيلة غير كافية وفي كل حال لا تتناسب مع إسهامها في الخير العام وفي إنتاج المؤسسة كما لا تتناسب مع مجمل دخل الاقتصاد القومي.
58- لذلك نرى من واجبنا أن نؤكد، مرة أخرى، أن أجر العمل لا يمكن أن يترك بكليّته لنواميس السوق؛ ولا أن يحدد اعتباطاً بل يجب أن يُحدد في عدل وإنصاف وهذا يقتضي أن يعطي العمّال أجراً يسمح لهم بأن يجبهوا في كرامة تبعاتهم العيلية مع مستوى حياة حقاً إنساني؛ ويتطلب أيضاً، لكي تحدّد الأجور، أن يُعتبر نصيبهم الفعلي في الإنتاج وأوضاع المؤسسات الاقتصادية ومقتضيات خير الأمة العام؛ ويؤخذ بعين الاعتبار الخاص ما للأجور من ردات فعل على مجمل حركة التشغيل في أنحاء البلد، ومقتضيات الخير العام العالمي أيضاً الذي يهمّ الجماعات الدولية، المختلفة في طبيعتها وفي مساحتها.
59- من الواضح أن لهذه المبادئ المذكورة قيمتها في كل مكان وفي كل زمان، ولكن ليس في الإمكان أن يُحدّد مقياس تطبيقها العملي من دون أن يُحسب حساب للثروات الممكن استخدامها؛ ثروات يمكن أن تختلف، وفي الواقع تختلف بالكمية والنوع من بلد إلى بلد وفي البلد ذاته من زمنٍ إلى آخر.
التوفيق بين التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي
60- بينما تتطور اقتصاديات البلدان المختلفة بسرعة راحت تتضاعف منذ الحرب الأخيرة، يظهر لنا مناسباً أن نلفت الانتباه إلى مبدأ أساسي وهو أن التقدم الاجتماعي يجب أن يماشي ويُدرك النمو الاقتصادي إلى حدّ أن يكون لجميع الفئات الاجتماعية نصيبها من الفوائد المتزايدة.
فينبغي السهر إذن، في عناية وانتباه، والعمل بفعالية، على أن لا يتضخم عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي بل أن ينخفض ما أمكن.
61- لقد أصاب سلفنا بيوس الثاني عشر بقوله: “إن الاقتصاد الوطني عينه، بما أنه ثمرة عمل أناسٍ يشتغلون متحدين في جماعة سياسية فلا غاية له إلاّ أن يؤمن بدون انقطاع الأحوال المادية التي تستطيع أن تتفتح فيها حياة المواطنين الفردية تفتحاً كاملاً. وحيث يتم هذا، وبطريقة دائمة، سيكون هناك شعب، في الحقيقة، غنيّ اقتصادياً لأن العيش الرغيد العام و بالنتيجة الحق الشخصي الذي للجميع في استخدام الخيور الأرضية يصبح على هذا النحو محقّقاً وفقاً للخطة التي أرادها الخالق” (24).
من هذا يستخلص أن الغنى الاقتصادي عند أي شعب كان لا يحصل من وفرة الخيور إجمالاً وحسب بل أيضاً وبالأكثر من توزيع تلك الخيور الفعلي بموجب العدل بغية أن يؤمن التفتح الشخصي لجميع أعضاء الجماعة: تلك هي الغاية الحقيقية للاقتصاد القومي.
62- لا نستطيع أن نغفل هنا هذا الواقع وهو أن المشاريع الكبيرة والمتوسطة تحصل، في أيامنا، وبطريقة مألوفة، في اقتصاديات عديدة، على طاقة للإنتاج تتزايد بسرعة وبكثرة، بفضل التمويل الذاتي، وفي هذه الحال نرى أن في وسعنا أن نؤكد أن من واجب المؤسسة أن تقر بقرض للعمال الذين تستخدمهم ولاسيما من كان منهم يقبض أجرة لا تتجاوز الحدّ الأدنى.
63- وفي هذا الصدد نذكّر بالمبدأ الذي عبر عنه سلفنا بيوس الثاني عشر في رسالته العمة “لأربعين سنة خلت” “من الخطأ أن نرى في رأس المال وحده أو في العمل وحدة العلّة الوحيدة لكل ما يُنتج جهدُهما المشترك. ومن الظلم الفادح أن ينكر الواحد على الآخر فعاليته ليستأثر بثمرة العمل وحده” (25).
64- فيمكن أن يحقق مطلب العدل هذا بطرق كثيرة يوحي بها الاختبار وإحداها ومن أشهاها على القلب تقوم على تمكين العمال من أن يصبحوا شركاء في ملكية المؤسسات بالأشكال والطرق الأكثر ملائمة؛ لذلك يجب اليوم، أكثر من عهد سلفنا، أن تُعبَّأ جميع القوى لكي يُصار، أقله في المستقبل، إلى تخفيض قسم من الخيور التي تتكدس في أيدي الرأسماليين، إلى قياسٍ تستقيم معه حدود الإنصاف، ليتحول بوفرة كافية إلى أيدي العمال” (26).
65- ومن واجبنا، إلى ذلك، أن نذكّر بأن التوازن بين أجرة العمل والدخل يجب أن يُبلغ إليه بالإنسجام مع مقتضيات الخير العام سواء أكان خير المجتمع القومي أم خير العيلة البشرية في مجموعها.
66- وينبغي اعتبار مقتضيات الخير العام على الصعيد القومي: العمل على تشغيل العدد الأوفر من العمال أنفسهم؛ والإبقاء على توازن عادل بين الأجور والأسعار، وفتح أبواب الخيرات والخدمات لأكبر عدد ممكن من المواطنين؛ والقضاء على عدم التوازن بين القطاع الزراعي والقطاع الاقتصادي والخدمات أو تخفيضه ما أمكن؛ والتوفيق بين اتساع الاقتصاد وتطور الخدمات العامة الجوهرية؛ والعمل المستطاع للتوازن بين أنظمة الانتاج وتقدم العلوم والتكنيك، وتعديل مستوى الحياة للأجيال الحاضرة المرتفع بغية تهيئة مستقبل أفضل للأجيال الآتية.
67- وللخير العام، علاوة على ما تقدم، مقتضيات على الصعيد العالمي منها: تجنب كل نوع من التنافس المعوج الماكر بين اقتصاديات البلدان المختلفة؛ ومنها تشجيع التعاون باتفاقات مجدية بين الاقتصاديات القومية والمساهمة في التطور الاقتصادي عند الجماعات السياسية الأقل تقدّماً.
68- من البديهي أن لمقتضيات الخير العام هذه، قومية كانت أم عالمية، اعتبارها ولا سيما عندما يراد تحديد قيمة الدخل الواجب توزيعها كربح على المسؤولين عن إدارة المؤسسات، وتحت شكل فوائد أو حصص على من يقدمون رؤوس الأموال.
مقتضيات العدل بالنظر إلى الأنظمة
أنظمة تتلاءم وكرامة الإنسان
69- يجب أن تراعى حرمة العدل ليس في توزيع الثروات وحسب بل بالنظر أيضاً إلى المؤسسات التي يتم فيها سير الإنتاج. ففي طبيعة الناس، في الواقع، فطرة أن يكون في طاقتهم الاضطلاع بمسؤولياتهم وتكميل ذواتهم حيث يتمرسون بنشاطهم المنتج.
70- لذلك إذا كانت الأنظمة وسير الأعمال والبيئات، في أي مذهب اقتصادي تعرض للخطر الكرامة البشرية، كرامة العاملين به، وتضعف فيهم بطريقة قياسية روح المسؤوليات وتقف حاجزاً دون إظهار بداهتهم الشخصية، فإن هذا المذهب الاقتصادي هو مذهب ظالم حتى لو بلغت الثروات التي ينتجها مستوى عالياً ووزعت وفقاً لقواعد العدل والإنصاف.
تذكير بقاعدة
71- ليس في الإمكان أن تُحدّد بالتفصيل أنظمة المذهب الاقتصادي التي تتجاوب بطريقة مثلى مع كرامة الإنسان وتكون أخلق بتطوير المسؤولية فيه. ومع ذلك فقد أعطانا سلفنا بيوس الثاني عشر هذه القاعدة في وقتها المناسب وهي: أن الملكية الصغيرة والمتوسطة، زراعية كانت أم حِرْفية أم مهنية، تجارية كانت أم صناعية يجب أن تُصان وتُساعد. فيترتب على الاتحادات التعاونية أن تؤمّن لها ما للمشاريع الاستثمارية الكبرى من منافع وحيث يبدو أن المشاريع الاستثمارية الكبرى لا تزال على تفوّق موفّق في الإنتاج فعلى هذه أن تمكنْ تلك من أن تعدّل عقد العمل بعقد شراكة” (27).
المؤسسة الحِرفية وتعاونيات الإنتاج
72- يجب أن تُحفظ وتشجع، بالإنسجام مع الخير العام، وفي إطار الإمكانيات التكنيكية المؤسسة الحِرفية والاستثمار الزراعي في المدى العيلي وكذلك المؤسسة التعاونية كتتمة للمؤسستين السابقتين.
73- أمّا بشأن الاستثمار الزراعي على مدى عيلي فسنعود فيما بعد إلى الكلام عليه؛ ولكنا نرى مناسباً أن نبدي هنا بعض ملاحظات تتعلق بالمؤسسة الحِرفية والتعاونيات.
74- فلا بدّ من الإشارة أولاً إلى أن على هذين النوعين من المؤسسات، لكي يعيشا، أن يتكيفا دوماً مع الأنظمة وسيرها والإنتاج والأوضاع التي هي في تجدّد دائم يفرضه تقدم العلم والتكنيك ومطالب المستهلكين ومستحبّاتهم المتقلبّة؛ تكييف يجب أن يحققه أول من يحققه الصناعيون والتعاونيون أنفسهم.
75- ومن الضروري، بلوغاً إلى هذه الغاية، أن يتثقف هؤلاء وأولئك ثقافة تكنيكية وإنسانية صالحة وأن يُنظمّوا تنظيماً مهنياً. وليس بأقل ضرورة أن تُنتهج سياسة اقتصادية تتلاءم وأوضاعهم فيما يتعلق خاصة بالتعليم و النظام الأميري والقروض والضمانات الاجتماعية.
76- وعلاوة على هذا إن عمل السلطات العامة على مساعدة أصحاب الحرّف والتعاونيين يبرره هذا الواقع وهو أن فئاتهم تحمل قيماً إنسانية حقَّة وتساهم في تقدم الحضارة.
77- لأجل هذه الأسباب ندعو، بروح أبوية، أبناءنا الأعزاء الصناعيين والتعاونيين المنتشرين في نواحي الأرض كلها، إلى أن يَعوا نبل مهنتهم ومساهمتهم في إيقاظ روح المسؤولية وروح التعاون لكي يبقى حيّاً في الأمة تذوق العمل الدقيق والمبتكر.
وجود العمال الفعلي في المؤسسات المتوسطة والكبيرة
78- إننا نعتبر شرعيّاً، ونحن نتتبع خطوات سلفائنا، توقَ العمال إلى أن يشتركوا فعليّاً في حياة المؤسسات التي ينضمون إليها ويشتغلون فيها. على أنه من المتعذر علينا أن نحدد مسبقاً نوع هذا الاشتراك ودرجته، لأن لهما علاقة بوضع المؤسسات الحسّي، وضع قد يتغير من مؤسسة إلى مؤسسة؛ وكل مؤسسة معرضة، في داخلها لتقلبات غالباً ما تكون سريعة وأساسية، ومع ذلك نرى من المناسب أن نلفت الانتباه إلى هذا الواقع وهو أن قضية وجود العمال الفعلي قائمة دوماً في المؤسسة سواء أكانت خاصّة أم عامّة؛ وعلى كل حال يجب أن نعمل على جعل المؤسسة تتحول إلى جماعة أشخاصٍ فيما يتعلق بعلاقات العاملين فيها ووظائفهم وأوضاعهم.
79- وهذا يتطلب أن تتسم العلاقات بين أرباب المؤسسات ومديريها من جهة والعمال من جهة أخرى بطابع الاحترام والتقدير والتفاهم والتعاون الفعلي والصادق و الاهتمام في عملهم المشترك؛ وأن يفهم جميع العاملين في المؤسسات العمل ويَحْيوه لا كمورد رزق وحسب بل كتتميم لواجب وقيام بخدمة أيضاً. ويقضي هذا بأن يكون في استطاعة العمال أن يُسمعوا صوتهم ويقوموا بدور فعّال في تسيير المؤسسة وتطويرها. لقد علَّم سلفنا بيوس الثاني عشر: “بأن المهمة الاقتصادية والاجتماعية التي يرغب كل إنسان في إتمامها تتطلب أن لا يخضع عمله خضوعاً تاماً لسلطة الآخرين” (28). أكيد أن مفهوم الناس للمؤسسة يوجب بأن يُحافظ على السلطة والفاعلية الضروريتين لوحدة الإدارة؛ غير أن وحدة الإدارة لا تقتضي بأن تحوّل معاونيها اليوميين إلى منفّذين صامتين يتعذّر عليهم أن يستغلّوا خبرتهم ويُفرَض عليهم أن يقفوا سلبياً، من القرارات التي توجِّه عملهم.
80- ومما تجدر الإشارة إليه أن اضطلاع العمال بالمسؤولية في أجهزة الإنتاج، حين يتجاوب مع المقتضيات الشرعية المفطور عليهم قلب الإنسان، ينسجم أيضاً مع مجرى التاريخ في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
81- وإنه لمن المؤسف، كما رأينا حتى الآن، وكما سنرى بإسهاب فيما بعد، أنها كثيرة هي الحالات الراهنة في عصرنا التي يبدو فيها الميزان الاقتصادي والاجتماعي مختلاً وأن في اختلاله ما يسيء إلى العدل وإلى الإنسانية. فهناك أضاليل عميقة الجذور تتغلغل في نشاطات العالم الاقتصادي وأهدافه وأنظمته وسيره؛ وهناك واقع لا ينكره أحد وهو أن المذاهب الاقتصادية أخذت، تحت ضغط التقدم العلمي والتكنيكي، “تتعصرن” على مرأى منا ومشهد، وتمسي عللاً فاعلة بسرعة ما عرفها الزمان الماضي؛ مما يتقاضى العمال قابليات وكفاءات وصفات مهنية أرفع؛
82- وفي الوقت عينه وبطريقة الاستنتاج، أن توضع تحت تصرفهم وسائل أقوى، واتساعاً من الوقت أوفر، لأجل تثقيفهم و”عصرنتهم” وتربيتهم الأخلاقية والدينية، وهكذا صار من الممكن أن تمدّد سنوات التعليم الأساسي والتثقيف المهني.
83- وعلى هذا النحو يُخلق محيط إنساني يساعد الطبقات الكادحة على الاضطلاع بمسؤوليات أعظم حتى في داخل المؤسسة. ومن مصلحة الجماعات السياسية نفسها أن يشعر كل مواطن أنه مسؤول عن تحقيق الخير العام في جميع نواحي الحياة الاجتماعية.
وجود العمال في جميع الدرجات
84- لقد تطورت كثيراً، في أيامنا، حركة العمال نحو التكتّل في جمعيات؛ حركة أقرّتها أغلبية الدول في تشريعها، واعتُرف بها أيضاً على الصعيد الدولي. أمَّا الغاية منها فهو التكاتف ولاسيما بفضل العقود الجماعية. ومع ذلك فلا يسعنا أن نغفل عن القول إلى أي حدّ بات من المناسب بل من الضروري أن يكون في استطاعة العمال أن يُسمعوا صوتهم وأن يحملوا الآخرين على الإصغاء إليه خارج حدود كل جهاز للإنتاج في جميع الدرجات.
85- والدليل على ذلك فهو أن أجهزة الإنتاج الخاصة، أياً كان اتّساعها وامتدادها، وأية كانت قوة فعاليتها، وانسجام خطوطها، تبقى، مع ذلك، مقيّدة أساسياً، في صلب الدائرة الاقتصادية والاجتماعية التي لجماعتها السياسية وبها تتكيف.
86- على أن العوامل التي تؤثر في هذا الوضع لا تُقرّر في داخل أجهزة الإنتاج هذه بل هي السلطات العامة التي تقرّرها أو منظمات ذات صلاحية عالمية أو إقليمية أو قومية، متعلقة إمّا بالقطاع الاقتصادي وإما بأصناف الإنتاج. من هنا المناسبة – بل الضرورة – أن يكون في تلك السلطات العامة أو هذه المنظمات، ما عدا من يقدمون رؤوس الأموال ومن يمثلون فوائدها، العمال ومن يمثلون حقوقهم ومطالبهم وأمانيهم.
87- لأجل هذا يتجه فكرنا وتشجيعنا الأبوي إلى الجمعيات المهنية وإلى الحركات النقابية التي تستوحي المبادئ المسيحية القائمة والعاملة في قارّات كثيرة لأنها عرفت، بالرغم من صعاب، غالباً ما كانت، جسيمة، أن تعمل وما انفكت تعمل على ملاحقة مصالح الطبقات الكادحة ملاحقة فعلية وعلى رفع مستواها الأدبي إنْ في داخل كل دولة وإن في النطاق العالمي.
88- ومما يثلج صدرنا أن عملها لا يُقاس بالنتائج القريبة والفورية التي من السهل إثباتها وإنما بردّات الفعل الإيجابية المدوّية في أرجاء عالم العمل طرّاً حيث تبثّ أفكاراً صائبة التوجيه وتحث حثاً مسيحياً مبدعاً.
89- وبفرح نلحظ أيضاً أنه من واجبنا أن ننظر نظرة اعتبار أيضاً إلى العمل الذي يقوم به، في روح مسيحية، أبناؤنا الأعزاء العاملون في مختلف الجمعيات المهنية والنقابية التي تستوحي المبادئ الطبيعية في الحياة العامة وتحترم حرية الضمير.
90- ويسعدنا حقاً أن نعبّر عن تقديرنا لمنظمة العمل الدولية لأنها تساهم، منذ عشرات السنين، مساهمة سليمة وقيّمة في إقامة نظام اقتصادي واجتماعي في العالم، مشبَعٍ بروح العدالة والإنسانية، وفيه تجد مطالب العمال المشروعة تعبيرها.
الملكية الفردية
وضع جديد
91- معلوم أن الشقة القائمة بين ملكية خيرات الإنتاج ومسؤوليات الإدارة في المنظمات الاقتصادية الكبيرة راحت، في عشرات السنين الأخيرة، تتَّسع. ولا يفوتنا أن هذا الوضع يفرض على السلطات العامة جمّاً من المشاكل الصعبة فيما يتعلق بالرقابة. إذ كيف تتيقن السلطات العامة من أن الأهداف التي يجدّ وراءها مدراء المؤسسات الكبيرة ولا سيما تلك التي تتصل مباشرة بمجمل نواحي الحياة الاقتصادية في الدولة لا تتعارض ومقتضيات الخير العام. ومشاكل من هذا النوع لا بدّ من أن تنشأ، والاختبار شاهد، سواء أكانت رؤوس الأموال التي تغذّي المؤسسات الكبيرة آتية من الأفراد أم آتية من منظمات عامة.
92- وأكيد أيضاً أن كثيرين هم المواطنون – وعددهم يزداد يوماً بعد يوم – الذين، من مجرد انتمائهم إلى منظمات التأمين أو الضمان الاجتماعي، يأخذون من ذلك حجة، لينظروا إلى المستقبل نظرة اطمئنان. وكان هذا الاطمئنان يرتكز، في الماضي، على ملكية إرث ولو كان وضيعاً.
93- ويُلحظ أخيراً أن أناس عصرنا يتوقون إلى أن يحصلوا على كفاءة مهنية أكثر مما يتوقون إلى أن يملكوا خيرات أرضية، ويعتمدون على ثروات يكون العمل مصدرها أو على حقوق ترتكز على العمل أكثر مما يتكلون على موارد تنجم من رأس المال أو على حقوق تستند على رأس المال.
94- على أن هذا الاتجاه ينسجم مع طبيعة العمل، والعمل، لأنه ينبثق من الشخص مباشرة، يجب أن يُفضَّل على وفرة الخيرات الخارجية؛ والخيرات الخارجية، لأنها خارجية، يجب أن تعتبر أداة ليس إلاّ. وفي هذا دليل على رقيّ البشرية.
95- إن هذه النواحي في العالم الاقتصادي، أسهمت، بدون شك، في انتشار الارتياب التالي: هل لم يفقد، في الظرف الراهن، مبدأ النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي علَّمه بقوة ودافع عنه سلفاؤنا، أي المبدأ القائل بأن حق الملكية الفردية بما فيه ملكية خيرات الإنتاج حق طبيعي، – هل لم يفقد قوته أو هل لم يصر ذا أهمية أدنى؟
إثبات حق الملكية من جديد
96- إن هذا الارتياب في حق الملكية لا يقوم على أساس. فلحق الملكية، حتى ملكية خيرات الإنتاج، قيمة دائمة لا لشيء إلاّ لأنه حق طبيعي يرتكز على أولية الأفراد – أولية وجود وأولية لاهوتية – على المجتمع؛ ومن العبث أن نطالب بالحافز الشخصي التلقائي المستقل ما لم يُعترف لهذا الحافز بالتصرف الحرّ بالوسائل التي لا بدّ له منها لإثبات وجوده. ويشهد التاريخ والاختبار بأن مظاهر الحرية الأساسية تُكبت أو تُخنق في المذاهب السياسية التي لا تعترف بحقّ الملكية الفردية في امتلاك خيرات الإنتاج. ونحن على حقٍّ، بالتالي، في أن نستخلص أن تلك المظاهر، تجد، في الملكية، ضمانة لها وحافزاً.
97- وهذا ما يفسر لنا كيف أن الحركات الاجتماعية والسياسية التي أخذت على نفسها أن توفّق في الحياة العامة بين العدل والحرية، وقد كانت إلى الأمس القريب تعارض، بصراحة وقوة، الملكية الفردية لخيرات الإنتاج، انتهت اليوم وبعد أن تفهمت الواقع الاجتماعي، إلى أن تعيد النظر في وضعها وإلى أن تتخذ، بالنظر إلى هذا الحق، موقفاً في جوهره إيجابياً.
98- لذلك نتبنى، في هذا الموضوع، ملاحظات سلفنا بيوس الثاني عشر: “إن الكنيسة، بدفاعها عن مبدأ الملكية الفردية، تهدف إلى غاية سامية: أدبية واجتماعية معاً. لا لأنها ترمي إلى الإبقاء على الحال الراهنة كما هي بلا شرط ولا استثناء كأنها ترى فيها تعبيراً عن الإرادة الإلهية؛ ولا لأنها تريد مبدئياً أن تساند الغني والرأسمالي على الفقير والشغِّيل… فالكنيسة تهدف، بالأحرى، إلى أن تحوّل نظام الملكية إلى ما يجب أن يكون وفقاً لمقاصد الحكمة الإلهية وأماني الطبيعة” (29) أي أن تكون الملكية الفردية، في وقت واحد، ضمانة لحرية الشخص البشري الجوهرية وعنصراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي.
99- لقد أشرنا سابقاً إلى أن الاقتصاديات راحت في أيامنا تضاعف بسرعة فعاليتها المنتجة في بلدان كثيرة. بيد أنه كلما ارتفع الدخل، يقضي العدل والإنصاف، كما رأينا، بأن ترتفع أجرة العمل في حدود يسلِّم بها الخير العام. وهذا يعطي العمال أعظم فرصة للتوفير وبالتالي لينشئوا لأنفسهم تركة ثابتة أو منتقلة. فلا نرى من ثمَّ كيف توضع موضع جدلٍ طبيعة حقٍّ يجد مصدره الأول وغذاءه الدائم في خصب العمل؛ ويشكل وسيلة قمينة بإثبات الشخص وبالاضطلاع بالمسؤولية في جميع ميادين الحياة، وهو عنصر استقرارٍ هادئ للعيلة وامتداد سلمي ومنظم في الحياة العامة.
انتشار فعلي
100- التأكيد أن السمة الطبيعية لحق الملكية الفردية تختصّ أيضاً بملكية خيرات الإنتاج لا يكفي، فيجب، علاوة على هذا، أن نشدد على وجوب انتشارها فعلياً بين جميع الطبقات الاجتماعية.
101- لقد أعلن سلفنا بيوس الثاني عشر: “أن كرامة الشخص البشري تتطلب، بطريقة مألوفة، كأساس طبيعي للحياة، الحق في استخدام خيرات الأرض، ويقابل هذا الحق واجب أساسي يقوم بإعطاء جميع الناس – ما أمكن – ملكية خاصة” (30) … ومن جهة أخرى ينبغي أن نعدّ بين المقتضيات المنبثقة من نبل العمل “الحفاظ على نظام اجتماعي يجعل الملكية الخاصة، وإن وضيعة، ممكنة ومضمونة لجميع طبقات الشعب، والعمل على إكمال هذا النظام” (31).
102- وعلى قياس ما تتطور بسرعة الأنظمة الاقتصادية في بلدان يتزايد عددها شيئاً فشيئاً كما رأينا، يجب أن نجعل انتشار الملكية في عصرنا شيئاً ضرورياً ملحاً. لذلك إذا ما لجأنا بفطنة إلى الوسائل التقنية التي دللت على فعاليَّتها فلن يكون من الصعب أن تُحرَّك الحوافز التلقائية وتُنتهج سياسة اقتصادية واجتماعية تشجع على البلوغ وتسهّل الطريق إلى ملكية خاصة ثابتة: كملكية بيت، وقطعة أرض وأدوات صناعية ولوازم مزرعة عيلية، وبعض أسهم في المؤسسات المتوسطة أو الكبيرة. لقد خبرت ذلك وسعدت به بلدان نامية اقتصادياً ومتقدمة اجتماعياً.
الملكية العامة
103- أكيد إن ما أتينا على شرحه لا يمنع طبعاً من أن تحتفظ الدولة والمؤسسات العامة، هي أيضاً، بملكية شرعية لخيرات الإنتاج ولا سيما عندما تعطي هذه الخيرات مالكها قوة اقتصادية كالتي لا يمكن أن تترك، من دون أن يتعرض الخير العام لخطر، بين أيدي العمال”.
104- لعصرنا ميل حاد إلى توسيع الملكية العامة، ملكية الدولة والمجتمعات؛ واقع يتضح من الصلاحيات الواسعة جداً التي يمنحها الخير العام السلطات العامة. لذلك كان من المناسب، في هذا المجال أيضاً، أن يطبق مبدأ الاستطراد الآنف الذكر: فلا يسوغ للدولة ولا للمؤسسات ذات الحق العام أن توسع نطاق ملكيتها إلاّ في دائرة الحدود التي تتطلبها بصراحة أسباب الخير العام، ولا يجوز لها إطلاقاً أن تهدف إلى تقليل الملكية الخاصة وإلى – مما هو أسوأ – ملاشاتها.
105- ومن المناسب أن لا ننسى أن الحوافز التلقائية، في النظام الاقتصادي، العائدة إلى الدولة أو إلى المؤسسات العامة، يجب أن تُوكل إلى أشخاص يقرنون الكفاءة والخبرة بشعور حادّ بمسؤولياتهم أمام البلد؛ كذلك يجب أن يكون نشاطهم موضوع مراقبة واعية ومستمرة لا لشيء إلاّ تجنبّاً لخلق خلايا اقتصادية في قلب الدولة، على حساب الجماعة الذي هو، إلى ذلك، علةٌ لوجود الدولة والمؤسسات العامة.
وظيفة اجتماعية
106- وهاكم نقطة عقائدية ما انفك سلفاؤنا يعلمونها: “بحق الملكية ترتبط ذاتياً مهمة اجتماعية: ذلك لأن الأرض معدة، وفقاً لخطط الخالق، قبل أن تعد لشيء، لحياة جميع الناس، حياة لائقة كما يعلم بحكمة وصواب سلفنا لاون الثالث عشر في رسالته العامة “الشؤون الحديثة”: من نال من فضل الله سعة عيش ووفرة من الخيور أكانت خارجية وجسدية أم روحية ومعنوية فلقد نالها ليستخدمها لكماله الشخصي وأُوتمن عليها، في الوقت عينه، كخادم أمين للعناية الإلهية ليبذل شيئاً منها في سبيل خير الآخرين. لذلك فمن كانت له موهبة الكلام فليحذر من أن يصمت؛ ومن كان ذا ثروة فليحذر من أن يترك نار الشفقة تخمد في قلبه، ومن وُهِبَ فنَّ الحكم فليجتهد في أن يشرك أخاه في ممارسته وفي منافعه” (32).
108- ففي أيامنا ما فتئت الدولة والمؤسسات العامة توسع في مجال مبادرتها؛ فلم تمس، لذلك، المهمة الاجتماعية التي للملكية الخاصة، مهمة بالية كما يميل أناس إلى الاعتقاد، ضالين: لأن مصدر مهمتها الاجتماعية هو حق الملكية عينه ومن صلبه تنبثق، فهناك أبداً أوضاع عديدة مؤلمة، وهناك حاجات واخزة ودقيقة لا يقوى الإسعاف العام على البلوغ إليها ولا على مداواتها. لذلك يبقى حقل واسع مفتوح أمام الشعور الإنساني والمحبة المسيحية والفردية. ولنذكر أخيراً أن لمبادرات الأفراد والجماعات الخاصة فعالية أقوى مما للسلطات العامة لتحريك القيم الروحية.
109- ويلذ لنا أن نذكر هنا كيف يُقر الإنجيل حق الملكية الفردية، على أن المعلم الإلهي لا يَني، في الوقت عينه، عن أن يوجّه إلى الأغنياء نداءات ملحة ليحوّلوا خبراتهم الزمنية إلى خيرات روحية لا تصل إليها يد سارق ولا يقرضها عثّ ولا ينخرها سوس إنما تتكدس في أهراء الآب السماوي: “لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث العث والصدأ يتلفان وحيث اللصوص ينقبون ويسرقون”… ويعتبر ربنا مفعولةً معه أو مرفوضةً عليه الصدقة التي نصنعها إلى الفقراء أو ترفضها عليهم: “الحق أقول لكم: إن ما تصنعونه إلى واحد من أخوتي هؤلاء فإلي قد صنعتموه”.
القسم الثالث
وجوه جديدة للمعضلة الاجتماعية
110- تضع أحداث التاريخ في محل بارز جداً مقتضيات العدل والإنصاف التي لها دورها لا في العلاقات بين العمال والمؤسسات أو في الإدارة فقط بل تتعلق أيضاً بالعلاقات بين القطاعات الاقتصادية، بين المناطق المتطورة والمناطق المتخلفة في نطاق الاقتصاد القومي وعلى الصعيد العالمي، وتختص أيضاً بالعلاقات بين البلدان المتفاوتة التقدم اقتصادياً واجتماعياً.
مقتضيات العدل وعلاقاتها بقطاعات الإنتاج
الزراعة قطاع متخلف
111- فعلى الصعيد العالمي، ليس لدينا أرقام تقطع بأن عدد السكان في الأرياف قد انخفض؛ ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن هناك هجرة يقوم بها القرويون إلى حيث يتكتل الناس وإلى المدن وضواحيها. إنها ظاهرة تجتاح تقريباً جميع البلدان وتبلغ أحياناً أرقاماً ضخمة وتفرض مشاكل معقدة يصعب حلّها.
112- هناك واقع لا يختلف عليه اثنان هو أنه على قياس ما ينمو اقتصادٌ ما ويشغل اليد العاملة التي كانت تعمل في الزراعة، تزداد النسبة المئوية لليد العاملة المشتغلة في الصناعة والخدمات. ولكنا نعتبر، مع ذلك، أن هجرة السكان من القطاع الزراعي إلى سائر قطاعات الإنتاج لا يحركها التطور الاقتصادي فقط بل تعود غالباً أيضاً إلى أسباب عديدة، منها: انقباض القلب من بيئة مغلقة لا مستقبل لها، والرغبة في التملُّص منها؛ ومنها التعطش إلى كل جديد وإلى المغامرة، تعطش يأخذ بلباب الجيل الطالع؛ ومنها الإنجذاب إلى الأثرياء السريع؛ ومنها تخيُّل حياة تتوافر فيها الحرية يرافقها التنعم بسهولات لا تضن بها التكتلات البشرية في المدن. ومما هو خليق بالانتباه، مع ذلك – وليس في هذا ريب – أن ما يحرك الهجرة هو أن القطاع الزراعي هو، تقريباً في كل مكان، قطاع متخلف عن ركب الحضارة إن من حيث قلة الإنتاج وضآلة الأجور للأيدي العاملة فيه؛ وإن من حيث مستوى حياة الشعوب الريفية.
113- من كل هذا تنشأ معضلة أساسية تقوم بوجه جميع الدول: فكيف العمل إلى إزالة عدم التوازن في الإنتاج بين القطاع الزراعي من جهة وقطاعي الصناعة والخدمات من جهة أخرى، لكي يتعادل، ما أمكن، مستوى الحياة في الريف وعند سكان المدن؛ ولكي لا يُصاب القرويون بمركَّب نقص بل يتيقنوا من أنهم يستطيعون، هم أيضاً، أن يُنموا شخصيتهم في البيئة القروية وينظروا إلى المستقبل نظرة اطمئنان وثقة.
114- لذلك نرى أنه من المناسب أن نعطي بعض توجيهات من شأنها أن تسهم في حلّ هذه المعضلة. إن لهذه التوجيهات قيمتها، كما نعتقد، أية كانت المعطيات التاريخية، على شرط أن تُطبَّق بالطريقة التي تسمح بها البيئة وعلى قياس ما تسمح بها.
تطبيق الخدمات الجوهرية
115- على الجميع، وفي المقدمة على السلطات العامة، أن يعملوا ما يستطيعون على أن تتمتع الأوساط القروية، كما يليق، بالخدمات الجوهرية، كالطرق والنقليات والمواصلات ومياه الشفة والمسكن والعناية الطبيعة والتعليم الابتدائي والتدريب المهني والخدمة الدينية والتسليات وكل ما يقتضيه البيت القروي من أثاث وحاجات لصيرورته بيتاً عصرياً. أمَّا إذا افتقر القرويون إلى مثل هذه الخدمات التي تشكل، في أيامنا، عناصر ضرورية لمستوى حياة لائقة، أمسى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي في الأوساط الزراعية متعذرَّين أو على الأقل بطيئين ومن ثمَّ تستبدّ الهجرة بالسكان وتبات لا تقاوم ولا تراقب بسهولة.
تطور عوالم الاقتصاد تطوراً تدريجياً ومنسجماً
116- فمن المهم، بالتالي، أن تتمّ التنمية الاقتصادية في الأمة بصورة تدريجية وبانسجام مع مختلف قطاعات الإنتاج؛ ومن المناسب، بلوغاً إلى هذه الغاية، أن تتحقق في القطاع الزراعي التطورات التي تتعلق بتكنيك الإنتاج واختيار المزروعات، وأنظمة المؤسسات كما تسمح بها وتتطلبها الحياة الاقتصادية في مجموعها، وبطريقة تخول المزارعين أن يبلغوا، عندما يتمكنون، إلى مستوى حياة لائقة تتناسب ومستوى العاملين في القطاع الصناعي والقائمين بالخدمات العامة.
117- وعلى هذا النحو، تتمكن الزراعة من أن تستهلك من المنتوجات الصناعية كمية أوفر وتطلب خدمات من النوع الأكمل، وهي تقدم، بدورها، للقطاعين الآخرين ولمجموع الأمة، محاصيل تتجاوب تجاوباً أفضل – بالكمية والنوع – مع مطالب المستهلكين وبهذه الطريقة تساهم في استقرار النقد؛ واستقرار النقد عنصر إيجابي في تطوير المذهب الاقتصادي في مجموعه.
118- وهكذا يصبح من السهل، كما يظهر، أن تُراقب وتسجّل في مناطق التصدير والاستيراد، حركات اليد العاملة التي تحررها “عصرنة” الزراعة التدريجية؛ ويصير في الإمكان أن تُمدّ وتُجهَّز بالتربية المهنية الضرورية لدمجها في قطاعات الإنتاج وتُسلَّم أيضاً المعونة الاقتصادية، وتُعدّ الإعداد اللازم وتقدم إليها المساعدة الواجبة لاندماجها الناجز.
سياسة اقتصادية مطبَّقة
119- ولكي نحصل على تنمية اقتصادية منسجمة مع سائر قطاعات الإنتاج فمن الضروري أن تُنتهج سياسة ريفية يَقظة، واعية فيما يتعلق بنظام فرض الضرائب وجبايتها والقروض والضمانات الاجتماعية والمحافظة على الأسعار وتطوّر صناعات التحويل و”عصرنة” المؤسسات.
نظام الضرائب
120- المبدأ الأساسي لنظام ضرائبي عادل ومُنصف يقوم على أن تتناسب الضرائب مع مقدرة المواطنين على دفع ما يصيبهم منها.
على أن هناك مطلباً آخر من مقتضيات الخير العام هو أن يُحسب حسابٌ، في توزيع الضرائب، لهذا الأمر: أنَّ المداخيل في القطاع الزراعي تتكوّن ببطء وتتعرض لأخطار أكثر في أثناء تكوينها؛ ولصعوبة أعظم في إيجاد رؤوس الأموال الضرورية لزيادتها.
رؤوس أموال ذات فوائد معقولة
121- لهذه الأسباب لا يميل أصحاب الرساميل كثيراً إلى تشغيلها في القطاع الزراعي فيركنون بالأحرى بسهولة كلية إلى القطاعات الأخرى.
وللأسباب عينها لا يستطيع المزارع أن يدفع فوائد باهظة حتى ولا، مبدئياً، الفوائد الرائجة التي تمكنّه من أن يحصل على الرساميل الضرورية لتطوره وممارسة عمله بصورة مألوفة؛ فمن المناسب إذن، لأسباب تتعلق بالخير العام، أن تُتبع سياسة قروض خاصة بالزراعة وأن تُنشأ مؤسسات للقروض تؤمِّن لها رساميل ذات فوائد معقولة.
التأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي
122- يبدو أنه من الضروري أن يُنشأ، في الزراعة، نظامات للتأمينات: واحد للمحاصيل الزراعية، والآخر لخدمة المزارعين وعيالهم.
وبما أن المداخيل التي تعيدها الزراعة إلى رأس المال هي، عادة، أدنى من الدخل الذي تعيده إليه الصناعة والخدمات فلا يظهر مطابقاً كلياً للعدالة الاجتماعية ولا للإنصاف أن تُقام أنظمة للتأمينات الاجتماعية أو للضمان الاجتماعي يُعامل فيها المزارعون وأسرهم بطريقة تظهر أنها أدنى مما هو مضمون للقطاع الصناعي أو للخدمات. فنعتبر، في النتيجة، أن على السياسة الاجتماعية أن تهدف إلى إقامة نظام للتأمينات لا تكون فيه فوارق جدّ جسيمة بين المواطنين بحسب القطاع الاقتصادي الذي فيه يشتغلون ومنه يأخذون مداخيلهم.
123- إن في استطاعة أنظمة التأمينات أو الضمان الاجتماعي أن تُسهم بفعالية، في توزيع مجمل الدخل القومي، طبقاً لقواعد العدل والإنصاف: وهكذا نستطيع أن نرى في تلك الأنظمة وسيلة لتخفيض عدم التوازن في مستوي الحياة بين فئات المواطنين الختلفة.
حماية الأسعار
124- نظراً لطبيعة المحاصيل الزراعية ينبغي أن يُلجأ إلى تنظيم فعَّال يستهدف حماية الأسعار وأن تستخدم، بلوغاً إلى هذا الغاية، الثروات المتنوعة التي تستطيع أن تقدمها الفنون الاقتصادية العصرية. ومن المستحسن جداً أن يكون هذا التنظيم من وضع المعنيين أنفسهم، ولكنا لا نستطيع مع ذلك أن نغفل عن عمل السلطات العامة المنظَّم.
ولا ننسى، ونحن في هذا الصدد، أن ثمن المحاصيل الزراعية يشكل، عادة، أجرة للعمل أكثر مما يشكل ريعاً لرؤوس الأموال.
125- وفي الرسالة العامة “لأربعين سنة” أشار بحق سلفنا بيوس الحادي عشر “إلى أن هذه الغاية تساهم أيضاً في تحقيقها علاقةٌ معقولة بين فئات الأجور المختلفة” وما لبث أن أضاف: “وكذلك، وهذا منوط بها إناطة وثيقة، علاقة معقولة بين الأثمان التي تباع بها منتجات سائر فروع الحيوية الاقتصادية كالزراعة والصناعة وما إليها” (33).
126- أكيد أن المحاصيل الزراعية معدَّة أولاً لسد الحاجات الأولية؛ لذلك وجب أن تكون أثمانها على متناول جميع المستهلكين؛ ولكن من الواضح أيضاً أننا لا نستطيع أن نستند إلى هذه الحجة لنحول فئة من المواطنين إلى حالٍ ثابتة من الدونية الاقتصادية والاجتماعية ونحرمها من قوّة شرائية لا غنى عنها لمستوى حياة لائقة، فهذا يتنافى والخير العام بشكل صارخ.
تشغيل الدخل الزراعي
127- كذلك من المناسب أن يُعمل، في المناطق الزراعية، على إنشاء صناعات وخدمات تتعلق بتخزين المحاصيل الزراعية وتحويلها وتصديرها؛ ومن المرغوب فيه أيضاً أن تتحقق مبادرات تتعلق بسائر القطاعات الاقتصادية والأعمال المهنية، وبهذه الطريقة تجد العيال الريفية الوسيلة لتوظيف دخلها في ذات المحيط الذي تعيش فيه وتشتغل.
تطبيق منظَّم للمؤسسة الزراعية
128- يتعذر علينا أن نحدد، نظرياً، النظام الأكثر ملائمة للمؤسسة الزراعية لكثرة ما ينتاب الأوساط الزراعية من تغيير في داخل كل بلد، وبالأحرى، في مختلف بلدان العالم. ومع ذلك، إذا أخذنا بالمفهوم الإنساني والمسيحي للإنسان والعيلة نعتبر، طبيعياً، كمثل أعلى، المؤسسة التي تتكوّن من مجموعة أشخاص؛ و عندئذ تتجاوب العلاقات بين أعضائها وأنظمتها مع قواعد العدل والروح الذي شرحنا ولاسيما في المؤسسات ذات المدى العيلي؛ ولن يضيع جهد، مهما بُولغ في بذله، لجعل هذا المثل الأعلى يتحول إلى حقيقة ملموسة مع مراعاة ما تجب مراعاته بالنظر إلى كل بيئة.
129- فيحسن إذن أن يُلفت إلى هذا الواقع: أن المؤسسة ذات المدى العيلي يمكن أن تعيش، على شرط، مع ذلك، أن يكون في استطاعتها إعطاء تلك العيال دخلاً كافياً لمستوى حياة لائقة. فلأجل هذه الغاية، حتم على المزارعين أن يكونوا مثقفين ومنفتحين أبداً على كل جديد وأن يُمنحوا مساعدات فنية تناسب مهنتهم.
ومن المستحسن أيضاً أن يُنشئوا شبكة من المؤسسات التعاونية المتنوعة، وأن ينظِّموا أنفسهم تنظيماً مهنياً وأن يكون لهم مركزهم في الحياة العامة في الإدارات كما في السياسة.
المزارعون هم صانعوا رقيّهم
130- نحن على يقين من أن المحركين الأولين للتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي والنهضة الثقافية، في الأوساط الريفية، هم المعنيون أنفسهم: المزارعون. فمن السهل عليهم أن يتثبَّتوا من نبل عملهم: أنهم يعيشون في هيكل الخليقة العظيم، وهم على علاقات مستمرة بالحياة الحيوانية والنباتية التي لا ينضب معين ظهوراتها، الصليبة في نواميسها التي تستدعي بدون انقطاع عناية الله الخالق؛ وهي التي تنتج الأغذية المتنوعة وبها تقتات العيلة البشرية؛ وهي التي توفّر، للصناعة، كميات من المواد الأولية في ازدياد مطّرد.
131- وهذا العمل، علاوة على ما قدمنا، يكشف عن مكانة مهنتهم، ومهنتهم تُظهر غنى قابلياتهم في ميادين الميكانيك والكيمياء وعلم الحياة؛ قابليات هي في تطوّر دائم بفعل انعكاسات التقدم العلمي والتقني في القطاع الزراعي، ويتّسم هذا العمل، إلى ذلك، بطابع القيم الأدبية الخاصة به لأنه يتطلب مرونة ليوجه نفسه ويتكيف، وصبراً لينتظر، واندفاعاً وروح المبادرة إلى العمل ورغبة فيه.
تضامن وتعاون
132- ومما يجدر ذكره أن الشراكة في القطاع الزراعي كما في سائر قطاعات الإنتاج هي، اليوم ضرورة حيوية، ولاسيما إذا كان القطاع يرتكز على مشروع عيلي. فعلى حرثة الأرض أن يشعروا أنهم متضامنون، وأن يتعاونوا على خلق منظمات تعاونية وجمعيات مهنية أو نقابية. فلا يستغنون عن هذه ولا عن تلك لكي يفيدوا من التقدم التقني في الإنتاج ويساهموا مساهمة فعالة في حماية الأسعار ويقيموا أنفسهم على مستوى متعادل مع مهن قطاعات الإنتاج الأخرى، المنظَّمة، في الغالب؛ ليكون لهم صوت في دنيا السياسة والإدارة. ففي أيامنا، يكاد الصوت المنفرد لا يملك وسيلة ليُسمَع وبالأحرى ليُصغى إليه.
التحسّس بمقتضيات الخير العام
133- على المزارعين، كما على جميع العمال أيضاً، أن يتقيدوا بالنظام الأدبي والشرعي عندما يُسَيّرون منظماتهم المختلفة. وهذا يعني أن عليهم أن يُوفّقوا بين حقوقهم ومصالحهم وحقوق سائر المهن ومصالحها ويخضعوا للخير العام متطلباتهم ومتطلبات الآخرين؛ وفي وسع المزارعين، إذ ينصرفون إلى رفع مستوى العالم الريفي، أن يطلبوا، محقّين، من السلطات العامة، أن تساند عملهم عندما يتحسسون، هم أنفسهم، مقتضيات الخير العام ويساهمون في إقامة حدوده.
134- ويلذ لنا، في هذه المناسبة، أن نهنئ مَنْ مِن أبنائنا يعملون، عبر العالم قاطبة، في المنظمات التعاونية المهنية منها والنقابية على رفع المستوى الاقتصادي و الاجتماعي لرفاقٍ لهم يشتغلون في الأرض.
دعوة ورسالة
135- يجد الشخص البشري، في شغل الأرض، دوافع لا عدّ لها ليثبت شخصيته وينميها ويغنيها حتى في دنيا القيم الروحية. عمل يجب أن يُفهم ويُحيا كما تُفهم الدعوة، وتُعاش الرسالة، كأنه جواب عن نداء الله يدعونا إلى المساهمة في تحقيق مخطط عنايته الإلهية في التاريخ، وكتعهّد برقيّ الذات ورقي الآخرين والمساهمة في الحضارة البشرية.
توازن جديد في المناطق المتخلفة وترقيتها
136- ليس من النادر أن نرى خللاً في التوازن حاداً، في قطاع الاقتصاد والاجتماع بين مواطنين هم من مجتمع سياسي واحد… ومردّ هذا أولاً إلى أن بعضاً يشتغل في مناطق نامية اقتصادياً بينما يعمل البعض الآخر في مناطق متخلفة اقتصادياً.
فالعدل والإنصاف يوجبان على السلطات العامة بأن تعكف على العمل الجدي لتضييق نطاق عدم التوازن هذا أو للقضاء عليه. ولهذه الغاية ينبغي أن تُعنى بأن تؤمِّن، للمناطق المتخلفة، الخدمات العامة الجوهرية كما تقتضيها البيئة وعلى قياس ما تقتضيها، متجاوبة مبدئياً مع مستوى الحياة الراهن في المجتمع القومي. ولكن لا يقل ضرورة عن هذا إنتهاج سياسة اقتصادية واجتماعية فيما يختص بعرض العمل والهجرة، والأجور والضرائب والقروض وإيلاء الوظائف، سياسة لا تغفل عن الصناعات ذات الطابع المحرِّك إلى غيرها، سياسة خليقة بأن تستوعب استخدام اليد العاملة استخداماً مُجدياً وبأن توقظ الرغبة في العمل وتشجع روح المبادرة وتفيد من الثروات المحلية.
137- على أن عمل السلطات العامة يجب أن تبرّره دائماً أسباب تتعلق بالخير العام، وبالتالي أن يتمّ وفقاً لقواعد الوحدة على الصعيد القومي، وتكون غايته الدائمة المساهمة في تطوير قطاعات الإنتاج الثلاث: الزراعة والصناعة والخدمات تطويراً تدريجياً، يجري في وقت واحد وفي إنسجام، وأن يسهر السهر الأمثل على أن يتحسس سكان المناطق المتخلفة أنهم هم عملة تقدّمهم الاقتصادي، وأن يكونوا، في الواقع، صانعي رقيّهم.
138- ولنذكر أخيراً أن على المبادرة الشخصية أن تساهم في إقامة التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين مناطق البلد الواحد، لذلك وبقوة مبدأ التكافل والتضامن وملء الفراغ، يتحتم على السلطات العامة أن تمدّ يد المعونة إلى هذه المبادرة وتكل إليها التنمية الاقتصادية، يوم يصبح ذلك في استطاعتها.
عدم التوازن بين الأرض والسكان،
القضاء عليه أو تخفيضه
139- من المناسب أن نشير هنا إلى أن بلداناً كثيرة مبلوة بعدم توازن صارخ بين الأرض والسكان. فالناس في بعض البلدان قلة؛ والأرض الصالحة للحراثة واسعة؛ وفي مناطق أخرى هو العكس ما نرى فالناس فيها كثرة، والأرض القابلة للحراثة قليلة.
140- وفي بلدان أخرى، بالرغم من غنى الثروات الدفينة الممكن استخراجها، لا يزال الطابع القديم، طابع الحراثة يحول دون إنتاج خيرات كافية لسد حاجات السكان الأولية؛ وفي غيرها تورث “عصرنة” الزراعة المفرطة فيضاً ضخماً من المحاصيل الزراعية له أثره السلبي في الاقتصاد القومي.
141- ومن البين أن التضامن البشري والأخوّة المسيحية يقضيان بإقامة علاقات تعاونية حية ومتنوعة بين الشعوب؛ تعاون يجب أن يساعد حركة تنقُّل الخيرات والناس ورؤوس الأموال إبتغاءً للقضاء على عدم التوازن المتأصل أو على الأقل، لتخفيضه. وسنعود إلى معالجة هذا الموضوع.
142- ولكنا نريد أن نعبر هنا عن احترامنا الصادق للعمل الخيِّر جداً تقوم به “منظمة هيئة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة” لأنها انصرفت، بكل ما أوتيت من قوة وقوى إلى تعزيز التفاهم المثمر بين الشعوب وإلى تشجيع “عصرنة” الزراعة ولا سيما في البلدان التي لا تزال في طور النمو وإلى تخفيف البؤس عن الشعوب المبلوة ينقص التغذية.
مقتضيات العدل في العلاقات بين البلدان
اللامتساوية في التطوّر
معضلة العصر
143- قد تكون المعضلة الأهم في عصرنا معضلة العلاقات بين الجماعات السياسية المتطورة والبلدان التي لا تزال في مرحلة التطور. فتلك تتمتع بمستوى حياة رفيع؛ وهذه تقاسي حرماناً غالباً ما يكون خطيراً.
144- فالتضامن الذي يُتحد جميع الناس في عيلة واحدة يفرض على الأمم الناعمة بوسائل حياة وافرة تفيض عن حاجاتها، واجباً يقضي عليها بأن لا تقف وقفة اللامبالي من بلدان يتخبط سكانها في صعاب العوز والبؤس والجوع ولا ينعمون حتى بالحقوق الأولية المعترف بها للشخص البشري؛ ولاسيما نظراً للتضامن المطرد بين الشعوب، فلن يحل بينها سلام ثابت ومثمر إذا قامت بينها فوارق ناتئة من حيث أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
145- إن شعورنا بأبوتنا العامة يملي علينا واجباً وهو أن نكرّر، رسمياً، ما سبقنا وأثبتناه:
“نحن جميعاً مسئولون بالتكافل والتضامن عن الشعوب التي تعاني نقصاً في التغذية”. لذلك وجب أن تُربّى الضمائر على روح المسؤولية الملقاة على عواتقنا جميعاً وعلى عاتق كل فردٍ منا ولاسيما على عواتق المحظوظين أكثر من سواهم” (34).
146- ومن البيِّن أن الواجب الذي ما انفكت الكنيسة تنادي به، القاضي بمدّ يد المعونة إلى الذين يتخبطون في العوز والبؤس يحتّم على الكاثوليك في العالم كلِّه أن يتحسسوه أكثر من غيرهم والحافز النبيل لهم على ذلك إيمانهم بأنهم أعضاء جسد المسيح السري”. بهذا عرفنا المحبة الإلهية أن يسوع بذل حياته لأجلنا… فيجب علينا نحن أيضاً أن نبذل حياتنا لأجل الأخوة. فمن كان له خيرات العالم ورأى أخاه في فاقة وحبس عنه أحشاءَه فكيف تثبت فيه محبة الله”؟.
147- فيلذّ لنا إذن أن نرى الأمم التي تتمتع بأنظمة اقتصادية تدرّ عليها من الإنتاج أوفره تمدّ يد المساعدة إلى الشعوب السائرة على طريق التطور الاقتصادي تذليلاً للصِعاب التي تعترضها في سيرها إلى تحسين أوضاعها الحياتية.
مساعدات ملحة
148- إن خيرات الاستهلاك ولاسيما غلاّت الأرض تفيض، في بعض البلدان، عن الاستهلاك المحلي؛ وفي غيرها تناضل طبقات من السكان ضد البؤس والجوع. فالعدل والإنسانية يقضيان بأن تهبّ تلك إلى مساعدة هذه. أمَّا أن تُتلف أو تُبذّر من دون حساب الخيرات التي لا غنى عنها للإبقاء على حياة كائنات بشرية، فانتهاك لحرمة العدل وطعنة في صميم الإنسانية.
149- ولا يفوتنا أنه قد تنتج ردات فعل اقتصادية مضرة ببعض فئات من المواطنين من إنتاج خيرات، ولاسيما في القطاع الزراعي، تفيض عن حاجات جماعة سياسية معينة؛ ولكن ليس في هذا ما يعفي من الواجب الملزم بمد يد معونة ملحة إلى المعوزين وإلى الجائعين، على أن تتخذ جميع التدابير، لكي تُحصر الأضرار وتوزّع بإنصاف بين جميع المواطنين.
تعاون علمي وتكنيكي ومالي
150- أكيد أن المساعدات الملحة تتجاوب مع واجب إنساني وواجب عدل؛ ولكنها لا تكفي، مع ذلك، للقضاء على الأسباب التي تخلق، في بلدان كثيرة حالة مزمنة من العوز والبؤس أو الجوع ولا تكفي حتى لتخفيضها. ومردّ هذه الأسباب إلى مذهب اقتصادي بدائي ورجعي، ولا يمكن القضاء عليها أو التقليل منها إلاّ بمنظمات تعاونية متعددة تعطي السكان إمكانات وكفاءات مهنية وعلمية وطاقة تقنية تضع تحت تصرفهم رؤوس أموال لا بد منها لتسيير حركة التطور الاقتصادي السريع وفقاً للقواعد والطرائق العصرية.
151- نحن نعلم أنه، في السنين الأخيرة، قد قام شعور أعمّ وأعمق بواجب العمل على مساعدة التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي في البلدان التي تتخبط في أعظم المصاعب.
152- فهناك منظمات عالمية وإقليمية؛ ودول؛ ومؤسسات وجمعيات خاصة تقدم إلى تلك البلدان، بسعة متزايدة، معاونتها التقنية في جميع مجالات الإنتاج، والسهولات المقدمة إلى ألوف من الشبان تتضاعف ليتمكنوا من أن يدرسوا في جامعات البلدان المتطورة ويكتسبوا ثقافة علمية وتقنية ومهنية تتجاوب مع أوضاع عصرنا؛ وهناك مؤسسات مالية، ذات مدى عالمي، ودول أفراد يرمون برساميل ويحركون مجموعة مبادرات اقتصادية تتزايد في البلدان الآخذة بالتطور.
153- ولا يسعنا مع ذلك إلاّ أن ننوّه بأن التعاون العلمي والتقني والاقتصادي بين الجماعات السياسية النامية اقتصادياً والبلدان التي لا تزال في فجر نهضتها وفي أولى مراحل قلبنا أن تشهد عشرات السنين القادمة تزايداً في هذه العلاقات بين البلدان المتطورة والبلدان السائرة على طريق التطور.
ولنا في هذا الموضوع بعض توصيات وبعض فِكَر نعتبرها مناسبة.
تجنّب أخطاء الماضي
154- من الحكمة أن تحسب البلدان السائرة في طريق التطور حساباً للاختبارات التي عاشتها البلدان المتطورة اقتصادياً؛ فالإنتاج الأوفر والأفضل هو علة وضرورة لا مناص لها منهما.
155- وليس بأقل من هذا ضرورة وعدلاً أن تُوزّع الخيرات المنتَجة بإنصاف على جميع أعضاء الجماعة. فحتم إذن أن يسير التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي معاً ويتعادلا لأنهما سيّان. وهذا يتطلب أن يكون النموّ، ما أمكن، تدريجياً ومنسجماً مع سائر قطاعات الإنتاج: الزراعة والصناعة والخدمات.
احترام مميزات كل بلد
156- للدول السائرة على طريق التطور الاقتصادي، عادةً، شخصيتها المميّزة سواء أكان ذلك في خيراتها أم في الطبائع الخاصة بمحيطها الطبيعي أم في تقاليدها الغنيّة عادةً بالقيم الإنسانية أم ي الصفات الخاصة بأعضائها.
157- فعلى البلدان النامية اقتصادياً الآتية إلى مساعدتها أن تتفهم هذه الشخصية وتحترمها وتتغلب على تلك التجربة التي تزين لها أن تطبع صورتها، هي، في البلدان التي جاءت لمساعدتها.
عمل مجرّد
158- على الدول المتطورة اقتصادياً أن تعنى عناية مثلى، فيما هي تساعد البلدان المتخلفة، بأن لا تسعى من وراء مساعدتها، إلى منفعتها السياسية بروح السيطرة.
159- وإذا حدث شيء من هذا فيجب أن يُعلن عالياً أنها، بفعلتها، تقيم استعماراً، من نوع جديد، استعماراً مقنّعاً، بدون ريب، ولكنه لا يقل سيطرةً عن استعمار انعتقت منه حديثاً جماعات سياسية كثيرة؛ ويكون من نتائجه تضايق في العلاقات الدولية وخطر على السلام العالمي.
160- فلا بدّ إذن، والعدل يقضي بذلك، من أن تُقدَّم تلك المساعدة التقنية والمالية بتجرد سياسي صادق وأن يكون هدفها تمكين الجماعات السائرة على طريق تطورها من أن تكمل، هي، وبجهدها الخاص، طريقها الصاعدة إلى كمالها الاقتصادي والاجتماعي.
161- وهكذا تكون قُدِّمت مساهمة قيّمة لتكوين مجتمع عالمي سيكون جميع أعضائه واعينَ واجباتهم وحقوقهم وعاملين، في وضعٍ متساوٍ، على تحقيق الخير العام العالمي.
احترام تسلسل القيم
162- إن التقدم العلمي والتقني والتطور الاقتصادي وأحوال حياة أفضل هي، بدون ريب، عناصر إيجابية للحضارة. ولكن لا بدّ لنا من أن نذكر أنها ليست قط قيماً قصوى فهي لا تعدو أن تكون جوهرياً وسائل غايتها القيمة المطلقة.
163- نلحظ، والألم يحزّ في قلبنا، أنه، في البلدان النامية اقتصادياً، قد هزلت معرفة تسلسل القيم وانطفأت شعلتها وانقلبت سلّمها رأساً على عقب عند كثير من الناس. فقيم الروح أهملت ونُسيت وأنكرت وصار للتقدم العلمي والتقني والتطور الاقتصادي والرفاه المادي الحظوة الكبرى. وغالباً ما يُسعى إليها كأنها الخيرات القصوى وينظر إليها كأنها علة الوجود الوحيدة. هي ذي الخدعة الهدامة، المتّغلغلة في العمل الذي تتمرس به البلدان المتطورة اقتصادياً عند الشعوب السائرة على طريق تطورها مع أن هذه البلدان لا تزال، في أغلبيتها، تحافظ على تقاليدها الموروثة وتحفتظ بشعورها ببعض القيم الإنسانية وبأعظمها أهمية حيّاً فعالاً.
164- فالإقدام على جرح هذا الشعور عمل فاحش في جوهره؛ فمن اللازم أن يُحترم ويُنَوّر، ما أمكن، ويتطوّر حتى يبقى كما هو: أس المدينة الحقة.
نصيب الكنيسة
165- إن الكنيسة هي، كما هو معروف، جامعة إنْ من حيث الحق الإلهي وإنْ من حيث الواقع لأنها هي في كل مكان عند جميع الشعوب أو إنها في طريقها إليها.
166- فاندماج الكنيسة في شعب ما، يحمل إلى ذلك الشعب نتائج حميدة في حقل الاقتصاد والاجتماع معاً كما يشهد بذلك التاريخ والاختبار. وفي الواقع ليس بين الذين يصيرون مسيحيين مَنْ لا يستطيع إلاّ أن يشعر بأنه مُلزم بإصلاح الأنظمة الزمنية احتراماً منه للكرامة البشرية وإزالةً للعقبات التي تعترض انتشار الخير.
167- والكنيسة، إذ تدخل في حياة الشعوب، لا تدخل فيها كمؤسسة تُفرض من الخارج؛ وهي على علم بهذا. فحضورها، في الواقع يُتمّ، في آن واحد، بولادة جديدة أو مع بعث الناس بالمسيح. ومن يولد ولادة جديدة أو يُبعث مع المسيح لا يشعر قطّ بضغط خارجي بل على العكس من ذلك يشعر بأنه تحرر في عمق أعماقه لينفتح على الله، وكلّ ما له قيمة فيه يتعزز وينبل.
168- وفي هذا الصدد قال سلفنا بيوس الثاني عشر كلاماً كلّه حكمة: “إن كنيسة المسيح، وهي المستودع الأمين للحكمة الإلهية المربّية ما فكرت يوماً ولن تفكر في مناهضة أو في احتقار المميزات الخاصة التي يحافظ عليها بورع الغيور وبأنفة مشروعة ويعتبرها إرثاً له ثميناً، كلّ شعب من شعوب الأرض. فغاية الكنيسة هي الوحدة الفائقة الطبيعة، في المحبة الشاملة، نشعر بها ونحياها، لا لتشابه الظاهر المحض، والسطحي وبالتالي الضعيف الواهي. إن الكنيسة ترحب بسرور وترافق بأدعيتها الوالدية جميع التوجيهات وجميع الاهتمامات الموجّهة نحو تطوّر حكيم ومنظِّم للقوى والنزعات الخاصة التي لها جذورها في الألياف العميقة عند كل فرع من فروع الجنس البشري على شرط ألاّ تتنافى والواجبات التي تفرضها على البشرية وحدة أصلها ومصيرها المشترك” (35).
169- ونلحظ والفرح يثلج صدرنا أن المواطنين الكاثوليك في الأمم السائرة على طريق التطور لا يضاهيهم في أيامنا أحد في مساهمتهم ببذل الجهد بغية تطوير بلدانهم ورفع مستواها في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي.
170- أما الكاثوليك الذين يعيشون في بلدان ذات مستوى اقتصادي عالٍ فيكثرون مبادراتهم لتقوية المعونة الممنوحة للأمم السائرة في طريق النمو. إننا نقدر، بنوع خاص، المعونة المتنوعة الوجوه الآخذة بالازدياد التي يقدمونها إلى طلاب أفريقيا وآسيا الموزعين في جامعات أوروبا وأميركا؛ ونمتدح أولئك الذين يتأهبون ليحملوا معونتهم التقنية والمهنية إلى البلدان المتخلفة عن ركب الحضارة.
171- إلى جميع أبنائنا الذين يقيمون، في جميع القارات، الدليلَ على حيوية الكنيسة الدائمة بغيرتهم على تقدم الشعوب والمدنية الحقيقي نريد أن نوجه، في محبة أبوية، كلمة ثناء وتشجيع.
زيادة السكان والتنمية الاقتصادية
فقدان التوازن بين السكان ووسائل المعيشة
172- من أكثر المعضلات التي يتداول الناس الحديث عنها في هذه الأيام معضلة التناسب بين ازدياد السكان والتنمية الاقتصادية ووسائل العيش التي هي على متناول اليد إن على الصعيد العالمي وإن على صعيد البلدان المتخلفة.
173- فعلى الصعيد العالمي يزعم أناس أن الجنس البشري، وفقاً لإحصاءات هي على شيء من الرصانة، سيزداد عدده في عشرات السنين القادمة، زيادة ملحوظة بينما لا تتقدم التنمية الاقتصادية إلاّ ببطء؛ ويستخلصون من هذا أنه إذا لم يوضع حدّ لتكاثر المواليد، سيختل، في مدة قصيرة، وبشكل حاد، التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش.
174- أمَّا بشأن البلدان المتخلفة فيلاحظون، بالاستناد دائماً إلى معطيات الاحصاءات، أن انتشار التدابير الصحية الوقائية السريع والعناية الطبية يُخّفضان إلى حدّ بالغ عدد الوفّيات ولاسيما بين الأطفال، بيد أن نسبة المواليد العالمية، في تلك الأقطار، باقية على حالها بشكل ملموس ولمدّة قد تطول. وهكذا سيتفوّق عدد المواليد على عدد الوفيات تفوّقاً محسوساً فيما لا يزيد إنتاج المذاهب الاقتصادية بالنسبة عينها. فمن المستحيل إذن أن يتحسن مستوى الحياة في البلدان المتخلفة.
فالنقيض إذن لا مهرب منه ولا مناص، لذلك إذاً أريد تجنب الأوضاع القصوى ينبغي أن يُلجأ، على زعمهم، إلى تدابير فعالة لمنع الولادة أو على الأقل لتحديد عددها.
معطيات المعضلة
175- أمَّا الحقيقة فهي أن النسبة بين ازدياد عدد المواليد من جهة والتنمية الاقتصادية ووسائل العيش الحاضرة من جهة اخرى لا تخلق، كما يبدو، صعوبات، على الأقل، في الحالات الراهنة وفي المستقبل القريب: ثم إن العناصر التي تُستخدم لاستخراج نتائج ذات قيمة، هي غير أكيدة وغير ثابتة.
176- على أن الله أودع، بجودته وحكمته، الطبيعة ثروات لا تنضب ووهب الناس عقلاً وعبقرية ليخترعوا أدوات ويكتشفوا وسائل قمينة بأن تنيلهم الخيرات الضرورية للعيش. فلا يجوز لنا أن نفتش عن الحل الأساسي لهذه المشكلة في الوسائل التي تنتهك حرمة النظام الأدبي الذي سنَّه الله وتهاجم منابع الحياة البشرية عينها، بل في جهدٍ علمي جديد يبذله الإنسان ليضاعف ويعزّز سلطته على الطبيعة. والتقدم الذي أحرزه العالم والتكنيك حتى الآن يفتح آفاقاً لا حدود لها.
177- ولا يفوتنا مع ذلك أنه قد تنشأ في بعض المناطق والبلدان المتخلفة، وهي في الواقع موجودة، معضلات جسيمة مردّها إلى تنظيم اقتصادي واجتماعي ناقص لا يتوفّر على إيجاد وسائل للعيش تتناسب ومعدل ازدياد عدد المواليد، ويعود ذلك أيضاً إلى تضامن بين الشعوب غير كافٍ.
178- ولكن، حتى في هذه الحال، نرى من واجبنا أن نؤكد فوراً وبصراحة أنه لا يجوز أن تُجابه هذه المعضلات ولا أن تُحل هذه الصعاب باللجوء إلى وسائل لا تليق بالإنسان مستمدّة من مفهومٍ للإنسان وللحياة ماديٍّ محض.
179- فالحل الحقيقي إنما نجده في التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي اللذين يحترمان القيم الإنسانية: الفردية والاجتماعية الحقيقية. ومما لا مندوحة عنه أن تتحقق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي طبقاً لمقتضيات السنَّة الأدبية وبطريقة خليقة بالإنسان وبالقيمة العظيمة التي تتمثل في حياة كل إنسان. ويقتضي لذلك أيضاً أن يكون هناك تعاون عالمي يتيح ويسهّل حركة تبادلٍ منظَّمة ومجدية للمعارف والرساميل والناس.
احترام شرائع الحياة
180- يتحتم علينا أن نعلن من على هذا المنبر على الملا أن الحياة البشرية يجب أن تتناسل بواسطة العيلة المرتكزة على الزواج الواحد غير المنفصم، المرفوع، عند المسيحيين، إلى مكانة سرّ. وتناسل الحياة البشرية وكلَته الطبيعة إلى فعلٍ شخصي، وهو بهذه الصفة، خاضع لشرائع الله الحكيمة، شرائع لا تخرق حرمتها ولا تتغير، شرائع محتوم على جميع الناس أن يعرفوها ويحفظوها. فلا يمكن إذن أن تستخدم وسائل وتُتّبع طرق قد تكون جائزة في تناسل الحياة في عالم النبات والحيوان.
181- فالحياة البشرية مقدسة لأنها، منذ نشأتها، تستدعي فعل الله الخلاّق. ومن انتهك شرائعها أهان الجلال الإلهي وانحطّ هو وحطّ معه البشرية وأضعف، علاوة على هذا، المجتمع الذي هو عضو فيه.
التربية على روح المسؤولية
182- ومن الأهمية بمكان أن تُثقَّف الأجيال الجديدة لا ثقافة علمية ودينية فقط – وهذا حق الوالدين وواجبهم – بل أن تُربَّى أيضاً تربية راسخة على روح المسؤولية في كل ما يمتّ بصلة إلى الحياة؛ ولاسيما في كل ما يلامس تأسيس العيلة وواجب إنجاب البنين وتربيتهم. فمن اللازم أن يُرسَّخ في عقولهم إيمان حي وثقة عميقة بالعناية الإلهية ليكون لهم من الشجاعة ما يجعلهم يرضون بالأتعاب والمشقَّات والتضحيات في سبيل قيامهم بتلك الرسالة النبيلة والشاقة غالباً، رسالة التعاون مع الله في نقل الحياة وتربية البنين. وللقيام بهذه التربية على روح المسؤولية ليس على الأرض مؤسسة تملك من الوسائل الفعالة ما تملكه الكنيسة التي يحق لها، لأجل هذه الغاية، أن تمارس رسالتها بحرية كاملة.
في خدمة الحياة
183- إنا نذكِّر بأن الله وَجَّه، في سفر التكوين، إلى الإنسانين الأولين وصيَّتين تكمل الواحدة الأخرى: وصية: نقل الحياة ” إنميا وأكثرا” ؛ ووصية إخضاع الطبيعة: “واملأا الأرض وأخضعاها”.
فالوصية المتعلقة بإخضاع الأرض هي أبعد من أن تكون تخريبية: إنها موجهة بالأحرى إلى خدمة الحياة.
184- أنا نتبين، والحزن يملأ قلبنا، مضادّات تبعث الدهشة على أشد ما تكون الدهشة؛ مضادات تنغص الحياة على عالم اليوم: فمن جهة يُشدّد على الأحداث المحتملة الوقوع ويُلوّح البؤس والمجاعة، ومن جهة أخرى تستخدم على أوسع ما يكون الاستخدام، الاختراعات العلمية وجميع ما حققه التكنيك والموارد الاقتصادية لإنتاج أرهب أدوات الموت والخراب.
185- لقد مكنت العناية الإلهية الجنس البشري من وسائل كافية ليحل، في كرامة، المعضلات العديدة والحساسة، معضلات تناسل الحياة. ولا تُحلّ هذه المعضلات إلاّ حلاً أعرج أو تظل حتى بدون حلّ إذا استخدمت عقول الناس الملتوية أو إراداتهم المفسودة تلك الوسائل على غير ما يمليه العقل لغايات لا تتجاوب قط مع طبعهم الاجتماعي ولا مع مقاصد العناية الإلهية.
التعاون على نطاق عالمي
المدى العالمي لكل معضلة بشرية هامة
186- إن تقدم العلوم والتكنيك في جميع مجالات الحياة الاجتماعية يكثِّر ويوثِّق العلاقات بين الأمم ويجعل علاقاتهم المتبادلة أبداً أعمق وأكثر حيوية.
ومن ثم يمكن القول أن لكل معضلة بشرية، أية كانت أهميتها، وأيَّا كان موضوعها، علمياً أو تقنيّاً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً، أصداءً تتجاوز الحدود الوطنية لتصبح في الغالب عالمية.
187- لذلك يتعذر على الجماعات السياسية، إذا انفردت الواحدة عن الأخرى، أن تحل، وحدها، وبقوتها الذاتية، معضلاتها الصعبة بطريقة ملائمة حتى ولو تفوقت على غيرها بثقافة عالية واسعة الانتشار وبعدد رعاياها وحيوياتهم وبفعالية مذهبها الاقتصادي وباتساع رقعة أرضها وغناها. فالأمم تتبادل التبعية، وفي وسعنا أن نؤكد أن كل أمة تنمو بمساهمتها في نموّ سائر الأمم. لذلك كان التفاهم والتعاون بينها محتومين عليها.
حذر متبادل
188- وهكذا صار في استطاعتنا أن نفهم لماذا شاع وتعزّز اليقين في عقول الأفراد والشعوب بالضرورة الملحة للتفاهم والتعاون. ويظهر، في الوقت عينه، أن الناس، ولاسيما أولئك الذين يضطلعون بالمسؤوليات الجسام، يقفون عاجزين عن تحقيق ذينك التفاهم والتعاون.
أمَّا مصدر هذا العجز فلا نفتشَّ عنه في حجج علمية وتقنية واقتصادية بل في انعدام الثقة المتبادلة. فالناس وبالتالي الدول يخاف بعضهم بعضاً وكل يخشى من أن يبيِّت له الآخر نيات عدوانية تهدف إلى السيطرة عليه ويتحين الفرصة ليحقق تلك السيادة فيروح هذا ينظم دفاعه ويطوّر أسلحته لا ليهاجم، كما يصرّح، بل ليردّ المعتدي المزعوم عن اعتدائه.
189- أمَّا العاقبة فتكون أنّ طاقات بشرية جسيمة تُهدر وثروات طائلة تُبدَّد في غايات غير بناءة بينما يتسرَّب إلى عقول الأفراد والشعوب ويعظم شعور بالقلق والضيق فيضعف روح المبادرة إلى القيام بالمهمات الواسعة المدى.
التنكر للنظام الأدبي
190- للحذر المتبادل تعليله في هذا الواقع وهو أن الناس ولاسيما أكثرهم مسؤولية يستوحون في أعمالهم مفاهيم حياة مختلفة أو في جوهرها متناقضة. نقولها، أسفين، أن بعض هذه المفاهيم لا يقر بوجود نظام أدبي، نظام سامٍ، نظام متعالٍ وجامع، ومطلق. نظام ذي قيمة واحدة للجميع. وهكذا يمسي من المستحيل عليهم أن يتلاقوا وأن يتفقوا، في ثقة، على ضوء شريعة عادلة واحدة يسلم بها الجميع ويعملون بها.
191- أجل أن كلمة “عدل” وعبارة “مقتضيات العدل” لا ينفكان يخرجان من أفواه الجميع؛ ولكن لتلك الكلمة ولهذه العبارة كليهما مضامين متباينة أو متناقضة عند هؤلاء وأولئك.
192- لذلك رأينا النداءات المتكررة والحارّة إلى “العدل” وإلى “مقتضيات العدل” بدل من أن تمكن من التلاقي والتفاهم ما انفكت تزيد البلبلة وتؤجج نار المضادات وتذكي المجادلات. ونتيجة هذا كله أنه انتشر بين الناس اقتناع أن لا وسيلة للإنسان إلى إثبات حقوقه وملاحقة مصالحه إلاّ اللجوء إلى العنف؛ والعنف هو مصدر شرور جدّ خطيرة.
الله الحقيقي أساس النظام الأدبي
193- لا تتولَّد وتتوطد الثقة المتبادلة بين الشعوب والدول إلاّ من الإعتراف بالنظام الأدبي واحترامه.
ولكن النظام الأدبي لن يقوم إلاّ على الله. وفي حال انسلاخه عن الله يتفكك. ذلك لأن الإنسان ليس مركبَّاً مادياً فقط إنما هو روح أيضاً يجمِّله العقل والحرية فيتطلب إذن نظاماً أدبياً ودينياً يؤثر، أكثر من أية قيمة مادية، في التوجيهات وفي الحلول التي تُعطى لمشاكل الحياة الفردية والاجتماعية في داخل الجماعات القومية وفي علاقاتها المتبادلة.
194- لقد أكد أناس أن الناس يستطيعون، في زمن انتصارات العلم والتكنيك، أن يستغنوا عن الله في بناء صرح حضارتهم. أمَّا الحقيقة فهي، على عكس ما قالوا، لأن تقدم العلم والتكنيك يخلق، هو عينه، معضلات بشرية ذات مدى عالمي لا تجد لنفسها حلولاً إلاّ على ضوء إيمان صادق وحيّ بالله، مبدأ الإنسان والعالم وغايتهما.
195- وهذه الحقائق يقرها الواقع: أن الآفاق اللا محدودة التي فتحها البحث العلمي تساهم، هي نفسها، في خلق اقتناع في العقول: أنَّ في وسع العلوم الحسابية أن تبين من الوجود وجوهه الظاهرة ولكنها تعجز عن أن تكتنه أعمق وجوه هذا الوجود وبالأحرى عن أن تعبر عنها تعبيراً كاملاً. إن اختبار الماضي الفاجع الذي أثبت أن القوى الهائلة الموضوعة تحت تصرف التكنيك، يمكن أن تستعمل لغايات بنَّاءة كما تستخدم لغايات هدّامة، يبين لنا بوضوح ما للقيم الروحية من الأهمية الفائقة لكي يحتفظ التقدم العلمي بطابعه الأساسي كوسيلة للمدنية.
196- إن الشعور بالإستياء المتفاقم الذي تسري عدواه بين الجماعات القومية، المتمتعة بمستوى حياة عالٍ يقضي على الغرور الحالم بفردوس على الأرض، ولكنه، في الوقت عينه، يظهر بجلاءٍ يتوضح كل يوم، الشعور بحقوق الشخص البشري الشاملة التي لا تُمس والشوق الأجَّاج إلى علاقات أكثر عدالة وإنسانية. هذه هي بواعث تسهم جميعها في جعل الناس أوفر معرفة بحدودهم وتوقظ فيهم الرغبة في البحث عن القيم الروحية. وكل هذا لا يمكن إلاّ أن يبعث الأمل في تفاهم صادق وتعاون مجدٍ.
القسم الرابع
توثيق عرى حياة عامّة في الحقيقة والعدل والمحبّة
مذاهب فكرية ناقصة أو ضالة
197- بعد تقدم العلوم البعيد وحتى بسبب هذا التقدم لا تزال المعضلة على أشد ما تكون من التعقد: أي معضلة علاقات اجتماعية تكون أكثر توازناً في الحقل الإنساني إن في داخل كل دولة وإن في النطاق العالمي.
198- لأجل هذه الغاية قامت، في أيامنا، مذاهب فكرية مختلفة وانتشرت. فبعضها تبخَّر اليوم كالضباب عند شروق الشمس؛ وبعضها تحمَّل ولا يزال يتحمل تعديلات جوهرية؛ وبعضها فقد كثيراً وما انفكّ يفقد يوماً بعد يوم، كثيراً من جاذبيته في عالم الفكر. أما السبب فهو أن هذه المذاهب الفكرية لا تنظر في الإنسان إلاّ بعض وجوه، وغالباً، أقلها عمقاً. وهي، إلى ذلك، لا تحسب حساباً لشوائب لا يمكن تجنّبها في الإنسان كالمرض والألم؛ شوائب لا تُوفّق المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، حتى أبعدها تقدماً، إلى القضاء عليها. وهناك أخيراً المطلب الروحي، وهو مطلب عميق، مسعور لا يرتوي، يعبّر عن ذاته في كلّ زمان وفي كل مكان حتى ولو سُحِق بعنف وخنق ببراعة ومهارة.
199- فالضلال الأشد تأصلاً، في عصرنا الحاضر، هو الضلال الذي يعتبر المطلب الديني، مطلب النفس البشرية تعبيراً عن شعور أو عن وَهمْ، أو حصيلة أحوال تاريخية يجب أن يُقضى عليه كأنه عنصر رجعي وكعقبة في طريق التقدم البشري. أمّا الناس فيَظهرون، على العكس، كما هم في الواقع، خلائق أبدعها الله لأجل ذاته كما كتب القديس أغوسطينوس: “لأجلك خلقتنا، يا رب، وقلبنا لا ينفك قلقاً ما دام لا يستريح فيك” (36).
200- أياً كان التقدم التكنيكي والاقتصادي فلن يقوم عدل ولن يستتب سلام في العالم ما دام الناس لا يستعيدون معنى كرامتهم كخلائق وكأبناءٍ لله، العلة الأولى والأخيرة لكل خليقة. فالإنسان المعزول عن الله يمسي لا إنسانياً حيال نفسه وحيال الآخرين؛ لأن العلاقات المنظمة بين الناس تفترض علاقات ضميرية شخصية، منظمة، بالله معين الحق والعدل والمحبة.
201- أكيد أن الاضطهاد الذي أخذ، منذ عشرات السنين، يشتد في بلدان كثيرة، حتى العريقة بمدنيتها المسيحية، على إخوتنا وأبنائنا الأعزاء، على قلبنا خاصة لأجل هذا، يبين للملأ بجلاء عظمة المضطَّهدين المتفوقة وبربرية المضطّهدين البارعة. فإذا كان هذا لم يعطِ حتى الآن ثمار توبة ظاهرة فإنه يحمل كثيراً من الناس على التفكير.
202- وليس بأقل من هذا واقعية أن العصر الحديث يتميز بميزة مشؤومة قوامها محاولة بلهاء تريد أن تقيم نظاماً زمنياً وطيداً ومعطاء لا يكون لله يدٌ فيه وهو الإس الوحيد الذي بدونه لا يقوم نظام ثابت الأركان. محاولة تريد أن تعلن عظمة الإنسان بعد أن تقطعه عن المعين الذي تنفجر منه هذه العظمة ومنه ترتوي؛ وترغب في كبت أشواقه إلى الله وخنقها إن استطاعت. ولكن الخبرة اليومية ما برحت تشهد، في غمرة خيبات أمل مريرة، وغالباً بلغة الدم، ما يؤكده الكتاب المقدس: “إن لم يبنِ الربّ البيت فباطلاً يتعب البناؤن”.
آنية تعليم الكنيسة الاجتماعي، الدائمة
203- تحمل الكنيسة إلى الناس وتعلن مفهوماً للحياة الاجتماعية هو دائماً حاليّ. وطبقاً لهذا المفهوم ما برحت تبشر في كل آنٍ وآن، ووفقاً لمبدأ هذا المفهوم الأساسي – كما يتبين مما قلناه حتى الآن – أنَّ الناس هم ومن الواجب أن يكونوا أساساً وغاية وموضوعاً لجميع المؤسسات حيث تظهر الحياة الاجتماعية. فكل إنسان، وهو ما هو، يجب أن يُعتبر بمقتضى طبيعته الاجتماعية بجوهرها وبحسب مقصد الله من وراء رفعه الإنسان إلى النظام الفائق الطبيعة.
204- وانطلاقاً من هذا المبدأ الأساسي الذي يحمي كرامة الشخص البشري ويقدسها وضعت سلطة الكنيسة التعليمية، بمساعدة الكهنة والعلمانيين النابهين، تعليماً اجتماعياً ملائماً للأوضاع الراهنة ولاسيما في هذا القرن؛ وهو تعليم يبين، في جلاء ووضوح، الطرق الأمينة إلى الرجوع إلى إقامة علاقات الحياة على قواعد هي عادة عامة تتوافق مع الطبيعة ومع مختلف الأوساط، أوساط النظام الزمني ومع مميزات المجتمع المعاصر أيضاً وهي بالتالي قواعد يمكن أن يسلّم بها الجميع.
205- ومما لا بدّ منه، مع ذلك، واليوم أكثر من أمس فما قبل، أن يعرف الناس هذا التعليم ويستسيغوه ويجسدوه أفعالاً في الواقع الاجتماعي بالشكل وعلى مقدار ما تسمح به أو تقتضيه الأوضاع المتنوعة. إنها لمهمة شاقة ولكنها نبيلة: فإلى تحقيقها ندعو بحمية لا إخوتنا وأبناءنا المنتشرين في العالم كلّه فقط بل جميع الناس ذوي الإرادات الصالحة أيضاً.
تعليم
206- نعود فنؤكد، قبل كل شيء، إن تعليم الكنيسة الاجتماعي هو جزءٌ لا يتجزأ من المفهوم المسيحي للحياة.
وإذ نلحظ بسرور أن هذا التعليم يُدرّس حتى الآن، ومنذ زمن بعيد، في معاهد مختلفة، نشدد اليوم على أن يُعممّ تدريسه فيشمل حلقات متتابعة وفي شكل متسلسل، في جميع المعاهد الإكليريكية وفي جميع المدارس الكاثوليكية على اختلاف درجاتها. وإلى ذلك يجب أن يُنزل في برنامج التعليم الديني في الخورنيات ومنظمات العلمانيين الرسولية؛ ويُنشر بواسطة جميع وسائل النشر العصرية: الصحافة اليومية والدورية والمنشورات الشعبية أو العلمية ومحطات الإذاعة والتلفزيون.
207- وفي عمل النشر هذا يستطيع أبناؤنا العلمانيون أن يساهموا كثيراً بإكبابهم على دراسة هذا التعليم وبغيرتهم على إفهامه الآخرين وبقيامهم على ضوئه بنشاطاتهم ذات النظام الزمني.
208- عليهم ألاّ ينسوا أن حقيقة التعليم الاجتماعي الكاثوليكي وفعاليّته يحققهما، بوجه خاص، التوجيه المستقيم الذي يعطونه لحل المعضلات الموضوعية.
وبهذه الطريقة يتوصلون إلى أن يلفتوا إليه أنظار من يجهلونه أو من يحاربونه لأنهم يجهلونه؛ وقد يوفّقون إلى أن يُدخلوا في أذهان هؤلاء قبساً من نوره.
تربية
209- لا يكفي التعليم الاجتماعي أن ينادى به وحسب بل أن يُجسّد، في الواقع، بأفعال ملموسة. فما أصدقه قولٌ عن التعليم الاجتماعي المسيحي لأن الحقيقة هي نوره والعدل هو غايته والمحبة هي قوته الدافعة.
فنسترعي انتباه أبنائنا إذن إلى الواجب الذي عليهم أن لا يكتفوا بأن يتثقفوا ثقافة اجتماعية بل أن يتربوا أيضاً تربية اجتماعية.
210- فالتربية المسيحية يجب أن تكون كاملة من جميع وجوهها فينبغي أن تمتدّ إلى جميع الواجبات. فعليها إذن أن تخلق وترسخ في المسيحيين معرفة الواجب الذي يقوم على أن يُتمّوا، بروح مسيحية، جميع أعمالهم ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية.
211- إن التخطي من النظريات إلى الأفعال عمل من طبعه صعب. وصعوبته تعظم على قياس ما يُطبّق في أفعال موضوعية تعليمٌ اجتماعي كالتعليم المسيحي وذلك من جراء الأنانية المتأصلة في أعماق الإنسان، والمادية الغارق فيها المجتمع المعاصر والصعوبات في اكتشاف مقتضيات العدل الموضوعية في الأحوال المعينة اكتشافاً واضحاً ودقيقاً.
لذلك لا يكفي أن نخلق شعوراً بواجب العمل بروح مسيحية في حقل الاقتصاد والاجتماع بل على التربية أيضاً أن تهدف إلى تعليم الطريقة التي تمكّن من القيام بهذا الواجب.
مهمّة لمنظمات العلمانيين الرسولية
212- التربية على العمل المسيحي، حتى في حقل الاقتصاد والاجتماع، ستكون، نادرة، فعّالة، إذا كان الأشخاص، موضوع التربية لا يساهمون هم أنفسهم مساهمة فعالة في تربيتهم الذاتية، وإذا لم تتحقق التربية في العمل.
213- لقد أصاب من قال: لا يصير الإنسان أهلاً لممارسة الحرية ممارسة حسنة إلاّ باستخدام الحرية استخداماً حسناً. وبالمقابلة لا تكتسب التربية على العمل المسيحي في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي إلاّ بالعمل الحسي في هذا المجال.
214- لذلك كان لمنظمات ومؤسسات العلمانيين الرسولية دور هام في التربية الاجتماعية، ولاسيما لتلك التي اتخذت غاية لها بنوع خاص، إيقاظ الروح المسيحية في هذا أو ذاك من قطاعات الإنتاج. إذ أن في استطاعة الكثيرين من أعضاء هذه المؤسسات أن يستخدموا اختباراتهم اليومية لتربية أنفسهم تربية دائماً أفضل وللمساهمة في تربية الشبان تربية اجتماعية.
215- وفي هذا الصدد نرى من المناسب أن نذكّر الجميع: العظماء والوضعاء، بأن المعنى المسيحي للحياة يفرض روح التقشف والتضحية. وإنه لمن المؤسف، أن يهيمن، في أيامنا، هنا وهناك، ميل إلى اللذائذ يحصر غاية الحياة في السعي وراء اللذة وإرضاء جميع الشهوات إرضاءً كاملاً، مما يعرّض الروح والجسد معاً إلى خطرٍ فادح.
216- إن السلوك المنتظم والاعتدال في إشباع الشهوات الدنيئة، هما حتى على صعيد الطبيعة، حكمة ومصدر خير. وعلى الصعيد الفائق الطبيعة يتطلب الإنجيل والكنيسة وتقليدها الصوفي كله روح الإماتة والتوبة الذي يضمن للروح انتصارها على الجسد ويقدم وسيلة فعالة، للتكفير عما تستوجبه الخطايا من عقوباتٍ لم ينج منها إلاّ يسوع وأمه البريئة من الدنس.
توجيهات عملية
217- لكي نجسد في الأفعال المبادئ والتوجيهات الاجتماعية لا بد لنا من أن نمر عادة بمراحل ثلاث: بيانٍ بالوضع، وتقييم الوضع على ضوء تلك المبادئ والتوجيهات، والبحث عما يجب عمله وتحديد هذا العمل لنتمكن من أن نجسد في الأفعال تلك المبادئ والتوجيهات طبقاً للطريقة والنسبة الليتن يسمح بهما أو ببعضهما الوضع الراهن.
هي ذي المراحل التي اعتدنا أن نعبر عنها بالكلمات الثلاث: النظر والحكم والعمل.
218- وإنه لَمِنَ المناسب اليوم أكثر من أمس فما قبل أن يُدعى الشبان غالباً إلى التأمل والتفكير في هذه الكلمات وأن يجسدوها في الأفعال، ما استطاعوا. وبهذه الطريقة لا تبقى فيهم المعارف التي اكتسبوها واستساغوها نظريات وفكراً بل تجعلهم قادرين على نقل المبادئ والتوجيهات الاجتماعية إلى حيّز العمل.
219- وفي هذه المرحلة، مرحلة تطبيق المبادئ تطبيقاً موضوعياً، قد تُنشأ وجهات نظر مختلفة حتى بين الكاثوليك الصادقين والمستقيمي النية، وعندئذ فليحذروا من أن يٌفقد التقدير المتقابل والاحترام المتبادل والإرادة الصالحة التي تسعى وراء نقاط التلاقي بلوغاً إلى عمل مناسب وفعّال. وليحذروا أيضاً من الإنسياق وراء مجادلات لا آخر لها ومن إهمال الخير الممكن تحقيقه وواجب تحقيقه بحجة التمسك بالأفضل.
220- يعرض للكاثوليك الذين ينصرفون إلى أعمال اقتصادية واجتماعية أن يلتقوا غالباً أناساً يختلف مفهومهم للحياة عن مفهومهم، هم، فليُعنَ أبناؤنا بأن يظلوا في معطياتهم منسجمين مع أنفسهم فلا يقبلوا بأية مساومة تمس الدين والسنة الأدبية؛ بل فليتحلوا، في الوقت عينه، بروح التفاهم والتجرد ويكونوا مستعدين للتعاون مع أولئك بإخلاص في شؤون، هي في ذاتها صالحة، أو في أمور يستطيعون أن يستخلصوا منها خيراً ولكن من الواضح أنه يجب على الكاثوليك، بعد أن تلفظ الكنيسة حكمها بأمر ما، أن ينقادوا لتوجيهاتها، لأن للكنيسة الحق وعليها واجب لا أن تدافع عن النظام الأدبي والديني وحسب، بل أن تتدخل بما لها من سلطان، في النظام الزمني، عندما تحكم بوجوب تطبيق هذه المبادئ على حالات معينة.
عمل متعدد الوجوه ومسؤولية
221- من التعليم والتربية يجب أن ننتقل إلى العمل. والعمل مهمة تتعلق خاصة بأبنائنا العلمانيين لأنهم يتفرغون عادة، بحكم حالتهم في الحياة، إلى نشاطات ومشاريع ذات أهداف زمنية بطبيعتها وغاياتها.
222- فلأجل القيام بهذه المهمة، من الضروري أن يكون أبناؤنا لا بارعين في مهنتهم فقط وممارسين نشاطاتهم الزمنية وفقاً للشرائع الطبيعية التي توصلهم فعلاً إلى الغاية وحسب، بل لا بدّ لهم أيضاً من أن يزاولوا تلك النشاطات في جوّ ملائم لمبادئ التعليم المسيحي وتوجيهاته أيضاًَ، وأن يتخذوا موقف الثقة الوطيدة والطاعة البنوية من السلطة الكنسية. وليتفضل أبناؤنا ويفهموا جيداً أنهم، عندما لا يطبقون في مزاولتهم أعمالهم الزمنية، مبادئ التعليم الاجتماعي المسيحي ولا يعملون بتوجيهاته لا يخونون واجبهم وينتهكون غالباً حقوق أخوانهم فقط بل قد يصلون إلى أن يُعيبوا التعليم عينه ويُفقده حظوته في أعين الناس ويُظهرونه كأنه، في ذاته وفي جوهره، نبيل، ولكنه خالٍ من كل قوة فعالة للتوجيه.
خطر جسيم
223- سبقنا وقلنا أن الناس عمّقوا اليوم ووسعوا معرفتهم بشرائع الطبيعة وخلقوا آلات ليحصروا طاقاتها أنتجوا ولا يزالون مصنوعات عظيمة ومدهشة ومع ذلك فهم في تصميمهم على السيطرة على العالم الخارجي وتطويره وتكييفه معرضون للتغافل عن أنفسهم ولإضعاف ذواتهم. وإلى هذا أشار، بحزن عميق، سلفنا بيوس الحادي عشر في رسالته “لأربعين سنة” حيث يقول: “إن العمل اليدوي الذي أعدته العناية الإلهية، حتى بعد الخطيئة الأصلية، لكمال الإنسان المادي والأدبي، ينزع، في هذه الظروف، إلى أن يصير أداةً للفساد. فالمادة الجامدة تخرج من المصنع أشرف وأسمى؛ أما الأشخاص فينفسدون فيه وينحطّون” (37).
224- كذلك يؤكد الحبر الأعظم، البابا بيوس الثاني عشر وبصواب: “إن عصرنا يتميز بالتضاد القائم بين التقدم العلمي والتكنيكي العظيم وتقهقر البشرية المرعب، سينجز عصرنا ملحته – المسخ، إذ يحول الإنسان إلى عملاق في عالم الحس، على حساب روحه ويجعله قزماً في العالم الفائق الطبيعة” (38).
225- وتتحقق اليوم أيضاً، على نطاق واسع، الكلمة التي قالها صاحب المزامير عن الوثنيين: “عمل الناس ينسيهم طبيعتهم، يعجبون بمصنوعات أيديهم إلى حد أن يجعلوا منها أوثاناً” : ” أما أوثانهم ففضة وذهب، صنع أيدي البشر”.
الاعتراف بتسلسل القيم واحترامها
226- بالعناية الأبوية التي لنا، بصفتنا راعي النفوس العام ندعو أبناءنا بإلحاح إلى أن يسهروا على ذواتهم لِيُبقوا على الشعور بسلم القيم نيّراً وحيّاً في ممارستهم نشاطاتهم الزمنية وفي سعيهم إلى بلوغ الغاية الخاصة بكل منها.
227- أكيد أن الكنيسة علّمت في كل زمان وما انفكت تعلم أن التقدم العلمي والتكنيكي والرفاه الزمني الناجم عنه هما خيور حقيقية وتشكل إذن خطوة هامة في تقدم الحضارة البشرية ولكن من الواجب أن تُقيَّم وفقاً لطبيعتها الحقيقية كأدوات أو كوسائل تستخدم للبلوغ، بطريقة أضمن، إلى غاية أسمى وهي أن تسهّل وتحقّق كمال الإنسان الروحي، في النظام الطبيعي وفي النظام الفائق الطبيعة.
إن كلمة المعلم الإلهي لا تزال تدوّي، كتحذير خالد: “ماذا يفيد الإنسان أن يربح العالم إذا خسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء نفسه”.
تقديس أيام الأعياد
228- ما برحت الكنيسة تذكر، رغبة منها في الدفاع عن كرامة الإنسان كخليقة تجمّلها نفس صنعها الله على صورته ومثاله، بحفظ الوصية الثالثة من الوصايا العشر: “إذكر يوم السبت لتقدسه”. إن لله حقاً بأن يطالب الإنسان بأن يحبس على عبادته من الأسبوع يوماً تستطيع النفس فيه، بعد أن تكون تحررت من المهام الزمنية، أن تسمو وتنفتح على التفكير في الأمور السماوية وعلى محبتها، باحثةً في خلوة، مع ضميرها، عن واجباتها نحو خالقها؛
229- وأن للإنسان حقاً أيضاً بل في الإنسان حاجة إلى أن يوقف، في فترات من الزمن، العمل اليومي الشاق ليريح أعضاءه المنهوكة؛ ويوفّر لحواسه تسلية شريفة ويوثّق ربط الوحدة بين أعضاء العيلة، وحدة لا تُكتسب بغير الاحتكاك المتواتر وبعيشة جميع أعضاء العيلة عيشة مشتركة، هادئة.
230- أجمع الدين والسنّة الأدبية والصحة على ضرورة راحة منظّمة تعبر عنها الكنيسة منذ أجيال وأجيال بتقديس يوم الأحد تقديساً يرافقه الاشتراك في ذبيحة القداس الإلهي، ذكرى وتطبيق لعمل يسوع الفدائي لأجل النفوس.
وإنا نرى، بألم عميق، الإهمال أن لم نقل الاحتقار الذي تتعرض له هذه الشريعة المقدسة مع النتائج الوخيمة التي تلحق، من جراء ذلك، بخلاص نفوس أعزائنا العمال وصحة أجسادهم.
231- فباسم الله، ولمصلحة الناس المادية والروحية، نذكّر الجميع: سلطات وأرباب عمل وعمّالاً بحفظ وصية الله والكنيسة ونضع كلاً منهم أمام المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام المجتمع.
تعهّد متجدد
232- قد يكون من الضلال، مع ذلك، أن يُستخلص مما قلناه آنفاً: إنه من واجب أبنائنا ولاسيما العلمانيين أن يسعوا بفطنة إلى تقييد توغلّهم المسيحي في العالم، فمن واجبهم، على العكس من ذلك، أن يجددوه ويزيدوه عمقاً.
إن الرب في صلاته الأخيرة لأجل وحدة الكنيسة لم يسأل أباه “أن يُخرج اتباعه من العالم بل أن يحفظهم من الشر”. فلا يجوز إذن أن نخلق معارضة مصطنعة حيث لا وجود لها بين الكمال الشخصي وعمل كل إنسان في العالم، كما لو كان يتعذر على الإنسان أن يتكمل إلاّ بالانقطاع عن ممارسة أعماله الزمنية؛ أو كما لو كانت ممارسة العمل تعرض حتماً للخطر كرامتنا كبشر وكمؤمنين.
233- إنه لمطابق، على العكس من ذلك، لمقاصد العناية الإلهية مطابقة كاملة أن يتكمل الإنسان بعمله اليومي الذي هو للسواد الأعظم من الناس عمل موضوعه وغايته زمنيتان. فالكنيسة تجابه اليوم مهمة عظيمة وهي أن تنفخ في المدينة العصرية روحاً إنسانية ومسيحية، روحاً تطالب بها هذه المدنيّة بل ترجوها لأجل تقدمها وحتى لأجل بقائها.
234- والكنيسة، كما المعنى إلى ذلك، تكمل هذه المهمة ولاسيما بواسطة أبنائها العلمانيين الذين يتوجب عليهم، تحقيقاً لهذه الغاية، أن يشعروا بأنهم مجندون ليزاولوا أعمالهم المهنية كأنهم يُتمّون واجباً ويؤدون خدمة: بالاتحاد اتحاداً وثيقاً بالله في المسيح ولأجل مجده كما يشير إلى ذلك القديس بولس: “فإذا أكلتم إذن أو شربتم ومهما فعلتم فاعملوا كل شيء لمجد الله”. “ومهما أخذتم فيه من قول وفعل فليكن الكل باسم الرب يسوع، شاكرين لله الآب”.
فعالية أعظم في الأعمال الزمنية
235- عندما ينفتح الإنسان، في الأعمال والمشاريع الزمنية، على القيم الروحية وعلى الغايات الفائقة الطبيعة تتقوى، على قياس انفتاحه عليها، فعاليتها الخاصة والمباشرة. إن كلمة المعلم الإلهي تبقى دوماً على حقيقتها: “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كله يزداد لكم”.
لأن من أضحى “نوراً من الرب” ويسير “كابن النور” يتبيّن، بتأكيد أعظم، مقتضيات العدل الأساسية حتى في أعقد مجالات النظام الزمني وأوفرها صعوبة، تلك المجالات التي تتغلغل فيها غالباً أنانيات الأفراد و الجماعات والعنصريات وتنشر فوقها ضباباً كثيفاً؛ ولكن من كانت محبة المسيح تحثه وتنعشه يشعر أنه متحد بالآخرين ويحس بحاجاتهم وآلامهم وأفراحهم كأنها حاجاته وآلامه وأفراحه الخاصة.
وخلاصة القول أن عمل كل إنسان، أياً كان موضوعه أو أياً كان الوسط الذي يُمارس فيه، لا يمكن إلاّ أن يكون أكثر تجرّداً وأوفر نشاطاً وإنسانية لأن المحبة: “تتأنى وترفق… ولا تطلب ما لنفسها… ولا تفرح بالظلم بل تفرح بالحق… إنها ترجو كل شيء وتصبر على كل شيء”.
أعضاء حيّة في جسد المسيح السري
236- على أنا لا نستطيع أن نختم رسالتنا من دون أن نذكّر بحقيقة أخرى هي، في الوقت عينه، حقيقة واقعية، رائعة، أي أنا أعضاء حيّة في جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة: “فكما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة؛ وأن جميع أعضاء الجسد، مع كونها كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح”.
237- أنا ندعو بإلحاح أبوي، جميع أبنائنا الإكليريكيين منهم والعلمانيين إلى أن يتيقنوا من مكانتهم السامية أنهم عالقون بالمسيح كالأغصان بالكرمة: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” ، وإنهم مدعوون بالتالي ليحيوا حياته إلى حدّ أنه عندما يمارس أحدهم، أعماله الخاصة حتى في النظام الزمني، بالاتحاد مع يسوع الفادي الإلهي، يصبح كل عمل كأنه امتداد لعمله العظيم، ومشرب قوة فدائية: “من يثبت فيَّ وأنا فيه فهو يأتي بثمر كثير”. فالعمل الذي يتحقق بواسطته كمالنا الفائق الطبيعة يسهم في توزيع ثمار الفداء على الآخرين؛ وفي المدنية التي نعيش فيها ونعمل تتغلغل الخميرة الإنجيلية.
238- تجتاح عصرنا وتتسرب إليه أضاليل أساسية. فهو فريسة فوضى عميقة ولكنه مع ذلك عصر يفتح للكنيسة مجالات عظيمة لعمل الخير.
239- أيها الإخوة المحترمون والأبناء الأعزاء أن النظرة التي استطعنا أن نلقيها معاً على معضلات الحياة الاجتماعية المختلفة منذ أن انبثقت الأنوار الأولى من تعاليم البابا لاون الثالث عشر، قادتنا إلى التبسط في سلسلة من الملاحظات والاقتراحات التي ندعوكم إلى التوقف عندها لتتأملوا فيها ولنتشجع على التعاون، كلّ بنصيبه، على تحقيق ملكوت المسيح على الأرض: “ملكوت حق، ملكوت قداسة ونعمة، ملكوت عدل ومحبة وسلام” (39) ليضمن لنا التمتع بخيرات السماء التي لأجلها خلقنا وإليها نصبو بكل جوارحنا.
240- لقد دار كلامنا، في الواقع، على تعليم الكنيسة الكاثوليكية الرسولية، أم جميع الشعوب ومعلمتها التي نورها يضيء ويدفئ وتعليمها المليء بحكمة السماء خالدٌ على وجه الدهر وقوتها تحمل دائماً دواءً ناجعاً وملائماً لضرورات الناس المتزايدة ولصعوبات الحياة الحاضرة ومخاوفها. وتعليم الكنيسة هذا يرجّع التعليم القديم لصاحب المزامير الذي ما فتر يشدّد نفوسنا ويسمو بها: “إني أسمع ما يتكلم به الله الرب: إنه يتكلم بالسلام لشعبه ولأصفيائه وأن لا يرجعوا إلى السفه… الرحمة والحق تلاقيا؛ العدل والسلام تلاثما. الحق من الأرض نبت والعدل من السماء تطّلع. إن الرب يعطي الخير وأرضنا تعطي ثمرها، العدل يسلك أمامه والسلام على أثار خطواته”.
241- تلك هي، أيها الإخوة المحترمون، تمنياتنا التي نصوغها خاتمة لرسالتنا وعليها طبقنا، منذ زمن بعيد، عنايتنا المحبّة للكنيسة الجامعة، نصوغها لكي يملك وينتصر، على مرّ العصور، في كل شيء وعلى كل شيء، فادي الناس الإلهي: “الذي صار من الله حكمة وبرّاً وقداسة وفداء” ؛ نصوغها أيضاً لكي يعود المجتمع البشري فيعيش في النظام ولكي يتمتع جميع الشعوب أخيراً بالازدهار والفرح والسلام.
242- وعربوناً لهذه التمنيات ودلالةً على محبتنا الأبوية فلتحلّ عليكم البركة الرسولية التي نمنحها في المسيح من صميم فؤادنا، لكم أيها الإخوة المحترمون، ولجميع المؤمنين الموكولين إلى عنايتكم ولاسيما لجميع من سيلبون تحريضنا باندفاع.
أعطي في رومة – قرب القديس بطرس في 15 أيار سنة 1961 وهي الثالثة لحبريتنا
البابا
يوحنا الثالث والعشرون
الحواشي:
1)IOANNES PP. XXIII, Litt. enc. Mater et magistra de recentioribus rerum socialium processibus ad christiana praecepta componendis, [Ad venerabiles fratres Patriarchas, Primates, Archiepiscopos, Episcopos aliosque locorum Ordinarios, pacem et communionem cum Apostolica Sede habentes, itemque ad universum clerum et christifideles catholici orbis] 15 maii 1961: AAS 53(1961), pp. 401-464.
2) Acta Leonis XIII, XI, 1891, pp. 97-144
3) Cf. Acta Leonis XIII, XI, 1891, p. 107.
4) S. Th., De regimine principum, 1, 15.
5) Cf. AAS, XXIII, 1931, p. 185.
6) Cf. ivi, p. 189.
7) Cf. ivi, pp. 177-228.
8) Cf. ivi, p. 199.
9) Cf. ivi, p. 200.
10) Cf. ivi, p. 201
11) Cf. ivi, p. 210s.
12) Cf. ivi, p. 211
13) Cf. AAS, XXXIII, 1941, p. 196.
14) Cf. ivi, p. 197.
15) Cf. ivi, p. 196.
16) Cf. ivi, p. 198s.
17) Cf. ivi, p. 199.
18) Cf. ivi, p. 201.
19) Cf. ivi, p. 202.
20) Cf. ivi, p. 203.
21) Cf. AAS, XXIII, 1931, p. 203.
22) Cf. ivi, p. 203.
23) Cf. AAS, XXIII, 1931, p. 222s.
24) Radiomessaggio di Pentecoste 1941.
25) Cf. AAS, XXIII, 1931, p. 195.
26) Cf. ivi, p. 19.8
27) Radiomessaggio 10 sett. 1944.
28) Discorso dell’8 ottobre 1956.
29) Radiomessaggio 10 sett. 1944: AAS.
30) Radiomessaggio natalizio 1942.
31) Cfr. ivi.
32) Acta Leonis XIII, XI, 1891, p. 114.
33) Cf. AAS, XXIII, 1931, p. 202.
34) Cf. ivi.
35) Enc. Summi pontificatus.
36) S. Agostino, Confessioni, I, 1.
37) AAS, XXXIII, 1931, p. 221s.
38) Radiomessaggio natalizio 1953.
39) Prefazio nella Messa di Cristo Re.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post