كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في أخصّ فضائل العذراء مريم
الفضيلة السادسة: في العفَّة
أنه إذ كان بعد سقطة الأب الأول آدم قد تمرد في الإنسان ألم الشهوة على العقل، فقد أضحت ممارسة أفعال فضيلة العفة ذات صعوبات أبلغ مما سواها من الفضائل. كما يقول القديس أوغوسطينوس:” أنه توجد داخل كل منا معركةٌ قويةٌ جداً، حيث تتحارب العفة مع الآلام محاربةً متصلةً بقليل من الانتصار. فليكن مباركاً الرب الذي أعطانا في شخص العذراء مريم نموذجاً حياً لفضيلة العفة”. فيقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه بالصواب تسمى والدة الإله عذراء العذارى. لأنها إذ كانت هي أول من قدم لله طوعاً حفظ البتولية الدائمة، خلواً من نموذجٍ سبق مثله، ومن دون مشورةٍ تقدمت لها. فهي بذلك أعطته تعالى كل البتولات اللواتي اقتدين بنموذجها، كما سبق داود النبي قائلاً: أن العذارى يبلغن إلى الملك في أثرها… ويدخلن إلى هيكل الملك: (مزمور45ع15) وإنما قلت أن العذراء كرست بتوليتها الدائمة خلواً من نموذج ومن دون مشورة. لأن القديس برنردوس يخاطبها هكذا:” ترى من هو الذي علمكِ أيتها العذراء بأنكِ ترصين الله بحفظكِ البتولية، وبأن تعيشي على الأرض بسيرةٍ ملائكية”. فيجيب عن ذلك القديس صفرونيوس قائلاً: أنه لأجل هذه الغاية قد اختار الله أماً له بالجسد هذه البتول الكلية الطهارة. لكي تكون هي للجميع نموذجاً للعفة: ولذلك يدعوها القديس أمبروسيوس: مقدام فضيلة العفة وقائدتها:*
بل أن الروح القدس نفسه خاطبها لأجل نقاوتها وعفتها هكذا: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) وكما يفسر العلامة أبونيوس: يمامةً كلية الطهارة: ولذلك لقبت أيضاً بالسوسن والزنبق كقوله تعالى: مثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات: (نشيد ص2ع2) وهنا ينبه القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله: أن البتول المجيدة قد سميت سوسناً أو زنبقاً أم وردةً بين الأشواك. لأن البتولات الأخرات كلهن كن أشواكاً وقرطباً وعثراتِ أما لغيرهن، وأما لذواتهن، فأما هذه الطوباوية فلم تكن كذلك: لأنها كانت بمجرد النظر إليها تجلب في القلوب أفكار الطهارة والعفاف والميل نحو محبة النقاوة والعفة: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن جمال خلقة البتول المجيدة كان يحرك ناظريها إلى العفة: ثم كتب القديس أيرونيموس، بأنه هو متمسكٌ برأيه في أن القديس يوسف الخطيب قد حفظ البتولية ليكون رفيقاً لهذه العذراء المجيدة، غير مفارقٍ إياها، لأنه أي القديس أيرونيموس بكتابته ضد الفيديوس الأراتكي الناكر بتولية هذه الأم الإلهية يقول له هكذا: فأنت تزعم أن مريم والدة الإله لم تستمر فيما بعد حافظةً عذريتها. وأنا بضد ذلك أقول، بل أرتأي بأكثر من هذا بأن القديس يوسف أيضاً عروسها قد حفظ البتولية لأجل هذه العروسة الدائمة بكارتها”. وقد قال أحد العلماء: أن الطوباوية مريم العذراء كانت بهذا المقدار منشغفة القلب بمحبة فضيلة العفة. حتى أنها لكي تحفظ هي عذريتها دائمةً لقد كانت ترفض أن تقبل الدعوة الكلية العظمة والسمو وهي الوالدية لله، لو كان يقترن بهذه الدعوة فقدها بتوليتها: وهذا يستنتج واضحاً مما أجابت هي به زعيم الملائكة جبرائيل قائلةً له: كيف يمكن أن يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً: (لوقا ص1ع34) وأيضاً مما أختتمت به خطابها معه بقولها: فليكن لي كحسب قولك: مشيرةً بهذا ومفسرةً به نيتها في أنها إنما قد أعطت رضاها بتجسد كلمة الآب من أحشائها، بالنوع الذي قاله لها رئيس الملائكة. وهو أنها كانت مزمعةً أن تصير أماً بهذه الطريقة فقط، وهي بحلول الروح القدس عليها وبتظللها بقوة العلي، أي بفعلٍ فائق الطبيعة بقوة الروح القدس.*
ويقول القديس أمبروسيوس: أما الذي يحفظ عذريته فملاكٌ هو وأما الذي يخسرها فشيطانٌ: أي أن أولئك الذين يعيشون بالعفاف فيصيرون كالملائكة. كقوله تعالى: لأنهم في القيامة لا يزوجرون ولا يتزوجون، لكن يكونون كملائكة الله: (متى ص22ع30) وأما الزناة والفاسقون فيضحون مبغوضين من الله نظير الشياطين. وكان القديس راميجيوس من عادته أن يقول:” أن أكثر البالغين سن الرجولية يهلكون لأجل رذيلة الدنس”. لأن الانتصارات ضد هذه الرذيلة هي شيءٌ نادرٌ. كما أوردنا في ذلك كلمات القديس أوغوسطينوس عند بداية هذا الفصل. ولكن ما السبب في أن الانتصارات هي نادرةٌ. فإنما السبب هو من عدم ممارسة الوسائط الضرورية لاكتساب الغلبة، فهذه الوسائط هي ثلاث حسبما يبرهن معلموا السيرة الروحية. جملةً مع بيلرمينوس وهي: الصوم، والابتعاد عن الأسباب، والصلاة، فبالصوم الذي هو الواسطة:
الأولى: تفهم إماتات الحواس، خاصةً النظر والحنجرة. فمريم البتول ولئن كانت هي ممتليئةً نعمةً إلهيةً، فمع ذلك كانت تميت حاسة نظرها محدقةً بعينيها إلى الأرض دائماً. كما يقول القديسان أبيفانيوس ويوحنا الدمشقي، ويوردان عنها أنها منذ طفولتها كانت متصفةً باحتشام فريد مذهل ناظريها، ولذلك يوضح القديس لوقا كيفية مضيها لزيارة القديسة أليصابات بقوله: وذهبت مسرعةً: لكيلا تشاهد من كثيرين في مسيرها. وأما بخصوص قناعتها في المأكل، فيخبر فيليبارتوس بأنه قد اوحي إلى السائح فيليكوس بأن مريم العذراء إذ كانت طفلةً رضيعةً، فلم تكن ترضع الحليب من أمها سوى مرةٍ واحدةٍ في النهار. ويشهد القديس غريغوريوس الطورنازي، بأنها في أيام حياتها كلها كانت تمارس الصوم، كما يقول القديس بوناونتورا: أنها لما كانت هي قط فازت بنعمٍ هكذا عظيمةٍ، لولا تكون كلية القناعة. وذلك لأن النعمة لن تتفق أصلاً مع الحنجرة. وبالإجمال أن هذه البتول القديسة كانت تمارس الإماتة في الأشياء كافةً، ولذلك بالصواب قيل عنها: قمت، لأفتح لحبيبي يداي قطرتا مراً، وأصابعي مملوءةٌ مراً فائقاً: (نشيد ص5ع5) أما الواسطة:
الثانية: فهي الهروب من الأسباب، لأنه مكتوبٌ: أن من يحذر الفخاخ فيكون مطمأناً: (أمثال ص11ع15) ولذلك كان القديس فيلبس نيري من عادته أن يقول: أن الغالبين في معركة آلام الشهوة إنما هم الجنود الأندال الذين يولون هرباً: أي الذين يهربون من سبب الخطيئة. فمريم العذراء كانت بمقدار إمكانها تهرب من مواجهة الرجال. ولذلك في ذهابها إلى الجبل إلى بيت زخريا ذهبت مسرعةً كما تقدم الإيراد. ويقول أحد العلماء: أن والدة الإله قد رجعت من بيت زخريا قبل أن يبلغ زمن إيلاد القديسة أليصابات، وهذا يفهم من ألفاظ الإنجيل عينها وهي: فأقامت مريم عند أليصابات نحو من ثلاثة أشهرٍ وعادت إلى منزلها. ولما تم زمان أليصابات لتلد فولدت ابناً إلخ: (لوقا ص1ع56) فلماذا لم تستمر هي ماكثةً عند أليصابات لحين ميلاد السابق يوحنا، فإنما فعلت ذلك هرباً من مخالطتها الجيران والمعارف والزوار الذين هي لحظت جيداً أنهم كانوا مزمعين أن يترددوا إلى بيت زخريا في حادث فرح ميلاد أليصابات ابناً في حال شيخوختها.*
وأما الواسطة الثالثة: فهي الصلاة، فيقول الحكيم: ولما عرفت أني لا أستطيع أن أكون عفيفاً أن لم يعطيني الله أن أكون، وهذا هو حكمةٌ أن أعلم ممن كانت لي هذه العطية، فذهبت إلى الرب وتضرعت إليه: (سفر الحكمة ص8ع21) فالبتول الكلية النقاوة عينها قد أوحت للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس (كما يورد القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتاب حياة المسيح) بأنها لم تمتلك هي فضيلةً ما من فضائلها من دون صلواتٍ متواترة وأتعابٍ متكاثرة. وقال عنها القديس يوحنا الدمشقي:” أن مريم كانت طاهرةً في ذاتها ومغرمةً في حب الطهارة”. وبالتالي لا تحتمل هي الناس الدنسين، إلا أن الذي يكون معرقلاً برذيلة الدنس ويلتجئ إلى هذه العذراء الفائقة الطهر مستغيثاً بها، فمن دون ريبٍ يفوز بالنجاة من دناساته، بل ينجو من تجارب اللحم بمجرد استدعائه برجاءٍ وحسن إتكالٍ اسم هذه الأم الإلهية مريم. كما يثبت ذلك يوحنا أفيلا المكرم بقوله: أن كثيرين جداً قد اختبروا في ذواتهم النجاة من التجارب المضادة العفة. وانتصروا عليها بمجرد إنعطافهم نحو البتول البريئة من الدنس:*
فيا أيتها الحمامة الكلية النقاوة مريم العذراء أواه كم هم كثيروا العدد أولئك الذين هلكوا في جهنم من قبل رذيلة الدنس. فأنقذينا منها أيتها السيدة. وأجعلينا أن نلتجئ إليكِ دائماً في حين التجارب التي تثب علينا ضد العفة. وأن نستغيث بكِ قائلين: يا مريم عينينا، يا مريم خلصينا آمين.*
Discussion about this post