كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في أخصّ فضائل العذراء مريم
الفضيلة السابعة: في الفُقر
أن مخلصنا الكلي الحب إذ أراد أن يعلمنا احتقار خيرات الأرض. قد ارتضى بأن يولد في حال الفقر ويصير مسكيناً في هذا العالم. كما يقول الأنبا المصطفى (قرنتيه ثانية ص8ع9): أنكم تعرفون بنعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم تمسكن وهو الغني، لتستغنوا أنتم بمسكنته. فمن ثم فادينا عينه يحرض كل من يريد أن يكون تابعاً إياه إذ يقول: إن كنت تريد أن تكون كاملاً أمضِ فبع كل ما لك وأعطه للمساكين… وتعال فأتبعني: (متى ص19ع21) فهوذا مريم البتول تلميذة مخلصنا الأكثر كمالاً هي التي قد اتبعت حسناً نموذج ابنها الإلهي. لأن الأب كانيسيوس يبرهن على أن هذه البتول قد كانت ورثت عن والديها وأقاربها موجوداتٍ ذات مداخيل كافيةٍ أن تعيش بكل راحةٍ. فهي أبقت لذاتها منها الشيء القليل، ووزعت الأكثر في إسعاف الفقراء وفي تقدماتٍ لهيكل الرب حتى أن كثيرين يرتأون بأنها صنعت نذر الفقر عينه. بل أنه لمعلومٌ هو أنها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنني منذ البداية قد نذرت على ذاتي في قلبي أن لا أمتلك شيئاً من خيرات الأرض: ثم أن الهدايا التي قدمها لها المجوس في بيت لحم لم تكن ذات ثمنٍ قليلٍ من ذهبٍ ولبانٍ ومرٍ. ولكن هي أعطت كل شيءٍ للفقراء حسبما يشهد القديس برنردوس قائلاً:” أن الذهب الذي قدمه لها المجوس لم يكن ذا كميةٍ جزئيةٍ، بل كان وافراً بنوعٍ لائقٍ بعظمةٍ ملوكيةٍ في تقدمةٍ كذا. إلا أن مريم العذراء قد فرقته بواسطة خطيبها البار يوسف على المساكين من دون أن تستبقي لذاتها منه شيئاً”. وهذا يتضح من البرهان الآتي إيراده. وهو أن هذه الأم الإلهية حينما قدمت ابنها في هيكل الرب الأورشليمي عند نهاية الأربعين يوماً من ولادتها إياه، فلم تقرب عنه خاروفاً بن سنةٍ، كالمرسوم على الجميع، ما عدا الفقراء وهذه هي ألفاظ الشريعة: أن الامرأة إذا أكملت أيام تطهيرها، ابناً ولدت أم ابنةً، فلتأتِ بحملٍ حولىٍ للوقود، وبفرخ حمام أو يمام للخطيئة إلى باب قبة الشهادة، وتدفعها إلى الكاهن… وإن لم تقدر على تقدمة حملٍ. فلتأخذ زوج يمامٍ، أو فرخي حمامٍ الواحد للوقود والآخر للخطيئة: (أحبار ص12ع6) أما البتول المجيدة فقدمت فرخي حمامٍ أو يمامٍ الأمر المختص بالفقراء إذ يقول البشير: فلما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقيموه للرب كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعٍ يدعى قدوساً للرب. ولكي يقربوا ذبيحةً كما قيل في ناموس الرب زوج يمامٍ أو فرخي حمامٍ: (لوقا ص2ع22) بل أن هذه السيدة نفسها قد أوحت للقديسة بريجيتا بقولها: أن جميع ما كنت أملكه قد أعطيته للمحتاجين، ولم يكن عندي سوى لوازم القوت الضروري والكسوة التي لا بد منها.*
ثم أن هذه الابنة الشريفة حباً بالفقر والمسكنة قد ارتضت بأن تخطب هي عروسةً لرجلٍ فقير نجار الذي هو القديس يوسف، واكتفت بأن تعيش معه فيما بعد من تعبها وكدها بعمل يديها، مجتنيةً سد احتياجاتها من مكسب عزل القطن أو الصوف. أم من أجرة الخياطة، كما يشهد القديس بوناونتورا. بل أن ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا عن هذه السيدة قال لها: أن البتول مريم كانت تحتقر الأموال والغنى الأرضي كأحتقارها الطين. وبالإجمال أن العذراء المجيدة قد عاشت مدة حياتها فقيرةً جداً، وماتت كذلك. لأنه حين نياحها لم يعرف عنها أنها تركت شيئاً من الموجودات، سوى ثوبين حقيرين من ملبوسها قد أوصت بهما، إيهاباً لأبنتين كنتا خدمتاها في حياتها. كما يورد الميتافرانسته. ونيكيفوروس.*
فالقديس فيلبس نيري كان من عادته أن يقول: أن من يحب الموجودات الأرضية لا يصير قديساً: وتضيف إلى ذلك القديسة تريزيا بقولها: أنه ينتج بالصواب أن من يجري وراء أشياء ضائعةٍ معدةٍ ذاتياً للفقدان، فهو أيضاً يضيع معها مفقوداً: وبالعكس تقول هذه القديسة نفسها: أن فضيلة الفقر والمسكنة هي خيرٌ يحوي ضمنه الخيرات الأخرى كلها. وإنما قلت فضيلة الفقر، لأن هذه الفضيلة التي لا تتوقف على هذا الأمر فقط وهو أن مقتنيها يكون في حال الفقر بل على أن يحبه أيضاً. كما يقول القديس برنردوس هكذا: أنه ليس الفقر بل محبة الفقر هي الفضيلة. ولذلك قال الرب: طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات: (متى ص5ع3) وإنما طوباويون هم هؤلاء من حيث أن الذين لا يريدون شيئاً غير الله ففيه تعالى يجدون كل الخيرات، وفي حال فقرهم يصادفون على الأرض ملكوتهم السماوي. كما قد صادفه القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن الله هو إلهي وهو كل شيءٍ لي: فلنحببن إذاً ذاك الخير الوحيد الموجودة فيه الخيرات بأسرها. حسبما يحرضنا القديس أوغوسطينوس بقوله:” أحبب يا هذا خيراً واحداً يحوي في ذاته كل خيرٍ”. ولنتضرعن إليه مع القديس أغناتيوس القائل نحوه تعالى:” هبني بنعمتك حبك وحده، وبذلك أكون أنا غنياً كفاية”. وحينما يقدح بنا الفقر محزناً إيانا بشدة مرائره، فلنعزين ذواتنا بتفكرنا وقتئذٍ في أن يسوع ومريم عاشا على الأرض في حال الفقر نظيرنا، حسبما يقول القديس بوناونتورا: أن المسكين يقدر أن يتعزى بتذكره فقر يسوع ومسكنة مريم.*
فيا أمي الكلية القداسة أنكِ بالصواب كنتِ تقولين: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي: لأنكِ في هذا العالم لم تتفاخري بالمجد. ولم تحتسبي خيراً شيئاً آخر خارجاً عن الله. فأجتذبيني وراكِ أيتها السيدة مقتلعةً من قلبي محبة العالم. وأجعليني أن أحب ذاك الخير الواحد الذي هو وحده يستحق أن يحب. آمين*
No Result
View All Result
Discussion about this post