كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفقرة الرابعة: في بشارة العذراء مريم
فيما يلاحظ عيد بشارة البتول المجيدة بالحبل الإلهي، حيث يبرهن عن عمق تواضع هذه السيدة الكلي، وعلو الرفعة السامية التي عظمها الله بها في سر التجسد*
* وفيه جزءان*
† الجزء الأول †
*في أن مريم البتول لم يمكنها أن تواضع ذاتها أكثر اتضاعاً مما أتضعت به حين تجسد الكلمة الأزلي منها.*
أن كلمات الرب القائل: كل من يرفع نفسه يتضع وكل من يواضع نفسه يرتفع: (متى ص23ع12) إنما هي كلمات الحق بالذات العديمة الخلل والزلل، فإذا كان الله قد حدد منذ الأزل أن يتجسد متأنساً ليفدي البشر الهالكين بالخطيئة. وبهذا يعلن للعالم عظم خيرية صلاحه الغير المتناهي، وبالتالي لأجل أنه كان يلزم لهذه الغاية أن يختار له تعالى أماً في الأرض. فعندما كان يتأمل ليرى من هي فيما بين أفراد الجنس النسائي بأسره تلك التي هي أعظم قداسةً منهن كافةً، والأعمق تواضعاً من جميعهن، فمريم العذراء وحدها وجدت فيما بينهن كلهن متصفةً بذلك ومستحقةً هذه المرتبة، لأنها بمقدار ما كانت هي كاملةً في الفضائل، فبأكثر من ذلك كانت عند ذاتها ساذجةً حقيرةً مملؤةً من التواضع، ولهذا قال عنها الروح القدس: إن الملكات هن ستون والسريات ثمانون والشواب لا عدد لكثرتهن، أما حمامتي وكاملتي فواحدة هي: (نشيد ص6ع7) فإذاً قال الرب أن هذه قد اخترتها أماً لي. فلنلاحظ إذاً الآن في هذا الجزء كيف أن مريم البتول لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد أكثر مما تواضعت به. تاركين للجزء الثاني التكلم عن كيف أن الله لم يقدر أن يرفع هذه العذراء أكثر مما رفعها*
فإذ تكلم الرب في سفر النشيد (ص1ع12) مشيراً إلى عظم تواضع هذه البتول القديسة قال تعالى هكذا: أنه إذ كان الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. فالقديس أنطونينوس في تفسيره هذا النص الإلهي يقول: أن نصبة شجر النردين التي هي صغيرة واطية ذليلةً، كانت رسماً لعمق تواضع مريم التي فاحت رائحة طيبها، وأرتفع نسيم عرفها الزكي حتى السماء واجتذب من حضن الآب الأزلي إلى مستودعها البتولي الكلمة ابن الله: فعلى هذه الصورة رائحة طيب تواضع هذه العذراء المجيدة، قد اجتذبت الرب لأن يختارها أماً له عندما شاء أن يتأنس ليفدي العالم. غير أنه عز وجل لكي يمجد هذه الأم الإلهية ويزيد استحقاقاتها، لم يرد أن يصير هو لها ابناً من دون أن يأخذ قبلاً رضاها بذلك، كما يقول الأنبا غولياموس في تسبحته الثالثة: أن الرب لم يشأ أن يأخذ من هذه العذراء جسداً ألم تعطيه إياه هي برضاها. فمن ثم حينما كانت البتول المملوءة تواضعاً جالسةً في بيتها الحقير في حال الفقر، مصليةً بأشد حرارةٍ متنهدةً من سويداء قلبها، ملتمسةً من الله أن يرسل سريعاً إلى العالم المخلص المنتظر المشوق إليه، حسبما أوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، فحينئذٍ انحدر زعيم الملائكة جبرائيل من القناطر العلوية، إلى بيت هذه العذراء النقية ليخبرها بهذا الأمر العظيم من قبل الله، وإذ مثل أمامها قد قال لها: افرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وكأنه برهن لها قائلاً: السلام عليكِ أيتها العذراء الممتلئة نعمةً. لأنكِ قد وجدت دائماً غنيةً بالنعم فوق جميع القديسين والقديسات، افرحي الرب معكِ، لأنكِ متعمقةٌ بالتواضع، فأنتِ مباركةٌ فيما بين النساء، لأن النساء كلهن قد حصلن في اللعنة الصادرة عن الخطيئة، وأما أنتِ فلأنكِ أنتخبتِ أماً للمبارك فقد بوركتِ منذ البدء وعتيدة أن تكوني على الدوام مباركةً معتوقةً بريئةً من كل زلةٍ وعيبٍ ودنسٍ.*
فما الذي أجابت به هذه البتول النقية عندما سمعت كلام المدح والنعت والتقريظ بالنوع المتقدم ذكره، أنها لم تجب بشيء عن هذا، بل أنها اضطربت من ذاك الكلام، وفكرت ما هذا السلام، ولكن لماذا هي اضطربت، أهل خوفاً من الخداع. أم حياءً من دخول رئيس الملائكة إليها بصورة رجلٍ، كما فسر ذلك بعض العلماء، كلا، بل إن نص كلمات الإنجيل عن هذا التبشير هو واضح إذ يقال: فلما سمعت اضطربت من كلامه: كما ينبه أوسابيوس الأميساني، بأن الإنجيل لم يقل أنها اضطربت من منظره بل من كلامه، فإذاً إنما كان قلقها واضطرابها جميعه صادراً من قبل عمق تواضعها، عندما سمعت ألفاظ ذاك المديح البعيد بجملته عن روح اتضاعها. وعن احتسابها ذاتها كلا شيء ومن ثم بمقدار ما كانت تسمع من جبرائيل ألفاظ الرفعة والتقريظ، فبأكثر من ذلك كانت هي تخفض نفسها وتحقر ذاتها متأملةً في كونها عدماً لا تستحق أدنى مديح. فهنا يتأمل القديس برنردينوس قائلاً: أنه لو كان الملاك يقول لها أنها هي أعظم الخاطئات الموجودات في العالم، لما كان حصل عندها من هذا القول تعجب بالكلية ولكنها عندما سمعت منه ألفاظ ذاك المديح السامي قد استوعبت قلقاً واضطراباً: فإذاً إنما اضطربت هذه البتول لأجل أنها إذ كانت مملوءةً من التواضع العميق. فلم تكن تطيق استماع أية كلمات كانت راجعةً لمدحتها. وكل رغبتها وأشواقها كانت في أن خالقها وحده الذي هو علة المواهب، وأصل جميع الخيرات والنعم يوجد ممدوحاً معظماً مباركاً مسبحاً، كما أوضحت ذلك هي نفسها فيما أوحت به للقديسة بريجيتا بتكلمها معها عن زمن تجسد أبن الله منها قائلةً: أني لم أكن أريد أن أمدح أنا بل الله وحده أصل المواهب وخالق كل شيء:*
ولكنني أقول أن الطوباوية مريم البتول قد كانت، لتعمقها في قراءة نصوص الكتاب المقدس، وأقوال الأنبياء تعرف حسناً قلما يكون، أن زمان مجيء المسيح إلى العالم قد كان دنا، وأن أسابيع دانيال قد كانت ناهزت النهاية، وأن قضيب ملك يهوذا قد كان انتقل إلى يد هيرودس الرجل الغريب عن قبيلة هذا السبط، وأن بتولةً ما كان ينبغي لها أن تحبل بالمسيح وتصير أمه، ولكن عندما سمعت هي من زعيم الملائكة ألفاظ نعوتٍ لم تكن واجبةً الا لمن هي والدة الإله، وهو كان يخصصها بها نفسها هي، فهل أنه ربما جاء في فكرها حينئذٍ أنه من يعلم أنها هي تكون تلك التي اختارها الله لهذه الدعوة. لا لعمري، أن عمق تواضعها لم يكن يحضر في عقلها تصوراً هذه صفته، بل أن كلمات ذاك المديح لم تفعل فيها شيئاً آخر سوى دخول الخوف العظيم على قلبها بهذا المقدار، حتى أنها حسبما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: كما أن المسيح مخلصنا قد أراد أن يظهر له في بستان الزيتون ملاكٌ ليشجعه ويقويه. فهكذا لزم الأمر أن جبرائيل لملاحظته شدة الخوف الذي اعترى قلب هذه الفتاة من قبل سلامه وكلامه لها أن يأخذ في أن يشجعها ويقويها بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله: وكأنه يريد بذلك قائلاً: لا تجزعي ولا يأخذكِ انذهالٌ من قبل ما نعتكِ أنا به نعتاً عظيماً، لأنكِ إذا كنتِ أنتِ عند ذاتكِ هكذا حقيرةً تعتدين شخصكِ أدنى ما يوجد في البشر، فالله الذي يرفع المتواضعين قد أهلكِ مستحقةً أن تجدي النعمة التي أضاعها البشريون كافةً، ولذلك قد حفظكِ تعالى سالمةً ناجيةً بريئة من الدنس العام الذي ألتحق ببني آدم أجمعين، ومن ثم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بكِ قد زينكِ بنعمةٍ عظمى فائقة على كل النعم، التي حازها من الله القديسون الآخرون كلهم، ولهذا الآن قد رقاكِ إلى مقام والدةٍ له. وها أنتِ تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع: فهنا القديس برنردوس يقول: ماذا تنتظرين يا مريم، هوذا الملاك يريد أن يسمع منكِ الجواب، ولكن نحن بأبلغ من الملاك ننتظر جوابكِ، لأنه حكم علينا كافةً بالموت، فها أن ثمن خلاصنا وقيمة نجاتنا قد فوضت إليكِ وخيرتِ بها، وهي أن كلمة الله أزمع أن يتجسد منكِ متأنساً، فإن كنتِ تقبلينه ابناً لكِ فنحن حالاً نصير معتوقين من حكومة الموت. فسيدنا نفسه بمقدار ما أنه أحب جمالكِ حباً شديداً، فبمقدار ذلك ينتظر رضاكِ الذي حدد هو عز وجل أن به توجد علة خلاص العالم: (بل يضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً): فإذاً أعجلي أيتها السيدة بإعطاء الجواب من دون تأخيرٍ. ولا تجعلي أن خلاص العالم يعاق أمره، لأن فداء الدنيا ونجاة الكون هي الآن متوقفة على رضاكِ.*
فهوذا أن البتول المجيدة قد أعطت الجواب لرئيس الملائكة بقولها له: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: فيا له من جوابٍ هو الأعظم حسناً، والأعمق إتضاعاً. والأكثر فطنةً، من كل ما تستطيع البشر كافةً والملائكة أجمعون بحكمتهم كلها أن يخترعوه، إذا كانوا اجتمعوا معاً واستمروا عدةً من السنين يدرسون ليرتبوه بهذه الكلمات، يا له من جوابٍ ذي اقتدارٍ قد أوعب السماء تهليلاً، وجلب لسكان الأرض بحراً ذاخراً من النعم والمواهب التي لا تحد ولا تحصى، يا له من جوابٍ حالما خرج من فم البتول الكلية القداسة، قد اجتذب من حضن الآب الأزلي ابنه الوحيد الحبيب إلى أحشائها الفائق الطهر متأنساً من دمائها النقية. على أنه في الدقيقة عينها التي فيها هذه العذراء المجيدة قالت: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: ففيها نفسها: الكلمة صار جسداً وحل فينا: وابن الله صار ابن مريم أيضاً. فهنا القديس توما الفيلانوفي يهتف صارخاً: يا لعظم اقتدار لفظة فليكن، يا لها من لفظة فعالةٍ، يا لها من لفظة تستحق منا فوق كل لفظةٍ تكريماً عظيماً، لأنه بواسطة لفظة فليكن الأخرى المتكررة من الله بقوله فليكن الضوء، فليكن جلدٌ فيما بين الماء والماء فليكن فليكن إلخ قد خلق تعالى السموات والأرض، وأما بهذه اللفظة المقولة من العذراء مريم: فليكن لي كقولكَ: قد صار الله إنساناً مثلنا:*
ولكن من دون أن نبتعد عن الموضوع الذي نحن في صدده. فلنتأمل في عمق التواضع الذي لا قرار له. المعلن في هذا الجواب المعطى من مريم العذراء لزعيم الملائكة. فهي وقتئذٍ قد عرفت جيداً مستنيرةً من الله كم كانت عظيمةً المرتبة والدعوة التي اختارها إليها تعالى بأن تكون والدةً له، لا سيما لأن ألفاظ المبشر رئيس الملائكة المقولة منه لم تكن ذات اشتباه، بأنها هي هي تلك البتول السعيدة المنتخبة من الرب لتجسد كلمة الله منها، فمع ذلك جميعه هي لم تتقدم الى ما قدام معتبرةً ذاتها شيئاً. ولم تلبث قط مستلذةً بارتفاعها إلى هذا المقام الأسمى، بل إذ شرعت من جهةٍ أولى تتأمل في دناءتها وعدمها، ومن جهةٍ أخرى في سمو عظمة جلالة الله خالقها الذي تنازل لأن يختارها أماً له. فقد أعتبرت ذاتها حسناً أنها لم تكن أهلاً لذلك، ولا مستحقةً لهذه الكرامة، غير أنها لم ترد أصلاً أن تقاوم أرادته الإلهية، فلهذا إذ ألتزمت بأن تعطي الجواب. فماذا صنعت وفي أي شيء أفتكرت، أنها قد انخفضت كأنها متلاشية بجملتها في عمق الإتضاع، وفي الوقت ذاته قد أشتعلت بنيران الشوق لأن تتحد بالله أعظم اتحاداً، فأهملت ذاتها بكليتها بخضوع تام لمشيئته تعالى، وأجابت قائلةً:” ها أنا أمةٌ للرب”. هوذا العبدة الأسيرة لخالقها الملتزمة بأن تصنع ما يأمرها به سيدها، وكأنها تقول بذلك، أنه أن كان الله يريد أن ينتخبني أماً له، أنا التي لا أملك شيئاً خاصاً بي، وجميع ما عندي أنما هو خاصته تقدس اسمه موهوبٌ لي منه. فمن ثم من يمكنه أن يفتكر بأنه عز وجل قد اختارني لهذا المقام من أجل استحقاقي، أنا التي أنما أمةٌ للرب، فأي استحقاقٍ تستطيع أن تملكه من هي عبدةٌ أمةٌ جاريةٌ أسيرةٌ لأن تصير أماً لسيدها ومولاها، فأنا أمةٌ للرب، وبالتالي فليكن المديح كله لصلاح الرب ولخيرية جوده، ولا تمدح الأمة الأسيرة، لأن هذا جميعه هو مفعول صلاح الله، بأنه رمق بنظره الرحيم خليقةً ذليلةً، متواضعةً نظيري، ليجعلها كبيرةً عظيمةً بهذا المقدار.*
فهنا يهتف الأنبا غواريكوس صارخاً:” يا له من تواضعٍ عميقٍ قد صير مريم البتول المتضعة به صغيرةً حقيرةً دنيةً عند ذاتها، ولكن عظيمةً جليلةً مكرمةً في عيني الله، وجعلها في نفسها ذليلةً كلا شيء، وأما عند ذاك الرب الغير المحدود الذي العالم لم يعرفه فمستأهلة مكرمة ذات استحقاقٍ كلي”. إلا أن كلمات هتاف القديس برنردوس في هذا الموضوع هي أحلى وأكرم بقوله في عظته الرابعة على أنتقال الطوباوية مريم البتول إلى السماء هكذا:” كيف أمكنكِ أيتها السيدة أن تجمعي في قلبكِ إتضاعاً بهذا المقدار عميقاً، بإحتقاركِ ذاتكِ وبإعتدادكِ إياها كالعدم، جملةً مع طهارةٍ ونقاوةٍ وبرارةٍ فائقة الوصف، ثم مع كمالٍ ونعم ومواهب سامية على كل ما سواها ممتلكةً إياها بغنى عظيم، فمن أين ومن أي قبيل قد أصلت فيكِ أيتها البتول الطوباوية تواضعاً هذه صفته قراره العميق، في الوقت الذي فيه أنتِ حاصلةٌ على مرتبةٍ كلية السمو، عارفةً مقدار الرفعة العظيمة والوظيفة الفائق جلالها التي رقاكِ الله إليها. فلوسيفوروس حينما كان شاهد ذاته مزيناً بجمالٍ فائقٍ قد أشتهى قاصداً أن يرفع كرسيه فوق الكواكب، ويصير شبيهاً بالله، كما يقول عنه أشعيا النبي (ص14ع13) هكذا: أنت قلت في قلبك أصعد إلى السماء وفوق كواكب الله أرفع كرسيَّ… وأكون شبيهاً بالعلي: فلو أن هذا الروح المتكبر كان يجد ذاته حاصلةً على تلك الصفات والأختصاصات والمرتبة والوظيفة والرفعة التي حصلت عليها البتول المجيدة، فكم لكان قال وأدعى وأشتهى. فلم يكن روح هذه القديسة إلا بالضد أي بمقدار ما رأت نفسها مرتفعةً فائزة بهذا جميعه، فبأكثر من ذلك كانت تواضع ذاتها محتقرةً إياها. ومن ثم يختتم القديس برنردوس خطابه قائلاً: أنكِ أنتِ أيتها السيدة لأجل تواضعكِ هذا الجميل قد استحقيتِ حسناً وصواباً أن ينظر الله إليكِ نظراً ذا حبٍ فريدٍ في نوعه. وصرت أهلاً لأن تكتسبي قلب ملككِ إلى محبة جمالكِ. وفزتِ بأن تعطفي بواسطة نشر طيب إتضاعكِ الزكي الرائحة ابن الآب الأزلي الكائن سعيداً في حضن أبيه في راحته الأبدية، وأن تجتذبيه من القناطر العلوية إلى مستودعكِ البتولي الكلي الطهر والنقاوة”. وهنا يقول العلامة برنردينوس البوسطي: “أن مريم العذراء قد اكتسبت بجوابها لرئيس الملائكة قائلاةً: ها أنا أمةٌ للرب:” إستحقاقاً لم يكن للمخلوقات كلها معاً ممكناً أن تكتسبه بجميع أعمالها الصالحة مهما كانت عظيمة.*
فهذا هو أمرٌ حقيقيٌ (يقول القديس برنردوس في ميمره الأول) على أنه ولئن كانت هذه العذراء قد أهلت ذاتها بواسطة بتوليتها ونقاوتها، لأن تكون عزيزةً مقبولةً لدى الله، فمع ذلك قد صيرت نفسها بواسطة التواضع أهلاً بمقدار ما هو ممكنٌ لخليقة أن تجعل ذاتها مستحقةً لأن تنتخب أماً لخالقها”. ويثبت هذا الأمر القديس أيرونيموس بقوله: أن الله أنما أختار مرمي أماً له لأجل عمق تواضعها، أفضل مما لأجل سائر فضائلها الأخرى السامية: بل أن هذه البتول المجيدة هي نفسها قد أوضحت ذلك في الوحي للقديسة بريجيتا قائلةً: من أين أمكنني أنا أن أستحق نعمةً هذه صفتها، وهي أن أصير أماً لسيدي وربي، إلا من هذا القبيل، وهو من معرفتي ذاتي أنني كلا شيء عديمة كل استحقاق وهكذا غصت في عمق التواضع: كما قد كانت هي عينها أعلنت ذلك في تسبحتها المملوءة تواضعاً اذ هتفت قائلةً: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته… لأنه صنع معي عظائم: (لوقا ص1ع47) وهنا القديس لورانسوس يوستينياني ينبه: بأن العذراء المجيدة لم تقل في تسبحتها أن الله نظر الى بتوليتها وإلى برارة نفسها، بل إلى تواضعها: ثم أن القديس فرنسيس سالس يبرهن بقوله: أن مريم الكلية قداستها لم تقصد بكلماتها المقدم ذكرها أن تمدح فضيلة تواضعها، بل أرادت أن توضح حقاً أن الله قد نظر إلى كونها عدماً، وكلا شيء، وبمجرد صلاحه وخيرية رحمته شاء أن يرفعها إلى مقامٍ هذا سموه، وأن يصنع معها العظائم.*
وبالإجمال يقول القديس أوغوسطينوس: أن تواضع مريم العذراء قد وجد نظير السلم التي فيها قد تنازل الرب لأن ينحدر من السماء إلى الأرض متأنساً في أحشائها. ويؤيد ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن اتضاع مريم البتول قد كان هو الاستعداد الأخص والأكمل والأقرب لصيرورتها والدةً لله. ويشير بهذا إلى ما كان النبي أشعيا سبق وتفوه به قائلاً: يخرج قضيبٌ من أصل يسىَّ وتصعد زهرةٌ من أصله. فعن هذا النص يتفلسف الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن الزهرة الإلهية أي ابن الله الوحيد قد كان يلزمه حسب نبؤة أشعيا أن ينبت صاعداً، لا من رأس القضيب الخارج من نسل يسىَّ، ولا من أحد فروعه، بل من أصله وشلشه، ليعلن بالحصر عمق أتضاع والدته: وكذلك يفسر هذا النص الأنبا جلانسه قائلاً: أن الزهرة المذكورة كان يلزمها أن تفرخ من عمق القضيب وأصله الواطي وليس من رأسه: ولذلك قال الله لابنته هذه المحبوبة منه: ردي عينيكِ من مقابلتي فهما قد طيراني: (نشيد ص6ع4) فهنا يقول القديس أوغوسطينوس: ترى من أين طيرته مقلتاها إلا من حضن الله أبيه إلى مستودعها البتولي. وفي هذا الشأن يتكلم المفسر العلامة فارنانداس قائلاً: أن مقلتي مريم العذراء المملؤتين تواضعاً اللتين بهما قد نظرت ملاحظةً العظمة الإلهية، في الوقت عينه الذي فيه لم تفتر أصلاً من النظر إلى ذاتها ذليلةً كأنها عدمٌ، فقد فعلتا في قلب الله حركة انعطافٍ كأنها اغتصابية بهذا المقدار حتى أنهما اجتذبتاه من كرسي جلاله إلى أحشائها الطاهرة. ويقول الأنبا فرنكوني: أنه بهذا المعنى نفسه ينبغي أن يفهم المديح الذي به كرم الروح القدس عروسته هذه واصفاً جمالها، بأنها حاصلة على مقلتين نقيتين وديعتين متواضعتين كالحمامة بقوله: ها أنتِ جميلةٌ يا قرينتي، ها أنتِ حسنة، عيناكِ كحمامتين (نشيد ص4ع1) لأن مريم البتول إذ كانت تنظر إلى الله بعين ساذجة نقية متضعة كحمامةٍ طاهرة، قد جذبته إلى أن يحبها بهذا المقدار كمغرم في جمال نفسها حتى أنه برباطات الحب ارتضى أن يقيد ذاته محبوساً في مستودعها الأعذر.*
فلنختتم إذاً هذا الجزء قائلين: أن مريم من ثم لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد بأكثر مما تواضعت به. ولننظر الآن في الجزء الآتي كيف أن الله بتصييره إياها أماً له، لم يقدر أن يرفعها بأكثر مما رقاها.*
† الجزء الثاني †
* في أن الله لم يقدر أن يرفع مريم العذراء رفعةً أكثر سمواً مما رفعها إليه في سر التجسد الإلهي*
أنه لكي يمكن أن يفهم جيداً ما هو مقدار عظمة الرفعة التي ارتقت إليها العذراء في سر التجسد، لقد كان يحتاج أن يفهم ما هو مقدار عظمة الله ذاته وسمو جلالته، فإذاً يكفي في هذا الموضوع القول أن الله قد صير هذه البتول أماً له، وبذلك يعرف أنه تعالى لم يقدر أن يعلي شأنها ويرفع مقامها بأكثر مما صنع معها. فحسناً كتب القديس أرنولدوس كارنوتانسه قائلاً: أن الله، بتصييره ذاته ابناً للبتول المجيدة قد أقامها بمرتبةٍ رئاسيةٍ ساميةٍ على جميع الملائكة والقديسين. فإذاً من بعد الله هي بنوع فائق التقدير والتمثيل سامية متعالية مرتفعة فوق الأرواح الطوباوية كافةً، حسبما يقول القديس أفرام السرياني، ويثبت ذلك القديس أندراوس الأقريطشي بقوله: أنها ما عدا الله هي أعلى من الجميع مطلقاً: ومثله القديس أنسلموس القائل نحوها: أنكِ أيتها السيدة لا تجدين أحداً معادلاً لكِ أصلاً، لأن الكائنات الأخرى كلها هي أما أنها أعلى منكِ، وأما أنها دونكِ. فالله وحده هو أعلى منكِ. وسائر الكائنات التي ليست هي الله فجميعها هي دونكِ واطية عنكِ: ويقول القديس برنردينوس: أن علو مقام هذه العذراء المجيدة هو بهذا المقدار سامي في العظمة والارتفاع، حتى أن الله وحده هو الذي يعرفه ويمكنه إدراكه:*
ثم أن القديس توما الفيلانوفي يقول هكذا: أن هذا الأمر يرفع من الوسط علةً تعجب بعض القائلين:” لماذا أن القديسين الإنجليين قد وجدوا أسخياء في تحريرهم المديح الوافر عن شخص القديس يوحنا المعمدان وعن شخص المجدلية، فقد وجدوا بعد ذلك شحيحين في كتابتهم المديح والصفات المختصة بشرف مريم البتول”: فماذا تريد يا هذا أن تفهم من الإنجيليين عن عظمة هذه العذراء المجيدة وعن صفاتها الكلية السمو أكثر مما دونوه عنها. فينبغي أن يكفيك ما قالوه في مديحها عند كتابتهم عنها أنها أم يسوع، وأنها هي والدة هذا الإله، فمن حيث أنهم في تسجيلهم صفتها ومرتبتها هذه قد دونوا عنها، وشهدوا من أجلها بمجموع المدائح وبسائر التعظيمات وبكل التفخيمات. فلم يعد بعد ذلك لازماً أن يشرحوا عنها مفصلاً خصوصياتها وصفاتها الأخرى فرداً فرداً، بعد أن جمعوا كل شيء في صفتها هذه العظمى. ثم يضيف إلى ذلك القديس أنسلموس قائلاً:” كيف لا، والحال أن القول عن مريم العذراء هذا فقط، وهو أنها والدة الإله. فيعلو متسامياً ويفوق متزايداً على كل ارتفاعٍ وعلوٍ وعظمةٍ يمكن التفوه بها، أو الافتكار فيها بالعقل من بعد الله”. وهكذا بطرس جالانسه يتبع هذه الكلمات بقوله: أنك يا هذا بتسميتك مريم العذراء سلطانة السموات، أو سيدة الملائكة، أم بأية صفةٍ أخرى ذات شرفٍ وكرامةٍ مهما كانت عظيمةً، مما تريد أنت أن تكرم بها سيدتنا المجيدة، فلا تستطيع أن تبلغ إلى أن تمدحها بما يساوي تسميتك إياها بهذه الصفة فقط، وهي والدة الإله:*
فالسبب والبرهان في ذلك هما واضحان. لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن الشيء بمقدار ما أنه يدنو من مركزه وأصله وقطبه مقترباً منه، فبمقدار ذلك يكتسب منه كمالاً، ولهذا إذ كانت مريم البتول هي الخليقة الأكثر دنواً واقتراباً إلى الله، فقد أخذت عنه تعالى ونالت منه نعمةً وكمالاً وعظمةً، أكثر مما أخذت عنه المخلوقات الأخرى كلها: ثم أن الأب سوارس يستنتج عن ذلك الحجة الراهنة التي لأجلها قد وجدت المرتبة الوالدية لله هي المرتبة الفائقة سمواً على كل مرتبةٍ أخرى مطلقاً في المخلوقات بأجمعها، وهي من حيث أن هذه المرتبة هي متوقفة ومؤسسة على نوعٍ ما بالاتحاد بأقنومٍ إلهي، الذي بالضرورة هي مضافة إليه. ومن ثم يضيف إلى ذلك القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله:” أنه من بعد الاتحاد الأقنومي الذي به اتحد كلمة الله بالناسوت المأخوذ من مريم العذراء فلا يوجد شيء من الأشياء أكثر قرباً لله من تلك التي هي والدة الإله”. ويعلم القديس توما بقوله: أن هذا هو الاتحاد الأسمى والأعظم الذي يمكن لخليقة ما أن تتحد به مع الله. والطوباوي ألبارتوس الكبير يوضح قائلاً: أن الكيان والدةً لله هو المرتبة الفضلى الغير المتوسطة بعد مرتبة الألوهية. وبالتالي أن مريم البتول لا تقدر أن تتحد بالله أكثر اتحاداً مما فازت به بصيرورتها والدة الإله، إلا أن ترتقي إلى مرتبة الإلوهية عينها:*
ويثبت ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن البتول القديسة لكي تصير والدةً للإله، قد احتاجت لأن ترتقي إلى مرتبة التساوي على نوعٍ ما بالأقانيم الإلهية. بإيهاب الله إياها نعماً هي على نوعٍ ما غير متناهية: ومن حيث أن الأولاد يحتسبون على نوع أدبي شيئاً واحداً مع والديهم. حتى أن خيرات الجهة الواحدة وكراماتها هي مشاعة للجهة الأخرى، فلأجل هذا إذاً يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله يوجد متحداً مع خلائقه على أربعة أنواع، فإتحاده مع مريم البتول هو اتحاد ذاتي، لأنه تعالى هو نظيرها وهي نظيره (في الناسوت): فمن ثم يهتف هذا القديس تلك الكلمات الجليلة قائلاً: فلتصمت هنا كل الخليقة وترتعد وبالكاد يمكنها أن تتجاسر على أن تنظر ملاحظةً مرتبةً هكذا عظيمةً فائقة الإدراك، وهي أن الله يسكن في البتولة ومعها يحوي جوهر طبيعةٍ واحدةٍ هي ذاتها. ولهذا يقول القديس توما اللاهوتي: أنه من حيث أن مريم قد صارت والدةً لله فلسبب اتحادها الشديد بخيرٍ محض، هكذا متناهٍ، قد اقتبلت مرتبةً على نوعٍ ما هي غير متناهية: بل أن الأب سوارس يسمي هذه المرتبة غير متناهيةٍ في نوعها، حسبما كتب عن ذلك مبرهناً. على أن مرتبة كون العذراء مريم والدةً لله هي المرتبة العظمى الفائقة على كل ما سواها، مما هو ممكنٌ أن ترتقي إليه خليقة ما محضة. اذ أن القديس توما اللاهوتي نفسه يورد عن ذلك قائلاً: إنه كما أن ناسوت يسوع المسيح ولئن كان ممكناً له أن يقتبل من الله نعمة ملكية أعظم (اذ أن النعمة الملكية: وهذا هو السبب: هي موهبة مخلوقة، فيلزم أن نقر بأن جوهرها هو محدود، لأنه يوجد مقدار محدود من الأستيعاب لكلٍ من الخلوقات. وهذا المقدار المحدود لا يثني حقوق القدرة الإلهية، عن وسعها أن تبدع خليقةً أخرى ذات اتساعٍ أعظم…) فمع ذلك نظراً إلى الاتحاد بالأقنوم الإلهي فلم يقدر أن يقتبل شرفاً أعظم. لأن القدرة الإلهية ولئن كانت تستطيع أن تخلق شيئاً ما أعظم وأجود من النعمة المكلية، التي وجدت في المسيح، فمع ذلك لن تقدر أن تصنع شيئاً متجهاً الى ما هو أعظم من الاتحاد الأقنومي الكائن فيما بين الآب والابن الوحيد، وبالعكس هو أن البتول الطوباوية لم تكن موضوعاً قابلاً لأن ترتقي الى مرتبة أعظم مما رفعها الله إليه، وهي صيرورتها أماً لله، لأنه من حيث أنها هي والدة الإله، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما، وفائزة به من الخير المحض الغير المتناهي الذي هو الله. ولذلك لم تكن هي قابلةً لأن تحصل على شيء أجود من هذا: ثم أن القديس توما الفيلانوفي قد قال نظير ذلك هكذا: أنه بالحقيقة أن من هي أمٌ للغير المتناهي، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما: وقال القديس برنردينوس: أن الحال التي إليها رفع الله البتول بتصييره إياها أماً له قد كان هو المقام الأعظم والحال العظمى. فاذاً لم يكن قادراً أن يرفعها أكثر من ذلك. ويثبت هذا ألبارتوس الكبير الطوباوي بقوله: أن الرب بانتخابه المغبوطة مريم البتول إلى رتبة والدةٍ له، قد أعطاها موهبةً عظمى لا يمكن إيهاب أعظم منها لخليقةٍ محضة، ولا هو ممكن أن يعطى أعظم منها:*
ومن ثم كتب القديس بوناونتورا تلك القضية الشائعة الذكر وهي: أن الله لقادرٌ أن يخلق عالماً أكبر من عالمنا هذا، وسماءً أكثر إتساعاً من السماء التي فوقنا، ولكنه لا يقدر أن يرفع خليقةً بسيطةً إلى رتبةٍ أعظم من أنه يجعلها أن تصير والدةً له: إلا أن البتول مريم الكلية القداسة هي نفسها قد أوضحت ذلك أفضل إيضاحاً من هذه الأقوال. بما تفوهت به هاتفةً: أن الله صنع معي عظائم، القوي والقدوس اسمه: (لوقا ص1ع49) وإن سئل، لماذا هذه الأم الإلهية لم تورد مفصلاً ما هي تلك العظائم التي صنعها الله معها، فيجيب عن ذلك القديس توما الفيلانوفي قائلاً: أن البتول لم تفسر ما هي تلك العظائم، من أجل أنها بهذا المقدار هي عظائم سامية عن الوصف والإدراك، حتى أنه لا يمكن تفسيرها وتعدادها أو شرحها كما ينبغي:*
فإذاً بالصواب قال القديس برنردوس: أن الله لأجل هذه العذراء التي كانت عتيدةً أن تصير أماً له تعالى بالجسد، قد خلق العالم بأسره. والقديس بوناونتورا يقول: أن العالم يحفظ تحت إرادة البتول الكلي طهرها: مشيراً بذلك إلى كلمات سفر الأمثال وهي: أنا التي كنت عنده ناظمةً كل شيء: لأن الكنيسة المقدسة تخصص هذه الكلمات بالعذراء المجيدة، ثم يضيف إلى ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن الله لأجل حبه مريم البتول لم يلاشِ من الوجود الإنسان بعد خطيئة آدم: ولهذا بكل صوابٍ ترتل الكنيسة عن هذه الأم العذراء (في فرض عيد نياحها) أنها أختارت النصيب الأفضل في القسمة. على أن هذه البتول المجيدة ليس فقط اختارت من الأشياء الأفضل والأجود، بل أنها قد انتخبت من الأشياء الأجود والأحسن النصيب والقسمة الأفضل والأجود فيها. إذ أن الرب قد شرفها بالشرف الأسمى، ورفعها إلى أعلى درجة من العظمة في النعم كلها، وفي المواهب بوجه العموم والخصوص الممنوحة منه تعالى لسائر المخلوقات، وهذا كله هو نتائج تصييره إياها أماً له بالجسد (كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير في تفسيره بشارة لوقا ع13). لأنه قد وجدت هذه البتول طفلةً بالجسد، ولكن في هذا السن كانت مالكةً برارة الأطفال لا نقص معرفتهم، إذ أنها منذ البرهة الأولى من حياتها فازت بموهبة المعرفة التامة. قد وجدت هي عذراء وبقيت كذلك دائماً. ولكن من دون أن يلتحق بها عار العقرية. قد صارت أماً ولكن معاً قد حفظت كنز البتولية. قد كانت جميلةً بل كلية الجمال في الخلقة، كما يحقق ذلك ريكاردوس الذي من سان فيتوره. والقديس جاورجيوس النيكوميدي، والقديس ديونيسيوس الأريوباجيتا قاضي علماء أثينا الذي (بموجب رأي كثيرين) اذ حصل على الحظ السعيد بأن يتمتع بمشاهدة هذه العذراء الفائقة في الحسن مرةً واحدةً فقال: أنه لولا أن الإيمان يرشده إلى أن مريم البتول هي خليقة، لكان هو سجد لها وعبدها كإلهٍ: بل أن الرب نفسه قد أوحى للقديسة بريجيتا بأن جمال والدته الطبيعي، قد فاق جمال البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، إذ أنه تعالى صير هذه البارة بريجيتا أن تسمعه مخاطباً والدته هكذا:” أن جمالكِ قد فاق على جمال الملائكة كافةً والمخلوقات كلها”. ولكن جمال هذه العذراء العظيم لم يكن يضر نفس من كان يشاهدها، لأن بهاءها الفائق كان يلاشي في ناظريها مبدداً كل انعطافٍ دنسٍ، بل كان يحرك فيهم أفكاراً بكليتها طاهرةً، كما يشهد القديس أمبروسيوس قائلاً: أن النعمة التي كانت حاصلةً عليها مريم هي بهذا المقدار عظيمة. حتى أنها ليس فقط حظيت فيها البتولية الطاهرة، بل كانت تبرز مفعولها في الآخرين أيضاً الذين كانوا يشاهدونها، واهبةً إياهم التأمل في موضوع كمال هذه الفضيلة السامية: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن نعمة التقديس ليس فقط قد أبادت في العذراء المجيدة كل حركةٍ مضادة الطهارة أو غير جائزة، بل قد بلغت مفعولها في الآخرين أيضاً. ومن ثم ولئن كانت هي فائقةً جمالاً في جسدها، فمع ذلك لم يكن يتحرك بمشاهديها أدنى انعطاف ألمي صادر عن الشهوة: ولهذا هي سميت: مراً وميروناً طارداً رائحة الفساد: كما تدعوها الكنيسة المقدسة بتخصيصها إياها بهذه الكلمات وهي: مثل المر المختار فاح مني رائحةٌ طيبةٌ (ابن سيراخ ص24ع20). وقد كانت هي مهتمة في الأعمال الخدمية، ولكن من دون أن تصدها هذه أم تبعدها عن الاتحاد الدائم بالله. وفي تأملاتها وغوصها في الثاوريا مع الله لم تكن تتهاون في إتمام واجبات الأمور الزمنية، ولا فيما يخص أفعال محبة القريب الواجبة. وقد ماتت حقاً بالجسد، ولكن من دون أن تشعر بمرارة الموت ومن غير أن يلتحق بجسدها الفساد*
فلنختتم إذاً القول بأن هذه الأم الإلهية هي بنوعٍ غير متناهٍ متميزة وطواً وانخفاضاً عن الجوهر الإلهي، ولكنها بنوعٍ غير محدود هي سامية متفوقة على المخلوقات كلها. ومن حيث أنه غير ممكن مطلقاً أن يوجد ابنٌ أشرف وأفضل وأعظم من يسوع المسيح، فغير ممكن أيضاً أن توجد أمٌ أشرف وأفضل وأعظم من مريم العذراء وهذا ينبغي أن يفيد عباد هذه الملكة الجليلة ليس فقط لكي يفرحوا قلبياً لأجل عظمتها وتفوق جلال مرتبتها. بل أيضاً لكي ينمو فيهم حسن الرجاء والإتكال على شفاعاتها وحمايتها المقتدرة: لأنها بحسب كونها والدة الإله (يقول الأب سوارس) فلها على نوعٍ ما السلطة والتولي على مواهبه تعالى. لكي تهبها مستمدةً منه لأولئك الذين هي تتوسل لديه عز وجل من أجلهم: كما أن القديس جرمانوس يقول من جهةٍ أخرى، أن الله لا يمكنه أن يقبل تضرعات هذه الأم، إذ أنه لا يقدر هو أن لا يعرفها أماً حقيقيةً له بريئةً من العيب والدنس. فهكذا يخاطبها هذا القديس قائلاً: أنتِ التي قد حصلتِ على السلطان الوالدي عند الله فتستمدين نعمة المصالحة لأولئك أنفسهم الذين أخطأوا خطأً يفوق الإفراط، لأنه تعالى لا يمكنه أن لا يستجيب طلباتكِ، إذ أنه يعاملكِ كأمٍ حقيقيةٍ له بريئةٍ من الدنس في كل الأشياء. فمن ثم لا ينقصكِ يا والدة الإله وأمنا الرحيمة، لا الاقتدار على أن تعينينا، ولا الإرادة في أن تسعيفينا: (كما يقول القديس برنردوس) وهكذا أقول نحوكِ ما قاله الأنبا جالانسه عبدكِ: أن الله قد خلقكِ ليس لأجل ذاته هو فقط، بل أنه أعطاكِ للملائكة أيضاً مصلحةً. وللبشر كذلك محاميةً ومنقذةً، وللشياطين أنفسهم غالبةً منتصرةً مبيدةً، لأننا بواسطتكِ نحن نكتسب جديداً النعمة الإلهية المفقودة منا، وبواسطتكِ عدونا أيضاً يغلب مقهوراً:*
فإن كنا نرغب أن نرضي هذه الأم الإلهية فعلينا بأن نكرمها متواتراً بتلاوة السلام الملائكي العزيز لديها، لأنها ظهرت هي مرةً للقديسة ماتيلده وقالت لها، أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكرمها بأفضل نوعٍ مقبول عندها، من أن يحييها بالسلام الذي حياها به زعيم الملائكة جبرائيل، وإذا ما داومنا على ذلك بحسن عبادةٍ فنكتسب منه لأنفسنا نعماً وافرةً خصوصيةً، بشفاعة أم الرحمة هذه، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.*
* نموذج *
أنه لشهيرٌ هذا الحادث المورد من الأب بولس السنيري (ف 34 ق3 من كتابه الملقب: بالمسيحي المرتشد): وهو أنه قد كان ذهب في مدينة رومية أحد الشبان الأشقياء الموسوق من أحمال الخطايا الكثيرة المضادة العفة. ومن الرذائل الأخرى ليعترف بها عند الأب نيقولاوس روكي. الذي قد اقتبله بحبٍ ورأفةٍ متوجعاً لشقائه. وقد شجعه محققاً له أن العبادة نحو والدة الإله فيها قوة وكفاية لأن تنقذه من الملكات الدنسة المتأصلة فيه. ومن ثم وضع عليه قانوناً بأنه منذ ذاك النهار إلى حين اعترافه المستقبل. كل يوم صباحاً عند نهوضه من فراشه. ثم مساءً حين ذهابه إلى الرقاد. يتلو مرةً واحدةً: السلام لكِ يا مريم: تكريماً لهذه الأم البتول الإلهية. وأن يقدم لها يديه وعينيه وسائر حواس جسده. متوسلاً لديها في أن تحفظها طاهرةً من الدنس كأنها أشياء مختصة بها. وأن يقبل الأرض ثلاث مراتٍ. فالشاب الخاطئ قد مارس بالعمل هذا القنون بإفادةٍ يسيرةٍ لإصلاح سيرته. إلا أن معلم اعترافه المذكور قد كرر عليه وضع القانون نفسه المقدم شرحه. محرضاً إياه على أنه لا يهمله أصلاً. ومشجعاً روحه على توطيد ثقته ورجاه في مفعول حماية هذه السيدة المقتدرة. ففي غضون ذلك قد سافر الشاب صحبة آخرين إلى بلادٍ مختلفة جايلاً في العالم مدةً من السنين. وإذ رجع بعد ذلك إلى رومية فذهب من جديد عند الأب نيقولاوس. الذي بفرحٍ لا يوصف قد اختبر فيه تغييراً كلياً عن سيرته الأولى الرديئة، بإصطلاحٍ عجيب معتوقاً به من ملكاته الأثيمة. فسأله هذا الأب قائلاً: كيف حصلت يا ابني من الله على هذه النعمة العظيمة بتغييرٍ هكذا صالح: فأجابه الشاب بقوله: أعلم يا أبتي أن والدة الإله لأجل تلك العبادة الوجيزة التي أنت كنت علمتني أن أمارسها نحوها، قد استمدت لي من الله هذه النعمة. غير أن العجب لم ينته عند هذا، على أن الأب نيقولاوس عينه قد أورد خبرية هذا الحادث في إحدى عظاته مشتهراً في منبر الكرازة (من دون أدنى إشارة عن شخص المعترف) فإذ سمع ذلك أحد الحاضرين وكان بوظيفة قائد عسكرٍ، وكانت له عشرةٌ دنسةٌ مع إحدى النساء المفسودات، فأعتمد هو نفسه على أن يمارس نوع تلك العبادة، لكي يخلص من قيود مآثمه الفظيعة التي كانت مصيرته حقاً أسيراً للشيطان (كما أن جميع الخطأة الذين يؤملون من العذراء المجيدة نوال النعم، وهي تقدر أن تسعفهم فيلزم أن تكون نيتهم وغايتهم بذلك متجهةً إلى إصلاح نوايهم. وبالقصد على تغيير عوائدهم السيئة) فلما واظب ذاك القائد على ممارسة هذه العبادة قد نجا هو أيضاً من تلك الملكة والعشرة القبيحة*
غير أن هذا القائد القليل الفطنة بعد ذلك بستة أشهرٍ اعتمد على أن يذهب عند تلك الامرأة مفتقداً إياها، لينظر أن كانت هي أيضاً تابت عن خطاياها وأصلحت سيرتها أم لا. إلا أنه حينما بلغ إلى باب بيتها، وأثر أن يدخل إليه (الأمر الذي بالحقيقة كان خطراً عليه جداً للسقوط جديداً مع تلك الامرأة، بالدنس الذي كان مارسه هو معها قبلاً أزمنةً مديدةً) وإذا بيد غير منظورة قد منعته من الدخول إلى الدار مرجعةً إياه إلى الوراء. وشاهد ذاته على الفور بعيداً من باب تلك الدار مسافة طول الطريق كلها. ووجد نفسه أمام باب بيته الخصوصي، وحينئذٍ قد عرف بنورٍ واضحٍ أن والدة الإله هي التي أنقذته من خطر السقوط جديداً بالإثم. فمن هنا يفهم جلياً كم هي سريعة هذه الأم الإلهية سيدتنا ليس فقط في أن تخرجنا من حال الخطيئة، إذا نحن ألتجأنا إليها بهذه النية والقصد بإصلاح ذواتنا. بل أنها تنجينا من الخطر أيضاً الذي يلم بنا، لكيلا نسقط جديداً في الإثم.*
† صلاة †
أيتها البتول القديسة البريئة من العيب والدنس. يا من أنتِ هي الخليقة الأعمق إتضاعاً عند ذاتكِ، والأعظم من جميع المخلوقات المحضة أمام الله، فأنتِ التي قد كنتِ صغيرةً في عينيكِ نفسيهما. ولكنكِ ظهرتِ لدى عيني سيدكِ بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه أتصل إلى أن يختاركِ عز وجل أماً له، وهكذا صيركِ سلطانة السماوات والأرض. فإذاً أنا أشكر هذا الإله الذي رفعكِ رفعةً هذا سموها. وأفرح معكِ عند تأملي إياكِ متحدةً بالله إتحاداً كلي الاختصاص، بنوع أنه لم يعط قط لخليقةٍ بسيطةٍ أن تحصل على أتحادٍ كهذا. فبالحقيقة أنه يعتريني الخجل أنا المتكبر الشقي الممتلئ أثماً، من أن أظهر أمامكِ، أنتِ التي مع حال كونكِ فزتِ من الله بعطايا واختصاصاتٍ فائقة الإدراك في عظمتها، فمع ذلك حفظتِ واجبات التواضع العميق. ولكن ولئن كنت أنا في حال هذا الشقاء، فأريد أن أخلص منه أنا أيضاً. ومن ثم أهتف نحوكِ قائلاً: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً. فأنتِ الموعبة نعمةً أستمدي لي أن أنال جزءاً منها:. الرب هو معكِ. أي ذاك الرب الذي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد حل فيكِ بنعمته وأستمر دائماً معكِ، فهو الآن متحدٌ بكِ أشد إتحاداً بعد أن تأنس منكِ صائراً أبناً لكِ: مباركةٌ أنتِ في النساء أيتها الابنة المملوءة بركاتٍ فيما بين النساء كافةً نرجوكِ أن تستمدي لنا نحن أيضاً البركة الإلهية: ومباركةٌ هي ثمرة بطنكِ. أيتها الشجرة المغبوطة التي أثمرت للعالم ثمرةً بهذا المقدار شريفةً مقدسةً: فيا قديسة مريم والدة الإله. أنا أعترف بإيمانٍ صادقٍ أنكِ أنتِ أمٌ حقيقيةٌ لله، وأني لمستعدٌ لأن أبيح دمي مع ألف حياةٍ لو كانت لي من أجل صدق هذه القضية الدينية: صلي لأجلنا نحن الخطأة. لأنكِ من حيث أنتِ أمٌ لله فأنتِ هي أم خلاصنا، وأمنا نحن الخطأة، وقد صيركِ أماً له لكي تقتدر صلواتكِ على أن تخلص أياً كان من الخطأة. فاذاً صلي من أجلنا يا مريم: الآن وفي ساعة موتنا. بل دائماً تضرعي من أجلنا، أي صلي من أجل خلاصنا الآن، إذ نحن في هذه الحياة محاطون من تجارب وأخطار فائقة الإحصاء، تسوقنا إلى أن نخسر الله. ولكن بأبلغ نوعٍ صلي من أجلنا في ساعة موتنا، حين خروجنا من هذه الدنيا وحضورنا في ديوان العدل الإلهي. حتى إذا ما خلصتينا باستحقاقات يسوع المسيح ابنكِ، وبواسطة شفاعتكِ من أجلنا، فنقدر أن نأتي يوماً ما إلى السماء حيث لا يعود علينا خطرٌ ما في شأن خلاصنا، وهناك نسبح ابنكِ ونمدحكِ
* إلى أبد الدهور آمـين*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post