كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثانية: في ولادة العذراء المجيدة
فيما يخص عيد ميلاد العذراء المجيدة، حيث يبرهن أن مريم ولدت قديسةً عظيمةً، وأنها وجدت أمينةً عظيمةً فيما نالته من الله.*
* فيه جزءان*
* إنما أنا خرجت من فم العلي بكراً، قبل جميع المخلوقات (سيراخ 24/5) *
* فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية. صفحة 656 *
† الجزء الأول †
في كم هي عظيمة النعمة الأولى التي بها أغنى الله مريم البتول*
أن من عادة البشر أن يحتفلوا بعلامات الفرح والابتهاج في تكميل مسرة حصولهم على أولادٍ يفرحون بميلادهم، ولكن بالأحرى كان يلزمهم أن يحزنوا متوجعين من أجل الأطفال الذين يولدون لهم، عند تأملهم في أن هؤلاء الأطفال ليس فقط هم عادمون الاستحقاقات وفاقدون الفهم، بل أيضاً هم مدنسون بالخطيئة الأصلية وأولاد الرجز. ولذلك هم مخصومون تحت حكومة الشقاء والموت. وأما ميلاد العذراء المجيدة، فيحق له حقاً وصواباً أن يحتفل به بالتعييد والأفراح، وبالتسابيح والمدائح والمسرات العامة، لأنها حينما جاءت إلى ضوء هذا العالم، فلئن كانت طفلةً بالجسد والعمر، فمع ذلك وجدت كبيرةً في الاستحقاقات وفي الفضائل. فمريم قد ولدت قديسةً عظيمةً، ولكن لكي تفهم درجة القداسة التي بها هي ولدت، فيلزم أن يصير التأمل.
أولاً: في كم كانت عظيمةً النعمة الأولى التي بها أغناها الله.
ثانياً: في كم كانت عظيمةً الأمانة التي هي حالاً جاوبت بها على هذه النعمة لله.*
فإذ نتكلم الآن عن الشيء الأول، تاركين الشيء الثاني للجزء الآخر فنقول، أنه لأمرٌ حقيقيٌ هو أن نفس مريم العذراء قد كانت هي النفس الأجمل فيما خلقه الله، بل الأبلغ من ذلك هو أنه بعد صنيع سر تجسد كلمة الله، قد وجدت نفس مريم هي الصنيع الأعظم، والأكثر لياقةً بالإله القادر على كل شيءٍ، فيما صنعه في هذا العالم، ولذلك يسميها القديس بطرس داميانوس: أنها هي العمل الذي الله وحده يسمو عليه. فمن ثم أن النعمة الإلهية لم تنحدر فوق مريم نقطةً فنقطةً، كما انحدرت على القديسين الآخرين، بل نزلت عليها: مثل الندى على الجزة ومثل القطر القاطر على الأرض: حسبما سبق وتنبأ عنها داود الملك (مزمور 72ع6) فقد كانت نفس مريم نظير الجزة التي قد استوعبت قطر نعمة الله كله الذي انحدر عليها، من دون أن تضيع منه نقطةٌ واحدةٌ، كما يقول عنها، القديس باسيليوس الكبير: أن البتول القديسة قد اجتذبت إليها نعمة الروح القدس كلها واستوعبت منها: ولذلك هي تقول عن ذاتها بواسطة الحكيم ابن سيراخ (ص24ع16): وفي جمهور القديسين هو مقامي: أي كما يفسر ذلك القديس بوناونتورا قائلاً عن لسانها: أن جميع ما يملكه القديسون كافةً مفرقاً وبنوع التجزيء، فأنا أملكه كله ملواً وبوجه الاتساع المطلق. أما القديس فينجانسوس فراري، فإذ يتكلم بالخصوص عن سمو قداسة هذه البتول قبل إتلادها يقول: أنها قد فاقت بالقداسة على الملائكة القديسين أجمعين.*
فالنعمة التي حصلت عليها العذراء المجيدة قد كانت درجتها أسمى وأعظم، ليس فقط من درجة النعمة التي فاز بها كلٌ من القديسين بمفرده، بل هي أيضاً أعظم من النعم كلها التي حصل عليها القديسون كافةً، جملةً مع الملائكة الطوباويين، كما يبرهن عن ذلك مقنعاً بإثباتاتٍ راهنةٍ الأب العلامة فرنسيس بيبا اليسوعي، في تأليفه الجليل الملقب: عظمة يسوع ومريم. وهناك يورد أن هذه القضية المجيدة في تكريم ملكتنا العظيمة، هي الأن عامةٌ وأكيدةٌ فيما بين اللاهوتيين المحدثين (نظير ما هي مصرحةٌ ومبرهنةٌ من كارتاجانا، وسوارس، وسبينالي، وراكوبيتوس وغوارا، ومن آخرين كثيرين الذين قد فحصوها فحصاً مدارسياً مدققاً، الأمر الذي لم يصنعه هكذا القدماء) ثم يخبر بأبلغ من ذلك بأن هذه الأم الإلهية قد أرسلت من قلبها الأب مرتينوس غوتياراز إلى الأب سوارس لكي يشكره على اسمها، لأجل أنه بحرارةٍ قويةٍ حامى عن هذه القضية الكلية الإمكان، كما يشهد أيضاً الأب السنيري بأنه قد حومي عنها فيما بعد من اتفاق رأي أهل مدرسة سالاماناكا العام.*
فإن كان إذاً هذا الرأي أو القضية هي هكذا عامةً وأكيدةً، فكذلك القضية الأخرى هي ممكنةٌ جداً، أي أن مريم العذراء منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس، قد حصلت على هذه النعمة السامية الفائقة درجتها علواً. على النعمة التي فاز بها القديسون والملائكة كلهم معاً. وعن هذا الأمر يحامي بقوةٍ الأب سوارس عينه، وقد تمسك هو به تابعاً للأب سبينالي وللأب راكوبيتوس وللأب كولومباره، ولكن ما عدا قوة رأي اللاهوتيين في هذا الشأن يوجد سببان آخران وعلتان قويتان غير مغلوبتين بهما تتأيد القضية المذكورة ثابتةً، فالعلة الأولى هي لأجل أن الله قد أختار مريم البتول أماً للكلمة الإلهي، ومن ثم يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه من حيث أن هذه العذراء المجيدة قد اختيرت إلى رتبةٍ فائقةٍ على جميع المخلوقات، لأن مقام هذه المرتبة أي كونها والدة الإله، هو على نوعٍ ما (كما يورد الأب سوارس) مختصٌ بالاتحاد الأقنومي. فلهذا بالصواب قد أعطيت هي منذ بدء حياتها مواهب ذات رتبةٍ خصوصيةٍ ساميةٍ على المجميع، بنوع أن سمو هذه النعم يفوق بما لا يحد على كل المواهب والنعم الممنوحة لسائر المخلوقات الأخرى، وبالحقيقة أنه لأمرٌ خالٍ من كل ارتيابٍ هو أنه في الوقت عينه الذي فيه بموجب المراسيم الإلهية الأزلية، قد تحدد أمر تجسد كلمة الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ففيه نفسه قد تحددت وتعينت له الأم التي كان يبتغي أن يتأنس منها، ويظهر من أحشائها لابساً جسداً. وهذه الأم هي حبيبتنا مريم المولودة طفلةً من القديسين يواكيم وحنة. فالمعلم الملائكي القديس توما يعلم قائلاً: أن الله يمنح لكل إنسانٍ النعمة الملائمة والمصاقبة للدعوة والمرتبة أم الوظيفة التي هو تعالى يكون عينها له وخصصه بها. بل أن القديس بولس الرسول قد علم بذلك قبل القديس توما بقوله: يا إخوة أن لنا مثل هذه الثقة بالمسيح عند الله… بل كفايتنا هي من الله الذي جعلنا كفوئين أن نكون خادمين الموثق الجديد: ( قرنتيه ثانية ص3ع5) مبيناً لنا بهذا النص أن الرسل قد اقتبلوا من الله المواهب الملائمة والكافية لإتمام واجبات الخدمة الرسولية. التي كان عز وجل اختارهم إليها. ثم يضيف إلى ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أنه حينما يكون إنسانٌ انتخب من الله إلى دعوةٍ ما، فيقتبل منه تعالى لا التهيئ والأستعداد فقط الضروري لتلك الدعوة، بل المواهب أيضاً التي هو يحتاج إليها لأن يقوم حسناً في واجباتها بلياقةٍ. فإذاً أن كانت مريم البتول قد اختيرت منتخبةً لأن تكون أماً لله. فكان من اللائق والمتوجب حسناً أن الله يزينها منذ الدقيقة الأولى من حياتها بنعمةٍ غير محدودةٍ. وبرتبةٍ عاليةٍ على رتبة النعم الممنوحة منه تعالى للقديسين الآخرين كافةً. وللملائكة أجمعين، إذ يلزم أن النعمة تصاقب مجاوبةً، وتكون ملائمةً لحال الدعوة أو المقام والوظيفة الكلية السمو التي قد رفعها الله إليها. حسبما يبرهن اللاهوتيين أجمعون، جملةً مع القديس توما شمس المدارس الذي يقول:” أن البتول مريم قد انتخبت لتكون أماً لله، فلا ريب ولا أشكال في أن الله قد وهبها النعمة التي تجعلها موضوعاً قابلاً وذات كفايةٍ لهذه الدعوة، بنوع أنها قبل أن تكون صارت أماً لله قد تزينت بقداسةٍ كاملةٍ، حتى أنها صارت أهلاً لهذه الدعوة العظيمة والمقام الفائق سموه”. ثم أن هذا القديس عينه قال: أنه لأجل ذلك قد سميت مريم ممتلئةً نعمةً، لا من جهة النعمة عينها، لأنها هي أي مريم ما قبلت النعمة العظمى ذاتياً الممكن الحصول عليها، كما أنها لم تكن عظمى ذاتياً النعمة الملكية التي وجدت في يسوع المسيح نفسه. أي بنوعٍ أن القوة الإلهية لم تعد تقدر أن تزيد هذه النعمة العظمى ذاتياً نمواً جديداً حتى تبلغ بها الى اقتدارٍ مطلقٍ، ولكن قد كانت هذه النعمة في يسوع المسيح مجاوبةً بكفايةٍ ومصاقبةً بلياقةٍ للغاية التي بها كان ناسوته تعالى مدبراً ومساساً من الحكمة الإلهية، أي اتحاد الكون الإنساني وبالأقنوم الإلهي: على أنه كما يعلم القديس المذكور نفسه قائلاً: أن القدرة الإلهي هي هكذا عظيمةٌ، حتى أنها مهما تهب مانحةً، فدائماً توجد مقتدرةً على أن تعطى من جديد، ومهما كانت القوة الطبيعية في الخليقة نظراً إلى الاقتبال محدودةً، بنوع أنه يمكن استيعابها وإملاؤها بالتمام، فمع ذلك أن هذه القوة الطبيعية للاقتبال الخاضعة للإرادة الإلهية هي غير محدودةٍ، فالباري تعالى هو دائماً قادرٌ على أن يملأها بالأكثر اذ يصيرها أن تقبل من جديد نعمةً جديدةً بعدما يكون قبلاً أملأها، ولهذا (اذ نرجع الى موضوعنا) يقول هذا المعلم الملائكي: أن البتول الطوباوية ولئن لم تكن ممتلئةً نعمةً نظراً إلى النعمة ذاتها، فمع ذلك يقال عنها ممتلئةً نعمةً نظراً إلى ذات مريم، لأنها حصلت على نعمةٍ عظيمةٍ غير محدودةٍ مصاقبةٍ وملائمةٍ ومجاوبةٍ وكافيةٍ لرتبتها ومقامها ودعوتها الغير المحدودة، بنوع أن هذه النعمة العظيمة قد صيرتها أهلاً لأن تكون أماً لله. ومن ثم يضيف إلى ذلك بناديكتوس فرناندار قائلاً: أن القياس الذي بموجبه يمكننا أن نفهم ما هو مقدار عظمة النعمة التي نالتها مريم البتول من الله، إنما هو حال الدعوة والمرتبة التي هي اختيرت إليها، أي حال كونها أم الله:*
فإذاً بالصواب يعلن النبي والملك داود أن أساسات مدينة الله هذه هي فوق الجبال المقدسة قائلاً: الذي أساسه في الجبال المقدسة: (مزمور 87ع1) أي أن أساس حياة مريم وابتداء وجودها في العالم، كان يلزم أن يوجد أسمى وأعلى قداسةً من حيوة القديسين الآخرين كافةً الذين شاخوا في البر، ثم أن النبي يتبع كلامه بقوله: الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب. ويبرهن هو نفسه السبب معلناً: لأن إنساناً ولد فيها وهو العلي الذي أسسها. أي لأن الله قد كان مزمعاً أن يصير إنساناً من المستودع البتولي الذي لهذه المدينة صهيون التي هي مريم العذراء ولهذا كان من الواجب أنه تعالى يهب هذه البتول، منذ الدقيقة الأولى التي فيها هو خلقها نعمةً مصاقبةً للدعوة والمقام والرتبة التي هو اختارها إليها، وهي أن تكون والدةً لإلهٍ هكذا كلي الكمال.*
ثم أن النبي أشعيا يريد أن يشير الى هذا نفسه بقوله: لأنه سيكون في آخر الأيام جبل الرب ظاهراً، وبيت الله على قمم الجبال ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه كل الأمم ويسير إليه شعوبٌ كثيرة: (ص2ع2) مبادرين إلى مريم البتول التي هي بيت الرب، ليستمدوا بواسطتها المراحم الإلهية. فالقديس غريغوريوس الكبير يفسر النص المذكور قائلاً: أن هذا الجبل بالحقيقة هو في قمة الجبال، لأن علو مقام مريم يتلألأ سمواً فوق جميع القديسين. ويقول القديس يوحنا الدمشقي: إن مريم هي الجبل الذي سر الله أن يختاره حجرةً لسكناه فيها: فلهذا قد دعيت هذه السيدة شجرة السرو. ولكن سرو جبل صهيون. وسميت بالأرز، ولكن أرز لبنان. ولقبت بالزيتونة، ولكن زيتونة جميلة، وكنيت بالمنتخبة ولكن منتخبة كالشمس، لأنه (يقول القديس بطرس داميانوس: كما أن الشمس تفضل بإشراقها وتفوق بأنوارها على الكواكب والنجوم بهذا المقدار، حتى أن هذه الأجرام لا تعود تشاهد حينما تظهر الشمس. فكذلك البتول العظيمة والأم الإلهية تفضل بقداستها وتفوق بها على استحقاقات أهل البلاط السماوي أجمعين. بنوع أنه، حسبما يقول بكل فصاحةٍ القديس برنردوس: أن مريم قد كانت هكذا ساميةً في القداسة حتى أنه لم يكن يوجد لله من هي لائقةٌ أن تصير له أماً بالبشرة إلا هذه البتول المجيدة. ولم يكن يوجد من هو لائقٌ أن يصير لها ابناً للإله الكلي كماله.*
وأما العلة الثانية التي من أجلها يثبت أن البتول القديسة منذ الدقيقة الأولى من حياتها، وجدت أكثر قداسةً من جميع القديسين معاً، فهي الوظيفة العظيمة التي أنتخبت هي إليها بأن تكون وسيطةً للبشر عند الله. الوظيفة التي تحددت لها منذ البدء. ومن ثم أحتاج الأمر إلى أنها تكون منذ البدء حاصلةً على مقدارٍ عظيمٍ من النعمة تفوق به على البشر كافةً إذا وجدوا معاً. فأمر واضح هو كيف أن الآباء القديسين واللاهوتيين أجمعين يعطون مريم العذراء هذا اللقب، وهو وسيطة في البشر عند الله، لأجل أنها بواسطة شفاعتها المقتدرة واستحقاقها العظيم الإضافي إلى الرجاء في رأفة الله، قد استمدت الخلاص للجميع، معتنيةً للعالم الهالك بنوال الخير العظيم الصادر عن سر الافتداء، وأنما يقال عن استحقاقها أنه إضافي إلى الرجاء في رأفة الله، لأن يسوع المسيح وحده هو وسيطنا بطريق العدل وبقوة استحقاقاته الذاتية. الموازية ما كان يحق للوفاء عن خطايا البشر، حسبما تعلم بذلك المدارس، إذ أنه تعالى قد قدم استحقاقاته لله أبيه الأزلي الذي قبلها من أجل خلاصنا. وبالخلاف أن مريم هي وسيطتنا بطريق النعمة وبمجرد شفاعاتها فينا. وباستحقاقاتها الإضافية، إذ أنها قدمتها لله الرؤوف، كما يقول اللاهوتييون مع القديس برنردوس من أجل خلاص البشر كافةً، وأن الله منةً ونعمةً منه قد قبلها مع استحقاقات يسوع المسيح. ولذلك يقول أرنولدوس كارنوفانسه: أن مريم قد حصلت في أمر خلاصنا على مفعولٍ واحدٍ مع المسيح ابنها. ويقول ريكاردوس الذي من سان فيتوره: أن مريم قد اشتهت خلاص الجميع وأعتنت في نواله لهم وأكسبتهم إياه بل أن الخلاص حصل للجميع بواسطتها. وبالتالي أن كل خيرٍ وكل موهبةٍ مختصة بالحياة الأبدية، مما ناله من الله كل واحدٍ من القديسين، فبواسطة مريم قد توزع ذلك عليهم وفازوا به.*
فهذا هو الشيء الذي تريد منا الكنيسة المقدسة أن نفهمه حينما هي تكرم البتول الطوباوية بتخصيصها بها الكلمات المدونة في حكمة ابن سيراخ (ص 24ع25) وهي:” فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ، فيَّ أنا كل رجاء حيوةٍ وفضيلةٍ”. فلفظة مسلكٍ تعني أن بواسطة مريم تتوزع النعم كافةً على عابري طريق هذه الحياة. ولفظة حقٍ توضح أن بواسطة هذه السيدة يعطى النور لمعرفة الحق. ولفظة حياةٍ تعلن أننا نرجوا أن ننال بوساطة هذه الأم الإلهية حياة النعمة ما دمنا قاطنين في الأرض، والمجد السماوي بعد ذلك في الحياة الأبدية. ولفظة فضيلةٍ تبرهن أننا بواسطة شفيعتنا هذه نستمد اقتناء الفضائل، لا سيما الثلاث الفضائل الإلهية التي هي أساس فضائل القديسين. فتقول هذه السيدة في الإصحاح المذكور عينه (ع24): أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: لأن وسيطتنا هذه عند الله بقوة شفاعاتها فينا تستمد لنا نحن المتعبدين لها مواهب الحب الإلهي، والخوف المقدس، والنور السماوي، والرجاء الأمين، والطمأنينة المقدسة. ومن ذلك يستنتج القديس برنردوس أن تعليم الكنيسة الجامعة هو، أن مريم هي واسيطةٌ عامةٌ لخلاصنا، إذ يقول: عظم يا هذا اللتي وجدت النعمة، وسيطة الخلاص، مصلحة الدهور، لأن الكنيسة هكذا ترتل عنها، وقد علمتني أن أرتل أنا أيضاً من أجلها هذه الأشياء عينها. فلأجل ذلك يعلن القديس صفرونيوس البطريرك الأورشليمي قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل إنما تفوه نحو البتول الطوباوية هاتفاً: افرحي يا ممتلئةً نعمةً. لأنه قد أعطى للآخرين مقدارٌ من النعمة محدودٌ، وأما لمريم فقد أعطيت النعمة كلها بملؤها كاملةً. وهذا قد تم لكي تستطيع هي فيما بعد بهذا النوع أن تكون بواجب الاستيهال وسيطةً فيما بين الله والبشر! حسبما يورد هذه الألفاظ عينها القديس باسيليوس الكبير، وإلا إذا لم تكن البتول الكلية القداسة حصلت على ملوء النعمة الإلهية، فكيف كان يمكنها أن توجد هي سلم الفردوس، وشفيعة العالم، والوسيطة الحقيقية فيما بين الإله والبشر. كما يقول هذه الكلمات نفسها القديس لورنسوس يوستينياني في عظته على عيد البشارة.*
فهوذا السبب والعلة الثانية قد توضحت فوق الكفاية، على أنه إن كانت مريم الطوباوية قد أقيمت منذ بدء حياتها بحسب كونها أماً للمخلص العام، بوظيفة وسيطةٍ في البشر أجمعين. وبالتالي وسيطة في القديسين أيضاً، فكان لازماً أنها منذ البدء تحصل هي على نعمةٍ متفاضلةٍ فائقةٍ سمواً، على جميع النعم التي فاز بها القديسون كلهم معاً، وأن توجد محبوبةً من الله وعزيزةً لديه بنوع يعلو تفوقاً على البشر كافةً، ليس مفرقاً بل مجملاً أيضاً. وإلا فكيف كان مستطاعاً لها أن تتشفع فيهم جميعاً لديه تعالى. لأن لكي يقدر إنسانٌ ما أن يستمد بشفاعاته من أحد الملوك النعمة والمواهب لرعايا هذا الملك بأسرهم الخاضعين لولايته، فيلزم بضرورةٍ مطلقة أن يكون الشفيع المومى إليه عزيزاً على قلب ذاك الملك، ومحبوباً منه بنوعٍ أفضل من جميع أولئك الرعايا. ولذلك يستنتج القديس أنسلموس قائلاً: أن مريم قد استحقت بكل لياقةٍ أن تصير مصلحةً للعالم الهالك.لأجل أنها كانت هي الأكثر قداسةً من الجميع والأعظم طهارةً من المخلوقات كلها.*
ولقائلٍ أن يقول أن مريم البتول إذاً هي وسيطة عند الله في البشر فمسلمٌ. ولكن كيف يمكن أن يقال عنها أنها هي وسيطة في الملائكة أيضاً. فلاهوتيون كثيرون يبرهنون في أن يسوع المسيح قد استحق مكتسباً للملائكة أيضاً نعمة الثبات في البر. ومن ثم كما أن يسوع المسيح على هذه الصورة وجد هو وسيطاً في الملائكة أيضاً. بوساطة الاستحقاق الذاتي الموازي الوفاء فهكذا مريم هي وسيطتهم بوساطة الاستحقاق الإضافي بالرجاء في رأفة الله. لأنها بقوة تضرعاتها وصلواتها قد أعجلت مجيء المسيح الى العالم، وقد استحقت قلما يكون استحقاق الرجاء في المراحم الإلهية أن تكون هي أماً للمسيح. واكتسبت أن تملأ من الأنفس المخلصة بسر التجسد كراسي الملائكة الساقطين الفارغة، فإذاً قد ربحت للملائكة القديسين قلما يكون هذا المجد العرضي. ولذلك كتب ريكاردوس الذي من سان فيتوره قائلاً: أن الخليقة الواحدة والخليقة الأخرى، أي الملائكة والبشر قد خلصوا بواسطة هذه السيدة، وبها قد اصطلحت طبيعة الملائكة. وتصالحت مع الله الطبيعة الإنسانية. والقديس أنسلموس كان قبل هذا المعلم قال: أن الأشياء كلها قد دعيت إلى الحال الأولى التي كانت حاصلةً عليها قبلاً، وأصلحت بواسطة هذه البتول القديسة. فلهذا أن مريم الطوباوية المولودة طفلةً سماويةً، قد اقتبلت من الله منذ الدقيقة الأولى من حياتها نعمةً أعظم من جميع النعم التي فاز بها القديسون أجمعون جملةً، وذلك بحسب كونها أختيرت وتعينت أماً لمخلص العالم، وبحسبما أقيمت بوظيفة وسيطة العالم عند الله، فكم كان إذاً مشهداً جليلاً شهياً مجيداً لأهل السماء والأرض حال بهاء نفس هذه الطفلة القديسة ولئن كانت بعد مسجونةً في مستودع والدتها القديسة حنه. فهي كانت المخلوقة المحبوبة لدى عيني الله أكثر حباً من سائر المخلوقات. لأنها قد حصلت ممتلئةً نعمةً، ومنذ ذاك الوقت كان يمكنها أن تفتخر قائلةً عن ذاتها: أنني منذ حداثتي أرضيت الله. وقد كانت معاً في الوقت عينه هي المخلوقة المحبة لله أكثر حباً من الخلائق بأسرها، التي لحد ذاك الوقت كانت ظهرت في الوجود، بنوع أنه لو أتفق لهذه الطفلة القديسة أن تخرج مولودةً من أحشاء أمها في الدقيقة الأولى التي بها تكونت هي في مستودعها بريئةً من الدنس، لكانت هي جاءت إلى العالم حاصلةً على أعظم غنى بالاستحقاقات وأسمى قداسةً من جميع الأبرار والقديسين جملةً. فلنتأمل إذاً في كم كانت أستحقاقات هذه الطفلة المجيدة أعظم من ذلك حينما ولدت من أمها، بعد أن كانت في مدة التسعة الأشهر التي فيها أستمرت محبوسةً في جوف والدتها، وأكتسبت أستحقاقاتٍ جديدةً. وليكن هذا كافياً فيما يلاحظ الجزء الأول الحاضر المختص بالموضوع الأول في شأن النعمة الأولى العظيمة التي نالتها هذه السيدة في الدقيقة التي بها حبل بها بريئةً من الدنس.*
† الجزء الثاني †
* في كم كانت عظيمةً الأمانة التي بها مريم البتول جاوبت حالاً على النعمة الإلهية التي نالتها ساعيةً معها.*
أنه لم يكن رأياً بسيطاً أم خصوصياً، بل هو رأيٌ عامٌ عند كل اللاهوتيين، كما يقول أحد العلماء الماهرين: (وهو الأب كولومبياره) أن مريم المتكونة طفلةً في بطن أمها القديسة حنه إذ أنها اقتبلت نعمة التقديس، فقد نالت معاً في الدقيقة الأولى من حياتها التعقل الكامل، وبلغت إلى المعرفة والتمييز، مع نورٍ سماوي عظيم مصاقب عظمة النعمة التي فازت هي بها وقتئذٍ مستغنيةً بها، ولذلك يمكننا أن نعتقد حسناً بأنه منذ البرهة الأولى التي فيها اتحدت نفس هذه الطفلة المملوءة قداسةً مع جسدها الكلية الطهارة، قد استنارت حالاً بجميع أنوار الحكمة الإلهية، لتفهم جيداً الحقائق الأبدية، وجمال الفضيلة، وفوق كل شيءٍ تعرف خيرية صلاح الله الغير المتناهي. والاستحقاق الموجود به تعالى لأن يكون لأجل ذاته محبوباً من الجميع محبة التفضيل، وبنوعٍ أخص استحقاقه تقدس اسمه لأن يحب من هذه السيدة محبةً عظيمةً، نظراً إلى المواهب السنية والنعم الفريدة التي تنازل عز وجل لأن يزينها بها مميزاً إياها عن الخلائق كلها، حافظاً الحبل بها بريئاً من دنس الخطيئة الأصلية، مانحاً إياها نعمةً هكذا عظيمةً غير محدودة. ومنتخباً إياها أماً لكلمته الأزلي، ورافعاً مرتبتها إلى مقام سلطانة العالمين وملكة الكونين.*
فمن ثم منذ هذه البرهة الأولى من حياتها قد وجدت هي عارفةً جميل المحسن إليها، وابتدأت حالاً بأن تصنع كل ما كان ممكناً لها صنيعه، متاجرةً من ذاك الحين بوزنات النعمة السامية التي وهبة لها. ممارسةً كل شيءٍ بقصد أن ترضي الله، وتسر الصلاح الإلهي. وقد أحبته تعالى منذ بدء حياتها، وداومت باتصالٍ على حبه فوق كل شيءٍ بمقدار استطاعتها وبكل قواها. في مدة تلك التسعة الأشهر التي فيها استمرت قبل أتلادها في جوف أمها، غير تاركة ولا مهملة دقيقةً واحدةً أن تمر من دون أن تضاعف حبها له تعالى، وأتحادها به بعواطف المحبة المتقدة كالنار. فقد كانت هذه القديسة من دون كل ريب بريئةً معتوقةً ناجيةً من جريرة الخطيئة الأصلية. وبالتالي ناجيةً أيضاً من كل أنعطافٍ وتعلقٍ نحو الأشياء الأرضية. ومن أية حركةٍ غير مرتبة، ومن كل تشويش عقلي، ومن جميع أنفعالات الحواس، مما يمكن أن يصدها عن أن تتقدم على الدوام في زيادة الحب لله. وقد كانت قواها وحواسها أيضاً متفقةً مع روحها الطاهرة بالاتجاه والأنعطاف نحو العلي. ولهذا إذ كانت نفسها الجميلة محلولةً من كل مانعٍ، فمن غير توقفٍ كانت دائماً تطير إلى الله، وتحبه من دون انقطاع، وتنمو على الدوام في محبته، ولهذا قد دعيت هي نفسها: شجرة الدلب المرتفعة مغروسةً على شط الماء: (أبن سيراخ ص24ع19) لأنها قد كانت هي غرسة يمين العلي الشريفة التي نمت على الدوام مستقيةً من مجاري النعمة الإلهية، ولذلك قالت هي عن ذاتها: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحةً طيبةً، وأنواري أثمار البهاء والمجد: (أبن سيراخ ص24ع23) وأنما شبهت ذاتها بالجفنة ليس فقط لأجل الحال المتضعة التي كانت هي بها لدى أعين الناس، بل أيضاً لأجل أنه كما أن الكرمة تنمو وتمتد على الدوام. ولذلك يقال بالمثل: أن الكرمة لا ينتهي نموها: إذ أن الغروس الأخرى كأشجار الليمون والتوت والتفاح وأمثالها تنمو مرتفعةً وممتدةً إلى حدٍ اعتياديٍ لا تتجاوزه. وأما الجفنة فتمتد دائماً ناميةً وتعلو أغصانها بمقدار علو الشجرة التي تكون هي أي الكرمة ملتقةً عليها ومستندةً فوقها. فهكذا مريم البتول الكلية قداستها قد امتدت على الدوام ناميةً في الكمال. ولذلك يهتف نحوها القديس غريغوريوس العجائبي مسلماً عليها بقوله: افرحي أيتها الكرمة الحية النامية على الدوام: وقد كانت هذه السيدة متحدةً بالله دائماً ومستندةً عليه بحسب كونه تعالى مسندها الوحيد. ومن ثم يتكلم عنها الروح القدس قائلاً: من هي هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فالقديس أمبروسيوس يقول في تفسيره هذا النص: من هي هذه التي لمرافقتها الكلمة الإلهي الأزلي، تنمو ممتدةً وصاعدةً نظير الكرمة المستندة على شجرةٍ عالية جداً والملتفة عليها.*
فكثيرون من العلماء اللاهوتيين البارعين الرصينين يقولون أن تلك النفس المكتسبة قوة ملكة الفضيلة متأصلةً فيها، فطالما هي تجاوب بأمانةِ ساعيةً مع النعم الحالية الفعلية التي يمنحها الله إياها. فيمكنها دائماً أن تبرز فعلاً بالعزم والنية موازياً لملكة الفضيلة تلك المكتسبة منها، بنوع أنها في كل المرات تربح لذاتها استحقاقاً جديداً مضاعفاً موازياً لمجموع الاستحقاقات كلها التي تكون هي قبلاً اكتسبتها، فهذا النمو العظيم قد أعطى (كما يعلم اللاهوتيون المومى إليهم) للملائكة في الحال التي هم مستسيرون بها، فإن كان منح للملائكة هذا الإيهاب والنعمة فمن تراه يستطيع إنكاره على الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض. وبنوع أخص في الزمن الذي هي فيه استمرت مسجونةً في أحشاء أمها، حيث أنها بكل تأكيدٍ قد كانت حينئذٍ أمينةً على حفظ النعمة الإلهية مجاوبةً عليها بأبلغ نوع من الملائكة أنفسهم. فهذه الطفلة القديسة إذ قد أمكنها واكتسبت في الزمن المشار إليه جميعه، وفي كل دقيقة منه أضعاف تلك النعمة السامية في العظمة التي نالتها من الله منذ البرهة الأولى من حياتها. لأن سعيها مع هذه النعمة كان بكل قواها وبسائر أنواع الكمال في كل دقيقةٍ. بنوع أنها أن كانت في الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها قد فازت من النعمة الإلهية بمقدارٍ مثلاً يوازي ألف درجة من هذه النعمة، ففي الدقيقة الثانية قد اكتسبتها مضاعفة أي ألفين درجة، وفي الدقيقة الثالثة أربعة ألف، وفي الرابعة ثمانية ألف، وفي الخامسة ستة عشر ألفاً، وفي السادسة أثنين وثلاثين ألفاً. وهلم جرا إلى يومٍ كاملٍ وإلى شهرٍ بتمامه وأخيراً إلى تسعة أشهرٍ، مضاعفةً فيها هذه النعم والاستحقاقات بالنوع المذكور، فإذاً حينما أتلدت من أحشاء أمها كم وجدت هي غنيةً بخزائن النعم والاستحقاقات الفائقة الإدراك.*
فلنفرح إذاً متهللين مع حبيبتنا هذه الطفلة المجيدة. التي ولدت في العالم من أمها بهذا المقدار ساميةً في القداسة، محبوبةً في عيني الله، ممتلئةً من النعم الغنية. ولنبتهج ليس من أجلها هي فقط بل من أجل ذواتنا نحن أيضاً. لأنها هي قد جاءت إلى العالم ممتلئةً نعمةً ليس من أجل مجدها الذاتي فقط بل من أجل خيرنا نحن أيضاً. فالقديس توما اللاهوتي يتأمل في كتيبه الرابع، في أن مريم العذراء المثلثة القداسة قد كانت بثلاثة أنواع ممتلئةً نعمةً، فهي بالنوع الأول كانت ممتلئةً نعمةً في نفسها الجميلة، التي منذ بدء خلقتها كانت بجملتها مختصةً بالله. وبالنوع الثاني كانت ممتلئةً نعمةً بجسدها، حتى أنها استحقت أن تنسج من لحمانها الفائقة الطهارة سداءً تلبس منه جسداً لكلمة الله الأزلي المتجسد من دمائها، وبالنوع الثالث كانت ممتلئةً نعمةً لأجل الخير العام، لكي يستطيع البشريون أجمعون أن يستفيدوا الخير لذواتهم بواسطتها ومنها. ثم يضيف إلى كلامه هذا، القديس المذكور قائلاً: أن البعض من القديسين قد نالوا من الله مقداراً وافراً من النعم، كافيةً ليس لخلاصهم هم فقط، بل لخلاص غيرهم أيضاً من البشر، ولكن لا لخلاص البشر أجمعين، إلا أنه ليسوع المسيح فادينا، ولمريم العذراء شفيعتنا قد أعطيت نعمةٌ هذه صفتها لخلاص كل البشر. ومن ثم أن ما كتبه القديس يوحنا الإنجيلي عن يسوع المسيح بقوله: زمن امتلائه نحن كلنا أخذنا: (ص1ع16) فهذا نفسه يقوله القديسون بالنسبة إلى مريم العذراء، فالقديس توما الفيلانوفي كتب قائلاً: أن البتول المجيدة هي ممتلئةً نعمةً. ومن ملوء هذه النعمة استوعب الكون. بنوع أنه يقول القديس أنسلموس: أنه لا يوجد أحدٌ مطلقاً لا يشترك بنعمة مريم، لأنه من هو الذي يوجد في العالم ولا يشترك بها حاصلاً على مريم رأوفةً حنونةً شفوقةً من أجله ولا توزع هي عليه مفاعيل رحمتها: إلا أننا نلتزم بأن نفهم جيداً أننا إنما نقتبل نحن النعمة من يسوع بحسبما هو تعالى مصدرها وفاعلها بقوته الإلهية الذاتية. وأما من مريم فنقتبل النعمة بحسبما هي وسيطةٌ بنا لديه عز وجل، وهكذا نحن ننال النعمة من يسوع المسيح بحسب كونه فادينا ومخلصنا. وأما من مريم فبحسب كونها شفيعةً بنا أمامه تعالى، ونفوز بهذه النعمة من يسوع بحسبما هو الينبوع، ومن مريم بحسبما هي المجرى. ولذلك كتب القديس برنردوس: أن الله قد أقام مريم قناةً تجري إلينا بواسطتها مياه مراحمه التي يريد جلت خيرية صلاحه أن يوزعها على البشر. ولذلك قد صيرها ممتلئةً نعمةً لكي يشترك من امتلائها كل أحدٍ بالجزء الذي أعطى له أن يفوز به: وهنا القديس المذكور يحرض الجميع على أن يتأملوا، في كيف أن الله يريد منا أن نكرم هذه البتول العظيمة بمحبةٍ ساميةٍ، من حيث أنه سبحانه قد أدخر فيها خزائن خيراته بأجمعها. حتى أن كل ما نحن نناله من الرجاء ومن النعمة ومن الخلاص. فنشكر من أجله بأسره ملكتنا الكلية الحب نحونا، إذ أن كل شيءٍ أنما يأتينا ويتصل إلينا من يدها وبواسطة شفاعاتها بنا. فالويل إذاً لتلك النفس التي تسد عن ذاتها مجرى النعم هذا، بإهمالها مطلقاً الالتجاء الى مريم المجيدة. فسفر يهوديت (ص7ع6) يوضح لنا: أن أليفانا حينما كان يطوف البلد بالقرب من مدينة بيت فالو قد شاهد عين الماء الجاري إلى المدينة من ناحية الجنوب، فأمر غلمانه بأن يقطعوا المجرى: فهذا الأمر نفسه يصنعه الشيطان حينما يريد أن يستولي على نفسٍ ما. وهو أنه يجتهد في أن يصيرها أن تهمل عبادتها لمريم الكلية القداسة. لأنه إذا ما قطع عن تلك النفس هذا المجرى فهي تفقد بسهولةٍ إشراق النور السماوي، ثم خوف الله المقدس، وأخيراً الخلاص الأبدي، فليقرأ النموذج الآتي إيراده ليعرف كم هو عظيم إشفاق قلب هذه الأم الإلهية، وكم هو وافر الخراب الروحي الذي يلم بمن يقطع عن ذاته هذه القناة الروحية بإهماله التعبد لوالدة الإله ملكة السماء والأرض.*
* نموذج *
قد أخبر تريناميوس وكاتيسيوس وآخرون غيرهما بأنه في مدينة ماغدابورك من بلاد ساسونيا، قد كان رجلٌ اسمه أودونه الذي بهذا المقدار لم يكن حاصلاً على موهبةٍ للعلم، لقصر مفهوميته منذ حداثته، حتى أنه أضحى موضوعاً للسخرية به عند جميع الشبان رفاقه في الدرس. فهذا يوماً ما لشدة غمه من نقص فهمه مضى أمام إحدى أيقونات العذراء المجيدة، متوسلاً إليها بحرارةٍ في أن تشفق عليه مغيثةً إياه، فالبتول المجيدة قد ظهرت له في الحلم قائلةً له: يا أودونه أنا أريد أن أعزيك وأسرك ومن ثم فأنا أستمد لك من الله ليس فقط الموهبة الكافية للعلم، لتنجو بها من الاستهزاء والعار، بل أيضاً فهماً وحذاقةً وجودة عقلٍ تصيرك محبوباً من الجميع، وبأكثر من ذلك أعدك بأنه بعد وفاة أسقف المدينة ستكون أنت خليفةً له بالدرجة والوظيفة. فجميع ما قالته له هذه السيدة الكلية القداسة قد تم في أوقاته. لأن أودونه قد نجح في العلوم، وحصل فيما بعد أسقفاً لتلك المدينة، ولكنه قد أضحى بعد ذلك عديم المعروف وناكر الجميل نحو الله. ليس بأقل مما نحو شفيعته مريم، مهملاً جانباً كل نوعٍ من العبادة، وصار حجر عثرةٍ وصخرة شكٍ للجميع بسيرةٍ رديئة. فليلة ما حينما كان هو على فراشه مع الامرأة التي كان يدنس ذاته بها نفاقياً، قد سمع صوتاً يقول له: أترك يا أودونه استهوانك بإهانة الله، يكفي ما قد صنعته لحد الأن: ففي المرة الأولى التي سمع بها هو هذا الصوت قد فكر بأنه ربما كان صادراً من إنسانٍ يقصد إصلاحه ناصحاً. ولكن لما سمع الصوت والكلمات عينها مكررةً عليه في الليلة الثانية. وكذلك في الليلة الثالثة. فدخل عليه نوعٌ من الخوف من أن يكون هذا الصوت هو من السماء، ولكن مع هذا جميعه قد أستمر سالكاً في عوائده الرديئة وسيرته المشككة. غير أنه بعد مرور ثلاثة أشهرٍ من هذا التنبيه الإلهي، حيث أن الله بجودةٍ غير متناهيةٍ قد أعطاه مهلةً هذه صفتها كافيةً للرجوع إليه تعالى، قد بلغ أوان الانتقام العادل. فقد كان ليلةً ما في كنيسة القديس موريسيوس رجلً من طغمة أكليروس الكاتدرا حسن العبادة اسمه فاداريكوس، مصلياً لله تعالى في أن يصنع علاجاً لداء الشكوك المسببة من رداوة عيشة ذاك الأسقف الشرير، ففيما كان هو مصلياً على هذه الصورة وإذا بباب الكنيسة قد انفتح بإنزعاجٍ من قوة عاصفة الريح الشديدة، ثم دخل من الباب شابان حاملان بأيديهما شمعتين ضخمتين، فجاءا ووقفا بجانبي الهيكل الكبير، ودخل بعد ذلك شابان آخران اللذان فرشا أمام الهيكل وسادةً ووضعا فوقها كرسيين من ذهب، وجاء شابٌ آخر متشحاً بثوبٍ كجندي والسيف بيده، حيث وقف في وسط الكنيسة وصرخ بصوتٍ عظيمٍ هاتفاً: يا معشر قديسي السماء الذين توجد لكم أعضاءٌ مكرمة في هذه الكنيسة تعالوا إلى ههنا. لتحضروا إجراء الحكومة التي مزمع أن يبرزها القاضي السماوي. فعندما قال هذا قد ظهر كثيرون من القديسين. وكذلك الاثنا عشر رسولاً بمنزلة أصحاب وظائف في هذه المحكمة الرهيبة. وبعد هذا جاء الديان الإلهي يسوع المسيح وجلس فوق أحدى ذنيك الكرسيين، وأخيراً ظهرت مريم البتول محاطةً من العذارى المجيدات، حيث أجلسها تعالى فوق الكرسي الآخر. وحينئذِ أمر القاضي الإلهي بأن يؤتي بالأسقف المجرم إلى المحكمة، فأحضر حالاً إلى الوسط أودونه المنكود الحظ، فالقديس موريسيوس قد طلب من الديان على أسم شعب الأبرشية أن يجرى حقوق العدل ضد ذاك الأسقف. الذي سبب للرعية تلك الشكوك بأفعاله الأثيمة، والجميع رفعوا أصواتهم قائلين: أيها السيد أنه لمستحق الموت. فوقتئذِ قال القاضي الأبدي: فليمت أودونه. ولكن قبل أن توضع الحكومة بالعمل نهضت القديسة والدة الإله (يا لعظم أشفاق قلبها الحنون) وذهبت من الكنيسة كيلا تشاهد موت أودونه بذاك النوع المخيف المحزن، ثم بعد ذلك تقدم الخادم السماوي الذي كان جاء قبلاً والسيف فضرب عنق أودونه وإذا برأسه معزولاً في الأرض عن جثته، وحالاً زالت الرؤيا وصار ظلامٌ في الكنيسة. أما فاداريكوس المرتجف خوفاً من هذا المنظر، فقد ذهب ليقد الشمعة من القنديل المضيء في الكنيسة السفلي، ولما جاء ثانيةً إلى وسط الكنيسة فشاهد بالحقيقة جسد أودونه مطروحاً ورأسه مقطوعاً، ودمه جارياً فوق بلاط المعبد الإلهي. فلما صار النهار وتقاطر الشعب الى الكنيسة ليشاهد هذا الأمر الغريب فالكاهن فاداريكوس قد أخبر الجميع بالرؤيا التي شاهدها، وبكيفية الحكومة التي جرت على أودونه، الذي في ذاك النهار عينه ظهر لأحد كهنته الذي لم يكن بعد عارفاً بشيءٍ من الحادث. وأخبره بأنه حكم عليه بالهلاك الأبدي، فمن ثم أخذت جثته وطرحت في حفرة خارج المدينة وبقي دمه ذكراً مخلداً في بلاط الكنيسة لانتقام العدل الإلهي من الأشرار المصرين على ذنوبهم. وكان يغطى البلاط ببساطٍ ولا يكشف إلا حينما أحد أساقفة تلك الأبرشية يقام عليها جديداً ويأخذ تملك وظيفته، لكي يشاهد دم أودونه ويحرص على السلوك بسيرةٍ صالحةٍ، ولا يكون خائناً ناكر الجميل ضد الله وضد والدته الكلية القداسة.*
† صلاة †
أيتها الطفلة السماوية المثلثة القداسة، فأنتِ التي قد أنتخبتِ وتعينتِ أماً لمنقذ العالم وفاديه، واخترتِ وسيطةً عظيمةً من أجل الخطأة الأشقياء المساكين، أرحميني أنا المنطرح على قدميكِ الكائن واحداً من العديمي المعروف والناكري الجميل، ولكني أبادر إليكِ مستغيثاً بكِ، فأي نعم أن كفراني بالنعم ونسياني الإحسانات المصنوعة نحوي من الله ومنكِ، وتصرفاتي السيئة تجعلني مستحقاً أن أرذل من الله ومنكِ مهملاً. إلا أني أسمع ما يقال عنكِ الأمر الذي أنا معتقده صادقاً (إذ أني أعلم كم هي عظيمة مراحمكِ) وهو أنكِ لا يمكن أن ترفضي من ياتجئ إليكِ بحسن الرجاء ويفوض لديكِ أمره بثقةٍ، فإذاً من حيث أنه لا يعلو فوقكِ أحدٌ سمواً وقدرةً وقداسةً وربوبيةً إلا الله وحده، أيتها المخلوقة الأشرف والأجل والأقدس من سائر المخلوقات، حتى أن أكبر من هم في البلاط السماوي يوجدون بالنسبة إليكِ وبأزائكِ صغاراً جداً. أنتِ التي هي أقدس القديسين وبحر النعم التي أنتِ ممتلئة منها، فأسعفي خاطئاً ذليلاً قد أضاع النعمة. فأنا أعرف جيداً أنكِ محبوبةٌ من الله وعزيزةٌ لديه بهذا المقدار، حتى أنه تعالى لا يمكن أن ينكر عليكِ شيئاً من كل ما تسألينه. وأعلم أيضاً أنكِ أنما تتصرفين بالجاه والشرف والعظمة الممنوحة لكِ، تصرفاً عائداً بجملته لأفادة الخطأة البائسين وأسعافهم، فصيري إذاً أن تظهر مفاعيل عظمة النعمة التي أنتِ حاصلة عليها من الله باستمدادكِ لي نوراً لرشدي، وحباً إلهياً متقدة حرارته مقتدراً على أن ينقلني من حال كوني خاطئاً، الى حال القداسة التي أوجد بها باراً أمام الله. وإذ بهذا النوع يقتلع من قلبي أصل أميالي وأنعطافاتي نحو الأشياء الأرضية حتى لا يعود باقياً فيَّ شيءٌ من ذلك. فألتهب بكليتي بالحب الإلهي، فأصنعي معي أيتها السيدة هذا العمل الذي أنتِ بلا ريبٍ قادرةٌ على صنيعه، وأفعلي ذلك معي حباً بذاك الإله الذي قد صيركِ بهذا المقدار عظيمةً مقتدرةً رحيمةً. فهكذا أرجو من جودكِ، وكذلك فليكن لي برحمتكِ آمين.*
No Result
View All Result
Discussion about this post