كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفقرة الأولى: مريم بريئة من دَنَس الخطيئة الأصليَّة
الفصل الأول
*فيما يلاحظ عيد الحبل بوالدة الإله مريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية وكيف أنه لائقٌ جداً بالثلاثة الأقانيم الإلهية أن يسبقوا ويحفظوا مريم البتول ناجيةً من دنس خطيئة آدم وحواء: وفيه ثلاثة أجزاء *
† الجزء الأول †
* في كم هو لائقٌ هذا الحفظ بأقنوم الله الآب*
إن الاندثار والاضطرار التي قد سببتها الخطيئة الجدية الملعونة لأبينا آدم ولسائر الجنس البشري هي عظيمةٌ في الغاية، لأن آدم حينما خسر وقتئذٍ بتعاسةٍ نعمة الله، فقد خسر معها جملةً كل الخيرات الأخرى التي كان هو أستغني بها حين خلقه. ومعاً قد جلب لذاته ولذريته بأسرها بغضة الله جملةً مع الشرور كلها. غير أن الله قد أراد أن يحفظ من غوائل هذه المصيبة العظمى. تلك البتول المباركة التي قد أعدها تعالى مختارةً منه أماً عتيدةً لآدم الثاني يسوع المسيح، الذي كان مزمعاً أن يصلح الضرر المسبب من آدم الأول الساقط. فلنتأمل الآن في كم هو لائقٌ غاية اللياقة بالله الواحد المثلث الأقانيم، أن يسبق ويحفظ هذه البتول المجيدة من دنس الخطيئة الأصلية. وكيف أنه كان يليق بالله الآب أن يستثني هذه العذراء من غوائل الخطيئة المذكورة ومن مفعولاتها، بحسبما أنها هي ابنته عز وجل. وكيف كان يليق بالله الابن أن يصنع ذلك نحوها بحسبما هي أمه العتيدة أن تلده متجسداً منها، ثم كيف كان يليق بالله الروح القدس أن يصنع معها هذا بحسبما هي عروسته.*
فلنتكلم الآن عن هذه اللياقة المختصة بالله الآب الذي هو الأقنوم الأول من الثالوث الأقدس قائلين: أنه لأمرٌ لائقٌ جداً بالآب الأزلي أن يحفظ مريم البتول ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية، لأن هذه العذراء هي ابنته تعالى، بل هي ابنته البكر. كما كتب عنها: إنما أنا خرجت من فم العلي بكراً قبل جميع المخلوقات: (أبن سيراخ ص24 ع5) لأن مفسري الكتاب المقدس، والآباء القديسين بل الكنيسة الجامعة نفسها، خاصةً في عيد الحبل بمريم البريء من الدنس قد خصصت كلمات هذا النص الإلهي بوالدة الإله هذه الدائمة بكارتها. على أن مريم العذراء هي ابنةٌ بكرٌ لله. أما من قبيل كونها اختيرت منتخبةً جملةً مع ابنها يسوع المسيح بالمراسيم الأزلية قبل المخلوقات كلها، كما يعلّم ذلك المدارسيون السكوتيستيون، وأما أنها هي ابنةٌ بكرٌ لله بالنعمة بحسب كونها أعدت مختارةً أماً حقيقيةً لفادي الجنس البشري، بعد أن الله سبق وعرف الخطيئة العتيدة حدوثها، كما يعلّم المدارسيون التوماويون. إلا أن هؤلاء وأولئك على حدٍ سواء يتفقون برأيٍ واحدٍ في أن يسموا هذه البتول المجيدة ابنةً لله البكر، الأمر الذي هو مملوء من اللياقة. إنها أي مريم العذراء لا تكون وجدت أصلاً أسيرةً للوسيفوروس، بل دائماً أن تكون حصلت ممتلكةً من الله وحده خالقها، حسبما تقول هي عن نفسها: أن الرب اقتناني بدأً لطرقه قبل أن يصنع شيئاً من البدء: (أمثال ص8ع22) ومن ثم بالصواب قد دعيت هذه البتول من القديس ديونيسيوس البطريرك الأسكندري: أنها وحدها هي ابنةٌ وحيدةٌ للحياة، خلافاً لبقية الأنفس اللواتي يولدن بالخطيئة بناتٍ للموت.*
وما عدا ذلك أنه قد لاق في الغاية أن الآب الأزلي يخلق هذه الابنة في حال نعمته، لأنه عز وجل قد أقامها منتخباً إياها بصفة مصلحة للعالم الهالك، ووسيطة للصلح والسلام فيما بينه تعالى وبين البشر. حسبما يلقبها بذلك الآباء القديسون، خاصةً القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الأول على ميلادها) إذ يقول نحوها هكذا: أنكِ لقد ولدتِ أيتها البتول المباركة، لتستخدمي صائرةً خلاصاً لسكان الأرض كلها: ولذلك يعلم القديس برنردوس قائلاً: أن سفينة نوح كانت رسما لمريم العذراء لأنه كما أن البشر قد خلصوا من الغرق العرمرمي بواسطة تلك السفينة، فهكذا نحن خلصنا من غرق الخطيئة بواسطة مريم، غير أن الفرق الكائن فيما بين الرسم والحقيقة هو أنه بواسطة السفينة النوحية قد خلص نفرٌ يسيرٌ (أي ثمانية أشخاص فقط) وأما بواسطة مريم فقد خلص الجنس البشري بأسره، ولذلك يسميها القديس أثاناسيوس الكبير أنها هي حواء الجديدة أم الحياة. لأن حواء الأولى قد وجدت هي أم الموت، وأما البتول المجيدة فهي أم الحياة. والقديس ثاوفانوس أسقف نيقية يتفوه نحوها هاتفاً: السلام عليكِ يا مصلحة حزن حواء المنقذة إياها من الغموم. والقديس باسيليوس الكبير يصرخ إليها قائلاً: السلام عليكِ يا وسيطة الصلح فيما بين الله والبشر. والقديس أفرام السرياني يهتف نحوها بقوله: السلام عليكِ يا مصالحة العالم بأسره مع خالقه.*
فأمرٌ واضحٌ هو أن من يدخل وسيطاً فيما للصلح، لا ينبغي أن توجد فيما بينه وبين المهان من الفريق المهين أدنى عداوةٍ. وبأكثر من ذلك يلزمه أن يكون ناجياً من الاشتراك بجريرة الإهانة عينها. لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: أنه لكي يستعطف خاطر القاضي ويهدئ غضبه لا يحب أن يمضي إليه وسيطاً بذلك، رجلٌ يكون عدواً له، وإلا فعوضاً عن اكتساب رضوان القاضي واجتلابه إلى الصفح يشتد بالأكثر رجزه ضد المذنب. ولهذا إذ كان يلزم أن مريم تدخل وسيطةً للصلح فيما بين الله والبشر، فبكل الوجوه واللياقة كان يلزمها أن لا توجد هي أيضاً مدنسةً بالخطيئة، ولا تظهر أمامه تعالى مشابةً بالعداوة له عز وجل، بل كان يقتضي أن توجد بكليتها صديقةً له بريئة من الذنب، ناجية من دنس المعصية.*
ثم بأبلغ من ذلك، لاق واجباً أن الله يسبق ويحفظ هذه البتول من تبعة الخطيئة الجدية، لأنه جلت قدوسيته قد كان أعدها مختاراً إياها لأن تسحق رأس الحية الجهنمية، التي لكونها خدعت أبوينا الأولين، فقد سببت بسقطتهما الموت للجنس البشري جميعه. كما يظهر مما قاله الحق بالذات، إذ أبرز الحكومة ضد هذه الحية الخبيثة بقوله لها: وأضعن العداوة بينكِ وبين الامرأة. وبين نسلكِ ونسلها وهي تسحق رأسكِ: (تكوين ص3ع15) فإن كانت مريم إذاً هي تلك الامرأة الشجاعة التي أوجدها الله في العالم لتنتصر على لوسيفوروس، فبالحقيقة لم يكن لائقاً أن تكون هي قبلاً وجدت مغلوبةً من هذا العدو الجهنمي حاصلةً تحت أسره، بل بالأحرى قد كان بالصواب أن توجد هي بريئةً من دنس كل خطيئةٍ، وناجيةً من أية ولايةٍ كانت للعدو الجحيمي عليها، فأي نعم أن لوسيفوروس المتعجرف قد اجتهد في أن يدنس نفس هذه البتول الكلية الطهارة، بالنوع الذي به قد كان دنس بسمه القتال أنفس جميع البشر. ولكن فليكن دائماً مسبحاً وممجداً صلاح الله الذي سبق لأجل ذلك وأملأ هذه النفس المباركة نعماً هكذا عظيمةً، حتى أنها إذ استمرت ناجيةً من تبعة المعصية، وسالمةً من دنس كل خطيئةٍ. فقد استطاعت على هذه الصورة أن تحارب الحية الجهنمية المتكبرة وتغلبها منتصرةً عليها، كما يقول القديس أوغوسطينوس: ( أو ذاك المنسوب له تفسير سفر التكوين): إنه إذ كان الشيطان هو رأس الخطيئة الأصلية، فمريم قد سحقته لأجل أن الخطيئة لم تجد في نفسها النقية مدخلاً، وهي وجدت بريئةً من كل دنسٍ. ثم كما يقول القديس بوناونتورا واضحاً: أنه قد كان واجباً أن مريم البتول الطوباوية المزيحة عنا العار والإهانة تنتصر على الشيطان، بحسب كونها لم تحصل تحت حوزته بنوعٍ من الأنواع أصلاً.*
إلا أنه بوجهٍ أخص من كل الأوجه – لائق أولاً وبدأً بالآب الأزلي أن يصير ابنته هذه خاليةً بالكلية من دنس خطيئة آدم، من هذا القبيل خاصةً، وهو من كونه انتخبها وميزها وأعدها لأن تكون أماً بالجسد لابنه الإلهي الوحيد. ولذلك يقول نحوها القديس برنردينوس السياني: أنكِ قد انتخبتِ مرسومةً في عقل الله قبل الخلائق كلها، لكي تعطي أنتِ الكون الإنساني لله عينه: فإذاً قلما يكون لأجل هذه الغاية إذا لم تكن غاياتٌ أخرى غيرها. أي لكي يكرم الله الآب ابنه الذي هو إلهٌ مساوٍ له، فكان من الصواب أنه تعالى يخلق والدة ابنه هذه بريئة من كل دنسٍ وعيبٍ. فيقول المعلم الملائكي القديس توما: أن كل الأشياء التي رسمت مختصةً بالله، يلزمها أن تكون مقدسةً نقيةً طاهرةً ناجيةً من كل دنسٍ أم وصمةٍ أو عيبٍ. ومن ثم عندما كان هيأ داود الملك تلك المواد العظيمة من الجواهر والذهب والفضة والنحاس وكل ما كان يلزم لتشييد هيكل الله في أورشليم بنوعٍ لائقٍ بالرب قال: لأن هذا البنيان العظيم ليس هو لإنسانٍ بل لله رب العالمين: (سفر الأيام الأول ص29ع1) فكم إذاً بأبلغ من ذلك يلزمنا أن نعتقد بالصواب في أن خالق الكون الأعظم، حينما هيأ لابنه الإلهي عينه أماً، قد لزم الأمر أن يجملها عز وجل بجميع تلك النعم الأثمن والأسمى، لكي تكون مسكناً لائقاً بإلهٍ.
ويثبت هذا القول نفسه الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس، بل أن الكنيسة المقدسة عينها تحقق لنا ذلك بشهادتها في أن الله قد هيأ نفس البتول الطوباوية وجسدها، وأعدهما ليكونا منزلاً لائقاً في الأرض لابنه الوحيد. إذ يقول في صلواتها نحو الله الآب هكذا: أيها الإله الأزلي القادر على كل شيءٍ، يا من هيأت نفس العذراء الأم المجيدة وجسدها بنوعٍ يليق لسكنى ابنكَ، كما أن روحكَ القدوس قد شارككَ في هذا الاستعداد:*
فأمرٌ معلومٌ هو أن كرامة الأولاد الأولى وشرفهم الأول هو إتلادهم من والدين شرفاء، كما هو مكتوبٌ: أن فخر الأولاد أباؤهم: (أمثال ص17ع6) ولذلك فالاحتقار الذي يلم بأولئك الأولاد من قبيل أنهم لم يملكوا خيراتٍ أرضيةٍ أو علوماً، هو محتملٌ في العالم بأكثر سهولةٍ من الاحتقار الملم بأولئك المولودين مولداً ذا عيبٍ وإهانةٍ. لأن الابن الفقير يمكنه أن يكتسب بأتعابه وجهده الغنى ويصير مثرياً من الموجودات، وكذلك الابن العاري من العلوم يمكنه درسها وإكتسابها ولو بعد حينٍ، وأما المولود من سلالةٍ دنيةٍ أو معابةٍ، فأمرٌ كلي الصعوبة هو أن يمكنه البلوغ إلى مراتب الشرف. وإذا أتفق له أن يحصل على ذلك فدائماً يبقى تحت الخوف من أن أحداً يعيره بدناءة أصله، أو بشائبة مولده، أم بعيب سلالته. فكيف إذاً يمكننا أن نتصور أمراً مستطاعاً لائقاً أن الله الآب، إذ هو قادرٌ أن يجعل ابنه أن يولد متجسداً من أمٍ شريفةٍ بشرفٍ حقيفيٍ. وهو حفظه إياها ناجيةً من دنس الخطيئة بنعمةٍ خصوصيةٍ منه، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل شاء أنه يتجسد من أمٍ معابةٍ بجريرة الإثم والمعصية، سامحاً بأن لوسيفوروس يستطيع أن يعيره بأنه ولد من أمٍ حصلت في وقتٍ ما أسيرةً تحت حوزته الجهنمية عدوةً لله، لا لعمري أن الله الآب لم يسمح بذلك قط، لكنه سبق ودبر ما يليق بكرامة ابنه الوحيد، مصيراً أن تكون والدة هذا الابن الإلهي مستثناةً محفوظةً بريئة من العيب، وناجية من دنس المعصية الأصلية، لتوجد بكليتها أماً لائقةً لأبنٍ هذه صفته. فهكذا تشهد لنا الكنيسة اليونانية في المينولوجيون في فرض اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار قائلةً: أن العناية الإلهية قد صنعت البتول الكلية القداسة بتدبيرٍ خصوصيٍ كاملةً، من قبل أن تبتدئ هي بالحياة. نقيةً طاهرةً بريئةً من العيب، بنوع أنها تكون بكليتها لائقةً ومستحقةً أن تصير للمسيح أماً.*
فرأيٌ عامٌ فيما بين اللاهوتيين متفقٌ عليه من جميعهم هو أنه لم يكن منح قط لإحدى المخلوقات نوعٌ ما من المواهب، إلا وقد وجدت الطوباوية مريم البتول غنيةً بذاك النوع نفسه مما نالته من الله، فهكذا يقول القديس برنردوس: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن الشيء الذي منح لبعض البشر لا يمكن أن يكون نكر أعطاؤه لبتولةٍ هكذا عظيمةٍ: ويقول القديس توما الفيلانوفي: أنه لم يكن منح أصلاً شيءٌ ما من المواهب لأحدٍ من القديسين. إلا وقد تلألأ بنوعٍ متفاضلٍ سامٍ جداً في شخص مريم البتول منذ الدقيقة الأولى من حياتها.*
ومن حيث أنه أمرٌ حقيقيٌ هو أنه فيما بين والدة الإله وبين عبيد الإله يوجد فرقٌ لا يحد، كقول القديس يوحنا الدمشقي الذائع الصيت: أنه لتباعدٌ غير متناهٍ كائنٌ فيما بين عبيد الله وبين أمه تعالى: فأمرٌ صادقٌ هو أن يحتسب بالحقيقة أن الله قد منح إنعاماتٍ واختصاصاتٍ ساميةً جداً لوالدته بالجسد، متفاضلةً جداً عن تلك التي منحها لعبيده، وهذا هو تعليم القديس توما اللاهوتي القائل: أنها لأعظم وأجل في كل نوعٍ، ومتميزةٌ جداً هي النعم والاختصاصات الممنوحة لوالدة الإله، وفائقةٌ في الغاية عن تلك الممنوحة لعبيده عز وجل: فإذا افترضنا ذلك حقيقةً فيبرهن عنه القديس أنسلموس المحامي العظيم عن الحبل البريء من الدنس بوالدة الإله إذ يقول هكذا:” أهل أن حكمة الله لم تستطع أن تهيئ لابنه الإلهي مسكناً طاهراً نقياً بحفظها هذا المسكن بريئاً من كل دنسٍ ملتحقٍ بالطبيعة الإنسانية، أو هل أن الله الذي استطاع أن يحفظ الملائكة في السماء غير معابين ولا مدنسين بجريرة الإثم، في حين سقوط عددٍ عظيمٍ من الأرواح الشريرة، وما قدر مع ذلك أن يحفظ والدة ابنه التي هي سلطانة الملائكة من تبعة سقطة البشر العامة”. ثم أني أضيف الى ذلك قائلاً هل أن الله قد أستطاع أن يعطي النعمة لحواء أمنا الأولى بأن تأتي إلى العالم بريئةً من العيب والدنس في حال البر الأصلي، وبعد ذلك ما قدر تعالى أن يعطي النعمة لمريم العذراء.*
كلا، إن الله قد استطاع أن يصنع هذا حسناً وقد فعله حقاً. إذ أن الصواب والعقل النطقي يوجبانه بكل لياقةٍ، كما يقول القديس أنسلموس عينه هكذا:” أن تلك البتول التي قد أعدها الله لأن يعطيها ابنه الإلهي نفسه ابناً لها، قد صيرها مزينةً بنقاوةٍ هذا حدها، حتى أنها ليس فقط تفوق بطهارتها على البشر جميعاً وعلى الملائكة كافةً، بل أيضاً أن تكون هي الأعظم بعد الله فيما يمكن للفهم أن يدركه”. وبأكثر أيضاحٍ من ذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله قد حفظ مريم البتول وجسدها بحسبما كان يليق بها أن تقتبل في أحشائها الإله متجسداً، على أنه من حيث أن الله قدوسٌ هو ميستريح في القديسين.*
ومن ثم قد استطاع حسناً أن يتفوه الآب الأزلي نحو أبنته هذه المحبوبة منه قائلاً: كسوسنٍ بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات، (نشيد ص2ع2) أي أنكِ يا ابنتي لكائنةٌ أنتِ فيما بين جميع بناتي الآخرات كزهرة الزنبق بين الأشواك. لأن تلك البنات كلهن مدنساتٌ بجريرة المعصية وبتبعة الخطيئة، وأما أنتِ فوجدتِ دائماً بريئةً من الدنس ناجيةً من العيب صديقةً حبيبةً لي كقرينةٍ طاهرةٍ.*
†
† الجزء الثاني †
* في أنه لائقٌ بالأقنوم الثاني الذي هو الأبن أن يسبق ويحفظ مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أمه*
أنه لم تفوض لإرادة الأولاد أصلاً، ولا لأحدٍ منهم على الإطلاق، الحرية والاستطاعة على أن يختار كلٌ منهم لذاته أماً له تلك التي هو يريدها، إذ أنه لمن المستحيل أن يوجد ابنٌ قبل والدته ليمكنه أن يختارها لذاته على مشيئته، ولكن إذا فرضنا المحال وهو أن نعمةً هذه صفتها أعطيت من الله لنفس ابنٍ قبل كيانه. أي أن يختار لذاته أماً من يشاءها، وبالتالي كان يمكن لهذا أن يختار إحدى الملكات المعظمات أماً له، فهل يعدل عنها وينتخب لذاته والدةً إحدى الأسيرات اللواتي هن في رقّ العبودية، أو إذ كان يستطيع أن يختارها من بين النساء المتقدمات بالشرف. فهل ينتخب عوضاً عن الشريفة إحدى الفلاحات الحقيرات، أم إذا كان يقدر أن يخصص لذاته أماً تكون في حال نعمة الله وصداقته، أفهل ينتخب لنفسه بدلاً منها أماً عدوةً له تعالى ومبغوضةً منه. فإن كان إذاً ابن الله الأزلي وحده قد استطاع أن يختار لذاته أماً يتجسد منها متأنساً، وقدر أن ينتخبها بمجرد إرادته ومشيئته المطلقة، فيلزمنا أن نعتقد يقيناً بأنه عز وجل قد اختار لذاته تلك التي كانت تليق أن تصير أماً لإلهٍ. فهكذا يقول القديس برنردوس: أن صانع البشر إذ أراد أن يولد من بشرٍ، فيلزم أن يختار لنفسه تلك الأم اللائقة به: ومن حيث أنه لائقٌ في الغاية بإلهٍ كلي النقاوة هو أن يختص لذاته أماً طاهرةً بريئةً من دنسٍ أية خطيئةٍ أو زلةٍ كانت. فعلى هذه الصورة قد صنع والدته ناجيةً من دنس الأثم، كما يثبت ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أما نظراً إلى تقديس الأم، فأمرٌ ضروريٌ هو أن يبعد عنها مطلقاً كل نوعٍ من الخطيئة الأصلية، فهذا الأمر تم في الطوباوية مريم البتول، لأن الله بالحقيقة قد خلق أماً هذه صفتها شريفةً في الطبيعة، وكاملةً في النعمة بنوعٍ يليق أن تكون هي به أماً له.*
وهذا هو موافقٌ لما كتبه الرسول الإلهي بقوله: أن مثل هذا لائقٌ أن يكون لنا رئيس كهنةٍ باراً لا شر فيه ولا دنس، منفصلاً عن الخطأة وصائراً أعلى من السموات: (عبرانيين ص7ع26) فعن هذا النص يقول أحد العلماء البارعين: أنه على موجب تعليم القديس بولس: لائق وواجب أن فادينا يكون منفصلاً ليس عن الخطايا فقط. بل عن الخطأة أيضاً: كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي قائلاً: قد كان واجباً به تعالى الذي، إنما جاء إلى العالم ليرفع خطيئة العالم أن يكون منفصلاً من الخطأة، نظراً إلى الذنب الذي حصل آدم تحت تبعته. فإذاً كيف لكان يمكن أن يصدق القول عن يسوع المسيح أنه منفصلٌ عن الخطأة، لو كان أتخذ له أماً قد وجدت مدنسةً بجريرة الخطيئة الأصلية.*
ثم أن القديس أمبروسيوس يقول: أن المسيح قد اختار لذاته هذا الإناء ليس من الأرض بل من السماء، لكي ينحدر بواسطته من السماء إلى الأرض، وقد كرسه لذاته هيكلاً طاهراً مقدساً. مريداً بذلك هذا القديس أن يشير عن كلمات الرسول الإلهي وهي: أن الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء: (قرنتيه أولى ص15ع47) وإنما يسمي القديس أمبروسيوس هذه الأم الإلهية إناءً سماوياً، لا كأنها لم تكن هي من الأرض بحسب طبيعتها: كما حلم الأراتقة. بل هي سماوية بالنعمة، لأنها هي فائقةٌ على الملائكة السماويين بالقداسة والطهارة. حسبما كان يليق بإله المجد الذي أعدها لأن يسكن فيها متجسداً من أحشائها. كما أوحى القديس يوحنا المعمدان للقديسة بريجيتا بقوله لها: أنه لم يكن لائقاً بملك المجد أن يسكن قاطناً، إلا في الأناء الكلي النقاوة، والمنتخب منه قبل الملكية والبشر أجمعين. وليضف إلى ذلك ما أعلنه الآب الأزلي نفسه بالوحي لهذه القديسة وهو: أن مريم قد كانت إناءً نقياً وليس بنقيٍ، وهي نقيةٌ لأنها جميلةٌ بكليتها، وليست بنقيةٍ لأنها ولدت من والدين مدنسين بالخطيئة الأصلية، ولكن قد حبل بها غير مدنسةٍ بالخطيئة الجدية، لكي يولد منها ابني من غير خطيئةٍ: فينبغي هنا أن نلاحظ هذه الكلمات الأخيرة، أي حبل بها من دون خطيئةٍ، لتلد الابن الإلهي خارجاً عن خطيئةٍ، لا كأنه كان ممكناً أن ابن الله يولد بالخطيئة، بل كيلا يحصل مهاناً من قبيل كونه ولد من أمٍ وجدت وقتاً ما مدنسةً بالخطيئة الأصلية أسيرةً للعدو الجهنمي.*
فالروح القدس يقول: أن كرامة المرء هي كرامة أبيه، وقباحة الابن هي الأب بلا كرامةٍ: ( ابن سيراخ ص3ع13) ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن يسوع المسيح قد حفظ جسد مريم البتول والدته بريئاً من الفاساد بعد موتها، لأنه لكان الأمر راجعاً لإعانته تعالى، لو كان اعترى الفساد والنتن لحمان جسد هذه السيدة البتولي، الذي منه هو كان لبس الناسوت. فإذاً إن يكن أمراً مهيناً ليسوع المسيح أن يولد من أمٍ ذات جسدٍ لم يكن محفوظاً من فساد النتانة بعد الموت، فكم لكانت الإهانة له عز وجل أعظم، لو أنه ولد من أمٍ كانت نفسها تدنست بنتانة فساد الخطيئة الأصلية. ثم ما عدا ذلك أنه لشيءٌ حقيقيٌ هو أن جسد يسوع المسيح هو من جسد مريم البتول بعينه، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن لحمان جسد المخلص قد استمرت بعد قيامته من الموت أيضاً هي هي نفسها التي كان هو لبسها من جسد والدته العذراء. ومن ثم يقول القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن جسد يسوع وجسد مريم هما جسدٌ واحدٌ، ولذلك أنا أعتبر أن مجد ابن الله مع مجد والدته ليسا هما مجداً مشتركاً فقط، بل مجدٌ هو هو بعينه: فإذاً من حيث أن ذلك هو شيءٌ حقيقيٌ. فلو كان الحبل بالطوباوية مريم البتول قد تم بحال دنس الخطيئة الأصلية، فلئن لم يكن ابنها الإلهي اتخذ عنها ومنها هذا الدنس لذاته أصلاً، فمع ذلك لكان التحق به تعالى على الدوام نوعٌ ما من العيب، لاتخاذه لذاته لحماناً ناسوتيةً قد كانت وقتاً ما مدنسةً بنفس أمه الملتحق بها دنس الخطيئة الجدية، والصائرة إناءً قبيحاً. والخاضعة لولاية لوسيفوروس.*
فمريم الطوباوية هي ليست أماً فقط للمخلص. بل هي أمٌ لائقةٌ أيضاً ومستحقةٌ له عز وجل، كما يسميها الآباء القديسين كافةً. فيقول نحوها القديس برنردوس: أنكِ أنتِ وحدكِ وجدتِ أهلاً ومستحقةً لأن يسكن في حجرتكِ البتولية ملكَ الملوك، الذي قبل أن يقطن فيكِ قد سبق وأعدكِ لذاته. ويقول القديس توما الفيلانوفي: أن مريم البتول من قبل الحبل الإلهي وجدت موضوعاً قابلاً بلياقةٍ لأن تصير أماً لله. بل أن الكنيسة المقدسة نفسها تشهد لنا في إحدى صلواتها: بأن البتول القديسة قد استحقت أن تكون أماً ليسوع المسيح: وفي هذا الشأن كتب القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن مريم ليس من ذاتها استطاعت أن تستحق تجسد الكلمة الإلهي من أحشائها، بل أنها بقوة النعمة الإلهية قد استحقت هذا الكمال الذي جعلها أهلاً ومستحقةً لأن تكون أماً لائقةً لإلهٍ: وكذلك يقول القديس بطرس داميانوس: إنها لأجل سمو قداستها الفريدة من قبل نعمة الله قد استحقت أن تعتبر أهلاً لأن تقتبل الله في أحشائها.*
فإذا تبرهن كما تقدم القول، أن مريم البتول قد وجدت أماً مستحقةً وأهلاً لله، فأية درجةٍ ساميةٍ من الفضيلة والكمال لائقة بها (كما يقول القديس توما الفيلانوفي) ثم إ المعلم الملائكي نفسه يورد قائلاً: أن الله حينما يختار أحداً إلى دعوةٍ أو مرتبةٍ ما، فهو تعالى يصيره موضوعاً قابلاً لذلك بلياقةٍ. ومن ثم إذ أنه عز وجل قد اختار مريم أماً له، فبالحقيقة قد صيرها بواسطة نعمته موضوعاً لائقاً مستحقاً لهذا المقام، ولذلك هذه البتول القديسة لم تسقط قط بخطيئةٍ فعليةٍ، حتى ولا بخطيئةٍ عرضيةٍ، وإلا لما كانت وجدت هي أماً أهلاً ولائقةً ليسوع المسيح، لأن عيب هذه الأم وعدم استحقاقها لكان يلتحق بابنها أيضاً، لحصوله على أمٍ خاطئةٍ. فإن كان إذاً افتراض سقوط مريم البتول بخطيئةٍ واحدةٍ عرضيةٍ، التي لا تعدم النفس نعمة التقديس، لكان يجعلها أماً غير لائقةٍ ولا أهلاً لله، فكم بأعظم من ذلك لما كانت وجدت أهلاً لأن تصير أماً له جلت قدوسيته، لو كانت نفسها تدنست بالخطيئة الأصلية المهلكة، التي كانت صيرتها عدوةً لله وأسيرةً للشيطان، ولهذا قال القديس أوغوسطينوس في تلك الحكومة الشائعة الذكر وهي: أنه حينما يأتي الخطاب عن مريم العذراء، فلم يود أن يؤتى بذكر شيءٍ يمكن أن يتضمن زلةً ما من الزلات، أو نقصاً ما من النقائص، لأجل كرامة ذاك الرب الذي هي استحقته ابناً لها، وبواسطته قد فازت بالنعمة التي بها انتصرت على الخطيئة من كل جهاتها.*
فمن ثم يلزمنا أن نعتبر أمراً حقيقياً صادقاً أن كلمة الله المتجسد قد انتخب لذاته أماً لائقةً به. بنوع أنه لا يلحقه من جرائها أدنى خجالةٍ. كما يبرهن القديس بطرس داميانوس، وحسبما يورد القديس بروكلوس قائلاً: أن الرب قد سكن في تلك الأحشاء التي هو تعالى خلقها بريئةً من العيب. فمخلصنا لم يكن يغتاظ أصلاً من تسمية اليهود إياه. بنية أن يحتقروه: ابن مريم: كأنه ابن أمرأةٍ فقيرةٍ بقولهم: أليس أن أمه تسمى مريم: (متى ص13ع55) فهذا لم يسبب له تعالى عاراً، لأنه جاء إلى الأرض ليعطي نموذج التواضع والصبر، ولكن من دون ريبٍ لقد كان بضد ذلك حصل له هوانٌ وسبب له العار، لو أمكن للشيطان وملائكته أن يقولوا عنه: أليس هذا هو المولود من مريم التي في وقتٍ ما وجدت مدنسةً بالخطيئة، وكانت حاصلةً أسيرةً لنا تحت حوزتنا: فلقد كان أمراً غير لائقٍ بالمخلص، لو كان يولد من أدامرأةٍ مسقومةٍ بنقصٍ جسديٍ يعيبها ويبشع صورتها، أم أنها تكون معتراةً من الشيطان بجسدها، ولكن كم لكان عظم الإهانة له، لو أنه ولد من امرأةٍ كانت حيناً ما قبيحة النفس ببشاعة الخطيئة الجدية، ومعتراة نفسها من لوسيفوروس المستولي عليها.*
فغير ممكنٍ أن هذا الإله الذي هو الحكمة بالذات ألا يعرف أن يهيئ لذاته في الأرض ذاك البيت اللائق لسكناه الذي كان هو مزمعاً أن يقطن فيه. والحال أنه قد كتب: أن الحكمة ابتنت لها بيتاً ودعمته بسبعة أعمدة: (أمثال ص9ع1) ولقد قدس العلي مسكنه، الله في وسطها فلن تتزعزع، يعينها الله من الغداة: (مزمور 46ع6) أي أن الله من الغداة المعبر عنه في بدء حياة مريم، قد أعانها وقدسها مسكناً له، ليعدها أماً لائقةً لذاته لأنه لم يكن ممكناً ولا لائقاً بإلهٍ كلي القداسة ألا يختار لذاته بيتاً مقدساً ليسكن فيه، كما يقول المرتل نحو الله: لبيتكَ ينبغي التقديس يا رب إلى طول الأيام: (مزمور93ع5) والحال أن الباري تعالى يعلن واضحاً أنه لن يدخل هو الى نفسٍ معابةٍ، ولن يقطن في جسدٍ مجرم بجريرة الأثم، إذ يقول: لأن النفس الرديئة صناعتها لن تدخل الحكمة عليها، ولن تسكن في جسمٍ غريمٍ للخطايا: (حكمة ص1ع4) فكيف إذاً نقدر نحن أن نفتكر في أن ابن الله قد اختار أن يسكن في نفس مريم البتول وفي جسدها، قبل أن يكون حفظها ناجيةً من كل شائبةٍ وعيبٍ صادرٍ عن دنس الخطيئة، وقبل أن يكون قدسها. فالقديس توما اللاهوتي يقول: أن كلمة الآب الأزلي قد سكن ليس في نفس مريم فقط، بل في مستودعها وفي أحشاء جسدها أيضاً: ولذلك ترتل الكنيسة المقدسة بقولها: أنك لم تأنف أيها السيد من أن تقطن في بطن البتولة. على أنه لقد كان أمراً تأنف منه الطبيعة الإلهية أنه تعالى يتجسد متأنساً في أحشاء القديسة أنيسا مثلاً، أو في مستودع القديسة جالتروده، أو في بطن القديسة تريزيا، لأن هؤلاء ولئن كن قديساتٍ بتولاتٍ طاهراتٍ، إلا أنهن مع ذلك في وقتٍ ما كن مدنساتٍ بالخطيئة الأصلية التي هن أتلدن بها، ولكن لم يأنف عز وجل من أن يتأنس في أحشاء مريم البتول، لأن هذه العذراء المجيدة المحبوبة قد وجدت دائماً بريئةً من الدنس، وخائبةً من أدنى شائبةً أو عيبٍ صادرٍ عن الخطيئة، وقط لم تدخل تحت حوزة الحية الجهنمية ولا هنيةً زهيدةً من الزمان. ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن أبن الله لم يصنع لذاته بيتاً آخر أشرف من والدته مريم، التي قط لم تكن خضعت لأعدائه ولا تعرت من زينتها: وبالخلاف يقول القديس كيرللس الأسكندري (في العدد السادس من أعمال المجمع الأفسسي):” من سمع أن أحد علماء المهندسين، بعدما كان يشيد لذاته بيتاً خاصاً، فيعطي فيه حق التملك والاستيلاء عليه أولاً وبدءاً لعدوه الألد”. ولهذا يقول القديس متوديوس: أن ذاك الرب الذي أمرنا بوصيته بأن نكرم والدينا، لم يرد تعالى إذ تجسد متأنساً أن يهمل تكميل هذه الوصية، بل أنه أعطى والدته كل نوعٍ من الكرامة والنعمة. ولذلك يبرهن القديس أوغوسطينوس، بأنه يلزم بالحقيقة أن يعتقد في أن يسوع المسيح قد حفظ من الفساد جسد أمه مريم بعد موتها، كما سبق القول، لأنه إذا لم يكن يصنع هذا لما كان حفظ حقاً الشريعة المرسومة منه التي، كما أنها تأمر بتكريم الوالدين، كذلك تنهي عن إهانتهم.*
فكم لكان نقص يسوع في تكريم والدته، لو أنه لم يكن حفظها من تبعة خطيئة آدم، فيقول الأب توما أرجانتينا أحد رهبان قانون القديس أوغوسطينوس: أنه يرتكب الخطأ من دون ريبٍ ذاك الابن الذي، مع مقدرته على أن يحفظ والدته من دنس الخطيئة الأصلية لا يريد أن يفعل ذلك. فالشيء الذي يحسب علينا خطيئةً يلزم أن يعتقد أنه لم يكن ملائماً لكرامة ابن الله أن يفعله، أي أن يهمل خلقه والدته بريئةً من العيب، مع مقدرته على خلقها كذلك: كلا، أنه تعالى لم يهمل أن يصنع ذلك، حسبما يهتف العلامة جرسون قائلاً نحو مخلصنا هكذا: إنك إذا أردت أيها الملك السماوي أن تختار أماً لذاتك فكان يلزمك بالحقيقة أن تكرمها، والحال أنه لكان أمراً واضحاً جداً أنك لم تكن أكملت بالصواب هذه الشريعة، لو أنك تكون سمحت بأن دنس الخطيئة الأصلية الرجس يلتحق بتلك التي كان يلزمها أن توجد مسكناً للنقاوة بجملتها. وما عدا ذلك أنه أمرٌ واضحٌ هو ما يقوله القديس برنردينوس السياني: إن الابن الإلهي جاء إلى العالم لينقذ بنوعٍ أخص مريم العذراء فضلاً عن سائر الجنس البشري. ومن حيث أنه كتعليم القديس أوغوسطينوس يوجد نوعان بهما يتم الإنقاذ: فأحدهما هو إنهاض ذاك الذي يكون سقط، وثانيهما هو تدبير طريقةٍ بها يحفظ هو من أن يسقط. ومن دون ريبٍ أن النوع الثاني هو الأشرف (كما يقول القديس أنطونينوس) لأنه بذلك تصير النجاة من الضرر ومن العيب اللذين دائماً يلتحقان بنفس من يسقط بخطيئةٍ. فمن ثم بهذا النوع الثاني الأشرف والأليق بمن هي والدة الإله ينبغي واجباً أن يعتقد في أن مريم قد أنقذت. إذ أن القديس بوناونتورا في عظته الثانية على نياح والدة الإله ( العظة التي هي بالحقيقة له كما يبرهن العلامة فراسان) يقول هكذا: أنه يلزم أن يعتقد بأنه في نوع التقديس الجديد المختص بالحبل بهذه السيدة، فالروح القدس في الدقيقة الأولى حررها معتقاً من تبعة الخطيئة الأصلية (لا كأنها وجدت مدنسةً بها وهو بررها منها، بل أنه جعلها الا تتدنس بها) وهكذا بنعمةٍ خصوصيةٍ حفظها منها: وقد كتب في هذا الشأن الكردينال كوزانوس عباراتٍ جليلة بقوله: أن الآخرين قد فازوا بالمسيح مخلصاً إياهم من الخطيئة التي قد فعلت، وأما مريم البتول فقد فازت بهذا المخلص منجياً إياها من أن تلتحق بها جريرة الخطيئة مطلقاً.*
وبالإجمال اختتاماً لهذا الجزء يقول أوغون الذي من سان فيتورة: أنه من الثمرة تعرف الشجرة. فإن كان الخاروف حمل الله قد وجد دائماً بريئاً من العيب، فيلزم أن تكون والدته كذلك دائماً بريئةً من العيب: ومن ثم يتفوه نحوها هذا العلامة نفسه قائلاً: يا لكِ من أمٍ مستحقةٍ ابنٍ مستحقٍ (مريداً أن يبين المعنى بأن مريم العذراء وحدها وجدت أهلاً ولائقةً أن تصير أماً لإبن إلهي هذه صفة عظمته وقداسته. الذي هو وحده استحق أماً هذا حد نقاوتها وطهارتها التي هي هذه البتول المجيدة): يا لكِ من مستأهلةٍ لمستأهلٍ، وجميلةٍ لجميلٍ، وساميةٍ لسامٍ: فلنقل إذاً نحو هذه السيدة العظيمة (مع القديس أيدالفونسوس) هكذا: يا مريم رضعي خالقكِ، أغدي باللبن ذاك الذي صنعكِ، وقد جملكِ بهذا الحد من النقاوة والكمال، حتى أنكِ استحقيتِ أن يتخذ هو منكِ الطبيعة الإنسانية:*
† الجزء الثالث †
في أنه أن كان لائقٌ بالله الآب أن يحفظ مريم البتول بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي ابنته، ولائقٌ بالله الابن أن يصنع معها ذلك، بحسبما هي أمه… ولائقٌ أيضاً بالله الروح القدس أن يفعل معها هذا بحسبما هي عروسته.*
فيقول القديس أوغوسطينوس:” أن مريم قد كانت هي تلك التي وحدها أستحقت أن تسمى والدة الله وعروسته معاً”. على أن القديس أنسلموس يبرهن:” أن الروح الإلهي قد جاء وحل فيها جسدياً، وإذ أغناها من النعم فوق المخلوقات كلها، فقد استراح فيها، وصير سلطانة السماوات والأرض هذه عروسةً له”. وإنما قال عن الروح القدس أنه حل فيها جسدياً ليعنى ثمرة حلوله بها، لأنه تعالى حل فيها ليصور من ناسوتها البريء من العيب ذاك الجسد الكلي الطهارة ليسوع المسيح. حسبما سبق رئيس الملائكة جبرائيل وأخبر هذه البتول بقوله لها: روح القدس يحل فيكِ: (لوقا ص1ع35) ولذلك يقول القديس توما المعلم الملائكي: أنه لأجل هذه الغاية تسمى مريم هيكل الرب. ومقدس الروح القدس، وهي لأنها بقوة معل الروح القدس قد صارت أماً لكلمة الله المتجسد.*
فإذاً لو كان ممكناً أن يعطى من الله أحد المصورين أن الامرأة التي هو يصور صورتها حسبما يريد، جميلةً كانت أو شنيعةً، فهذه نفسها ستكون له عروسةً شرعيةً، فترى كم من الجهد والعناية لكان يبذل هذا المصور في أن يجعل تلك الصورة بهيةً جميلةً فائقةً على كل ما سواها. فمن يمكنه إذاً أن يقول، أن الروح القدس لم يصنع نظير ذلك مع مريم البتول. أي أنه تعالى مع كونه قادراً على خلقها بتلك النقاوة وجمال النفس الفائق البهاء. لتكون عروسةً له، فلم يخلقها هكذا، كلا، أنه عز وجل قد خلقها بريئةً من الدنس لأنه هكذا كان يليق به أن يصنع وكذلك حقاً صنع. حسبما يشهد هو نفسه الحق بالذات في مديحه هذه المخلوقة الجليلة قائلاً نحوها: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ (نشيد ص4ع7) فهذه الكلمات تفهم بالحصر عن مريم العذراء. كقول القديسين أيدالفونسوس وتوما اللاهوتي، كما يورد كورنيليوس الحجري في تفسيره هذا النص، بل أن القديسين برنردينوس السياني، ولورانسوس يوستينياني يبرهنان على أن الكلمات المذكورة قيلت عن مريم العذراء حين الحبل بها البريء من الدنس. ومن ثم يخاطب هذه السيدة أيديوطا العلامة قائلاً: أنتِ كلكِ جميلةٌ أيتها البتول الكلية المجد، أي ليس بالتجزيء أنتِ جميلةٌ بل بكليتكِ، وليس فيكِ عيبٌ لا من دنس الخطيئة المميتة، ولا من تبعة الخطيئة العرضية ولا من جريرة الخطيئة الأصلية.*
وإلى هذا المعنى نفسه قد أشار الروح القدس حينما دعا عروسته هذه بستاناً مغلقاً بقوله: إن أختي العروسة هي بستانٌ مغلقٌ جنةٌ مقفلةٌ عينٌ مختومةٌ: (نشيد ص4ع12) فيقول القديس أيرونيموس:” إن مريم هي بالحصر هذا البستان المغلق، وهذه العين المختومة، لأن الأعداء ما استطاعوا قط أن يدخلوا إليها ليهينوها. بل أنها قد انحفظت على الدوام غير مثلومةٍ ولا معابةٍ، باستمرارها دائماً قديسةً نفساً وجسماً معاً”. ونظير ذلك قال القديس برنردوس مخاطباً هذه السيدة المجيدة في تفسيره النص المقدم ذكره هكذا: أنتِ هي هذا البستان المغلق، لأن أيدي الخطأة لم تدخل إليكِ لتسلب منك شيئاً.*
ثم أننا نعلم أن هذا العروس الإلهي قد أحب عروسته مريم أشد حباً مما أحب به القديسين كافةً جملةً مع الملائكة. كما يبرهن الأب سوارس مع القديس لورانسوس يوستينياني وغيرهما. فهو تعالى منذ البدء قد أحبها وشرفها وكرمها، كما يرتل داود النبي بقوله: الذي أساسه في الجبال المقدسة، الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب… إنسانٌ ولد فيها وهو العلي الذي أسسها: (مزمور 87ع1 ثم ع5) فلا ريب في أن هذه الكلمات كلها تعلن أن مريم كانت قديسةً منذ الحبل بها. وهذا نفسه تعنيه أوقال الروح القدس من أجلها في أمكنةٍ أخرى فيقول عز وجل هكذا:” بناتٌ كثيراتٌ صنعن قوةً، كثيراتٌ أمتلكن غناءً. كثيراتٌ وجدن شرفاً وأماءً، وأنتِ فقتِ عليهن وأرتفعتِ مستعليةً على جميعهن: (أمثال ص31ع29) فإن كانت مريم فاقت وأرتفعت على الجميع بغنى النعمة، فإذاً قد فازت منذ خلقتها بالبر الأصلي. كما كان حصل على ذلك آدم والملائكة. ثم يقول تعالى: أن الملكات هن ستون، والسريات هن ثمانون، والشواب لا عدد لكثرتهن، وأما حمامتي وكاملتي (بل أنه يقرأ في النص العبراني كاملتي البريئة من الدنس) فهي واحدةٌ، هي وحيدةٌ لأمها، هي منتخبةٌ لوالدتها: (نشيد ص6ع7) فالأنفس البارة كافةً هن بناتٌ للنعمة الإلهية، وأما مريم فهي فيما بينهن الحمامة النقية الخالية من مرارة الخطيئة، وهي الكاملة البريئة من دنس المعصية الجدية، وهي الوحيدة التي حبل بها في حال النعمة.*
ولذلك زعيم الملائكة جبرائيل قد وجد هذه البتول ممتلئةً نعمةً قبل أن تكون بعد صارت أماً لله. ولهذه العلة نفسها حياها بالسلام قائلاً لها: افرحي يا ممتلئةً نعمةً. فعن هذه الكلمات كتب صفرونيوس هكذا: أن النعمة تعطى للقديسين الآخرين بالتبعيض والتجزيء، وأما للبتول القديسة فقد أعطيت النعمة كلها، بنوع أنه كما يقول القديس توما اللاهوتي: أن النعمة قد صيرت قديسةً لا نفس مريم العذراء فقط، بل لحمان جسدها أيضاً، حتى أنها استطاعت هي بعد ذلك أن تلبس الكلمة الأزلي من هذه اللحمان المقدسة جسداً: فهذه الأقوال كلها تقودنا أن نستنتج ونفهم جيداً، أن البتول مريم قد أغنيت من عروسها الروح القدس في حين الحبل بها بالنعمة الإلهية ممتلئةً منها، كما يبرهن بطرس جالانسه:” بأنه في هذه الأم وجد ملوء النعمة مجموعاً، لأنها منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها قد أفيضت عليها النعمة كلها من قبل فعل أنسكاب الروح القدس”. ولذلك يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله قد أنتخب سريعاً هذه البتول، وسبق الروح القدس وأختارها عاجلاً كمختطفٍ: مريداً بهذا القول أن يشير عن السرعة التي بها الروح القدس حين الحبل بهذه العذراء، قد سبق مختصاً إياها لذاته عروسةً قبل أن يدنو منها لوسيفوروس بتدنسٍ ما.*
فأنا أريد أخيراً أن أختتم الفصل الحاضر (الذي قد امتدت فيه الإيرادات بأكثر مما سواه، من حيث أن جميعيتنا الحقيرة الصغيرة قد اتخذت البتول الكلية القداسة محاميةً عنها بالحصر تحت صفة الحبل بها البريء من الدنس) وأني أنهي هذا الجزء الثالث نفسه، بإيرادي بقدر ما يمكنني من الاختصار، العلل والأسباب التي صيرتني مقتنعاً كل الاقتناع، كما أنها هي كافيةٌ لأن تلزم كل أحدٍ بالاقتناع في هذا الرأي الحاوي ما هو الأفضل في العبادة الحسنة لهذه السيدة المجيدة. وفي تكريمها الواجب الراجه لمجدها السامي، بالاعتقاد في أنه حبل بها نقية ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية.*
على أنه يوجد علماءٌ كثيرون وهم غالاتينوس، الكردينال كوزانوس، دابونته، سالاسار، كاتارينوس، نوفارينوس، فيفا، دالوغوس، أجيديوس. ريكاردوس، وغيرهم جزيلوا العدد الذين تمسكوا بهذا الرأي أيضاً محامين عنه بقوةٍ، وهو أنه لم يلتحق بالعذراء المجيدة حتى ولا الدين الناتج عن الخطيئة الأصلية، فهذا الرأي يمكن إثباته كثيراً، لأنه أن كان أمراً حقيقياً هو أنه ضمن إرادة الأب الأول آدم قد كانت موجودةً بالتضمن إرادة جميع البشر. بحسب كون هذا الأب هو رأس الطبيعة البشرية، كما يرتئي إمكانية ذلك المعلمان غونات وهابارت مع آخرين غيرهما، مستندين على كلمات القديس الرسول بولس القائل: أن جميع الناس أخطأوا فيه: (رومانيين ص5ع12) أي بواسطة آدم. فممكنٌ هو أيضاً أن مريم البتول لم تدخل تحت طائلة الدين الصادر عن معصية آدم، من قبيل أن الله قد ميزها كثيراً عن عموم البشر بالنعم الخصوصية. ومن ثم ينبغي أن يعتقد بحسن تدينٍ أن الله لم يشأ أن تكون أرادة مريم العذراء محتويةً ضمن أرادة آدم.*
فهذا الرأي أنما هو رأيٌ ممكنٌ أثباته لا غير، وأنا أتبعه من أجل أنه ذو مجد أفضل لسيدتي، ولكنني أعتبر أكيداً حقيقياً ذاك الرأي القائم في أنه لم تلتحق قط بهذه السيدة المجيدة خطيئة آدم، الأمر الذي تمسك به اللاهوتيون الآتي ذكرهم وأعتبروه حقيقياً، بل أعتقدوا به أنه قضيةٌ مناهزةٌ أن تكون محددةً من الكنيسة الجامعة بأنها من الإيمان، وهم الكردينال أيفاراردوس، دوفاليوس، راينالدوس، لوسادا، فيفا، وغيرهم كثيرون. وهنا أترك جانباً، الأوحية التي صارت توطيداً لهذا الرأي، لا سيما تلك التي حصلت عليها القديسة بريجيتا المثبتة من الكردينال طوراكراماتا، ومن أربعة أحبار رومانيين، كما يقرأ في أمكنةٍ مختلفةٍ من الكتاب السادس من هذه الأوحية، الا أنه لا يمكن لي أصلاً أن أترك إيراد بعض الأقوال، التي توجد فيها واضحةً أحكام الآباء القديسين المؤيدة هذا الرأي، لكي يظهر للقارئ كيف أنهم قد اتفقوا جميعاً في إثبات هذه الموهبة الخصوصية، الراجعة لتكريم الأم البتول الإلهية. فالقديس أمبروسيوس يقول مناجياً الله هكذا: أقبلني لا من سارة بل من مريم، حتى أن هذه التي أنت تقبلني لأجلها تكون بتولاً غير مفسودةٍ. ولكن بتولاً بنعمة الله بريئةً من كل دنسٍ ناتجٍ عن الخطيئة. والمعلم أوريجانوس إذ يتكلم عن مريم العذراء يقول: أن هذه البتول ما تدنست قط من نفخة الحية السمية. وقال القديس أفرام السرياني: أن مريم هي بريئةٌ من العيب، وخاليةٌ من الدنس، وناجيةٌ من جريرة أية خطيئةٍ كانت على الإطلاق. والقديس أوغوسطينوس في تفسيره السلام الملائكي كتب قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل بواسطة هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً، قد أوضح بالتمام (لاحظ أيها القارئ لفظة بالتمام) أن رجز الحكومة الأولى المبرزة ضد حواء قد تلاشى، وقد استردت البركة بملئ النعمة. ويقول القديس أيرونيموس: أن العذراء مريم ما وجدت قط في الظلام، بل صودفت دائماً في النور: ثم أن القديس كبريانوس (أم المنسوبة له هذه العبارة أياً كان) يقول: أن العدل لم يكن يحتمل أن ذاك الإناء المنتخب يوجد مدنساً من قبل الإهانة العامة، لأن الإناء المذكور (أي مريم) هو مختلفٌ جداً جداً عنا نحن الآخرين، لأن هذه البتول قد أشتركت معنا بالطبيعة لا بالخطيئة. وقال القديس أمفيلوكيوس: أن ذاك الذي خلق البتول الأولى حواء بريئةً من العيب والدنس، فهو خلق هذه البتول الثانية بريئةً من العيب وخاليةً من دنس الخطيئة. وكتب صفرونيوس: أنه يقال عن البتول مريم أنها بريئةٌ من الدنس، لأنها لم تكن قط فسدت بنوع من الأنواع: والقديس أيدالفونسوس يقول: أن مريم قد وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية: وقال القديس يوحنا الدمشقي: أن الحية لم تجد لها مدخلاً الى هذا الفردوس الذي هو مريم: ويقول القديس بطرس داميانوس: أن جسد العذراء المجيدة هو متسلسلٌ من آدم، ولكنها هي لم تتدنس بجريرة آدم. وقال القديس برونونه: أن هذه الأرض، أي البتول مريم هي غير مفسودةٍ، لأن فيها بركة الرب، وهي ناجيةٌ من عدوة سم كل خطيئةٍ على الإطلاق. ويقول القديس بوناونتورا: أن سيدتنا قد وجدت ممتلئةً نعمةً متقدمةً على تقديسها، نعمةً حافظةً إياها من طاعون سم الخطيئة الأصلية. وكتب القديس برنردينوس السياني قائلاً: أنه لا يمكن أن يصدق هذا وهو أن ابن الله أراد أن يولد من البتولة، ويأخذ من جسدها ناسوتاً مدنساً بجريرة الخطيئة الجدية. وقال القديس لورانسوس يوستينياني: أن مريم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها وجدت حاصلةً على البركات السابقة. والعلامة أيديوطا في تفسيره كلمات المبشر القائل: أنكِ يا مريم قد وجدتِ نعمةً: يخاطب هذه البتول قائلاً: أنكِ قد وجدت نعمةً خصوصيةً أيتها العذراء الكلية الحلاوة، نعمةً قد حفظتكِ ناجيةٍ من دنس الخطيئة الأصلية: وهذا نفسه يقوله معلمون آخرون كثيرون جداً.*
غير أن سببين خاصين يحققان لنا صدق هذا الرأي ويوطدان لنا هذه الحقيقة ذات الديانة الحسنة بنوعٍ أخص، فأحدهما هو اتفاق مذهب المؤمنين بوجه العموم على هذه الحقيقة، فيشهد الأب أجيلايوس بأن جمعيات الرهبنات كافةً قد اتبعوا هذا الرأي، أما رهبنة القديس عبد الأحد، فهذه عينها (كما يقول أحد العلماء المتأخرين) ولئن كانت تحوي اثنين وتسعين معلماً قد كتبوا ضد هذا الرأي، فمع ذلك في الوقت عينه حوت مايةً وستة وثلاثين معلماً قد اتبعوا رأينا ضد أولئك، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يزيدنا تأكيداً فوق ذلك جميعه في هذا الرأي والحقيقة ذات حسن الديانة، فهو إضافة رأي البابا ألكسندروس السابع الى رأي جميع المؤمنين الكاثوليكيين، والمصرح في رسالته الرسولية المبدوة: أعتناء جميع الكنائس: المبرزة سنة 1661 حيث يقول فيها (ما عدا الأشياء الأخرى) هذه الكلمات وهي: أنه قد تضاعفت كثيراً هذه العبادة الحسنة نحو والدة الإله… فعلى هذه الصورة المدارسيون قد اعتنقوا هذا الرأي الصالح، وقد درج على نوعٍ ما عند جميع الكاثوليكيين”. وبالحقيقة أن هذه القضية قد أعضدت وحومي عنها بقوةٍ من علماء المدارس الشهيرة نظير مدرسة سربونا، ومدرسة الكالا، ومدرسة سالاماناكا، ومدرسة كوامبريا، ومدرسة كولونيا، ومدرسة ماغونتسا، ومدرسة نابولي، ومدارس أخر غيرها كثيرة، وفي هذه المدارس كل من يحصل على صك شهادة الدرس، يلزم ذاته بقوة الحلف بأن يحامي دائماً عن الحبل بمريم العذراء البريء من دنس الخطيئة الأصلية. فإتفاق رأي المؤمنين العام على هذه القضية المذكورة، يستخدم من العلامة بيطافيوس في إثباته إياها، وعن برهان هذا الرأي العام قد كتب السيد الجليل فيما بين العلماء الأسقف يوليوس طورني: بأنه لا يمكن أن لا يغلب منه كل أحدٍ: على أنه أمرٌ حقيقيٌ، إذ لم يكن سوى برهان اتفاق رأي المؤمنين العام، هو الذي صير أكيدةً قضية تقديس مريم العذراء في أحشاء والدتها القديسة حنه، وقضية صعودها الى السماء بالنفس والجسد. لماذا إذاً إتفاق رأي المؤمنين على أنه حبل بهذه الأم الإلهية بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية. لا يصيرنا متأكيدين هذه القضية نظير القضيتين المقدم ذكرهما.*
أما السبب الثاني الذي يحقق لنا بنوع أبلغ وأقوى من السبب الأول صدق هذه القضية، ويجعلنا متأكدين أن مريم العذراء قد حبل بها بريئةً من تبعة المعصية الأصلية، فهو تعيين الكنيسة الجامعة عيداً خصوصياً يحتفل به لتكريم الحبل بها البريء من الدنس. فعن هذا السبب أنا ألاحظ من الجهة الواحدة أن الكنيسة تكرم بهذا العيد الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفس هذه العذراء المجيدة، واتحدت بجسدها المتكون في أحشاء والدتها، حسبما يعلن ذلك واضحاً البابا ألكسندروس السابع في منشوره الرسولي السابق ذكره الذي به يقول:” أن الكنيسة تقدم للعذراء المجيدة في عيد الحبل بها البريء من الدنس، تلك العبادة عينها التي تكرمها بها كلمات الرأي، أو الحقيقة التي نحن في صددها”. أي أنه منذ الدقيقة الأولى التي خلقت بها نفس البتول قد وجدت بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، ومن الجهة الثانية ألاحظ فاهماً ومتأكداً، أن الكنيسة الجامعة لا يمكنها أن تكرم بعبادةٍ أحتفاليةٍ ذات عيدٍ مشتهرٍ شيئاً لم يكن بكليته مقدساً، حسبما يبرهن القديس لاون الكبير الحبر الروماني، ومثله القديس أوسابيوس البابا القائل: أن الإيمان الكاثوليكي قد حفظ دائماً في السدة الرسولية بريئاً من العيب: وكما يعلم اللاهوتيون أجمعون جملةً مع القديس أوغوسطينوس، وكذلك القديس برنردوس والقديس توما اللاهوتي الذي يستخدم هذا البرهان نفسه. أي أحتفال الكنيسة بعيد ميلاد والدة الإله، ليثبت أنها أي العذراء المجيدة قد تقدست قبل أن تولد. وهذه هي كلماته: أن الكنيسة تحتفل بعيد ميلاد الطوباوية مريم البتول، ومن حيث أن الكنيسة لا تعيد الا لشيءٍ مقدسٍ، فمن ثم استنتج أن الطوباوية العذراء قد تقدست في أحشاء والدتها قبل أن تولد. فإذاً إن كانت قضيةً حقيقيةً هي ما يقول هذا المعلم الملائكي، أي أن والدة الإله قد تقدست في أحشاء والدتها، لأجل أن الكنيسة تحتفل بعيدٍ خصوصيٍ لميلاد هذه العذراء، فلماذا نحن لا نتمسك بأنها حقيقةٌ هي هذه القضية أيضاً، وهي أن مريم البتول قد حبل بها بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، منذ البرهة الأولى من حياتها في حين خلقها، بل أننا عالمون أن الكنيسة تحتفل الآن بعيد الحبل بها البريء من الدنس بالمعنى المحامى عنه من ذوي هذا الرأي الحسن الديانة.*
ثم إثباتاً لهذه الخصوصية الجليلة التي فازت بها الطوباوية مريم البتول. بأن يحبل بها خلواً من تبعة المعصبة الجدية، فمعلومةٌ هي عند الجميع النعم العجيبة الفائقة الإحصاء التي تنازل الله لأن يصنعها على نوعٍ ما يومياً في جميع مملكة نابولي خاصةً. بواسطة الصور المطبوعة فيها أيقونة والدة الإله ذات الحبل بها البريء من الدنس، وأنا لقد كنت أستطيع أن أورد أخبار حوادث كثيرةٍ من ذلك قد جرت عن أيدي آباء جمعيتنا عينها، ولكنني أكتفي بتحرير حادثتين فقط منها وهما الآتي ذكرهما.*
* نموذجٌ *
أنه في أحد بيوت جمعيتنا الحقيرة الكائنة في مملكة نابولي، قد جاءت يوماً ما إحدى النساء عند بعض آباء جمعيتنا، وأخبرته بأن رجلها قد كان له سنون عديدة لم يتقدم إلى منبر التوبة ليعترف بخطاياه، وأنها لم تعد هي تعلم ماذا تصنع معه لتجتذبه إلى عمل التوبة، لأنها لما كانت تخاطبه في شأن الاعتراف، فهو كان يهينها ويضربها، فالأب بعد أن سمع إيرادها قد أرشدها بأن تعطي رجلها صورةً من صور الحبل بوالدة الإله البريء من الدنس. فإذ أخذت تلك الصورة وانطلقت إلى بيتها، فمساءً حينما جاء رجلها إلى البيت فتحت هي له الخطاب عن الاعتراف، أما هو فجعل ذاته كأصم حسب عادته. ولم يصغ لها، فمن ثم قد دفعت إليه تلك الصورة، فحالما تسلمها منها. فعلى الفور قال لها:
متى تريدين أن تأخذيني لأعترف، لأني أنا مستعدٌ، فأمرأته من شدة الفرح طفقت تبكي عند مشاهدتها هذا التغيير السريع العجيب، وبالحقيقة أن الرجل قد ذهب في صباح تلك الليلة عينها إلى كنيستنا لهذه الغاية، وإذ سأله ذاك الأب نفسه كم كان له من الزمن من غير اعترافٍ، فأجابه أنه منذ مدة ثمانية وعشرين سنة لم يكن تقدم إلى منبر سر التوبة، فأعطف عليه الأب الخطاب قائلاً: وكيف أنك الآن في هذا الصباح باكراً حضرت لتعترف: فقال له: أعلم أيها الأب أني كنت مصراً على عدم التوبة، غير أن زوجتي في الليلة البارحة قد أعطتني صورة الحبل بالعذراء بلا دنس، وحالما أخذتها بيدي شعرت بتغييرٍ كلي في قلبي بهذا المقدار، حتى أنه كانت تظهر لي مدة كل ساعةٍ من هذه الليلة مستطيلةً كأنها سنون عديدة. منتظراً إشراق الفجر لكي آتي وأعترف بخطاياي: وحقاً أنه قد أعترف اعترافاً جيداً بنموذج صالح، وغير سيرة حياته الماضية، وواظب أزمنةً مديدةً على الاعتراف بتكاثرٍ عند ذاك الأب عينه.*
ثم في مكانٍ آخر من أبرشية سالارنو، في الوقت الذي فيه كنا نحن في تلك الأبرشية نمارس خدمة الرسالة المقدسة، قد كان هناك إنسانٌ حاصلة فيما بينه وبين شخصٍ آخر عداوةٌ شيطانية في أقصى حدود البغضة، فأحد آباء جمعيتنا قد تكلم مع ذاك الإنسان في أن يصفح غافراً لعدوه. أما هو فأجاب وقال له: أهل أنك رأيتني مرةً ما أيها الأب حاضراً في الكنيسة لاستماع مواعظكم. فأجابه: كلا، فقال له: إذاً لأجل هذه الغاية أنا ما حضرت قط لأسمع الوعظ عندكم، لأني أعرف ذاتي أني هالكٌ. ولكنني لا أريد شيئاً آخر سوى أن آخذ الثأر من عدوي: فالأب المومى إليه قد تعب كثيراً في إقناعه. ولكن سدى. فلما رآه بهذا المقدار مصراً على عدم التوبة حتى أن الكلام كله كان يمضي ضائعاً قال له أخيراً: خذ صورة حبل العذراء بلا دنس هذه: ففي الابتداء أجاب وقال: ترى مالي وهذه الصورة: ولكن أخذها بعد ذلك من الأب. وإذا به حالاً كأنه قط لم يكن أنكر الصفح قبلاً. سأل ذاك الأب قائلاً: هل أن أبوتك المكرمة تريد مني شيئاً آخر غير الترك والغفران لعدوي، فهوذا أنا مستعدٌ لأن أتتم ذلك: وهكذا اتفق معه على المجيء إليه لهذه الغاية في الصباح المقبل، غير أنه حينما جاء إليه في الغداة، فمن جديد تقلب روحه عن قصده الصالح. ولم يكن يرد أن يصنع شيئاً مما صار عليه الاتفاق، فحينئذٍ الأب المنوه عنه قد سلمه صورةً أخرى من صور الحبل بالعذراء بلا دنس، فلم يرد أن يقبلها أولاً. ولكنه حياءٍ وبعد الجهد قد أخذها، إلا أنه منذ البرهة الأولى قال: هيا بنا، لأني أريد نهاية هذه القضية، أين هو ماستروداتي عدوي: وحالاً صنع معه الصلح وغفر له وتقدم إلى منبر التوبة معترفاً بخطاياه.*
† صلاة †
يا سيدتي البريئة من الدنس، إنني أفرح معكِ عند ملاحظتي إياكِ غنيةً بهذا المقدار من سمو النقاوة والطهارة. فأشكر الخالق العام عازماً على أن أشكره دائماً، لأجل أنه حفظكِ بريئةً من دنس كل خطيئةٍ. ولكي أحامي عن قضية الحبل بكِ بغير دنس الخطيئة الأصلية، الأمر الذي هو خصوصيةٌ عظيمةٌ وجليلةٌ لائقةٌ بكرامتكِ، فأنا مستعدٌ وأقسم حالفاً، بأني أبيح دمي إن لزم الأمر، وأقبل الموت من أجل تأييدها، ولقد أتمنى أن سكان العالم بأسره يعرفونكِ ويعترفون بأنكِ أنتِ هي نجمة الصبح، التي هي دائماً مشعشعةٌ بالضياء الإلهي. وأنكِ أنتِ هي سفينة الخلاص المختارة ناجيةً من غرق الخطيئة العام. وأنكِ أنتِ هي تلك الحمامة الكاملة البريئة من العيب والخالية من الدنس، كما أوضحكِ عروسكِ الإلهي. وأنكِ أنتِ هي البستان المختوم والجنة المغلقة التي فيكِ وجد العلي تنعمه، وأنكِ أنتِ هي تلك العين المختومة التي لم يدخل إليها العدو ليعكر أمواهها. وأنكِ أخيراً أنتِ هي زهرة السوسن والزنبق النقي، إذ أنكِ قد نبت فيما بين الأشواك الذين هم أبناء آدم المولودون مدنسين بالخطيئة وأعداءً لله، فأنتِ ولدتِ نقيةً طاهرةً بيضاء خليلةً صديقةً لخالقكِ العظيم.*
فدعيني أمدحكِ أنا أيضاً حسبما مدحكِ إلهكِ قائلاً: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: يا حمامةً كلية النقاوة بيضاء بجملتكِ، جميلة بكليتكِ. صديقة الله دائماً. فيا مريم البريئة من الدنس الخالية من العيب الكلية الحلاوة، الموضوع الكلي الحب. فلأنكِ أنتِ بهذا المقدار جميلةٌ في عيني سيدكِ. لا تأنفي من أن تنظري بطرفكِ الشفوق الرحيم إلى جراحات نفسي المتخنة المستكرهة. بل انظري إليَّ وأرحميني وأشفيني. فيا حجر مغناطيس القلوب أجتذبي إليكِ قلبي أنا أيضاً الذليل، فأنتِ التي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد وجدتِ نقيةً وظهرتِ طاهرةً جميلةً أمام الله. أشفقي عليَّ أنا الذي ليس فقط ولدت بالخطيئة، بل إني بعد المعمودية أيضاً قد دنست من جديد نفسي بالمآثم. فذاك الإله الآب الذي انتخبكِ ابنةً له، والإله الأبن الذي اختاركِ أماً له، والإله الروح القدس الذي اختصكِ عروسةً له. ولأجل ذلك قد حفظكِ الثالوث الأقدس بريئةً من كل دنسٍ. وميزكِ بحبٍ متقدم على مخلوقاته كلها، فأية نعمةٍ يمكن أن ينكر عليكِ. إذاً يلزمكِ أن تخلصيني أيتها البتول البريئة من العيب، فأنا أقول لكِ ما كان يقوله نحوكِ القديس فيلبس نيري: أجعليني أن أفتكر بكِ دائماً، وأنتِ لا تنسيني، ولكن تظهر لي إعاقتي عن الحضور لأشاهد جمالكِ السماوي كأنها مدة ألف سنة، حيث أراكِ في الفردوس، لكي أحبكِ أشد حباً، وأسبحكِ يا أمي ويا ملكتي، ويا حبيبتي الكلية البهاء والحلاوة والنقاوة البريئة من كل عيبٍ آمين.*
No Result
View All Result
Discussion about this post