دعوة رسولية من أجل
إعلان الإنجيل
Evangelii nuntiandi
موجهة من قداسة البابا
بولس السادس
إلى الأساقفة والكهنة والمؤمنين في الكنيسة جمعاء
بشأن البشارة بالإنجيل
في العالم المعاصر
مقدمة
من البابا بولس السادس
إلى الإخوة الأجلاء والأبناء الأحباء
السلام والبركة الرسولية
تشجيع خاص للبشارة بالإنجيل:
1- إن الجهود التي تبذل من أجل إعلان الإنجيل لسائر البشر في عصرنا، مع ما يحدوهم من آمال من جهة، وما يساورهم كثيراً من مخاوف وضيق من جهة أخرى، لتعد بلا شك خدمة تسدى لجماعة المسيحيين، بل أيضاً للبشرية جمعاء.
لذلك فإن التكليف “بتثبيت الإخوة”، الذي أؤتمنا عليه من قبل الرب مع تولينا خلافة بطرس (1)، ويعد بالنسبة لنا “إنشغالاً يومياً” (2) ومنهاج حياة وعمل، والتزاما أساسياً في حبريتنا، إنما يبدو لنا واجباً أكثر نبلاً وأبلغ ضرورة عندما نكون بصدد تشجيع أخوتنا على قيامهم برسالة البشارة، حتى يؤدوها في هذه الأيام المحفوفة بعدم الاستقرار والجزع، على وجه يتزايد فيه باستمرار الحب والبذل والفرح.
في مناسبات ثلاث:
2- إن هذا الواجب هو ما نقصد أن نؤديه الآن، في ختام هذه السنة المقدسة التي خلالها “ركزت الكنيسة كل جهدها على إعلان الإنجيل لجميع بني البشر” (3)، فلم تقصد سوى إنجاز ما كلفت به من حمل البشرى السارة بيسوع المسيح، التي تعلنها انطلاقاً من وصيتين أساسيتين: “ألبسوا الإنسان الجديد” (4)، و”تصالحوا مع الله” (5).
ونريد أن نؤدي الواجب في هذه الذكرى العاشرة لإختتام أعمال المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” الذي تتلخص أغراضه في هدف واحد: جعل كنيسة القرن العشرين أكثر قدرة على إعلان الإنجيل لعالم هذا القرن.
كما نود أن نسدي هذا التشجيع بعد مرور سنة على انعقاد الدورة الثالثة لسينودس الأساقفة العام – التي نعلم أنها خصصت لقضية البشارة الإنجيلية، ولاسيما أن آباء السينودس قد طلبوا إلينا ذلك. فعند انفضاض هذه الدورة التاريخية، أرادوا أن يعرضوا على راعي الكنيسة الجامعة، بكل ثقة وبساطة قلب، ثمار مجهودهم كلها، معلنين أنهم ينتظرون من البابا دفعة جديدة كفيلة ببعث عصر جديد للبشارة الإنجيلية، في كنيسة تغرس جذورها أكثر فأكثر في قوة العنصرة وفاعليتها الخالدتين (6).
موضوع كثيراً ما ركزنا عليه خلال حبريتنا:
3- إن موضوع البشارة الإنجيلية هذا قد ركزنا على أهميته في مناسبات عديدة، ما قبل دورة السينودس العام، حيث قلنا في مجمع الكرادلة المقدس يوم 22 يونيه 1973 “إن أوضاع الحياة الاجتماعية تضطرنا جميعاً إلى إعادة النظر في الأساليب، وإلى السعي بكافة الوسائل، لدراسة كيفية توصيل الرسالة المسيحية إلى إنسان هذا العصر، بحيث يستطيع أن يجد فيها الإجابة على جميع تساؤلاته، والقدرة على التزامه بالتضامن الإنساني” (7). وقد أضفنا حينذاك أنه حتى نستطيع تقديم الإجابة السليمة على المتطلبات التي يوجهها إلينا المجمع المسكوني، يتعين علينا أن نضع نصب أعيننا تراث الإيمان الذي يجب على الكنيسة أن تحافظ عليه في نقاوة سليمة من كل شائبة، بل يتعين أن تقدمه إلى أبناء هذا العصر، بطريقة مفهومة ومقنعة قدر الإمكان.
على نهج سينودس عام 1974
4- فإن هذه الأمانة نحو الرسالة التي نحن خدامها، ونحو الأشخاص المطلوب توصيلها إليهم سليمة حية، هي بمثابة المحور الرئيسي للبشارة. فهي تثير أسئلة ثلاثة ملحة وخطيرة، لم تبرح قط أنظار آباء سينودس عام 1974:
– ماذا أصبحت في أيامنا هذه تلك الطاقة الكامنة في الإنجيل هذا الخبر السار، القادرة على إيقاع تأثير عميق في ضمير الإنسان؟
– إلى أي مدى وبأية كيفية تستطيع هذه القوة الإنجيلية أن تحول حقاً إنسان هذا العصر؟
– ما هي الأساليب التي على غرارها ينبغي إعلان الإنجيل بحيث تكون قوته فعالة؟
إن هذه الأسئلة لتبرز أساساً السؤال الرئيسي الذي تطرحه الكنيسة على نفسها اليوم، والذي يمكن ترجمته كالآتي: على أثر المجمع الذي يعد بالنسبة للكنيسة، في هذا المنعطف من التاريخ، “ساعة الله”: هل تجد الكنيسة نفسها على كفاءة أوفر لإعلان الإنجيل، ولتيسير إندماجه في قلب الإنسان عن اقتناع وتحرر في الروح وجدوى فعالة، أولاً تجد نفسها كذلك؟
دعوة إلى التأمل:
5- إننا نرى جميعاً ضرورة عاجلة في الإجابة على هذا السؤال إجابة صادقة ومتواضعة وجريئة، وفي التصرف والعمل حسبما تكون عليه الإجابة.
ففي إطار “عنايتنا بجميع الكنائس” (8)، نود مساعدة أخوتنا وأبنائنا على الإجابة على التساؤلات هذه. فكلماتنا التي تبغى أن تكون وقفة تفكير في البشارة، معتمدة على حصيلة الثروة التي جمعها السنودس العام، عساها تكون بمثابة دعوة للتفكير عينه، موجهة لكل شعب الله الذي تجمعه الكنيسة، وتثير انطلاقة جديدة من جانب الجميع، وبخاصة أولئك الذين “يتعبون في الكلام والتعليم” (9) حتى يصبح كل منهم “مفصلاً كلمة الحق بأحكام” (10)، عاملاً على الوعظ بالإنجيل، ومؤدياً خدمته على وجه أكمل.
إن مثل هذه الدعوة لتبدو لنا أمراً أساسياً، لأن تقديم الرسالة الإنجيلية لا يعد بالنسبة للكنيسة مساهمة اختيارية، وإنما هو واجب ملقى على عاتقها، بتكليف من الرب يسوع، من أجل أن يتسنى للناس أن يؤمنوا فيخلصوا. نعم إن هذه الرسالة أمر ضروري، أوحد، ولا بديل له، ويأبى اللا مبالاة أو المساومة أو التلفيق. إذ عليها يتوقف خلاص البشر. وما تمثله هو جمال الوحي. وما تتضمنه هو حكمة ليست من هذا العالم. إن من شأن هذه الرسالة أن توقظ بذاتها الإيمان، الإيمان الذي يستند إلى قدرة الله (11). فهي الحق. وهي جديرة بأن يخصص لها الرسول وقته كله، وطاقاته كلها، وأن يضحي في سبيلها بحياته متى اقتضى الأمر ذلك.
أولاً
من المسيح معلن البشارة إلى الكنيسة مذيعتها
شهادة المسيح ورسالته:
6- إن الشهادة التي يشهد بها المسيح عن ذاته، والتي نقلها عنه القديس لوقا في إنجيله – “يجب على أن أبشر سائر المدن بملكوت الله (12)، لها بلا شك مغزى بعيد، أنها توجز في كلمة واحدة رسالة يسوع برمتها: “لأن الله لهذا أرسلني” (13). فهذه الكلمات تحمل معناها الكامل إذا ما قربت بآيات سابقة عليها، أرجع فيها المسيح إلى ذاته قول أشعيا النبي: “روح الرب نازل علي، لأنه مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء” (14).
فالذهاب من مدينة إلى أخرى لإعلان البشارة بخاصة لأكثر الناس فقراً ممن يبدون غالباً أزيد ترحيباً بالبشرى السارة بتحقق الوعود والعهود التي قطعها الله على نفسه، إنما هو إنجاز للرسالة التي يعلن المسيح أن الآب قد أرسله من أجلها. وجميع جوانب السر في شخصيته – التجسد ذاته، والمعجزات، والتعليم، وجمع الرسل حوله، وتكليف الاثني عشر، والصلب والقيامة واستمرار وجوده بين أخصائه – كلها تدخل ضمن نشاط بشارته.
يسوع المعلن الأول للبشارة:
7- ذكر الأساقفة كثيراً في السينودس هذه الحقيقة: إن يسوع نفسه، إنجيل الله (15)، هو أول وأعظم مبشر، وقد ذهب في القيام برسالته حتى النهاية، حتى الكمال، مضحياً بحياته الأرضية.
ولكن نشاط الكرازة هذا، ماذا كان التكليف به يعني بالنسبة للمسيح؟ لا شك أنه ليس من السهل أن نعبر في صورة جامعة كاملة، عن معنى الكرازة، ومضمونها، وأساليبها، حسبما كان يسوع يتصورها ويحققها. وعلى كل فإن مثل هذه الصورة الجامعة لا يمكن أبداً أن نترسمها بالتمام. ويكفينا أن نذكر ببعض النواحي الأساسية في الكرازة.
الكرازة بملكوت الله:
8- إن المسيح الكارز بالبشارة يعلن أولاً ملكوت، هو ملكوت الله، له من الأهمية حتى أن بالنسبة له كل شيء يعتبر “ما عداه” و”كله يزاد” (16). فبالتالي الملكوت وحده مطلق، ويجعل كل ما سواه نسبياً بالنظر إليه. ويحلو للرب أن يصف باطناب الصور العديدة للسعادة التي تغمر قلب من ينتمي لهذا الملكوت – تلك السعادة العجيبة التي تقوم على أمور ينبذها العالم (17)، وأن يتحدث عن مقتضيات الملكوت وشروط ميثاقه (18)، وعن القائمين على نشره (19)، وعن أسراره (20)، وعن أبنائه (21)، وعن المسهر والأمانة المفروضين في كل ما ينتظر حلول الملكوت نهائياً (22).
الكرازة بالخلاص المحرر:
9- ويعلن المسيح الخلاص بمثابة النواة والمحور لخبرة السار. والخلاص هبة الله العظيمة القائمة على تحرير الإنسان من كل ربقة يرزح تحتها، بل على تحريره خاصة من الخطيئة والشرير، في الفرح الذي يغمره لكونه عرف الله وعرفه الله، فأصبح يرى الله، فيسلم ذاته له تعالى. وكل ذلك يبدأ خلال حياة المسيح ويستقر نهائياً بموته وقيامته. إلا أنه ينبغي أن يستمر السير عليه في صبر على مدى التاريخ في سبيل التوصل إلى إتمامه كاملاً يوم مجيء المسيح الأخير، الذي لا يعلم بتوقيته إلا الآب (23).
وثمنه جهد حتى الصلب:
10- وهذا الملكوت وذلك الخلاص هما بمثابة مفتاحي سر كرازة يسوع المسيح، ولكل إنسان أن يحصل عليهما على سبيل النعمة والرحمة، وإنما عليه أن يجاهد جهاداً قوياً ليفوز بهما – إذ أنهما يغتصبان على حد قول الرب (24) -، بشدة العناء والألم وبالحياة طبقاً للإنجيل وعن طريق التجرد وحمل الصليب، وممارسة روح التطويبات. ولكن كل واحد يكتسبها قبل كل شيء عن طريق ثورة داخلية عميقة، يشير إليها الإنجيل بلفظ “التوبة”، أي الاهتداء الجذري، والتغيير الشامل في الرؤية والقلب (25).
كرازة لا تعرف الملل:
11- وإعلان ملكوت الله هذا يتولاه المسيح بكرازة لا تعرف الملل، كلامها سوف يقولون عنه: “لا يوجد له مثيل في أية جهة أخرى: “إنه تعليم جديد يلقى بسلطان” (26) – “وكانوا يشهدون له بأجمعهم ويعجبون من الكلام العذب الذي يخرج من فمه” (27)، فبقولون “ما تكلم إنسان قط مثل هذا الرجل” (28). فإن أقواله تكشف عن سر الله وتدبيره ووعده، ومن ثم تحدث تغييراً في قلب الإنسان ومصيره.
بعلامات إنجيلية:
12- ولكن المسيح يقوم بهذا الإعلان بعلامات عديدة، تثير دهشة الجماهير، وتجتذبهم نحوه في نفس الوقت، رغبة في مشاهدته والاستماع إليه، فيتركون ذواتهم تتحول تحت تأثيره: فالمرضى يشفون، والماء يتحول خمراً، والخبز يكثر، والموتى يبعثون أحياء، ولكن من بين تلك العلامات واحدة لها أهمية كبرى عنده: الصغار والمساكين يبشرون، فيصبحون من تلاميذه ويجتمعون “باسمه” داخل البيعة الكبرى التي تضم سائر الذين يؤمنون به. فإن يسوع هذا الذي يصرخ قائلاً: “يجب أن أبشر سائر المدن بملكوت الله” (29)، هو نفسه يسوع الذي قال عنه يوحنا الإنجيلي أنه جاء وكان ينبغي أن يموت “ليجمع شمل أبناء الله المشتتين” (30). وبذلك فإنه يتم كشف وحيه، مكملاً ومثبتاً إياه بكل ما يظهره عن ذاته، بأقوال وأعمال، وبعلامات ومعجزات، وبخاصة بموته وقيامته، وبإرساله روح الحق (31).
من أجل بيعة تأتيها البشارة فتقوم بنشرها:
13- وعليه فإن الذين يتلقون البشارة السارة بأمانة، يجتمعون باسم يسوع، بفضل القوة النابعة من تلقيها ومن الإيمان المشترك، من أجل أن يبحثوا سوياً عن الملكوت وان يشيدوه ويحيوا فيه. فهم يشكلون بيعة تقوم بدورها بإعلان البشارة. فالتكليف الموجه إلى الاثني عشر “اذهبوا وأعلنوا البشارة السارة” تكليف يخاطب أيضاً، ولو بصورة مختلفة، جميع المسيحيين. ومن أجل ذلك يدعو القديس بطرس المسيحيين “شعباً اصطفاه الله للإشادة بآياته (32)، تلك الآيات التي كان كل واحد يسمعها بلغته (33)، فضلاً عن أن البشرى السارة بالملكوت الذي يأتي، والذي بدا ههنا، بشرى موجهة لجميع الناس وفي كافة الأزمنة. وأولئك الذين تلقوها، فتجمعهم في بيعة المخلصين، يستطيعون، بل يتعين عليهم، أن يبلغوها ويذيعوها.
إعلان الإنجيل دعوة الكنيسة الخاصة:
14- تعلم الكنيسة ذلك، وتحس إحساساً عميقاً بأن كلام المخلص “يجب أن أبشر سائر المدن بملكوت الله” (34) – ينطبق حقاً عليها تماماً – بل إنها تضيف بكل رضا مع القديس بولس: “فإذا بشرت فليس في ذلك لي مفخرة، لأنها فريضة لا بد لي منها، والويل لي إن لم أبشر” (35). ولقد سرنا وأثلج صدرنا أن نسمع في ختام دورة أكتوبر 1974، تلك الأقوال النيرة: “إننا نريد أن نؤكد مرة أخرى أن مهمة إعلان الإنجيل لجميع الناس تشكل الرسالة الأساسية للكنيسة” (36)، وهذه الرسالة وتلك المهمة تصيران ملحتين وعاجلتين أكثر فأكثر بسبب التغيرات الواسعة والعميقة في مجتمعنا الحالي. فالواقع أن الكرازة هي النعمة الموهوبة للكنيسة ودعوتها الخاصة، وذاتيتها الأكثر عمقاً. فالكنيسة موجودة من أجل البشارة، أي من أجل أن تكرز وتعلم، وتكون هي القناة التي تجري فيها هبة النعمة، وتصالح الخطأة مع الله، وتجدد على الدوام ذبيحة المسيح في القداس الإلهي، ذكرى لموته وقيامته المجيدة.
العلاقات المتبادلة بين الكنيسة ورسالة البشارة:
15- وكل من يراجع في العهد الجديد أحوال الكنيسة الأولى، ويتتبع خطوة بعد خطوة تاريخها، ويشاهدها تحيا وتعمل، يتبين ارتباطها بالبشارة بأعمق ما في كيانها.
– فالكنيسة مولودة من نشاط البشارة الذي قام به يسوع ورسله الاثنا عشر. وهي ثمرة هذا النشاط العادية، والمقصودة، والمباشرة والظاهرة: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (37). “فالذين قبلوا الكلام اعتمدوا، فانضم في ذلك اليوم زهاء ثلاثة آلاف نفس… وكان الرب كل يوم يزيد عدد القابلين الخلاص” (38).
– وإذ ولدت الكنيسة هكذا من الرسالة، فقد أرسلها يسوع بدورها للكرازة. فهي باقية في العالم بينما يعود رب المجد إلى أبيه، فتظل كعلامة قاتمة ونيرة في آن واحد، تدل على وجود جديد ليسوع، وعلى رحيله ودوامه، إنها امتداد واستمرار له. وهي مدعوة قبل كل شيء إلى مواصلة رسالته ونشاطاته في الكرازة (39). إذ أن جماعة المسيحيين لا تكون أبداً منغلقة على ذاتها. فإن الحياة الداخلية فيها – حياة الصلاة والاصغاء إلى “الكلمة” وإلى تعليم الرسل، والمحبة الأخوية التي تعيشها، والمشاركة في كسر الخبز (40) – لا يستقبم معناها كاملاً إلا عندما تصبح هذه الحياة شهادة، وتدفع على الإعجاب والهداية، فتصير كرازة وإعلاناً للخبر السار. فكهذا الكنيسة كلها هي التي تتلقى التكليف بالبشارة، ويكون لعمل كل فرد أهميته من أجل الجميع.
– والكنيسة القائمة بالبشارة تبدأ ببشارة ذاتها، وبوصفها بيعة المؤمنين وجماعة تحيا حياة الرجاء وتنشرها، وجماعة تعيش المحبة الأخوية، فإنها في حاجة إلى الإصغاء دوماً إلى ما ينبغي أن تؤمن به، وإلى دوافع رجائها، وإلى الوصية الجديدة التي هي المحبة. ولكونها شعب الله المنغرس في العالم، وكثيراً ما تغريه الأصنام، لا مندوحة لها على الدوام من أن تصغي باستمرار إلى إعلان عظائم الله (41) التي أدت إلى هديها للرب، ومن أن تكون مدعوة ومجموعة الشمل منه مجدداً. وهذا معناه باختصار أنها في حاجة دائماً إلى أن تتلقى البشارة، إذا ما أرادت أن تحتفظ بنضارتها وبحماسها وبقدرتها على إعلان الإنجيل. وقد ذكر مجمع الفاتيكان الثاني بهذا (42)، وعاد سينودس الأساقفة العام في دورة 1974 فعالج هذا الموضوع، بأن الكنيسة تكرز ذاتها في هداية وتجديد مستمرين، من أجل أن تقوم ببشارة العالم بما يبعث على تصديقها.
– والكنيسة أمينة على وديعة الخبر السار الذي ينبغي إعلانه. فوعود العهد الجديد بيسوع المسيح، وتعليم الرب والرسل، و”كلمة” الحياة، وينابيع النعمة، ولطف الله، وطريق الخلاص، كل ذلك قد عهد به إليها. فذلك هو مضمون الإنجيل، وبالتالي موضوع الكرازة، وهي تحفظه كوديعة حية ونفسية، ليس إبقاء عليه سراً مكتوماً، وإنما لتبليغه وإذاعته على الجميع.
– والكنيسة إذ بعثت وقبلت البشارة، توفد بدورها من يقومون على الكرازة، واضعة على شفاههم “الكلمة” سبب الخلاص، فتشرح لهم الرسالة المستودعة لديها، وتفوض لهم التكليف الذي تسلمته، وترسلهم ليكرزوا لا من قبيل الدعوة لأشخاصهم الذاتية أو لأفكارهم الخاصة (43)، وإنما بإنجيل ليس لهم ولا لها سلطان مطلق للتصرف فيه كما يشاءون، وإنما هم خدام مكلفون بتبليغه بكل أمانة.
الكنيسة لا تقبل الانفصال عن المسيح:
16- هناك إذا ارتباط عميق بين المسيح والكنيسة وإعلان الإنجيل. ففي هذا الزمان، “زمن الكنيسة”، تؤول مهمة إعلان الإنجيل إلى الكنيسة. وهذه المهمة لا تتحقق بدونها ومن باب أولى لا تنقلب ضدها.
فينبغي أن نذكر ذلك في هذا الوقت، حيث نسمع، بكل أسى بعض الأشخاص – نود اعتبارهم حسني النية، ولكن تفكيرهم بلا شك أخذ يختل في اتجاهه – يرددون الزعم بأنهم يحبون المسيح دون الكنيسة، ويصغون إليه دونها، ويتبعونه ولكن خارجها. واللا معقولية في هذا الانفصام تبدو واضحة بالرجوع إلى تلك العبارة في الإنجيل: “من أعرض عنكم أعرض عني” (44). إذ كيف يسوغ لهم أن يحبوا المسيح دون أن يحبوا الكنيسة؟ مع أن أروع شهادة مقدمة للمسيح، قد جاءت على لسان بولس الرسول: “أحب المسيح الكنيسة وضحى بنفسه من أجلها”؟ (45)
ثانياً
ما هي البشارة بالإنجيل؟
غنى وتشعب نشاط البشارة بالإنجيل:
17- لا شك أن نشاط الكنيسة في البشارة بالإنجيل ينطوي على عناصر وجوانب يجدر التوقف عندها. وبعضها من الأهمية لدرجة أننا قد نميل إلى اعتبارها هي والكرازة واحداً. فقد عرف البعض البشارة بكونها إعلان المسيح لأولئك الذين يجهلونه، والوعظ وتعليم الدين المسيحي، ومنح العماد وغيره من الأسرار.
إلا أن أي تعريف جزئي أو منقوص لا يصور إعلان البشارة بغناها وتشعبها وديناميتها، إلى مع التعرض للتنقيص من ثرائها، بل لتشويه سلامتها. فيستحيل أن تستوعب معنى إعلان البشارة ما لم نجتهد بأن نجعل نظرتنا إليها شاملة لكافة عناصرها الأساسية.
وهذه العناصر التي أبرزت خلال أعمال سينودس الأساقفة، مازال البعض يتعمقون في دراستها في هذه الأيام تحت تأثير أعمال السينودس. ومن دواعي اغتباطنا أن هذه العناصر تدخل في الواقع، في إطار تلك التي نقلها إلينا المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني”، وبخاصة ضمن دستور “الكنيسة” العقائدي (نور الأمم) ودستور الفرح والرجاء الراعوي (الكنيسة في عالم العصر)، ومرسوم “نشاط الكنيسة الأرسالي” (إلى الأمم).
تجديد في البشرية:
18- إن البشارة تعني بالنسبة للكنيسة حمل الخبر السار إلى جميع أوساط الإنسانية، حتى بتأثيره تتحول البشرية ذاتها من الداخل فتصبح جديدة: “ها إني أجعل الكون جديداً” (46). ولكن لا تكون هناك بشرية جديدة ما لم يكن هناك أولاً أشخاص جدد بتجديد المعمودية (47) وبالحياة التي يعيشونها حسب الإنجيل (48). فالغرض من البشارة هو إذا بالذات التجديد من الباطن، وإذا أردنا ترجمة ذلك بكلمة واحدة، فالأصح أن نقول أن الكنيسة تقوم بالبشارة عندما تعتمد على القدرة الإلهية وحدها الكامنة في الرسالة التي تنادي بها، (49)، فتسعى في نفس الوقت، إلى تهذيب وإصلاح ضمير البشر الشخصي والجماعي، وإلى تقويم النشاط الذي يلتزمون به، وحياتهم وبيئتهم الواقعيتين.
وفي مواقع ومواقف الإنسانية:
19- مناطق من الإنسانية تتحول: ليس المطلوب فقط بالنسبة للكنيسة أن تكرز بالإنجيل في رقع جغرافية أوسع فأوسع، أو ما بين جماعات بشرية حاشدة أكثر فأكثر، وإنما المطلوب أيضاً أن تؤثر بمثابة ثورة، بفضل قوة الإنجيل، في مقاييس التقدير والقيم الأساسية، ومراكز الاهتمام، وتيارات الفكر، ومصادر التوجيه وأساليب الحياة لدى الناس، فيما يتعارض و”الكلمة الله” وتدبير الخلاص.
نشر الإنجيل في الثقافات:
20- ونستطيع أن نعبر عن كل ذلك بقولنا أنه يتعين أن يبشر بالإنجيل – ليس على سبيل التزين كما لو كان بطلاء سطحي، وإنما يبث حيوية تنفذ إلى جذور الثقافة العامة وثقافات الإنسان النوعية، بأغنى المعاني وأوسعها لهذه الألفاظ الواردة في دستور “الفرح والرجاء” (الكنيسة في عالم العصر) (50)، انطلاقاً دائماً من شخص الإنسان، ورجوعاً باستمرار إلى العلاقات القائمة ما بين الأشخاص، وبينهم وبين الله.
فالإنجيل، وبالتالي البشارة لا يتطابقان قط مع الثقافة العامة، وهما مستقلان عن جميع الثقافات النوعية. ومع ذلك فإن الملكوت الذي يعلنه الإنجيل، يعيشه أناس مرتبطون أوثق ارتباط بثقافة معينة. وتشييد هذا الملكوت لا بد له أن يقتبس من عناصر الثقافة العامة ومن الثقافات الإنسانية المتنوعة. والإنجيل والبشارة وإن كانا مستقلين عن الثقافات ليسا بالضرورة على عدم توافق معها، ولكن من شأنهما أن يطبعا تأثيرهما عليها كلها، دون أن يكونا مسخرين لأية منها.
إن القطيعة بين الإنجيل والثقافة تشكل بلا شك المأساة في عصرنا، على نحو ما كانت عليه في عصور أخرى. لذلك وجب بذل جميع الجهود في سبيل أن تكون الثقافة أو على الأصح الثقافات، متأثرة بالبشارة تأثراً وافراً. فينبغي أن يدخلها تجديد بفضل تأثير الإنجيل. على أن هذا التأثير لن يحدث مالم يعلن هذا الخبر السار ويذع.
الأهمية الرئيسية لشهادة الحياة:
21- ويجب أن يعلن الإنجيل أولاً عن طريق الشهادة. فهذا شخص مسيحي، أو هؤلاء مجموعة من المسيحيين يظهرون داخل الجماعة الإنسانية التي يعيشون وسطها، كفاءتهم على تفهم الآخرين وتقبلهم ومشاركتهم الحياة والمصير معهم، وتضامنهم مع جهود الجميع المشتركة في سبيل كل ما هو سام وصالح. وها هم، فضلاً عن ذلك، يشعون في بساطة تامة ودون كلفة، إيمانهم بقيم تفوق وتتجاوز القيم الجارية، ورجاءهم فيما لا يرى وما لا يجسر أحد حتى على أن يحلم به. إن مثل هؤلاء المسيحيين يثيرون بهذه الشهادة الصامتة تساؤلات يتعذر كتمها في طيات قلوب الناس الذين يلحظون كيف يعيشون: لماذا هم هكذا، ولماذا يعيشون على هذا النحو، ما – أو من – الذي يلهمهم في ذلك؟ ولماذا يتواجدون بين ظهرانينا؟ إن مثل هذه الشهادة هي بذاتها إعتلان قوي جداً وفعال. إنها تنطوي على مبادرة أولى بالبشارة. ومثل تلك الأسئلة قد تكون الأولى التي يطرحها على أنفسهم العديد من غير المسيحيين، سواء كانوا ممن لم تبلغهم قط البشارة بالمسيح، أو من المعمدين الذين لا يمارسون التدين، أو ممن يعيشون في مناطق مسيحية ولكن بحسب أصول ومبادئ غير مسيحية إطلاقاً، أومن أولئك الذين يبحثون في عناء وألم عن شيء أو “شخص” يتحسسونه دون أن يستطيعوا تحديده وتسميته. وسوف تنشأ أسئلة أخرى أبعد عمقاً وأدعى إلى الالتزام، على أثر مثل تلك الشهادة التي تقوم على حضور ومشاركة وتضامن، وتشكل عنصراً أساسياً بل العنصر الأول أصلاً في البشارة (51).
إن مثل هذه الشهادة، جميع المسيحيين مدعوون إلى تقديمها. فقد يكونون، وفي أمكانهم أن يكونوا، من هذه الناحية، من الكارزين بالبشارة حقاً. وإننا نفكر بخاصة في المسؤولية المترتبة في هذا الصدد على المهاجرين في البلدان التي تستقبلهم.
لابد من إعلان صريح:
22- و مع ذلك فإن هذا يظل غير كاف. فإن الشهادة أياً كان جمالها، سوف تبدو مع الوقت قاصرة مالم تكن مشمولة بضوء وتعزيز – على حد ما كان القديس بطرس يسميه تقديم “دليل ما نحن عليه من الرجاء” (52) -، وبشرح مباشر في إعلان صريح لا لبس فيه، عن السيد المسيح. فالخبر السار الذي تعبر عنه شهادة الحياة، لا بد أن يعلن بكلمة الحياة عاجلاً أو آجلاً. فليس هناك بشارة حقة مالم يعلن يسوع الناصري ابن الله، وتعليمه وحياته، ومواعيده، وملكوته، وسر شخصه.
إن تاريخ الكنيسة منذ خطاب بطرس في صبيحة العنصرة، ليمتزج ويختلط بتاريخ هذا الإعلان. ففي كل حقبة من التاريخ البشري، لا تفتأ الكنيسة تشغلها باستمرار الرغبة في البشارة، ولهفة واحدة تستحوذ عليها: من لعلها ترسل لإعلان سر يسوع المسيح؟ وبأي أسلوب يعلن هذا السر؟ وماذا يمكن عمله لكي يدوي صداه، بحيث يبلغ جميع الذين ينبغي أن يسمعوه؟ فهذا الإعلان – سواء كان بتقديم سر الخلاص أو بالوعظ أو بالتعليم – يحتل مكانة كبيرة في البشارة، إلى حد أنه كثيراً ما يعتبر هو والبشارة مترادفين. ومع ذلك فالإعلان ليس في الواقع سوى جانب من جوانبها.
من أجل اعتناق حيوي وجماعي:
23- فالإعلان في الواقع لا يتحقق ببعده كاملاً ، مالم يسمع ويقبل ويستوعب، فيثير في من قبله على هذا النحو إذعاناً بالقلب، نعم، إذعان ورضاء باعتناق الحقائق التي أوحى بها الرب رحمة منه – ولكن بالأكثر إذعان ورضاء بمنهج ينظم الحياة – حيث تتحول الحياة لتوها – حسب ما يعرضه وحي الرب، أي باختصار بالانضمام للملكوت، أي “للعالم الجديد” للأوضاع الجديدة، للأسلوب الجديد في الوجود والحياة والمعيشة الجماعية، على النمط الذي يؤسسه الإنجيل. ومثل هذا الانضمام لا يمكن أن يظل مجرداً نظرياً، بل يظهر إيجابياً بدخول فعلي ومنظور في جماعة المؤمنين. وعليه فمن تحولت حياتهم يدخلون في بيعة، هي بذاتها العلامة الدالة على التحول، علامة التجديد في الحياة: تلك هي الكنيسة، السر المنظور للخلاص (53). ولكن هذا الانضمام للجماعة الكنسية بدوره سوف يترجم خلال علامات أخرى عديدة تكون امتداداً وتطبيقاً لعلامة الكنيسة. ففي قوة حركة البشارة، من يقبل الإنجيل باعتباره “كلمة” الخلاص (54)، يترجم قبوله عادة في أعمال التقديس بالأسرار: الانضمام إلى الكنيسة، وقبول أسرارها التي تبرز هذا الانضمام وتدعمه، بفعل النعمة التي تمنحها.
يقود لرسالة جديدة:
24- وأخيراً فإن من تلقى البشارة، يتولى بدوره الكرازة بها. هذا هو اختبار الصدق، والمحك للدلالة على مدى حقيقة البشارة: فلا يتصور أن إنساناً يكون قد قبل “الكلمة”، فأقبل على الانضمام إلى الملكوت دون أن يصبح شخصاً يشهد فيعلن هو بدوره.
وفي ختام تلك الاعتبارات التي توضح معنى البشارة، تتوارد ملاحظة أخيرة لا بد من إبدائها، لما تضفيه من أضواء في نظرنا فالبشارة كما قدمنا، عمل جامع له عناصره المتنوعة: تجديد للبشرية، شهادة إعلان صريح، إذعان ورضاء بالقلب، دخول في البيعة، تقبل لعلامات، مبادرة بالنشاط الرسولي. وقد تبدو هذه العناصر كلها متعارضة فيما بينها، الواحدة للأخرى، بل كأن كلا منها كاف ومانع. والحقيقة أنها متكاملة، كل منها يضفي على الآخر غنى. وينبغي دائماً النظر إلى كل منها مندمجاً في الأخرى. ويرجع الفضل لسينودس الأساقفة الأخير، في دعوتنا باستمرار إلى الجمع بين هذه العناصر، بدلاً من اعتبارها متعارضة فيما بينها، حتى يتسنى لنا أن نتفهم تفهماً كاملاً نشاط الكنيسة في البشارة.
وهذه النظرة الجامعة هي التي نريد الآن عرضها، ببحث مضمون البشارة والأساليب المستخدمة في سبيلها، مع تحديد الشخص الذي نوجه إليه البشارة الإنجيلية، وعلى من يقع اليوم عبء القيام بها.
ثالثاً
مضمون البشارة الإنجيلية
المضمون الأساسي والعناصر الثانوية:
25- لا شك أن الرسالة التي تعلنها الكنيسة، لها عناصر كثيرة ثانوية. وتقديمها مرتبط إلى حد كبير، بالظروف المتغيرة. لذلك تتغير أيضاً هذه العناصر. ولكن هناك المضمون الأساسي، والجوهر الحيوي الذي لا يمكن تبديله والسكوت عنه، دون تعرض البشارة لتشوه خطير.
الشهادة لمحبة الآب:
26- ليس من ناقلة القول أن نذكر بأن البشارة الإنجيلية تقتضي أولاً الشهادة بصورة مبسطة ومباشرة، للإله الذي كشف عنه يسوع المسيح، في الروح القدس، الشهادة بأنه في ابنه قد أحب العالم، وأنه في “كلمته” المتجسد قد منح الوجود لجميع الكائنات، ودعا البشر إلى الحياة الأبدية. وهذه الشهادة عن الله قد تتصل بالنسبة للكثيرين بالإله المجهول (55)، الذي يعبدونه دون أن يتعرفوا على اسمه، أو يبحثون عنه بدافع سرى في قلوبهم، عندما يختبرون الفراغ الذي يتخلف عن جميع الأصنام. ولكنها شهادة تحمل طابع البشارة كاملاً، إذ تكشف أن الخالق ليس بالنسبة للإنسان قوة غير مسماة متباعدة، وإنما هو أب ونحن ندعى أبناء الله، ونحن في الواقع كذلك (56)، فنحن بالتالي أخوة بعضنا لبعض في الله.
محور الرسالة: الخلاص في يسوع المسيح:
27- وستتضمن البشارة أيضاً دائماً – بمثابة المركز والقمة لقوة الحركة – إعلاناً صريحاً واضحاً بأنه في المسيح يسوع ابن الله المتجسد الذي مات وقام، يكون الخلاص معروضاً على كل إنسان بمثابة هبة نعمة ورحمة من لدن الله (57). وهو ليس خلاصاً مستقراً في العالم على قدر احتياجات الإنسان المادية أو أيضاً الروحية، مقتصراً على ما هو داخل إطار الوجود الزمني ومختلطاً كلية مع الرغبات والآمال والمشاغل والكفاحات الزمنية. وإنما هو خلاص يتجاوز كل تلك الحدود فيكتمل في وحدة مع المطلق الأوحد، أي المطلق الإلهي. فهو خلاص متسام على هذا العالم، ومتصل بمصير الإنسان ما بعد هذا العالم، يأخذ بدايته حقاً في الحياة الحاضرة، ولكن يتحقق بالكامل في الحياة الأبدية.
في ظل الرجاء:
28- لذلك فإن البشارة لا يسعها إلا أن تتضمن إعلاماً نبوياً بما وراء هذه الحياة، بدعوة عميقة ونهائية للإنسان، على اتصال وعلى انفصال في نفس الوقت مع الحياة الراهنة: فيما وراء الزمان والتاريخ، وما وراء واقع هذا العالم الذي يزول وجهه وظاهره، ووراء أشياء هذا العالم الذي له بعد خفي لا بد وأن ينكشف يوماً، وما وراء الإنسان نفسه الذي لا يستنفد مصيره الحقيقي في صورته الزمنية، وإنما سوف يتجلى في الحياة الأخرى (58) فالبشارة تتضمن بالتالي أيضاً المناداة بالرجاء في مواعيد الله التي قطعها في العهد الجديد بالمسيح يسوع، والكرازة بمحبة الله لنا وبمحبتنا لله، والكرازة بالمحبة الأخوية نحو الجميع – وهي قدرة على العطاء والمغفرة ونكران الذات ومعاونة الأخوة – التي تشتق من محبة الله، بمثابة نواة للإنجيل، والكرازة بالسر الكامن في الشر وبالسعي الإيجابي نحو الخير. وهي الكرازة أيضاً – وهي ضرورة عاجلة. بالبحث عن الله ذاته، خلال الصلاة، وبخاصة صلاة العبادة والشكر، ولكن أيضاً خلال المشاركة مع تلك العلامة المنظورة للقاء الله التي هي كنيسة يسوع المسيح. وهذه المشاركة تترجم بدورها بممارسة تلك العلامات الأخرى الدالة على المسيح الحي والعامل في الكنيسة، أعني أسرارها المقدسة. فإذا عشنا كذلك أسرار الكنيسة بحيث يصل الاحتفال بها إلى الامتلاء الحق، لا نكون، كما قد يدعي البعض، قد وضعنا عائقاً في سبيل البشارة، أو قبلنا إنحرافها، وإنما نكون قد أتحنا لها بلوغ مداها كاملاً. لأن البشارة الكاملة لا تقف عند حد الكرازة بدعوة، وإنما تكون بترسيخ جذور الكنيسة التي لا يستقر لها كيان دون أن تعيش بحياة الأسرار التي تبلغ قمتها في سر القربان الأقدس (59).
والرسالة تتعلق بالحياة كلها:
29- ولكن البشارة لن تكون كاملة ما لم تقم الاعتبار للعلاقات الإيجابية والدائمة بين الإنجيل وحياة الإنسان، الشخصية والاجتماعية. لذلك فإن البشارة تشمل رسالة صريحة، تتواءم مع الأوضاع المتنوعة، توفق باستمرار مع مقتضيات الحالة القائمة، وبشأن الحقوق والواجبات المتعلقة بكل شخص بشري، وبشأن حياة الأسرة التي بدونها يتعذر تحقيق التفتح الشخصي (60)، وبشأن الحياة المشتركة في المجتمع والحياة الدولية.
ورسالة تحرير:
30- نعلم بأية تعبيرات تحدث عن ذلك أساقفة عديدون من جميع القارات وبخاصة أساقفة العالم الثالث، في السينودس الأخير، في نبرة رعائية خالجتها أصوات الملايين من أبناء الكنيسة الذين يشكلون هذه الشعوب. وهذه الشعوب ملتزمة بكل طاقاتها في الجهاد والكفاح، من أجل اقتحام كل ما يقضي عليه بأن يظلوا على هامش الحياة: من مجاعات، وأمراض مزمنة، وأمية، وبؤس، وألوان ظلم واستغلال، في العلاقات الدولية، وبخاصة في المبادلات التجارية وأوضاع الاستعمار الجديد الاقتصادي والثقافي، التي تضاهي أحياناً ضراوة الاستعمار السياسي القديم. فالكنيسة، على حد ما ردده الأساقفة، يقع على عاتقها واجب إعلان تحرير الملايين من بني البشر، والعديدون هم أبناؤها الأخصاء، وواجب المعاونة على انطلاق هذا التحرير، والشهادة له، والعمل على أن يكون شاملاً. فليس في ذلك ما يعد غريباً عن البشارة الأجنبية.
على علاقة حتمية بالارتقاء الإنساني:
31- إذ أنه ما بين البشارة والارتقاء الإنساني – في التنمية والتحرير – في الواقع روابط عميقة. روابط عميقة. روابط متعلقة بكيان الإنسان، لأن الإنسان المطلوب تقديم البشارة إليه، ليس كائناً معنوياً، ولكنه موضوع خاضع لمشاكل اجتماعية واقتصادية. والروابط هي ذات طابع لاهوتي، لأنه لا يمكن الفصل بين ما يتعلق بنظام الخلق، وما يتصل بترتيب الفداء الذي يمس خاصة الحالات الواقعية القائمة على ظلم يتعين مكافحته أو عدالة لابد من استعادتها. وهي روابط ذلك النظام الإنجيلي الأسمى الذي هو نظام المحبة: إذ كيف يسوغ لنا أن نعلن هذه الوصية الجديدة دون أن نسعى إلى تنمية الإنسان تنمية أصلية سليمة في العدالة والسلام الحق؟ وقد تعمدنا أن نشير نحن بأنفسنا إلى ذلك، بالتذكير بأنه لا يمكننا أن نقبل “أنه يمكن أو ينبغي أن تسقط البشارة في عملها، تلك المشاكل الخطيرة للغاية التي تثير كثيراً من الضجة اليوم، في شأن العدالة والتحرير والتنمية والسلام في العالم. ولو حدث أن أغفلت الكرازة ذلك، لكان معناه تجاهل تعليم الإنجيل عن محبة القريب الذي يتألم أو يشكو الحاجة (61).
وها هي نفس تلك الأصوات التي عرضت بحرارة خلال السينودس العام، لهذا الموضوع الساخن، قد قدمت – لمزيد اغتباطاً – المبادئ المضيئة التي تيسر إدراك ماهية التحرير بمعناه العميق، إدراكاً سليماً، على حد ما أعلنه وحققه يسوع الناصري، وما لا تفتأ الكنيسة تكرز به.
دون إنقاص ودون غموض:
32- ينبغي أن لا يفوتنا أن مسيحيين عديدين من المطبوعين على السخاء والتأثر بالمسائل والمآسي التي تغطيها مشكلة التحرير، بينما هم يرغبون في إدخال الكنيسة في جهاد التحرير، تراودهم غالباً تلك النزعة بحصر رسالتها داخل أبعاد نشاط زمني بحت، وقصر أهدافها في حدود نظرة محورها ذاتية الإنسان، فيقصرون الخلاص الذي تقدمه الكنيسة كأنه رسالتها، وتعبر عنه بمثابة علامة سر مقدس يجلب النعمة، على الراحة والرفاهية الماديتين، وينظرون إلى نشاطها مع إغفال كل اهتمام روحي أو ديني، ويقفونه عند حد المبادرات ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي. ولو كانت رسالة الكنيسة على ذلك النحو، لانتهت بفقد معناها الجوهري، ولما بقيت لرسالتها في التحرير نوعيتها الأصلية، ولانتهى الأمر إلى تيسير الاستحواذ على رسالتها وإدارتها بمعرفة بعض الأنظمة الأيديولوجية والأحزاب السياسية. ولما عادت لها حجة للدعوة للتحرير باعتباره آتياً من لدن الله. لذلك أردنا أن نركز في ذات الخطاب الذي ألقيناه عند افتتاح دورة السينودس الثالثة، على “أنه من الضروري أن نؤكد من جديد بوضوح، أن البشارة الإنجيلية هدفها ديني في نوعيته فهي تفقد سبب وجودها لو حادت عن المحور الديني الذي يحركها: ألا وهو ملكوت الله قبل أي شيء آخر، بمعناه اللاهوتي الكامل” (62).
التحرير الإنجيلي…
33- بل يجب أن نقول عن التحرير الذي تدعو إليه بشارة الإنجيل وتسعى في سبيل تحقيقه، أنه:
– لا يمكن حصر هذا التحرير في البعد الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي فقط، وإنما ينبغي أن يواجه الإنسان في كليته بكل أبعاده، بما في ذلك انفتاحه على المطلق، حتى على المطلق الإلهي.
– ولذلك فالتحرير يرتبط بمفهوم معين عن الإنسان، وبتصور عن علم الكيان الإنساني، لا يسوغ مطلقاً أن يضحى بهما في سبيل متطلبات تنظيم استراتيجي أياً كان، أو ترتيبات عملية، أو الحصول على فاعلية عاجلة.
محوره ملكوت الله…
34- لذلك فإن الكنيسة إذ تنادي بالتحرير وتتعاون مع أولئك الذين يعملون ويضحون في سبيل تحقيقه، – ومع عدم قبولها حصر رسالتها في دائرة الأمور الدينية فقط، عزوفاً عن مشاكل الإنسان الزمنية -، تعود فتؤكد أولوية الروحانية في دعوتها، فترفض أن تبدل بإعلان الملكوت، المنادات بالحريات الإنسانية، فتعلن أن مساهمتها في حركة التحرير تكون منقوصة إذا ما أغفلت هي إعلان الخلاص بيسوع المسيح.
مع نظرة إنجيلية إلى الإنسان…
35- فالكنيسة تقرب، ولكنها لا توحد أبداً ما بين التحرير الإنساني والخلاص في يسوع المسيح، لأنها تعلم بفضل الوحي، وباختبارها التاريخي، وبتفكيرها المبني على الإيمان، أن كل مفهوم للتحرير ليس حتماً متمشياً مع النظرة الإنجيلية إلى الإنسان والأشياء والأحداث. وهي تعلم أنه لا يكفي أن يستقر التحرير وأن توجد الرفاهية والتنمية، حتى يأتي ملكوت الله…
بل أكثر من ذلك فإن الكنيسة تعتقد اعتقاداً راسخاً أن كل تحرير زمني وكل تحرير سياسي – حتى إن حاول الاستناد في تبريره إلى هذا أو ذاك المقطع من العهد القديم أو العهد الجديد، وحتى لو اعتمد في متطلباته الأيديولوجية وقواعد نشاطه، على حجية المعطيات والنتائج اللاهوتية، وحتى لو كان يظن أنه هو علم اللاهوت المناسب للساعة – يحمل في طياته بذور النقض لذاته، ويسقط عن مستوى المثل الأعلى الذي يصبو إليه، طالما لا تكون دوافعه العميقة هي بعينها دوافع العدالة في المحبة وما دامت الإنطلاقة الدافعة له ليست ذات بعد روحي حقيقي، وهدفه النهائي لا يقوم على الخلاص وعلى السعادة والاغتباط في الله.
.. تنطوي على اهتداء لا غنى عنه:
36- فالكنيسة ترى ولاشك، أنه من المهم ومن الأمر العاجل، تشييد هياكل وتنظيمات أكثر إنسانية وأوفر عدالة وأبعد احتراماً لحقوق الشخص البشري، وأقل ظلماً وتسخيراً له. ولكنها تعي أن خير التشكيلات وأنسب النظم وأدقها تخطيطاً، سرعان ما تصبح خالية من طابع الإنسانية، طالما لم يطهر قلب الإنسان من الميول البعيدة عن الإنسانية، ولم يتحقق الارتداد والهداية في القلب وفي النظرة لدى أولئك الذي يعيشون داخل تلك الهياكل والتشكيلات أو يحكمون فيها.
.. وتستبعد العنف:
37- ولا تستطيع الكنيسة أن تقبل استخدام العنف وخاصة قوة السلاح – التي تكون لا رقيب عليها عندما تنطلق دون هوادة – ولا قتل أي إنسان كان باعتبار أن ذلك هو سبيل التحرير، لأنها تعلم أن العنف دائماً يجر وراءه العنف، ويولد لا محالة صوراً جديدة من الظلم والعبودية، كثيراً ما تكون أشد وطأة من تلك التي كان العنف يدعي التحرير منها. وقد قلنا ذلك بوضوح خلال رحلتنا إلى كولومبيا: “اسمحوا لنا أخيراً بأن ندعوكم إلى عدم صب ثقتكم في العنف وفي الثورة، إن ذلك ليتعارض والروح المسيحية، وقد يكون من شأنه أن يعطل، بدلاً من أن يشجع، التقدم الاجتماعي الذي تهدفون إليه بحق” (63) وينبغي أن نقرر ونؤكد أن العنف ليس لا مسيحياً ولا إنجيلياً، وأن التغييرات المفاجئة أو العنيفة التي تطرأ على الهياكل والتشكيلات قد تكون غير جدية، وغير مجدية في ذاتها، وبكل تأكيد غير مطابقة لكرامة الإنسان” (64).
38- هذا وإنه من دواعي اغتباطنا أن يزداد وعي الكنيسة للأسلوب الخاص، الإنجيلي الأصيل، الذي يدفعها على المعاونة في تحرير الناس. فماذا تصنع؟ أنها تسعى أكثر فأكثر لحث العديدين من المسيحيين ممن يهبون ذواتهم لتحرير الآخرين، فهي تقدم لهؤلاء المسيحيين “الساعين في التحرير” إلهاماً إيمانياً، وبواعث المحبة الأخوية وتعليماً اجتماعياً لا يسع المسيحي أن لا يصغي إليه، بل ينبغي أن يجعله أساساً لحكمته وخبرته، حتى يترجمه إيجابياً إلى أنواع من العمل والمشاركة والالتزام. وكل ذلك يجب أن لا يختلط بمواقف وخطط مغرضة أو بخدمة نظام سياسي معين، وينبغي أن يميز انطلاقه المسيحي الملتزم. فالكنيسة تحاول باستمرار أن تدمج النضال المسيحي من أجل التحرير، داخل التخطيط الشامل للخلاص الذي تتولى هي المناداة به.
وما نقوم هنا بالتذكير به، قد برز أكثر من مرة خلال مناقشات السينودس العام. ومن جهة أخرى فقد قصدنا أن نخص هذا الموضوع ببعض عبارات توضيحية في سياق الخطاب الذي ألقيناه على آباء السينودس عند انفضاض دورتهم (65). ونأمل أن تكون تلك الاعتبارات كلها مما يساعد على تجنب الغموض الذي كثيراً ما يحوم حول لفظ “التحرير” في الأيديولوجيات والأنظمة أو الجماعات السياسية. إن التحرير الذي تنادي به البشارة الإنجيلية وتهيء له الجو، هو ذلك الذي أعلنه السيد المسيح ذاته خلال ذبيحته.
الحرية الدينية:
39- وهذا التحرير السليم المرتبط بالبشارة الإنجيلية، الذي يسعى على وجه التحديد إلى إيجاد هياكل وتشكيلات تحافظ على الحرية الإنسانية، لا يسوغ الفصل بينه وبين ضرورة كفالة الحقوق الإنسانية جميعها، ومنها الحرية الدينية التي تحتل مكانة خطيرة. وقد تحدثنا مؤخراً عن هذه المشكلة باعتبارها مشكلة الساعة، فأشرنا إلى أنه “كل من المسيحيين يرزحون حتى اليوم تحت وطأة ظلم متواصل مخطط بسبب كونهم مسيحيين ولأنهم من الكاثوليك. فالمأساة في الوفاء للمسيح وفي طلب الحرية الدينية، مازالت قائمة ومستمرة، ولو كانت مستترة وراء بيانات قاطعة تقول بتأييد حقوق الشخص البشري والمجتمع” (66).
رابعاً
طرق البشارة الإنجيلية
البحث عن الوسائل الملائمة:
40- إن الأهمية لبدهية لمضمون البشارة الإنجيلية ينبغي أن لا تحجب أهمية الطرق والوسائل.
فالتساؤل “كيف تكون الكرازة بالإنجيل؟ لا يزال له أهميته في الوقت الحاضر، لأن طرق الكرازة بالإنجيل تتنوع بتنوع ملابسات الزمان والمكان والثقافة، وهي بذلك تواجه بنوع من التحدي قدرتنا على الاكتشاف ومواءمة الواقع.
فعلينا خاصة، نحن الرعاة في الكنيسة، يقع عبء الاهتمام بالتجديد في جرأة وحكمة، وبكل أمانة لمضمون البشارة الإنجيلية، بإيجاد أكثر الطرق ملائمة وفاعلية لتبليغ الرسالة الإنجيلية إلى أبناء زماننا. ونكتفي في تفكيرنا هذا بأن نذكر ببعض الطرق التي لها أهمية خاصة لسبب أو لآخر.
شهادة الحياة:
41- فأولاً ودون حاجة إلى مراجعة ما ذكرنا أعلاه، من المفيد أن نركز على ما يلي: أن الشهادة بحياة مسيحية صادقة مقدمة لله في وحدة لا يفصمها شيء، ولكن موقوفة أيضاً على خدمة القريب في بذل لا حد له، تعتبر في نظر الكنيسة الطريقة الأولى من طرق البشارة الإنجيلية. “فالإنسان المعاصر يصغي بترحيب أوفر إلى الشهود أكثر منه إلى المعلمين – وقد صرحنا بذلك أخيراً لمجموعة من العلمانيين -، أو إذا أصغى إلى المعلمين، فإنما يصغي إليهم لكونهم شهوداً (67). وقد عبر القديس بطرس عن ذلك خاصة عندما أشار إلى مشهد حياة تتسم بالطهر والاحترام قائلاً: نربح بدون كلام حتى أولئك الذين يرفضون الإيمان “بالكلمة” (68). لذلك فإن الكنيسة بسيرتها وحياتها أولاً، تستطيع أن تكرز بالإنجيل في العالم، أي بشهادة حياتها التي تعيشها في وفاء للرب يسوع، وفي فقر وتجرد وتحرر تجاه سلطات هذا العالم، وباختصار في روح القداسة.
كرازة حية:
42- ليس من نافلة القول أن نركز بعد ذلك على مدى أهمية الكرازة وضرورتها”. كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون من غير مبشر؟ (…) فالإيمان إذا من السماع، والسماع من المناداة بكلام المسيح” (69) وهذا المبدأ الذي وضعه يوماً بولس الرسول، يحتفظ حتى الآن بكل قوته.
أجل تظل الكرازة على الدوام لا بديل لها، ذلك الإعلان الشفوي للرسالة. ونحن نعلم جيداً أن الإنسان المعاصر وقد شبع من الخطابات، كثيراً ما يبدو على ملل من الاستماع، بل أخطر من ذلك يبدو وكما لو كان اكتسب مناعة ضد الكلام. ونعلم أيضاً أفكار العديدين من علماء النفس والاجتماع، ممن يؤكدون أن الإنسان المعاصر قد تجاوز حضارة الكلام، الذي أصبح لا جدوى منه ولا فائدة وراءه، إذ يحيا الإنسان اليوم حضارة الصورة. فينبغي بالتأكيد أن يدفعنا هذا الواقع إلى تحريك الطرق الحديثة التي تفتقت عنها هذه الحضارة، في سبيل إيصال الرسالة الإنجيلية. وفعلاً قد بذلت جهود قيمة جداً في هذا الاتجاه. ولا يسعنا إلا أن نثني عليها ونحث على مواصلتها والتوسع فيها أكثر فأكثر. على أن الملل الذي تثيره بعض الخطابات الجوفاء، وظهور بعض وسائل تعبير أخرى عديدة تتفق مع مقتضيات الحال، لا ينبغي مع ذلك أن يترتب عليهما التنقيص من شأن قيمة الكلام الدائمة وقدر تأثيره، ولا فقد الثقة في فاعليته. فالكلام يظل دائماً له قدره في التعبير عن الحال، وبخاصة عندما يكون ناقلاً قوة الله” (70) لذلك يظل ذلك المبدأ الذي أورده بولس الرسول محتفظاً هو الآخر بقيمته في مطابقة الحال: “الإيمان يأتي من السماع” (71). “فالكلمة” التي تسمع تقود إلى الإيمان.
دور الكلمة أثناء الخدمة الطقسية
43- تتخذ هذه الكرازة العاملة على نشر البشارة صوراً عديدة، توحي بالغيرة بالتجديد فيها إلى مالا نهاية. فعديدة لا حصر لها فعلاً أحداث الحياة والأوضاع الإنسانية التي تسنح خلالها المناسبة للإعلان بصورة رقيقة ولكن مؤثرة، عما يريد الرب أن يقوله في هذا الظرف. ويكفي أن نتمتع بشعور روحي رقيق، حتى نقرأ خلال الأحداث، دعوة الرسالة الموجهة إلينا من الله. ولكن في هذا الوقت الذي تجدد فيه الطقوس الكنسية على أثر أعمال المجمع المسكوني، الذي رفع كثيراً من شأن جزئها التعليمي الخاص بخدمة الكلمة، إنما نخطئ إن لم نر في العظة أداة قيمة مواتية تماماً للكرازة بالإنجيل. ولا شك أنه ينبغي أن نتعرف على متطلبات العظة وإمكانياتها، حتى يتاح لها أن تقوم بدورها الراعوي الفعال. ولكن ينبغي فضلاً عن ذلك خاصة، أن نقتنع بتلك الفاعلية، وأن نوجه لها العناية بدافع من الحب. وهذه الكرازة المندمجة اندماجاً خاصاً في الاحتفال بذبيحة الأفخارستيا، والتي تستمد منها قوة وحيوية خاصتين، لها دورها الخاص بلا شك في البشارة بالإنجيل، بقدر ما تكون معبرة عن الإيمان العميق لدى الخادم المكرس الذي يقوم بالوعظ، وبقدر تشبعها بالحب. والمؤمنون المجتمعون متآلفين في كنيسة فصحية تحتفل بعيد الرب الحاضر وسطهم، ينتظرون الكثير من وراء هذه الكرازة، وفعلاً يستمدون منها ثماراً يانعة بشرط أن تكون مبسطة، واضحة، مخاطبة لهم مباشرة، مناسبة، مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالتعليم الإنجيلي، ومحافظة بإخلاص على تعليم السلطة الكنسية، منتعشة بحرارة رسولية متزنة تأتيها من طبيعتها النوعية الخاصة، عامرة بالرجاء، مغذية للإيمان، باعثة على السلام والوحدة. وكم من الجماعات الراعوية في الكنائس وغيرها تحيا وتتدعم بفضل العظة التي تلقى يوم الأحد عندما تتوفر فيها تلك الصفات.
ونضيف إلى ذلك أنه بفضل هذا التجديد في الطقوس، لم يعد الاحتفال بذبيحة الإفخارستيا التوقيت الوحيد المناسب لإلقاء العظة. وإنما تجد العظة محلها ولا ينبغي إغفالها، في الاحتفال بمنح جميع الأسرار الكنسية، أو حتى خلال الطقوس الإضافية، في إطار اجتماعات المؤمنين. وسوف تكون باستمرار فرصة سانحة ممتازة لإبلاغ “كلمة الرب”.
في التعليم المسيحي:
44- وهناك طريق آخر ينبغي عدم إغفاله في البشارة الإنجيلية، طريق التعليم المسيحي. إن الفهم، وبخاصة عند الصغار والمراهقين، يجعلهم في حاجة إلى أن يلقنوا بواسطة تعليم ديني نظامي، المعطيات الأساسية، والمضمون الحي للحقيقة التي أراد الله أن يبلغها لنا، والتي سعت الكنيسة إلى التعبير عنها بأسلوب أكثر فأكثر وضوحاً، على مدى تاريخها الطويل. وما من أحد يخالفنا في ضرورة توفير هذا التعليم، بحيث يؤدي إلى التهذيب العادات الخاصة بالحياة المسيحية، ولا يظل على مستوى فكري فقط. ومن المؤكد أن الجهود التي تبذل في سبيل البشارة الإنجيلية سوف تعود بفائدة كبيرة على مستوى التعليم الديني المعطى في الكنيسة أو المدارس حيث يكون متيسراً، وعلى كل حال في الأيسر المسيحية، إذا ما توفرت لدى القائمين على التعليم الديني الكتب المناسبة المطورة حسب مطالب الساعة، عن حكمة وكفاءة، تحت إشراف الأساقفة. على أن تكون الأساليب ملائمة للسن والثقافة وللقدرة على الاستيعاب لدى الدارسين، مع السعي باستمرار لتركيز الحقائق الأساسية التي ينبغي أن تتشبع بها الحياة كلها، في الذاكرة والعقل والقلب. ويجب خاصة إعداد معلمين أكفاء للتعليم المسيحي – من قائمين على التربية المسيحية في الخورنات، ومدرسين، ووالدين -، يكونون ساهرين على أن يتقنوا هذا الفن الرفيع في التعليم الديني، الذي لا غنى عنه والذي يفرض مطالب مشددة. وعلى كل حال مع عدم إغفال تثقيف الأطفال في أية ناحية، يلاحظ أن الأوضاع الراهنة تدعو بإلحاح شديد يوماً بعد يوم إلى توفير التعليم الديني، على غرار أعداد الموعوظين، بالنسبة للكثيرين من الشباب والكبار ممن تمسهم النعمة، فيكتشفون شيئاً فشيئاً وجه المسيح، ويشعرون بالحاجة إلى أن يهبوا ذواتهم إليه.
استخدام وسائل التعبير الاجتماعي:
45- وفي عصرنا هذا الذي يمتاز بوسائل التعبير الاجتماعي، لا يمكن الاستغناء عن هذه الوسائل منذ أول مرحلة من البشارة، أو في التعليم الديني، أو التعمق اللاحق في الإيمان، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.
فإذا وضعت هذه الوسائل في خدمة الإنجيل، كان من شأنها أن توسع دائرة الإصغاء إلى “كلمة ” الله تقريباً إلى مالا نهاية، وأن توصل الخبر السار إلى ملايين الأشخاص. وتشعر الكنيسة بالإدانة أمام الرب أن لم تسخر تلك الوسائل الجبارة التي يتفق العقل البشري كل يوم عن زيادتها اتقاناً. فبواسطتها تعلن الكنيسة “على الملأ” (72) الرسالة التي تسلمتها كوديعة. وفي إطارها تجد أسلوباً معاصراً وفعالاً للوعظ على المنبر. وبفضلها تنجح في مخاطبة الجماهير.
غير أن استخدام وسائل التعبير الاجتماعي في البشارة ينطوي على نوع من التحدي: إذ المطلوب أن تصل الرسالة الإنجيلية خلال هذه الوسائل الإعلامية، إلى جماهير من البشر، ولكن بشرط أن تقدر على النفوذ إلى قراره ضمير كل شخص، والاستقرار في قلبه، كما لو كان هو المقصود الوحيد، مع كل ما يميزه من جوانب فردية وشخصية، وأن تفوز من جانبه بقبول والتزام شخصين إلى أقصى حد.
اتصال شخصي لا بد منه:
46- لذلك فإنه بجانب إعلان الإنجيل بالصورة العامة هذه، تقوم صورة أخرى لتوصيله من الشخص إلى الشخص، لها قدرها وأهميتها. وقد استخدمها الرب كثيراً – وأحاديثه مع نيقوديموس، وزكا، والسامرية، وسمعان الفريسي، مثلاً، تشهد بذلك – وفعل الرسل كذلك. فهل من طريقة أخرى لتوصيل الإنجيل غير نقل الاختبار الإيماني الشخصي من إنسان لآخر؟ ينبغي أن لا يدعونا داعي التعجل في إعلان الخبر السار للجماهير من الناس، إلى إغفال تلك الصورة لنشرة التي تمسى قرارة ضمير شخص بشري، يتأثر من كلمة غير عادية تلقاها عن إنسان آخر. ولا يسعنا أن نعبر عن مدى الخير الذي يسديه الكهنة خلال سر التوبة، أو في الحوار الراعوي، عندما يبدون استعدادهم لإرشاد الأشخاص في سبل الإنجيل، ولتثبيتهم في مجهوداتهم، ولإنهاضهم إذا ما سقطوا، ولمساعدتهم باستمرار عن حكمة وإقبال على المعاونة.
دور الأسرار المقدسة:
47- ومن جهة أخرى، لا يسعنا الإلحاح بالكفاية، على كون البشارة الإنجيلية لا تقف عند حد الكرازة وتلقين تعليم العقيدة. لأنه لا بد لها من أن تنفذ في الحياة: تنفذ أولاً في الحياة الطبيعية التي تضفي عليها معنى جديداً بفضل ما تفتحه أمامها من تطلعات إنجيلية، وتنفذ ثانياً في الحياة الفائقة الطبيعة التي لا تنفي الحياة الطبيعية بل تنقيها وتسمو بها. وتجد هذه الحياة الفائقة الطبيعية تعبيرها الحي في أسرار الكنيسة السبعة، وفي إشعاع النعمة والقداسة العجيب النابع منها.
فهكذا تصب البشارة الإنجيلية كل غناها عندما تحقق العلاقة الصميمة، بل التبادل المتواصل الذي لا ينقطع أبداً، بين الكلمة والأسرار. وبنوع ما قد نقع في لبس، كما يحدث في بعض الأحيان، إذا ما اعتبرنا أن هناك تعارضاً بين البشارة الإنجيلية وتوزيع الأسرار. حقيقة أن منح الأسرار بصورة ما، دون التركيز على تعليم سديد عن تلك الأسرار وعلى تكوين ديني شامل، قد ينتهي إلى سلب الأسرار قدراً كبيراً من فاعليتها. فدور البشارة الإنجيلية يقوم بوجه التحديد على التربية على الإيمان إلى حد جعله يقود كل مسيحي نحو الحياة بالأسرار – بدلاً من قبولها قبولاً سلبياً أو انصياعاً لها – باعتبارها حقيقة قائمة على الإيمان.
التقوى الشعبية:
48- وهنا نلمس ناحية من البشارة الإنجيلية لا يسعنا أن نغفل تأثرنا إزاءها. ونقصد التنويه بما يعبر عنه اليوم بعبارة “التدين الشعبي”.
فسواء في المناطق التي استقرت فيها الكنيسة منذ أجيال، أو حيثما تكون في طريقها إلى الاستقرار، نصادف لدى الشعب بعض المظاهر التعبيرية الخاصة في البحث عن الله وعن الإيمان. فبينما كانت تلك التعبيرات تعتبر مدة طويلة منقوصة النقاوة، وأحياناً غير جديرة بالاحترام، إذا بها اليوم تعد في بعض البقاع في جهات كثيرة، موضع اكتشاف من جديد. وقد تعمق الأساقفة في مدلولها، خلال أعمال السينودس الأخيرة، في واقعية وغيرة جديرتين بالتقدير.
ويمكن أن نقرر أن التدين الشعبي له حدوده بالتأكيد. وكثيراً ما يكون عرضة لتطرق العديد من الانحرافات الدينية، بل الخرافات. وغلباً يظل على مستوى الممارسات العبادية، دون أن يؤدي إلى قبول حقيقي للإيمان. بل قد يقود إلى تشكيل بعض الشبع، ويعرض الجماعة الكنيسة الأصلية للخطر.
ولكن متى كان هذا التدين موجهاً توجيهاً سليماً، وخاصة بفضل ابتاع فن تربوي للبشارة، فإنه يصبح غنياً بالقيم. فيترجم نوعاً من التعطش إلى الله لا يحس به سوى البسطاء والفقراء وحدهم. فهو يجعل الإنسان مستعداً للبذل بسخاء وبتضحية، يصل إلى حد البطولة، عندما يكون بصدد إظهار إيمانه. ويقوم على مفهوم دقيق حاد لصفات الله العميقة: الأبوة، والعناية الإلهية، وحضوره معنا المطبوع على المحبة والدوام. فهو يولد استعدادات داخلية قلما تتوفر بدونه على نفس الدرجة: الصبر، روح تحمل الصليب في الحياة اليومية، التجرد، التفتح للآخرين، الإخلاص في التعبد. ومن أجل هذه النواحي نطلق عليه بكل ارتياح أفضل من لفظ “التدين الشكلي” أو “التدينية”.
وينبغي أن تلهم المحبة الراعوية جميع الذين أقامهم الرب رؤساء على البيعات الكنيسية، قواعد التصرف إزاء تلك الحقيقة الواقعة، الداخرة بالغنى والمحفوفة بالأخطار في نفس الوقت. فقبل كل شيء ينبغي أن نحس بها، ونعرف كيف نلمس أبعادها الداخلية وقيمها البعيدة عن الجدل، فنبدي الاستعداد لمساعدتها على تجنب أخطار الانحراف. فإذا وجه هذا التدين الشعبي توجيهاً صحيحاً، أمكنه أن يوفر أكثر فأكثر لجماعاتنا الشعبية لقاء صحيحاً مع الله في يسوع المسيح.
خامساً
المخاطبون بالبشارة الإنجيلية
مخاطبة عالمية:
49- إن كلمات يسوع الأخيرة الواردة في إنجيل مرقس. تسبغ على البشارة الإنجيلية التي كلف الرب الرسل بها، طابعاً عالمياً لا حدود له “اذهبوا في الأرض وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين” (73).
وقد أدرك الرسل الاثنا عشر والجيل الأول من المسيحيين جيداً، الدرس المتضمن في هذا النص وغيره، فجعلوا منه منهجاً للعمل. وقد أسهم الاضطهاد ذاته، بتشتيته الرسل، في نشر (الكلمة) وترسيخ أقدام الكنيسة في مناطق متباعدة أكثر فأكثر. وقبول بولس في صفوف الرسل مع موهبته للكرازة بمجيء يسوع المسيح إلى الوثنيين – أي غير اليهود – قد دعا بالأكثر إلى إبراز طابع العالمية هذا.
بالرغم من كافة العوائق:
50- وخلال العشرين قرناً من التاريخ، قد واجهت الأجيال المسيحية المتتالية، مواجهة متواترة، عقبات متنوعة أعترضت طريق هذه الرسالة العالمية. فمن جهة راود القائمين على البشارة أنفسهم الإغراء بتقييد حقل نشاطهم الرسولي بحجج مختلفة. ومن جهة أخرى ظهرت مقاومات، من المتعذر على المستوى الإنساني التغلب عليها، من جانب أولئك الذين يخاطبهم كارز البشارة. على أنه ينبغي لنا أن نلاحظ مع الأسف، أن نشاط الكنيسة في الكرازة يصادف معاكسة شديدة، إن لم نقل حظراً، من قبل بعض السلطات العامة. ويحدث في أيامنا هذه أن يحرم من حقوقهم بعض القائمين على إعلان “كلمة” الله، فيضطهدون ويواجهون التهديدات ويستبعدون لمجرد توليهم الكرازة بيسوع المسيح وبإنجيله. على أننا تحدونا الثقة بأنه رغم هذه التجارب الأليمة، لن يتعطل نهائياً عمل هؤلاء الرسل في أية بقعة من المعمورة.
وبالرغم من تلك المعاكسات تجدد الكنيسة باستمرار إلهامها العميق الآتي مباشرة من معملها، الذي يدعوها أن تذهب نحو العالم بأسره، نحو كل خليقة، حتى أقاصي المسكونة. وقد فعلت ذلك من جديد في السينودس العام الأخير، بمثابة نداء أطلقته بألا تجعل البشارة حبيسة، مقصورة على قطاع دون غيره من الإنسانية، أو على فئة بذاتها من البشر، أو على نوعية واحدة من الثقافة. ولنا في بعض الأمثلة ما يوضح ذلك.
البشارة الأولى موجهة إلى من هم بعيدون:
51- اقتضى المنهج الأساسي الذي تبنته الكنيسة منذ صبيحة العنصرية، باعتباره مسلماً لها من لدن مؤسسها، أن تعلن يسوع المسيح وإنجيله إلى أولئك الذين لا يعرفونه. فأسفار العهد الجديد برمتها وبخاصة أعمال الرسل، تشهد بتلك الفترة الممتازة والنموذجية بنوع ما، التي قطعها ذلك الجهد الرسولي، ثم سوف يسير بعدها مع تاريخ الكنيسة كله.
وهذه الكرازة الأولى بيسوع المسيح تحققها الكنيسة بنشاط متشعب ومتنوع، تطلق عليه أحياناً تسمية “البشارة التمهيدية”، وهو في الواقع بدء البشارة ذاتها، ولو في مرحلتها الأولى وغير المكتملة. وأمامنا سلسلة لا نهاية لها تقريباً من الوسائل، الكرازة الصريحة دون شك، ولكن أيضاً الفن والاتصال العلمي، والبحث الفلسفي، والاعتماد المشروع على لمس عواطف قلب الإنسان، كلها مما يجوز استخدامه في هذا السبيل.
الإعلان للعالم الذي تخلّى عن المسيحية
52- إن كانت هذه الكرازة الأولى موجهة بصفة خاصة نحو أولئك الذين لم يسمعوا قط بالخير السار عن يسوع المسيح، أو نحو الأطفال، إلا أنها تبدو حتى الآن ضرورة أكثر إلحاحاً أيضاً، بسبب حالات التخلي عن المسيحية المنتشرة كثيراً في أيامنا هذه، بالنسبة للأعداد الغفيرة من الأشخاص الذين نالوا سر العماد، ولكن أخذوا يعيشون على هامش كل حياة مسيحية، وبالنسبة لأناس بسطاء احتفظوا بنوع من الإيمان مع إدراكهم إدراكاً خاطئاً لأسس ذلك الإيمان، وبالنسبة لبعض المفكرين ممن يشعرون بالحاجة لمعرفة يسوع المسيح على ضوء آخر، غير ذلك التعليم الذي تلقوه في طفولتهم، بل تجاه آخرين كثيرين.
الديانات غير المسيحية:
53- وتتجه الكرازة أيضاً نحو قطاعات شاسعة من البشر ممن يمارسون ديانات غير مسيحية، تحترمها الكنيسة وتقدرها. لأنها تشكل التعبير الحي للنفس في جماعات إنسانية واسعة. فهي تنطوي في ذاتها على صدى آلاف السنين في البحث عن الله، بحثاً غير كامل، ولكن عن إخلاص وسلامة قلب. وتقوم على تراث عجيب من نصوص ذات روح دينية عميقة، وقد علمت أجيالاً من الناس كيف يصلون. وتتناثر فيها عدد لا حصر له من “بذور الكلمة” (74) ويمكن أن تشكل “تهيئة إنجيلية” أصلية (75). على حد تعبير موفق اقتبسه المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” من أوسابيوس القيصري.
إن مثل هذه الحال من شأنها أن تثير بصفة أكيدة مسائل متشعبة ودقيقة، يحسن دراستها على ضوء التقليد المسيحي وتعليم السلطة الكنسية، توطئة لفتح آفاق جديدة أمام المبعوثين للرسالة اليوم وفي المستقبل، في اتصالاتهم بالديانات غير المسيحية. ونريد أن نشير بصفة خاصة اليوم إلى أن احترام أو تقدير هذه الديانات، وتشعب المشاكل المتوقع إثارتها، ليس من شأنها أن تدعو الكنيسة إلى حبس إعلان يسوع المسيح عن غير المسيحيين، بل بالعكس ترى الكنيسة أن تلك الجموع لها الحق في التعرف على غنى سر المسيح (76) الذي نعتقد أن في طياته تستطيع البشرية بأسرها أن تجد، في امتلاء لا تفطن إليه، كل ما تتحسسه هي على مراحل، بشأن الله والإنسان ومصيره، والحياة والموت، والحقيقة. لذلك فإنه حتى بالنسبة للتعبيرات الدينية الطبيعية الجديرة بكل تقدير، تستند الكنيسة بالتالي إلى أن دين يسوع، الذي تعلنه خلال البشارة الإنجيلية، يدخل الإنسان حقاً في علاقة مع تخطيط الله، ومع حضوره الحي ومع عمله. فهي تعد بذلك لقاء بسر الأبوة الإلهية التي تحنو على البشرية. وبعبارة أخرى فإن ديننا ينشئ فعلاً علاقة مع الله أصلية وحية، لا تفوز الديانات الأخرى بإقامتها، مع كون كل منها تجعل بنوع ما ذراعيها ممدودتين نحو السماء.
لذلك فإن الكنيسة تحتفظ بإنطلاقها الدافع لنشر الرسالة، بل ترغب في تكثيفه في المرحلة التاريخية التي نجتازها. وهي تشعر بمسؤوليتها تجاه شعوب بأسرها. فلا يهدأ لها بال طالما لم تبذل كل وسعها في سبيل مزيد من إعلان الخبر السار بمجيء المسيح المخلّص، فهي تهيئ باستمرار أجيالاً جديدة من الرسل. فلنقرر ذلك بابتهاج، بينما لا يخلو الأمر ممن يظنون أن الحرارة والدفعة الرسولية قد أصيبتا بالإنهاك، وأنه قد ولى زمن إيفاد مبعوثين للبشارة. فهذا هو السينودس يجيب بأن إعلان الرسالة بواسطة المبعوثين لا ينضب معينه، وأن الكنيسة سوف تولى أنظارها وجهودها نحو إتمام هذا الإعلان.
دعم إيمان المؤمنين:
54- على أن الكنيسة لا تعتبر نفسها معفاة من بذل عناية لا تكل أيضاً، نحو أولئك الذين حصلوا على الإيمان، ممن هم في أحيان كثيرة، على صلة بالإنجيل منذ أجيال طويلة. فهي تسعى إلى تعميق الإيمان وترسيخه وتغذيته وجعله أكثر فأكثر نضوجاً، لدى أولئك الذين يدعون محافظين على الإيمان أو مؤمنين، وذلك من أجل أن يزدادوا رسوخاً في الإيمان. فمثل هذا الإيمان يواجه اليوم في معظم الأحيان نزعة “التعلمن”، بل الإلحاد المجاهد: فهو إيمان معرض للتجارب ومهدد، بل أكثر من ذلك إيمان محاصر ومحارب. وهو مهدد بالإندثار بفعل الاختناق أو توقف محاصر، مالم يتغذ ويتدعم كل يوم. والبشارة الإنجيلية ينبغي أن تقوم في أحيان كثيرة على توفير الغذاء والدعم الضروريين لإيمان المؤمنين – وبخاصة عن طريق تعليم عامر بالعصارة الإنجيلية، يقدم في أسلوب يتواءم مع مقتضيات الزمان ومتطلبات الأشخاص.
وتبدي الكنيسة الكاثوليكية أيضاً اهتماماً كبيراً بالمسيحيين الذين ليسوا على مشاركة كاملة معها. فهي إذ تهيئ معهم السبيل إلى الوحدة التي يريدها المسيح، وعلى وجه التحديد حتى توجد الوحدة في الحقيقة، تدرك أنها تكون مخلة بواجبها اخلالاً خطيراً، إن لم تقدم الشهادة أمامهم عن كمال الوحي الذي تحافظ على وديعته.
مع غير المؤمنين:
55- لقد أبدى السينودس اهتماماً له دلالته تجاه دائرتين مختلفتين الواحدة عن الأخرى، مع تقاربهما فيما بينهما من حيث التحدي الموجه من كليهما نحو البشارة الإنجيلية.
فالدائرة الأولى تشمل ما يجوز تسميته بتصاعد عدم الإيمان في العالم المعاصر. وقد عنى السينودس بوصف هذا العالم المعاصر، بقوله أنه كم تندرج تحت هذه التسمية من تيارات فكرية، وقيم مضادة، وتطلعات كامنة أو يذور تخريب، ومعتقدات قديمة تختفي ومعتقدات جديدة تفرض ذاتها!
فمن الناحية الروحية يبدو هذا العالم وكانه يتخبط باستمرار فيما سبق لكاتب معاصر أن أطلق عليه تسمية “مأساة النزعة الإنسانية الإلحادية” (77).
فمن جهة يلزمنا أن نلاحظ في قلب العالم المعاصر، ظاهرة تكاد تصبح علامته المميزة الملفتة للانتباه بصفة خاصة: “نزعة التعلمن” sécularisme ولا نقصد بها ذلك الاتجاه العلماني sécularisation الذي يقوم على السعي الصحيح والمشروع في ذاته، والذي لا يتعارض قط مع الإيمان والدين، نحو الكشف في الخليقة، وفي كل شيء وكل حادث من أحداث الكون، عن القوانين التي تنظمها بنوع من الاستقلال الذاتي، على أساس الاعتقاد الصميم بأن الخالق قد وضع لها هذه القوانين. وقد أكد المجمع المسكوني الأخير بهذا المعنى، الاستقلال المشروع للثقافة وخاصة للعلوم (78). وإنما نواجه هنا نزعة تعلمن متطرفة بمعنى الكلمة: أي تصور للعالم يقوم على تعليليه في ذاته دون حاجة للرجوع إلى الله. فالله يصبح بذلك زائداً عن الحاجة، وداعياً للمضايقة والازعاج. فمثل هذا التعلمن ينتهي، في سبيل الاعتراف بقدرة الإنسان وسلطاته، إلى الاستغناء عن الله، بل إلى انكار وجوده.
وهناك صور جديدة من الإلحاد، تبدو مستمدة من ذلك التعلمن – يقوم على الإلحاد محوره اعتباراً الإنسان مركز كل شيء، لم يعد إلحاداً نظرياً تجريدياً أو ميتافيزيقياً، وإنما هو إلحاد منفعي ومنهجي ونضالي – فانطلاقاً من هذا التعلمن الإلحادي، لا يفتأ البعض يعرضون علينا كل يوم بشتى الصيغ، حضارة الاستهلاك، ومفهوماً للمتعة باعتبارها القيمة الأعلى، ونزعة للتسلط والسيطرة وتفريقات بين الناس من كل نوع، كلها بمثابة انحرافات لا إنسانية متفرعة عن ذلك “المذهب الإنساني”.
ومن جهة أخرى، ففي هذا العالم المعاصر، من الغريب ومن المفارقة، أننا لا نستطيع إنكار وجود مجالات أشبه بمواقع انتظار حقة للمسيحية والقيم الإنجيلية، أقله في شكل فراغ أو حنين. فلا نكون مغالين لو رأينا فيها نداء قوياً لتلقي البشارة.
مع غير الممارسين:
56- أما الدائرة الثانية فتشمل غير الممارسين. فنجد اليوم عدداً كبيراً من المعمدين، ممن إلى حد كبير لم يتنكروا صراحة لعمادهم، ولكنهم يظلون على هامشه ولا يعيشون به فقط. فظاهرة غير الممارسين قديمة جداً في تاريخ المسيحية، وتعزى إلى ضعف طبيعي، وعدم تناسق حاد نعاني منه للأسف في أعماق ذواتنا. إلا أنها تبدو اليوم بعلامات جديدة، فكثيراً ما نجد تعليلها في حالات الإنسلاخ الكلي التي يتميز بها عصرنا، وينشأ أيضاً عن كون المسيحيين يجاورون غير المؤمنين في المعيشة. وكثيراً ما يتحملون رد فعل عدم الإيمان. وعلى كل فإن البعيدين عن الممارسة في هذا العصر، يسعون كثيراً من نظرائهم في الماضي لتعليل موقفهم وتبريره على أنه تدين داخلي صميم، واستقلال ذاتي أو أصالة في الشخصية.
فنرى إذاً أناساً ملحدين وغير مؤمنين من جهة، وغيرهم بعيدين عن الممارسة من جهة أخرى، يوجهون مقاومة للبشارة لا يسوغ إغفالها. فالأولون يبدون المقاومة بنوع من الرفض، وبعدم القدرة على إدراك الأوضاع الجديدة للأشياء، والمنى الجديد للكون والحياة وللتاريخ، لا يمكن قبوله إن لم ينطلق الإنسان، أساساً من المطلق الإلهي. أما الآخرون فإنهم يقاومون بالجمود، وبموقف فيه شيء من العداوة البادية من جانب من يشعر بأنه ابن الدار، ويؤكد أنه يعرف كل شيء، وقد أختبر كل شيء وذاق كل شيء، فلم يعد يؤمن بشيء.
فالتعلمن الإلحادي والابتعاد عن الممارسة الدينية، تجدهما عند الكبار والشباب، ولدى الصفوة ولدى الجماهير، في جميع القطاعات الثقافية، في الكنائس القديمة أو الكنائس الفتية، سواء بسواء. وعمل البشارة من جانب الكنيسة، الذي لا يستطيع أن يتجاهل هذين العالمين، ولا أن يتوقف أمامهما دون حركة، لا بد له من البحث باستمرار عن الوسائل واللغة المطابقة لكل حال، فيعرض عليهما، أو يكرر عرض، الوحي الآتي من الله والإيمان بيسوع المسيح.
في قلب الجماهير:
57- فعلى غرار المسيح مدة كرازته، وأسوة بالاثني عشر في صبيحة العنصرة، ترى الكنيسة هي الأخرى أمامها جمعاً غفيراً هائلاً من البشر متعطشين إلى الإنجيل ولهم حق فيه، ما دام أن الله “يريد أن يخلّص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق” (79).
وإذ تحس الكنيسة بواجبها في الكرازة بالخلاص لجميع الناس. وتعلم أن البشارة الإنجيلية ليست وقفاً على فئة قليلة من المدربين أو من المحظوظين أو المختارين، ولكنها موجهة إلى الكافة، يخالجها ذات الضيق الذي ألم بالمسيح عند مشاهدته الجموع الحائرة والمنهوكة “مثل غنم لا راعي لها”، فكثيراً ما تردد هي عبارته “أشفق على هذا الجمع” (80).
ولكنها تعي أيضاً أنه حتى تكون الكرازة الإنجيلية مجدية، لا بد لها من أن توجه الرسالة، نحو قلب الجماهير، والجماعات من المؤمنين، نشاطها يمكن أو ينبغي أن يصل للآخرين.
جماعات القاعدة الكنسية:
58- وقد اهتم السينودس العام كثيراً بتلك الجماعات الصغيرة، أي “جماعات القاعدة”، لأنه كثيراً ما يرد ذكرها اليوم في الكنيسة. فما هي تلك الجماعات؟ ولماذا تكون هي المخاطبة بالبشارة الإنجيلية خاصة، ومكلفة في نفس الوقت بأمر إعلانها؟
إنها على حد ما استمع إليه السينودس من شهادات متنوعة، آخذة في الازدهار بنوع ما في كل جهة في الكنيسة، مختلفة كثيراً عن بعضها البعض، داخل نفس المنطقة، بل بالأكثر من منطقة لأخرى. ففي بعض المناطق تظهر فتنمو، فيما عدا بعض الاستثناءات، داخل الكنيسة متضامنة مع حياتها، ومتغذية بتعليمها ومتعلقة برعاتها. ففي مثل هذه الحالات تنشأ جماعات القاعدة هذه لأنها محتاجة أن تعيش مع حياة الكنيسة بغزارة أوفر، لأنها تبحث عن حياة يكون لها مزيد من البعد الإنساني، مما يتعذر على الجماعات الكنيسة الكبيرة أن توفره، وبخاصة في الحواضر المعاصرة التي تيسر في نفس الوقت التعايش في جماعات كبيرة وضعف الكيان الشخصي. وتستطيع جماعات القاعدة هذه أن تحقق بطريقتها، على المستوى الروحي والديني، – في العبادة والتعمق في الإيمان وممارسة المحبة الأخوية ومباشرة الصلاة وتوثق الوحدة مع الرعاة – امتداد لحياة الجماعات الصغيرة، أو حياة القرية وما إليها. أو قد تسعى إلى أن تجمع من أجل الاصغاء إلى “الكلمة” والتأمل فيها وتوزيع الأسرار وتوثيق رابطة محبة العشاء القرباني، مجموعات متناسقة من الأشخاص، من حيث السن أو الثقافة أو الحالة المدنية أو الحالة الاجتماعية، كمجموعات الأزواج، أو مجموعات الشباب، أو أصحاب المهنة الواحدة…الخ. وهم أشخاص يجدون أنفسهم متآلفين في الحياة من أجل نضالات العدالة والمعونات الأخوية للمعوزين والتنمية الإنسانية…الخ.. وأخيراً هي تجمع حياة عادية لجماعة رعوية. كل ذلك مفروض حدوثه داخل الجماعات النظامية الكنسية ولا سيما في الكنائس الخاصة والخورنات.
أما في مناطق أخرى، فإن جماعات القاعدة بعكس ذلك، تتجمع بروح نقد لاذع للكنيسة وتلصق بها عمداً وصمة “الشكلية” فتعارضها معتبرة ذاتها جماعات موهوبة كما في العنصرة، متحررة من النظم الشكلية، ومستمدة إلهاماً فقط من الإنجيل وحده. فطابعها المميز موقف المؤاخزة الصريحة والرفض تجاه ترتيبات الكنيسة أي تجاه نظام السلطة فيها ومظاهرها. فهي ترفض رفضاً جذرياً هذه الكنيسة. وفي هذا الاتجاه سرعان ما يصبح منبع تفكيرها الأساسي تنظيماً فكرياً، وقلما لا يحدث أن تقع بسرعة فريسة لنزعة سياسية، أو لتيار ما، ثم لنظام بل لحزب، مع كل ما يترتب على ذلك من خطر تحولها أداة طيعة في خدمته.
فالفارق ملحوظ على الفور: الجماعات التي بموجب روح الرفض والمنازعة تنفصل عن الكنيسة فتضر بوحدتها، قد تطلق على ذاتها تسمية “جماعات القاعدة”، ولكن تسميتها هذه ذات طابع اجتماعي بحت. ولا يسوغ لها أن تسمي نفسها دون تحريف في معنى اللفظ – “جماعات قاعدة كنيسة”، حتى لو كانت تدعي أنها تبقى على الوحدة مع الكنيسة رغم مناوأتها للرئاسة… وإنما هذه التسمية تنطبق على الجماعات الأولى، التي تتآلف ككنيسة بقصد الاتحاد مع الكنيسة وبهدف تنميتها.
فهذه الجماعات الأخيرة سوف تكون محلاً للبشارة الإنجيلية لفائدة جماعات أوسع، وبخاصة لفائدة الكنائس الخاصة، وتشكل رجاء للكنيسة الجامعة على حد ما صرحنا به في ختام أعمال السينودس العام، وذلك بقدر ما:
– تبحث عن غذائها في “كلمة الرب”، ولا تترك نفسها حبيسة لاستقطاب سياسي لأنظمة أو تيارات فكر آخر ساعة تتلهف لاستغلال طاقتها الإنسانية الهائلة.
– وتتجنب الميل الذي يهدد دائماً بجذبها نحو المعارضة المتواصلة وروح النقد المغالى فيه، بحجة الحفاظ على الأصالة والرغبة في المعاونة.
– وتظل متصلة اتصالاً وثيقاً بالكنيسة المحلية التي تندرج فيها، وبالكنيسة الجامعة، فتتجنب بذلك الخطر الواقعي للغاية – الذي يقوم في تقوقعها داخل ذاتها ثم الاعتقاد بأنها هي كنيسة المسيح الأصلية الوحيدة وبالتالي توقيعها الحرم على الجماعات الكنسية الأخرى.
– وتحافظ على وحدة صادقة مع الرعاة الذين يعطيهم الرب لكنيسته، ومع تعليم السلطة الكنيسة الذي ائتمنهم عليه روح المسيح.
– ولا تعتبر ذاتها قط المخاطبة الوحيدة دون غيرها بالبشارة، أو المفوضة دون غيرها بها، – أو المستأمنة الوحيدة على وديعة الإنجيل -، وإنما تدرك أن الكنيسة أوفر بكثير اتساعاً وتشعباً وتنوعاً، وتقبل أن تكون الكنيسة متجسده في غيرها من الجماعات.
– وتنمو كل يومك في الوعي والبذل والالتزام والإشعاع في الارسال.
– وتبدو في كل شيء عالمية وبعيدة تماماً عن الانعزالية.
– فبتلك الشروط، المتشددة بلا شك، ولكن الدافعة إلى الحماس، سوف تكون جماعات القاعدة متجاوبة مع دعوتها الأساسية: فهي المصغية إلى الإنجيل المعلن لها، والمخاطبة الممتازة بالبشارة، وسوف تكون هي نفسها دون إبطاء مذيعة وداعية للإنجيل.
سادساً
عملة البشارة الإنجيلية
الكنيسة بأسرها مبعوثة للبشارة:
59- إن كان هناك أناس قائمون في العالم على إعلان إنجيل الخلاص، فلإنهم قد أرسلوا بأمر المسيح المخلص وباسمه وبنعمته. “فكيف يبشرون أن لم يرسلوا؟” (81) على حد ما كتب ذلك الذي كان أكيداً من أكبر الكارزين بالبشارة. فما من أحد يستطيع أن يفعل ذلك مالم يكن مرسلاً لهذا الغرض.
ولكن من إذاً المكلف بمهمة البشارة؟
لقد أجاب المجم المسكوني “الفاتيكاني الثاني” على ذلك بوضوح: “لقد كلفت الكنيسة بأمر إلهي يعبء مهمة الذهاب إلى العالم بأسره وإعلان بشارة الإنجيل إلى الخليقة كلها (82) وفي نص آخر عن نفس المجمع: “إن الكنيسة بأجمعها مرسلة، وعمل البشارة الإنجيلية واجب رئيسي من واجبات شعب الله” (83). وسبق لنا التذكير بتلك الرابطة الوثيقة بين الكنيسة والكرازة الإنجيلية. فعندما تعلن الكنيسة ملكوت الله وتشيده، تستقر هي نفسها في قلب العالم كعلامة وأداة لهذا الملكوت الكائن والذي سيكون – وقد ردد المجمع المسكوني هذه العبارة القوية الدلالة لتقديس أوغسطينوس عن النشاط الرسولي للاثني عشر: بكرازتهم بكلمة الحق أنشأوا كنائس” (84)ز
عمل كنسي:
60- أن تكون الكنيسة مرسلة ومكلفة من أجل البشارة الإنجيلية في العالم، ذلك ما ينبغي أن يوقظ فينا اعتقاداً مزدوجاً: أولاً اعتقاد مفاده أن البشارة ليست بالنسبة لأي شخص عملاً منفرداً أو منعزلاً، ولكنها عمل كنسي صميم. فعندما يقوم الواعظ، مهما كان بسيطاً، أو معلم الدين أو الراعي، في جهة نائية بالكرازة بالإنجيل، ويجمع شمل جماعته الصغيرة، أو يمنح سراً من أسرار الكنيسة، ولو كان بمفرده، فإنه يقوم بعمل من أعمال الكنيسة ويكون تصرفه بصفة أكيدة، بفضل علاقات تنظيمية ولكن أيضاً بمقتضى روابط غير منظورة وجذور عميقة مشتقة من تدبير النعمة، متصلاً بنشاط البشارة الذي تتولاه الكنيسة جمعاء. وهذا بفرض أن يقوم بذلك ليس بمقتضى رسالة ينسبها إلى نفسه، أو بإلهام يأتيه شخصياً، وإنما يعمل بالاتحاد مع رسالة الكنيسة وباسمها هي.
ومن ذلك يتوارد الاعتقاد الثاني: إن كان كل إنسان يبشر باسم الكنيسة، التي تتولى هي البشارة بتكليف من الرب، فلا يكون أي كارز سيداً مطلقاً على عمل كرازته، ولا يمارس سلطة متروكة لتقديره في البشارة، متبعاً ضوابط وأهدافاً فردية، ولكن يعمل في وحدة مع الكنيسة ورعاتها.
فالكنيسة بأسرها قائمة على البشارة الإنجيلية كما قدمنا. وهذا يعني أن الكنيسة تشعر بمسؤوليتها عن مهمة نشر الإنجيل بالنسبة للعالم في مجموعه، ولكل قطاع منه توجد الكنيسة فيه.
تطلع الكنيسة الجامعة:
61- وفي هذه المرحلة من تفكيرنا، نتوقف معكم أيها الإخوة والأبناء، عند مسألة على جانب خاص من الأهمية في أيامنا هذه. فإن المسيحيين الأولين في احتفالاتهم الطقسية، وفي شهاداتهم أمام القضاء والمكلفين بتعذيبهم، وفي النصوص التي دافعوا فيها عن دينهم، كانوا يعبرون بكل ارتياح عن إيمانهم العميق في الكنيسة، ويشيرون إليه على أنه منتشر في أنحاء العالم. فكانوا يعون الوعي الكامل بانتمائهم إلى جماعة كبيرة لا يحدها حد في المكان ولا في الزمان: “من هابيل الصديق إلى آخر المختارين” (85) على حد تعبير القديس غريغوريوس الكبير، “حتى أقاصي الأرض” (86)، “إلى انقضاء الدهر” (87).
هكذا أراد المسيح كنيسته: جامعة، دوحة كبيرة تأتي طيور السماء تستظل أغصانها (88). شبكة تجمع من كل صنف من السمك (89)، أو شبكة جذبها بطرس إلى البر وقد امتلأت بمائة وثلاث وخمسين سمكة من السمك الكبير (90)، قطيعاً يرعاه راع واحد (91). كنيسة جامعة لا حدود لها ولا علامات تحديد، عدا للأسف، تلك التي يقيمها قلب وروح الإنسان الخاطئ.
تطلع الكنيسة الخاصة:
62- إلا أن هذه الكنيسة الجامعة تتجسد في الواقع في الكنائس الخاصة، التي تتشكل هي من هذا القطاع الفعلي أو ذاك من البشرية والذي يتحدث بلغة بعينها وله تراث ثقافي معين، كما له نظرته إلى العالم وماضيه التاريخي وتكوين إنساني خاص. فالانفتاح على ثروات الكنيسة الخاصة يتجاوب مع استعداد معين لدى الإنسان المعاصر.
ولكن لنخدر جيداً من تصور الكنيسة الجامعة كأنها جمع، أو اتحاد يضم عناصر متباينة من الكنائس الخاصة المختلفة اختلافاً أساسياً فيما بينها. كلا أنها في فكر الرب، الكنيسة، الجامعة بدعوتها ورسالتها التي تمد جذورها في الأرضيات الثقافية والاجتماعية والإنسانية المتباينة، فتتخذ في كل قطاع من العالم أو جهى وتعابير خارجية متنوعة.
لذلك فإن كل كنيسة خاصة تنفصل عمداً عن الكنيسة الجامعة، تفقد صلتها بتصميم الله، وتصال بافتقار من حيث بعدها الكنسي. ومن جهة أخرى فإن الكنيسة “المنتشرة في جميع العالم”، تصبح نظاماً مجرداً مالم تكن مجسدة وحية في كنائس خاصة. فلابد من العناية المستمرة بهذين القطبين من الكنيسة، حتى يتسنى لنا لمس قدر الغنى في هذه العلاقة بين الكنيسة الجامعة والكنائس الخاصة.
مواءمة مع أمانة في الأسلوب:
63- إن الكنائس الخاصة، باندماجها العميق مع الأشخاص، وأيضاً مع التطلعات والثروات والحدود، وأساليب الصلاة والمحبة، والنظرة إلى الحياة والعالم مما يطبع هذه أو تلك المجموعة الإنسانية بطابعها الخاص، عليها أن تقوم بدور استيعاب الجوهر في الرسالة الإنجيلية وأن تنقله دون أي اخلال بحقيقته الأساسية، في تلك اللغة التي يدركها هؤلاء الأشخاص، ثم تتولى إعلانه باللغة ذاتها.
فلا بد من أن يتم النقل، بالفطنة والجدية والاحترام والكفاية التي يقتضيها الأمر، وذلك في ميادين التعابير الطقسية (92)، والتعليم الديني، والصياغة اللاهوتية، والتشكيلات الكنسية الثانوية، والخدمات. و”اللغة” هنا مأخوذة بمعنى مضمونها الإنساني والثقافي، أكثر منها بمعنى أصولها اللفظية أو آدبها.
ولا شك أن المسألة على جانب كبير من الدقة. فالبشارة الإنجيلية تفقد الكثير من قوتها وفاعليتها، إن لم تأخذ في الاعتبار واقع الشعب الذي تخاطبه، وتستخدم لغته، وإشاراته ورموزه، وإن لم تجاوب على التساؤلات التي يرددها، ولم تندمج في حياته الواقعية. إلا أنه من جهة أخرى، تتعرض البشارة لفقد روحها وللذوبان، إذا ما فرغت من مضمونها، أو أصيبت بتحريف فيه، بدعوى الحاجة إلى ترجمتها. وكذلك الحال إذا ما أدت الرغبة في جعل حقيقة عالمية تناسب دائرة محلية، إلى التضحية بهذه الحقيقة، وإلى إهدار الوحدة التي دونها لا تستقيم العالمية الجامعة. بينما الكنيسة التي تحتفظ بوعيها بعالميتها، فتظهر في الواقع أنها جامعة بالمعنى الكامل، هي وحدها التي تستطيع أن تكون لها رسالة يمكن أن يسمعها الجميع، فيما يتجاوز حدود المناطق.
فالعناية المشروعة بالكنائس الخاصة لا بد أن تؤدي إلى إثراء الكنيسة الجامعة. فالحاجة إلى مثل تلك العناية ضرورية وملحة وهي تتجاوب مع أعمق تطلعات الشعوب والجماعات الإنسانية، إلى إيجاد ملامح وجهها الخاصة باستمرار أكثر فأكثر.
تفتح على الكنيسة الجامعة:
64- إلا أن إثراء الكنيسة هذا، يقتضي من الكنيسة الخاصة أن تحافظ على تفتحها العميق على الكنيسة الجامعة. وعلى كل فمن الملاحظ بوضوح أن أكثر المسيحيين بساطة وأمانة على الإنجيل، وتفتحا على المفهوم الحقيقي للكنيسة، يتمتعون بإحساس تلقائي بهذا البعد العالمي، ويشعرون بالحاجة إليه شعوراً وجدانياً وقوياً، ويتعرفون على أنفسهم في إطار هذا البعد، ويتفاعلون معه، فيتألمون في أعماق ذواتهم، عندما يجبرون باسم نظريات لا يدركونها، على الانتماء لكنيسة مجردة من هذه العالمية، لكنيسة محصورة في منطقة ليس لها آفاق بعيدة.
وفضلاً عن ذلك فالتاريخ خير شاهد على أنه كلما حدث أحياناً أن كنيسة ما، بكل حسن نية، بمقتضى حجج لاهوتية أو اجتماعية أو سياسية أو راعوية أو حتى سعياً لنوع من حرية العمل أو النشاط، أقدمت على الانفصال عن الكنيسة الجامعة وعن مركزها الحيوي والمنظور، لم تتجنب إلا بكل صعوبة – على فرض أنها تجنبت فعلاً -، خطرين على نفس القدر من الخطورة: من جهة، خطر الانعزالية الداعية إلى الجفاف، وبعد أمد قصير التفتت بانفصال كل خلية من خلاياها عنها، على نحو انفصالها هي عن النواة المركزية، ومن جهة أخرى الخطر بفقد حريتها، عندما تنفصل عن المركز وعن الكنائس الأخرى التي كانت تمدها بالقوة والطاقة، فتصبح هي تحت رحمة مختلف قوى التسخير والاستغلال.
وكلما كانت كنيسة خاصة أكثر ارتباطاً بالكنيسة الجامعة بروابط وحدة متينة – في المحبة والولاء، وفي التفتح لسلطة تعليم بطرس، وفي وحدة (نظام الصلاة) lex orandi الذي هو أيضاً نظام الإيمان lex credendi ، وفي رغبة في الوحدة مع سائر الكنائس التي تشكل الكنيسة الجامعة -، كلما كانت مثل هذه الكنيسة أهلاً لترجمة كنز الإيمان في تعابير متنوعة شرعية عن إعلان الإيمان وعن الصلاة وعن العبادة، وعن حياة المسيحيين ومسلكهم وعن إشعاع الشعب الذي تستقر فيه الكنيسة. وكلما كانت هذه الكنيسة أيضاً كارزة بالإنجيل حقاً، أي أهلاً لأن تستقي من التراث لعالمي الجامع في سبيل إفادة شعبها، وأن تمد الكنيسة الجامعة باختبار هذا الشعب وبحياته لمصلحة الجميع.
وديعة الإيمان المنزهة عن كل شائبة:
65- وفي هذا المعنى بالذات، أردنا أن نقول في ختام دورة السينودس العام الثالثة، كلمة واضحة وعامرة بالعطف الأبوي، للتركيز على دور خليفة بطرس كقاعدة منظورة وحية وديناميكية للوحدة بين الكنائس، وبالتالي لجامعية الكنيسة الواحدة (93)، وقد ألححنا كذلك في بيان المسؤولية الخطيرة الواقعة علينا، والتي مع ذلك نتقاسمها مع أخوتنا في الأسقفية، بالمحافظة على مضمون الإيمان الكاثوليكي الذي استودع الرب الرسل إياه، منزهاً عن كل شائبة: فلا يمس هذا المضون ولا ينتقص منه إذاً ما ترجم إلى جميع اللغاتن ويبقى على ما تسلمته السلطة الكنسية، ويشرح بتعابير لاهوتية تقيم وزناً للبيئات الثقافية والاجتماعية بل العرقية.
مهام متنوعة:
66- فالكنيسة كلها مدعوة لأن تبشر بالإنجيل، ومع ذلك نجد بداخلها مهاماً متنوعة في البشارة، ينبغي إنجازها. فتنوع الخدمات في وحدة الرسالة عينها، هو ما يشكل الغنى والجمال في البشارة. ولنذكر كلمة مختصرة عن هذه المهام.
فأولاً نرجو أن يسمح لنا بأن نشير في صفحات الإنجيل، إلى إلحاح الرب في تسليمه الرسل مهمة إعلان “الكلمة”. فقد اختارهم (94)، وأعدهم عدة سنوات في صحبة حميمة معه (95)، فأقامهم (96) وكلّفهم (97) أن يكونوا شهوداً ومعلمين ذوي سلطة في رسالة الخلاص. والاثنا عشر بدورهم أرسلوا خلفاءهم الذين يواصلون، خلال السلالة الرسولية، البشارة بالخير السار.
خليفة بطرس:
67- وهكذا فإن خليفة بطرس مكلف، بإرادة المسيح، بالخدمة السامية في تعليم الحقيقة الموحاة. ويبرز العهد الجديد في مواقع كثيرة بطرس “ممتلئاً من الروح القدس يخطب باسم الجميع” (98). ولهذا فإن القديس لاون الكبير يتحدث عنه باعتبار أنه هو الذي استحق الأولوية في العمل الرسولي (99). ولذلك أيضاً تظهر الكنيسة البابا “على أعلى قمة in apice, inspecula في العمل الرسولي” (100). وقد أراد المجمع المسكوني “الفاتيكان الثاني” أن يؤكد ذلك مجدداً بتصريحه بأن “التكليف الصادر من المسيح بالكرازة بالإنجيل إلى كل خليقة (يراجع إنجيل مرقس 16 : 15) يتعلق أولاً ومباشرة بالأساقفة مع بطرس وبقيادة بطرس” (101).
والسلطان الكامل والأعلى والعالمي الذي عهد به المسيح إلى نائبه، والإدارة الكنيسة إدارة راعوية، إنما يباشرها البابا بصفة خاصة في نشاط الكرازة والدعوة للكرازة بالخبر السار.
أساقفة وكهنة:
68- ويتسلم الأساقفة خلفاء الرسل، متحدين بخليفة بطرس، بقوة رسامتهم الأسقفية، سلطان تعليم الحقيقة الموحاة في الكنيسة. إنهم معلموا الإيمان.
ويشارك الأساقفة في خدمة البشارة، كمسؤولين بصفة خاصة، كل الذين بفضل السيامة الكهنوتية “يقومون مقام المسيح” (102) بوصفهم مربين لشعب الله في الإيمان، وكارزين، بالإضافة إلى كونهم خدام الإفخارستيا وأسرار الكنيسة الأخرى.
فلذلك نحن الرعاة، مدعوون جميعاً إلى الوعي بهذا الواجب، أكثر من أي عضو آخر في الكنيسة. وما يشكل الطبيعة الخاصة بخدمتنا الكهنوتية، وما يسبغ الوحدة العميقة على المهام العديدة التي تستحثنا طوال النهار وعلى مدى الحياة، وما يطبع نشاطنا بطابع نوعي خاص، إنما هو هذا الهدف الماثل في كل نشاطنا: “البشارة بإنجيل الله” (104).
هذا طابع مميز لهويتنا، ينبغي أن لا يمسه أي شك، ولا يحجبه أي اعتراض: إننا رعاة اختارنا الراعي الأسمى برحمته (105)، بالرغم من ضعف كفاءتنا، لكي نذيع بسلطان “كلمة الله” ولنجمع شعب الله الذي كان مشتتاً ونغذيه بعلامات فاعلية المسيح، التي هي أسرار الكنيسة، ولنضعه على طريق الخلاص، ونبقيه على هذه الوحدة التي نحن أجهزتها العاملة والحية، وعلى مستويات متباينة، ولننعش هذه الجماعة المتآلفة حول المسيح، طبقاً لرسم دعوتها الصميمة. وعندما ننجز كل ذلك، بقدر حدودنا البشرية وبفضل نعمة الله إنما نحقق عملاً من أعمال البشارة. ونحن بوصفنا راعي الكنيسة الجامعة، مع إخوتنا الأساقفة على رأس الكنائس الخاصة، والكهنة والشمامسة مرتبطين بالأساقفة الذين يعاونونهم، في وحدة تستمد ينبوعها من سر الدرجة الكهنوتية، وفي المحبة النابعة في الكنيسة.
الرهبان:
69- أما الرهبان، فإنهم يجدون في حياتهم المكرسة وسيلة ممتازة لبشارة مجدية بالإنجيل. فإنهم يندمجون بأعمق كيانهم في الحركة الحية للكنيسة، المتعطشة إلى المطلق الإلهي، والمدعوة إلى القداسة. إنهم يشهدون عن هذه القداسة. ويجسدون الكنيسة التواقة إلى ممارسة التطويبات بجذريتها. ويقدمون خلال حياتهم شهادة عن الانقطاع الكلي لله وللكنيسة ولأخوتهم.
ولذا فإن لهم أهمية خاصة، في إطار الشهادة التي يكون لها، كما قدمنا، مكانة أولى في البشارة الإنجيلية. فهذه الشهادة الصامتة بالفقر والتجرد، والنقاوة والشفافية، والتسليم في الطاعة، قد تصبح فضلاً عن كونها دعوة موجهة للعالم وللكنيسة ذاتها، كرازة بليغة من شأنها أن تؤثر في غير المسيحيين من ذوي الإرادة الصالحة ممن يحسون ببعض القيم.
وفي إطار مثل هذه الرؤية نتلّمس الدور الذي يتولاه في ميدان البشارة، رهبان وراهبات، مكرسون للصلاة والصمت والتوبة، والتضحية. بينما غيرهم من الرهبان يهبون أنفسهم بأعداد غفيرة للأخبار مباشرة عن يسوع المسيح. ويكون نشاطهم في الرسالة تابعاً بداهة للسلطة الكنسية، وجديراً بالتنسيق مع النشاط الراعوي الذي تريد هذه السلطة أن تجري إنجازه. ولكن من لا يقدر النصيب الضخم الذي حملوه وما زالوا يحملونه في البشارة الإنجيلية؟ أنهم يكونون بفضل تكريسهم في الرهبنة أعلى مثل للمتطوعين وللمتحررين الذين يتركون كل شيء من أجل الذهاب للبشارة بالإنجيل إلى أقاصي المسكونة. إنهم يتميزون بالإقدام، وكثيراً ما يتسم نشاطهم الرسولي بنوع من الأصالة والنبوغ اللذين يجتذبان أعجاب الناس. وهم مطبوعون على السخاء: فكثيراً ما نجدهم في المراكز الأمامية للتهيئة للرسالات، ويتعرضون لأشد الأخطار على صحتهم بل حياتهم الشخصية. أجل إن الكنيسة لمدينة لهم حتماً بالكثير.
العلمانيون:
70- أما العلمانيون الذين تجعلهم دعوتهم النوعية في قلب العالم وعلى زمام مختلف المهام الزمنية المتنوعة، فينبغي أن يباشروا من أجل ذلك صورة خاصة من البشارة الإنجيلية.
فمهمتهم الأولى المباشرة لا تقوم على تأسيس البيعة الكنسية وتنميتها – فهذا هو دور خاص بالرعاة -، وإنما على تحريك كافة الإمكانات المسيحية والإنجيلية الكامنة الخفية، ولكن القائمة حالياً والنشطة في شؤون هذا العالم. والحقل الخاص بنشاطهم في البشارة، إنما هو العالم الشاسع والمتشعب، عالم السياسة، والاجتماع، والاقتصاد، وأيضاً عالم الثقافة والعلوم والفنون والحياة الدولية، ووسائل التعبير الاجتماعية، فضلاً عن بعض أمور أخرى مفتوحة للبشارة الإنجيلية مثل الحب والأسرة، وتربية الأولاد وصغار الشباب، والعمل المهني والألم… فعلى قدر ما يتوفر مزيد من العلمانيين المتشعبين بالإنجيل، والمسؤولين عن مثل هذه الأمور والملتزمين التزاماً ظاهراً فيها، والمتمتعين بالكفاءة على تنميتها، والواعين بضرورة استغلال قدرتهم المسيحية كلها الخفية والمختفية في كثير من الأحوال، على قدر ما تكون تلك الأمور دون فقد شيء من مفعولها الإنساني، قد أصبحت معدة لخدمة تشييد ملكوت الله، وبالتالي تشييد الخلاص بيسوع المسيح، بفضل ما يبدو في تلك الأمور من يعد متسام كثيراً ما يتجاهله الناس.
الأسرة:
71- وفي إطار رسالة البشارة بالإنجيل التي يقوم بها العلمانيون، لا يمكننا إلا أن نسترعي الانتباه إلى نشاط البشارة القائم على الأسرة. وقد استحق هذا النشاط بجدارة، في مراحل مختلفة من التاريخ، هذه التسمية الجميلة: “الكنيسة المنزلية” التي أقرها المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” (106).
وهذا يعني أنه في كل أسرة مسيحية، ينبغي أن نتعرف على مختلف مظاهر الكنيسة كلها. وفضلاً عن ذلك فإن الأسرة أسوة بالكنيسة، ينبغي أن تكون المجال الذي ينقل له الإنجيل، ومنه ينطلق الإنجيل مشعاً.
وعليه فداخل أسرة واعية برسالتها هذه، يقوم جميع أفرادها ببشارة الإنجيل، ويقبلون في الآن ذاته هذه البشارة. فالوالدان لا يقتصران على نقل الإنجيل إلى أولادهما، وإنما قد يحدث أن يتلقيا منهم هذا الإنجيل ذاته الذي يعاش في عمق. ومثل هذه العائلة تقوم بالبشارة الإنجيلية تجاه العديد من العائلات، وتجاه البيئة التي تندمج فيها.
بل حتى الأسر الناشئة عن زواج مختلط، يقع عليها واجب إعلان المسيح لأولادها، مع كل ما يقتضيه عمادهم المشترك، بل تقع على عاتقها تلك المهمة العسيرة بأن تكون من صانعي الوحدة.
الشباب:
72- وتدعو الظروف الحالية إلى أن نولي الشباب اهتماماً خاصاً. فإن تصاعدهم العددي، ومشاركتهم المتزايدة في المجتمع، والمعضلات التي تحف بهم، ينبغي أن توقظ في الجميع الاهتمام بأن يقدموا إليهم في غيرة وذكاء، المثل الأعلى الإنجيلي ليعرفوه ويعيشون. ولكن من جهة أخرى ينبغي أن يصبح الشباب المكونون تكويناً قوياً في الإيمان والصلاة، رسلاً ما بين الشباب دائماً أكثر فأكثر. فالكنيسة تعتمد كثيراً على هذه المساهمة، وقد أظهرنا نحن أنفسنا ثقتنا كاملة نحوهم.
خدمات متنوعة:
73- وهكذا يصبح لتواجد العلمانيين الفعال في الشؤون الزمنية أهميته الكلية، غير أنه لا ينبغي من أجل ذلك إهمال أو إغفال البعد الآخر: فقد يشعر العلمانيون بأنهم مدعوون، أو قد يدعون للتعاون مع رعاتهم في خدمة الجماعة الكنيسية، في شأن تنميتها وإحيائها، بمباشرة خدمات متنوعة جداً، حسب النعمة والمواهب الروحية التي يتفضل الرب بإيداعها فيهم.
وإننا لنشعر في قرارة نفسنا بفرح كبير عندما نرى عدداً غفيراً من الرعاة والرهبان والعلمانيين، مغرمين برسالتهم في البشارة الإنجيلية، يبحثون باستمرار عن أساليب أكثر مواءمة لإعلان الإنجيل إعلاناً فعالاً، ونشجع التفتح الذي تعمل الكنيسة على تحقيقه في ذلك الاتجاه وبذلك الاهتمام، تفتح على التفكير أولاً، ثم على الخدمات الكنسية التي من شأنها أن تجدد شبابها، وتضاعف قوتها الذاتية في حركة وحيوية نشاط البشارة.
ولا شك أنه بجانب الخدمات المنظمة على أساس منح الدرجة (الكنسية)، التي بمقتضاها يتخذ البعض مكانهم في صفوف رعاة الكنيسة، فيتكرسون بنوع خاص لخدمة الجماعة، تعترف الكنيسة بمكانة وظائف الخدمة غير القائمة على منح الدرجة، القادرة مع ذلك على تأمين خدمة كنسية خاصة.
وإذا ألقينا نظرة حول أصول الكنيسة، وتاريخها، لوجدنا فيها إضاءة للطريق أمامنا، وفائدة من الخبرة العتيقة في شأن الخدمة، التي لها قيمتها بقدر ما أتاحت للكنيسة أن تتدعم وتنمو وتنتشر. ولكن عنايتنا بالرجوع إلى الأصول، ينبغي تكملتها بعناية أخرى: أعني الاهتمام بالاحتياجات الحاضرة بالنسبة للبشرية وبالنسبة للكنيسة. الاستقاء من تلك الينابيع الملهمة باستمرار، وتجنب إهمال أية من تلك القيم، مع إدراك كيفية التواؤم مع المتطلبات والاحتياجات الحالية، ذلك هو المحور الذي سوف يسمح بالبحث بحكمة، وبالقاء الضوء حول الخدمات التي تحتاج إليها الكنيسة، والتي سوف يقبل العديدون من أعضائها على توليها، من أجل دفع أكبر حيوية في البيعة الكنسية. وسوف يكون لهذه الخدمات قيمتها الراعوية الحقة على قدر ما تستقر في احترام كامل للوحدة، مع الإفادة من توجيهات الرعاة الذين هم المسؤولون عن الوحدة في الكنيسة والصانعون لها.
ومثل هذه الخدمات، الجديدة في ظاهرها، ولكن المتصلة أوثق اتصال باختبارات عاشتها الكنيسة على مدى وجودها – مثل خدمات معلمي الدين، ومنشطي الصلاة والترتيل، والمسيحيين المكرسين لخدمة “كلمة” الله أو لمساعدة الأخوة المعوزين، وأخيراً خدمات رؤساء الجماعات الصغيرة، والمسؤولين عن الحركات الرسولية، ومن إليهم من المسؤولين -، كلها خدمات نفيسة من أجل إنشاء الكنيسة وحياتها وتنميتها، وفي سبيل قدرتها على الإشعاع فيما حولها وتجاه المتواجدين بعيداً عنها. ونحن مدينون بتقدير خاص تجاه جميع العلمانيين الذين يقبلون أن يكرسوا بعضاً من أوقاتهم وطاقاتهم، وأحياناً حياتهم كلها، لخدمة البعثات الرسولية.
وجميع العاملين في حقل البشارة الإنجيلية يحتاجون إلى إعداد جدي، مما يحتاج إليه بالأكثر أولئك الذين يعكفون على خدمة “الكلمة”. وأولئك الذين تقوم رسالتهم على تبليغ “كلمة الله”، إذ يحدوهم الاقتناع الأعمق فأعمق بعظمة الرسالة وغناها، ينبغي أن يولوا أكبر العناية لاستخدام أسلوب كريم، ودقيق، وملائم للحال. فكلنا نعلم مالفن الكلام من أهمية كبرى اليوم. فكيف يجوز للواعظين ومعلمي الدين أن يتغافلوا عن ذلك؟
ونرجو رجاء حاراً أن يسهر الأساقفة في كل كنيسة خاصة، على إعداد جميع خدّام “الكلمة” الإعداد المناسب. فمن شأن الإعداد الجدي هذا أن يضاعف لديهم الثقة الضرورية في أنفسهم، بل الحماس أيضاً لإعلان يسوع المسيح اليوم.
سابعاً
روح البشارة الإنجيلية
نداء ملّح:
74- لا نود أن ننهي هذا الحديث مع إخوتنا وأبنائنا الأحباء، دون أن نوجه نداء أخيراً يتعلق بالاستعدادات الداخلية التي ينبغي أن تنشط العاملين في البشارة الإنجيلية.
نعم، باسم الرب يسوع، وباسم الرسولين بطرس وبولس، نود أن نحث جميع الذين بفضل مواهب الروح القدس وبتفويض من الكنيسة، يقومون بالبشارة الإنجيلية، على أن يكونوا جديرين بدعوتهم، وأن يباشروها دون تعثر في الشك أو الخوف، وأن لا يغفلوا الأوضاع التي من شأنها أن تجعل هذه البشارة ليست فقط ممكنة، بل أيضاً نشطة ومثمرة. وهذه هي بعض الشروط التي نريد أن نركز عليها.
بنسمة من الروح القدس:
75- لن يكون هناك بشارة إنجيلية ممكنة دون قوة الروح القدس. فعلى يسوع الناصري يحل الروح ساعة العماد، بينما يسمع صوت الآب:ك “هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت” (107) – معلناً بصورة محسوسة عن اختياره ورسالته. وهو إذ “سار به الروح”، يحيا في البرية المعركة الحاسمة والتجربة الكبرى قبل أن يشرع في رسالته (108). وهو “بقوة الروح” (109) يرجع إلى الجليل ويفتتح كرازته بمدينة الناصرة، مطبقاً على نفسه ما ورد في سفر أشعيا: “روح الرب نازل علي” معلناً “اليوم تمت هذه الآية” (110). وقد قال للتلاميذ وهو على أهبة إرسالهم نافخاً فيهم: “خذوا الروح القدس” (111).
والواقع أنه فقط بعد حلول الروح القدس يوم العنصرة، ينطلق الرسل نحو جميع آفاق العالم للشروع في نشاط الكنيسة العظيم في البشارة الإنجيلية، ويفسر بطرس الحادث بأنه تحقيق لنبوءة يوئيل: “فيض من روحي أفيضه على الناس أجمعين” (112). ويمتلء بطرس من الروح القدس، فيتحدث إلى الشعب عن يسوع ابن الله (113). وبولس هو الآخر “يمتلء من الروح القدس” (114) قبل أن ينصرف إلى خدمته الرسولية. وكذلك شأن اسطفانوس عندما اختبر للشماسية، ثم بعدئذ لشهادة الدم (115) فالروح الذي يجعل بطرس وبولس والاثني عشر يتكلمون، ملهماً إياهم الكلام الذي ينبغي لهم أن ينطقوا به، يحل أيضاً على جميع الذين يسمعون “الكلمة” (11^).
وإنه بفضل مساندة الروح القدس تنمو الكنيسة (117). فهو أصل حياة هذه الكنيسة، وهو الذي يفسر للمؤمنين المدلول العميق لتعليم يسوع وسره. وهو الذي اليوم، اسوة به في أوائل عهد الكنيسة، يعمل في كل من يقوم بالبشارة الإنجيلية، إذا ما سلم نفسه ليتملكها هو يقودها، ويضع على فمه الألفاظ التي ما كان ليستطيع وحده أن يجدها، ويوفر أيضاً الإعداد التمهيدي لنفس من ينصت، فيجعله متفتحاً مرحباً بالخبر السار وبالملكوت المعلن.
إن الفنون المختلفة في نشاط البشارة مفيدة، ولكن أكثرها اتقاناً لا يمكن أن تحل محل عمل الروح القدس الخفي الرقيق. ومهما توفر من اتقان دقيق في إعداد وتحضير القائم بالبشارة فهذا لا تجدي نفعاً دون عمل قوة الروح. وبدونه يكون الجدل أية كانت قوة حجته، عاجزاً عن التأثير في عقول الناس. وبدونه سرعان ما يتضح أن البحوث الاجتماعية والنفسية، مهما بذل فيها من جهود، خاوية خالية من كل قيمة.
ونعيش في الكنيسة فترة ممتازة للروح. ففي كل مكان يسعى الناس للتعرف عليه تعرفاً أفضل، حسبما يكشف عنه الكتاب. ويشعرون بالفرح إذ يضعون أنفسهم في محور نشاطه، ويلتئمون حوله، ويرغبون في التسليم بأنفسهم لقيادته.
فإن كان لروح الله مكانة سامية في حياة الكنيسة كلها إلا أنه يعمل بالأكثر في شأن رسالة البشارة الإنجيلية. وليس من قبيل المصادفة أن يكون الانطلاق الكبير للبشارة بالإنجيل، قد حدث في صبيحة العنصرة، بفضل حلول الروح.
ونستطيع أن نقرر أن الروح القدس هو العامل الأساسي في البشارة الإنجيلية: فهو الذي يدفع كل امرئ إلى إعلان الإنجيل، وهو الذي داخل قرارة الضمائر يدفع كل إنسان إلى قبول وإدراك “كلمة الخلاص” (118). ولكن يمكننا القول أيضاً أنه هو حد البشارة وغايتها: هو وحده الذي يوقظ الخليقة الجديدة، والإنسانية الجديدة التي ينبغي أن تصل إليها البشارة، مع الوحدة في التنوع، مما تصبو البشارة إلى تحقيقه في البيعة المسيحية. ومن خلال الروح يتغلغل الإنجيل في قلب العالم. لأنه هو الذي يتيح تمييز علامات الأزمنة – علامات الله – التي يكشفها عمل البشارة ويستثمرها داخل التاريخ.
ولقد شدد سينودس الأساقفة عام 1974 على مكانة الروح القدس في عمل البشارة، وعبر أيضاً عن أمنية بأن يدرس الجميع، رعاة ولاهوتيون – ونضيف أيضاً المؤمنين الذين نالوا سمة الروح في العماد – دراسة أعمق، طبيعة الروح القدس وأسلوب عمله في نشاط البشارة الإنجيلية اليوم. وهذه أمنيتنا أيضاً، بينما نحن القائمين على عمل البشارة أياً كانوا، على أن يتضرعوا باستمرار إلى الروح القدس بإيمان وحرارة، وأن يسلّموا أنفسهم لقيادته الحصيفة، باعتباره الملهم الحاسم لمشروعاتهم ومبادراتهم ونشاطهم في عمل البشارة.
شهود أصليون:
76- ولنتأمل الآن شخصية القائمين على البشارة أنفسهم، كثيراً ما يردد اليوم أن هذا الجيل متعطش إلى الأصالة والإخلاص. وبالنسبة للشباب خاصة، يذكرون أنهم يمحون المظهرية والغش، ويبحثون قبل كل شيء عن الحق والصفاء.
و”علامات الزمان” هذه كان ينبغي أن تجدنا ساهرين. فيطرح علينا هذا السؤال دائماً مع التشديد، سواء كان ضمناً أو بأصوات عالية: “هل تؤمنون حقاً بما تعلنون؟ وهل تعيشون فعلاً وفق عقيدتكم؟ وهل تكرزون حقيقة بما تعيشون؟ إن شهادة الحياة أصبحت أكثر من أي زمن مضى، شرطاً أساسياً للفاعلية العميقة للكرازة الإنجيلية. فمن هذه الزاوية، ها نحن مسؤولون إلى حد ما عن مسيرة الإنجيل الذي نعلنه.
“ما إذا تم في الكنيسة بعد مرور عشر سنوات على المجمع المسكوني”؟ تساءلنا في مطلع هذا التأمل. هل هي راسخة في قلب العالم؟ وهل هي مع ذلك حرة ومستقلة بالكفاية بحيث تستطيع أن تخاطب العالم؟ هل تقدم هي الدليل على تضامنها مع البشر، مع شهادتها في نفس الوقت باتصالها بالله المطلق؟ هل هي أكثر حرارة من ذي قبل، في التأمل والعبادة؟ وأكثر غيرة في النشاط من أجل نشر الرسالة، وفي سبيل أعمال الإحسان والتحرير؟ وهل هي أكثر التزاماً باستمرار، في بذل الجهود من أجل استرجاع الوحدة الكاملة بين المسيحيين، التي من شأنها أن تجعل الشهادة المشتركة أكثر جدوى “حتى يؤمن العالم؟” (119) فجميعنا مسؤولون عما قد يتوارد من إجابات على هذه الأسئلة.
لذلك نحث إخوتنا في الأسقفية، الذين أقامهم الروح القدس على رعاية شؤون الكنيسة (120)، ونحث الكهنة والشمامسة، معاوني الأساقفة في تجميع شعب الله وفي تنشيط الجماعات المحلية روحياً. ونحث الرهبان، الشهود لكنيسة مدعوة إلى القداسة، وبالتالي المدعوين هم أنفسهم لحياة شهادة للتطويبات الإنجيلية.
ونحث العلمانيين: العائلات المسيحية، والشبان والكبار، وجميع الذين يزاولون حرفة أو مهنة، والقادة، دون أن ننسى الفقراء الذين كثيراً ما يكونون أغنياء في الإيمان والرجاء، وجميع العلمانيين المتمتعين بالوعي بدورهم كقائمين بالبشارة الإنجيلية في خدمة كنيستهم، أو في قلب المجتمع والعالم. فنقول لهم جميعاً: يتعين أن تنطلق غيرتنا في عمل البشارة الإنجيلية، من حياة قداسة حقه، تغذيها الصلاة وبخاصة محبة القربان الأقدس، وأن تعمل الكرازة بدورها – على حد ما يوصينا به المجمع المسكوني – على تقدم من يقوم بها، في القداسة (121).
والغريب أن العالم الذي يحمل علامات عديدة على رفضه الله، يبحث عنه مع ذلك، بطرق لا يتوقعها الناس، ويشعر شعور الألم بالحاجة إليه، فيطالب بأشخاص يقومون بعمل البشارة، ويحدثونه عن إله يعرفونه ويتصلون به كما لو كانوا يشاهدون غير المنظور (122). فالعالم يطلب وينتظر منا بساطة في الحياة، وروح الصلاة ومحبة نحو الجميع، وبخاصة نحو الضعفاء والفقراء، وطاعة وتواضعاً وتخلياً عن ذواتنا وتجرداً. وبدون علامة القداسة هذه سوف يتعذر على كلمتنا أن تسير في طريقها إلى داخل قلب إنسان هذا الزمان. إنها تتعرض لأن تبقى ولا جدوى منها ولا خصوبة.
صانعوا الوحدة:
77- إن قوة عمل البشارة سوف تقل كثيراً إن كان أولئك الذين يعلنون الإنجيل منقسمين فيما بينهم بجميع أسباب الانقسام. أليس في ذلك موطن من مواطن الضيق الخطير الذي يعاني منه عمل البشارة اليوم؟ إذ أنه إذا كان الإنجيل الذي نعلنه، يظهر ممزقاً بفعل بعض المشاحنات في العقيدة، أو استقطاب التيارات الفكرية، أو الإدانات التي يتراشقها المسيحيون نتيجة لنظرتهم المختلفة عن المسيح وعن الكنيسة، بل بسبب تصوراتهم المتبادلة عن المجتمع وعن النظم الإنسانية، فكيف لا يشعر أولئك الذين نخاطبهم بكرازتنا، من جراء ذلك، بالاضطرابن والاختلال في الاتجاه، بل تصديق المسيحيين، بل المسيح نفسه. فنحن القائمون بعمل البشارة، علينا أن نقدم لاتباع المسيح، ليس صورة أناس منقسمين ومنفصلين عن بعضهم البعض بفعل منازعات غير بناءة، وإنما صورة أشخاص ناضجين في الإيمان، قادرين على التلاقي مع تجاوز الصراعات الواقعيةن بفضل البحث المشترك عن الحقيقة، الصادق والمنزه عن الغرض. أجلن إن مصير عمل البشارة الإنجيلية لمرتبط ارتباطاً كبيراً بشهادة الوحدة التي تقدمها الكنيسة. إنه مصدر للمسؤولية، ولكن أيضاً مبعث للارتياح.
وفي هذا الصدد، نريد أن نركز على علامة الوحدة بين المسيحيين، باعتبارها الطريق والوسيلة للبشارة الإنجيلية. فانقسام المسيحيين حالة واقعية خطرة، تصل إلى حد الصاق الشائبة بعمل المسيح نفسه. فالمجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” يؤكد عن وعي وحزم، إن الانقسام “يلحق الأذى بقضية مقدسة هي الكرازة بالإنجيل لكل الخليقة، كما يحول دون بلوغ الكثيرين إلى الإيمان” (123). فلهذا السبب عندما أعلنا السنة المقدسة، رأينا من الضروري تذكير كافة المؤمنين في العالم الكاثوليكي، بأن “مصالحة جميع البشر مع الله أبينا، تفترض في الواقع من قبل، استعادة الوحدة بين أولئك الذين تعرفوا في الإيمان على يسوع المسيح وقبلوه رباً بالرحمة، محرراً لجميع البشر وموحداً إياهم في روح المحبة والحق” (124).
لذلك فإننا نشاهد بشعور رجاء قوين الجهود التي تبذل في العالم المسيحي، من أجل استعادة الوحدة الكاملة التي أرادها المسيح. ويؤكد القديس بولس لنا ذلك قوله: “إن الرجاء لا يخيب صاحبه” (125). وبينما نعمل باستمرار للحصول من الرب على الوحدة الكاملة، نرغب في أن نرى الصلاة تتضاعف كثافة. وفضلاً عن ذلك نتبنى الأمنية التي عبر عنها الآباء الملتئمون في الدورة العامة الثالثة ليسنودس الأساقفة العام، بأن نتعاون بمزيد من العزم مع أخوتنا المسيحيين الذين لسنا بعد متحدين معهم في وحدة كاملة، استناداً إلى العماد وتراث الإيمان المشترك معهم، بحيث نستطيع من الآن، في البشارة الإنجيلية الواحدة، أن نشهد سوياً وعلى أوسع مدى، بالمسيح يسوع أمام العالم. فنحن مدفوعون لذلك بوصية المسيح، وهو شرط من شروط عمل الكرازة والشهادات الواجبة للإنجيل.
خدّام الحقيقة:
78- إلا أن الإنجيل الذي نحن مكلفون به، هو أيضاً كلمة الحق. فالحق الذي يصنع الأحرار (126)، ويكفل دون غيره سلام القلب، هو ما يتقدم الناس لطلبه عندما نعلن لهم الخبر السار. الحقيقة عن الله، الحقيقة عن الإنسان ومصيره الخفي، والحقيقة عن العالم. إنها لحقيقة عسيرة، تلك التي نبحث عنها في “كلمة” الله، والتي لسنا نحن – وتكرر ذلك مرة أخرى – لا أصحاب سلطة ولا أصحاب تصرف فيها، إنما نحن المؤتمنون عليها، والمنادون بها والخادمون لها.
وكل قائم بالبشارة الإنجيلية ينتظر منه أن يتوفر على عبادة الحقيقة، ولاسيما أن الحقيقة التي بتعمق فيها وينقلها، ليست سوى الحقيقة الموحاة، ومن ثم فهي أكثر من غيرها، شطر من الحقيقة الأولى التي هي الله ذاته. فالقائم بكرازة الإنجيل سوف يكون لذلك شخصاً يبحث باستمرار عن الحقيقة التي عليه تبليغها إلى الآخرين، ولو كلفه البحث نكران الذات وتحمل الألم. إنه لا يخون الحقيقة أبداً، ولا يحجبها بغية أرضاء الناس أو الإبهار أو إثارة الاستغراب، ولا من أجل الخروج عن المألوف قوله أو للرغبة في الظهور. أنه لا يرفض الحقيقة. ولا يلقي ظلاماً حول الحقيقة الموحاة، عن تكاسل في البحث، أو عن رغبة في تصريف الأمور، أو عن خوف. ولا يهمل في دراستها. إنه يخدمها بسخاء ولا يسخرها لخدمته.
ونحن رعاة الشعب المؤمن، تلح علينا خدمتنا الراعوية بأن نحافظ على الحقيقة، وندافع عنها ونبلغها، دون مانظر إلى ما تتكلف من تضحيات. وكم من رعاة متسامين وقديسين قد تركوا لنا وراءهم مشاهد عديدة من البطولة، مثلاً يحتدي في محبة الحقيقة. وإله الحق ينتظر منا أن نكون المدافعين الحريصين عنها، والكارزين الخالصين بها.
وأنتم معلموا الكنيسة، سواء كنتم من اللاهوتين، أو المعلقين الشارحين للكتاب أو المؤرخين، يحتاج عمل البشارة الإنجيلية إلى سعيكم الذي لا يعرف الملل في سبيل البحث، وأيضاً إلى عنايتكم ودقتكم الرقيقة في تبليغ الحقيقة، التي تساعدكم دراساتكم على الاقتراب منها، مع كونها دائماً أوسع من أن يحتويها قلب الإنسان، إذ أنها حقيقة الله ذاته.
وأنتم الوالدون والقائمون على شؤون التربية، أن مهمتكم التي لا تجعلها الصراعات الحالية متيسرةن تقوم على مساعدة أولادكم وتلاميذكم على اكتشاف الحقيقة، بما فيها الحقيقة الدينية والروحية.
رائدكم المحبة:
79- فالبشارة الإنجيلية تفترض فيمن يقوم بها، محبة أخوية تتضاعف باستمرار نحو أولئك الذين تقدم لهم البشارة. فأمامنا مثال الكارزين بالإنجيل، الرسول بولس، وقد كتب إلى أهل تسالونيكي هذا الكلام الذي هو بمثابة منهاج لنا جميعاً: “ويبلغ منا الحنو عليكم، إننا وددنا لو نجود عليكم بأنفسنا، لا ببشارة الله فحسب، لأنكم أصبحتم أحباء إلينا” (127). فما هي تلك المحبة؟ إنها أقوى من المحبة التي تصدر عن مرب، هي محبة الوالد، بل أوفر منها هي محبة الأم (128). تلك هي المحبة التي ينتظرها الرب من كل كارز بالإنجيل، ومن كل بناء من بنائي الكنيسة فعلامة من علامات المحبة تقوم على الاهتمام بتقديم الحقيقة والادخال في “الوحدة”. وعلامة للمحبة تقوم أيضاً على بذل النفس دون قيد ودون تراجع في سبيل إعلان يسوع المسيح. واسمحوا لنا أن نذكر علامات أخرى لهذه المحبة.
فالأولى تكون باحترام الحالة الدينية والروحية التي يكون عليها الأشخاص الذين تقدم لهم البشارة، احترام الوتيرة التي يسلكون عليها، وليس لنا الحق في الضغظ من أجل مضاعفتها غصباً. واحترام ضمائرهم ومعتقداتهم وتجنب مصادمتها.
ولنا علامة أخرى لهذه المحبة في السهر على تحاشي جرح الغير، وبخاصة إذا كان ضعيفاً في إيمانه (129)، باستخدامنا تصريحات قد تكون في متناول المتقدمين، ولكن يحتمل أن تسبب بالنسبة لعامة المؤمنين اضطراباً وتشكيكاً، بمثابة جرح في صميم القلب.
وعلامة أخرى للمحبة تكون ببذل الجهد من أجل تبليغ المسيحيين معلومات مؤكدة ثابتة بكونها راسخة على “كلمة” الله، بدلاً من أمور تثير الشك وتزعزع اليقين نتيجة لتعمق في البحث يخلو من الهضم والتمثيل الكافي. فالمؤمنون في حاجة إلى مثل هذه الأمور في حياتهم المسيحية، ولهم الحق فيها بوصفهم أبناء الله، يرتمون في أحضانه تعالي مستسلمين كلية لمطالب المحبة.
بحرارة القديسين:
80- إن نداءنا يستلم حرارة عظماء الكارزين والقائمين على البشارة الإنجيلية، ممن بذلوا حياتهم في سبيل الرسالة: ومن بينهم يحلو لنا أن نشير إلى أولئك الذين اقترحنا خلال السنة المقدسة تكريمهم في تقوى المؤمنين، فقد عرفوا كيف يتخطون عقبات عديدة في سبيل البشارة.
وفي عصرنا الحالي تقوم العديد من العقباتن التي نكتفي بأن نذكر منها النقص في الحرارة. ودرجة الخطر فيه تتضاعف على قدر ما يتولد عن باعث داخلي، فيظهر في الملل وفقدان حماس، وفي رتابة عجلة (روتين) الحياة وعدم الاكتراث، وبخاصة في نقص الشعور بالفرح والرجاء. فلذلك نحث جميع من يقع عليهم عبء البشارة، بأية صفة وعلى أي مستوى كان، على أن يغذوا في أنفسهم اتقاد الروح (130).
إن هذه الحرارة لتتطلب أولاً أن نعرف كيف نتجنب الأعذار المنتحلة بقصد التحول عن البشارة الإنجيلية. وأكثرها فساداً تلك التي يزعمون بأن لها مسنداً في هذا التعليم أو ذاك من المجمع المسكوني.
فكثيراً ما نسمع القول في صيغ مختلفة، أن فرض أية حقيقة ولو كانت حقيقة الإنجيل، أو فرض أي طريق ولو كان طريق الخلاص، لا يشكل إلا إكراهاً مقيداً للحرية الدينية. ويضيفون أنه ما الداعي لإعلان الإنجيل طالما أن كل الناس يخلصون عند توفر سلامة القلب وصفائه؟ ونعلم جيداً من جهة أخرى أن العالم والتاريخ مشحونان “ببذور الكلمة”: أليس إذا ضربا من التوهم أن ندعي نقل الإنجيل إلى حيث يكون له وجود من قبل بفضل تلك البذور التي ألقاها الرب بنفسه؟
أن من يحمل نفسه مشقة الرجوع إلى وثائق المجمع المسكوني، والتعمق في التساؤلات التي تستمد منها تلك الأعذار الوهمية ببساطة مفرطة، يستطيع أن يجد في نصوص الوثائق مفهوماً لحقيقة الأمر مغايراً تماماً لذلك.
حقيقة أنه من الخطأ أن نفرض أي أمر جبراً على ضمائر أخوتنا. ولكن الحال يختلف تماماً عندما تعرض على الضمير الحقيقة الإنجيلية والخلاص بيسوع المسيح، في صراحة تامة واحترام مطلق للاختيارات الحرة التي سوف يفاضل الضمير بينها، – مع تجنب “كل تصرف يبدو وكأن فيه نوعاً من القسر أو الاقناع غير النزيه أو غير الأمين (131)- : فهذا بعيد عن إهدار الحرية الدينية، بل فيه إكرام لهذه الحرية التي يعرض عليها اختيار طريق يعتبره حتى غير المؤمنين أنفسهم طريقاً نبيلاً وداعياً للحماس. فهل هناك جريمة في حق حرية الآخر، في أن نعلن أمامه في فرح الخبر السار الذي سمعناه لتونا بفضل رحمة الرب؟ (132). ولماذا يكون فقط للكذب والضلال والانحراف والخلاعة، الحق في أن تعرض سافرة، وغالباً للأسف أن تفرض عن طريق الدعاية الهدامة في وسائل التعبير الاجتماعي، بفضل تسامح التشريعات، وجبن الصالحين واجتراء الأشرار؟ بل أن هذه الطريقة المطبوعة على الاحترام، في عرض المسيح وملكوته، أكثر من حق، هي واجب على القائم بعمل البشارة. وإنه لحق للناس أخوته بأن يتلقوا عنه الخبر السار بالخلاص. فهذا الخلاص يستطيع الله أن يتمه لمن يريد، بالطرق غير العادية التي يعملها هو وحده (133). إلا أنه إن كان ابنه قد جاء، فإنما جاء من أجل أن يكشف لنا بكلامه وبحياته، الطرق العادية للخلاص. وقد أمرنا بأن ننقل إلى الآخرين هذا الكنف بنفس الحجة التي تكلم بها. ولن يكون عبثاً اهتمام كل مسيحي وكل قائم بالبشارة بالتعمق في هذه الفكرة عن طريق الصلاة: إن الناس قد يخلصوه أيضاً بطرق أخرى بفضل رحمة الله، حتى إن كنا لا نعلن لهم الإنجيل، ولكن هل نستطيع نحن أن نخلص إذا أغفلنا إعلانه عن إهمال أو خوف أو خجل، – من باب “الاستحياء بالإنجيل” (134) على حد تعبير القديس بولس، أو نتيجة الأفكار خاطئة؟ إننا نكون قد قابلنا بالخيانة دعوة الله الذي يرغب في أن ينمي البذرة، عن طريق صوت خدام الإنجيل، وسوف يكون منوطاً بنا أن تتحول هذه البذور إلى شجرة، فتعطي ثمارها كلها.
فلنحافظ إذاً على حرارة الروح، ولنحتفظ بالفرحة اللطيفة المعزية التي تنشأ عن البشارة بالإنجيل، حتى إذا تطلب الأمر أن نزرع بالدموع. ولتكن البشارة بالنسبة لنا – كما كانت ليوحنا المعمدان، ولبطرس وبولس، ولسائر الرسل والعديد من القائمين بالبشارة ممن يدفعون على الإعجاب بهم، طوال تاريخ الكنيسة – دفعاً داخلياً لا قبل لأي إنسان أو لأي أمر أن نجمده. ولتكن البشارة فرحاً كبيراً لنا في حياتنا المبذولة في سبيلها. وليتسن لعالم هذا العصر الذي يسعى في بحثه، تارة من الضيق وتارة في الرجاء، أن يستقبل الخبر السار، ليس عن طريق قائمين بعمل البشارة يبدون مكتئبين، يائسين فاقدي الصبر، أو قلقين، وإنما عن يد خدام للإنجيل تشع حياتهم حرارة، وهم أول من جاءهم فرح المسيح، فيقبلون أن يسخروا حياتهم من أجل إعلان الملكوت وترسيخ أقدام الكنيسة في داخل العالم.
الخاتمة
شعار السنى المقدسة:
81- تلك أيها الإخوة والأبناء، هي الصرخة التي تنطلق من أعماق قلبنا، صدى لصوت أخوتنا في الأسقفية الذين اجتمعوا في الدورة العامة الثالثة للسينودس العام. وتلك هي الوصية التي أردنا أن نقدمها في نهاية السنة المقدسة، وقد سنحت لنا بأن نلمس أكثر من أي زمن مضى، الاحتياجات والتطلعات البادية من العديد من الأخوة، مسيحيين وغير مسيحيين ممن ينتظرون من الكنيسة “كلمة” الخلاص.
فعسى نور السنة المقدسة، الذي ظهر في الكنائس الخاصة وفي روما للملايين من الضمائر المتصالحة مع الله، يشع أيضاً بعد اليوبيل، خلال منهج عمل راعوي، يحتل فيه عمل البشارة الإنجيلي الجانب الرئيسي، خلال تلك السنوات التي هي بمثابة عشية قرن جديد، وعشية أيضاً لحقبة الألف الثالث من المسيحية.
مريم نجم نشاط البشارة الإنجيلية:
82- تلك هي الأمنية التي نغتبط إذ نستودعها يدي وقلب مريم العذراء كلية القداسة، البريئة من الدنس، في ذلك اليوم المكرس خاصة لها، في الذكرى السنوية العاشرة لاختتام أعمال المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني”. ففي صبيحة العنصرة أشرفت هي بالصلاة على الشروع في البشارة الإنجيلية، تحت إرشاد الروح القدس: لتكن النجم المضيء لنشاط البشارة الإنجيلية الذي يتجدد باستمرار، والذي ينبغي للكنيسة أن تيسره وتنجزه في طاعة للتكليف من ربها، في هذه الأزمنة الحالية المشحونة بالمصاعب وبالآمال في الوقت عينه.
وباسم يسوع المسيح، نبارككم، أنتم وبيعاتكم وأسركم، وجميع الذين يرتبطون بكم، بتلك الكلمات التي خاطب بها القديس بولس أهل فيليبي: “أحمد الله كلما ذكرتكم ودعوت لكم جميعاً بفرح في جميع صلواتي، أحمده على مشاركتكم لي في النعمة المعطاة لي بخدمة البشارة وتأييدها. والله شاهد على أني شديد الحنان عليكم جميعاً في قلب يسوع المسيح (135).
صدر عن روما بجوار القديس بطرس، في اليوم الثامن من شهر ديسمبر 1975، عيد الاحتفال بالطوباوية مريم العذراء المنزهة عن الخطيئة الأصلية، الواقع في العام الثالث عشر من حبريتنا.
بولس السادس
البابا والبطريرك
الحواشي:
1) راجع لوقا 22 : 22
2) 2 كور – 11 : 28
3) المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي – بند 1 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 947
4) راجع أفسس – 4 : 24 و 2 : 15 – كولوسي 3 : 10 – غلاطيا 3 : 27 – رومية 13 : 14 – 2 كور 5 : 17
5) راجع 2 كور 5 : 20
6) راجع – بولس السادس – خطابه في اختتام الدورة العامة الثالثة لسينودس الأساقفة العام (26 أكتوبر 1974) AAS (أعمال الكرسي الرسولي 66 (1974) ص 634 – 635 و 637
7) AAS أعمال الكرسي الرسولي – 65 (1973) ص 383
8) 2 كور 11 : 28
9) أولى تيموثاوس 5 : 17
10) ثانية تيموثاوس 2 : 15
11) راجع 1 كور 2 : 5
12) لوقا 4 : 43
13) شرحه
14) لوقا 4 : 18 – راجع أشعيا 61 : 1
15) راجع مرقس 1 : 1 – رومية 1 : 1 إلى 3
16) راجع متى 6 : 33
17) راجع متى 5 : 3 إلى 12
18) راجع متى 5 : 7
19) راجع متى 10
20) راجع متى 13
21) راجع متى 18
22) راجع متى 24 – 25
23) راجع متى 24 : 36 – أعمال الرسل 1 : 7 – أولى تسالونيكي 5 : 1 و 2
24) راجع متى 11 : 12
25) لوقا 16 : 16
26) مرقس 1 : 27
27) لوقا 4 : 22
28) يوحنا 7 : 46
29) لوقا 4 : 43
30) يوحنا 11 : 52
31) قارن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني – الدستوري العقائدي عن الوحي الإلهي بند 4 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 818 و 819
32) بطرس الأولى 2 : 9
33) راجع أعمال الرسل 2 : 11
34) لوقا 4: 43
35) أولى كور 9 : 16
36) تصريح آباء السينودس – بند – 4 – مجلة أوسرافاتوري رومانو في 27 أكتوبر 1974 ص 6
37) متى 28 : 19
38) أعمال الرسل 2 : 41 – 47
39) قارن المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – الدستور العقائدي عن الكنيسة “نور العالم” – بند 8 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 57 – (1965) ص 11 – مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي – بند 5 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 951 – 952
40) راجع أعمال الرسل 2 : 42 – 46 و 4: 32 – 35 و 5 : 12 – 16
41) قارن أعمال الرسل 2 : 11 وبطرس الأولى 2 / 9
42) قارن المرسوم عن النشاط الإرسالي للكنيسة بند 5 و 11 و 12 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 951 و 952 و 959 إلى 961
43) راجع كور الثانية 4 : 5 – القديس أغسطينوس Sermo XLVI De Pastoribus: CCLXLI ص 529 – 530
44) لوقا 10 : 16 – راجع القديس كبريانوس De Unitate Ecclesiae 14 PL 4- 527 القديس أوغسطينوس Enarrat, 88, sermo, 2, 14; PL 37, 1140 والقديس يوحنا الذهبي الفم Hom. De capto Eutropio, 6 PG 52, 402
45) أفسس 5 : 25
46) الرؤيا 21 : 5 وراجع 2 كور 5 : 17 – غلاطيا 6 : 15
47) راجع رومية 6 : 4
48) أفسس 4 : 23 و 24 – كولوسي 3 : 9 و 10
49) راجع رومية 1 : 16 – كور الأولى 1 : 18 و 2 : 4
50) راجع بند 53 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) ص 1075
51) راجع Tertullien, Apologeticum, 39 CCL pp. 150 – 153. Minucius Félix Octavius, 9 et 31: CSLP, Turin 1963 (2) pp. 11 – 13, 47 – 48.
52) بطرس الأولى 3 : 15
53) راجع المجمع “المسكوني الفاتيكاني الثاني” – الدستور العقائدي عن الكنيسة “نور العالم” بند 1 و 9 و 48 – AAS (مجلة أعمال الكرسي الرسولي – 57 (1965) ص 5 و 13 – 14 و 53 – 54 – الدستور الرعائي “الكنيسة في عالم العصر “فرح ورجاء” بند 42 و 45 AAS (أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص 1060 و 1061 و 1065 و 1066 – المرسوم عن نشاط الكنيسة الإرسالي بند 1 و 5 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 947 و 951 و 952.
54) راجع رومية: 1 : 16 – كور الأولى 1 : 18
55) قارن أعمال الرسل 17 : 22 و 23
56) يوحنا الأولى 3 : 1 راجع رومية 8 / 14 إلى 17
57) راجع أفسس 2 : 8 – رومية 1 : 16 – قارن مجمع نشر الإيمان Declaratio ad fidem tuendam in mysteria Incarnationis et SS. Trinitatis a quibusdam recentibus erroribus (21 فبراير 1973) AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 64 (1972) ص 237 – 341
58) راجع يوحنا الاولى 3 : 2 – رومية 8 : 29 – فيلبي 3 : 20 – 21 – قارن المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” الدستور العقائدي عن “الكنيسة” “نور العالم” – بند 48 – 51 (أعمال الكرسي الرسولي) – 57 (1965) ص 53 – 58
59) راجع مجمع نشر الإيمان Declaratio circa Catholicam Doctrinam de Ecclesia contra monnullos errors hodiernos tuendam (24 يونية 1973) AAS – 65 (1973) ص 396 – 408
60) قارن المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – الدستور الرعائي عن الكنيسة في عالم العصر (فرح ورجاء) بند 47 – 52 AAS أعمال الكرسي الرسولي. – 58 (1966) ص 1067 – 1074 – بولس السادس – الرسالة العامة عن “الحياة الإنسانية” (تنظيم النسل) AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 60 (1968) ص 481 – 503
61) خطاب البابا في افتتاح الجماعة العامة لسينودس الأساقفة (27 سبتمبر 1974) – AAS – 76 (1974) ص 562
62) نفس المرجع
63) الخطاب إلى الـ Campesinos (المزارعين في كولومبيا) – و 23 أغسطس 1968) – AAS أعمال الكرسي الرسولي) 60 (1968) ص 623
64) بولس السادس – الخطاب الملقي في بوجاتا – في “يوم التنمية” (23 أغسطس 1968) AAS (أعمال الكرسي الرسولي – 60 (1968) ص 627 – راجع القديس أغسطينوس Epistola 239 – 2 . PL 23 – 1020
65) الخطاب في ختام أعمال الدورة العامة الثالثة لسينودس الأساقفة العام (26 أكتوبر 1974) – AAS (أعمال الكرسي الرسولي – 66 (1974) ص 637
66) الخطاب في اللقاء العام يوم 15 أكتوبر 1975 – راجع “أوسرفاتوري رومانو في 17 أكتوبر 1975 ص 1
67) الخطاب إلى أعضاء مجلس العلمانيين (2 أكتوبر 1974) – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 66 (1974) ص 568
68) قارن بطرس الأولى 3 : 1
69) رومية 10 : 14 و 17
70) راجع كور 2 : 1إلى 5
71) رومية 10 : 17
72) راجع متى 10 : 27 – لوقا 12 : 3
73) مرقس 16 : 15
74) راجع S. Justin, I Apologia 46 – 1 إلى 4 و II Apologia 7 (8) – 1 إلى 4 و 10 – 1 إلى 3 و 13 – 3 و 4 و Florilegium Patristicum 2 – بون 1911 (2) ص 81 و 125 و 129 و 133 – و Clement d’Alexandrie,Stromata 1 – 19 و 91 و 94. S.Ch 30 ص 117 و 119 و 120 – والمجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 11 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 960 – والدستور العقائدي عن الكنيسة (نور العالم) بند 17 – 1- 1 أعمال الكرسي الرسولي) 57 (1965) ص 21.
75) Eusebe de Cesaree, Preparatio Evangelica AAS P6 21 و 26 إلى 28 وراجع المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – الدستور العقائدي عن الكنيسة بند 16 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 57 (1965) ص 20
76) راجع أفسس 3 : 8
77) H. de Lubac اليسوعي Le drame de l’humanisme athee طبعة Spes باريس 1945
78) راجع الدستور الرعائي عن “الكنيسة في عالم العصر” فرح ورجاء … بند 59 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 1080
79) أولى تيوتاوس 2 :4
80) متى 9 : 36 و 15 : 32
81) رومية 10 : 15
82) التصريح عن “الحرية الدينية” – بند 13 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 939 – وراجع الدستور العقائدي عن “الكنيسة” (نور العالم” بند 5 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 57 (1965) ص 7 و 8 – ومرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 1 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 947
83) مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 35 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 983
84) القديس أوغسطينوس Enarrat in Ps 44, 23 : CCLXXXVIII ص 510 وراجع مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي 1 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) ص 947
85) القديس غريغوريوس الكبير Homil. In Evangelia 19 – 1 P. 6. 76 – 1154
86) أعمال الرسل 1 : 8 راجع Diadache 9 – 1 – Funk, Patres Apostolic 1 – 22
87) متى 28 : 20
88) راجع متى 13 : 32
89) راجع متى 13 : 47
90) راجع يوحنا 21 : 11
91) راجع يوحنا 10 : 1 إلى 16
92) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني – دستور الطقوس المقدسة – بند 37 و 38 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 56 (1964) ص 110 – وراجع أيضاً الكتب الطقسية والوثائق الأخرى التي نشرها فيما بعد الكرسي الرسولي من أجل تحقيق إصلاح الطقوس تلبية لرغبة المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني”
93) خطاب اختتام الدورة العامة الثالثة لسينودس الأساقفة العام (26 أكتوبر 1974) AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 66 – (1974) ص 636
94) يراجع يوحنا 15 : 16 – مرقس 3 : 13 إلى 19 – لوقا 6 : 13 إلى 16
95) راجع أعمال الرسل 1 : 21 و 22
96) راجع مرقس 3 : 14
97) راجع مرقس 3 : 14 و 15 – ولوقا 9 : 2
98) أعمال الرسل 4 : 8 – راجع أعمال 2 : 14 و 3 : 12
99) راجع القديس لاون الكبير Sermo 69 – 3 و Sermo 70: 1 إلى 3 – Sermo 94 – 3 و Sermo 95: 2 – Sources Chretiennes ص 50 إلى 52 و 58 إلى 66 و 258 إلى 260 و 268
100) راجع مجمع مسكوني ليون الأول – دستور ad apostolicae dignitatis Conciliorum Oecumenicorum Decreta Istituto per le Scienze Religiose الناشر Bologna, 1973 ص 278 – ومجمع فينا المسكوني دستور Ad providam Christi الطبعة المذكورة ص 343 والمجمع المسكوني “لاتيران الخامس” – دستور in Apostolici culminis الطبعة المذكورة ص 608 – دستور Postquam ad universalis الطبعة المذكورة 609 – الدستور Supernae dispositiois الطبعة المذكورة ص 614 – دستور Divina disponente clementia الطبعة المذكورة ص 638
101) مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي – بند 38 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) – ص 985
102) راجع المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني – الدستور العقائدي عن “الكنيسة” “نور الأمم” – بند 22 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 57 (1965) – ص 26
103) راجع المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني – الدستور العقائدي عن “الكنيسة” (نور الأمم) – بند 10 و 37 AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 57 ص 14 و 43 – ومرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 39 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 58 (1966) – ص 986 ومرسوم “خدمة الكهنة وحياتهم” بند 2 و 12 و 13 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) – ص 992 و 1010 و 1011
104) راجع تسالونيكي الأولى 2 : 9
105) راجع بطرس الأولى 5 : 4
106) الدستور العقائدي عن الكنيسة “نور العالم” بند 11 AAS – 57 (1965) ص 16. مرسوم نشاط العلمانيين بند 11 – AAS 58 (1966) ص 848 – القديس يوحنا الذهبي الفم In Genesim Serm. – 2 – و 7 – 1- 54 – 607 – 608
107) متى 3 : 17
108) متى 4 : 1
109) لوقا 4 : 14
110) لوقا 4 : 18 و 21 – يراجع أشعيا 61 : 1
111) يوحنا 20 : 22
112) أعمال الرسل 2 : 17
113) يراجع أعمال الرسل 4 : 8
114) أعمال الرسل 9 : 17
115) راجع أعمال الرسل 6: 5 و 10 – و 7 : 55
116) راجع أعمال الرسل 10 : 44
117) راجع أعمال الرسل 9 : 31
118) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني – مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 4 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) – ص 950 و 951
119) يوحنا 17 : 21
120) راجع أعمال الرسل 20 : 28
122) راجع رسالة بولس العبرانيين 11 : 27
123) مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي بند 6 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) ص 954 و 955 – راجع مرسوم “الحركة المسكونية” – بند 1 – AAS أعمال الكرسي الرسولي) – 57 (1965) – ص 90 و 91
124) رسالة Bulle Apostolorum Limina – 7 – AAS (أعمال الكرسي الرسولي) 66 (1974) ص 305
125) راجع رومية 5 : 5
126) راجع يوحنا 8 : 32
127) راجع تسالونيكي الاولى 2 : 8 – وراجع فيليبي 1 : 8
128) راجع تسالونيكي الاولى 2 : 7 – 11 – وكور الأولى: 4 : 15 غلاطيا 4 : 19
129) راجع كور الأولى 8 : 9 – 13 – رومية 14 : 15
130) راجع رومية 12 : 11
131) راجع المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – التصريح عن الحرية الدينية – بند 4 AAS – (أعمال الكرسي الرسولي) – 58 (1966) ص 933
132) راجع نفس الوثيقة بند 9 – 14 – نفس المرجع ص 935 – 940
133) راجع المجمع المسكوني “الفاتيكاني الثاني” – مرسوم نشاط الكنيسة الإرسالي – 7 – AAS – 58 (1966) ص 955
134) راجع رومية 1 : 16
135) راجع فيليبي 1 : 3 – 4 و 7 – 8
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post