كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة السابعة: في موت السيّدة العذراء
فيما يلاحظ عيد نياح سيدتنا والدة الإله. وفيه يبرهن عن كم كان موتها كريماً، أولاً: لأجل الأشياء التي رافقته. ثانياً: لأجل النوع الذي به حدث.
وفيه جزءان
† الجزء الأول †
* في كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء الجليلة التي رافقته*
أن الكنيسة المقدسة في هذه الأيام تقدم لنا موضوعين لنكرمهما ونتأملهما ونحتفل بتذكارهما عبادةً لوالدة الإله، فالأول: هو تذكار انتقال هذه السيدة من الحياة الحاضرة إلى الحياة الأبدية. والثاني: هو تذكار ارتقائها إلى السماء بالنفس والجسد. فنحن نتكلم في هذا الفصل عن الموضوع الأول وفي الفصل التابع عن الموضوع الثاني مبرهنين في الجزء الأول الحاضر عن كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء التي رافقته.*
فأمرٌ واضح هو أن الموت إنما هو عقاب الخطيئة، ولهذا يبان أن والدة الإله لم تكن خاضعةً لشريعة هذا العقاب، ولا كان يلزمها أن تتكبد شيئاً من تعاسة أولاد آدم عينها. من حيث أنها وجدت دائماً بريئةً من كل شائبة دنسٍ أو خطيئةٍ مطلقاً، وعلى الدوام كانت قديسةً بكليتها. ولكن لأجل أن الله أراد أن تكون هذه الأم الإلهية شبيهةً بابنها يسوع في كل الأحوال. فإذ كان هذا الابن قد مات حقيقةً فكان يجب أنها هي أيضاً تموت حقيقةً، مريداً بذلك تعالى أن يعطي الأبرار نموذجاً مختصاً بالميتة الكريمة لديه المعدة لهم. ولهذا رسم بأن تموت هذه الطوباوية ولكن ميتةً حلوةً بكليتها. سعيدةً بجميع ظروفها. مرافقةً من حوادث جليلة جداً.*
فاعتيادياً أن الموضوعات التي تصير الموت مراً هي ثلاثةٌ، أي تعلق القلب في الأشياء الأرضية، وتوبيخ الضمير من أجل الخطايا المفعولة. وعدم معرفة حقيقة الحكومة العتيدة أن تبرز على النفس بعد انفصالها من الجسد أن كان بالخلاص أو بالهلاك. فميتة القديسة والدة الإله قد كانت منفصلةً بالكلية عن هذه الموضوعات بجملتها. ومرافقةً من ثلاثة أشياء جليلة تجعلها كريمةً جداً، عذبةً في الغاية، سعيدةً بكل ظروفها. فهي ماتت غير متعلقة القلب بشيء من الأشياء الأرضية مطلقاً. كما عاشت جميع أيام حياتها، ورقدت بسلام ضميرٍ مملؤٍ هدواً لنجاتها من أدنى خيال خطيئةٍ، وتنيحت بمعرفةٍ أكيدةٍ بأنها كانت منتقلةً الى السماء لتملك مع أبنها سرمداً.*
فأولاً: أنه لا ريب ولا أشكال في أن تعلق القلب بخيرات الأرض يصير الموت مراً بزيادةٍ. كما يقول الروح القدس: ما أشد مرارة ذكرك أيها الموت على الرجل المستريح في أمواله: (أبن سيراخ ص41ع1) ولكن من حيث أن القديسين يموتون غير متعلقي القلب بشيءٍ من الموجودات الأرضية. فالموت لديهم ليس هو مراً. بل عذبٌ محبوبٌ كريمٌ. وحسبما يفسر القديس برنردوس لفظة موتٍ كريمٍ، أي أنه يستحق أن يشترى بأثمن ما يوجد من الأشياء الكريمة. فقد كتب في سفر الأبوكاليبسي: طوبى للموتى الذين يموتون بالرب” (ص14ع13) فمن هم هؤلاء الذين يموتون، مع أنهم يسمون موتى. أي ماتوا قبلاً، فبالحصر هن الأنفس السعيدة اللواتي ينتقلن من هذه الحياة إلى الأبدية، بعد أن يكن متن قبلاً عن جميع الأشياء الأرضية. إذ أنهن قد وجدن في الله وحده كل خيرٍ لهن. نظير ما كان وجد القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن إلهي هو كل شيءٍ لي: ولكن ترى أية نفسٍ أمكن أن توجد بعيدةً عن حب الأشياء الأرضية بأبلغ نوع. ومتحدةً بالله أشد اتحاداً من نفس مريم العذراء الكلي جمالها. فهي كانت منفصلةً بكليتها عن التعلق بالأقرباء، بعد أنها منذ السنة الثالثة من عمرها، السن الذي به توجد الأطفال أشد تعلقاً بأقربائهم، وبأوفر احتياج للمساعدة منهم. قد تركت هي والديها وأنسباءها، ودخلت الى هيكل الرب بكل هدوٍ وسرورٍ، بعيدةً عن كل واحد بالانفراد. لتهتم بالتردد المتصل مع الله وحده. منفصلة القلب عن محبة الملابس. مكتفيةً بأن تعيش فقيرةً على الدوام، بعيدةً عن حب الكرامات، مختارةً عيشة التواضع والأحتقار، ولئن كان يحق لها أن تسمى سلطانةً، لأجل تسلسلها من نسل ملوك يهوذا. وقد أوحت هذه الأم الإلهية عينها للراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس الطوباوية أليصابات، بأنها حينما دخلت هيكل الرب. قد عزمت على أن لا تعرف لها أباً آخر، ولا أن تحب خيراً آخر سوى الله وحده.*
ثم أن القديس يوحنا الرسول قد شاهد رسم البتول المجيدة في تلك الامرأة التي رآها ملتحفةً بالشمس دائسةً على القمر، حسبما كتب لنا بقوله: وظهرت آيةٌ عظيمة في السماء امرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها أكليلٌ من أثني عشر كوكباً: (أبوكاليبسي ص12ع1) فالمفسرون يفهمون موضحين بالقمر خيرات هذه الأرض. التي هي عابرةٌ زائلةٌ ناقصةٌ نظير القمر. فهذه الخيرات الأرضية كافةً لم تحوها مريم قط في قلبها. بل دائماً احتقرتها تحت رجليها عائشةً في الأرض نظير اليمامة المحبة التوحد والانفراد، من دون أن يوجد فيها تعلقٌ ما نحو شيء من الموجودات الزمنية. كما قيل عنها: أن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12): من هي هذه الصاعدة من القفر: (نشيد ص3ع6) حسبما يفسر روبارتوس بقوله نحو العذراء، كذلك أنتِ صعدتِ من القفر حيث أنكِ حاصلة على النفس المحبة الانفراد: فإذاً من حيث أن هذه البتول المجيدة قد عاشت على الأرض منفصلة القلب بالكلية من محبة الأشياء الأرضية، ومتحدةً بجملتها في الله وحده. فلم يوجد الموت لديها مراً، بل عذباً جداً محبوباً عزيزاً مرغوباً منها. لأنه كان ينقلها من الأرض إلى السماء حيث يمكنها بأفضل نوعٍ وبأشد ارتباطٍ أن تتحد مع الله إلى الأبد.*
ثانياً: أن ما يجعل موت الأبرار كريماً هو سلام الضمير وهدؤه. فالآثام المصنوعة في مدة الحياة إنما هي ذلك الدود الذي يقرض قلوب الخطأة المساكين، ويحزن أفيدتهم حين موتهم، لدنوهم من الساعة التي فيها يلزمهم أن يحضروا في ديوان الله. فهؤلاء يوجدون محاطين في تلك الساعة من مجموع خطاياهم، التي تصرخ حولهم مخيفة إياهم، كقول القديس برنردوس: أننا نحن أعمالك فلا نفارقك: فوالدة الإله بالحقيقة لم تكن حين موتها متعوبةً من قبل ضميرها بشيء يوبخها. لأنها وجدت دائماً قديسةً بارةً خاليةً من العيب، معتوقةً من خيال إثمٍ، ومن كل شائبة خطيئةٍ، لا أصليةٍ ولا فعلية، وعنها قيل: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: (نشيد ص4ع7) لأنها مذ حصلت على المعرفة والتمييز، أي منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس في أحشاء والدتها القديسة حنه، الى حين نياحها، قد أحبت الله متزايدةً يوماً فيوماً في أضطرام قلبها بمحبته تعالى، وفي الفضائل والكمال مدة حياتها كلها. ولم تكن أشواقها ومرغوباتها وعواطفها شيئاً آخر سوى الاتجاه نحو الله والاتحاد به، والارتياح إليه وإلى مجده، من دون أن تفه بكلمةٍ، أو تصنع عملاً، أم تتحرك حركةً، أو تنظر نظرةً، أم تستنشق نفساً، لا يكون راجعاً لله ولمجده، ومن غير أن تنفصل خطوةً ما عن محبته عز وجل، فيا له من انتقالٍ سعيدٍ طوباوي، لأن فضائل هذه القديسة التي بموجبها مارست هي أفعالها في مدة حياتها. قد أحاطت حينئذٍ فراشها الطاهر أي فضيلة إيمانها الثابت الراسخ، ورجاها بالله الوطيد الأمين، وصبرها الجميل الفريد فيما بين أوجاع الحزن وآلامه القاسية. وغتضاعها العميق فيما بين اختصاصاتٍ ومواهب كلية السمو. واحتشامها العظيم. ثم وداعتها وأنسها وداعتها ورأفتها وحنوها وإشفاقها على الأنفس، وغيرتها على المجد الإلهي. وفوق الجميع حبها الكامل نحو الله. وتسليمها ذاتها التام للمشيئة الربانية. وبالإجمال كل ما فعلته من القداسة والصلاح والبر. فهذا جميعه كان محيطاً بها. وكأنه يقول نحوها بلسان حاله: أننا نحن أعمالكِ فلا نفارقكِ: أي أننا نحن الفضائل التي أنتِ يا سيدتنا مارستينا، فأنما نحن هن بنات قلبكِ الجميل. فأنتِ الآن تتركين هذه الأرض الحقيرة. أما نحن فلا نريد أن نترككِ، بل أننا نذهب معكِ إلى السماء لكي نكون حولكِ كخدام المجد والشرف في الفردوس. أنتِ التي تجلسين هناك سلطانةً بواسطتنا فوق جميع الملائكة والبشر أجمعين.*
ثالثاً: أن الشيء الذي يجعل الموت حلواً محبوباً هو تأكيد أمر خلاص النفس الأبدي. فالموت يسمى عبوراً، اجتيازاً، انتقالاً، وذلك لأننا بواسطته نعبر مجتازين ونمر منتقلين من حياةٍ وجيزةٍ إلى حياةٍ أبديةٍ. فإذاً كما أنه عظيمٌ هو خوف أولئك الذين يدنون من الموت حاصلين على الارتياب في أمر خلاصهم، ويدخلون في أبواب المنون ليس من دون خوفٍ صوابي من أنهم يعبرون به إلى موتٍ أبدي، فهكذا بضد ذلك عظيمٌ هو فرح القديسين الذين ينهون حياتهم حاصلين على رجاءٍ ليس بضعيفٍ في أنهم أنما ينتقلون من هذه الأرض لكي يمتلكوا الله إلى الأبد. فإحدى الراهبات ذوات قانون القديسة تريزيا، حينما أخبرها الطبيب في حال مرضها الأخير بأن ارتحالها من الدنيا قد دنا. فعند سماعها منه هذه الخبرية قد استوعبت فرحاً وتهليلاً فائق وصفهما، وهتفت نحو الطبيب قائلةً: أيها السيد أنك قد أتيتني بهذه البشارة العظيمة، ولا تطلب مني هديةً لائقةً من أجلها: والقديس لورانسوس سوستينياني إذ اقترب من ساعة الموت، وسمع خدامه يبكون حول فراشه قال لهم: أن كنتم تريدون أن تبكوا، فأمضوا إلى أمكنةٍ أخرى، وأما إن كنتم تريدون أن تلبثوا عندي ههنا، فيلزمكم أن تسروا فرحين معي، كما أني أبتهج عند نظري افتتاح أبواب الفردوس لكي أذهب وأتحد بإلهي. وهكذا القديسان بطرس دالكانترا ولويس غونزاغا وكثيرون غيرهما. قد أظهروا علامات البهجة والتهليل عند سماعهم من الأطباء خبرية دنوهم من الموت، هذا مع أن هؤلاء كلهم لم يكونوا فائزين بعلمٍ سماوي أكيدٍ عن أنهم كانوا في حال النعمة الإلهية حقاً. ولم يكونوا متأكيدين حقيقة قداستهم بالنوع الذي به كانت المجيدة مريم البتول متأكدةً ذلك. فإذاً ترى أي ابتهاجٍ وحبورٍ ومسرةٍ وتهليلٍ شعرت به هذه السيدة حين دنوها من الموت، في الوقت الذي هي فيه كانت كلية التأكيد بأنها حاصلةٌ في حال نعمة الله. لا سيما بعد أن كان أكد لها ذلك زعيم الملائكة جبرائيل أنها ممتلئةً نعمةً. وأنها ممتلكة الله بقوله لها: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً أفرحي الرب معكِ… وقد وجدتِ نعمةً وظفرتِ بها أمام الله: (لوقا ص1ع28) بل أنها هي عينها كانت تعلم كم هو اشتعال قلبها بنار الحب الإلهي بنوع أنها (كما يقول برنردينوس البوسطي) قد حازت من الله موهبة حبٍ خاص لم يعط لأحدٍ من القديسين الآخرين، به قد كانت تحبه تعالى حباً فعالاً في كل دقيقةٍ من حياتها باضطرامٍ شديدٍ هذا حده حتى أنه على رأي القديس برنردوس قد كان ضرورياً لها فعل أعجوبةٍ متصلة. ليمكنها أن تعيش على الأرض ولا تموت من شدة التهاب قلبها بهذا الحب الفائق الإدراك.*
فعن هذه السيدة العظيمة قد كتب: من هي هذه الصاعدة من العطار: (نشيد ص3ع6) ففضيلة إماتتها الكلية التي قد شبهت بالمر. وصلواتها الحارة التي مثلت بالبخور، وسائر فضائلها الأخرى المقدسة وحبها الكامل لله، قد كانت بمنزلة نارٍ تحرق فؤادها، وتبعث عنها عاموداً من دخان البخور صاعداً نحو السماء معبقاً من كل ناحيةٍ يبعث نشر طيبها الزكي على الدوام. كما كتب عنها روبارتوس بقوله نحوها: أنكِ أيتها الطوباوية مريم أنتِ نظير عامود الدخان المذكور ترسلين نحو الإله العلي رائحةً كلية الزكاوة: وكذلك قال أوسطاكيوس بعباراتٍ أبلغ هاتفاً: أن العذراء المجيدة هي غصن بخورٍ، محترقة داخلاً كمحرقةٍ ملتهبةٍ بنار الحب الإلهي، حيث ينبعث عنها إلى خارجٍ طيب رائحةٍ زكية العرف بما لا يوصف. فحسبما عاشت هذه السيدة المغرمة بحب إلهها، كذلك ماتت. وكما أن الحب الإلهي هو الذي حفظها في الحياة، فهو عينه الذي أماتها. لأن موت هذه الأم الإلهية. كما يقول القديسون والعلماء كافةً، لم يكن مسبباً من قبل مرضٍ طبيعي، بل أنما صدر من قبل حبها الشديد لله. وفيما بين هؤلاء قال القديس أيدالفونسوس أن الطوباوية مريم البتول، أما أنه لم يكن لازماً لها أن تموت بل أن تستمر على الدوام حيةً، وأما أنه كان يلزمها أن تموت من مجرد شدة حبها لله: (فإذاً سهم الحب إماتها).*
† الجزء الثاني †
* في النوع الذي به تمت وفاة البتول المجيدة*
أنه بعد صعود مخلصنا يسوع المسيح إلى السماء قد بقيت والدته العذراء الكلية قداستها في الأرض، لكي تهتم هي أيضاً في انتشار الإيمان المسيحي المقدس، فمن ثم تلاميذ المخلص كانوا يلتجئون إليها مراتٍ كثيرة، ومنها كانوا يرتشدون في حل مشاكل ليست بقليلةٍ. كما أنها كانت تشجعهم في حين هيجان الاضطهادات، وتحرضهم على الغيرة والتعب من أجل مجد الله وخلاص الأنفس المفتداة، فقد كانت ماكثةً على الأرض بكل اختيارٍ ورضى لعلمها أن هذه كانت إرادة الله، لأجل خير كنيسته المقدسة، ولكن لم يمكنها أن لا تشعر بألم ابتعادها عن أن تشاهد ابنها الحبيب موضوع تعزيتها القصوى الكائن في السماء، لأنه حسب قول مخلصنا نفسه: أن حيث يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) على أن الإنسان حيثما يعتبر كنزه موجوداً وسعادته كائنةً، فهناك تتجه عواطف حبه وأشواق قلبه. فإن كانت إذاً مريم لم تحو في قلبها حب خيرٍ آخر خارجاً عن يسوع. وهذا الموضوع الشهي كان وقتئذٍ صعد إلى السماء، فنحو السماء كانت عواطف قلبها كلها متجهة. فقد كتب عنها طاولاروس قائلاً:” مسكن مريم كان السماء عينها، لأنها بواسطة عواطفها نحو السماء كانت تجعل على الدوام سكناها هناك. ومدرسة مريم كانت الأبدية، لأنها دائماً قد وجدت غير متعلقةٍ بخيرات الأرض. ومعلم مريم قد كان الحق الإلهي، لأنها قد تصرفت على الدوام حسب النور الإلهي نفسه، ومرآة مريم كانت الألوهية، لأنها لم تكن تنظر بها إلى شيء آخر إلا إلى الله، لكي توافق ذاتها في كل شيء مع إرادته المقدسة. وزينة مريم كانت العبادة، لأنها على ممر الأوقات كانت هي مستعدةً لأتباع الرضوان الإلهي. ومفاوضاتها كانت مع الله، لأن سلامها كان في اتحادها معه تعالى. وأخيراً إن كنزها وخزنة قلبها الثمينة لم توجد في شيء خارجاً عن الله”. ثم أن هذه البتول المجيدة كانت تمضي متواتراً في مدة حياتها على الأرض. بعد صعود ابنها لزيارة أماكن بلاد فلسطين. (كما هو مدون عنها من كثيرين من الكتبة الكنائسيين) حيث كان مخلصنا مارس كرازته بالإنجيل، وكانت تصنع هذه الزيارة تارةً في مذود بيت لحم حيث ولدته بالجسد، وتارةً في دكان النجارة في مدينة الناصرة حيث كان أستمر ابنها مدة سنواتٍ عائشاً فقيراً حقيراً، وحيناً في بستان الجستمانية في أورشليم حيث هو عرق دماً في بداية آلامه. ووقتاً في دار بيلاطس حيث كان جلد وكلل بالشوك، ومراتٍ كثيرةً كانت تمضي الى جبل الجلجلة حيث مات هو على خشبة الصليب. وأخيراً إلى قبر مخلصنا الذي كانت هي وضعت فيه جسده بعد موته، وبهذا جميعه كانت تخفف عنها نوع عذاب ابتعادها عنه تعالى بالجسم في مدة مكثها على الأرض كمنفيةٍ. إلا أن ذلك لم يكن كافياً لأن يجعل قلبها متعزياً. لأنه لمن المستحيل أن شيئاً على الأرض كان يغنيها عن أشواقها نحو السماء حيث هو كنزها. ومن ثم كانت على الدوام تتنهد. وكأنها تهتف مع النبي والملك داود، لكن بعواطف حبٍ أكثر ألتهاباً من عواطفه قائلةً: من يعطيني جناحين كالحمامة فأطير وأستريح: (مزمور55ع7) أي من يعطيني ريش أجنحة الحمام لكي أطير نحو إلهي. وهناك أجد راحتي: ثم كما يشتاق الأيل إلى ينابيع المياه كذلك تتوق نفسي إليك يا الله: (مزمور42ع1) أي كما أن الأيل المجروح يتوق إلى ينبوع الماء، هكذا نفسي المجروحة بسهام حبك يا إلهي تشتاق إليك وتشتهيك. فتنهدات هذه اليمامة القديسة لم يكن ممكناً لها ألا تنفذ إلى قلب ابنها وإلهها الذي كان يحبها حباً هكذا عظيماً: لأن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12) ولذلك لم يشاء عز وجل أن يؤخر زمناً أطول تعزية هذه الأم الإلهية المحبوبة، بل قبل مرغوبها ودعاها إلى ملكه السماوي*
فالكتبة الكنائسيون كادرانوس ونيكيفوروس وسمعان ميتافراسته أخبروا بأن الرب أرسل قبل أيامٍ وجيزةٍ من وفاة هذه السيدة، رئيس ملائكته جبرائيل عينه الذي كان بشرها، بأنها هي تلك الامرأة المباركة في النساء التي أختارها الإله أماً له، وإذ امتثل أمامها قال لها:” يا سيدتي وملكتي أن الله قد أقتبل مرغوباتكِ وأشواقكِ، وقد أرسلني لأقول لكِ ان تتأهبي لتتركي الأرض، لأنه تعالى يريد أن تكوني معه في السماء، فهلمي إذاً لتأخذي التملك على مملكتكِ، في الوقت الذي فيه أنا وسائر القديسين سكان الملكوت ننتظر حضوركِ متشوقين لمشاهدتكِ”. فترى ماذا صنعت هذه البتول المملوءة تواضعاً عند سماعها بشارةً هكذا سعيدةً، سوى أن تغوص بأبلغ نوعٍ في أعماق تواضعها، وأن تكرر للملاك الجواب عينه الذي كانت أعطته إياه حينما بشرها قبلاً بالحبل الإلهي قائلةً له من جديد: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولك، على أن الرب بمجرد صلاحه وجوده، قد اختارني أماً له. والآن يدعوني إلى السماء أنا التي لم أكن مستحقةً، لا ذاك المقام العظيم، ولا هذا الشرف الوسيم. ولكن من حيث أنه عز وجل يريد أن يظهر فيَّ ونحوي سخأه الغير المتناهي. فها أنا أمةٌ له، فلتكن مكتملةً بي دائماً مفاعيل إرادة إلهي وسيدي.*
فبعد أن اقتبلت البتول المجيدة هذا التنبيه قد أخبرت به القديس يوحنا الإنجيلي، الذي بسهولةٍ يمكننا أن نتصور بعقولنا كم كانت هذه الخبرية لديه مرةً. اذ أنه كان في مدةٍ ليست بوجيزةٍ من السنين قد تمتع بصفة ابنٍ خاص لهذه الأم الكلية القداسة، فائزاً بمخاطباتها وبعيشته معها، ثم أنها قد زارت من جديد الأماكن المقدسة لا سيما جبل الجلجلة حيث كان أبنها أسلم روحه على خشبة الصليب، وانفردت في بيتها الحقير متأهبةً للموت. وفي بحر تلك الأيام كانت الملائكة يترددون إليها مسلمين عليها ومعزينها بسرورٍ لا يوصف، عند معرفتهم أنه بعد قليلٍ من الزمان قد كانوا مزمعين أن يشاهدوا ملكتهم هذه مكللةً في السماء. فكثيرون من الكتبة الكنائسين (نظير القديس أندراوس الأقريطشي في خطبته على نياحها. والقديس يوحنا الدمشقي في ميمره على رقودها، وأفتيميوس) أخبروا بأن الرسل القديسين كافةً، وجانباً من تلاميذ الرب بأعجوبةٍ إلهيةٍ قد ألتئموا من أقطار الأرض قبل نياح هذه السيدة إلى أورشليم. ووجدوا داخل بيتها، وأنها عندما شاهدت أولادها هؤلاء الأعزاء مجتمعين حولها قد خاطبتهم هكذا قائلةً:: أن أبني قد تركني ههنا عندكم لأجل مساعدتكم يا أعزائي وحباً بكم، أما الآن فالإيمان المقدس قد انتشر في العالم، وأثمار الزرع الإلهي قد نمت متكاثرةً، ولهذا إذ رأى سيدي أن حضوري في الأرض لم يعد ضرورياً، فشفق عليَّ لمرارة ابتعادي عنه. واستجاب لكثرة عواطفي وأشواقي نحو الخروج من هذه الحياة، لكي أمضي إلى السماء وأتمتع بالنظر إليه، فواظبوا إذاً أنتم على التعب من أجل مجده تعالى. فأنا إن فارقتكم بالجسد فلا أفارقكم بالروح، لأن حبي إياكم العظيم هو في قلبي ودائماً سيكون معي. وهوذا أنا منطلقةٌ إلى الفردوس السماوي لكي أصلي من أجلكم”. فمن يمكنه أن يصف مقدار الحزن المرافق من هطل الدموع والندب الذي حصل عند هؤلاء الرسل القديسين وتلاميذ الرب. حينما فهموا أنه بعد زمنٍ وجيزٍ كان يلزمهم أن يفارقوا أمهم هذه الرحيمة. فمن ثم بسكب العبرات قالوا لها هكذا: فإذاً تريدين أيتها البتول أن تتركينا. فأي نعم أن هذه الأرض ليست هي مكاناً لائقاً بكِ، ولا نحن مستحقون أن نتمتع برفقة والدة الإله التي هي أنتِ، ولكن أفتكري في أنكِ أمنا أنتِ. وقد كنت لحد الأن معلمتنا ومرشدتنا في حل المشاكل والأبهامات، ومعينتنا ومشجعتنا فيما بين الاضطهادات، فكيف الآن تهملينا وحدنا من دون مساعدتكِ لنا المنيعة نحن المحاطين من أعداءٍ أقوياء وكثيرين، والمحاربين من جهاتٍ مختلفةٍ. فقد كنا قبلاً فقدنا من على الأرض معلمنا وأبانا يسوع الذي صعد إلى السماء وبقيتِ تعزيتنا الوحيدة قائمةً مدة هذا الزمان في شخصكِ يا أمنا العزيزة. فكيف أنتِ أيضاً تريدين الآن أن تتركينا يتامى، من دون أبٍ ومن غير أمٍ، فيا سيدتنا نتوسل إليكِ أما بأن تمكثي فيما بيننا. وأما بأن تأخذينا معكِ: (هذا ما كتبه القديس يوحنا الدمشقي في ميمره على نياحها) فهنا البتول المجيدة قالت لهم بعذوبةٍ: كلا. يا أولادي الأحباء أن هذه ليست هي إرادة الله. فأرتضوا إذاً بما رسمه عز وجل عليَّ وعليكم. لأنه يخصكم أن تستمروا أيضاً في الأرض لتجاهدوا من أجل مجد المخلص. ولكي تتمموا اكتساب تيجان نصرتكم الأبدية، فأنا لا أفارقكم مهملةً إياكم بل لكي أساعدكم وأسعفكم وأعينكم بأفضل نوعٍ بواسطة تضرعاتي من أجلكم أمام الله في السماء فأمكثوا هادين راضين، وأنا أوصيكم بالكنيسة المقدسة، وأستودعكم الأنفس المفتداة، وهذه لتكن لكم وصيتي الأخيرة الوادعية، فأحفظوها أن كنتم تحبوني، أي أتبعوا من أجل خلاص الأنفس، ومن أجل مجد أبني، لأننا يوماً ما عتيدون أن نجتمع كلنا من جديد في السماء، وحينئذٍ لا يعود يحدث فيما بيننا فراقٌ ما أصلاً.*
ثم بعد ذلك قد توسلت إليهم بأن يدفنوا جسدها بعد موتها. وهكذا باركتهم ورسمت على القديس يوحنا الإنجيلي، كما يورد القديس يوحنا الدمشقي، بأن يعطي عقيب نياحها ثوبيها اللذين كانت تلبسهما، إلى ابنتين بتوليتين كانتا خدمتاها مدةً من الزمان، (كما هو مدون من المؤرخ نيكيفوروس وغيره) وبعد هذا الخطاب قد اتكأت بكل احتشامٍ على سريرها الحقير، منتظرةً بأشواقٍ دنو الموت منها. ومعاً ملاقاةٌ ختنها الإلهي المزمع بعد هنيئةٍ أن يأتي ليأخذها صحبته إلى الملك الطوباوي. وهوذا أنها قد أمتلأت باطناً تعزيةً فائقة الوصف وغير مألوفةٍ من الفرح والتهليل، وحينئذٍ إذ رأتها الرسل ناهزت مفارقتهم، فجميعاً جثوا على الأرض حول فراشها نادبين فقدها ساكبين الدموع، ومنهم من كان يقبل قدميها الطاهرتين، ومنهم من كان يلتمس بركتها الخصوصية، ومنهم من كان يتوسل إليها في أمر احتياج خصوصي، شاعرين كلهم بسهام الحزن الذي صمى أفيدتهم. لفراقهم هذه الأم الإلهية من دون أمل أن يشاهدوها فيما بعد في الأرض مدة حياتهم. وأما هي فكانت موعبةً إشفاقاً عليهم، معزيةً إياهم بعذوبة ألفاظها، موعدةً بمساعدتهم، مباركةً هذا ومشجعةً ذاك، وموصيةً الآخرين، ومحرضةً الجميع على الاجتهاد في إكتساب الأنفس إلى الإيمان. وأخيراً استدعت القديس بطرس بحسب كونه هامة الرسل ورأس الكنيسة ونائب أبنها على الأرض، وأوصته بنوعٍ خاص في انتشار الإيمان، موعدةً إياه بحمايتها الخصوصية في السماء. وكذلك خاطبت القديس يوحنا الإنجيلي الذي بأشد مرارةٍ من الجميع كان مجروحاً على فقدها، متذكرةً هذه السيدة مقدار الحب الذي به خدمها هذا التلميذ الحبيب. في كل السنين التي عاشت بها على الأرض بعد موت أبنها، قائلةً له بمحبةٍ والديةٍ: أنني أشكرك يا يوحنا خاصتي على كل ما صنعته معي. فكن مطمأناً يا ابني بأني لا أكون ناكرة الجميل نحوك، فإن كنت الآن أفارقك فأنا ماضيةً لأن أصلي من أجلك، فأمكث بسلامٍ هادئاً في هذه الحياة، إلى حينما يشاهد بعضنا بعضاً جديداً في السماء حيث أنتظرك فلا يبرح في فكرك أن تستغيث بي في جميع احتياجاتك، وأنا أعينك ولا أنساك أصلاً يا ولدي الحبيب. الذي الآن أنا أباركك. فعش بسلامٍ وها أنا أستودعك لله.*
قالت هذا وقد كان اقترب مجيء الدقيقة التي بها أزمعت هي أن تفارق الحياة الزمنية، لأن الحب الإلهي بواسطة شهائب حرارته المغبوطة قد جذب عن هذه الأم المثلثة القداسة خارجاً الأرواح الحيونانية. ونظير طير العقاب السماوي كانت هي تفنى بنار المحبة، وقد أقبلت طغمات الملائكة من السماء إلى ذلك المسكن السعيد، كأنهم صفوف عساكر مستعدون لمرافقة ملكتهم بزفة الأنتصار. أما هي فكانت تعزيتها تزداد عذوبةً عند مشاهدتها إياهم محيطين بها، ولكن لا تعزيةً كاملةً، إذ أنها لم تكن تشاهد بعد أبنها فيما بينهم، ولذلك كانت تقول نحوهم كلمات النشيد: يا بنات أورشليم أستحلفكن إذا وجدتن حبيبي، فأخبرنه بأني من المحبة ضعيفة: (ص5ع8) فأنتم يا ملائكة السماء القديسين سكان أورشليم العليا، إنما تأتون إليَّ أجواقاً أجواقاً لكي تعزوني، وحقاً أنكم بحضوركم تجلبون لي المسرة والابتهاج، ولذلك أشكر فضل معروفكم، ولكن جمهوركم لا يوعبني من البهجة الكاملة والتعزية التامة، لأني لا أشاهد ابني الذي هو تعزيتي الوحيدة، فأرجعوا إلى السماء إن كنتم تحبوني، وقولوا لحبيبي أنني من شدة المحبة أنا ضعيفة، وصرت عادمة القوة. فإذاً قولوا له من قبلي أن يأتي سريعاً لأني هوذا أموت من شدة أشواقي إليه.*
غير أن رب المجد في هذا الغضون قد جاء ليأخذ والدته المباركة إلى ملكوته الطوباوي. فقد أوحي إلى القديسة أليصابات الراهبة، بأن يسوع المسيح قد ظهر لأمه الكلية القداسة قبل نياحها حاملاً بيده الصليب المقدس. لكي يوضح المجد الخصوصي الذي أختصه بواسطة سر الفداء، إذ أنه بموته قد أكتسب تلك المخلوقة العظيمة التي كان يلزمها أن تكرمه في الدهور الأبدية أكثر إكراماً من الملائكة كافةً والبشر أجمعين. ثم أن القديس يوحنا الدمشقي يورد، أن مخلصنا نفسه قد ناول القربان الأقدس لوالدته زوادةً أخيرةً قائلاً لها بعواطف الحب: خذي يا أمي فكلي من يدي جسدي هذا الذي أنتِ أعطيتينيه: وبأن مريم البتول عندما اقتبلت هذه المرة الأخيرة جسد المسيح ابنها بعواطف حبٍ أعظم. قالت له فيما بين أنفاسها النهاية: يا أبني في يديك أنا أستودع روحي، وأسلم بيدك هذه النفس التي خلقتها بخيرية صلاحك منذ الدقيقة الأولى من حياتها غنيةً بنعمٍ هكذا سامية. بل باختصاصٍ فريد في الغاية أنت سبقت وحفظتها من دنس الخطيئة الأصلية. وأستودعك جسدي الذي أنت تنازلت إلى أن تتأنس منه آخذاً لحماً ودماً من جوهره، ثم أني أوصيك أيضاً في أولادي هؤلاء (مشيرةً إلى الرسل والتلاميذ الذين كانوا حاضرين عندها) ولأنهم الآن مملؤون من الحزن لسبب انفصالي عنهم، فأنت عزهم، لأنك تحبهم أكثر مما أنا أحبهم، وباركهم وأعطيهم عونك ليصنعوا العظائم من أجل مجدك.*
فإذاً عندما أشرفت نفس الطوباوية مريم البتول على الانفصال من جسدها. قد سمع في المسكن الذي كانت هي متكئةً فيه أصوات آلات الطرب الفائقة الوصف. كما يقول القديس أيرونيموس. ثم حسبما أوحى للقديسة بريجيتا قد أشرقت في البيت أنوارٌ سماويةٌ عظيمةٌ. فالرسل عندما سمعوا تلك النغمات وشاهدوا الأنوار الفائقة الإدراك قد عرفوا أنها دنت دقيقة انفصال نفس سيدتنا المجيدة من جسدها، ومن ثم ضاعفوا تضرعاتهم بسكب الدموع، وكلهم رفعوا أيديهم وأصواتهم قائلين: يا أمنا المنطلقة إلى السماء تاركةً إيانا على الأرض، باركينا البركة الأخيرة، ولا تنسينا نحن المساكين. وأما هي فجالت بنظرها نحو جميعهم كأنها تودعهم كافةً وقالت لهم: أني أستودعكم لله وأبارككم. فلا ترتابوا، لأني لا أنساكم أبداً: وحينئذٍ جاء إليها الموت، ولكن لا بالسواد والحزن كما يأتي نحو البشر. بل بالفرح والإشراق. غير أنه ما عسانا أن نقول موتاً وأي موتٍ، بل قد جاء إليها الحب الإلهي، وهو لا سواه قطع خيط حياتها الزمنية. فهي المنارة التي قبل أن تنطفئ قد أبرقت بلميع ضياها الأخير برقاً عظيماً ثم انطفت. وهي الفراشة الإلهية الجميلة التي اذ دعاها أبنها إليه. قد دنت من مصباح نوره وأحترقت بلهيب حبه الغير المتناهي، وفيما بين عواطف تنهداتها قد أنفصلت عن الجسد نفسها المغبوطة، وأنحلت تلك الحمامة الكلية النقاوة من رباطات الجسم. وطارت متراقيةً إلى الأخدار السماوية، حيث ملكت وتملك سلطانةً على جميع المخلوقات إلى أبد الآبدين.*
فهوذا مريم البتول هي في السماوات العليي تنظر إلينا نحن أولادها القاطنين في وادي البكاء، مشفقةً علينا وموعدةً إيانا بالمعونات أن كنا نريد ذلك. فلنتوسل إليها دائماً بأن تستمد لنا باستحقاقات موتها السعيد ميتةً صالحةً، وأن تنال لنا منه تعالى أن كان ذلك يسره أن يكون موتنا في يوم سبتٍ اليوم المكرس لعبادتها، أو في يومٍ من الأيام المتقدمة على أعيادها السنوية أو المتأخرة عنها، كما قد وهبت هي هذه النعمة المستمدة من الله لكثيرين من المتعبدين لها، لا سيما للقديس سطانيسلاوس كوتكا من الرهبنة اليسوعية. الذي نالت له أن يموت يوم عيد نياحها. كما هو مدون من الأب بارتولي في سيرة حيوة القديس المذكور.*
* نموذج *
أن القديس سطانيسلاوس المار ذكره الذي كان بجملته ملتهباً بنار الحب نحو والدة الإله، وهو في عنفوان صبوته. ففي اليوم الأول من شهر آب قد استمع عظةً من الأب بطرس كانيسيوس، فيها هذا الواعظ أعطى لجمهور المبتدئين في رهبنته اليسوعية الكائنين في رومية. هذه المشورة العظيمة بإيراداتٍ خشوعيةٍ جداً، وهي أن كل واحدٍ منهم يعيش يومياً كأن ذاك النهار الذي يبلغ هو إلى صاحبه، هو اليوم الأخير من حياته الذي في نهايته يلتزم بأن يحضر في ديوان الله. فبعد إنتهاء العظة المذكورة قال القديس سطانيسلاوس إلى رفاقه: أن هذه المشورة المقدمة من الكاروز كانت بنوعٍ خصوصي لي كأنها صوتٌ إلهي متجهةٌ نحوي، لأني مزمعٌ أن أموت في هذا الشهر عينه: وإنما قال هذا أما لأن الله كان أوحى إليه بواسطةٍ أكيدةٍ غير اعتياديةٍ بما كان عتيداً أن يحدث له. ثم بعد هذا بأربعة أيامٍ اذ كان ذاهباً الشاب الطوباوي المذكور صحبة الأب عمانوئيل سار لزيارة كنيسة القديسة مريم الكبرى، وجاء الخطاب معهما عن قرب الأيام الاحتفالية المختصة بعيد نياح سيدتنا والدة الإله. قال له هذا الشاب البار: أني أظن أيها الأب أن في يوم عيد انتقال هذه الأم الإلهية إلى السماء تشاهد في الفردوس سماءٌ جديدةٌ، عندما يشاهد مجد مريم والدة الإله مكللةً سلطانةً في السموات، جالسةً بالقرب من الرب فوق طغمات الملائكة كلها. فإن كان حقاً في كل سنةٍ في اليوم المذكور. كما أنا متمسك بذلك كأنه شيء خالٍ من الارتياب، يتجدد في السماء صنيع هذا العيد. فأنا أرجو أن أكون حاضراً هناك في العيد الأول الآتي: ثم من حيث أنه (بموجب العادة السالكة في الرهبنة اليسوعية، وهي أن كلاً من أبنائها يتخذ محامياً له في كل شهر ذاك القديس الذي بحسب القرعة تأتي في يده الورقة المحرر بها اسم القديس) قد خص الطوباوي سطانيسلاوس محامياً في شهر آب المرحوم القديس لورانسيوس أو بالحري لافرنتيوس المعظم في الشهداء رئيس الشمامسة (الذي يكمل عيده شرقاً وغرباً في 10 آب) فأمرٌ شائع الذكر هو أن الشاب البار حرر رسالةً لأمه العذراء الكلية القداسة بها كان يتوسل إليها بأن تستمد له هذه النعمة، وهي أن يوجد هو في السماء في عيدها الاحتفالي المقبل، وهكذا في عيد الشهيد المجيد لافرنتيوس قد تناول هو القربان الأقدس، وتضرع بحرارةٍ لهذا القديس في أن يقدم رسالته المنوه عنها لدى والدة الإله، ويتوسط بشفاعته أمامها من أجله في أن تتنازل هذه الأم الإلهية لإجابة مسألته. فهوذا في عشية ذلك اليوم عينه قد شعر هذا الشاب البار بالحمى في جسمه، ومع أن الحمى كانت خفيفةً جداً فهو أعتدى من دون ريبٍ، أن النعمة التي ألتمسها في شأن ذهابه إلى العيد الأبدي قد أستجيبت، لأنه حينما صعد على سريره قال بفرحٍ قلبي متبسماً بعذوبةٍ: أني من على فراشي هذا لن أقوم بعد: وأضاف إلى ذلك قوله للأب كلاوديوس أكوافينا: أنني أظن بالصواب يا أبتي أن القديس لافرنتيوس قد نال لي من والدة الإله النعمة التي ألتمستها بأن أوجد في السماء يوم عيد نياحها المقدس. غير أنه لم يكن أحدٌ من جميع الذين سمعوا كلماته السابق إيرادها يعتبرها كشيءٍ حقيقي. فلما بلغ يوم بارمون العيد أي الرابع عشر من آب، فالحمى استمرت خفيفةً، إلا أن القديس قال لأحد الإخوة أنه في الليلة المقبلة يكون هو قد مات. أما ذاك فأجابه قائلاً: مهلاً يا أخي أنها لعجيبةٌ أعظم هي أنك تموت من قبل مرضٍ هكذا خفيفٍ من أنك تشفى منه. ولكن عندما مال نصف النهار قد أستحوذ بغتةً على القديس عارض مرضٍ قتال. وابتدأ يعرق عرقاً بارداً وفقد قواه بالكلية، فرئيس الدير قد أسرع إليه وشاهده في تلك الحال، أما البار فتوسل الى الرئيس بأن يسمح للحاضرين بأن ينزلوه من على فراشه، ويمدوه فوق الحضيض على الأرض ليموت كأحد التائبين، الأمر الذي قد سمح به الرئيس أجابةً لتوسله، فوضعوه فوق وسادة على الأرض، وهناك أعترف ثم تناول القربان الأقدس زوادةً أخيرةً بكل احترامٍ وخشوعٍ. ليس من دون أن جميع الحاضرين يذرفون الدموع السخية، لأنهم عاينوه كيف أنه عند الدخول إلى قلايته بالسر المسجود له. قد استحال وجهه كالى وجه ملاكٍ متلألئاً بالإشراق والبهجة السماوية، وكأنه قد التهب بكليته بشهائب نار الحب الإلهي كأحد السيرافيم، ثم أخذ سر المسحة الأخيرة أيضاً، ولم يكن هو يصنع شيئاً آخر سوى أنه تارةً كان يرفع عينيه إلى السماء وتارةً يجول بنظره في أيقونة والدة الإله التي كانت بيده، ويقبلها بعواطف الحب، ويضمها إلى صدره. ومن حيث أنه كان ماسكاً بيده مسبحة الوردية ملفوفةً على أصابعه، فقال له أحد الآباء الحاضرين: ماذا تفيدك يا سطانيسلاوس هذه المسبحة الملتفة على يدك، أنت الذي الآن لا تقدر أن تصلي فيها؟ فأجابه القديس: أنها تفيدني تعزيةً من حيث أنها شيءٌ مختصٌ بأمي: فأردف إليه كلامه ذاك الأب بقوله: ترى كم تكون تعزيتك أعظم من ذلك عند مشاهدتك بعد هنيهة هذه الأم الإلهية في السماء وعند تقبيلك يديها، فحينئذٍ القديس ازداد اتقاداً بنيران الحب، ورفع يديه نحو السماء مشيراً إلى عظم أشواقه نحو تلك الدقيقة السعيدة، ثم بعد هذا ببرهةٍ قد ظهرت له الطوباوية مريم البتول، كما أعلن ذلك هو نفسه للحاضرين عنده تلك الليلة. وهكذا عند أشراق الصبح نهار عيد انتقال السيدة قد أسلم نفسه السعيدة بهيئةٍ جميلةٍ خشوعيةٍ. وعيناه ناظرتان إلى السماء، من دون أن يصنع أدنى حركةٍ بجسمه، حتى أن الحاضرين لم يكونوا يظنوه مائتاً، الى أنهم أختبروا الأمر بدنوهم منه أمام عينيه بأيقونة والدة الإله، وإذ لم يعد يقبلها كالسابق فعرفوا أنه قد مات منتقلاً إلى السماء ليقبل قدمي ملكته المحبوبة منه بهذا المقدار.*
† صلاة †
يا سيدتنا وأمنا الكلية الحلاوة، أنتِ قد تركتِ الأرض وبلغتِ إلى ملككِ السماوي، حيث تجلسين سلطانةً فوق طغمات الملائكة بأسرهم، كما ترتل نحوكِ الكنيسة المقدسة هاتفةً: لقد ارتفعتِ فوق الطغمات الملائكية في الملك السماوي. فنحن نعلم أننا لم نكن مستحقين أن نراكِ معنا نحن الخطأة في أرض الظلمات هذه. ولكننا نعرف أيضاً أنكِ وفيما أنتِ حاصلةٌ على هذا المجد والجلالة والعظمة، ما نسيتينا نحن الأشقياء البائسين. وأن سمو ارتفاعكِ لم ينقص فيكِ الرأفة نحونا نحن أولاد آدم الأذلاء بل قد ضاعف فيكِ الإشفاق والحنو علينا، فأنعطفي إذاً يا سيدتنا من علو عرشكِ العظيم بنظركِ الرحيم نحونا، وترأفي علينا، وتذكري في أنكِ حين انتقالكِ من الأرض إلى السماء قد وعدتينا بأنكِ لا تنسينا، فلاحظينا إذاً وعينينا. وتأملي في كم من الأخطار ومن زوابع التجارب نحن محاطون على الدوام. وسنكون هكذا طالما لا تدنو منا دقيقة رحيلنا من هذه الحياة. فأستمدي لنا باستحققات ميتتكِ المغبوطة نعمة الثبات في الصلح مع الله دائماً، ليمكننا بذلك أن نخرج أخيراً من الدنيا ونحن في حال نعمته تعالى. وهكذا نحن أيضاً نبلغ يوماً ما إلى أن نقبل في السماء قدميكِ المقدستين، متحدين مع أولئك الأرواح الطوباويين، لنسبحكِ ونرتل تمجيداتكِ حسبما تستحقين إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
†
No Result
View All Result
Discussion about this post